جمهرة مقالات محمود شاكر

محمود شاكر، أبو فهر

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطبعة الأولى رقم الْإِيدَاع: 2390/ 2003 الترقيم الدولي: 9 - 015 - 353 - 977 - I.S.B.N الشّركَة الدولية للطباعة المنطقة الصناعية الثَّانِيَة - قِطْعَة 139 - شَارِع 39 - مَدِينَة 6 أكتوبر ت: 8338240 - 8338242 - 8338244 E-mail: pic@6 oct.ie-eg.com

"إنما حَمَلتُ أمانة هذا القلم لأَصْدعَ بالحق جِهارًا في غير جَمْجَمَة ولا إِدْهان. ولو عرفتُ أني أعجَزُ عن حَمْل هذه الأمانة بحقِّها لقذفتُ به إلى حيث يذِلُّ العزيز ويُمْتَهَن الكريم. . . وأنا جنديٌّ من جنود هذه العربية، لو عرفتُ أني سوف أحمل سيفا أو سِلاحًا أَمْضَى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نَذَرتُ على هذا القلم أن لا يكُفَّ عن القتال في سبيل العرب ما استطعتُ أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانًا أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينهى الناس أو يخدعهم أو يغرر بهم أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة". الرسالة، العدد 756، ديسمبر 1947، ص 3، 14، المقالات 1: 490 "ولهذه الفصول غرض واحد. . . هو الدفاع عن أمة برُمَّتها، هي أمتي العربية الإسلامية. . . فصار حقًا عليَّ واجبًا أن لا أتلجلجَ أو أُحْجِم أو أُجَمْجِمَ، أوأداري، ما دُمْت قد نَصَبْتُ نفسي للدفاع عن أُمَّتي ما استطعت إلى ذلك سبيلا = وصار حقًا عليَّ أن أستخلص تجاربَ خمسين سنة من عمري قضيتُها قَلِقًا حائرًا، أصارِع في نفسي آثارَ عدوٍّ خَفِيٍّ، شديدِ النِّكاية، لم يَلْفِتْنى عن هول صِراعه شيءٌ، منذ استحكمت قُوَّتى واستنارت بصيرتي". أباطيل وأسمار، ص: 10 - 11 * * * رحمة الله عليك يا أبا فهر، رحمة الله عليك! قَلْب الأمة الإسلامية المتوثب، وعينها الساهرة، وحصنها الحصين. فإن تكن قد ذهبت إلى ربك راضيا مَرضِيًّا، ففي قلب هذه الأمة تعيش روحك الخالدة التي لا تفنى، وفي قلب هذه الأمة يُحْفَر قبرك الَّذي لا يُنسَى.

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم 1 - قصة الكتاب الحمد لله الَّذي كرَّم هذه الأمة بنور الإسلام ليخرجها به من ظلمات الجهل والشرك والطغيان، والحمد لله الَّذي شرفها بجعلها مهبط آخر رسالاته وأتمها وأكملها، والحمد لله الَّذي بعث منها سيد العالمين شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا بإذنه وسراجًا منيرًا، وأرسله للناس كافة رحمة للعالمين، - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا كثيرًا. وبعد، قابلت الأستاذ شاكر -رحمه الله- أول مرة عام 1958 وأنا بعد طالب في السنة الثالثة من دراستي الجامعية وقد وضَّحتُ طرفًا من ذلك في مقالي عن كتاب طبقات فحول الشعراء (¬1)، وكذلك في مقدمة الحماسة البصرية (طبع مكتبة الخانجي). وعلى فارق ما بيننا من السن والعلم فقد وجد شيئًا مني ينسرب في نفسه، وأنستُ أنا به كما أنس هو بالرافعي. ولزمت داره كل يوم تقريبًا منذ مطلع الشمس حتَّى منتصف الليل، أقرأ مقالاته في الرسالة وسائر المجلات والصحف بعد أن أنتهي من عملي في رسالة الماجستير. ومضت السنون وعرفتُ عن الأستاذ شاكر ما لم أكن أعرف. وكنت شابًا طُلَعة، وكان هو شيخًا طويل الصمت، قارَّ النَّفْس، يرمى بعينيه وراء الحُجُب. ولكني كُنْتُ أحسُّ أحيانًا أن صدره يضيق بما يكتم. فقد كان يخيم علينا صمت ثقيل بعد أن نصلي المغرب ونجلس في شرفة منزله نحتسي الشاي. فإذا آنست أني مُخْرِج منه بعضَ ما أريد، أبديتُ رأيًا أو تعليقًا على بعض ما جاء في المقالات من أحداث أو رجال سماهم ¬

_ (¬1) انظر مجلة معهد المخطوطات، المجلد 42، الجزء الأول، مايو 1998، ص 95 - 140.

أو أشار إليهم ولم يسمِّهم. وتمضي الدقائق وكأنها ساعات، وإني لأشعر خلال ذلك بهذا الصراع المخيف بين إلحاح ما أَلِف وصلابة الأغلاق التي يضربها على ضمير نَفْسه وعناده الَّذي يأبى عليه الكلام عن نفسه، وبين إلحاح هذا الهم الجاثم على صدره يريد أن يجد له مَسْربًا، فقد كان الأستاذ شاكر -رحمه الله-، قاسيًا عنيفًا، ولكنه كان رقيقًا ألوفًا أيضًا، وكان جلدًا صبورًا، ولكنه ربما تخشَّع واستكان للجزع، وكان مستوحشًا آبدًا، ولكنه ربما أَلِفَ وانقاد، وكان كالطود رسوخًا وشموخًا، ولكني كنت أنفذ إليه أحيانا -عندما آنس في نفسه هذا الصراع بين القوتين- فأجد الزلزلة في قلبه، والاضطراب في نفسه، والتهدج في صوته. وعندئذ يشق كثافة الصمت الثقيل البهيم ويحدثني عما أثرتُ بما شاء إلى أن يشاء، ثم يعود إلى صمته المُصْمَت من جديد كأن لم يكن حديث. كان الأستاذ -رحمه الله- وديعًا رقيقًا باشًّا ألوفًا، وكان قلبه يفيض شفقةً ورقةً وحنانًا، ولكنه أصيب بكوائن بعد بوائق جعلت منه رجلًا ظنونًا منطويًا حزينًا فهو لذلك يضن بما في قلبه أن يطلع عليه أحد إلا بمقدار ما يريد هو. ثم أزاحت ندوة يوم الجمعة صخرة عن باب كهف توارت في أعماقه كنوز لفَّفها الزمن في محاريبه، ضمت الندوة رجالًا مختلفى المشارب والأهواء، منهم الساسة والأدباء والشعراء، وعاشقو التراث، ومحبو الأدب الحديث، ورجال لا يمتون إلى العربية تخصصًا أو احترافًا، ولكنهم واسعو الثقافة. وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ رشاد مهنا، والأستاذ حسين ذو الفقار صبري، والشيخ الباقورى، والأستاذ عبد الله التَّل، والأستاذ وديع فلسطين، والأستاذ عبد الرحمن شاكر، والأستاذ محمود حسن إسماعيل، والأستاذ جلال كشك، والأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، والأستاذ رشاد عبد المطلب، والأستاذ سيد صقر، والأستاذ حسن كامل الصيرفي، والأستاذ فؤاد سيد، والأستاذ ياسين جمعة، والدكتور عبد الله غنيم والدكتور يعقوب غنيم والدكتور عبد الله محارب، والأستاذ أحمد المانع والشيخ حمد الجاسر والدكتور عبد الله الطَّيب في بعض الأحايين، والدكتور أبو همام، والدكتور إحسان عباس، والدكتور

محمد يوسف نجم، والأستاذ يحيى حقي، والدكتور عبد الرحمن بدوي، والأستاذ فتحي رضوان، والدكتور ناصر الدين الأسد، ناهيك عن طلبة العلم من كل حدب وصوب مثل الدكتور شاكر الفحام، والأستاذ أحمد راتب النَّفَّاح، والدكتور عبد القدوس أبو صالح، وغيرهم ممن غابت عني أسماؤهم الآن. وكنت أنا وغيري من صغار الشباب، خاصة الأستاذ عبد الحميد بسيوني، والأستاذ الحساني عبد الله، وأخي المرحوم الطناحي والأستاذ علي شاكر، -رحمه الله-، ننتشر في مجالس القوم حيث يدور الحديث في شتى المواضيع وتحتدم المناقشات وتصطدم الآراء، وينبعث من غياهب الماضي ذكر رجال وأحداث، فسمعنا ووعينا، وعرفنا ما لم نكن نعرف عن زمن لم نشهده، ساعدنا على أن نفهم حاضرًا نتمثله. وكنت شديد الانتباه لما يتعلق بالأستاذ شاكر، فعرفت -إلى جانب ما حدثني به عن نفسه كما ذكرت آنفا- أشياء أخر عنه. واستبان لي حينئذ أنني لست أمام محقق أديب فقط (¬1)، ولكن في حضرة رجل مناضل مصري عربي إسلامي، نافح عن مصر وهاجم ساستها، وهَوَى بِسنان قلمه طَعْنا في الاستعمار البريطاني وأعوانه من بني جلدته ونافح عن قضية مصر والسودان، وقضية فلسطين وسائر قضايا البلاد العربية والإسلامية كما سيأتي بيانه. فلما عرفتُ ما عرفت أدركتُ أن العزلة التي ارتضاها الأستاذ شاكر لنفسه منذ سنة 1953 قد حالت بين جيلنا وبين عِرْفان نضاله في سبيل أمته، وأن هذا الجهل سيزداد إيغالا في مطارح الزمن، وستنشأ أجيال بعدنا أشد منا عمىً، وأقبح جهلًا، وأَضْيَع لِذِكْرِه. فاستجمعت شجاعتي ذات مساء في أواخر شهر إبريل سنة 1961، وقد آنست منه "انبساطا"، فقد كان يحدثني عن واقعة فَكِهَة حدثت في "دُكَّان الحاج سَعْد المجلِّد" -رحمه الله- عصر ذلك اليوم، وقلت: لي رجاء هو مِن حقِّ جيلي عليك، بل ومن حق الأجيال الآتية عليك أيضًا. ففي كل أوان، بل في كل يوم، ينشأ طالب علم لم يدرك زمنه ما كتبتَ في المجلات ¬

_ (¬1) كما عرفته من كتبه كتفسير الطبري وطبقات فحول الشعراء وغيرهما، ومن قراءتي عليه المفضليات والأصمعيات والمعلقات.

والصحف، وعسير عليه أن يلتمسه فيهما مع تباعد أزمانهما وندرة توافرهما في المكتبات. وسوف تُسْدِي إلى أُمَّتنا يدا لا تُنْسَى إذا جُمِعَت هذه المقالات في كتاب. فارتد إلى صمته فجأة، وتجهم وجهه شيئًا، ونحا ببصره إلى قِطْع من الليل جاثم من عن يمينه نحو رواق طويل تقوم رفوف الكتب على جانبيه، وأطال النظر في جوفه، ثم قال بهدوء، كهدوء البحر قبل العاصفة، في صوت يضطرب بعضه في بعض اضطراب الموج في تياره "أنا لا أحب أن أعيد نَشْر شيء كتبته وقرأه الناس قبلُ في مجلة أو صحيفة" (¬1). وقد اعتدت ألا أعاود الأستاذ شاكر في شيء يعزف عن الكلام فيه، فسكتَّ مُكْرَها، وكدت أُذكِّره بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَن سُئِل عمَّا يَعْلَمُه فكتَمَه أَلْجَمَه الله بلجام من نار يوم القيامة"، ولكني هبت أن أجْبهه بمثل هذا الكلام، وكدت أَفُوه بحديث آخر أَسْتَلِينه به: "زكاةُ العِلْم نَشْرُه"، ولكني أمسكتُ. ثم مضت ثلاث سنوات. وفي أواخر عام 1964 بدأ لويس عوض نشر سلسلة من المقالات بعنوان "على هامش الغفران: شيء من التاريخ"، فتصدَّى له الأستاذ شاكر يُفَنِّد مزاعمه ويُبِين عن الدوافع الحقيقية من وراء هذه المقالات. ونَشَرَ أول هذه الردود في مجلة الرسالة، العدد 1089 في 26 نوفمبر 1964 (رجب 1384). فانبعث في نفسي أملي القديم، ولكني سترته إلى حين -تحت رجاء ما ظننتُ الأستاذ شاكر يستطيع ردَّه هذه المرة بنفس الصرامة التي قابل بها رجائي السابق. قلت له: إني أظن ظنًا أشبه باليقين أن لويس عوض سوف ينشر مقالاته هذه في كتاب وسيكون بأيدي الناس في هذا الزمان ومستقبل الأيام إلى ما شاء الله (¬2)، فإن لم تفعل كما سيفعل، فسوف ينتشر هذا العلم الفاسد الَّذي ضمنه كتابه بين ¬

_ (¬1) وهذا شيء كنت أعلمه عن الأستاذ شاكر، وبالغ في ذلك حتَّى أنَّه كان يكره أن يستشهد بكلام كتبه من قبل. يقول مخاطبًا محمد رجب البيومي "وأنا أكره أن أنقل كلامًا لي من مكان، ولكنك استكرهتني على نقله". وانظر مقال "ذو العقل يشقى"، مجلة الرسالة، العدد 974، سنة 1952، ص: 245، والمقالات 1: 574. (¬2) وقد صدق حدسي، فقد نشر لويس عوض مقالاته في "كتاب الهلال"، العدد 181، إبريل 1966.

طلاب العلم الناشئين والغافلين، ويأخذونه على محمل الجد، فهو نتاج رجل "من كبار مثقفينا"، كما وصفه الدكتور مندور (¬1)، فإذا كان هذا ظن الدكتور محمد مندور، -رحمه الله-، وهو من هو في الأدب والنقد، فما بالك بظن أشباه العوام وأنصاف المثقفين؟ فالرأى أن تُجْمع مقالاتك وتنشر في كتاب يتداوله الناس، فيعرف من يقرأ حقيقة ما كتب لويس عوض، ومن تصدوا للدفاع عنه. وتعمدت إثارة هذا الأمر في ندوة يوم الجمعة وسرني أن بعض الحضور كانوا قد سبقوني إلى اقتراح ذلك على الأستاذ خلال مكالمات هاتفية، وكان الدكتور محمد رشاد سالم والأستاذ عبد الرحمن شاكر من أشد الناس تأييدًا وتعضيدًا. وبعد لأي وافق الأستاذ شاكر على جمع المقالات (¬2). وقد ظننت أن ما صدَّر به الكتاب إيذان بهجران ما أَصَرَّ عليه من إلْفِه حيث قال: "وبعدُ، فقد قَضَيتُ دهرًا أحمل القلم وأكتبُ، ولكني ظَلِلْتُ أكره أن أنشر على الناس شيئًا قد قرأوه من قبل في صحيفة أو مجلة، حتَّى إذا كان ما كتبتُه في مجلة الرسالة منذ يوم الخميس 22 رجب سنة 1384، وجدت إلحاحًا شديدًا على جَمْع ما نُشِر وإخراجِه في كتاب. وكانت حُجَّة أصحابنا قاهرةً لِحُجَّتي، ومزيلةً لما أصررتُ عليه من إِلْفِي وعسى أن أكونَ أخطأتُ الطريقَ حين أَلِفْتُ ما أَلِفْتُ، وخِفْتُ أن أكون كتمتُ عِلْمًا يَسَّره الله لي عن طالب عِلْم. ففي كل يوم ينشأ في الناس طالبُ عِلم لم يُدرِكْ زمانُه ما كتبتُ وعسيرٌ عليه أن يلتمسَه مع تفرُّقه في الصحف والمجلات. فمن أَجْل ذلك لم أجدْ بُدًّا من الاستجابة لأصحابنا، راضِيًا عنهم، لائمًا لنفسي، معتذِرًا عما فَرَط مِنِّي". فانتهزتُ فرصة "هذا الرِّضَى" عمن أَسْدَوا إليه هذه النصيحة، وتَبَيّنِه طريقًا كان قد أخطأه، ثم لاح له لاحِبًا مُسْتَتِبًّا، ففاتحْتُه في أمر جَمْع المقالات وإخراجِها في كتاب، لا لِمَ ذَكَرَه في تصدير الكتاب فقط، بل لكي يرى جيلي ¬

_ (¬1) أباطيل وأسمار "الطبعة الثانية" 1972، ص: 200. (¬2) نشر الجزء الأول بعنوان أباطل وأسمار سنة 1965، ثم صدرت الطبعة الثانية سنة 1972 عن مطبعة المدني، القاهرة.

والأجيالُ التالية كفاحَه في سبيل أُمَّته منذ بدأ يحمل القلم. ولكن حظي من الإجابة لم يكن بأمثل مما كان منذ ثلاث سنوات، فأمسكت مرة أخرى. وفى عام 1969 بدأ الأستاذ شاكر سلسلة مقالات في مجلة المجلة بعنوان "نَمَطٌ صعبُ، ونَمَطٌ مخيفٌ"، نشر أولها في العدد 147، إبريل 1969، وآخرها في العدد 159، مارس 1970. وأيقنت -مخطئًا- أنَّه جامعها ومخرجها في كتاب. ولكن خاب ظني (والظن هنا بمعنى اليقين). لله كيف كان وَقْع هذا اليقين الخاطئ! فلم تخرج في كتاب إلا بعد ست وعشرين سنة (1996)! في صيف عام 1978 قبل سفري إلى الولايات المتحدة لأعمل أستاذًا بجامعة أريزونا أخبرني المرحوم الدكتور محمد رشاد سالم أن النية معقودة على إخراج كتاب يُهْدَى إلى الأستاذ شاكر بمناسبة بلوغه السبعين، وطلب مني أن أشارك بفَصْل فيه، ففعلتُ، وأوصاني بكتمان الأمر حتَّى لا يصل إلى سمع الأستاذ، فامتثلتُ. ولكن الأمر بَلَغ أسماعَه، وأَدَعُ الدكتور محمد رشاد سالم يحدثك عما وقع: "وكان من المفروض أن يصدر هذا الكتاب منذ سنتين، إلا أنَّه بعد أن مضتْ اللجنة في عملها واتصلتْ بالأساتذة المشاركين، وتلقَّت عددًا كبيرا من المقالات، عَلِمَ "أبو فهر" بما نحن مُقْدِمون عليه، فعَرْقَل عَمَلَنا وحَيَّرنا. وكاد أن يرفض المبدأ، حتَّى نجحنا في إقناعه والاتفاق على استمرار اللجنة" (¬1). وقول الدكتور رشاد سالم "فعَرْقَل عملنا وحيَّرنا" كلام في حاقِّ موضعه إزاء إعادة نشر الأستاذ شاكر أعماله أو الكتابة عنه. فأما "عرقلة" عملي في جمع مقالاته فقد ذكرت طَرَفًا من ذلك قبلُ وأمسكتُ عن بقية هنا موضعُها. كان الأستاذ شاكر -كما ذكرت- قاسيًا عنيفًا، ولكنه كان أيضًا رقيقًا وديعًا ألوفًا حنونًا، فلم يشأ أن يقابل ما أردت من الإحسان بالإساءة والنكران، فقال متلطفًا: هذا عمل بالغ التعقيد يتطلب جهدًا ووقتًا أنت أحوج إليهما حتَّى تنتهى من رسالتي ¬

_ (¬1) دراسات عربية وإسلامية، مطبعة المدني، القاهرة 1982، ص 10 م.

الماجستير والدكتوراه. أما "الحيرة" فإنني عندما انتهيت من كتابة رسالة الدكتوراه في ديسمبر سنة 1968 رجع الأستاذ إلى إِلْفِه الَّذي أَلِفَ ولم يأذن لي، وقال متلطفًا أيضًا: إنك ستحتاج عما قريب إلى عمل جيِّد يمكِّنك من الترقية، ولن تستطيع أن تنالها بجمع مقالاتي، هذا فضلًا عن بعدها عن مجال تخصصك في الأدب القديم. فسكت مرة ثالثة على مضض، ولكني لم أيأس، فقد كنت، ولم أزل، "صعيديًا" مثله. اضطلع الأستاذ جمعة ياسين جزاه الله خيرًا بمشاركته في كتاب "دراسات عربية وإسلامية" بحصر ما كتب الأستاذ شاكر من مؤلفات وتحقيقات ورتبها حسب زمان صدورها بادئًا بسنة 1926 ومنتهيًا بسنة 1982. فأسدى إلى القراء فضلًا عميمًا، وكان ذلك عونًا لمن كتبوا رسائل جامعية عن الأستاذ محمود شاكر مثل الأستاذ محمود إبراهيم الرضواني (1995)، والأستاذ عمر حسن القيام (1997)، والأستاذ إبراهيم الكُوفَحى (2000). أما بالنسبة لي فقد ذُلِّلتْ عقبةٌ كَأْداء، فقد بات كل شيء تقريبًا كَتَبَه الأستاذ شاكر حتَّى هذا التاريخ معروفًا: عنوانه ومكان نشره وتاريخه، وما علي إلا النسخ أو التصوير. أجمعت أمري ولممت شتات نفسي وفاتحته مرة رابعة في صيف 1985 في جمع المقالات، فمواضعها وتواريخها الآن معروفة، وقد دلَّ هو بنفسه الأستاذ جمعة ياسين على أكثر أماكنها، هذه واحدة. نلتُ درجة "أستاذ" عام 1980، وبذلك لم أعد مضطرًا إلى كتابة أبحاث ذات طابع خاص يتصل بمجال تخصصي، هذه ثانية. فلم يبعد ولم يقارب، وقال "ربنا يسهِّل" وعلت وجهه ابتسامة خفيفة، ونظر إليَّ كالمتعجب من إصرارى على مدى أربعة وعشرين عامًا. ومضت السنون ولم يأذن الله بالتسهيل. ولكني استبشرت خيرًا، فقد كنت أتحسس الأخبار من أخي الأصغر الدكتور فهر، وعلمت أن الأستاذ شاكر صوَّر بعض المقالات وكذلك فعل بأشعاره. ولكن حال الأَجَل دون تحقيق الأمل، فقد توفي رحمة الله عليه في 7/ 8/ 1997.

2 - منهج الكتاب

2 - منهج الكتاب وفى صيف العام التالي فاتحت الأستاذ عبد الرحمن شاكر والسيدة أم فهر والدكتور فهر بعزمي على جمع مقالات الأستاذ شاكر وشعره أيضًا فوافقوا شاكرين ممتنِّين. وأعطاني الدكتور فهر كل ما وجده مما جمعه الأستاذ، فقمت بمقابلته على سرد الأستاذ جمعة ياسين من مؤلفات الأستاذ، ثم بدأت رحلة شاقة مضنية مع المجلات والصحف التي نشرت فيها المقالات والأشعار، فاستكملت ما نقص، ثم نظرت في بعض ملفات الأستاذ الخاصة، فوجدت مقالة بخط يده وبعض أشعار لم تنشر. فلما استوى لي ذلك كله بدأت بالمقالات، ورأيت أن أرتبها حسب ورودها في المجلات والصحف، فأضع في مكان واحد كل ما نشر في مجلة الرسالة مثلًا، ثم مجلة الزهراء مراعيًا أثناء ذلك أسبقية تواريخ النشر. وقد وجدت عنتًا شديدًا في قراءة المقالات التي نُشِرت في الصحف كالبلاغ والمقطَّم والدُّستور والأهرام، فقد طَوَى الأستاذ هذه المقالات نِصفَيْن نِصفيْن، فتَهَرَّأ مكانُ الطَّي وتآكلَ، فضاع ما يقرب من سَطْريْن بعَرْض المقال في كل صفحة، ولكنني خلال زيارتى لمكتبة الكونجرس الأمريكى بمدينة واشنطن استطعت أن أحصل على "ميكروفيش" فيه المقالات كاملة واضحة، فأقمت النصوص، والحمد لله. وبعد أن مَضَيْتُ شوطًا، رأى الأستاذ عبد الرحمن شاكر أن أدعَ المقالات إلى حين، وأبدأ بجمع أشعار الأستاذ شاكر أوَّلًا، وكان له في ذلك حُجَّة مُقْنِعة، لستُ في حِلٍّ مِن ذكرها، ففعلتُ، وقد بيَّنْت طَرَفًا مِن ذلك في مقدمة الديوان. حتَّى إذا أتممتُ مراجعة الديوان وشرحه والتقديم له، عكفت على المقالات سنتين أُخريَيْن. ولم يكن ترتيبها حسب المجلات والصحف التي نُشِرت فيها تبعًا لأقدمية تواريخها بالأمر السهل. وشاركنى أخي محمد الخانجي هذا العَنَت في صَبْر وأَناة، فقد كان يقوم بصَفِّ كل مقال أعثر عليه بغضِّ النظر عن تاريخه

أو مكان نشره، ثم عُدْنا بعد ذلك لنضع كلَّ مقال مع مجلته أو صحيفته التي نُشِر بها في نسق تاريخي، واستدعى ذلك كثيرًا من التقديم والتأخير خاصة في الجزء الثاني. واضطررت في أحيان قليلة أن أتخلَّى عن هذا النسق التاريخي إذا كانت هناك مجموعة من المقالات في موضوع واحد تخللها مقال أو أكثر في موضوع آخر، فكرهت أن يفرق تاريخ النشر بين تتابع المقالات، فجعلت هذه المقالات آخذًا بعضها برقاب بعض حِفاظًا على وحدة موضوعها. حاولت جهدي أن أقرأ المقالات بدقة، فصحَّحتُ بعض ما بدا لي فيها من أخطاء، وعسى ألا أكون قد أخطأت الطريق، ووضعت التشكيل حيث ظننتُ أنَّه مُزِيل لِلَبْس أو مُعِين على فَهْم، وشرحتُ بعض ألفاظ، أوضحتُ بعضَ ما استشهد به الأستاذ مما يجرى مجرى الأمثال، أو يكون جزء من حديث شريف، أو غير ذلك. وللأستاذ شاكر شروح قليلة أثبَّتُ أمامها اسمه (شاكر). وكنت أنوي -لتمام العمل- أن أفعل ثلاثة أشياء، أولها: أن أكتب مقدمة ضافية، كما فعلت في مجموع شعر الأستاذ. ثانيها: أن أترجم لجميع الأعلام الذين وَرَدُوا في سياق المقالات، ولو ترجمة موجزة. صحيح أن بعض هذه الأعلام معروفة كالأستاذ سيد قطب والأستاذ مصطفى صادق الرافعي والأستاذ العقاد، ولكن صحيح أيضًا أن بعضها غير معروف خاصة للأجيال التي لم تشهد هذا الزمان مثل الأستاذ صبحى البَضَّام، والأستاذ محمد رجب البيومي، أطال الله بقاءه، والأستاذ محمد عبد السلام القبَّاني وغيرهم. ثالثها: أن أجعل ذيلًا للكتاب يَضُمَّ المقالات التي نقدت بعض كتابات الأستاذ شاكر، مثل نقد كتاب طبقات فحول الشعراء للأستاذ سيد صقر -رحمه الله-، أو ردت عليه نَقْده، مثل مقالات الأستاذ سيد قطب بشأن الرافعي والعقاد، ومقالات الأستاذ بشر فارس، والأستاذ محمد عبد الغنى حسن وغيرهم كثير. ولكن الأستاذ محمد الخانجي -لدواعي النشر- رأى أن ذلك سيضيف ما يقرب من ثلاثمائة صفحة أخرى، فَتخلَّيت عما نَوَيْتُ.

أما المقدمة الضافية، فسوف أضمُّ إليها المقدمَة التي كتبتُها لمجموع شعره "اعْصِفي يا رياح وقصائد أخرى" وقد نقَّحتها وزدتُ فيها دراسةً فنيةً لأسلوب شِعْر الأستاذ شاكر، فسوف أنشر ذلك جميعًا -إن أَذِن الله- في كتاب مستقلٍ. وأما تراجم الأعلام، فلن تشكِّل عبئًا كبيرًا للقارئ الَّذي يريد أن يستزيد، فأكثرها موجود في كتاب الزركلي، والموسوعة القومية للشخصيات المصرية البارزة. أما ثالث هذه الأشياء، فقد أشرتُ في الهوامش إليها، وبينَّتُ عنوانَ النَّقْد الَّذي وُجِّه إلى كتابات الأستاذ، ومكانَ نشره وتاريخَه ليرجع إليه مَن يشاء. * * * يقول الأستاذ شاكر -رحمه الله- في المقدمة التي صدَّر بها كتابَ الأستاذ سعيد العريان عن "حياة الرافعي": "ولو يَسَّر الله لكل شاعرٍ أو كاتبٍ أو عالمٍ صديقًا وَفِيًّا ينقُله إلى الناس أحاديثَ وأخبارًا وأعمالًا -كما يسَّر الله للرافعي- لما أضلَّت العربية مَجْدَ أدبائها وعلمائها، ولما تفلَّتَ من أدبها عِلْمُ أسرار الأساليب وعلمُ وجوه المعاني التي تَعتِلج في النفوس وتَرْتِكض في القلوب حتَّى يُؤْذَن لها أن تكون أدبًا يُصْطَفَى، وعِلْمًا يُتَوارَث، وفنًّا يتبَلَّجُ على سَواد الحياة، فتُسْفِر عن مَكْنونها متكشِّفَة بارزة تتأنَّق للنفس حتَّى تستوي بمعانيها وأسرارها على أسباب ودواعي السرور وما قبلُ وما بعدُ". ويقول في كلامه عن ذكرى الرافعي (المقالات: 171): "إن هذا التراث الَّذي خلَّفه الرافعي للأدب العربي، قد جعله الله أمانة بين يدي "سعيد". فهو يؤدِّي اليوم هذه الأمانة وافيه كاملة لم ينتقص منها شيء -إلا أن يُعْجِزه أن يهتدى إليه أو يقع عليه. وغدًا يجد الناس بين أيديهم كلَّ ما كتبه الرافعي حاضرًا لم يَضِعْ منه شيء منه، وكذلك يجد من يريد سبيلَه إلى معرفة الرافعي من قريب وتقديره والحكم إما له وإما عليه". فلتَقَرَّ عَيْنًا أستاذنا الجليل، فقد يَسَّر الله لك -كما يَسَّر للرافعي- ابْنًا بارًّا

وصديقًا وَفِيًّا وتلميذًا مَدِينًا لك بالفضل يَنْقُل عِلْمك للناس حتَّى لا تَضِلَّ العربية مَكْنونَ عِلْمك، ولا فاضلَ أَدبك، ولا أسرارَ أسأليبك، وحتى يصبح ما خَلَّفْتَ أدبًا يُصْطَفَى، وعِلْمًا يُتَوارَث، وخُلُقًا يُحْتَذَى، وهَدْيًا لأجيال خَشِيتَ أنت عليها وعورةَ المسالك ومَتالفَ الطريق. وعسى أن أكون قد أدَّيتُ الأمانة -التي اخترتُ أن أحملها بظُلْمي وجهلي- وافية كاملة لم ينقص منها شيء إلا ما أَهْمَلْتُ لعجزي وتقصيري، أو لم أقع عليه لسهْوِي وغفلتي، وتَشتُّتي بين البلاد وغُربتي. ولإخواني من أهل العلم والفضل سابق شكري إذا تكرموا عليَّ ودلّوني على ما عجزت عن الإهتداء إليه. وأدعو الله أن ييسر لهذه المقالات علماء شتى، كُلًّا في مجال تخصصه، خاصة في مجال الفكر السياسي، والدراسات الاجتماعية. وأُهِيب بالمتخصصين في اللغويات linguistice وعلماء اللغة بالنظر في مقالاته الثلاث عن "علم معاني أصوات الحروف" وآرائه الأخرى المبثوثة في ثنايا المقالات، كما في مقال "الطريق إلى الحق"، "المُنْطَلِق"، "وبِشْر أيضًا" وغيرها، ثم بعد ذلك وفوق ذلك ما بثه في "نَمَطٌ صَعْب ونَمْطٌ مخيف". كما أحثُّ نُقَّاد الأدب على إنعام النظر في مقالاته الخمس بعنوان "من مذكرات عمر بن أبي ربيعة"، فهي وإن اعتمدت أشخاصها وبعض أحداثها على حقائق تاريخية، فهي أَدَبٌ مُنْشِئ Creative literature. كما أدعوهم إلى تدبُّر مقالاته الثلاث عن "شاعر الحب والفلوات: ذو الرمة"، فهي نمط فريد من الدراسة، ليس تاريخًا لحياة الشاعر، وليس تحليلًا لشعره، وإنما هي تَدسُّسٌ في مشاعره وأحساسيه وآماله وهواجسه، حتَّى لكأنك مع الشاعر مع مأساة حُبِّه يومًا بيوم. كما أدعوهم أيضًا إلى التوقَّف أمام مقالاته الثلاث "إلى أين؟ "، فهي تجمع بين السيرة الذاتية، وفن "المقال" في أرفع مناحيه. ثم فَلْيَحُطُّوا الرِّحال لوَقْفَة طويلة أمام مقالاته الثلاث "المتنبي: ليتني ما عرفتُه" وتحليله الرائع الدقيق لعملية "الإبانة والاستبانة". وأنا أدعو النقاد الذين أخذوا بحظٍّ وافرٍ من الثقافة الغربية -وهم كُثْر، والحمد لله- للنظر في كل ذلك حسب أصول النظر الغربي، لكي يستبين أن

هذا الرجل الفَذّ نَسِيج وَحْدِه قد نَفَذ إلى أسرار نظريات شتى يَحْلو لنا أن ننسبها إلى علماء الغرب وحدهم، ونستشهد بكلامهم تأييدًا لما نقول، غير ناظرين إلى مرمى ليس أبعد من موضع سجودنا.

3 - كلمة واجبة

3 - كلمة واجبة إذا كانت ظروف النشر قد حالت دون كتابة مقدمة دراسية لهذه المقالات النفيسة، فلأقتصر هنا على بيان جانب معين في شخصية الأستاذ شاكر، وعسى أن يكون في ذلك بيانٌ لما أسلفته في "قصة الكتاب" من كراهية الأستاذ شاكر لإعادة نشر شيء سبق له نشره. حقق الأستاذ شاكر كُتبا معروفة، وكتب دراسات عن الأدب العربي مذكورة، ونظم أشعارًا فريدة، خاصة القوس العذراء، ولكن فعل ذلك كثيرون غيره، وإن لم يلحقوا به في هذا المضمار. غير أن أعماله قوبلت بالصمت المُنْكَر زمنًا طويلًا، وتوالت الدراساتُ والرسائل الجامعيةُ عن محقِّقِين وكُتَّاب وأدباء وشعراء دون الأستاذ شاكر علمًا وموهبة، وما كُتِبَ عنه حتَّى دخوله في العزلة التي ارتضاها لنفسه سنة 1953 لا يعدو أن يكون نقدًا لبعض ما كتب أو تقريظًا لا يتجاوز أسطرًا معدودات، ولأضرب مثالًا واحدًا بشعره، فالشعر أكثر سيرورةً وقُرَّاء من تفسير الطبري أو طبقات فحول الشعراء. قلت في مقدمة مجموع شعر الأستاذ شاكر "اعْصِفِي يا رياح وقصائد أخرى" ص: 135 - 136 ما يلي "والعجب كل العجب أن يُهْمَل هذا الشعر حتَّى الآن. فإن قلتَ: ربما كان ذلك لأنه كان مُفَرَّقًا في مجلتي المقتطف والرسالة، فعَزَّ تيسُّرُه في أيدي الباحثين. قلتُ: كذلك كان شعر بعض شعراء مدرسة أبوللو الَّذي عكف عليه الدكتور محمد مندور -رحمه الله-، وهم لا يدانون الأستاذ شاكر في شاعرية أو فكر". وإذا كان التماسُ هذا الشعر لِتفرُّقِه في المجالات أمرًا عسيرًا حال دون دراسته، فكيف نفسر موقف النُّقَّاد من "القوس العذراء"، فهي قصيدة طويلة جدًا ظهرت أول مرة في مجلة الكتاب (المجلد 11، عدد فبراير 1952)، وقدم لها الأستاذ عادل الغضبان بكلمة تقريظ قصيرة بعنوان "توطئة" ص: 154. وفي عدد مارس 1952 من نفس المجلة كتب الأستاذ جمال مرسى بدر كلامًا

لا يتعدى صفحة واحدة مزج فيه تقريظًا بنقد، قال ص: 380 "وقفت طويلًا عند ملحمة القوس العذراء للأستاذ الكبير محمود محمد شاكر مأْخُوذًا بمحاسن هذه الخريدة الفريدة، مُمَتِّعا الروح بما حوت من خيال رائع، ونسيج متين. غير أني لاحظت في قليل من أبيات مطلع هذه القصيدة العصماء خَلَلا أَفْقَد نغمها انسجامه"، ثم أورد ثلاثة أبيات هائية (فقضاها، رآها، سَوَّاها) ورأى أن زيادة تفعيلة فيها أخلت بوزن مجزوء الرمل. ثم نشر الأستاذ محمد سعيد المسلم في نفس المجلة (المجلد 12، عدد فبراير 1953، ص: 293 - 295) نقدًا تابع فيه الأستاذ جمال مرسي، حيث زاد أربعة أبيات من الهائية، وهي البيت السادس، وفيه زيادة كلمة، والبيت التاسع وفيه زيادة كلمة، والبيتان السابع عشر والثاني والعشرون، وكلاهما يزيد تفعيلة. ثم أورد الأبيات الثلاثة التالية لذلك وهي (فَداها، وشاها، هواها) وعلق عليها قائلًا: "فذوقي يقف إزاء هذه الأبيات الثلاثة المُدَوَّرة حائرًا! لا يدرى! كيف يرجعها إلى أي بحر من بحور علم العروض؟ ؟ أتراها بحورًا جديدة اخترعها الشاعر؟ " (ص: 294). وأورد بيتًا من اللامية فيه خلل. ثم نُشِرَت القصيدة في كتاب مستقل من القطع الصغير سنة 1964، فكتب عنها أستاذنا المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود (مجلة الكتاب العربي، العدد: 15، سنة 1965، ص: 11 - 15) مقالًا هو بالمدح والتقريظ أشبه منه بالدرس والتحليل. فكما ترى لم يكتب شيء جاد عن هذه القصيدة الفريدة طوال ثلاثة عشر عامًا من تاريخ نشرها. ثم مضت سبعة عشر عامًا أُخَر حتَّى كتب عنها الدكتور إحسان عباس -أطال الله بقاءه- والدكتور محمد مصطفى هدَّارة، -رحمه الله-، دراستيْن قيمتيْن في الكتاب الَّذي أهديناه للأستاذ شاكر بمناسبة بلوغه السبعين، وطُبِع سنة 1982. ولا أَدْرِى إذا كان الأستاذان الجليلان سيكتبان عن هذه القصيدة لولا الكتاب؟ لا أدري! وقد حاول الدكتور إحسان عباس أن يُعلِّل سبب إهمال الدارسين لها بما فيهم هو نفسه، وهو تعليل لم أجد فيها مَقْنعا (ص 13 - 14).

فهذِي ثلاثون سنة من الإهمال والتغاضي والجحود والنكران لإنتاج علَّامة فذّ، لم يَجُد الزمن بضَرِيبة له منذ عبد القادر البغدادي. وليت الأمر من إهمال مُسْتشنَع اقتصر على عِلْم الأستاذ شاكر وجهوده في ميادين التحقيق والأدب والشعر، بل تعداه إلى ماهو أشد وأنكى وأبشع، تعداه إلى كفاحه الطويل وجهاده العنيد في شمم وإباء وعزم ومضاء في سبيل أمته العربية: أرضها، ووحدتها، وحريتها، وقوميتها، ودينها ولغتها. فهو كما قال عن نفسه بحق -ونقلت ذلك في صدر هذا التقديم- إنه جندي من جنود العربية، نصب نفسه للدفاع عن أمته. دافع عن مصر دفاعًا مجيدًا وهاجم ساستها هجومًا عنيفًا، واتهمهم بأنهم صنائع بريطانيا، شَنَّ عليهم وعليها غارة شَعْواء، وتمسَّك بشِعار فتى مصر مصطفى كامل -رحمه الله- "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء". يقول الأستاذ شاكر مخاطبًا من اختاروا حَلَّ القضية المصرية عن طريق التفاوض مع بريطانيا "وليعلم هؤلاء المفاوضون أنهم لا يملكون التصرف في رقاب أهل مصر الحاضرين، ولا في رقاب الأجيال الآتية، وأنهم وإن كانوا مصريين كرامًا، إلا أن مصر خالدة على وجه الدهر، وهي أكرم على أبنائها ورجالها الآتين. . . ونحن الشباب الناشيء نعرف أن الحياة لا معنى لها إذا خلت من الشرف والكرامة، وأن الشرف والكرامة عندئذ هي الموت. فَلْنَمُت كرامًا صادقين، فذلك خير من أن نعيش أذلَّاء مُسْتَعْبَدِين" (¬1). ونافح عن قضية وادي النيل، فهو مصري سوداني، وإن شئت سوداني مصري، يقول واصفًا العلاقة بين شطري الوادي "فالحقيقة التي ينبغي أن لا نتمارَى فيها بالعصبية أو الكبرياء هي أن السودان سيد هذا الوادي الَّذي يمده النيل بمائه. وإذن فالسودان هو أحق الشقيقين باسم الدولة، فإما أن يسمى وادي ¬

_ (¬1) "اسلمي يا مصر"، مجلة الرسالة، العدد 694، سنة 1946، ص 1159، والمقالات 1: 313.

النيل كله باسم الدولة المصرية برضَى أهل السودان، أو أن يسمى هذا الوادي باسم الدولة السودانية برضى أهل مصر " (¬1). لذلك انتقد ساسة مصر والسودان الذين قبلوا أن يفصلوا بين قضية مصر وقضية السودان، فقد كان من سياسة بريطانيا قديما أن تمزق وحدة شعب وادي النيل، فأوجدت رجالا يتطلعون إلى مناصب الحكم كما يتطلع الظمآن إلى الماء. وكان من سياسة بريطانيا أن تلاين وتساير حتَّى يصبح السودان شيئًا قائمًا بذاته وقضية منفصلة عن قضية مصر. "وكان من سياستها أن تُغْرِي شهوات قوم من أهل السودان بالحكم أو السلطان، ففعلت، وانقسمت فئةٌ من أبنائه مُضَلَّلين بوعود كاذبة لم تتحقق. وخرجت عن بقية الشعب مؤُزرَةً بالمال فَفَجَرت ومَرَدَتْ، وبريطانيا من ورائهم تنفُخ في نيرانهم حتَّى يأتي اليوم الَّذي يجعلونهم فيه حَرْبًا على بلادهم وهم يظنون أنهم يفعلون لخيرها وفلاحها" (¬2). لذلك دعا شعبَ مصر والسودان إلى تأييد الوفد المصري السوداني الَّذي سيَعْرِض القضية المصرية السودانية على مجلس الأمن، وإن لم تجتمع لأعضاء هذا الوفد الصفاتُ التي ينبغي أن تجتمع لوفد مثله، "لأن الشعب المصري السوداني شعب كريم ذكيُّ الفؤاد، تجتمع قلوبُه عند المحنة يدًا واحدة على عدوِّه الباغي إليه الغوائل" (¬3). ومن ثم فقد وجَّه نداء إلى السيد المهدي أن يضع يده في يد أخيه السيد الميرغني ويخرجا على بريطانيا مرة واحدة، ويعلنان أن مصر والسودان أُمَّة واحدة، وأن بريطانيا كاذبة فيما ادَّعت علينا وعليهم، وأن لا حياة لأحد الشطرين إذا اقتطع عن صاحبه (¬4). ¬

_ (¬1) "مصر هي السودان"، مجلة الرسالة، العدد 708، سنة 1947، ص 105، المقالات 1: 357. (¬2) "قضى الأمر"، مجلة الرسالة، العدد 726، سنة 1947 ص: 608، المقالات 1: 401 - 402. (¬3) نفس المصدر والصفحة. (¬4) "شهر النصر"، مجلة الرسالة، العدد 734، سنة 1947، ص: 836، المقالات 1: 425.

ووادي النيل -مصر والسودان- هو البلد الَّذي وُلِد فيه الأستاذ شاكر، وعاش في شطره الثاني والده الشيخُ محمد شاكر أربع سنوات تولى فيها منصب قاضي القضاة، ولكن وادي النيل ما هو إلا جزء لا يتجزأ من الأمة العربية. والأستاذ شاكر مؤمن بهذه الأُمَّة وبوحدتها واستقلالها "لا يحتلُّ عراقَها جنديٌّ واحد، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول (¬1)، ولا ينال نيلَها من منبعه إلى مصبه سلطانُ بريطاني أو غير بريطاني. ولا تقع شامُها ولُبْنانها تحت سطوة غاصِب، ولا يعبث في أرجها مَغْرِبها فرنسي خبيثُ القول والفعل مجنونُ الإرادة. هذا كلُّه شيء لا يملك كائنٌ مَن كان أن يُجْبِرنا على خِلافه أو على الرِّضَى بِه" (¬2). "وينبغي أن لا نرضى منذ اليوم أن نُفَرِّق قضيةَ العرب ونجعلها قضايا ممزَّقة: هذه قضية مصر والسودان، وتلك قضية فلسطين، والأخرى قضية طرابلس وبرقة، والرابعة قضية تونس، والخامسة قضية الجزائر، والسادسة قضية مراكش، والسابعة قضية العراق. بل إن هذه القضايا كلها قضية واحدة لا تنفكَّ منها واحدة عن أختها أبدًا" (¬3). والأُمَّة العربية أيضًا جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية. فأهمَّه ما تتعرَّض له البلادُ الإسلامية من البلاء، يقول عن باكستان "انظروا فهذه دولة باكستان، قد اجتمعت فيها كلمة المسلمين على أن يكونوا أمة عدتها مئة مليون، فإذا عُبَّاد البُدِّ (بوذا) قد دمروا عليهم من كل مكان يذبحونهم ويقتلونهم ويفتكون بالنساء ¬

_ (¬1) لا يعني الأستاذ شاكر حكام البلاد، فيما أخبرني، وإنما هؤلاء الأجانب الذين يأخذون بترول بلادنا ليديروا بها مصانعهم لتغزو منتجاتها أسواقنا. ولكن انظر 1: 416. (¬2) "شعب واحد وقضية واحدة"، مجلة الرسالة، العدد 730، سنة 1947، ص: 723، والمقالات 1: 412، وانظر أيضًا العدد 732 من الرسالة، سنة 1947، ص 777، والمقالات 1: 415، ومواضع أخرى كثيرة. (¬3) المقالات 1: 413.

والأطفال. . . وانظروا، فهذه أندونيسيا تجمع هيئة الأمم المتحدة على تركها فريسة الطغاة البغاة من شِرْذِمَة الخلق الذين يسمون بالهولنديين" (¬1). أما قضية فلسطين، فكانت شغله الشاغل، وكان يعتبرها فِلْذَة أكباد العرب (¬2) ويسميها "أم المشاكل العربية" (¬3). وكان يرقب ما يجرى منذ وعد بلفور فيرى أنذال الأمم يطأون ديارها بعد الحرب العالمية الأولى، ثم أخذوا يسيلون عليها منذ ذلك اليوم لإنشاء دولة يهودية في ربوعها بعد طرد أهلها العرب. ويرى أمريكا تعين اليهود بالمال واللسان والقلب، ويرى بريطانيا تسهل هجرة آلاف اليهود سرًا إلى ربوع فلسطين (¬4)، وتصبر على إذلال اليهود لها صبرًا لم يعرفه تاريخ دولة عظمى. ويرى الدول الكبرى تلوذ بالصمت وتغمض عيونها مما ترى، فلا تتحرك دفاعًا عن الحرية أو الهضيمة التي تراد بإنسانية شعب فلسطين العربي. كان الأستاذ شاكر يرى كل هذا، والعالم العربي الإسلامي ساكن قار، لا يملك إلا الإستنكار. وكان الأستاذ شاكر يرى إلى أين ستصير الأمور ببصره النافذ وبصيرته المتوقدة، فكتب مقالًا ¬

_ (¬1) "نحن العرب"، مجلة الرسالة، العدد 720، سنة 1947، والمقالات 1: 384. (¬2) "لبيك يا فلسطين"، المقالات 1: 481. (¬3) "ويحكموا هُبُّوا"، مجلة الرسالة، العدد 757، سنة 1948، والمقالات 1: 498. (¬4) من أوفى الدراسات المدعمة بالوثائق عن دور بريطانيا في تهويد فلسطين هي دراسة الدكتور علي أبو الحسن بعنوان: دور بريطانيا في تهويد فلسطين: أقذر دور في التاريخ. نشر دار الوحدة العربية بيروت 1977. وبتوَلِّي السير آرثر وشوب Sir Arther Wauchope أصبحت هجرة اليهود "غزوا" ففي سنة 1932 سمح بهجرة 9553 يهوديًا، وسنة 1933: 327 ,30 يهوديًا، وفي سنة 1934: 359 , 42 يهوديًا، وفي سنة 1935: 854 , 61 يهوديًا، أي 93 , 144 يهوديًا في خلال أربع سنوات. انظر فصلا بعنوان The Dark Path of Repression في كتاب Nevill Barbour,Nisi Dominus: Asurvey of the palestine Controversy (London: George G.Harrap and Company limited,1948),pp.188 - 93 ومن أفضل الكتب الأجنبية عن مأساة فلسطين ودور بريطانيا المخزى كتاب ضخم بقلم الكاتب البريطاني المنصف ج جفريز، ترجمه في أربعة أجزاء الأستاذ أحمد خليل الحاج، ونشرته دائرة الثقافة والإعلام حكومة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة 2000.

سنة 1946 - أي قبل قرار التقسيم بعام- بعنوان "من وراء حجاب". جَهَدَه التعبُ ليلة فتَغشَّتْه نَعْسَة، وسَبَح في غَمْرة رؤيا، وإذا به يُفْضِي في غَمْرَة هذه الرؤيا إلى مقصورة في مسجد، هي مقصورة أبي جعفر الطبري، كان الشيخ نائما فهاب الأستاذ شاكر أن يُوقظه، ونظر حوله فرأى أوراقًا كتبها تَتِمَّة لتاريخه المعررف باسم "تاريخ الأمم والملوك". فتناولها الأستاذ شاكر فإذا بها تبدأ من سنة 1365 هجرية (الموافق 1946 ميلادية). وهذه هي أول التتمة: [ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف]، 1946. ذكر ما كان فيها من الأحداث: فمن ذلك إجماع المجلسين الأمريكيين على فتح فلسطين لشذاذ المهاجرين من اليهود. وكتب إليَّ السُّدِّي، وهو مقيم هناك بأمريكا، أن موقف الرئيس ترومان الَّذي ادَّعاه من إيثاره العقل على الهوى في هذا الأمر، إنما كان حيلة مَخْبُوءة أراد أن يغرر بالبلاد العربية والإسلامية، ثم يفاجئها بحقيقته. وهو في ذلك إنما يعمل للظفر بمعونة اليهود في الانتخاب الآتي للرياسة. ولما كان هواه هو الَّذي يُصَرِّفه، فقد علم أنَّه طامع في الرياسة حريص عليها، وأن اليهود في أمريكا هم أهل المال، أي أهل السلطان، أي هم الأنصار الذين إذا خذلوه ضاع. قال السُّدِّي: وقد سمعت بعض أهل العقل والرأى في أمريكا يستنكرون ما كان منه ومن قرار مجلسيْه، ويَرَوْن أن الديمقراطية اليوم قد صارت كلمة يراد بها التدليس على عقول البشر ليبلغ بها القوِىَّ مأربه من الضعيف المغرور بهذه الرقية الساحرة التي يُدَنْدِنُون بها في الآذان. وقد أخبرني الثقة أن الرئيس ترومان قد أوحى إلى بعض بطانة السوء أن العرب والمسلمين قوم أهل غفلة، وأن دينهم يأمرهم بالصبر ويُلِحُّ فيه، فهم لا يلبثون أن يستكينوا للأمر إذا وقع، ولا يجدون في أنفسهم القدرة على تغييره أو الانتقاص منه، وأن الزمن إذا تطاول عليهم في شيء أَلِفوه ولم ينكروه، فإذا دام دخول اليهود فلسطين وبقى الأمر مُسنَدًا إلى الدولة المنتدبة (وهي بريطانيا)، وانفسح لحمقى اليهود مجال الدعوى والعمل والتبجُّح، وألَحَّ على العرب دائمًا إجماعُ الدنيا كلها (أي الديمقراطية) بأن الدولة اليهودية في فلسطين حقيقة ينبغي أن تكون وأن تتم كما

أراد الله، فيومئذ يُلْقِي العرب السَّلَم ولا يزالون مختلفين حتَّى ينشأ ناشِئهم على إِلْف شيء قد صبر عليه آباؤه، فلا يكون لأحد منهم أدنى همة في تغيير ما أراد الله أن يكون، مما صبر عليه آباؤهم وأسلافهم -وهم عند العرب والمسلمين- أهل القدوة". [ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة بعد الألف]، 1947. ذكر ما كان فيها من الأحداث: فمن ذلك ما كان من اجتماع ملوك العرب وأمرائهم ووزرائهم. . . . وقَرَّ قرارهم على أن يعلنوا للناس جميعًا وينذرونهم بما رأوا وأجمعوا عليه. . . . الثاني: أن فلسطين ستجاهد، ومن ورائها بلاد العرب والمسلمين تظاهرها بالمال والولد. الثالث: أن الفتك والغدر والاغتيال ليس من شيمة العرب ولا من دين المسلمين، وأن حوادث الاغتيال الشنيعة المنكرة التي اقترفها اليهود ينبغي أن تقابل بالصدق والصراحة، لا بالغيلة والغدر". [ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة بعد الألف] 1949 م. ذكر ما كان فيها من الأحداث: اشتعلت نيران الحروب في الشرق كله، واجتمع رؤساء الدول العربية والإسلامية في مكة المكرمة ووحَّدوا قيادة الجيوش العربية. ولكن لم يلبث سفير بريطانيا في مصر وسفير أمريكا أن أرسلا برقية إلى المجتمعين في مكة يطلبون وَقْف الحركات الحربية التي سموها (ثورة)، ورغَّبوا إلى ملوك العرب ووزرائهم أن يتمهلوا حتَّى يصدر تصريح مشترك من الدولتين الكبيرتين، على شريطة أن تمتنع البلاد العربية من متابعة السياسية الروسية التي تتظاهر بمؤازرة العرب والمسلمين. وبعد أيام صدر هذا التصريح، وهو ينص على أن للعرب ما أرادوا من وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وعلى العرب أن يتولوا بأنفسهم مفاوضة يهود فلسطين على السياسة التي يريدونها، وأن بريطانيا وأمريكا لن تتدخلا في الخلاف الناشب بين الفريقين، وأن الدولتين الكبيرتين ستمنعان كل مساعدة تُرْسَل من بلادهما إلى فلسطين من مال أو سلاح. . . . ". [ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بعد الألف]، 1955 م. ذكر ما كان فيها من الأحداث: كثرت حوادث الاغتيال والفتك في كثير

من البلاد العربية والأجنبية، وقتل من العرب وأنصار العرب من سائر الأمم خلق كثير، واستفحل الشر استفحالًا عظيمًا، حتَّى ثارت الصحف الإنجليزية والأمريكية وطالبت حكوماتها بإعلان قرار واحد بأن الرأي العام والسياسة العامة في سبيل السلام تقتضي أن تُبْذَل النصرة الكاملة للعرب وللقضية العربية، وأن تتعاون الدول على رد العُدْوان الصهيوني الَّذي صار طغيانًا شديدًا في جميع بلاد الأرض، وأنه ينبغي على الدول جميعًا أن تضحي في سبيل ذلك بكثير من المصالح المالية، وهي قيود اليهودية التي جعلت كل الأمم ترسف في أغلالها". هذا الكلام -على طوله- مختصَر من هذا المقال الفريد الَّذي اخترق به الأستاذ شاكر حُجُبَ الغيب، وجعله حقيقة لا مراء فيها بجعله أحداثًا ماضية سلفت أتم بها شيخ المؤرخين تاريخه. ولأُذكِرنَّ القارئ مرة أخرى أن هذا المقال كتبه الأستاذ شاكر سنة 1946. فكلام الأستاذ شاكر عن موقف الرئيس ترومان وأهمية أصوات اليهود في انتخابات الرئاسة صحيح لا ريب فيه، وتسهيل أمريكا مع بريطانيا هجرة يهود أمريكا كلام لا باطل فيه. وقد تصدَّى الرئيس ترومان لمحاولة إنجلترا -بعد إعلان قرار انتهاء حماية بريطانيا على فلسطين- بوضع قيود على هجرة اليهود (ويا للسخرية). وأنا أُحيل القارئ هنا إلى كتاب فرانسيس وليمز (¬1) الَّذي أورد فيه الرسائل المتبادلة من الرئيس ترومان ورئيس وزراء بريطانيا وِنْستون تشرشل (مع أن تشرشل كان صهيونيًا حتَّى النخاع) ليرى مدى دفاع ترومان عن هجرة يهود العالم لا أمريكا فقط إلى فلسطين. وبالرغم من أن وزارة الخارجية الأمريكية آنذاك كانت دومًا تنصح الرئيس ترومان بعدم اتخاذ موقف متشدد من هذا الأمر، إلا أنَّه جعل نصح مستشاريه دَبْر أُذنه. فقد كانت أصوات اليهود في الانتخابات تستحوذ على نفسه وفكره وفؤاده. فأكد ترومان لِوَيْزمان Weizmann خلال زيارته لأمريكا أنَّه سيبذل ما في وسعه لإنشاء الدولة اليهودية والاعتراف بها، وأن ¬

_ (¬1) Francis wiliams.A Pime Minister Rrmember: The War and Post-War Memoirs of the Rt.hon.Earl Attlee(Londan: Heinemann,1961),pp.181 - 201.

"النجف"- تكون جزء من الدولة اليهودية (¬1). وفي الرابع من أكتوبر سنة 1946 أيَّد الرئيس ترومان في إعلان يوم كيبور ضَمَّ النجف إلى الدولة اليهودية (لاحظ أن الدولة اليهودية لم تكن قد تكونت بعد، وحين صدر قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947 لم يجعل هذا القرار النجف جزءًا من الدولة اليهودية) وإنشاء ثلاث عشرة مستعمرة زراعية في النجف (¬2). وفي خلال أسبوعين من هذا الإعلان ضمت القوات اليهودية "النجف" إليها وبلغ من استهانة ترومان بالعرب وتملقه ليهود أمريكا أنَّه أذاع هذا الإعلان في يوم من أيام اليهود الدينية وهو يوم كيبور، ولم يكتف بوَعْده أن تكون صحراء النجف جزءًا من الدولة اليهودية، بل تجاسر في جرأة وقحة فرسم خريطة الدولة اليهودية المرتقبة لتضم تسع مناطق من مناطق فلسطين السِّت عشرة: بيسان (70 % من سكانها عرب)، عَكّا (96 % من سكانها عرب)، طبرية (67 % من سكانها عرب)، صفد (87 % من سكانها عرب)، حيفا (53 % من سكانها عرب)، الناصرة (84 % من سكانها عرب)، يافا (29 % من سكانها عرب)، غزة (98 % من سكانها عرب)، بئر سبع (99 % من سكانها عرب). بالإضافة إلى ذلك من الممكن أن تضم الدولة اليهودية أيضًا منطقتين أخريين: طولكرم (83 % من سكانها عرب). ورام الله (78 % من سكانها عرب)، علاوة على جزء من مقاطعة هبرون (96 % من سكانها عرب). ومعنى ذلك أن لا يبقى للفلسطنيين سوى ثلاث مناطق. ومعناه أيضًا أن 75 % من مساحة الأراضى الفلسطينية يسيطر عليها اليهود في الوقت الَّذي كانوا لا يملكون سوى 7 % من الأرض. وفي 14 مايو سنة 1948 أرسل إلياهو إيثال ممثل الوكالة اليهودية في الولايات المتحدة بصفته ممثلًا "للدولة اليهودية" (لاحِظ هنا أيضًا أن الدولة اليهودية لم تُخْلَق رسميا بعد) رسالة إلى البيت الأبيض يطالبه فيها بالاعتراف بالدولة اليهودية، وما هي إلا ساعات، وبالضبط في الساعة الخامسة ¬

_ (¬1) M.W.Weisgal and L.Carmichael,eds.,Chairman Weizmann: A Biography by Several Hands (London: Weidenfeld and Nicholson,1963).pp.303 - 308. (¬2) Ibid.pp.301 - 303

والدقيقة السادسة عشرة من شهر مايو سنة 1948 أعلنت الولايات المتحدة على لسان رئيسها ترومان الاعتراف بالدولة اليهودية (¬1). ولا يغيب عن فطنة القارئ أن عام 1948 كان عام انتخابات الرئاسة الأمريكية. ثم حمل الأستاذ شاكر على العرب وأوروبا وأمريكا بأسلوبه الساخر المعهود. أما العرب فهم كما قال قُرَيْط بن أُنَيف: لكنَّ قَوْمِي وإنْ كانوا ذَوِي عددٍ ... ليسوا مِن الشرِّ في شيءٍ وإنْ هانا فقد أجمع ملوكهم وأمراؤهم ووزاؤهم أن "الفتك والغدر والاغتيال ليس من شيمة العرب ولا من دين المسلمين، وأن حوادث الاغتيال الشنيعة المنكرة التي اقترفها اليهود ينبغي أن تُقابَل بالصدق والصراحة". نعم يجب أن تُقابَل بصدق المستضعفين وصراحة الأذلاء الغافلين. فالعرب لن يغتالوا اليهود في مدنهم وقراهم ولن يفعلوا فعل اليهود في دير ياسين (*) في 10 أبريل 1948 حيث قضت عصابة الأرجون في مذبحة بشعة على كل سكان القرية البالغ عددهم 400 شخصًا لا يحملون سلاحًا (¬2). ولن يتدنى العرب ويرتكبوا ما ارتكبه اليهود في قرية كولونيا يوم 12 إبريل 1948، ففي خلال نصف ساعة فقط حسب رواية شاهد عيان هرب أكثر أهل القرية تحت نيران عصابة بالماخ Palmach فنجا منهم من نجا وقتل من لم تسعفه قوته أو سِنَّه على الفرار (¬3). ولن يهاجموا غيلة المدن ¬

_ (¬1) Walid Khalidi.From Haven to Conquest (Washington: The Institute for palestine Studies,1987),p.ixxxii. وهذا كتاب نفيس، ولا أدري إذا كان قد ترجم إلى العربية أم لا، فإذا لم يكن فَلْيترجَم. (*) المصادر عن مذبحة دير ياسين وغيرها مما ذكرته كثيرة، ولكني هنا أستشهد بما كتبه شهود العيان. (¬2) Jacaues de Reynier,A Jerusalem un drapeau Flottait sur la ligne defeu (Neuchatel: Editious de la Baconniere,1950),pp.69 - 79. (¬3) Harry Levin,Jerusalem Embattled: A Diary of the City Under Siege,Mach 25 th,1948 to July 18 th,1948 (London: Victor Gollancz Ltd,1950)pp.64 - 67.

التي ينسحب منها البريطانيون نظرا لانتهاء مدة الانتداب، كما فعل اليهود وهاجموا يافا واستولوا عليها يوم 21 إبريل 1948 (1) ونهبوا كل ما وقعت عليه أعينهم في المحال والمنازل (¬2). ثم يسخر الأستاذ شاكر من ضعف العرب وتشتتهم وعدم يقظتهم لما يراد بهم، فهل صحيح أن رؤساء الدول العربية "وحَّدوا قيادة الجيوش العربية"، وبذلك شكَّلوا خطرا محققًا تُخْشَى مَغبَّته على يهود فلسطين، جعل بريطانيا وأمريكا تسارعان وترجوان العرب وقف "الحركات الحربية" حتَّى يتدبرا الأمر وسوف يكون في ذلك مَرْضاة للعرب؟ وبالفعل بعد أيام أصدرتا تصريحًا أعلنتا فيه "إن للعرب ما أرادوا من وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. . . . وأن الدولتين الكبيرتين ستمنعان كل مساعدة ترسل من بلادهما إلى فلسطين من مال أو سلاح". فجيش التحرر العربي الَّذي أرسلته الجامعة العربية كان لا يضارع جيش الصهيونين عددًا أو عُدَّة وسلاحًا. ثم أين كان ملوك العرب وأمراؤهم عندما كان اليهود يقومون بتنطيم قواتهم المحاربة. ومن يقرأ التقرير الَّذي أعدته لجنة تقصي الحقائق الإنجليزية الأمريكية (¬3) The Anglo-American Committee of Inquiry سنة 1946 يرى مدى القوة العسكرية اليهودية، يذكر التقرير أن التنظيم العسكري المعروف بالهجاناه Hagana كان يتكون من: 1 - أربعين ألف مستوطن يهودي. 2 - جيش مدرب ذي كفاءة عالية في الحركة السريعة قوامه ستة عشر ألف جندي. 3 - قوة حرس مستديمة وهي البالماخ Palmach قوامها ألفا حارس للمحافظة ¬

_ Roland Dara Wilson,cordon and search: with 6 th airborn division in palestine (aldershot: gale and polden limited,1949),pp.191 - 199. (¬2) Jon Kimche,seven fallen pillars: the middle east 1915 - 1950(landon: secker and Warburg,1950),pp.217 - 218. (¬3) see the chapter entitled "the zionist military organization 1946 quoted from the report of the anglo-american committee of enquiry: from haven to conquest,pp.595 - 600

على السلام وستة آلاف مدربين تدريبًا عسكريًا عاليًا. ولكن هذا التقرير -كما لاحظ الأستاذ وليد الخالدى- أهمل جزء هامًا من تنظيم الهجاناه وهو شرطة المستعمرات اليهودية Jewish Settlement Polics، وقوامها 410 ,15 شرطيًا. وكانت القوات البريطانية تقوم بتدريبهم، وكلما تم تدريب مجموعة منهم ضمتها الهجاناه الى صفوفها، واستبدلت بهم آخرين، فتقوم القوات البريطانية بتدريب هذه المجموعة الجديدة دون أن تنتبه لما يحيكه تنظيم الهجاناه (¬1). ثم يسخر الأستاذ شاكر أيضًا من غفلة ملوك العرب واحتسابهم أن الدول الأوروبية وأمريكا وصحافتهما متعاطفة جميعا مع القضية العربية وأن هناك خيرًا يرجى منها جميعًا إذا دخلوا معهم في حوار ومفاوضات، خاصة أن الصحف الإنجليزية والأمريكية ثارت لأنه "قُتِل من العرب وأنصار العرب من سائر الأمم خلق كثير" وطالبت حكومتيهما "رد العدوان الصهيوني الَّذي طَغَى طغيانًا شديدًا في جميع بلاد الأرض، وأنه ينبغي أن على الدول جميعًا أن تضحى في سبيل ذلك بكثير من المصالح المالية، وهي قيود اليهودية التي جعلت كل الأمم ترسف في أغلالها". وبطبيعة الحال لم تَثُر الصحف البريطانية ولا الأمريكية بسبب اغتيال أنصار العرب، ولعل خير مثال على ذلك هو اغتيال الكونت برنادوت count folke bernadotte ممثل الأمم المتحدة. فقد كان برنادوت يرى أن خطة التقسيم فيها إجحاف للجانب العربي واقترح إدخال بعض التعديلات، فحشدت القوى الصهيونية كل قواها الإعلامية والسياسية في أوروبا وأمريكا لشَنِّ هجوم لارحمه فيه ولا هوادة. وفي زيارة له لفلسطين موفدًا من قبل الأمم المتحدة أعد الصهيونيون لسيارته وسيارة الوفد المرافق له كمينًا (17 سبتمبر 1948) وأطلقوا عليه الرصاص فأردوه قتيلًا، ويعلق صديقه الجنرال آجى لَنْدستروم الَّذي كان يرافقه في مهمته على هذا الحادث بقوله: "أنا على يقين أن الإغتيال كان متعمدًا، وخُطِّط له بعناية، فالمكان الَّذي أوقفوا فيه سيارتنا اختير بعد تدبر، ¬

_ (¬1) Ibid,p.Lxxviii.

والجنود الذين اندفعوا نحو السيارة، لم يكونوا يعرفون أي سيارة يستقلها فقط، بل كانوا أيضًا يعرفون أين كان يجلس وأي مقعد كان يحتَّل" (¬1). وبطبيعة الحال لا تستطيع دول العالم "أن تضحِّي في سبيل ذلك (أي ردَّ العُدْوان الصهيوني) بكثير من المصالح المالية". فاليهودية العالمية قد سيطرت على أكثر المؤسسات المالية في الدول التي تعيش فيها وتنتمي إليها. وكما يرى القارئ من هذا العرض الموجز -الوافي إن شاء الله- أن الأستاذ شاكر قد تنبأ سنة 1946 بما سوف يحدث خلال السنوات التي تلت هذه السنة فكأنما "كُشِف عنه الحجاب". فتنبُّه الرجل وفطنتُه، تتبُّعه اليقظ لما يرى من أحداث واستماتته في الدفاع عن أمته جعله يعلق الأسباب بالنتائج، ويرى ما هو آت لأنه أحدَّ إليه البصر منذ بدأ ناشئًا لا يكاد يُرَى، فما زاغ البصر وما كذب الفؤاد ما رأى. وحتى لا تخرج هذه الكلمة الواجبة عن القصد فسوف أكتفي ببيان هذا القدر من جهاد الأستاذ شاكر في سبيل قضية مصر وقضية مصر والسودان، وقضايا الأمة العربية خاصة فلسطين، وقضايا العالم الإسلامي، ولن يفوت القارئ بأيسر نظر في هذه المقالات الجهاد الَّذي خاضه الأستاذ شاكر في سبيل الحرية، والحضارة العربية والإسلامية، وفي هجومه على الحضارة الغربية، والدول الأوربية وأمريكا والأمم المتحدة، لا يملُّ ولا ييأس رغم التدهور الَّذي كان يزداد يومًا بعد يوم. كان عظيم الثقة بالأمة العربية وحضارتها، وأنها لا جرم منبعثة مرة أخرى لترث سائد الحضارات، وتسود العالم كما سادته من قبل. ولما كانت مصر أقوى الدول العربية وأكثرها تقدُّما، وكانت هي البلد الَّذي يعيش فيه الأستاذ شاكر، فقد أرَّقه ما آل إليه أمرها من الاضمحلال والفساد وما اعتراها من الضعف والوهن، وما ترزح تحته من أعباء الاحتلال، وترسف في القيود والأغلال التي ربضت بها إلى الأرض فما تطيق حراكًا. فصلاح مصر ¬

_ (¬1) General Aage Lundstrom,the Death of Count Folke Bernadotte.Quoted in Haven to conquest,op.cit.,pp.789 - 794

وقوتها صلاحٌ للأمة العربية وشدٌّ لأَزْرها. أيقن الأستاذ شاكر أن هذا الإصلاح في كافة مجالاته "موقوف على شيء واحد، على ظهور الرجل الَّذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلوم، يحمل في رجولته السِّراج الوهَّاج المشتعل من كل نواحيه، الرجل المصبوب في أَجْلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كلها، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحيِّ المتحرك على هذه الأرض الَّذي يسمى في اللغة: الإنسان" (¬1). كتب هذا الكلام في أعقاب ثلاث مقالات كتبها الدكتور هيكل والدكتور طه حسين والأستاذ أحمد حسن الزيات، وبلغ من ازدراء الدكتور طه لحالة الفساد التي انتشرت في مصر أن اقترح ساخرًا إنشاء "مدرسة المروءة" حتَّى يتعلم جيل ذلك الزمان غير ما نشأ عليه من سفاسِف الأخلاق، وتحطَّمت عنده مكارمُ الإنسانية النبيلة، وامتاز عظماؤه وصغاره باعتبار الأخلاق ضربًا من التجارة يُلَبِّسها الغشُّ والخِلاب والمواربة. ولكن الأستاذ محمود شاكر رأى أن التهكم في هذا الزمن المائج بصنوف العذاب والآلام والبلاء لا يجدي في الإصلاح شيئًا، وإنما الإصلاح موقوف على خروج رجل فرد من عُرْض الشعب عانى ما يعانيه الناس آنذاك. ثم كتب الأستاذ محمود المنجورى مقالًا (¬2) في العام (سنة 1940) الَّذي نُشِرت فيه المقالات السالفة الذكر تحدث فيه عن عهد الاحتلال وما صنعت سياسته في أخلاق مصر وتعليمها، وكيف حطم بجوره وعُدْوانه كل الصلات القوية التي يعتمد عليها ترابط الكيان الاجتماعي، فتمزقت الجهود المصرية في الإصلاح، واستبدت الشهوات الجارفة بأخلاق الطبقات على اختلاف مراتبها، ففشل الاجتماع المصري في إرادته، وقام على أساس فاسد من الأخلاق حتَّى صار أكثر ما يرمي إليه كل شخص غرضًا فرديًا لا سَهْمَ له في البناء الاجتماعي للأمة، ومن هنا استبدَّ مَن آنس في نفسه قوَّة، فصار كل فرد بأنانيته ¬

_ (¬1) من مقاله بعنوان "الإصلاح الاجتماعي" المنشور بمجلة الرسالة، عام 1940، انظر المقالات 1: 54 - 55. (¬2) نشر في "السياسة الأسبوعية"، العدد 155، سنة 1940.

يريد هدم عمل الأوَّل لينفرد بالأحدوثة والصِّيت. وامتدت هذه العدوى إلى الحكومات المصرية التي تعاقبت فشَرَعت ووَعَدت وسارت، ثم خَلَفتْها أختُها لتنقض كل ذلك وتبدأ من جديد بلجانها ومشروعاتها، وهكذا دواليك. ويتعجب من ذلك الأستاذ شاكر متساءلًا "فهل في الذين يصير إليهم السلطان الوازع العامل من يستطيع أن يتجرَّد لمكافحة هذه الأوبئة، ولو كان في كفاحها كفاحٌ لنفسه وشهواته وأغراضه؟ " هيهات! وهو سؤال يعرف الأستاذ شاكر سلفًا إجابته قبل أن يلفظ به، والسؤال الحقيقي عنده هو "هل تَجِدُ مصر أخيرًا طبيبها المغامر؟ ليتها تجد" (¬1). فهو لا يزال يؤمن أن الإصلاح لن يكون إلا على يد رجل مغامر طَبٍّ خبير بأدواء هذا الشعب المسكين. ولكن هذا الشعب المسكين ما هو إلا جزء من أمة كلها تعاني ما يعانيه، غير أنَّ في هذا الشرق ميراثًا نبيلًا من السمو والفُتّوة والقدرة على البقاء، ولكنه يفقد "زعيمه الَّذي يُهبّ من جماعاته كالأسد تنفرج عنه الأجمة الكثيفة عالي الرأس حديد النظرة، تتفجر القوة من أعضائه" (¬2). وظلت مصر والعالم العربي والأستاذ شاكر في انتظار خروج هذا الرجل، وطال الانتظار ولكن الأستاذ شاكر لم يخامر قلبه شك قط، بل كلما امتد الزمان وطال البلاء تحوَّل ما كان يذكره مجرد ذِكْر ورجاء إلى يقين قاطع بيِّن. ففيما يشبه النبوءة كتب في مقال بعنوان "لَمنْ أكتب" هذه الأسطر بنور البصر المُوحَى من البصيرة "لَمنْ أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولِمَ أكتب؟ ولكني أحسُّ الآن من سِرِّ قلبي أني إنما كنت أكتب، ولازلت أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو؟ أهو حيٌّ فيسمعني، أم جنين لم يُولَد بعدُ سوف يُقَدَّر له أن يقرأني؟ ولست على يقين من شيء إلا أن الَّذي أدعو إليه سوف يتحقق يومًا على يد مَن يُحْسِن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية (¬3) "فأنا ¬

_ (¬1) انظر مقال "العيد"، مجلة الرسالة، 1940. وانظر المقالات 1: 76. (¬2) انظر مقال "هذه هي الساعة"، مجلة الرسالة، 1940، وانظر المقالات 1: 204. (¬3) انظر مجلة الرسالة، 1948، وانظر المقالات 1: 556.

أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غِمار هذا الخَلْق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروي أرضا صالحة تنبت نباتًا طيبًا. . . . سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقِّها لأنه منها: يشعر بما كانت تَشْعُر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الَّذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصِم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حُب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة. إنه الرجل الَّذي خُلِطت طينتُه التي خُلِق منها بالحرية، فأبَتْ كل ذَرَّةٍ في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض. فهو يُشْرِق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس ترمي بأشعتها هنا وهنا. ولا يملك الناس إلا أن يَنْصِبُوا لها وجوهَهم وأبدانهم ليَذْهَب عنهم هذا البَرْدُ الشديد الَّذي شَلَّهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتَسْرِي نَفْسُه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغتْ قوَّته وجبروته" (¬1). ثم يختم المقال مؤكدًا أن هذا الرجل آت لا محالة، فقد بلغ السيل الزُّبَى، وتأصل الفساد واستشرى، واستشعر الناس أن شيئًا سوف يقع ما له من محيص، وأنه مُواتٍ قريب، "ألا إن هذا الشرق لينتظر صابرًا -كعادته- هذا الرجل. وإني لأحسُّ أن كل شرقي يتلفَّت لا من حَيْرة وضلال، بل توقُّعًا لشيء سوف يأتي قد أَتَى زمانه" (¬2). "فأنا إن كتبتُ، فإنما أكتب لأتعجَّل قيام هذا الرجل من غِمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صَفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل" (¬3). وبعد أربع (¬4) سنوات من كتابة هذا المقال خرج جمال عبد الناصر من غمار ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1: 556. (¬2) نفس المصدر 1: 558. (¬3) نفس المصدر 1: 559. (¬4) خلال هذه السنوات لم يكتب الأستاذ مقالات سياسية في مجلة الرسالة، وليس معنى ذلك أنَّه توقف عن كتابة المقال السياسي، فقد نشر ست مقالات سياسية في "اللواء الجديد" بين عدد 7 أغسطس 1951، وعدد 25 سبتمبر من نفس السنة.

هذا الشعب المسكين وخرج معه رجال من غمار هذا الخلق، فاستبشر الأستاذ شاكر، فقد صح ما توقَّع وتحقق ما به تنبأ. فكان من أشد المؤيدين لهؤلاء الرجال خلال الشهور الأولى من ثورة 23 يوليو 1952، وكان له دور فعال -لا يعلمه إلا قليل- في مسألة الإصلاح الزراعى، فكما ذكرت قَبْلُ أن الأستاذ رشا مهنا -الَّذي عُيِّن وصيًّا على العرش- كان من أصدقاء الأستاذ شاكر ومِن روَّاد ندوته. وقد أسرَّ للأستاذ شاكر أن جماعة الإخوان المسلمين يقفون ضد إصدار قانون الإصلاح الزراعي ويمارسون شتى أنواع الضغوط لإيقافه، ولكن الأستاذ شاكر استطاع أن يقنع الأستاذ رشا مهنا ببطلان حجج الإخوان المسلمين الذين تبنَّوا هذه الدعوى، وأبان له تاريخ محمد علي وأسرته من بعده في الاستيلاء على أراضي المصريين دون وجه حق، ودون سبب شرعي أو مبرر تاريخي. وبذلك اكتسب أنصار الإصلاح الزراعي مؤيدًا قويًا، فقد نافح عنه الأستاذ رشاد مهنا مسلَّحًا بما زوَّده به الأستاذ شاكر -وهو من هو في تاريخ السياسة المصرية- بالحجج الدامغة والبراهين التاريخية الناصعة. ولكن سرعان ما تبيَّن للأستاذ شاكر وغيره من الشعراء والمفكرين الأحرار أن النظام الملكي الفاسد الَّذي ولَّى أفسح مكانًا لآخر طاغٍ مستبدٍّ. فكتب بعد ما يَقْرُب من خمسة أشهر من قيام ثورة 1952 مقالًا -استجابة لدعوة الأستاذ أحمد حسن الزيات- في مجلة الرسالة (5 يناير 1953) بعنوان "فيم أكتب". والمقال يُشْعِر أن الأستاذ شاكر يتحدث عن العالم العربي عامة وما نزل به من بلاء المحتل قرابة قرن أو يزيد، ولكن القارئ اليقظ لن يفوته هجوم الأستاذ شاكر على النظام السياسي الجديد، وأنا ناقِلٌ منه هنا فقرات لترى مصداق ما أقول: "ومنذ ذلك اليوم والأحداث في الشرق العربي الإسلامى آخِذٌ بعضها برقاب بعض. وحركت الأحداثُ المتتابعة نَواعسَ الآمال، فهبَّت تمسح عن عيونها النوم المتقادم. ثم حملقت في أكداس الظلام المركوم. فأوهمتها اليقظة أن الظلام من حولها يُومض من بعيد ببصيص من نور، فتنادت الصيحات بانقشاع الظُّلَم: وافرحتاه! وصرختُ وأنا في محبسي: واحسرتاه، أَعْمَى رأى الظلامَ نهارا! "

ولك أن تسأل أي أحداث تلك التي حركت نواعس الآمال في الشرق العربي الإسلامي بين سنة 1948 (وفي السنة التي كتب فيها الأستاذ شاكر آخر مقال سياسي في مجلة الرسالة بعنوان "لِمَن أكتب" وبين سنة 1952 التي قامت فيها الثورة المصرية؟ أهي جلاء بريطانيا عن مصر والسودان؟ أهي تبنيِّ الأمم المتحدة لقضية مصر والسودان؟ أم هي احتلال فلسطين والهزيمة المنكرة للجيوش العربية، أم هي المجازر التي ارتكبها الصهاينة ضد عرب فلسطين العُزَّل؟ أم هي جلاء فرنسا عن الجزائر؟ أي هذه الأحداث حرك نواعس الآمال فهبت الشعوب تمسح عن عيونها النوم المتقادم؟ واقرأ المقالات الست التي أشرتُ إليها في الهامش السابق، والمنشورة في "اللواء الجديد" سنة 1951 فكلها تتحدث عن النوازل التي داهمت الشرق الإسلامي من جراء الاحتلال وفساد الساسة الذين صنعهم الاستعمار ليقودوا بلادنا. ولا يُفْلِت القارئ مغزى كلمة "وصرخت وأنا في محبسي"، فالأستاذ شاكر لا يلقى الكلام على عواهنه، فكل كلمة يكتبها هي في حاقِّ موضعها عما استقر في ضمير نفسه، فهو يعرف حق الكلام، ويلتزم مقاطعه ومطالعه وحدوده، وما يوجبه اللفظ من المعاني وما يتناوله من دقيق الاستنباط، فهي صرخة سجين "طعين أفنى الليالي انتظارًا" كما يقول في رائيته. وإذا كنتَ في شك مما أقول فاقرأ هذه الفقرة من نفس المقال: "ثم وَجَدْتُنِي فجأة في موج متلاطم من الضلالات، تتقاذفه ضلالات العلم المكذوب، وضلالات الرأي المدلس، وضلالات السياسة الخداعة، وإذا الأرض من حولي تعجُّ بترتيل مظلم مخبول، وإذا السماء تهتف بتسبيح كالح مزور، وإذا صوتي يضيع في سمعي، فهو إِذَنْ في أسماع الناس أَضْيَعُ، وتردَّد في صدري شِعر الحَكَميُّ، فاستمعتُ له وسكتُّ: مُتْ بداء الصمت خَيْرٌ ... لكَ عن داء الكلامِ إنما السَّالِمُ من أَلْـ ... ـجَمَ فاهُ بِلِجامِ والأستاذ شاكر لم يسكت أبدًا من قبلُ، فقد هاجم دون وَجَل شرذام الساسة الذين لوَّثُوا تاريخ الحياة الإسلامية والعربية، وأصحاب السلطان الذين وصفهم

بأنهم "حثالة التاريخ الإنساني"، وأعمل مِعْولًا لم يفلَّ أبدًا في صَرْح الاحتلال. فما الَّذي جدَّ الآن يجعله يؤثر "السلامة والسكوت"! ولكن أنَّى لهذه النفس التي تَأْبَى أن تَتهضَّم أن تركن للصمت، وأنَّى لهذه النفس التي حملت سلاحًا مغموسًا في المداد تدافع به عن الحرية وكرامة الإنسان أن تستكين، وهي نفس إذا أُخِذَت بالعَسْف والاقتسار انقلب الَّذي فيها ضاريًا لا يُطيق ولا يُطاق. لذا يخاطب الأستاذَ الزيات في آخر المقال بقوله "وإذنْ قد كُتِبَ عليَّ أن أنصب وجهي لهذا الشقاء الصَّيْخُود، لا أبالي أن أحترق، ولا أحفل أن أعود سالمًا ولا آبه لما يصيبني، مادام حقًا علي أداؤه. . . . فمنذ حملتُ إليك هذا القلم، استجابة لدعوة لم أجد ردَّها من الأدب ولا من الوفاء في شيء، عرفتُ أنى سوف أكتب كما كنت أكتب قديمًا، لأتعجل انبعاث رجل من غمار أربعمائة مليون من العرب والمسلمين، تسمع يومئذ لحكمته الأجِنَّة في بطون أمَّهاتها، وتهتدي بهديه الذرارِي في أصلاب الآباء والأمَّهات، ولكنك بعدُ قد أنزلتني بحيث يقول القائل: حيث طابتْ شرائعُ الموت، والمو ... تُ مِرارًا يكون عَذْبَ الحِياضِ" (¬1) خاب ظن الأستاذ شاكر في الرجل الَّذي خرج من غمار الشعب المصري المسكين، ظنَّه رجله المنتظر ولكن لأَيْا ما تبيَّن غير ذلك، فولَّى وجهه شطر الأمة الإسلامية كلها ينفضها بناظريه يترقَّب خروج هذا الرجل من غمار أربعمائة مليون من العرب والمسلمين. رأى الأستاذ شاكر بعد ثورة 1952 بلاء نازلًا يخوضه الناس كأنه رحمة مُهْداة. ورأى حيث تلفَّتَ وجوها تكذِب، ووجوهًا مَكْذُوبًا عليها. وسمع أصواتًا تَخْدَع، وآذانا مَخْدُوعة بما تَسْمَع، وقرأ كلامًا مَغْموسًا في النفاق، وشاهد بطشًا وبغيًا. فأوجس في نفسه خيفة واستشعر خطرًا مُحَوِّمًا، ومن ثم تستطيع أن تفهم لماذا قال إنه نصب وجهه لهذا الشقاء الصيخود، ¬

_ (¬1) انظر 1: 587 من المقالات.

لا يبالي أن يحترق ولا يحفل أن يعود سالمًا، ثم استشهد بهذا البيت عن شرائع الموت التي أنزله إياها الأستاذ الزيات حين دعاه أن يكتب بعد انقطاع دام خمس سنين. ولولا خشية الإطالة لأتيتك بأدلة أخرى من المقالات الثلاث التي أعقبت هذا المقال، وهي: أبصر طريقك، باطل مشرق، غرارة ملقاة، وهي آخر ما كتب في 23 فبراير 1953 وهو في محبس عزلته التي ارتضاها لنفسه منذ ذلك التاريخ. فقد عزم على أن يدع قلمه قارًّا حيث هو في سِنَة لا تنقطع حتَّى يعلوه صدأ لا ينجلى. وكان قبلُ قد نذر على قلمه أن لا يكفَّ عن القتال في سبيل العرب ما استطاع أن يحمله وما أتيح له أن يجد مكانًا يقول فيه الحق ويدعو إليه، ولكن مجلة الرسالة التي وصفها بأنها "ملاذ الأقلام الحُرَّة التي لا تَثْنيها عن الحق رهبةٌ، ولا تصدَّها عن البيان مخافةٌ" قد بات عسيرًا أن يجرى قلمه على صفحاتها، فقد أُغْلِقت مجلة الرسالة بعد آخر عدد كتب فيه مقاله "غرارة ملقاة" في 23 فبراير 1953. وإذا كان الأستاذ شاكر قد كفَّ قلمه عن الكتابة، فلم يكف لسانه عن الكلام ونقد النظام السياسي آنذاك فاعْتُقِل مرتين خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر، أولاهما استمرت تسعة أشهر من 9 فبراير سنة 1959 إلى آخر أكتوبر من نفس السنة، وثانيتهما دامت ثمانية وعشرين شهرًا من 31 أغسطس عام 1965 إلى 30 ديسمبر 1967. وكانت الذريعة التي تعلق بها النظام بشأن الاعتقال الثاني أن الأستاذ شاكر كان يرمي إلى إثارة فتنة طائفية بمقالاته التي كتبها ردًا على لويس عوض. فانظر الآن أي ضرب من الرجال هو! شاعر فذٌّ تجاهل شعره النقاد، ولم يلتفت أحد منهم إلى "القوس العذراء" إلا بعد ثلاثين سنة من نشرها. وباحث عبقري أتى بمنهج فريد في كتابه "المتنبي" لم ينتبه إليه أحد، وكاتب واسع الثقافة يقوم بكل علوم العربية لم يقدره أحد حق قدره، ومجاهد سياسي أفنى حياته يدافع عن وطنه وعروبته، وتراثه وحضارته وعربيته، فذهب قوله باطلًا وضاع صوته مختنقًا، ولم يجن من حياته إلا شقاء انتهى به إلى ظلام السجون. جعل الرَّجُل كل ذلك ظهريًا، وعاش في عزلة فرضها على نفسه غير مبال

بشيء، ذكره الناس أو نسوه، وقنع بطلاب العلم وأهله الذين كانوا يترددون عليه للنهل من علمه، وضنَّ على جيله وما تلاه من أجيال بعلمه القديم أن يبعثه من رفاته التي قبروها بتجاهلهم وجحودهم. ولم يغب عنه أن هذه العزلة قد فعلت أفعالها بالأجيال التي تعاقبت فحالت بينهم وبينه، يقول "وضعت اسمي في صندوق مغلق، لا يعرف ما فيه إلا عدد من قدماء القراء. أما الأجيال الحديثة فهي تمرُّ عليه بلا مبالاة، ثم لا تجد ما يحفزها على الكشف عما يحتويه الصندوق المغلق، والكاتب إذا وضع قلمه صدئ، وإذا حجب اسمه عن القراء، نُسِى اسمه، وانطمس رسمه، ودخل في حيز الموتى، وإن كان يعد في الأحياء" ص 1071. وإذا كانت هذه العزلة قد حجبته عن جيلنا والجيل الَّذي سبقنا، فما بال الأجيال الَّذي تلتنا؟ ألم تكن مقالاته في الرد على لويس كفيلة بنزع الغشاوة عن العيون فتبصر هذا المجاهد السياسي الَّذي شرع قلمه رمحًا حديد السنان مدافعًا عن أمته وعروبته وإسلامه غير عابئ بما يصيبه، ولا يبالي أن يعود من رحى هذه الحروب سالمًا أو مُكَلَّمًا مثخنًا بالجراح، أو مكبلًا بالقيود في غياهب السجون؟ ألم تكن مقالاته "نَمَطٌ صعب ونمط مخيف" زعيمة أن تجعل النقاد ودارسي الأدب يقتفون خطاه في تحليل القصائد العربية القديمة؟ وأين كانت مجامع اللغة العربية منذ تأسست حتَّى انتخابه عضوًا مراسلًا بمجمع اللغة العربية بدمشق 1980، وعضوًا عاملًا بمجمع اللغة العربية بمصر سنة 1982؟ فهذي أربعون سنة أو تزيد أغفلته المجامع كأنه غير جدير بعضويتها، وقل مثل ذلك في كل مؤسسات مصر الثقافية والتعليمية التي كانت ستفيد من خبرته لو أفسحت له مكانا حين كانت تعج بأشباه المثقفين وأدعياء العِلْم. وأين كانت الهيئات التي تمنح الجوائز للعلماء والأدباء ورجال الفكر كِفاءَ ما أسهموا به في تقدم أمتهم والتمكين لبقاء حضارتها؟ هل ضُرِب بينها وبين عطائه الَّذي لم ينقطع أربعين حولًا كَرِيتًا بالأَسداد حتَّى عام 1981؟

وأين كانت الجامعات ومعاهد العلم هذه السنين ذوات العدد، فلم توجه طلابها لدراسة إنتاجه البعيد الغور في أعماق الفكر والمتراحب الآفاق في أجواء الشعر والأدب والنقد واللغة حتَّى سنة 1985؟ إذا استطعت أن تكون مُقْسِطًا، وأجبت في حَيْدة دون أن تهوى في مزالق الأهواء فهمتَ لماذا آثر الأستاذ شاكر أن يعيش رهين بيته، وقد صار إحساسه المبهم القديم بانغماسه في "حياة فاسدة من كل وجه" متصاعدًا يقينًا لاشك فيه، وفهمت أيضًا قصة الكتاب التي حكيتُها في صدر هذا التقديم. وبعد، فقد خالفتُ الأستاذَ محمود شاكر مرتين، مرة في حياته في صدر شبابي بِنَشْري شعر الأحوص الأنصاري، ومرة بعد مماته بعد أن ولَّى الشباب وأَنَفْتُ على العمر بنشري مقالاته، وكنت محقًا في الأولى، وما أخطأتُ في الثانية، فلعله -طيب الله ثراه- يفيء إلى الحق في هذه كما عاد إليه في تلك. {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}. عادل سليمان جمال دبي، دولة الإمارات العربية ليلة النصف من شعبان 1423 هـ. الاثنين 21 أكتوبر 2002 م

نموذج من خط الأستاذ محمود محمد شاكر ¬

_ (*) انظر "الاستعمار البريطاني لمصر"، محاضرة بخطه لم تنشر من قبل - ص 911 من المقالات.

جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر

الرسول - صلى الله عليه وسلم -

الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأتُ في عدد الرسالة الَّذي صدر بتاريخ الاثنين 13 ربيع الأول سنة 1353 بابًا من القصص الشعري عن (إسلام حمزة) - رضي الله عنه - وقد وضع هذه القصة واضعُها (¬1) وهو يَقْصِد بها -إن شاء الله- خيرًا. إلا أن طريق الخير إلى ما قصد إليه قد التوى به التواءً يذهب بكل ما عَمِد إليه، فإنه وضع على لسان الرسول شعرًا نزهه الله عنه بقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}، ثم يلي ذلك أنَّه قد وضع على لسانه ما لم يقله - صلى الله عليه وسلم -. وليعلم صاحب هذه القصة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار" ويقول "من حَدَّث عني بحديث يرى أنَّه كَذِبٌ فهو أحد الكاذبين". فكيف بصاحبنا وهو يُنْطِقُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بما لم يقُلهُ، ثم يكون ما أنطقه به من الكلام مَصُوغًا في القالب الَّذي نزَّه الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -؟ وهذه المسألة مما يريد بعضُ الناس أن يحتال لها بمنافق الكلام ليستحِلَّ ما لا يَحِلُّ أبدًا. وهم يراودون الناس فيها عن عقولهم أولًا ثم عن إيمانهم ثانيًا، لينقادوا لهم في الرضا بها والمتابعة عليها. . . . والمسألة لو تناولت أحدًا غير صاحب الرسالة لقلنا عسى ولعلَّ. . . . ولنظرنا في المخرج الذين يتأولونه نظر المنطق، ولكنها تتناول إنسانية وحدها قد جعلها الله بمنزلة فوق منازل سائر البشر، وإن لم تخرج عن منزلة البشر في أعراض الحياة وما يكون فيها وما يأتي منها. إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثانية (العدد 52)، 1934، ص: 1095 (¬1) هو الأستاذ فريد عين شوكه، انظر العدد 51 من الرسالة، السنة الثانية، ص: 1077

فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -فيما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا. وليس يقال في قصة صاحبنا أو غيرها أَنَّ ما أُنْطِقَ به الرسول لا يتناول تشريعًا أو أدبًا أو حكمة، وإنما يتناول الكلام المُتَعَاطَى بين الناس فليس به من ثَمَّ بأسٌ. . . . ليس يقال مثل هذا لأن التشريع حين يوضع ويراد به سدُّ أبوابٍ من الشر والفتنة يأتي منعًا مصمتًا لا مَدخلَ فيه ولا ثغر حتَّى يدفع المُحَزِّيين (¬1) والمفسدين والعابثين ويضرب على أيديهم من كل ناحية. ولو كان الأمر على غير ذلك لتناول كل لصٍّ مفتاحَ الباب الَّذي يريد أن يدخل منه إلى عقول الناس ليستغرَّهم ويزلزلهم من جنة الإيمان إلى جحيم الإلحاد في الدين من الطريق الخفي الَّذي لا تُبْصِر فيه العامة ولا تَهدى به إلى أرشد أمرها في الحياة. فنحن هنا نتقدم إلى الأستاذ صاحب القصة بأن يتدبر ما شاء، فهو سيدع ما سلك إلى سبيل أهدى، فإن الأدب الَّذي له نعمل لم يقتصر ولم يضق حتَّى ندَع ما أحل الله إلى ما نهي عنه، ونترك سبيل الرشاد إلى سبيلٍ تنحدر بنا إلى هاويةٍ لا قرار لها، ولا عَاصِمَ منها. ¬

_ (¬1) المحزبون: الذين يُحزِّبُون القوم، أي يجعلونهم أحزابًا ليتعصبوا لما جمعوهم له.

الرافعي

الرافعي رحمةُ الله عليكَ! رحمةُ الله عليكَ! رحمة الله لقلبٍ حزينٍ، وكبدٍ مَصدُوعة! * * * لم أَفْقِدكَ أيها الحبيبُ ولكنِّي فقَدْتُ قَلْبي. كنتَ لي أملًا أستمسِكُ به كلما تَقَطَّعَتْ آمالي في الحياة. كنتَ راحةَ قلبِي كلما اضطربَ القلبُ في العناء. كنتَ اليَنْبُوعَ الرَّويَّ كلما ظَمِئَ القلبُ وأحرقه الصَّدَى. كنت فجرًا يتبلَّج نورُهُ في قَلْبي وتتنفس نسماته، فوَجدتُ قلبي. . . . إذ وجدتُ عَلاقتي بكَ. لم أفقدكَ أيها الحبيبُ ولكني فقدتُ قلبي. * * * جزعي عليك يمسك لساني أن يقول، ويرسل دمعي ليتكلم. والأحزانُ تجدُ الدمعَ الَّذي تذوب فيه لتهونَ وتضَّاءَل، ولكنَّ أَحزاني عليك تجد الدمع الَّذي تروَى مِنْه لتنمو وتَنْتَشر. ليس في قلبي مكان لم يرفَّ عليه حبي لك وهوَاىَ فيك، فليس في القلبِ مكان لم يحرقه حزني فيك وجَزَعي عليك. هذه دموعي تُتَرْجِم عن أحزانِ قلبي، ولكنها دموع لا تُحْسِنُ تتَكَلَّم. ¬

_ (*) الرسالة السنة الخامسة (العدد 202) 1937

عشتُ بنفسٍ مُجْدِبة قد انصرفَ عنها الخصب، ثم رحمَ الله نفسي بزهرتين تَرِفان نضْرة ورواء. كُنْتُ أجدُ في أنفاسهما ثروة الروضة الممْرعة فلا أحسُّ فقر الجدْب! أما إحداهما فقد قطفتْها حقيقةُ الحياة، وأما الأخرى فانتزعتها حقيقةُ الموت، وبقيت نفسي مجدبة تستشعِرُ ذلَّ الفقر. * * * تحت الثرى. . . . عليك رحمة الله التي وسعتْ كلَّ شيء، وفوق الثرى. . . . عليَّ أحزان قلبي التي ضاقت بكل شيء؛ تحت الثرى تتَجَدَّدُ عليكَ أفراحُ الجنَّة؛ وفوق الثرى تتقادمُ عليَّ أحزان الأرض! تحت الثرى تتراءى لرُوحِك كل حقائق الخلود وفوق الثرى تتحقَّقُ في قلبي كلُّ معاني الموت. لم أفقِدْك أيها الحبيب ولكنِّي فقدت قَلْبي * * * حضَرَ أَجلك، فحضرتني همومي وآلامي. فبين ضلوعي مأتم قد اجتمعت فيه أحزاني للبكاء؛ وفي روحي جنازة قد تَهَيَّأَت لِتَسير؛ وعواطفي تُشَيِّعُ الميت الحبيب مُطرقة صامتة؛ والجنازة كلها في دمي -في طريقها إلى القبر وفي القلب. . . . في القلب تُحْفَرُ القبورُ العزيزة التي لا تُنْسَى * * * في القلب يجد الحبيب روحَ الحياة وقد فرغ من الحياة؛ وتجد الروح أحبابها وقد نأى جُثْمَانها. في قلبي تجد الملائكة مكانًا طَهَّرَته الأحزان من رجس اللذات. وتجِدُ أجنحتها الروح الَّذي تهفهف عليه وتتحفَّى به. هنا. . . . في القلب، تتنزَّل رحمة الله على أحبابي وأحزاني، ففي القلب تعيش الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تَفْنَى، وفي القلب تُحْفَزُ القبور العزيزة التي لا تُنْسَى.

لم تُبْقِ لي بَعدَكَ أيها الحبيب إلا الشوقَ إلى لقائك. فقدتُكَ وَحْدِي إذ فقدك الناس جميعًا. سَمَا بكَ فرحك بالله، وقعدت بي أحزاني عليكَ. لقد وجدتَ الأنْسَ في جوارِ رَبِّك، فوجدتُ الوحشة في جوار الناس. لم أفقدك أيها الحبيب ولكني فقدتُ قلبي لم تُبق لي بَعدَك إلا الشوق إلى لقائك رحمة الله عليك، رحمة الله عليك!

بين الرافعي والعقاد 1

بين الرافعي والعقاد - 1 - قرأت ما كتب الأستاذ سيد قطب في العددين السالفين من الرسالة، وكنت حَرِيًّا أَلَّا أعبأ بما يكتبُ عن الرافعي في أوانٍ حولِ وفاته، وقد تهيأ أهله وأحباؤه وأصحابه تتلفَّتُ قلوبهم لذكراه الأولى بعد أن سَلَّه الموت من بينهم اغترارًا. والأستاذ سيد قطب قد أبى له حسن أدبه، وجميل رأيه، ومروءة نفسه، ونُبْل قلبه، وشرف مقصده، وإشراق نقده إلَّا أن ينبش ماضي الرافعي وما سلف من أمره، ليستخرج حلية يتحَلَّى بها إذ يكتب عن خصومةٍ بين رجلين: أما أحدهما -أنسأ الله في أجله وأمتع به- فما برح يتلطف للناس بما يستجيد من عمل يجدد به مَطَارِفَ آخرته؛ وأما الآخر -رحمةُ الله عليه- بين يدي ربه يتقرب إليه بعمل قد أبلى به أثوابَ دُنْياه. فلولا أن الميت لا يدفع عن نفسه في ساعة موته مثل الَّذي كان يدفع في أيام حياته، وأن ذكر الحي أقرب إلى الناس من ذكر الميت -لكان جديرًا بنا أن ندع الأستاذ المهذب الفاضل يتكلم بالذي يهوى على ما خيَّلَتْ له. فليس للأدب اليوم من الحرمة، ولا فيه من النبل، ولا عليه من الحياطة والحرص ما يحفز أحدًا للمراصدةِ دونَه أن يُمتَهن أو يُسْتَرْذَل. هذا. . . . وقد جعل الأستاذ الفاضل يستثير دفائن الإِحَن (¬1)، والأحقاد التي كانت بين الرافعي والعقاد، ليتخذ منها دليلَهُ الَّذي يفزعُ إليه في أحكامه! ! على الرافعيِّ. لا بل على قلب الرافعيِّ ونفسه وإيمانه بعمله وعقيدته فيه! ! ثم لم يرض بذلك حتَّى نفخ فيها من روح الحياة، ما جعلها ممَّا يكتب الأحياء عن الأحياء للإِيلام والإثارة، لا للجرح والتعديل والنقد؛ وكأن الفتنة عادت جَذَعَةً (¬2) بين الرافعي نفسه وبين العقاد. ولقد بدا لبعض الناس رأيٌ فيما كتب الأستاذ ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة (العدد 254) 1938، ص: 781 - 783 (¬1) الإحن: جمع إِحْنَة، وهي الحقد والضغينة (¬2) جذعة: يقال: أعدتُ الأمَر جَذَعًا، أي جديدًا كما بدأ، ولا يكاد يُسْتَعمل إلا في الشرِّ.

المهذب، ولكنا نفيناه إذ سُئلنا عنه، فنحن نعلم أن العقاد لا يرضى اليوم أن يكتب مثل هذا الَّذي كُتب عن الرافعي. ولقد ساء ظن امرئ بالعقاد ألا تكون للموت في نفسه حرمة، حتَّى يكون هو يعين عليه أو يرتضيه أو يسكت عنه إلا سكوت الغَضَبِ والاستهانة. فنحن إذ نكتب في ردِّ كلام هذا الأستاذ الفاضل سيد قطب لا نبغي أن نسدِّدَ له الرأي فيما يحب أن يرى، فما علينا ضَلَّ أو اهتدى، ولا أن نقيم مذهب الرافعيِّ على أصله وقد ذهب سَببُه وبقى أدبه؛ ولا أن نسوء العقاد حفيظة نتوارثها له عن الرافعي أو من ذات أنفسنا، فما من شيمتنا مثلُ ذلك؛ كلَّا، بل نكتب لنميط الأذى عن حُرَم الموت، وكفى بالموت حقًّا وجلالًا. ورحم الله الشعبيَّ فقد كان يقول: "تعايش الناس زمانًا بالدين والتقوى، ثم رُفِعَ ذلك فتعايشوا بالحياء والتذمم، ثم رفع ذلك فما يتعايش الناس اليوم إلا بالرغبة والرهبة. وأظنه سيجئ ما هو أشد من هذا". ولقد جاء وفات ما نحن فيه ظنونَ الشعبي. فما يتعايش الناس اليوم إلا بثلْبِ الموتى! والا فما الَّذي رمَى في صدر الأستاذ سيد قطب بهذه الغضبة الجائحة من أجل العقاد؟ ألم يكتب الرافعي للعقاد يوم كان يملك يكتب ويقول؟ أو لم يكتب العقاد للرافعي ما كتب؟ ثم نامت الثائرة ما بينهما زمنًا كان حده الموت. يقول الأستاذ: إنه -هو لا العقاد- "كان مستعدًّا للثورة والحنق، لو تناول بعض هؤلاء -يعني الرافعي ثم مخلوفًا- أدَبه! بمثل هذا الضيق في الفهم، والاستغلاق في الشعور. . . .". أفكان كلام سعيد العريان -وهو يؤرخ أحقادًا قد سلَّها الموت إذ سَلَّ أسبابها- هو الَّذي أثار هذا الحيّ المستعد للثورة على ذلك الميت العاجز عن دفع الثورة؟ ثم ما الَّذي يحمله على أن يُلبسَ هذه الثورة جلد النقد؟ والعجب أن يثير ما كتب "سعيد" حيًّا ليس شيئًا في الخصومة بين الرافعي والعقاد، وهو ليس يثير العقاد أحدَ طرفي الخصومة، وهو الَّذي يملك أن يقول لسعيد أخطأ أو أصاب. . . .! أشهد أن ما بالأستاذ قطب النقد، ولا به الأدب، ولا به تقدير أدب العقاد أو شعره. فما هو إلا الإنسانُ وجهٌ يكشفه النور ويشف عما به، وباطن قد انطوى على ظلمائه فما ينفذ إلى غيبه إلا عِلْمُ الله.

وأنا أقدِّمُ بين يدي كلامي حقيقة لابدَّ من تقريرها عن الرافعي والعقاد، وذلك أن الرافعي -رحمه الله- لو كان يرى العقاد ليس بشيء البتة، وأن أدبه كله ساقط ذاهب في السقوط، وأنَّ وأن. . . . مما كان يكتب ليغيظ به العقاد من جراء العداوة التي ضربت بينهما -لما حمل الرافعي عناء الكتابة في نقد العقاد وتزييف أدبه وإبطال أصل الشعر في شعره. ولو كان العقاد يرى الرافعي بعض رأيه الَّذي كتب لما تكلف الرد على الرافعي ولا التعرض له. وكم من رجل كتب عن الرافعي وعن العقاد ونال منهما وأوجع! ولأنه ليس يدخل في حسابهما، ولا يقيمان لأمثاله وزنًا، ولا يعبآن بقوله ونقده وثورته- فقد تركاه يقول فيكثر فيملُّ فيسكُت. ولم يكن بين أحد منهما وبين مثله كالذي كان بين الرافعي والعقاد. فالرافعي والعقاد أديبان قد أحكما أصول صناعتيهما، كلٌّ في ناحيته وغرضه، وأفنيا الليالي والأيام والسنين في ممارسة ما هو فيه وإليه، وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه، ولا يُظن بأحدهما أنَّه يجهل قيمة الآخر. فلما كانت العداوة بأسبابها بينهما بدأت قوَّة تعارضُ قوة، ورأيٌّ يصارع رأيًا، وكان في كليهما طبيعة من العنف والعُرام (¬1) والحدَّة، وَولِعَ العقادُ بإرسال العبارة حين يغضب على هينتها صريحة لا صنعة فيها، وأُغرى الرافعي بالسخرية والمبالغة في تصوير ما نصبه لسخره وتهكمه على طريقة من الفن؛ فمن ثمَّ ظهرت العداوة بينهما في النقد. وفي أذيالها أذى كثير وغبارٌ ملؤه القواذع والقوارص من اللفظ، وعلى جنباته صورٌ ينشئها أحدهما لصاحبه للكيد والغيظ والحفيظة، لا يراد بها إلا ذلك. ولقد شهدتُ أن الَّذي كان يكتبه الرافعي عن العقاد لم يكن عندي مما يحملني على الحط من منزلة العقاد التي كان ينزلها في نفسي، بل أستيقن أن الَّذي يكتبه إنما يراد به النيل من غيظ العقاد لا من العقاد نفسه. وعلى مثل ذلك كُنْتُ أجد ما يكتبه العقاد عن الرافعي، فلم يكن نيل العقاد من الرافعي -وأنا أحبه- مما يحملني العداوة له أو يدفع بي إلى الغيظ والحنق والثورة. وخليق بنا وبآدابنا أن نطوى الآن سيئة رجلين قد تفارط أحدهما في غيب الله. وبقى الآخر تحوطه الدعوة الصالحة بطول البقاء وامتداد الأجل وسداد العمل. ¬

_ (¬1) العُرام: الشِّدَّة والبأس.

والكلمة الأولى من كلمتي الأستاذ سيد قطب، إنما تدور رحاها ورحى (بغضائه) للرافعي -أو كما قال- عن نفي الإنسانية من ذلك الإنسان رحمة الله عليه، وخلوه من النفس، وفقدانه الطبع، وفقره إلى الأدب النفسي -وما إلى ذلك من لفظ قد ضل عنه معناه، وتهافت عليه حده- وأنه كان (رحمة الله عليه) ذكيًّا قوي الذهن، ولكنه كان مغلقًا من ناحية الطبع والأريحية، وأن أدبه كان أدب الذهن لا أدب الطبع، فيه اللمحات الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية، ولا طبيعة حية، إلى غير ذلك مما حفظه الأستاذ من شوارد اللفظ، وأوابد المعاني. . . . وأسمع جعجعةً ولا أرى طحنًا (¬1). وأنا كنت أتنظر بالأستاذ أن يأتي في كلمته الثانية بشيء من النقد يُنسى إليه ما قدم في الأولى من سوء العبارة وشُنْعَة (¬2) اللفظ في ذكر الرافعي الميت؛ ولكن خاب الفأل، وجاءت الثانية تدل مَنْ يَغْفُل عن الدلالة البينة، على أن هذا الأستاذ الجليل لا يزال يستملي ما يكتب من بغضائه. وهان شيئًا أن يكره الأستاذ الجليل رجلا كالرافعي حتى جمله الشلّ من بغضه؛ ولكن الأمر كل الأمرِ حيث ذهب يزعم فيما يكتب أن هذه البغضاء التي يستملى منها هي النقد، وأن أحكامه على الرافعي إنما هي أحكامُ قاضٍ، لزم المتهم حتى أنطقه وأشهد عليه لسانه، فاستوعب كلامه واستنبط الحجة عليه من ألفاظه، واستوثق للتهمة من قوله، ثم بنى (الحيثيات) من فحوى عباراته، ثم حكم وما حكم على المتهم إلا كلامُه، ولا شهد عليه إلا لسانُه. فلهذا كان علينا لزامًا أن ننظر في الذي أتى من كلام الرافعي. ثم قوله فيه، واستنباطه الدلائل منه، وتحليله نفس الرافعي من لفظه حتى جعله مستغلق الطبع مسلوب العقيدة، ثم هو فوق ذلك لا يزال يبدئ ويعيد في كلامه ذِكرَ أصدقاء الرافعي وأصحابه ويسخر منهم ويتحداهم، ويحملهم على مركب وعر، ويضطرهم بين خُطَّتى خَشفٍ (¬3) في أحكامه على الرافعي، ويخيرهم أن يختاروا ¬

_ (¬1) طحنا: الطحن: الطحِين، فعيل في معنى مفعول أي المَطْحُون، "أسمع جَعجعة ولا أرى طِحنا" مَثَل. (¬2) شنعة: الشنعَة، شَنُع الأمر شَناعة وشُنْعا وشُنُوعا: قَبُحَ، فهو شنيع، والاسم: الشُّنْعَة. (¬3) خُطتا خَشف: أمران فيهما الهوان والبلاء والمكروه. وجاءت هذه العبارة في شعر عبد الله ابن الزَّبير (انظر ابن سلام: 176).

للرافعيّ طرفا من طرفين يحسب أنه يُلزمهم شناعةَ شناعاته التي سمَّاها أحكامًا على الرافعي. وسنتولّج فيما لا نحب، لا كرامةً للأستاذ الجليل أو استجابة لدعائه، بل لنميط الأذى عن نَفْسٍ مطمئنة لحقت بالرفيق الأعلى راضية مرضية. ولولا أن يُقال هَجَا نميرًا ... ولم نَسْمَع لشاعرهم جوابا رغبنا عن هجاء بني كُلَيب ... وكيف يُشاتِم الناسُ الكلابا

بين الرافعي والعقاد 2

بين الرافعي والعقاد - 2 - نقل الأستاذ الأديب سيد قطب في كلمته الثانية بعض ما نقده الرافعي في قصيدة للعقاد في ديوانه بعنوان (غزل فلسفي؛ فيك من كل شيء)، وذلك حين يقول في حبيبته: فيك منّي ومن الناس ومن ... كلّ موجودٍ وموعودٍ تُؤام فقال الأستاذ قطب: فلا يرى الرافعي في هذا البيت الفريد إلا أن يقول: "قلنا فإن (من كل موجود) البق والقمل والنمل والخنفساء والوباء والطاعون والهيضة وزيت الخروع والملح الإنجليزي إلى واوات من مثلها لا تعدّ، أفيكون هذا كله في حبيب إلا على مذهب العقاد في ذوقه ولغته وفلسفته؟ ". ثم يعودُ فيقول: "إن هذا المثال هو مصداق رأيي في أن الرافعي أديب الذهن لا أديب الطبع، وأنه تنقصه "العقيدة"! التي هي وليدة الطبع أولًا؛ فأيّ "طبع" سليم يتجه إلى تفسير بيت غزليّ في معرض إعجاب شاعر بحبيبته، واستغراق في شمول شخصيتها بأن "كلّ موجود" هو البق والقمل والنمل .. إِلخ" غافلًا عما في هذا الإحساس من "حياة" "واستكناهٍ"! لجوهر الشخصية، و"خيالٍ بارع" تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذه المرأة من متنوّع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا عالمًا كاملا من كل موجودٍ وموعود. أحد أمرين: إما أن الرافعي ضيق الإحساس مغلق الطبع بحيث لا يلتفت إلى مثل هذه اللفتات الغنية بالشعور. ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة (العدد 254)، 1938، ص: 808 - 811.

وإما أنه يدرك هذا الجمال، ولكنه يتلاعبُ بالصور الذهنية وحدها، غافلًا عما أحسّه وأدركه. وهو في الحالة الأولى مسلوب "الطبع" وفي الثانية مسلوب "العقيدة! " فأيهما يختارُ له جماعة الأصدقاء". ثم أتمَّ الأستاذ علينا نعمة نقده بأن قال "إن هذا المثال يمثل تلاعب الرافعيِّ بالصور الذهنية، واستغلاق طبعه دون تملي الإِحساس الفني". وقد آثرنا أن ننقل في كلامنا كل هذا لا نبدِّله ولا نحرِّفه لنقطع بذلك مادة الشك في صحة النقل من كلام الأستاذ قطب، وليجتمع للقارئ فكرُه على رأي متصل حين ينظرُ في أعقاب كلامنا بالتعرُّف أو الإنكار. ونحن حين قرأنا قصيدة العقاد لأول مرة في مجلة المقتطف (يناير سنة 1933) زعمنا أنها قصيدة مؤلَّفة من مادة غير مادة الشعر، وأن الغزل الفلسفي الذي فيها حديث يتهالك، والفلسفة منطق يتماسك، فهي على ذلك ليست من شعر ولا فلسفة. وهذا هو بديهة الرأي لمن يقرأ هذه القصيدة ويتدبر معانيها، ويقيسها إلى غرض صاحبها فإنه سماها أول ما سمى "غزلًا فلسفيًّا" ثم أتبع هذا -وفي رأسها- مما يشبه التفسير لهذا العنوان، وما يتضمن فحوى القصيدة، ويحدد جملة معانيها، وذلك قوله: "فيك من كل شيء". ولسنا الآن بسبيل نقد القصيدة كلها، وبيان ما أشرنا إليه قبل في أثنائها وتضاعيفها، وإنما نجتزئ بالقول في البيت الذي نقده الرافعي، ثم عقب على نقده الأستاذ سيد قطب بما شاء له "طبعه" المفتوح غير المغلق، و"عقيدته" الكاملة غير المسلوبة و"خياله البارع" غير المتخلف. وهذا البيت بعينه: فيك مني ومن الناس ومن ... كلّ موجودٍ وموعودٍ تُؤام إنما هو تكرار لقوله في صدر القصيدة: "فيك من كل شيء" حين أراد الشاعر أن يزيده بيانًا ووضوحًا، ويجلوه جلاء المرآة ليصف شخص صاحبته، أو كما قال الأستاذ القطب (لاستكناه جوهر شخصيتها! ).

وقد ذهب الرافعي في نقد هذا البيت مذهب العربي حين يسمع الكلام العربيَّ لا ينحرف بألفاظه إلى غير معانيها حتى يتسع في معاني الألفاظ بغير دلالة ظاهرة أو مُسوِّغ مُضْمر ولا يقبض من معانيها إلا بمثل ذلك مما يجيز انقباض بعض اللفظ عن سائره. وقد قال العقاد لصاحبته في الغزل: "فيك من كلِّ شيءٍ" و"وفيك من كل موجود". والعرب والفلاسفة جميعًا يزعمون أن لفظ (كلّ) إذا دخَل على النكرة أوجب عموم أفرادها على سبيل الشمول دون التكرار. فكذلك أوجب الشاعر على صاحبته أن يشمل (جوهر شخصيتها) جزءًا من كلِّ ما يمكن أن يسمى (شيئًا)، ومن كل ما يسوغ أن يسمى (موجودًا وموعودًا). وهذا الإطلاق من (فيلسوف يتغزَّل) يقتضي شمول الأفراد من (كلِّ شيء)، ومن (كلِّ موجود). وليس يشك أحد -ممن لم يسلبهم الله "الطبع" و "العقيدة" ولم يحرمهم "الخيال البارع" -في أن ما ذكره الرافعي في كلامه- من البق إلى الملح الإنجليزي- شيء من الأشياء وموجود من الموجودات. والفيلسوف حين يتغزل لن يريد هذا بغير شك، ولكن أين تذهب بمعنى اللفظ (كلّ) في العربية؟ وفي حدود الألفاظ التي تدور على ألسنة الفلاسفة؟ وأي دلالة توجب قبض معنى الشمول من هذا اللفظ؟ أو أيُّ مُسَوِّغ يجيز الحد من الإحاطة التي يقتضيها هذا الحرف في مجرى قول الشاعر "فيك من كل شيء" وفيك "من كل موجود"؟ ! هذا بعض القول في فساد ألفاظ هذا البيت، وبطلان معنى الفلسفة فيه. ولا يفوتني في هذا الموضع أن أدل على موضع الضعف في فهم الأستاذ قطب لكلام الرافعي. فالرافعي يقول: "قلنا، فإن من -كل موجود- البق. . . . إلخ"، والأستاذ الأديب البارع يقول وكأنه يشرح معنى الرافعي: "فأي طبع سليم يتجه إلى تفسير بيت غزلي. . . . بأن "كل موجود" هو البق والقمل. . . . إلخ"؟ غافلا عما في هذا الإحساس من "حياة" و"خيال بارع"، تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذه المرأة من متنوع الصفات وشتى المزايا عالمًا كاملًا من كل موجود وموعود". والرافعي -رحمه الله- لم يقُل إن (كل موجود) هو البق. . . إلخ، وإنما

قال إن من (كل موجود)، أي من أفراد الموجودات ما يسمى بقّا. . . . إلخ، فالحرف (من) في كلام الرافعي ليس هو الحرف (من) الذي في شعر العقاد حتى يجوز ما ذهب إليه الأستاذ قطب بما ساء من تعليقه. وقد أطلت القول في تقرير نقد توحى بصحته سلامة الفطرة، وحسن الذوق، وصفاء القريحة، ويوجبه اصطلاح المنطق، وحَدُّ الكلام، وإتقان الفلسفة، ويقتضيه ما ذهب الشاعر يسرده مما هو "في صاحبته" معددًا مبينًا مفصلًا حتى انتهى إلى إجمال المعاني في هذا البيت. فقد قال لها: فيك من الشمس والبدر، ومن الربيع والشتاء، ومن غناء الطير ونوح الحمام، ومن انسياب الماء، ومن طبائع الوحش، ومن حركة الأسماك، وفيك من جوارح الطير، ومن النعام، ومن نار الحياتَيْن، ومن الموت الزؤام، ومن نقص الدنيا، وكمال الآخرة، ومن الملائكة، ومن الشياطين، ومن الخمر، ومن القوت، ومن الماء، ومن الجوع، ومن الأرض، ومن السماء، ومن عمل الأيام والدهور، ومن الهندسة ومن الفن. . . . ثمَّ. " فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام"! ! أفلا يدل هذا على أن الشاعر الفيلسوف كَلَّ (¬1) التفصيل فرَمى بالجملة في (كل شيء) من (موجود وموعود) بعد الذي تعب في بيانه وتفصيله وذكره وتعداده؟ ؟ وأي شيء بقى له لم يعدده من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا والعالم الكامل! إلا هناتٌ هينات كذا وكذا. . . . وما ذكر الرافعي. هذا. . . وقد اقتصر الأستاذ على نقل بعض كلام الرافعي في نقد هذا البيت ونحن نتمه للقراء بعد ذلك: "إن ذلك المعنى الذي بَنى عليه هذا المسكين غزلَهُ الفلسفي قد مرّ في ذهن أعرابيّ لم يتعلّم ولم يدرس الفلسفة، ولا قرأ الشر الإنجليزي والفرنسي والألماني والفارسي، وليس له إلا ذوقه وسليقته وطبيعته الشعرية، فصفى المعنى تصفية جاءت كأنما تقطر من الفجر على ورق الزهر بقوله: زهر الآداب ج 2 ص 261 ¬

_ (¬1) كَلَّ: تَعِب

فلو كنتِ ماءً كنتِ مَاءَ غَمَامَةٍ ... ولو كُنْتِ درًّا كُنْتِ مِنْ دُرّة بِكرِ ولو كنتِ لهوًا كنتِ تعليل ساعةٍ ... ولو كنت نومًا كنتِ إغفاءَة الفَجْرِ ولو كنت ليلًا كنت قمراء جُنِّبَتْ ... نُحُوسَ ليالي الشَّهْرِ، أو ليلةَ القدرِ (ولو كُنْتِ كُنْتِ) هذا أبدع عنوان لأجمل قصيدة في فلسفة الغزل. وانظر كيف جعل الأعرابي حبيبته أصفى شيء، وأغلى شيء، وأسعد شيء، وكيف صورها شعرًا للشِّعر نفسه. ثم قابِلْ هذا الذوق المصفى بذوق من يجعل حبيبته من كل شيء، ومن كل موجود وموعود تؤامًا وزؤامًا وبلاء عامًا" انتهى كلام الرافعي. فإن شئت أن تعرف كيف يتناول الشعراء هذا المعنى المغسول من الشعر "فيك من كل شيء" فانظر حيث يقول جرير، وهو فيما نعلم أول من افتتحه: ما استوصف الناس (من شيء) يروقُهم ... إلا أرى أُمَّ عمرو فوْقَ ما وَصَفوا كأنها مُزْنَة غزاء واضحة ... أو دُرَّة لا يُوارِي ضَوْءَها الصَّدَفُ (¬1) وقد أحسَنَ جرير تحديد المعنى وتجريده من اللغو (من شيء يروقهم) وجعل في صاحبته من ألوان الجمال ما تهفو إليه نفوس الناس على اختلاف أذواقهم وتباين أنظارهم. وكأن أبا نواس نظر إلى هذا المعنى حين قال: لكِ وجهٌ مَحَاسنُ الخَلْقِ فيه ... ماثلات تدعو إليه القُلوبا على أن جريرًا قد ناقض وأحال وأفسد ما استصلح من شعره حين رجع فقال في البيت الذي يليه: "كأنها مزنة. . . أو درة" فإن هذا الحرف (كأن) للتشبيه، والتشبيه يدعى قصور المشبه عن المشبَّه به، وهو قد ادعى أنه يرى صاحبته فوق ما يصف الناس (من شيء) يروقهم أو يروعهم أو يفتنهم. ثم جاء مسلم بن الوليد بعقب جرير يقول: ¬

_ (¬1) المزنة: السحابة البيضاء، ورواية الديوان: غرَّاء رائحة.

مِثَالُها زهرةُ الدنيا مصورَّةً ... في أحسن الناس إدبارًا وإقبالا أَسْتَوْدِعُ العينَ منها كما برزت ... وجها من الحسن لا تُلقى له بالا فالعين ليست ترى شيئًا تُسَرُّ به ... حتى تُريني لما استودعتُ تمثالا ففارق مسلم جريرًا حيث جعل صاحبته (زهرة الدنيا مصورة) أي محاسنها وتهاويل جمالها، وأنه يجد عندها تمثالًا لكل حسن تسر به العين. ثم جاء أبو نواس فألبس الشعر والمعنى من توليده وحسن مأخذه ولطف عبارته فقال: لها من الظرف والحسن ... زائدٌ يتجدَّدْ فكل حُسْن بديع ... من حُسنها يتولَّدْ ثم جاء أبو تمام فَقَصَّر، ولم يحسن اختيار اللفظ، وأضعف روح الشعر فيه فقال: انْظُرْ فما عايَنْتَ في غيره ... من حَسَن فَهْوَ له كُلُّهُ وتناوله البحتري، فزاد فيه معنى، ولم يجوِّد نسجه فقال: وأهيف مأخوذ من النفس شكله ... ترى العينُ ما تحتاجُ أجمعُ فيه فالزيادة في قوله "مأخوذ من النفس شكله" وهي جميلة لولا شناعة قوله (مأخوذ)، ولو عدل فيها إلى مثل نهجه في صفة الخمر: أُفرغتْ في الزجاج من كل قلب ... فهي محبوبة إلى كلِّ نفس لأجاد وبزَّ من سبقه. وقد فطن ابن الرومي إلى معنى البحتري فاتخذه لنفسه وسبَق حين قال: وفيكِ أحسنُ ما تسمو النفوسُ له ... فأين يرغَبُ عنكِ السَّمْعُ والبَصَرُ وقد قصر ابن الرومي في الشطر الأول عن المعنى الذي أراده البحتري، ولكنه جاوز البحتري ورمى به خلفه في مقابلة قوله (ترى العين ما تحتاجُ أجمعُ فيه) بما قال (فأين يرغبُ عنك السمعُ والبصرُ). ثم أدار ابن الرومي هذا المعنى ونفَّلَهُ (¬1) من سواه حين قال: ¬

_ (¬1) نفّله: اكتسبه من غيره.

لا شيءَ إلا وفيه أحسنهُ ... فالعينُ منه إليه تنتقلُ فوائد العين منهُ طارفةٌ ... كأنما أُخرياتهُ الأُوَلُ ولقد كنت أتعجب لبيت العقاد كيف نزل مع كل هذا الشعر، وكيف خفى عنه موضع التقييد من مثل قول جرير "من شيء يروقهم"، وقول مسلم "زهرة الدنيا" و"شيئًا تُسرُّ به" وما إلى ذلك، ووجهتُه مع سائر القصيدة فلم يزل مختلًّا ناقصًا معوجًّا لا يستوي. وزادني عجبًا قوله في نهاية الشعر (تُؤام)، ولم أجد للفظ معنى ولا رأيت له وجها يتوجهُه مع مقاصد الغزل الفلسفي حتى وقعت لي أبيات ابن الرومي فإذا قوله (تؤام) ترجمة للفظ آخر هي لفظ (معًا) في قول ابن الرومي ينحو إلى هذه المعاني بعينها: فالعين لا تنفكُّ من نَظَرٍ ... والقلب لا ينفكُّ من وَطَرِ ومحاسن الأشياء فيكِ (معًا) ... فَملَا لتِيك مَلالَتي بَصرِي مُتعاتُ وجهك في بديهتها ... جُدُد وفي أعقابِها الأخَرِ فكأنّ وجهكِ من تجدُّدِه ... مُتنقل للعين في صُوَرِ وقول ابن الرومي (ومحاسن الأشياء فيك معًا) هو عمل الشعر في معنى غسيل قدَّم به العقاد لقصيدة غزل فلسفيّ وهو قوله: "فيك من كل شيء" ورحم الله الصولي الذي يقول: أعرفُ مِنها شَبهًا ... في كل شيء حسَنِ فقد أتى بالمعنى عاميًّا لطيفا مَجْفُوًّا غير صنيع، وهو على ذلك أرق من فيك مني ومن الناس. . . . فهذا مذهب الشعر من لدن جرير إلى يومنا هذا ولم نستقصه في غرض واحد من أغراضه، وذاك مذهب العربية في معاني ألفاظها، وسبيل الفلاسفة في تحديد معانيها، وفي ثلاثتها قصَّر بيت العقاد وفسد واستحال معناه وتهالك منطقه. فمن أين يمكن وصف الرافعي -إذا نقد هذا البيت- بأحد أمري الأستاذ قطب: إما أن يكون ضيق الإحساس مغلق الطبع بحيث لا يلتفت هذه اللفتات الغنية

بالشعور. . . . (وأين وأنى وكيف نجدها يا أستاذ الأستاذين؟ ) وإما أنه يدرك هذا الجمال ولكنه يتلاعب بالصور الذهنية وحدها، غافلا عما أحسه وأدركه. . . . وما ندري كيف كان يحسه الرافعي -رحمه الله-؟ أكان يحسه ويدركه بقوة الجوع والعطش في البيت الذي يليه: كيف بي أُعزلُ إن أغنيتني ... أنت، حتى عن شرابي والطعام! وأخيرًا، فقد خير الأستاذ قطب أصدقاء الرافعي بين أن يحكموا عليه بإحدى كلمتيه أن يكون رحمة الله عليه مسلوب "الطبع" أو مسلوب "العقيدة". وقد تبين بعد الذي قلنا أن نقد الرافعي نقد "محكم" في سياق العربية، وفي جوهر الشعر ونزيد فنقول إن قارئ القصيدة (غزل فلسفي) حين يقرؤها إلى أن ينتهي إلى هذا البيت: "فيك مني ومن الناس. . . ." لا يجد فيها من "الحياة" ولا من "الخيال" ولا من "غنى الشعور" ولا من "الإحساس الفني" -إلى آخر ما يتنبل له الأستاذ قطب- ما يجعل نقد هذا البيت بعينه دليلا على ضيق الإحساس واستغلاق الشعور، والغفلة عن الجمال، وفساد الإنسانية في قلب ناقده. وعلى هذا فقد سقط الدليل الأول من أدلة أحكامه على الرافعي وبان في ذلك ما امتاز به الرافعي من الدقة وصدق الإحساس في إدراك معاني الشعر وما فيه من غضارة ورُوقة وجمال.

بين الرافعي والعقاد 3

بين الرافعي والعقاد - 3 - ثم ماذا؟ ثم يقول الأستاذ سيد قطب في ثالث أدلته على أحكامه: "يقول العقاد في طرافة ودُعابة عن حِسان شاطئ استانلي! ! ألقى لَهُن بقوسه ... قُزحٌ وأدبر وانصرفْ فلبسنَ من أسلابه ... شتى المطارف والطُّرفْ فلا يجد الرافعي في هذه الطرافة إلا أن يتلاعب بالألفاظ فيقول: فقزح لا يلقى قوسه أبدًا إذ لا ينفصل منه. قال في اللسان: "لا يفصل قُزَح من قوس". فإذا امتنع فكيف يقال: "أدبر وانصرف". أما قزح العقاد، فلعله الخواجة قزح المالطي مراقب المجلس البلدي على شاطئ استانلي الذي قيلت فيه القصيدة. ثم يقول إن هذا المثال "فيه تلاعب وروغان، وهو في هذه المرة (التلاعب) أخسُّ من السابقة، ففي الأولى كان تلاعبًا بصور ذهنية، وهو هنا تلاعبٌ بألفاظ لغوية! ". أوَّلا، فمن ذا الذي يغفُل عن طرافة هذا "الخيال" الذي يتصور "قُزحًا" ملقيًا بقوسه لهؤلاء الحسان، وهن يتناهبن هذه الأسلاب، بينما هو مدبر منصرفٌ، مغلوب على أمره، لا يستطيع النصفة ممن غلبَ جمالهنَّ جماله! ألا تستحق مثل هذه الطرافة، ومثل تلك الحيوية! من الناقد إلا أن يذهب إلى القاموس أو اللسان، ينظر هنالك، هل يفصل قوس عن قزح أو لا يفصَل؟ ثم يكمل الكلام بتهكم بارد لا يرد على الفطرة المستقيمة في معرض هذا الجمال! ! ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة (العدد 255)، 1938، ص: 851 - 854

أهذا هو النقد الذي هو "أقرب إلى المثال الصحيح"؟ وما قلته في المثال الثاني يقال بنصه هنا، فلترجع إليه جماعة الأصدقاء. ثم يعود فيقول عن هذا المثال أنه يمثل "تلاعبه بالألفاظ اللغوية، والوقوف بها دون ما تُشِعُّه في الخيال من صور طريفة" انتهى كلام الأستاذ الجليل. * * * ومن أعجب العَجَب أن يُعدَّ اعتراض الرافعي ونقده هذا البيت تلاعبًا بالألفاظ اللغوية، ولا يكون هذا الشعر نفسه قد بُنى على التلاعب في غير طائل، وعلى تكلف اللفظ لترميم قافية البيت. وأول ما نقول في هذا أننا نخالف بعض رواة العربية ثم الرافعي في أن يلزم أحد هذا الحرفين صاحبَه على كل حالة وفي كل ضرب من ضروب القول. وبيان ذلك أن لأصحاب العربية في هذا الحرف (قُزَح) ثلاثة أوجه من الرأي: الأول: أن (قُزَح) اسم شيطان، أو اسم ملك موكل به. والثاني: أن (القُزَح) هي الطرائق والألوان التي في القوس، والواحدة قُزْحة. والثالث: أن يكون من قولهم: قزح الشيء، وقحزَ إذا ارتفع. قلت: وكأنهم أرادوا أن يجعلوه معدولا به عن (قازح)، وهو المرتفع ففي الوجه الأول لا يضير أن ينفصل الحرفان، إذ كان (قوس) اسم جنس، و (قزح) اسم علم بعينه، وأضيف أحدهما إلى الآخر إضافة نسبة. فهو بمنزلة قولك (كتاب محمد). ومن هنا جاز أن يبدلوا تسمية العرب الأوائل فقالوا له: "قوس الغمام" و"قوس السحاب". ويقول ابن عباس - رضي الله عنه -: "لا تقولوا قوس قُزَح، فإن قزح من أسماء الشياطين. وقولوا (قوس الله) -عز وجل-. وعلى هذا يجوز قول القائل: "ألقى قُزح قوسه" بإضافة القوس إلى ضميره، على أن الشيطان، أو المَلَكَ الموكل بالقوس قد ألقى (قوسه). وأما الوجه الثاني والثالث فلا يجوز الفصل معهما البتة على إرادة (الاسم) الذي تعرفُ به هذه الطرائق المتقوّسة التي تبدو في السماء. فإن الحرفين على

حالتهما ينزلان منزلة الكلمة الواحدة إذ ذاك. وللقول في هذا مجال ليس هنا مكانه ولا أوانه. ونحن نرى أن العقاد قد ذهب -وإن لم يرد ذلك- إلى الوجه الأول، وأن شعره يحمل على رأي جائز في العربية. هذا، وقد ذهب الرافعيُّ نقد بيت العقاد إلى رأي أصحاب اللغة في امتناع الفصل بينهما، وأن الحرفين كالكلمة الواحدة على تتابعهما. وعلى ذلك لا يقال "ألقى (قُزح) قوسه" وأولى إذن ألا يقال إن (قُزَح) أدبر وانصرف، لأنه ليس بذاته يدُلّ على معنى، أو يقع اسمًا لشيء بعينه، فهو إذن لا يجوز عليه الإسنادُ إسناد الخبر أو الفعل كالإلقاء والإدبار والانصراف. فأين التلاعبُ في هذا الرأي باللفظ اللغويّ؟ ولو قد كان وقع في بعض كلام الرافعي فصل أحدهما عن الآخر لأمكن أن يقال إنه يتلاعب باللفظ، ولكن ذلك لم يكن. .! وأما الأستاذ العقاد فقد نقد رواية قمبيز في سنة 1932، وجعل من ملاحظاته أن هذه الرواية "لم تخلُ من مخالفة للنحو والصرف في القواعد المنصوص عليها"، وأتى في هذا الموضع من نقده بما خطأ فيه شوقي، وليس بخطأ. يقول شوقي على لسان أحد المجان (ص 32). أَلقَدَحَا أَلْقَدَحا ... الخمر تنفي التَّرَحا قصرًا أرى أم فَلَكا ... وشجرًا أم قُزحَا ثم علق (شوقي) في الوجه (32) نفسه فقال: "قالوا: إن قزح لا يفصل من قوس، ولكن الناظم لم ير بأسًا في فصله لسهولته وكفاية دلالته" انتهي. ونحن نجيز هذا في العربية ولا ننكره. قال ذلك شوقي في التعليق، ثم جاء الأستاذ العقاد في كتابه (رواية قمبيز في الميزان) يقول ص 15 ". . . . ويقول (قُزَح) ولا تذكر قُزَح إلا مع قوس". وَبينٌ أن كلام الأستاذ العقاد ليس عربي العبارة، فإن أصحاب العربية منعوا (فصل) قُزَح من قوس، ولم يمنعوا (ذكر) قزح إلا مع قوس. والفرق بين اللفظين كبير. وبينٌ أيضًا أن هذا ليس نقدًا فإنه لم يأت بأكثر من تكرار ما ذكره شوقي في تعليقه،

وكان الوجه أن يبين فساد رأي (الناظم) إذ لم ير بأسًا في الفصل للعلة التي ذكرها. ومع ذلك. . . . فقد كان نقد العقاد في يونية سنة 1932، ولم تمض ستة أشهر أي في يناير سنة 1933 حتى فصل العقاد نفسه بين (قزح) وقوس في شعره هذا! ! فلعل هذا أن يكون بالتلاعب بالألفاظ اللغوية أشبه، وبتصريف النقد على الهوى أمثل. وأما بيتا العقاد: ألقى لهنَّ بقوسه ... قزحٌ وأدبر وانصرف فلبسن من أسلابه ... شتى المطارف والطرف فقد بنيا على ألفاظ يدفع بعضها بعضا عن معنى يولده -من لفظ (القوس) التي هي من آلات القتال. وكان سبيل التوليد هكذا: القوس من آلات القتال، واستعيرت للطرائق في السماء مضافة إلى (قُزَح)، فيكون ماذا لو أنشأ من لفظ هذا القوس صورة للقتال بين (قُزَح) وبين جميلات شاطئ استانلي؟ ويكون ماذا لو زعم أن الجميلات انتصرن على (قُزَح) صاحب القوس، فألقى سلاحه ثم أدبر وانصرف؟ ويكون ماذا لو جعل ألوان (قوس قزح) أسلابًا كأسلاب المحاربين في القتال ظفر بها الجميلاتُ بعد انهزام (قزح)؟ ويكون ماذا لو زعم أنهنَّ اتخذن هذه الألوان مطارف وطرفا يلبسنها ويتحلين بها؟ وهكذا وهو توليد كما ترى، وتوليد من لفظ واحد. ونحن لا نرى بأسًا -وإن كنا لا نرتضيه- أن يأتي الشاعر بالمعاني مولدة من ألفاظ اللغة، فإن من بعض اللفظ في العربية لما يُضرم الفكر ويُؤرث المعاني ويستفزُّ الخيالَ إلى أعلى مراتبهِ. على أن هذا لا يتحقق إلا أن تستقيم الطريقة للفكرة، ويتراحب المجال للمعاني، ويسمو المدى بالخيال، على أن تصحَّ المقابلةُ بين معاني اللفظ وسائر الصور التي تتولد منه. والمقابلة في هذا الشعر فاسدة باطلة. فهي مقابلة بين (قزح) وبين الجميلات على شاطئ استانلي، ثم بين الطرائق المقوسة ذات الألوان في السماء (القوس) وبين ما ترتديه الجميلات من مطارفهن. وكان حق المقابلة أن يكون (قزح) هذا

مشتهرًا بالجمال موصوفًا به، حتى إذا ما ذكر في معرض الكلام عن الحسان الجميلات تمت المقابلة بينه وبينهن. فإن لم يكن ذلك كذلك، فلا أقل من أن يكون في الشعر ما يدل على سبب (حالة الحرب) التي أنشبها الشاعر بين حسان شاطئ استانلي، وبين العم (قزح)، ثم ما كان من علة لإلقاء سلاحه ثم انهزامه وإدباره. فأما إذ لم يكن (قزح) جميلًا، ولم يأت الشاعر بسياق جيد لهذا التوليد، فقد بطلت الأفعال التي أسندها إلى (قزح) من إلقاء قوس وإدبار وانصراف، وما أضافه إليه من الأسلاب، وصار كله لغوًا لا فن فيه. وهذا الضرب خاصة من ضروب الشعر الذي يتضمن التصوير والوصف لا يأتي جيده إلا على دقة الملاحظة، وتقدير النِّسب بين الألفاظ والمعاني والصور. فلو اقتصر الشاعر فجعل (قزح) يهدى إلى الحسان تحاسين قوسه، فاتخذن منها (شتى المطارف والطرف) لكان أجود وأقرب الى الإتقان. أما إعلان الحرب بينهما فليس جيدًا ولا براعة فيه كما رأيت. وقد أجاد ابن الرومي -ويقال إنها لسيف الدولة- إذ يقول: وقد نشرت أيدي الجنوب (مطارفًا) ... على الجو دُكنًا، والحواشي على الأرض يطرّزُها (قوس السحاب) بأصفر ... على أحمر في أخضر وَسط مُبيض كأذيال خوب أقبَلَت في غلائل ... مُصَبغة والبعض أقصر من بعض وهو قريب جيد في الوصف ونحن لا نذهب مع الأستاذ قطب فيما يتخير من اللفظ لوصف هذا الشعر وما فيه، بذكر (الطرافة) و (الدعابة) و (الخيال) و (الحيوية) و (معرض الجمال)، وما إلى ذلك من ألفاظ لو أقيم ضدها مكانها لقام، إذ كان لا يبين أسبابها ولا يوجه معانيها ولا يأتي كلامه في مثل ذلك إلا على طريقة صاحب كتاب

(الوشى المرقوم في حل المنظوم) إذ يقول: "أولا فَمَنْذا الذي يَغْفُل عن طرافة هذا "الخيال" الذي يتصور "قزحًا" ملقيًا بقوسه لهؤلاء الحسان. . . . إلخ". وقد وضح الآن أن ليس في كلام الرافعي تلاعب بالألفاظ اللغوية، وأنه ليس في هذه الألفاظ ما يجعلها "تشع في الخيال صورًا طريفة"، وذلك لما ذكرنا من تخالف ألفاظها وتدافعها وبُعد صورها عن جودة التوليد، إذ كانت هذه الصور مولَّدة من اللفظ على غير نسق متصل أو طراز جميل. ثم .. أتى الأستاذ قطب بالمثال الرابع فقال: "ويسمع العقاد صيحات الاستنكار لِلَهْوِ الشواطئ، وما تعرض من جمال، فيصيح صيحة الفنان الحي المعجب بالحيوية والجمال: عيد الشباب، ولا كلا ... م، ولا ملام، ولا خَرف فإذا الرافعي يقول: "إن غاية الغايات في إحسان الظن بأدب العقاد أن تقول إن في هذا البيت غلطة مطبعية، وأن صوابه: عيد الشباب، فلا كلا ... م، ولا ملام، (بلا قرف)! ثم يقول بعدُ إن هذا المثال يغنيه الرافعي عن الحديث فيه "فهو لم يزد على أن أورد البيت، ثم استغلق دون استيعاب ما يعبر عنه من روح الفنان الحي، الموكل بالجمال حيثما وجد، وكيفما كان، الهازئ بخرف التقاليد، وقيود العُرْف، ولم يجد ما يقوله إلا "بلا قرف" وهو قول لا تعليق لنا عليه". ثم يعود فيقول: إن هذا يمثل هروب الرافعي "من مواجهة النقد الصحيح إلى المراوغة وكسب الموقف -في رأيه- بنكتة أو تهكم أو شتيمة". وأنا لا أعجب لكلام الأستاذ سيد قطب، لأنه على طريقته في حل المنظوم، وإن أعجب فعجبي لصاحب "وحي الأربعين" كيف ارتضى أن يثبت البيت في قصيدته، وفي عقب هذه القطعة بالذات، وينتقل من الوصف والتأمل وإمتاع النظر، وإمداد الفكر بأسباب من الجمال، أو كما يقول الأستاذ قطب من الطرافة والدعابة والخيال والحيوية! إلى صيحة الاستنكار والتفزع بقوله: "فلا ملام

ولا كلام" (¬1) ثم الغضب الذي لا يتورع في قوله: "ولا خرف". إن هذا الانتقال ليس من منطق الفن ولا من نهجه وسبيله. وما أظن الرافعي أراد أن ينقد البيت -لأنه ليس بسبيل مما يحسن أن يُنقد، وإنما وضعه هكذا للعقاد وهو يريد ما قلناه في كلمتنا الأولى مما جرَّته العداوة التي اضطرمت بينهما. * * * وبعد فقد قرأت كلمة الأستاذ الجليل المهذب سيد قطب في البريد الأدبي من العدد السالف من الرسالة، وقد أعلن فيها بعض رأيه فيما نكتب، وحكم بحكمه على ما قلناه، وحاول أن يتهكم، ووعظ وذكر. ونحن ندعه لما به عسى أن يرى يومًا غير هذا الرأي، وله الشكر أحسن أو أساء. ¬

_ (¬1) هكذا كتب شيخنا محمود شاكر، أما سياق الكلمات في البيت فهو "فلا كلام ولا ملام".

بين الرافعي والعقاد 4

بين الرافعي والعقاد - 4 - وبعد، فقد فرغنا في الكلمات السالفة من الحديث فيما هو "بين الرافعيّ والعقاد"، ممّا جاء في كلام الأستاذ الفاضل سيد قطب. ثم رأينا الأستاذ يبدأ ضربًا من القول هو إلى رأيه في كلام الرافعي وحده، ليس يدخله ذكر العقاد إلا قليلا. وقد كان بدء حديثنا محددًا بالرافعي والعقاد معًا. فنحن نرى أن عملنا قد انتهى إلى نهايته في هذا الغرض من القول، ولذلك، ليس يضيرنا الآن أن نسكت إلى حين يفرغ الأستاذ سيد قطب مَمَّا يسر الله له القول فيه مما يسميه نقدًا. وأول ما يجب علينا أن نقوله للأستاذ الفاضل بعد الذي كتبناه أنه يسئ بنا الظن بلا دليل ولغير عِلة. يتزعم أن في حديثنا (غمزًا ولمزًا وتعريضًا به) وكذا وكذا، ونحن نكرم أنفسنا وقلوبنا وضمائرنا وألسنتنا عن هذا الضرب من القول، ولو أردناه لمضينا على عادتنا من التصريح دون التلويح، ولقلنا له من القول ما هو حق لا كذب فيه .. حق يدافع عن حقيقته بالبيان والحجة والوضوح، والأدب الذي يعفُّ عن دنيات المعاريض وسفاسف الأخلاق. وليعلم الأستاذ قطب أني إذا أحببت لا أغلُو، ولا أتجاوز حد الحب الذي يصل القلب بالقلب، ويمد الروح بالروح، ويجعل النفس في فرح متصل بسببه، أو حزن آت بعلته، فهذا أخلق الحب أن يخلو من سوء العصبية، وفساد الهوى، وقبح الغرض. فلا يجدني أرفعُ الرافعي عن الخطأ، ولا أجله عن الضعف، ولا أنزهه عما هو في عمل كل إنسان حي ناطق يأمل ويتشهي. مما يسمى بأسمائه حين يعرض ذكره. وفي كل أحد ممن خلق الله على صورة (الإنسان) ضروبه من الشمائل والسجايا والأخلاق والآداب، ليس يطلع طلعها إلا الله -جل ¬

_ (*) الرسالة، السُّنّة السادسة (العدد 256)، 1938، ص: 902 - 903

جلاله-، ورب رجل صافٍ كنور الفجر يخبأ من ورائه مظلمة من سواد الليل. ولقد عرفنا الرافعي زمنًا -طال أو قصر- فأحببناه ومنحناه من أنفسنا ومنحنا من ذات نفسه، ورضيناه أبًا وأخًا وصديقًا وأستاذًا ومؤدبًا، فلم نجده إلا عند حسن الظن به في كل أبوته وإخائه وصداقته وأستاذيته وتأديبه. ولقد مات الرافعي الكاتب الأديب وهو على عهدنا به إنسانًا نحبه ولا ننزهه، ثم جاء الأستاذ سيد قطب بحسن أدبه يقول في الرجل غير ما عهدناه. . . . يؤوّل كلامه ويأخذ منه ويدع ويتفلسف ويحلل ويزعم القدرة على التولج في طويات القلوب وغيب النفوس فيكشف أسرارها ويميط اللثام عما استودعن من خبيئاتها، ثم هو في ذلك لا يتورع ولا يحتاط، ولا يَرعى زمام الموت (¬1)، ولا يوجب حق الحي. لقد كتب الأستاذ ما كتب، فقرأ كلامه من قرأ، أَفَيجدُ في هؤلاء من يقول له أصبتَ؟ ومن يقول له أحسنت؟ ومن يزعم أن ليس له مندوحة عما اتخذ من اللفظ في ذكر الرافعي وصفته والحديث عنه وعن أدبه وشعره؟ أما يجدر بالأستاذ الفاضل أن يعود إلى بيته هادئ النفس مخلى من حوافز الحياة الدنيا، فيقرأ ما كتب مرة أو مرتين. ثم يرى هذا الذي ترك الدنيا بالأمس وحيدًا، وخَلَّف من ورائه صغارًا وكبارًا من أبنائه وحفدته وأصحابه واللائذين به، ثم يراهم يقرأون ما يكتب عن أبيهم وجدهم وصاحبهم بالأمس، ثم يراهم والدمع يأخذهم بين الذكرى المؤلمة والألم البالغ! ولو فعل، لعرف كيف أخطأ ومن أين أساء، ولوجده لزامًا عليه أن يقدر عاطفة الحي، إن لم يعظِّم حرمة الموت، وهذا أمر لا نطيل القول فيه ولا نكثر من لوم الأستاذ عليه، فإن مرجعه إلى طبيعته وما تضمره نفسه، وإلى تقديره لعواطف الناس. ومهما يكن من شيء، فسندع الأستاذ سيد قطب يقول ما يقول، ويذكر من رأيه في الرافعي ما يذكر، ويصف أدب الرجل وذهنه وقلبه ونفسه بما يوحى إليه، ¬

_ (¬1) زمام الموت: كذا الأصل، والصواب: ذمام (بالذال) وذِمام الموت: حُرمَته.

لا نعقب على شيء منها حتى يفرغ، وحتى يستوفي مادته، ويضع بين أيدينا كل حججه في فن الرافعي. فيوم ينتهي نبدأ نحن القول في الذي قال. . . . لا نرد بذلك عليه قوله، أو نسدد له رأيه، فما لنا بذلك حاجة ولا لنا فيه مأرب، ولكنا نريد إذ ذاك أن نضع رأيه بمنزلة الرأي يقول به فئة من الناس، أو شبهة تحيك في صدر جماعة من الأدباء، فعلينا أن نبين مواضع الخطأ إذا أخطأ، ومكان الصواب إنْ أصاب، وذلك غاية ما نستطيع. أما ما يوعدنا به الأستاذ الفاضل، وما يسخر به ويتهكم، وما يضمر لنا من (بقايا) كلماته! ! فليقل فيه ما شاء كما يشاء، وسنرده على قدره وفي حد طاقتنا وآدابنا، ولو اجتمع للأستاذ كل سلطان يستطيع به أن يسئ، فأساء إلينا بمثل الذي أساء به إلى الرافعي رحمة الله عليه، فنحن لا نزال -مع كل ذلك- نحترمه. . . . إذ ليس في طاقتنا أن نفعل شيئا إلا أن نحترمه كل الاحترام.

بين الرافعي والعقاد 5

بين الرافعي والعقاد - 5 - " تحرقك النار أن تراها، بله أن تصلاها" منذ تسعمائة سنة قال الخفاجي حين ذكر البلاغة: "لم أر أقل من العارفين بهذه الصناعة، والمطبوعين على (فهمها) و (نقدها) مع كثرة من (يدعي) ذلك، ويتحلى به، وينتسب إلى أهله، ويماري أصحابه في المجالس، ويجاري أربابه في المحافل. وقد كنت (أظن) أن هذا شيء مقصور على (زماننا) اليوم، ومعروف في (بلادنا) هذه، حتى وجدت هذا (الداء) قد أعيا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وأبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قبله وأشكالهما حتى ذكراه في كتبهما، فعلمت أن (العادة به جارية)، و (الرزية فيه قديمة). ولما ذكرته رجوت الانتفاع به من هذا الكتاب، أملت وقوع الفائدة به، إذ كان (النقص) فيما أبنته شاملًا، و (الجهل) به عامًّا، والعارفون به قُرحة الأدهم (¬1) بالإضافة إلى غيرهم، والنسبة إلى سواهم". * * * ومع ذلك. . . فالأستاذ سيد قطب أحد (الأخصائيين! ! ) في اللغة التي نعبر بها. عاد الأستاذ الفاضل سيد قطب بحديثه عن الرافعي، ثم عقب عليه بالحديث عني وعما كتبت في الكلمات السالفة. وكنت عزمت أن أدعه حتى يشفى ذات صدره من الرافعيّ ومني؛ وكنت أجمعت الرأي على أمر، ثم هأنذا أتحلل من عزيمتي. . . ومرة أخرى أقول كما قلت في الكلمة الأولى: إني سأتولج فيما لا أحب. . لا كرامة للأستاذ أو استجابة لدعائه بل لميط الأذى. . . . بل لميط الأذى حسبُ. ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة (العدد 257)، 1938، ص: 933 - 935 (¬1) القُرْحَة: بياض يسير في وجه الفَرَس، وهي دون الغُرَّة. والأدهم: الأسود. وقرحة الأدهم تضرب مثلا للشيء العزيز.

ولقد علم من لم يكن يعلم أني كتبت ما سلف هادئًا لا أهاجم، إلا أن أترفق وأستأنى وأتصبر على كلام ينفد معه صبر الحليم. . . . وأنا وإن كنت لا أبالي بشيء مما يصف الأستاذ الكامل به كلامي فأنا لازلت أحفظ للقراء عهدهم قِبَلَ الكتَّاب، فلا أدع القارئ عُرضَة لرجل يفهم القول الرفيع بالفهم الوضيع، ولا لرجل يسيء القول في الناس ويأبى عليهم أن يقولوا له أسأت فأجمِل. ولا لرجل يرى الظل ممدودًا له -زمن القيظ- فيتجنبه إلى وقدة الشمس. . . فهكذا أبى الأستاذ أن يأوى إلى مأوى يقيه، وتجرد يختال علينا، ويقتال (¬1) إلى نفسه جريرة شر. وما ظني برجل يصف الرافعي بألفاظ ملفقة، وهي على ذلك بينة الدلالة على قبح الغرض، سافرة عن شُنْعَة الإساءة، قليلة التذمم في حق الأحياء بَلْهَ الأموات ممن لم تجف عن قبورهم بعدُ دموع أزواجهم وأطفالهم وذراريهم ومن يَمُتون إليهم بالحب والمودة والإخاء؟ وما ظني وظنك وإنسان قد حُمِّل القلم ليستملى، فيتنزل عليه القول من بغضاء مربدة باغية لا تتقي سوء المقال ولا مأثور الكلام؟ وما ظني وظنك بفهم يتعالى على سلاليم من القوارص والقواذع، لا تجد لها في الذي تعرف سببًا قديمًا أو علة محدثة تسوِّغ الأذى أو تحمل عليه؟ ما ظني وظنك بهذا الرجل الذي نترفق به ونستر (نفسه ودافعها في الحياة) بالإشارة اللطيفة، فيأبى إلا أن يترجم القول إلى غير معناه. . . . إذ يسمى ما كتبت له (شتائم). . . . شتائم .. ! أنف في السماء. . . . أأنا يدور في نفسي أن أكتب للأستاذ الفاضل ما يسمى (شتائم)؟ لأنا يا سيدي الأستاذ قطب أحسن ظنًّا بك من هذا. ولقد قلتُ ما قلتُ من أن الناس كانوا يتعايشون بالدين والتقوى ثم رُفِع ذلك -كما قال الشعبيّ- فتعايشوا بالتذمم والحياء؛ ثم رفع ذلك، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، ثم رفع ذلك، وجاء زمان يتعايش الناس فيه (بثلب الموتى). . . . وهو زماننا هذا. ولو قد كنت (أخصائيًّا! ) في اللغة التي يعبر بها لما زعمت أنى (رحت أتهمك بمجانبة الدين والتقوى، والحياء والتذمم) فأنا لم أقصد إلى ¬

_ (¬1) اقتال قولا: اجترَّه إلى نَفْسه مِن خير أو شرّ.

ذلك، فهو أمر قد فرغ من الحكم فيه صاحبنا الشعبيّ. وما كان قصدي إلا أن الذي كتبت أنت عن الرافعي الذي مات وسكت، والعقاد الذي بقى يتكلم، بل عنهما معًا في قران واحد، هو ثَلب للموتى وزُلفى للأحياء. وحق لي أن أقول ذلك فقد جمعتَ بين الرجلين، فوضعتَ الميت موضعًا لا يتنزل إليه حيٌّ في الضعة، ورفعت الحي مكانًا لا يسمو إليه أحد في الرفعة، وضربت الكلام من هنا ومن هنا حتى استبان الغرض .. أيريد (الأخصائي! ) الفاضل أن نبين له موضع الإشارة في كلامنا هذا. . . .؟ إذن فليسمع. حين قرأت الكلمة الأولى من حديثه في الرسالة، لم أشك ساعة أنه يختدع القارئ عن نفسه يبتغي أن يُفهمه أنه يريد النقد، والنقد حسب، ولا شيء غير النقد! وألح في ذلك إلحاح الظنين (¬1) في الإكثار مما ينفي الظِّنُّة عنه، غافلا عن أن تكلف نفي التهمة بالإلحاح يثير الشك ويوقظ الريبة في نفس من أراد الله له الخير. . . . ثم يشرع الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها) يأتي بالشواهد من كلام الرافعي في نقد (وحي الأربعين للعقاد) ليثبت صدق ما ذهب إليه من الآراء في الرافعي. كان يشك في "إنسانية" الرافعي، ويزعم أنه خواء من النفس. ثم قرأ ما كتب الأستاذ سعيد العريان فعدّل حكمه قليلا! ولم يعد يستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه، ولكن بقى الأساس سليما. . . . فما هو؟ كان ينكر على الرافعي "الإنسانية" فأصبح ينكر عليه "الطبع". وكان لا يجد عنده "الأدب الفني" فأصبح لا يجد عنده "الأدب النفسي". وكان الرافعي ذكيًّا قوي الذهن، ولكنه مغلق من ناحية الطبع والأريحية. والرافعي أديب الذهن الوضاء، والذكاء اللماع! والرافعي مغلق القلب متفتح العقل وحده للفتات والومضات. وهذا في المقالة الأولى، ثم نزل درجة بالرافعي في الكلمة التانية، ثم لم يكد يرمي الثالثة حتى زعم أنه حين عاد بعد ذلك فقرأ رسائل الأحزان أحس أنه (خُدع! ) في ¬

_ (¬1) الظنين: المتهم.

قياس ذكاء الرافعي! ومعرفة طبيعته ودرجته! ولكنه يحس الغضاضة في هذا التراجع فيعزّيه "الصدق"! الذي يعبر عنه حين ينصت لإحساسه ويصور حقيقة رأيه. . . . وتأويل ذلك عنده في مقاله الثالث أنه أخطأ في عدم! تحديد (الذهن). . . . فمن الذهن ما هو سليم أو مريض، وما هو مشرق أو خابٍ، وما هو متفتح أو مغلق، (أو كما قال). . . لقد قال في الكلمة الأولى ما رأيت، ثم قال في الثالثة ما رأيت من تراجعه، ولقد كان هذا التراجع في الثالثة مطويًّا تحت الكلمات في الأولى وفهمناه وأدركناه، وكان آخر الرأيين هو الغرض الذي يسعى إليه. وإلا فما أظن أحدًا يستطيع أن يعقل أن (ناقدًا) قد فرض على نفسه النقد -أي التتبع والاستيعاب وصدق النظر- يصف رجلا "بالذهن الوضاء" "والذكاء اللماع" والقوة في الذهن، والتفتح في العقل، ثم لا تمضي عشرة أيام. . . . فيقرأ أحد كتب هذا الرجل، فيعود يقول في صفته إن ذهنه مريض غير سليم، "خاب غير مشرق"، "مغلق غير متفتح". أيريد الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها) بيانًا هو أوضح من هذا على سوء غرضِه .. ؟ الناقد رجل عَدل مُنصِف لا يزال يتتبع شوارد اللفظ، وأوابد المعاني يستنبئها أخبار أصحابها ويستنبط من قلوبها أسرار كتابها، ويكشف عنها خبيئة قائليها .. ، ثم يحكم مميزًا مقدرا لا يجورُ فيتجاوز الغاية، ولا يحيف فيقعُ دون المدى. وقد حكم هذا (الأخصائيُّ! ! ) في كلمته الأولى حكمه الأول حين (استطاع أن يكون ناقدًا، لا يكتفي بالتذوق والاستحسان أو الاستهجان، ولكن يعلل ما يحس ويحلّله)! ! كما قال في بدء كلامه. أو ليس يقتضي هذا -على الأقل- أن يكون قرأ كل ما طُبع من كتب الرافعي دون ما تفرق من كلامه في الجرائد والمجلات على كثرتها .. ؟ بلى. أو ليس يقتضي هذا -على الأقل أيضًا (أن يكون حين حُكمه قد استردَّ شتات ما بقى في نفسه من آثار كلام الرافعي فيها؟ قالوا بلى. أو ليس يقتضي حق النقد والحكم -على الأقل أيضًا- ألا يصفَ الرافعي بالذكاء اللماع، والذهن الوضاء. . . . وهذا الكلام المفخم -إلا أن يكون ذلك من آثار ما قرأ له من شيء. . . .؟ قالوا بلى.

إذن فكيف -في عشرة أيام يا سيدي- يستطيع كتاب واحد للرافعي هو "رسائل الأحزان" أن يقلب -هذا (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها)، وهذا الذي (استطاع! ! أن يكون ناقدا) -رأسا على عقب، فلا يكتفي بسلب النعوت المفخمة (كالوضاءِ واللماع والمتفتِّح) فيترك الذهن هكذا مجردا، بل يضع مكانها أضدادها فيجعله ذهنا (مريضًا خابيًا غير لمّاع ولا وضاء، مغلقًا غير متفتح". هآه. . . . إني لأشك كل الشك في براءة الأستاذ مما غاظه من كلمتي الأولى مما سماه (شتائم). ولقد شهدت مرة أخرى "أن ما بالأستاذ قطب النقد، ولا به الأدب، ولا به تقدير أدب العقاد وشعره، فما هو إلا الإنسان وجه يكشفه النور ويشف عما به، وباطن قد انطوى على ظلمائه فما ينفذ إلى غيبه إلا علم الله". ولا زلت أقول له: "إنه لو عاد إلى داره مخلى من حوافز الحياة الدنيا" فقرأ ما كتب قراءة الناقد لوجد الاختلاط في لفظه بينًا، والغرض من ورائها متكشفًا. ولو شئنا أن نقول لقلنا فلم نكذب: إن كلامه لمشترك بين ضربين من العقل أحدهما ظاهره نعرفه ولا ننكره لأنه مما عهدناه زمانًا، والآخر ظاهر أيضًا. . . نعرفه وننكره، لأنه مما استحدث الرافعي رحمة الله عليه. وأما الأديب الكبير! الّذي لقى الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها) فضرب لنا الأمثال "بالجماعة الذين يجلسون في المأتم ويرجمون الناس بالحجارة. فإذا رجمهم الناس صاحوا وولولوا، وملأوا الدنيا تسخطًا ونعيًا على الأخلاق، لأن الناس لا يقدرون حرمة المأتم، وهم الذين استهانوا بهذه الحرمة حينما رجموا المارة". فإن شاء أن يختفي في ألفاظ الأستاذ (الأخصائي! ) فهو عتيق جُبنه، وإن شاء أن يظهر من ورائه فسيرى كيف عرفناه من لفظه ومن أمثاله. وأيما كان. . . . فالمثل فاسد من وجوهه كلها. . . . فإن الأستاذ سعيد حين كتب لم يرجم أحدًا، وإنما كتب تاريخًا، وحين قال إن رد العقاد على الرافعي سباب وشتائم، فهو لم يكن إلا كذلك، ولا يمكن أن يقال فيه إلا ذلك. . . . إذ ليس فيه شيء مما يسوغ أن يعد ردًّا أو نقدًا. . . . حتى ولا على طريقة الأستاذ (الأخصائي! ) في حل المنظوم ووصفه بالدعابة والطرافة والحيوية. . . وما إلى ذلك من اللفظ الذي لا يتخذه ناقد إلا بعد الإبانة عن محجته وسبيله. أو كما قال

الأستاذ (الأخصائي! ) في كلمته الأولى "في الناقد الذي لا يكتفي بالتذوق والاستحسان والاستهجان، ولكن يعلل! ما يحس ويحلله". ومع ذلك فهل يرى أحد أن (حل المنظوم) في ألفاظ ملفقة مذيلة، ثم نعته بالطرافة والحيوية. . . . إلخ، هو التعليل والتحليل الذي يتخذه النقاد أسلوبًا لهم؟ . ومع ذلك أيضًا. . . . فلو فرض أن "سعيدًا" رجم المارة، والمارة ههنا هم الأستاذ العقاد وحده، فلم تطفل الأستاذ (الأخصائي) فقاذف الأستاذ العريان؟ ولِمَ لَم يدع ذلك للمرجوم نفسه. . .؟ ثم وراء ذلك كله. . . . تطفل (الأستاذ الأخصائي! ) للقذف والرجم، فلِمَ لَم يخص سعيدًا وحده دون أصدقاء الرافعي وأصحابه يتحداهم ويتناولهم بالأذى غير متذمم. . . . كأن أصدقاء الرافعي وأصحابه هم الذين كتبوا لسعيد ما كتب! ! * * * وبعد فهذه كلمة كتبناها لنقرر حقيقة واحدة هي أن الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها)، كان في أول حديثه عني -حين انتهى من حديث الرافعي- يضطرب ويؤخذ ويتناوح كأنه قصبة مرضوضة معلقة على عود هش قد يبس. . . أريد أن أقول بلفظ آخر إنه كان يضطرب لأن حججه التي يتعلق بها حجج فاسدة، وإن أصل كلامه عن الرافعي خائر يتصدع، وإن فكره في الذي كتب لم يستقر على شيء صحيح لا يختلف عليه. وسيرى فيما يستقبل (¬1) من كلامنا أنه قد عجز كل العجز عن الإتيان بشئ يمكن أن يسمى نقدًا. وسيرى أيضًا أن النقد الذي نأخذ أنفسنا به لا يجور على العقاد، ولا يميل بنا إلى الرافعي. ويكفيه مما مضى في كلامنا وكلامه أن يعلم أنه نزه العقاد ورفعه أرفع درجة، وأننا لم ننزه الرافعي ولم نقل فيه بعض ما يقول هو في الشاعر الكبير صاحبه. ¬

_ (¬1) لم يكتب الأستاذ شاكر بعد ذلك شيئا في أمر العقاد والرافعي، ولم يواصل رده على سيد قطب.

من صاحب العصور إلى صاحب الرسالة

من صاحب العصور إلى صاحب الرسالة أخي الأستاذ الزيات: السلام عليك ورحمة الله، وبعد فإني أحمد الله إليك وأستعينه وأسأله لك التوفيق والسَّداد. أبيتَ أيها الرجل إلّا كرمًا من جميع نواحيك، فما كدتَ تستقبل العام السابع من عمر "الرسالة" حتى عدت عليّ بفضل من ثنائك وحسن ظنك، فذكرت "العصور" ثم أثنيت فأغنيت. لقد وافتني كلمتك، وأنا بعدُ أنفض عن يديّ غبار "العصور" وأتخفف من أثقالها التي حملتها راضيا غير كاره، لأنقلب إلى هذه الغرف العزيزة التي نشأت في حجور الشيوخ من سكانها أستخبرهم علم ما أجهل، وأستنبئهم أخبار ما مضى، لأستوحِيَ الظن فيما يستقبل، وأجدّد بعاديِّ (¬1) قوتهم قوة النفس التي لا تهدأ ولا تنام. لابد من كلمة -أيها الشيخ الجليل- وقد كان الصمت أولى بي وأحبّ إليّ. لابدّ من كلمة أعتذر بها للذين استقبلوني بفرحة المحبّ أمتع باللقاء على غير ميعاد. فأنت تعلم أني يوم عزمت على إصدار "العصور" لم أكن قد أعددت لها من مال إلا ما ادخرته في نفسي من جهد أعوام طالت في معاناة العلم والأدب، وبقية من خلق ضننت بها أن تذيع في أطرافها ونواحيها مهزعات العصر الحديث التي صرّفت الأخلاق في وجوه الغي والضلال، وأطلقت دنيَّات الغرائز من عقال الشرائع، وأرسلتها ترعى حمى أبى الله ورسوله أن يكون مرعى لمن آمن بالله واليوم الآخر. ولكن لابد من مال مَشكوك معترف به، مصدّق على الاعتراف به من "محافظ البنك الأهلي"، وإن قليل ما عندي من هذا المال لا يغني غناءه في ¬

_ (*) الرسالة، السنة السابعة (العدد 287)، 1939، ص: 67 (¬1) العادي: نسبة إلى قوم عاد، والعرب تنسب إليهم كل ما هو قوِي وعظيم وقديم.

عمل أوّلُه استهلاكٌ بغير نتاج وأنت أخبر بهذا الأمر. فلم يبق إلا الصديق الذي يعين على نوائب الحق. . . . فبدأنا إصدار "العصور" يَعُولها الجِدُّ من قِبَلي، والعون من قبل الأصدقاء الكُتاب من أصحاب مذهبنا، والمَدَد من "جيب" الصديق الذي أبدى بشاشته، واستظهرها بعاجل البر، وسِرنا على اسم الله. فما كان إلا كلا ولا (¬1) حتى قلت كما قال الأول: سعتْ نُوَب الأيام بيني وبينهُ ... فأقلعن مِنَّا عن ظلوم وصارخ فإني وإعدادي لدهري "محمدًا" ... كملتمس إطفاء نار بنافخ وأبيتُ أن أخفض عن نفسي أو أرُدّ غُلَواءَها، فرددتُ المالَ إلى صاحبه غير منقوص ولا مُهْتَضَم. وقلتُ إنّ أمرًا قضاهُ الله لابُدّ له من تمامٍ وأجل، وما شاءَ الله كان وما لم يشأ لم يكنْ. وخيرُ الأمر أن ألجأ إلى الله ثم أستعين بما عندي على قضاءِ الحق الذي يقتضيه ما أقررت به على نفسي، وما أقررتها عليه في كلمة العدد الأول من "العصور". فلم أبخل ولم أتراجع، وأقدمتُ على إصدار العدد الثاني مستبشرًا مؤملًا راجيًا معتمدًا على ثقتي بالله، ثم ثقتي بحسنِ التقدير الذي لقيته. فلم يلبث أن لقَى العدد الثاني من "العصور" حفاوة الناس في كثير من بلاد العربية، ولكن هذه الحفاوة المستبينة في بيع مجلة -تكاليفها أكثر من دخلها بهذا البيع- لا يمكن أن تكونَ هي الرُّقية التي تجذب إليَّ رقاب المال من كهوف "البنك" فأحويها وأروضها وأتصرَّف فيها تصرُّف الناس فيما هُم به "ناس"! ! وقلت: عسى أن يقضي الله لأمرٍ ضاق بالفرج، وتوجهت بقلبي إلى الله، وبوجهي إلى من أتوسم فيه سمة "الخزانة" المُعَدَّة لاحتِجان المال (¬2). ولكني وجدت القفل بعد القفل على الخزانة، وافتقدت المفتاح الذي يتسنى له كل مُغْلَق. إن هذا المفتاح ليس عندي، ولستُ أملكه، وما أحسبنى أرتضى -بعد أن جربت- أن أملكه أو أَحوزه. إنه لا يملكه إلا من قدّم رهينةً، والخُلُق ¬

_ (¬1) كلا ولا: أي لحظة قصيرة خاطفة، أي بقدر الوقت الذي تستغرقه في نطق هذين الحرفين. (¬2) احتجان المال: إصلاحه وجمعه وضم ما انتشر منه.

لا يُعترف به في باب الرهائن، ولست أملكُ غيره، فلا رهينةَ، أي لا قَرضَ ولا معونة. وإنه لا يملك المفتاح بعدُ إلا اللص الذي يلين له ما أُعْضِل من قُفْل غَلِق وأنا بحمد الله لم أُخْلَق على طبيعة السارق بل سُويت على هيأة المسروق، كلّ من شاء أن يأكلني أكلني؛ قد رضيتُ أن أحوطَ جوهري بالعَرَضِ المُضيَّع. ومع ذلك فقد أعددت العدد الثالث للطَّبْع، وتصرَّفتُ في وجوه التدبير، ثم وُفّقت إلى من أرضى عنه ويرضى عني. . . . ولكن أبى خُلُق الدُّنيا معي أن يتم جميل تستودعنيه، أو معروف تربّبه عندي. فرجعت عَودي على بدئي راضيًا عن الله شاكرًا لله واثقا بالله، أستعينه وأستحفظه، وأشكره ولا أكفره. لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير مُتَّهم وأنا لا أزال أقول: يَصنَعُ الله، يصنَعُ الله، إن لله تدبيرًا يصرّفنا به كيف شاء إلى مواقع علمه ومنازل حكمته. وأنا مذ كنت، كنت مطية القدر حيثما وجهني استقبلتُ المضيقَ والطريقَ بنَفس مسلمةٍ وجهها لله، بأن الزّمامَ في يد الله. فإن تسأليني، كيف أنتَ! فإنني ... صَبورٌ على رَيْب الزمانِ صَليبُ يعزُّ علي أن تُرى بي كآبة ... فيشمتَ عادٍ أَو يُسَاءَ حَبيبُ وعلى ذلك فأنا مُنتظِرٌ، و"العصور" إلى جانبي تنتظِر! وشكر الله لك، وجزاك خَيرًا من صديق. * * * (الرسالة) تألم الرسالة أشد الألم أن يُثبط هذا القلمَ البارع وهذا الفكر الرشيد مثبطات المادة، وتدعو الله مخلصة أن يلهم أهل المال معونة أهل العلم حتى لا تتخلف "العصور" عن صفها في الجهاد إلا ريثما تواتيها العدة. وعسى أن يضن القواء بهذه الثروة الأجية على الضياع فيعينوها على الصدور بإسلاف (¬1) الاشتراك. ¬

_ (¬1) الإسلاف: الإقراض الذي لا منفعة فيه للمُقْرِض غير الأجر والشكر.

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة ذات النطاقين

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة ذات النطاقين (قال عمر بن أبي ربيعة بعَقِب حديثه): . . . . فوالله لقد جَهدَنا البلاء -يا أهل مكة- ولقد صبرنا على حصار الحجّاج سبعة أشهر أو تزيد عن غير حصن ولا منعة، وإنّ أحدَنا ليُرى وقد لحقت بَطنُه بظهره من الجوع والطَّوَى، ولولا بركة تلك العين (يعني زمزم) لقضينا، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنها مباركة، إنها طعامُ طُعمٍ" لقد أشبعنا ماؤها كأشد ما نشبع من الطعام، وما ندري ما يُفْعَلُ بنا مُنذُ اليوم. فلقد خَذَل "ابنَ الزُّبَير" أصحابُه خذلانًا شديدًا، وما من ساعة تمضي حتى يخرج من أهل مكة من يخرج إلى الحجاج في طلب الأمان. ألا شاهتْ وجوه قوم زعموا أنْ سينصرونه، يحمون "البيت" أن يُلحَد فيه، ثم ينكشفون عنه انكشافة كما تَتفرق هذه الحمامُ عن مَجْثمها على الرَّوْع. . . . وخرجتُ، ومكة كأنها تحتَ السَّحَر خليَّة نحل مما يدوِّي في أرجائها مِنْ صوت داعٍ ومكبر وقارئ، وصَمَدت (¬1) أريد المسجد فأسمع أَذان "سعد" مؤذِّنِ ابن الزبير فأصلي ركعتي الفجر، فيتقدم ابن الزبير فيصلي بنا أتمَّ صلاة، ثم يستأذن الناس ممن بقى من أصحابه أن يُوَدّع أمه "أسماء بنت أبي بكر الصديق" فأنطلق وراءه وما أكادُ أراهُ مما احتشدَ الناس في المسجد، وقد ماجوا وماجَ بهم يتذامرون ويحضَّضُون ويُحرّضون، وزاحمت الناس المناكب أرجو ألا يَفوتني مَشهد أسماء تستقبل ولَدها وتودِّعه ولقد تَعلمُ أنه مقتول لا مَحَالة، فما أكاد أدركهُ إلا وقد انصرف من دارها يريد المسجد، وإذا امرأة ضَخْمة عجوز عمياء ¬

_ (*) الرسالة، السنة السابعة (العدد: 297)، 1939، ص: 539 - 541 (¬1) صَمَدَ المكانَ وإليه: قَصَدَه

طُوالة كأنْ سرحةٌ (¬1) في ثيابها، قد أمسكت بعُضادتي الباب تصرف وجهها إليه حيثما انتقل، فوالله لكأنها تثبتُه وتُبصرُه، وقد برقَت أسرَّةُ وجهها تحت الليل برق العارِض (¬2) المتهلل، ثم تنادى بأرفع صوت وأحنِّه وألينه، قد اجتمعت فيه قوة إيمانها وحنينُ قلبِها: "يا عبد الله! يا بُني، إني أُمك التي حملتك، وإني احتسبتك فلا تَهِن ولا تجزع. يا بني ابذُل مُهجة نفسك، ولا تَبعد إلا من النار. . . يا عبد الله! لا تبعد إلا من النار، أستودعك الله يا بُني! " ثم تدور لتلج الدار فكأنها شِرَاعٌ قد طُوِى. رحمة الله عليكم يا آل أبي بكر، لأنتم أصلبُ الناس أعوادا وألينهم قلوبًا. وأحسن الله عزاءك يا ذاتَ النطاقين، فلقد تجملتِ بالصبر حتى لقد أُنسيت أنك أمٌّ يجزع قلبها أن يَهلكَ عليها ولدُها فيتقطع عليه حَشاها. وانصرفتُ عنها بهمِّي أَسعَى، فوالله ما رأيت كاليوم أَكْسَبَ لعجب وأجَدّ لحُزنٍ من أُم ثكلى يحيا ظاهرُها كأنه سراجٌ يَزهرُ، ويموتُ باطنها كأنه ذُبَالةٌ توشكُ أن تنطفئ، وذهبتُ ألتمسُ الوُجوه وأحزانها، فما أَرَى وُجُومَها وقُطُوبَها وانكِسَارَها ورهقَها وصُفرَتها إلَّا ذِلّة النفس وخضوعَها واستكانتها وضعفَها وعلَّتها، وأن المؤمنَ حين يحضُرُه الهمُّ أَشْعَثَ أغبرَ يَردُّه إيمانُه -حين يؤمن- أبلجَ يتوقَّد، ليكون البُرهانَ على أنَّ الإيمانَ صيقَلُ الحياة الدُّنيا، يَنْفي خَبَثَها ويجلو صَدَأَها، فإمّا رَكِبها من ذلك شيءٌ، عادَ عليها يُحَادثها ويصقُلها حتى يتركها بيضاءَ نقيَّة. . . . وما بلغتُ المسجدَ حتى رأيتُ ابن ذاتِ النِّطاقين قائما بين الناس كأنه عمودٌ من طُولِهِ واجتماعه، ووثاقَة بنائِه، وحضَرته وهو يقول: "أيها الناس، عجِّلوا الوِقاع، ولا يرعِكُم وَقْع السيوف، وصونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، فلينظرْ رجلٌ كيف يضرب، لا تخطئوا مضاربكم فتكسِرُوها، فإن الرجُلَ إذا ذهب ¬

_ (¬1) السرحَة: الشجرة الطويلة العظيمة. (¬2) العارِض: السحاب يعترض في الأفق.

سلاحُه كان أعزَلَ أعضبَ (¬1) يؤخَذُ أخذًا كما تُؤخذ المرأة. لِيَشْغَلْ كل امرئٍ قِرْنَه، ولا يُلهينكم السوًالُ عني: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا منْ كان سائلًا عني فإني في الرَّعيل الأول". . . . ثم يدفَعُ أسدٌ في أَجَمةٍ، ويحيصُ أصحابُ الحجاج حيصة (¬2) في منازلهم من الرعب، فلقد رأيتُه يقفُ ما يدنو منه أحدٌ، حتى ظننت أنه لا يُقْتَلُ، حتى إذا كان بين الركن والمقام رمي بحجر فأصاب وجْههُ فبلغ منه حتى دَمِىَ، وسال دَمه على لحيته، وأُرعشت يده. . . . وغشيهُ أصحابُ الحجاج من كلّ ناحية وتغاوَوا (¬3)، عليه، وهو يقاتلهم جاثما أشد قتال حتى قُتِل. وارحمتا لك يا بنتَ أبي بكر! ! أيُّ كبِدٍ هي أشد لوعة من كبدك! لقد والله رُحمتِ رحمةً إذ كف الله منك البصر، لئن لم تكوني، تحزعين لموته، لقد كنتِ جزعتِ لما مثلوا به وحزوا رأسهُ، ورفعوه على خشبةٍ منكسًا مصلوبًا. . . . وما كدتُ حتى أقبلتْ أسماءُ بين يديها كفنٌ قد أَعدته ودخنته (¬4)، والناسُ ينفرجون عن طريقِها في أعينهم البكاء، وفي قلوبهم الحزن والرعب، قد انتُسفت، وجوههم كأنما نُشروا من قُبورهم لساعتهم، وسكتت الأوصالُ، وجالت، الأحداقُ في مَحاجرها وكأنها همَّت تخرُج، وتمشي أسماء صامدة (¬5) إلى الخشبة صمدًا وكأنها ترى ابنها المصلوب، وكأنها تستروِح رائحة دَمِهِ، حتى إذا بَلَغَتْهُ -وقد وجم الناس وتعلقت بها أبصارهُم ورجفت بهم قلوبُهم- وقفتْ، وقد وجدت رائحة المسك تحت ظِلاله فقالت: "يا بني طبتَ حيًّا وميّتًا، ولا والله ما أجزعُ لِفراقك يا عبد الله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل فقد قتلتَ على حق، والله لأثْنِيَنّ عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بُني مُسلمًا محرمًا ظمآن الهواجر مصلّيًا في ليلك ونهارك". ¬

_ (¬1) الأعضب: أصله في الحيوان، وهو المكسور القَرْن. (¬2) حاص (كسار): رَجَع، وفي حديث أَنَس يوم أُحُد "وحاص المسلمون حيصَةْ"، أي جالوا جولة يطلبون الفرار. (¬3) تَغَاوَوْا عليه: تجمّعوا عليه، وهي بالعين المهملة أيضا. (¬4) دَخن الثوبَ: جعل فيه الدُّخْنَة، وهو بُخُور تُدَخن به الثياب والبيت. (¬5) صَمَد المكانَ وإليه: قَصَدَه.

ثم أقبلتْ وجهها السماءَ ومدّت بيديها تدعو: "اللهمَّ إني قد سلَّمته لأمرك فيه ورضيتُ بما قضيتَ له، فأثبني في عبد الله ثوابَ الشاكرين الصابرين. اللهمّ ارحم طولَ ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبرَّهُ بأبيه وبي". ووجم الناس وجمةً واحدةً، وخشعوا خشعةً لكأن السماءَ والأرض صارتا رتقًا فما يتنفسُ من تنفّس إلا من تحتِ الهم والجهد والبلاء. وكأنّ مكة بيتٌ قد غُلِّقتْ عليه أبوابهُ لا ينفُذُ إليه أحد ولا يبرحه أحد. وكأن الناس قد نزعت أرواحهم وقامت أبدانهم وشخصت أبصارهم، وبدت أسماءُ بينهم وكأن وجهها سراج قد نُصّ على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد (¬1)، وأضاء ثغرها عن ابتسامة. والله لقد بلغتْ من العمر وما سقطت لها سنٌّ، ومازال ثغرها ترف غروبه (¬2) ثم قالت: "يا بَنيَّ، لشد ما أحببتم الحياة وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه. يا بني يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيرًا". وأطرقت أسماءُ إطراقةً ثم رفعت رأسها تُومِئُ إلى الخشبة، فوالله لقد رعدت فرائصى حتى تَزَايلتْ أوْصالى، وصَرَّ الناسُ كأنما تقصفت أصلابُهم (¬3)، وإذا هي تقول: "أَلَا مَنْ مُبلغ الحجّاج أن المُثْلَة سبّة للحىّ وما تضرّ الميّت. ألا مَنْ يبلِغ الحباجَ عنِّي أن الشَّاةَ إذا ذُبحَتْ لم تألم السلْخ". وحامتْ أسماءُ وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يُرَى إلّا بريق وجهها يومِضُ كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردّد "يا بَني، أمَا آن لهذا الراكبِ أن ينزل؟ أما آن لهذا الراكب أن ينزل! يا بَني ليستأذنْ أحدُكم حَجَّاجَكمُ هذا أن يَدفَع إلي هذه العظام. أَدوا عني، يرحم الله من أَدَّى عنِّي". فيجئ الرسول من قِبل الحجاج يأبى عليها أن تُدفَعَ إليها عظَامُ ابنها ¬

_ (¬1) الخوالد هنا: بمعنى الساكنة كالجبال والحجارة والصخور. (¬2) الغروب: جمع غرب، وهو الماء على الأسنان يكسبها بَرِيقا. (¬3) صر: صدر عنهم صوتا كالصرير، وجاءت هذه العبارة في شعر العطوى: وليس صريرُ النَّعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلابُ قَوْم تَقَصَّفُ

المصلوب، ويَجئُ على أثره موكلون قد وكلهم بجثَّته يقومون عليها يحرسونها، كأنما خَشِى أن يَحيا ميت قد حُز رأسه أن تمسهُ يَدُ أُمِّه. فوالله، فوالله لقد سمعت أسماءُ وخُبِّرتْ فما زادت على أن وَلتْ عنهم كما جاءت ما تقطر من عينيها قطرةُ دمع، وما تُجاوز قويًّا إلا جاوزتهم كأنهم فُسطاط يتقوَّض، حتى ولجت بابَها وغلقَته عليها. وانطلقتُ أنفضُ الناس بعيني، فرأيت أخي الحارث (ابن عبد الله بن أبي ربيعة) وابن أبي عتيق (هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) ما في وجهيهما رائحة دم من الحزن والفرقِ. فقلت: ما هذا أوان جزع، انطلقوا بنا -يرحمكم الله- إلى دارها نواسيها ونترفقُ لها، فوالله لقد تخوَّف أن يذهبَ بها الحزن عليه، وإنه لفالق كبدَها ما لَقِيته. ويطرق الباب ابن أبي عتيق، فيجيبُ الصوت من داخل: قد أسمعتَ فمهْ. فيقول: أنا ابن أبي عتيق يا أمَّاه. ويؤذن لنا فندخل دارها تَجِفُ قلوبنا من الروع والرّهبة، ونأخذ مجلسنا عند بنت أبي بكر الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوج حواريه -عليه السلام-، وكأن قد تركنا الدنيا وراءنا وأقبلنا على الآخرة. استضحكت أَسماءُ حتى بدت نواجذُها وقالت: "مرحبا بكم يا بَنّي، جئتم من خلل الناس تعزون أمكم في عبد الله. يرحم الله أخاكم لقد كان صواما قوَّاما ما علمتُ. وكان ابن أبيه الزبير أوّل رجل سل سيفه في الله، وكان أشبه الناس بأبي بكر. يا بَني، والله لقد حملتُه على عُسرَة، والمسلمون يومئذ قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطَّفَهُم الناس، ولقَدْ سعيت به جنينا بين بيت أبي بكر وغار ثور بأسفل مكة في هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - آتيهما تحت الليل بما يصلحهما من الطعام، ويسكن الطلب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيتهما بسفرتهما وسقائهما ونسيت أن أتخذَ لهما عِصامًا (¬1)، فلما ارتحلا ¬

_ (¬1) عِصام السقاء والقربة هو رباطها وسيرها التي تُحمل به.

ذهبتُ أُعلِّق السُّفرة فإذا ليس لها عِصامٌ، فوالله ما أجدُ ما أعلقهما به، ووالله ما أجِدُ إلا نطاقي وأنا حُبلى مُتِمٌّ. فيقول أبو بكر يا أسماءٌ شقيه اثنين؛ فأشقه فأربط بواحد منهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك ما سمّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ذات النطاقين" يعني في الجنة. وأعود بعبد الله يرتكض في أحشائى، قد احتسبتُ نطاقي في سبيل الله، فوالله ما أجدني احتسبتُ بنىّ عبدَ الله اليوم إلا كما احتسبت نطاقي ذاكم. وأَعود إلى دار أبي بكر ويأتي نفرّ من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا ببابها، فأخرج إِليهم فيقولون: أين أبوك يا بنت أبي بكرٍ؟ فأقول: لا أدري والله أين أبي، فيرفع أبو جهل يده -وكان فاحشا خبيثًا- فيلطم خدي لطمة يطرح منها قُرطى فتغُول بي الأرض الفضاء، فوالله لما لقيتُ من حَجّاجكم هذا أهون عندي مما لقيتُ من لطمة أبي جهل وأنا بعبد الله حاملٌ مُتم. يا بَنى إني آخرُ المهاجرين والمهاجراتِ، لم يبق على ظَهرها بعد عبد الله منهم غيري، فلا والله ما حَسنٌ أن يَجزَعَ من هاجَرَ -وإنّ شأن الهجرة لشديدٌ- وما حَسنٌ أن يجزع من شَهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكيف وقد أربيت (¬1) على المائة. يا بني جزاكم الله عني وعن أخيكم خيرًا، قوموا لشأنكم وذرونى وشأنى يرحمكم الله". وودَّعنا وانصرفنا، ولا والله ما نجد لأسماء في الرجال ضَرِيبة (¬2) فأين في النساء؟ ولكنها كانت تصبر صبر المهاجرين الأولين على الجهد والبلاء. وما كان صبح خامسة من مقتل ولَدها حتى استجابت لدعوة ربّها رضي الله عنها وأرضاها، وهي أم حنث تكتم حنينها ولكأنه عجل بها موته فقطع نياطها وصدع فؤادها، وفلق كبدا عليه حنينها إليه. . . . ¬

_ (¬1) أربى: زاد وأَوْفَى. (¬2) الضريبة: النظير والشبيه.

منهجي في هذا الباب

منهجي في هذا الباب عهد إليّ الأستاذ "الزيات" أن أتولى تحرير هذا الباب (¬1) من "الرسالة"، فأجبت إرادته بالتسليم، وأنا أجد المعاني في نفسي حائرة لا تكاد تقر، فقد لحقتني إرادته والحياة من حولي تفترني حتى ما أحس من فورتها إلا القليل، والنفس منبوذة على حدود النشاط في كسل مجدب بالقحط والظمأ لا يهتدى إليه رِىٌّ ولا شِبَع. وإذا كانت النفس كذلك لم يأت خيرها إلا من طول الإحساس بالحرمان والألم، فهي تريد أن تتكلم من نوازعها بألفاظ ثائرة ضائعة حائرة كأنما تبحث عن نفسها في معانيها. . . . ثم لا تتكلم، وهي على ذلك لا تطيق التأمل في المادة التي تعرض لها إلا بمقدار من الرغبة في البحث عن نفسها في سر نفس غيرها لتجد عند ذلك أسبابًا تهتاج بها وتضطرب وإذا لم تجد النفس لذتها المؤلمة إلا في انتزاع الآلام المحرقة مما ترى وتسمع وتتخيل، فكيف تعيش أفكارها إلا في دخان من الأحزان الصامتة صمتَ الفكرة المختنقة التي لا تجد أنفاسها ولا جو أنفاسها. هكذا أَجدُني. وهذه النفس المنبوذة بما جنت وبالذي لم تجن من شيء، هي النفس التي أريد أن أتولى بها النظر فيما يعرض لي من شؤون الأدب في أسبوع من أسابيع "مصر"، ولقد تشاكلا ووقع حافرٌ على حافر في حَلْبة مغلقة. فنفسي الآن هي نفسي التي لا أكاد أجمعها وألم أشتاتها إلا قليلًا، وما هو إلا أن أراها مبعثرة تَفِرّ مني أوابدها في كل وجه، وأقف أنا أتلفَت. . . . أنظرها وهي تغيب في ظلام الأحزان، وتترك عندي أطيافًا من الذكرى تطوف في تأملاتي مرسلة من مزاميرها ونايها أنغامًا حزينة مهجورة متفجعة كأنما تقول: هذا مكان كان أهله ثم بادوا، وهكذا أيضًا أَجِدُني. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 339)، 1940، ص: 24 - 26 (¬1) هذا الباب هو "الأدب في أسبوع".

في بعض الإنجيل هذه الكلمة: "من وجد نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها"، أفيكون معنى ذلك أن النفس الإنسانية لا توجد باقية أبدًا إلا وهي مستهلكة، وأن الأشياء الشريفة التي تهلك هي بعينها التي تُحيى، وأنه لا معنى للشيء الحىِّ إلا أن يجتمع فيه معنى الأشياء الشريفة، الموت والحياة معًا، وأن استغراق النفس واستهلاكها في الأحزان النبيلة وتعذيبها بها هو استحياؤها وتنعيمها، وأن العمل المهلك والفكر المهلك هما العمل الإنساني الجليل الذي خُلِقَتْ من أجله الحياة على الأرض! وعلى ذلك لا تكون النفْس حيَّة أبدًا إلا وهي سائرة بالحياة في مَسبَعَةٍ (¬1) من الموت، يتخطفها كل شيء حتى الأسباب التي يستوجب بها الحىّ صفة الحياة! إذن ما أعجب الحياة. * * * وإذن فقد فرَّت مني المعاني التي أحمل نفسي الآن على علاجها، واستجهلتني الآلام في عواصفها حتى ذهبت هذا المذهب الحزين من القول لأقدِّم به الكلام في هذا الباب الذي عقده "الزيات" للأدب، ومع ذلك فإني لأرى الصلة التي تصل أصل هذا الباب بالأصل الذي في نفسي، فإن تتبع "الظواهر الأدبية" ينبغي أن توفر له أسباب الاستقرار النفسي حتى يستطيع الكاتب أن يجمع إليه المعاني ويضرب عليها الحصار حتى يفندها أو ينقدها أو يحصيها أو يبين عن غامضها أو يكشفَ أستارها أو يقدم لها بالنظر والفكر والتوهم ما يوجب بعض النتائج التي تفضي به الآراء إليها، وبذلك يمكنه أن يوجد للأدب ميدانًا تستعرض فيه أعماله التي يدأب الأدباء والكتاب والشعراء وأصحاب الرأي في صنعها وتجويدها. فإذا تناول هذا الأمر بالنفس التي لا تستقر ولا تهدأ كان عمله أقرب إلى الثورة -أي إلى الفوضى- من حيث يريد أن ينظم، ومع ذلك فإن الخير كل الخير أن نحاول الحياة كما تحاولنا بالاقتسار والعنف، وأن نقبل عليها وهي مدبرة بالبرهان على إمكان احتمالها جافية كانت أو ناعمة، ومؤلمة كانت أو مريحة، ¬

_ (¬1) المسبعة: الأرض تمتلئ بالسباع، وهي كل حيوان مفترس.

ومنصفة كانت أو باغية، وأن نأخذها من حيث نرى الرأي أنه هو أجدى وأنفع، وأيضا فإن المصدر الحىّ للأدب إنما هو النفس، فهو يصدر عنها موسومًا بسمتها، إمّا مستقرة هادئة مفكرة في جو من الراحة، وإما ثائرة لمّاحة متخطفة في مسبح الأحلام والآلام والأماني المعذبة بالحرمان، فليس إذن من المُنْكَر أن ينصب امرؤ لا تهدأ نفسه لمثل هذا الباب الذي وصفناه وأن يتناول هذا الأدب بما يتداولُه من الإحساس المشبوب والنظر الخاطف والرأي العنيف أو أي ذلك كان. وأحب أن أعهد قبل أن نكلم، فإني رأيت الأدباء قد أكل بعضهم بعضًا بألسنة كظهر المبرد، وتشاحنوا بينهم للكلمة التي لا ترفع ولا تضع، وتنابذوا على الأهواء الغالبة المستكلبة، ومن كان ذلك هجيراه (¬1) ودأبهُ، فهو عند النقد أو الاعتراض كالوَحش الجوع (¬2) الغرثانِ قد أُجْهِض عن أشلاء فريسته، يكاد يَنْقَد عليه إهابُه من الغيظ والحِقد والرغبة في الإيقاع بمن يصرفه عن أحلام مَعِدته. وهذا أسوأ الخلق وأبعده عن صريح نهج الأدب، وأقله غناءً في تهذيب الأديب، وما أظن أن في الدنيا العاقلة أديبا تخيّل له أوهام "العبقرية" الطائفة به أنه قد سبق السهو والخطأ وبقى النقد والنقاد لَقًى وراءه يتلوذون بظلاله -في طلب البركة! ومع ذلك فإن بعض من عناه القدر فرمى في غيل الأدب العربي يتصيد، . . . . يقتات من أوهام العبقرية حتى حبط بوهمه في نفسه، واستكرش ونفش بما أكل حتى تضلَّع، ثم استلقى على الأفياء يتخيَّل أن الأدب كله قد وقف عليه من عند قدمه إلى رأسه يُهدهده حتى ينام في ظلال هذا الملك الهنئ. ومن كان هذا مثاله من الأدباء، وعرضنا لبعض قوله بالنقد، فلا يتخيلن أنَا نعنيه هو بذاته- فهو موفور الأحلام على نفسه إن شاء الله -وإنما نعرض للقول على أنه كلام مقول فيه السهو والخطأ، وتتعاوره الصحة كما يتعاوره السقم، وأنه كلامٌ مصبوبٌ على الناس وعلى أسماعهم وأذهانهم، فنحن بنقدنا كلامه، إياهم نريد، وإياهم ¬

_ (¬1) الهجيرَي والدَّأب والعادةُ بمعنى. (¬2) جوّع: هكذا في الأصول، وهو جمع لا مفرد، والسياق يقتضي الإفراد، والغرثان والجائع سواء.

نخاطب، وعسى بعدُ أن يكون له في هدأةٍ من نفسه رأيٌ يتابعنا به إن أصبنا أو يسدِّدنا ببيانه إن أخطأنا، وما نألو في الاجتهاد، ولكن ربما حُرم الإنسان التوفيق فيما يأتي وما يذر. هذه واحدة فيما نبدأ به، أما ما يقع بين الأدباء من المجادلات والمنافرات، فحقها من هذا الباب التسجيل، فإن بقى لنا في القول مقال نقوله -نتعقب به الأصل الذي يقع عليه الاختلاف والتنافُر- لم نقصر في تحقيق البيان وتحريره، متعاونين في جعل الحقيقة أسرع إلى إثبات وجودها والدلالة على نفسها حتى تتجلى. وأما الشعر والشعراء وما يلوذ بهما، فأنا حين أغمض عيني لأجمع على خيالي ورأيي وفكري، أنتهي إلى مثل الغيبوبة من الحسرة واللهفة والألم. فقد فرغ الشعر من بيانه ومعارضه وصاريته الفاتنة، ووقع إلينا أوزانا تَتخلَّج بما تحمِلُ تَخلج المجنون في الأرض الوحلة، وما أظنه يعتصم في هذه الأيام بشاعرين أو ثلاثة، ولكل منهم مذهب، وكل قد قذفت به الحياة في مهنتها وابتذالها حتى صار أكثر فراغه مستهلكا على صناعة أو وظيفة تطعمه العيش وتحرمه لذته، ومع ذلك فيهم يقولون ويتكلمون والسامعون ينصرفون عنهم لسوء رأيهم في الشعر الحاضر أول، ثم لكثرة ما يسمعون من كلام لا يحرك عاطفة لأنه لا يصدر عن عاطفة، وما يزال ذلك يتوالى عليهم، حتى إنهم لا يكادون يعرفون الشعر إلا هكذا ثقيلًا غثًّا باردًا، فكيف لا ينصرفون عنه، ومن ذا الذي يرضى أن يحمِل نفسه إلى "ثلاجة" وهو يُعَد في العقلاء. فكذلك ضاع شعر هؤلاء الثلاثة في غثاثة الكثرة، ثم فترت أنفسهم ولا تزال تفتر -إلا أن يشاء الله- لما يحسون من غفله السامعين عنهم، وليس كلهم يستطيع أن يقول كما قال صاحبهم الأول: لم يَبقَ من جُل هذا الناس باقيةٌ ... ينالها الفهمُ إلّا هذه الصُّوَرُ أهزُّ بالشعر أقوامًا ذوى وَسَن ... في الجهل، لو ضُربوا بالسيف ما شعروا علىَّ نَحتُ القوافي من مَقَاطِعها ... وما عليَّ لَهم أن تَفْهَم البَقَر وكذلك نخشى أن يأتي على الناس زمان يضيع فيه الشعر الجيد أو يرفع حتى

من صدور هؤلاء الثلاثة. ولست أدري الآن كيف يتاح لي أن أنهج مع الشعر والشعراء نهجًا يكون رضا ومَقنعا وباعثًا علي تجويد الأساليب والمعاني حتى ينقذ الشعراء فنهم من الضياع؟ فلندع هذا إلى حينه، وإلى رأي الشعراء في "مطالبهم"، فقد صار لكل أصحاب صناعة مطالب وحتى النساء، فكيف لا يعرف الشعراء مطالبهم وحقوقهم وهم أرهف إحساسا وأنبل مقصدًا وأبين بيانًا! ! وأما الكتب التي تصدر في خلال الأسبوع أو قبله بكثير أو قليل فسننهج لها نهجًا مخالفًا لمنهج العرض الكامل أو النقد الشامل، فإن هذا أحق به باب "الكتب" و"النقد" وإنما نعرض لها من حيث يتوجه لنا الرأي في غرض الكتاب الذي يرمى إليه، وأين يقع منه. وربَّ كلمة واحدة في صدر كتاب أو ذيله، لم يعرضْ لها الكاتب إلا شاردًا أو كالشارد، ثم تكون هي تربو بمعانيها على الكتاب كله وعلى أغراضه أيضا، فربما وقفنا عند هذه وقفةً تَجيش لها النفس من نواحيها، فنحتفل لها أشد احتفال وأعظمه لتكون كالعَلَم علي المعاني النبيلة التي تضيع في خرائب الكتب. وبقيت كلمة. . . .، فقد أحسن "الزيات" إذ تنبه إلى هذا الباب -الآن- من أبواب مجلته وقد أغفله كل هذه السنين. فإن الحرب والثورة وما في معناهما هي اضطراب عنيف يهز أعصاب الحياة ويقضقض أوصالها، فلا جَرَم إذن أن تدور الرؤوس وعقولها دورات كثيرة حول نفسها، فتختلّ الأوزان والمقاييس في كل شيء، وأن تبدأ الحياة بعد الحروب بدءًا جديدًا، ويكون الناس إذ ذاك كالناشر من باطن الأرض وقد خرج من أكفانه ليرى ظاهرها كل شيء غريب وغير مفهوم، ومع ذلك فهو جديد لذيذ لا يملُّ وإن كان كله خطأ وفسادًا واستحالة وسببًا من أسباب الفناء، وكذلك يكون الأدب والأدباء بعدَ الحرب، كما أخرجت الحرب الماضية ثم الثورة المصرية سنة 1919 جيلًا من الأدباء استفحل أمرهم وذاع صيتهم وضربوا في الأدب بأسهم مفلولة محطمة، ومع ذلك. . . . فهذا الباب في هذه الأيام -إلى ما بعد الحرب- يصوِّر بعون الله وتوفيقه

وهدايته الطريقَ الذي كان عليه الأدب إلى اليوم، ثم أين انتهى وكيف؟ ثم غيب ذلك كله موقوف على نوع الحرب وأساليبها وما تُبدع من فنون الشر، وما تثير من طبائع الإنسان -من أنثى وذكر-، وما تحفِزُ أو تُبِير (¬1) من أحلام الإنسانية المتحدرة من أطباق الماضي البعيد مع الإنسان الوارث الحي على هذه الأرض. ¬

_ (¬1) تُبِير: تهلِك.

الإصلاح الاجتماعي

الإصلاح الاجتماعي من عادتي -إذا ما استبهمَ علي نَفاذُ الرأي- أن أعدل بأفكاري إلى الليل، فهو أحصنُ لها وأجمع. فإذا كان الليلُ، وهدأتِ النائرةُ، وأَوَى الناسُ إلى مضاجِعهم، واستكنت عقاربُ الحياةِ في أجحارِها، تفلتُّ من مكاني إلى غرفتي أُسدِلُ ستائرها وأغلِّقُ أبوابها ونوافذها، وأَصنعُ لنفسي ليلًا مع الليل، وسكونا مع السكون، ثم أقعد متحفزا متجمعًا خاشِعًا أملأ عيني من ظلام أسود، ثم أدعُ أفكاري وعواطفي وأحلامي تتعارف بينها ساعة من زمان، حتى إذا ماجت النفس موجها بين المد والجزر، ثم قرَّت وسكنت، وعاد تيارها المتدفق رهوًا ساجيًا كسعادة الطفولة، دلفت إلى مكتبي أستعين الله على البلاء. وأمسِ، حين أيقظني من غفوتي داعي "الرسالة" جمعت إليَّ ما عزمت على قراءته من الصحف والمجلات والكتب -التي هي مادة هذا الباب- وطفقت أقرأ وأقرأ، ولا أكتم أني كنت أقرأ في هذا اليوم -على خلاف عادتي في أكثر هذه الأيام- قراءة المتتبع اليقظ الناقد المتلقِّف لأضع يدي على أغزر الأصول مادة وأعظمها خطرًا وأشدها بِنية. . . . وأدسمها شحما، فإنّ حق القراء علينا أن نتخذ لهم صنيعًا ومائدة تكون أشهى وأمرأ وأقرب متناولًا وأردَّ على شهواتهم فائدة. فلما فرغت من إعداد ما أعددت لهم وأويت إلى ليلى المختلق المزيف، جعلت أستعيد في نفسي ما قرأت، وأين وقفت منه، وما تنبهت له مما تعودت أن أستشفُّه من وراء الألفاظ المعبرة، ومن تحت السياق المهدِف إلى غرضه -مما هو بأخلاق الكُتاب وعاداتهم ونوازعهم وخفايا نفوسهم ألصق منه بأغراض الكاتب فيما كتب. فما كدت أقدح الظلام بعيني وأفكر في هذا الأمر وأستدرجه إلى نفسي حتى رأيتني أكاد أنفر من مكاني لما عراني من سوء الرأي وقسوة الظن، فإن طول تغلغلي في معاني الكُتاب والشعراء، أو في معاني أنفسهم، يدلني على أن أكثر من يكتب إنما يدفع بعض الكلام إلى قلمه ليعبر عنه، غيو محتفل بما يقول، فكذلك يخرج الكلام متخاذلًا مفككا كأنه ناقة من وباء مرض، ويخيل ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 340)، 1940، ص: 62 - 64

إلي أن أكثر كتابنا إنما يتناولون المعاني والأغراض من عَيبةٍ (¬1) جامعة غير متخيَّرة ولا منتقاة ولا مصنفة، وأنهم إنما يعرض لهم اشتهاء القول فيقولون للشهوة المستبدة لا للرأي الحاكم، وأنهم إنما يكتبون ليبقوا كُتابًا في عقول الناس وعيونهم من طول ما تعرض عليهم المقالات متوجة بالأسماء مذيلة بها، وأن الكلام عندهم هو أهون عليهم من ضغطة النائم المتلفف زرَّ الكهرباء فإذا هو نور مستفيض. لابد للعرب والعربية أن يبرأ هؤلاء من أمراضهم ثم يقولون، وأن يعتدوا بجمهرة القراء اعتداد من لا غنى له عنهم ولا فقر بهم إليه، فبذلك أيضًا يصلح ما فسد من القراء الذين يقرأون الأسماء دون معاني هذه الأسماء. ويومئذ لا يشكو الكُتاب من بوار أسواقهم، لأنهم يعرضون للناس الحَسَن الذي ينشئ في القلوب الإحساس بالحُسن والرغبة في اختيار الأحسن، ويتشوق الناس الجميل لأنه جميل يسمو بالروح في سُبحات المثل الأعلى من الجمال الروحاني. . . ثم لا يجيزون إلا الجميل. وكذلك يترافد الكاتب والقارئ ويمدُّ أحدهما الآخر بأسباب حياته وخلوده لكن خوافق الأدب السامي الرفيع. هذا هو بعض الرأي أدعو إليه كتابنا، والأدب على شفا جرف هار إلى البوار والبلى والفساد. * * * والآن، وقد تحدَّثت النفس ببعض كلامها، أعود إلى "أدب الأسبوع" ويخيل إلى أن "وزارة الشؤون الاجتماعية" هذه التي استحدثت بعد أن لم تكن، قد كان من فضل اسمها أن أيقظ أكثر كتَّابنا إلى حقيقة ملموسة كانوا يَغُضُّون دونها أبصارهم لما تلبس صاحبها من لباس الخزي والعار: وهي بقاؤنا بين الأمم أمة لا قوام لها من نفسها وأصلها وتاريخها، وأن مركز مصر الاجتماعي والسياسي والشرقي أيضًا قد سما في ظن الناس ولكنه في حقيقته أقل مما يُحمل عليه من الزينة والتألق والزخرف المستجلب بالإيحاء وإرادة الاستغلال. فقد كتب الدكتور هيكل في "السياسة الأسبوعية" عدد (152) كلمة في "نهضة الإصلاح في مصر" استقصى بها تاريخها وقواعدها وأغراضها من عهد الثورة الفرنسية إلى هذا الوقت. وكذلك كاتب الدكتور "طه حسين" في "الثقافة" عدد (52) يقترح ¬

_ (¬1) العَيبة: وعاء من أَدم يكون فيه المتاع.

إنشاء "مدرسة المروءة". وجاء "الزيات" في ختام فاتحة "الرسالة" لعامها الثامن يشكو إلى الله: "إن كبراءنا عطلوا في أنفسهم حاسة الفن فَلَم يعودوا يدركون معنى الجميل، وإن أدباءنا قتلوا في قلوبهم عاطفة الأدب فليسوا اليوم من كرمها في كثير ولا قليل، كان زعماءنا تفرقت بهم السبل بتفرق الغايات، فِلكُلّ غاية دعوة ولكل دعوة سبيل". وكل هذه تلتقي على أصل واحد، وهو أن الحياة الاجتماعية لا تزال تحبو في مدارجها، وأن "لين العظام" يُخشى أن يطول علينا بقاؤه في صدر الحياة حتى نقعد دون شبابها، وأن الإصلاح لابد أن يتعجل حدوثه. . . . ولكن كيف يكون ذلك؟ ! . وقد ساق الدكتور طه حديثه عن المروءة ساخرًا من هذا الجيل الذي طبع على سفاسف الأخلاق، وتحطمت عنده مكارم الإنسانية النبيلة، وامتاز عظماؤه وصغاره باعتبار الأخلاق ضربًا من التجارة يلبِّسها الغش والخِلابُ والمواربة وتلقِّي التاجر للبائع بالدهان حتى يكون هو في باطنه أظلم شيء، وظاهره يتلألأ بمعاني الشرف والأمانة والنزاهة وإرادة الموافقة وتغليب منفعة المشتري على منفعته، وغير ذلك من حيل التُّجار والسماسرة. فأراد أن يمزح، فيدعو إلى اقتراحه إنشاء مدرسة للمروءة ليسخر من "تنازع الاختصاص" في وزارتنا بل في أعمالنا كلّها. وهذا كله في مدرجه جيد لا يحاول أحد أن ينازع عليه أو يختلف فيه، ولكن التهكم في هذا الدهر المائج بصنوف العذاب والبلاء لا يكاد يجدي شيئًا في الإصلاح. وهل يظن الدكتور طه أن كل هؤلاء الذين أقامتهم الأمة المسكينة على حياطة شؤونها ومرافقها وأسباب عيشها -لا يستشعرون من ذلك ما نستشعر، ولا يجدون من معانيه مثل الذي نجد؟ أجل؛ ولكنهم كالذي يصف هو فيما سبقَ من الحديث، فمن أين يأتي الشفاء إذا كان كلُّ الطبيب هو بعض المريض! إن أعمال الإصلاح الكبرى لن تأتي من وزارة الشؤون الاجتماعية، ولا وزارة المعارف، ولا غيرهما إذا بقى الشعب ينظر إلى هذه كلها ليرى ما تعمل. والرأي لا يمكن أن يتجه في هذا الأمر إلى تسديد وزارة المعارف ووزارة الشؤون الاجتماعية وتوقيفها على ما يجب عمله باقتراحات ومذكرات وبيانات. . . . إلى آخر هذه الجموع. إن عمل الإصلاح الآن موقوف على شيء واحد، على ظهور

الرجل الذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلوم يحمل في رجولته السراجَ الوهَّاج المشتعل من كل نواحيه، الرجل المصبوب في أجلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كلها، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحي المتحرك على هذه الأرض الذي يسمى في اللغة "الإنسان". وليس ظهور هذا الرجل بالأمر الهين، ولا إعداده بالذي يترك حتى يكون؛ بل هنا موضع للعمل وللإنشاء. وكبرُ ذلك مُلقًى على الأدباء والكتاب والشعراء، وعلى كل إنسان يحترم إنسانيته؛ فالأدباء ومن إليهم قد وقع عليهم التكليف أن يرموا بما يكتبون إلى إيقاظ كل نائمة من عواطف الإنسان، وإلى إثارة كل كامنة من نار الهداية المحاربة التي لا تخمد، ولا يكون ذلك شيئًا إلا بأن يعدّ كل أحد نفسه كالجندي عليه أبدًا أن تكون حماسته هي روح الحرب فيه، فهو يمشي بها في كل عمل، ولو في نقل البريد من مكان إلى مكان. إذن فأول الإصلاح الاجتماعي هو إدماج عواطف الفرد في مصالح الجماعة على أَتم صورة من صور الحماسة أي القوة التي تنبعث من الدم لتطهير الدم؛ وهذا بعض ما نتوافى عليه مع الدكتور هيكل إذ يقول في مقاله الذي أشرنا إليه آنفًا "لم يفكر أحد في مشكلاتنا الاجتماعية واضعا نصب عينيه غاية قومية يريد أن يحققها، بل ترانا إذا فكرنا في الأمر كان الدافع لتفكيرنا فيه عواطف الشفقة أحيانا، والبر بالإنسان أحيانًا أخرى، وهذه عواطف قد تحمد في الأفراد، لكنها لا قيمة لها في حياة الجماعة ويوم فرض الله الزكاة في الإسلام وقرن بها الصدقة لم يقم الشارع ذلك على أساس العاطفة الفردية، بل أقامه على أساس النظام الاجتماعي". والكتابة هي زكاة العلم، فيجب أن تقوم على هذا الأصل الفردى المتحمس المتدفق بتياره في أعصاب النظام الاجتماعي، فإذا اتخذها كتابنا على هذا وتكلموا بقلوبهم قبل ألسنتهم وأقلامهم كان ذلك قمينًا أن يبعث الرجل الذي سوف يضئ للحياة الاجتماعية سُدَف (¬1) الجهل والضعة والبغى والاستبداد. ¬

_ (¬1) سُدَف: جمع سدفة، وهي الظُّلمَة.

أبو العباس السفاح أمير المؤمنين

أبو العباس السفاح أمير المؤمنين (¬1) أثار الأستاذ العبادي في "الثقافة" عدد (47) مشكلة ابتغَى حلها، وذلك أنه وصف حلية "أبي العباس أمير المؤمنين" أول خلفاء بني العباس كما رواها المؤرخون من أنه كان "ذا شعرة جعدة، طويلًا أبيض، أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية" وكان "شابًّا متصوِّنًا عفيفًا حسن المعاشرة، كريمًا معطاءً" إلى نهاية ذلك من كريمات الخصال. ثم استبعد أن يكون بهذا الإنسان الرقيق أهلًا لتلك الصورة البشعة الطاغية التي تخلعها عليه معاني هذا الحرف "السفَّاح" من الجريمة وسفك الدَّمِ والرغبة في ذلك والمبالغة فيه. واحتفل الأستاذ للحوادث التاريخية فلم يجد فيها ما يسوِّغ أن يكون "أبو العباس أمير المؤمنين" سفاحًا سفاكا للدماء، وزاد أن ثقات المؤرخين كالطبري والدينوري لم يذكروه إلا مجردًا من هذه الصفة، ثم رجح بدليل بياني جيد أن السفاح محمول هنا على الأصل اللغوى أي الكريم المعطاء الذي يتلف الأموال ولا يبخل بها. ولكن الأستاذ "أحمد أمين" رد عليه بعض أدلته في العدد (49) فردها الأستاذ العبادي عليه في العدد (50) وهكذا إلى العدد (52). وأنا قد أعجبت كل الإعجاب ببحث الأستاذ العبادي، وإن كنت أخالفه كل المخالفة، وذلك لأنه مبنى على منطق تاريخي جيد، ولأنه أراد أن يفرق فرقًا جيدًا بين كتب التاريخ وكتب الأدب القديمة من حيث الحجة في برهانات التاريخ. فإنا نجد كتبًا من أعظم كتب الأدب تحمل على الخلفاء من غث الأخلاق ما تناقضه سير هؤلاء الخلفاء كالذي يروون عن الرشيد -وهو بالمنزلة من الشرف والعلم والسياسة وطول الانبعاث للغزو والحجِّ- من معاقرة الخمر والملاهي والاطلاع على الحرم واستباحة الأعراض وغير ذلك مما لا يمكن أن يصح بوجه من الوجوه. هذا، وإني أخالف الأستاذ العبادي، فإنه حين رده الأستاذ "أحمد أمين" رجع عن تفسيره لفظ "السفاح" بالكرم والسخاء لغير علة ظاهرة وأصرّ على أن ¬

_ (¬1) وتأتي بقية الكلام على أبي العباس السفاح، ص: 68

"أبا العباس أمير المؤمنين" لم يلقب "بالسفاح" البتة في حياته، ولا ذكر ذلك عنه أئمة المؤرخين، وأصر مع ذلك أيضًا على أن صفات أبي العباس وحليته تنفي عنه أن يكون سفَّاكا للدماء؛ ولا كل هذا! فإن هذه الصفات لم يُروَ لنا إلا أقلها حتى يمكن أن نجعلها أصلا يستشف خلق أبي العباس من ورائها، وإن الرقة والدعة والجمال ولين الخلق تخفي وراءها أحيانًا قسوة لا تدانيها قسوة، كالذي يكون في النساء، فإنهن قد عرِفن بين الناس بالرقة "وهن أغلظ أكبادًا من الإبل" وإن المرأة إذا ثارت لم يبلغ مبلغها في القسوة (أقْعد) الوحوش في باب الوحشية ومع ذلك. . . . فهي الزهرة غِبُّ الندى، وهي النسيم في السَّحَر، وهي. . . وكنت أحب أن أستوفي هنا القول في تحقيق هذه الصفة لأبي العباس أمير المؤمنين، ولكني رأيت أن الكلام قد جاوز حده، وأن الدليل يقتضيني إثباتَ كثير مما يُخِلّ تركه بالفائدة فموعدنا الكلمة التالية إن شاء الله.

أسواق النخاسة

أسواق النخاسة مازلت أُضحك إِبْلي كلما نظرَت ... إلى من اختضبت أخفافها بدم! أسيرُها بين أَصنام أشاهِدُها ... ولا أشاهِدُ فيها عِفَّةَ الصنم هكذا يقول المتنبي في صفة أصحاب السلطان الأدبي والسياسي من أهل عصره، ولا يزال هذا ينطق إلى اليوم على البلاد الشرقية والعربية إلا قليلًا قليلا. لقد أذكرتني أشياءُ رمت إلى ما كنت أَسُوس النفس على تناسيه ونبذه والتباعد عنه، ولكن صِناعة الأدب هي من بين الصناعات أشدُّها التحاما بالحياة. . . . لا، بل الأصول النفسية التي تقوم عليها وبها أسواق المجتمع الإنساني، وهي ترمي بالأديب في تنّور متسعِّر من نزاع الغرائز والشهوات والأحقاد، وهو بين اثنتين: إِما أن ينحط في هوى غرائزه التي تثيرها هذه النار الآكلةُ، فيفسد بفسادها، وإما أن يتحصن دونها، فيروض غرائزه الوحشية، حتى تألفَ وتنقاد لحكم العقل النبيل والعواطف السامية. فكذلك يوطن نفسه على الحرمان والألم والتفرد والوحشة. . . . ثم على الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة بين تَضَرُّم النزغات المستبيحة، وبين زهادةِ النفس المتورعة المطمئنة. وكان أحق الناس بالتسامي ومطاولة الغرائز في هذه الحرب الموقدة - الأدباء، فالأدب في أَصله تنزيهٌ للنفس وكبحٌ من جماحها، ورفق في سياستها، فإذا انقلب الأدب تضرية للوحوش الرابضة في الدم من الطبائع والغرائز، خرَج عن أصله وفقدت ألفاظه معانيها، وصارت أسواق الأدب تعتمد في معاملتها على البغي والظلم والعدوان والتهجم والاستبداد. وفقدت كل معاني الحرية والعدل والإنصاف والتمييز بين الخبيث والطيب، وهي أصول الفطرة الأدبية السامية. إن الأديب الحر ينتفض تَقَزُّزًا واشمئزازا كما انبعثت روح حقارة المجتمع من ¬

_ (*) الرسالة السنة الثامنة (العدد 341)، 1940، ص: 101 - 103

وراء الرّمم الأخلاقية المموَّهة بالنفاق، والتي أقيمت عليها أصنام منصوبة للعظمة الباطلة الجوفاء، وهو أشد انتفاضًا وانتقاضًا حين يرمى بصره إلى الأدب والعلم وهذه المعاني السامية فيرى الأدباء والعلماء أذلّاء مستعبدين قد خضعت أعناقهم للحاجة والضرورة والبؤس، فهم نواكس الأبصار إلى الأرض بين يدي فئة منهم قد أخذوا عليهم أفواه الطرق المؤدية إلى بعض الرزق، حين واتاهم القدر ببعض السلطان والجاه والسيطرة، وأقامتهم الشهرة الذائعة أنصابًا تهوى إليها الأغراض، وتناط بها الوسائل، وتعتمد عليها الحكومات في تقدير العلم والأدب وأهلهما والعاملين عليهما، وكذلك لا يستطيع أديب أو عالم أو فيلسوف أن يجتاز إلا بإجازة من أيديهم وبأختامهم، وإلا أن يشهدوا له شهادة التقدير، وأن يعبُروا له السِّعر في "تسعيرة" السوق الأدبي الذي أقامتهم الحظوظ عليه حكّامًا ومقوِّمين. إن الشهرة والشهادة هما شيئان لا قيمة لهما في العلم والأدب، فبناءُ العلم على نجاح التجربة واستواء المنطق وإقرار العقل، وبناء الأدب على صدق الإحساس وحدة الإدراك وسمو العاطفة وقوة الحشد وبراعة العبارة والأداء. فإذا لم تكن الشهرة من هذا تستفيض وعنه تَشرع، فما غناؤها على صاحبها إلا بعض الأباطيل التي تنفش في عقول الأمم الضعيفة والأجيال المستعبدة بالأوهام والتهاويل. والشهادة ما هي إلا إجازة الدولة لأحد من الناس أنه قد تحرَّر من طلب العلم والأدب على القيود التي تتقيد بها المدارس والجامعات في أنواع بعينها من الكلام، وأنه قد حصل في ورقة الامتحان ما فُرض عليه تحصيله بالذاكرة، ثم ترفع الشهادة يدها عن معرفة ما وراء هذا التحصيل وما بعده وما يصير إليه من الإهمال أو النسيان أو الضعف أو الفساد. فحين يغادر أحدهم الجامعة حاملًا شهادته مندمجًا في زحمة الجماعة تفقد الشهادة سلطانها الحكومي -أو هكذا يجب أن يكون- ولا يبقى سلطان إلا للرجل وأين يقع هو من العلم أو الأدب أو الفن؟ وهل أصاب أو أخطأ؟ وهل أجاد أو أساء؟ وهكذا فهو لا ينظر إليه إلا مغسولًا غفلًا من "مكياج" الدبلوم والليسنس والماجستير والدكتوراه .. وما إليها، وإذَن، فأوْلى ألا ينظر إليه عن شهادة قوم لم يكن سبيلهم إلى التحكم في أسواق العلم والأدب إلا الشهادات المستحدثة، والشهرة النابغة على حين فترة

معهد الصحراء بيت الحكمة

وضعف واختلاط وجهل كان في الأمة حين كان أقلُّ العلم وأشَف (¬1) الأدب يرفعان صاحبهما درجات من التقدير والإجلال والكرامة. إن هذه التجارة التي تقوم على استعباد العلم والعلماء والأدب والأدباء تجارة باغية ينبغي أن تَفْنى نخاستها وأن تغلق أسواقها، وينبغي أن يتحرر الأدباء والعلماء المستعبدون قليلًا من أغلال الضرورات المستحكمة ليحاربوا بغي هذه التجارة بالنبل والسمو والترفع، وليهتكوا تلك الأستار الحريرية الرفيعة المسدلة على بيوت الأوثان الجاهلية التي تستعبد الأحرار باستغلال ضراعة الضرورة والحاجة والفقر، ينبغي. . . وينبغي لكاتب هذا الباب الجديد في "الرسالة" أن يرفع القلم عند هذا القدر الآن، ويعود إليه بالتفصيل والبيان فيما يستقبل. معهد الصحراء بيت الحكمة كتب صديقي "إسماعيل مظهر" -في مقتطف يناير سنة 1940 - كلمة بليغة يصف فيها "رهين المحبسين"، محبِس الصحراء، ومَحْبس النسيان، وهو معهد الصحراء القائم على مشارف الصحراء المترامية، في "مصر الجديدة"، وقد شيده "الأسد المصريُّ" الملك فؤاد رحمة الله عليه من ماله خاصة، ليكون مأوى للعلماء الذين يدرسون طبائع الصحراء ومعادنها وأجواءها، ولكنه لم يتم بناؤه لما عرض من مرض الملك العالم ثم وفاته على شدة الحاجة الى جُرأته وإخلاصه وعزمه، وإنفاذ هذا العزم بالبصيرة والحكمة والمثابرة. وكنت كلما صحبت أخي "إسماعيل" لبعض الرياضة، تهاوينا إلى البيداء المقفرة الصامتة بأحزانها الحائرة، وسرنا نتقاوَدُ (¬2) في جوفها فترمى بنا أرُجلنا إلى بناء شامخ قد أقْعى على ربوة من الأرض كأنما يتجمّع للوثبة، ومع ذلك فأكاد أجد في سمعي بيان هذا الأعجم الصموت، وهو يُهمهِمُ بأنَّاته من ذلّ الوحشة والأسر والنسيان والخراب، فأنشد "إسماعيل" قول الرضيّ: ¬

_ (¬1) أشف الشيء: اليسير القليل منه. (¬2) نتقاود: يقود بعضنا بعضا قُدُما.

ولقد رأيتُ "بديْر هِنْدٍ" منزلًا ... أَلِمًا من الضَّرَّاءِ والحَدَثانِ أغضى كمستَمِعِ الهوانِ، تغيَّبَتْ ... أنصارُهُ وخلا من الأعوانِ وكان هذا البناء المسكين همةً من همم الملك النبيل -رحمه الله-. ولقد سمعت أنه قد أحاطه بما يزيد على عشرة أفدنة ليقوم فيها، وفي متنزهاتها، وليؤدي أهله إلى صحراء مصر المجهولة حقَّها من الدرس والكشف والاستنباط، هذا، وقد ضَرَع "إسماعيل" إلى خليفة "فؤاد" في ملكه وعلمه وعزمه وبصيرته، إلى "الفاروق" صاحب مصر الأعلى وحاميها وهاديها إلى الخير، أن يُتمّ ما بدأ الملك الأول من البناء، وأن يعيد لملكه الزاهر تاريخ العرب والعربية في عصر المأمون الذي أنشأ "بيت الحكمة"، وجعله مُسْتَقر النَّقَلة من العلماء الذين استوعبوا نقل حكمة "يونان" إلى اللسان العربي؛ فأسسوا للعلم ملكًا لم يطاوله في العصور إلا عظمة المأمون. . . قال: "ومعهد الصحراء -يا مولاي- عظيمٌ متسع الأرجاء اتساع العقل الخالد الذي فكر في إنشائه، فهل نطمع في أن يضم إليه بضعة علماء يقفون جهودهم على ترجمة علوم أوربا إلى اللغة العربية؟ وفي مصر -يا مولاي- علماء أقعدهم النسيان عن العمل ومنعهم الخجل عن السؤال، وعزّ عليهم أن يهينوا العِلْمَ باستجداء العطف. أَنطمعُ -يا مولاي- أن تفيضَ عليهم من فضلك الواسع ما يسدُّ حاجتهم من حطام الدنيا، ليكونوا نواة لبيت الحكمة في عهدك، فيتركوا للأجيال القادمة آثارًا لا يبزها من حيث الأثر في العالم العربي إلّا عظمتك، ولا يفوقها في الجلالة إلّا جلالتك؟ ". وكل أديب وعالم ومفكر في العالم العربي يضم صوته إلى صوت "إسماعيل" في هذه الضراعة النبيلة إلى "وارث مُلْك مصر، ومجد العرب"، ويستيقن في قلبه أن "الفاروق" سيحمي العلم والأدب بحماية ملكية ترفع عنه الظلم والاستعباد، وتحرر العلماء والأدباء من غطرسة الأدعياء المتشدقين بقليل العلم ومنقوص الأدب، مما أطاقوه وحملوه بفضل الرحلة إلى أوربا بضع سنين، تزودوا فيها بالمعاشرة والمخالطة -لا بالدرس والمثابرة- بعض ما جهله أصحاب

الشباب والسياسة

الفضل والعلم والأدب من قومهم لقعودهم بالضرورة والعجز عن مثل الذي ساروا إليه، وهم بالعلم والأدب أَقْوَم، وعليه أحرص، وطبائعهم إليه أشد انبعاثًا. الشباب والسياسة في يوم الخميس السالف (4 يناير سنة 1940) ألقى بهي الدين بركات باشا محاضرة عظيمة القدر درس فيها معنى "السياسة" وحق "الشباب" في المساهمة في أصولها وفروعها، ودافع عن حرية الشاب في أن يهتم "بالعمل العام الذي يتصل في وقت من الأوقات بتسيير دفة الحكم في البلاد". وهذا هو تعريف السياسة عنده، وبذلك يخرج منها النزاع الحزبي الذي شهدته السياسة المصرية خاصة، على وجه من التنابذ والتعادي والتسفيه والاعتداء على حرية الفرد وحرية الجماعة. فإذا أُخرج هذا الضرب من معنى السياسة أوجب العقل أن يكون لكل أحد الحق في أن يشارك أصحاب الرأي في آرائهم، بل إن الشعور بالحرية الفطرية توجب عليه أن يشارك بالرأي وأنْ يُضَحِّيَ في سبيل المبدأ الوطني العام الذي لا تقوم الدولة إلا بقيام معانيه في أعمال الأفراد والجماعات، وقد ناقش المحاضرُ جماعةً من الأساتذة ولكنهم في مناقشتهم كانوا لا يزالون متأثرين بالمعنى (المصريّ القديم) للسياسة، وغفلوا عن الغرض الذي رمت إليه محاضرة المحاضر في الفصل بين ما كان وما يجب أن يكون عليه معنى السياسة، وكيف يشارك الشباب فيها بالرأي والعمل. والسياسة -كما قال عزام بك في موقفه- لا يمكن أن تكون بحثًا فلسفيا مجردًا، لأن الإيمان بعقيدة ما يقتضي التضحية في سبيل الدفاع عنها، فإذا كانت السياسة عملًا قوميا يراد به المصلحة العامة ومجد الوطن، فهي أمر يستحق كل تضحية. وأما إذا صارت السياسة إلى المعنى الذي شهدناه في مصر من الخلاف الحزبي على مطامع الحكم فهي أمر لا يستحق أتفه التضحية. ونحن نعتقد أن الإنسان الحر لا يعرف معنىً لهذا السؤال القديم: "هل ينبغي أن يشتغل الشاب بالسياسة أو لا ينبغي؟ " فهو سؤال عليه سيمياء الذل والعبودية! إن كل أحد في مصر وغيرها من بلاد العالم -شابًّا أو شيخًا، غنيًّا

المرأة والرجل

أو فقيرًا- عليه دَيْن للأرض التي تَغْذُوه وتَعُوله وتُؤْويه وتمده وتحفظ له نسله جيلًا بعد جيل، وأداءُ هذا الدَّيْن لا يكون إلا عملًا في حفظها وحياطتها والمدافعة عنها بالسلاح والعلم والعمل والفكر والنفس، فإذا أخلَّ أحد بشيء من ذلك خان أمانة هذا الديْن وأسقط مروءته. وكيف يمكن أن يمتنع الشاب أو الطالب عن الاشتغال بالسياسة؟ أيمتنع عن قراءة الصحف والكتب لئلا يعرض له الفكر في ذلك والتمييز بين صوابه وخطأه والعمل على بيان مواضع الخطأ ومعاونة الصواب على الاستمرار؟ أم يقرأ أخبار الأمم وأحداثها فإذا أقبل على أمر بلاده طوى الصحيفة واستغفر؟ أم يقرأ ويقرأ ولا يكون إلا كالخزانة، يُلقِي فيها ما يلقي ليحفظ ويصان من لصوص الفكر التي يطلقها عقله في آثارها؟ أم يقرأ ويفكر، ثم يحبس آراءه بين جدران الجمجمة إلى أن يذهب بها الإهمال؟ وكذلك تضعف النفس وتصدأ وتتآكل، لأن الإيمان والعمل هما جلاءُ النفس وصقلها لتبقي أبدًا مشرقة. إن الشباب -ولابد- مشتغل بالفكر في السياسة، ونصرة مذاهب الحق فيها -كما هو- مشتغل بالعلم والأدب والفن، ولكن الإشكال كله في انفساخ القوة الخلقية التي يجب أن يقوم عليها العلم والأدب والفن والسياسة، وكل عمل فتربية الخلق أوَّل. ثم ارموا -بالشباب- حيث شئتم فإنهم عصام الشعب، وهم ذادة الوطن، وهم أصحاب المستقبل. المرأة والرجل لشدّ ما اجترأت المرأة في هذا العصر! ! وإذا أخذت المرأة أسلحتها -من الزينة والتطرية (¬1) والجمال والفتنة، وجيَّشت غرائزها- من الحذر والحيلة والضعف والإغراء، لم يبق للرجل إلا أن يستقتل أو يفر. . . وقد أقامت "وزارة الشؤون الاجتماعية" مناظرة بين الأستاذ "محمد فريد أبو حديد" والسيدة "زاهية مرزوق" وكان غرضها هو "كيف ننهض بالأسرة؟ ". والظاهر أن السيدة ¬

_ (¬1) التطرية: يعني بها الأستاذ: المكياج أو التواليت، وهي كلمة استحدثها انظر ص 199.

أبو العباس السفاح

الكريمة قد اعتقدت في قلبها معنى "حرية المرأة" بالإصرار والتعصب فأخذت تنتزع رجولة الرجل شيئًا فشيئًا حتى ليخيل لسامعها أنه مخلوق وحشي منطلق من كل قيود النبل، فهو عندها أناني لا يؤثر على نفسه، وهو معنى متجسم للفوضى في بيت الأبوة والأمومة، وهو جاهل متحامل على ضعف المرأة لا يرحمها ولا يحس بآلامها، وهو فاجر متوقح يستجر الأخطاء ويجنيها ثم يرمى المرأة بها وينسَلُّ منها. وأنا لا أريد الآن أن أدافع عن الرجل، ولكني أريد أن أسأل السيدة الكريمة ومن يذهبُ مذهبها من النساء: إذا كانت هذه صفة الرجل في أنفسكن، وإذا تحدثتن بمثله فبلغ الأسماع في بيوت العقائل، فوقع في آذان الأم والزوجة، والفتاة الجاهلة الطياشة، فاعتقدنه ومالت إليه أهواؤهن، فبأي عين تنظر المرأة إلى زوجها والفتاة إلى خاطبها؟ وأيُّ معاملة يلقاها الرجل بعدُ على أيديهن وبألسنتهن! كلا يا سيدتي، إن المرأة هي تجني أكثر الذنب فيما نعلم، ثم تتنصل، وهي كل الأنانية إلا أن يتصل أمرها ذلك بمصدر الأمومة في غرائزها، فهي عندئذ مثال الإيثار والتضحية، وهي صاحبة الفضائل كلها إذا أُثيرت أمومتها وإحساسها بالمحافظة على النوع الإنساني، وأما بغير ذلك، فهي المرأة بضعفها وأنوثتها وحاجتها إلى عون الرجل وتضحيته ورحمته. وليس للمرأة عمل إلا أن تعمل دائمًا على أن تجعل الرجل في عينيها تمام إنسانيتها، وبذلك تستصلح منه ما عسى أن يكون فاسدًا، وتتم ما وقع إليها ناقصًا، ويبنى البيت -بَيتهما- على أساس من القوة الداعية للبقاء، فمن الرجل الرحمة والإخلاص، ومن المرأة الاحترام والعفاف، ومنهما النسل الجميل المحفوف بالفضيلة من جميع نواحيه. أبو العباس السفاح لم تتسع كلمة هذا الأسبوع لتحقيق لقب السفاح أبي العباس عبد الله بن محمد أمير المؤمنين، فأرجأنا ذلك إلى العدد القادم ..

التقليد

التقليد لم أكد أفرغ من قراءة ما تيسر لي أن أقرأه في هذا اليوم وما قبله حتى عاودني الفكر في أصول ما قرأت من كلام الكتّاب والشعراء، ووقفت أستعيد في نفسي تلك التيارات الكثيرة التي تموج بنفوسهم من تحت اللفظ والعبارة والمعنى والغرض. ولقد ظننت -حين أقدمت على قبول كتابة هذا الباب من الرسالة- أن انبعاثي للكتابة وطول ممارستي لمادتها كفيلان بنهنهة النفس عن بعض ثورتها، ولكني أخطأت، فإن أكثر ما حملت نفسي على قراءته يكاد يؤرِّث النار كلما خبت، ويعيدها جَذَعة (¬1) كلما طفئت، ويدفعني إلى مثل الحريق من الألم والحسرة والغضب للأدب العربي أن يكون إلى مثل هذا الضعف والفساد والقبح مصيرُه وعقباه. إن أصحاب هذا اللسان العربي والناطقين به قد أصابتهم في عصور متتابعة مصائبُ الجهال والغفلة والضعف فتحطمت عروش الدولة في بلادهم كلها وعدا عليها كل عادٍ من ذؤبان الأمم فاستذلوهم وأخذوهم وفتكوا بهم وقَضْقَضُوا أوصالهم بالعنف والاستبداد تارة، وبالرِّفق والسياسة المتدجِّية، تارة أخرى. ثم جاءت أيام بعثت من تحت الليل جمرات تفرقت ثم اجتمعت ثم استطار شرارها فرمى في كل هامدة بعض الحياة، وكذلك ثارت أحلام النائمين بتحاسينها وتخاريجها وفنونها فانتفضوا يطلبون تحقيق أنوار لياليهم في سواد أيامهم، ولكنهم قاموا وهبوا على غير نظام ولا تدبير ولا تعبئة فانتشرت القوى الجديدة وتمزقت، فضعفت وأخفقت، ولم يكن منها ما كان يُرْجَى لها من الغلبة والظفر والسيادة، وبقي الضعف في هذه الأمم العربية هو عمادها وعماد أعمالها في عصر من القوة الأوربية الطاغية يمتد ويتراحب وينساح في الأرض كلها متدافعًا متدافعًا لا يقف ولا يفتر. ومن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أن انبعاثها إلى التقليد -تقليد القوي- أشد ¬

_ (*) الرسالة السنة الثامنة (العدد 343)، 1940 ص: 143 - 145 (¬1) جَذَعَة: عادت كما بدأت، ولا يقال ذلك إلا في الشر.

من انبعاثها لتجديد تاريخها بأسباب القوة التي تدفع في أعصابها عنفوان الحياة. والضعف يجعل محاكاة القوى أصلًا في كل أعماله. فلما فسدت قيادة أصحاب الرأي عند هذه الأمم الضعيفة، وكان لابد للمستيقظ من أن يعمل، كان عمل الأفراد متفرقين منسحبًا على أصلين: ضعفٌ أورثهم إياه ضياع كيان الدولة السياسي، وضعف كرثهم (¬1) به تفرُّق القيادة وشتات الأغراض، فلا جرم أن يكون كل عمل موسومًا بسمَةٍ من ضعفٍ مُظَاهر بضعف صاحبه، ولا جرم أن يكون أعظم أعمالنا هو تقليد أعمال الناس على الهوى والجهل والدهشة المتصرفة بغير عقل. هذا كل شيء تحت أعيننا وبأيدينا: بيوتنا، مدارسنا، أبناؤها، رجالنا، نساؤنا، علمنا، أدبنا، فننا، أخلاقنا. . . كل ذلك على الجملة والتفصيل قد وُسم بميسم الضعف والتفرق وانعدام التشاكل بين أجزائه التي يتكون من مجموعها معنى الأمة، وكلها تقليد قد تفرقت في جمعه أهواء أصحابه من هنا وهنا. والتقليد بطبيعته لا يتناول من الأشياء إلا ظاهرها، فكل مآخذنا من أجل ذلك ليست إلا مظهرًا. هذه المرأة -وهي فن الحياة الذي يَشْتهِي أبدًا أن يبدع حتى في الأذى- ما تكادُ ترَاها عِندَنا إلا دُمْيَة ملفّقةً من الحضارات وبدعها. . . ثيابها، زينتها، حليها، تطريتها (¬2)، شعرها، تطريف (¬3) بنانها، مشيتها، منطقها. . . كل ذلك أجنبي عنها متكلف منتزع من مظاهر غانيات باريس وعابثات هوليوود، ليس له من جنسها ولا أصلها شبَةٌ تَنْزِع إليه، وأسمَجُه أنه ملفَّق لا يتشاكل تشاكل المصدر الذي اجتلب منه بالتقليد. وهذا الكاتب وهذا الشاعر -وهما فن الحياة الذي يعمل أبدًا في تجديد معانيها بالتأثير والبيان- لا تجد فيما يكتب أكثرهم إلا المعاني الميتة التي نقلت ¬

_ (¬1) كل أمر أثقل الإنسان وشقّ عليه فقد كَرَثَه (من باب ضرب). (¬2) يعني بها الأستاذ "المكياج"، وهي كلمة استحدثها. (¬3) أراد بها "المانوكير"، وهي كلمة استحدثها الأستاذ، انظر ص: 199.

صورة النفس

من مكانها بالاعتناف والقسر فوضعت في جو غير جوها فاختنقت فمات ما كان حيا من بيانها في الأصل الذي انتزعت منه. وهكذا. . . هكذا كل شيء تأخذه العين أو يناله الفكر، إنما هو دعوى ملفقة وتقليد مُسْتَجْلَبٌ وبلاءٌ من البلاء. ولا نزال مقلدين حتى يستطيع الأحرار -وهم قلة مشردة ضائعة- أن يبسطوا سلطانهم على الحياة الاجتماعية كلها، ويردوا إلى الأحياء بعض القلق الروحي العنيف الذي يدفع الحي إلى الاستقلال بنفسه والاعتداد بشخصيته، والحرص على تجديد المواريث التي تلقاها من تاريخه، ويغامر في الحضارة الحديثة بروح المجدد لا بضعف المقلد، فعندئذ ينتزع من الحضارة الأسباب التي تنشأ بقوتها الحضارات، ولا يكون موقفه منها موقف المسكين الذليل المطرود من المائدة. . . ينتظر وفي عينيه الجوع ليتقحَّم من فتاتها (¬1). صورة النفس عرضت لي مقالة في مجلة الثقافة عدد (54) عنوانها "الأدب صورة النفس" كتبها الأستاذ "محمد مندور"، وقد استوقفني عنوانها قبل أن أقرأها، لأن هذه هي الحقيقة التي نقولها ولا نصل فيها إلى حق. وقد تغاوى (¬2) النقاد عليها ومع ذلك فما تظفر من أقوالهم إلا بالمُبهم بعد المُبهم، ولا نجد لأكثرهم شرحًا لها يفي بمدلولها أو بسرها أو يزيل الإبهام عن مسالكها. . . يقول الأستاذ: "وإذن، فالآثار الأدبية والفنية تطلعنا بغير تحفظ على أسرار واضعيها النفسية بأسلوبها الخاص. . . ونحن نقصد بذلك إلى البحث عن نفس الكاتب والشاعر في تضاعيف ما يكتب. . . وعمل الناقد إذن عمل كشف عن أسرار لا تقع تحت البصر لأول نظرة، وسبيله إلى ذلك لا يمكن أن يكون إلا حسًّا باطنيًّا ترهفه التجارب والمعرفة الطويلة بمختلف النفوس. . . .". وكل هذا جيد من القول، ¬

_ (¬1) تَقَحَّم الأمر: رمى بنفسه فيه على غير رويّة. (¬2) تغاوى النقاد عليها: أي تناولوها واحدا بعد الآخر، وتقال أيضًا بالعين المهملة.

أبو العباس السفاح

وهو كالشرح على عنوان المقالة. ولكني رأيت الأستاذ ينظر في آثار أدبية لأستاذين جليلين هما: أحمد أمين وطه حسين، وشرع يتكلم عن بعض آثارهما. تكلم عن مقال "في فيض الخاطر" هو: (صديق). فإذا كل الذي قاله وصف يمكن أن يقع على كل كلام، فيقول: "سترى كيف حطم الأستاذ هذا الصديق، فرده إلى عوامله الأولية؟ وقد تقاصرت جمله متجاوبة كأنها ذرات مادية نتجت عن هذا التحليل". . . والنتيجة! والنتيجة أن الأستاذ أحمد أمين أو أسلوبه أسلوب تحليلي، وفيه قوة مخيفة! والأستاذ طموح متقلقل في شتى السبل، لأنه كتب عن الشمس وعن الليل، يستقرى ما يجوب في ظلام الليل، وما تغدقه الشمس؛ ولا يصف جمالها أو وحشته! وهكذا، ولا أدري كيف أستخرج شيئًا من كل الذي كتبه يدل على الذي أراده مما نقلناه آنفًا؟ ولا كيف عمل هو في الوصول إلى هذه الأحكام التي دمغ بها الآثار الأدبية وأصحابها؟ ولا كيف كان عمله في التحليل النفسي الذي أحس به إحساسًا باطنيًّا! ! إنه لابد لمن يتناول مثل هذا الموضوع أن يفصل القول، فلا يجمله، لأنه بلا شك موضوع جليل، والكلام فيه سلوك في مجهل غامض يحمل على الإبانة والإيضاح، وإلا كان الكلام فيه على هذا تقصيرًا لا ينفع، ويكون أنفع منه أن يترجم لنا الأستاذ كلام النقاد الأوربيين الذين مارسوا هذا العمل وأفرغوا له أوقاتهم واستوعبوا الأصول التي يُسَار عليها في معالجته، وكذلك تتم خدمته للأدب والأدباء. . . أبو العباس السفاح (¬1) كنت أحب أن أستوعب في هذا التعليق كل الرأي الذي عرض لي في أمر أبي العباس السفاح أمير المؤمنين، ولكني رأيته قد خرج عن أن يكون من مادة هذا الباب، فلذلك اقتصرت على أشياء أرجو أن تعين الأستاذ العبادي في تحقيقه الذي بدأه، وعسى أن يكون في هذا القول بعض الصواب الذي يسعى إليه. ¬

_ (¬1) انظر أول الحديث عنه ص 56.

فمن ذلك أن أبا العباس السفاح، وأبا جعغر المنصور أَخَوان وليا الخلافة العباسية لأول أمرها، وكان أبو العباس أصغر من المنصور بعشر سنين، وأن اسم أبي العباس وأبي جعفر في نسبهما هو "عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس"، فأبو العباس هو "عبد الله الأصغر"، وأبو جعفر هو "عبد الله الأكبر". فإذا كان ذلك كذلك، وأبو جعفر قد لقب بالمنصور وأن الذي لقبه بذلك أبوه فيما نعلم، فلا غَرْو أن يكون أبو العباس كذلك ملقبًا، وأن يكون أبوه قد لقبه كما لقب أخاه. وإذا كان أبو العباس "عبد الله" هو الأصغر فالتلقيب هو أولى به للتفريق بينه وبين أخيه أبي جعفر "عبد الله" وهو الأكبر الذي ولد أولًا وسمى "عبد الله" من قبله، ويؤكد أمر هذا التلقيب سيرورته بعد في خلفاء بني العباس جميعًا إلى انقضاء دولتهم، فكأنه كان من "تقاليدهم" وتعاليمهم. وأيضًا فإنه قد وردَ في الحديث عن أبي سعيد الخُدْري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يقال له (السفاح) يكون عطاؤه للمال حَثْيًا"، وأئمة الحديث لا يصرفون هذا الاسم إلى أبي العباس، وإنما هو نبوءة كبقية النبوءات التي وردتْ في القرآن الكريم والحديث النبوي لا يدرى تأويلها إلا أن تكون. . .، ولكن الدعوة العباسية فيما يظهر قد جمعتْ بين هذا الحديث وأحاديث أُخر هي من باب النبوءات أيضًا وجعلت منها حديثًا اتخذته في الدعوة إلى إقامة الخلافة في بني العباس، فكانوا يروون للناس عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "والله لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لأدال الله من بنى أمية، ليكونن منا السفاح والمنصور والمهدي"، وهم الخلفاء العباسيون الثلاثة على التتابع. ولا شك في أن هذا كان قبل قيام الدعوة بالفتح بزمن طويل. فلعل الإمام "محمد بن علي" قد لقَّب ولديه بهذين اللقبين تفرقة بينهما، وتفاؤلًا بالذي يروون في أحاديث الدعوة العباسية. وإذا كان ذلك كذلك فمعنى اللقب إذن ليس من "سفح الدم" -وهو بهذا المعنى مجاز مقصورٌ لغرض بعينه- لكنه من الكرم والعطاء والبذل كما ورد في الحديث الذي سقناه آنفًا من أن "عطاء السفاح للمال حثْيًا" لأنه لا يصح في

العقل أن يلقب أحد ولده بهذه المذمة القبيحة وهو ينصبه للناس خليفة، وقد لقب أخوه من قبل بالمنصور. نعم قد سمت العرب في جاهليتها بالأسماء المنكرة، ولكن الإسلام جاء فحسم ذلك كله، ولم يبق من التلقيب والتسمية بالمنكر من الألفاظ شيء في أكثر البادية العربية، فكيف في الحضر ثم في أعظم بيوت الحضر، وهو بيت العباس؟ وقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة فهو قد غير أسماء كثير من الوافدين عليه من أصحابه "كزحم بن معبد" فسماه بشيرًا، وجميلة امرأة عمر بن الخطاب وكان اسمها "عاصية" وخلق كثير. وعلى هذا الأصل نرى أن الناس في صدر الإسلام سموا "السفاح" فمنهم: السفاح بن مطر الشيباني، وهو ممن ولد في النصف الثاني من المائة الأولى للهجرة وكان من أصحاب الحديث، والسفاح أخو أبي سلمة بن عبد الرحمن الزبيدي لأمه وهو من التابعين، وقد روى عن أبي هريرة وغيرهما. ولا شك أن التسمية هنا منصرفة إلى المدح لا إلى الذم، فصفة أبي العباس السفاح هي إلى العطاء والكرم كما ذهب الأستاذ العبادي أولًا، ثم رجع حين تعقبه الأستاذ أحمد أمين. أما النص الذي نقله الأستاذ عن اليعقوبي من أنه قال: عبد الله بن علي الأصغر وهو السفاح"، وهو عمّ أبي العباس والمنصور، فإن أصله منقول من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولاد علي بن عبد الله بن عباس فقال: "عبد الله بن علي الأكبر. . . وعبد الله بن علي الأصغر السفاح الذي خرج بالشام"، فهذا هو الأصل ولا يرى فيه إرادة التلقيب كالذي يرى من نص اليعقوبي، وإنما هي صفة كالسفاك والقتال. نعم، وأنا لا أدري كيف ادعى الأستاذ العبادي أنه اشتهر بذلك فانتقلت هذه الصفة إلى أبي العباس أمير المؤمنين، فإن الطبري وأئمة المؤرخين قد ذكروا عبد الله بن علي عم أبي العباس وأبي جعفر في أكثر من خمسين موضعًا ولم يلقبه أحدهم بهذا اللقب، فكيف يمكن أن ندعي أنه اشتهر به حتى كان من جراء هذه الشهرة أن اختلط على الناس وعلى الأدباء وعلى فلان وفلان كالجاحظ وابن قتيبة فوضعوا صفة "عبد الله بن عليّ" صفة "لعبد الله بن محمد" على قرب العهد. وكيف جاز أن يقع في ذلك الجاحظ في روايته، وهو أدق العلماء

رواية، وهو الذي رد أكثر رواية الهيثم وابن الكلبي وغيرهما من أصحاب الأخبار؟ وخبره الذي رواه وذكر فيه السفاح في البيان والتبيين ج 1 ص 93 أخبره به "إبراهيم بن السندي" وقد قال فيه ج 1 ص 326: "وكان إبراهيم بن السندي يحدثني عن هؤلاء بشيء هو خلاف ما في كتب الهيثم بن عدي وابن الكلبي، وإذا سمعته علمت أنه ليس من المؤلف المزور، وكان عبد الله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم. ومن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي، فأما نصر فكان صاحب أخبار وأحاديث، وكان لا يعدو حديث ابن الكلبي والهيثم، وأما إبراهيم فإنه كان رجلًا لا نظير له. . . وكان. . . وكان. . . من رؤساء المتكلمين وعالمًا برجال الدعوة وكان أحفظ الناس لما سمع وأقلهم نومًا وأصبرهم على السهر". فرواية الجاحظ فيما نرى أقوم من رواية غيره، وهي دليل على صحة الصفة التي وصف بها أبو العباس أمير المؤمنين، والجاحظ قد أدرك صدر الدولة العباسية، ولم يكن بين مولده ووفاة أبي العباس السفاح كبير دهر حتى يكون ممن يختلط عليه الحق في مثل هذا الأمر، وبخاصة وهو يروي ما يروي عن الثقات في معرفة أخبار رجال الدولة. أما سكوت الطبري وغيره -من متأخري المؤرخين عن صدر الدولة العباسية- فليس يعد دليلًا على بطلان هذا اللقب. وإن دل على شيء فربما دل على أنهم جانبوه وتباعدوا عنه وتركوه لما كان قد انتشر في عصرهم من معنى السفاح على أنه السفاك للدماء، وخفاء معنى هذا اللفظ الأول وهو الكريم الباذل الفياض الذي يكون عطاؤه للمال حثيًا. هذه كلمةٌ صغيرة إلى الأستاذ العباديّ أرجو أن أكون قد بلغت بها بعض رضاه في التعقيب على رأيه الذي انتهى إليه ووقف عنده. ولعله يعود إلى الذي كتبه فإن له بالعلم بصيرة نافذة مسددة إن شاء الله.

العيد

العيد أيتها الأيام السعيدة الهاربة من عمل الدنيا ببراءتها من الشقاء، أيتها الأيام الصغيرة المتلألئة في ظلام الزمن بأفراح السعادة، أيتها الأيام الذاهلة عن معاني الآلام! أنت هكذا أبدًا، وهكذا أبدًا تعودين. . . ولكن هل تستطعين أن تمنحي الناس جميعًا بعض سعادتك وأفراحك ولذاتك البريئة؟ هل تستطيعين أن تمنحي العقول المتغَضِّنة من الهم والكِبَر أفكارًا غضَّة ناعمة كأحلام العذارى؟ الحرب كانت أيام العيد هدنة سكنت فيها الأخبار المحاربة بمعانيها في أذهان الناس وعواطفهم، وانقطعت الصحف الأخبارية أيامًا عن الظهور، فانقطع أكثر الحديث عن الحرب المخيفة بأوهامها قبل حقائقها، وهدأ الناس. أذكرتني هذه الأيام المسالمة بتأثير الحرب في الأدب، وحملت إليّ صورًا كثيرة مما قرأت في الصحف والمجلات الأدبية، ولا أدري، فيخيَّل إليّ أن المجلات الأدبية منذ بدأت الحربُ إلى اليوم قد أفرغت كثيرًا من صفحاتها للحرب، وشرحت صدرها لكثير مما يتعلق بها، ومع ذلك لا أكاد أجد إلا القليل من هذه الأحاديث يصلح أن يكون من أغراض المجلات الأدبية، وإنما هو بأغراض الصحف اليومية الأخبارية أليق وألصق. ومن الوهم المتفشِّي أن يدّعي مدع أن أثر الحرب لابد أن يكون كذلك، وأن مثل هذه الأحاديث هي سمة الحرب على أدب الأدباء، فإن أثرها في فكر العامة لا يكاد يخرج عن مثل ذلك. أما أثرها على الأدباء فهو أشد تغلغلًا في طوايا النفس، وأشد هزًّا لعواطف ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 343) 1940، ص: 181 - 183

الإنسانية. فإذا أقررنا أن الحرب إنما تتدافع في صدور الأدباء والشعراء ورجال الفن لتكون كالتيار الذي يتدافع بالبحر فينشئ له الأمواج المتصارعة المتدفقة مخافة أن يركد فيأسن، لم نجد بُدًّا من اعتبارها كالمدد للمعاني الخائفة التي تنزوي في كهوف النفس الإنسانية السامية الطامحة، تجرّؤها وتذمرها وتؤلبها من هنا وهنا لتتعارف وتتساند وتندفع إلى غمارها مجدة إلى المثل الأعلى الذي هو أحلام النفوس الرفيعة الدائبة أبدًا إلى الأغراض النبيلة. فإذا كان ذلك كذلك، فأثر الحربِ إنما هو تنبيهٌ للمعاني والأغراض التي تحيك في صدور الأدباء والشعراء، وتطريقٌ للمسالك الغامضة التي يراد منهم أن يمهدوها ويكونوا أدلاء للناس في مجاهلها ومنكراتها. إن الصحف اليومية الأخبارية عليها أن تمد الناس بأخبار الحرب وصفاتها وصفات بلادها المتحاربة، وعواقبها الدانية أو البعيدة لأحداثها، ولكن مهمة الأدباء الذين يمارسون تحرير المجلات الأدبية أن يتعقبوا مَعاني أسْمَى من هذه المعاني المبتذلة التي توضَعُ عن أفكار الناس حين تضع الحرب أوزارها، عليهم أن يسبقوا أحداث الحرب بتمهيد جديد إلى حياة أخرى تبرأ من الغرائز الدنيئة التي دفعت العالم إلى هذا الشر البغيض الذي لا غرض له إلا استبداد السلطان، واستعباد الناس بعضهم لبعض. وإذن فهم -لابد- يبحثون عن العلل والأمراض التي داخلت المدنية الحديثة، فجعلت قوة الافتراس فيها هي الأصل الذي بنيت عليه عقائدها وأعمالها، غير متحيزين إلى فئة بعينها، فإن الأسلحة المشرعَة الآن في جميع الصفوف لن تعرف بعدُ معنًى إلا معنى الحرب وحدها بوحشيتها وجوعها وقرمها. . . لن تعرف إلا الدَّمَ وشهوة الدم، وتنقرض العواطف الرقيقة التي تملأ النفس ورعًا وتقوى وحنانًا. وإذا استبان لهم مكنون هذه العلل استطاعوا أن يمهدوا السبيل للحياة الجديدة المبرأة من أسبابها الباغية، فمنعونا شرها ثم شر الآثار والعواقب التي تأبى شياطين الحرب إلا أن تزينها للباقين والناجين من أحلاسها (¬1). ¬

_ (¬1) أحلاسها: شرورها اللازمة. المفرد: حِلْس، وأصله كساء يوضع على ظهر الدابة، فهو ملازم لها أبدًا، فقيل للفرسان المقاتلين الذين يلزمون ظهور خيولهم: أحلاس الحرب.

العقل المصري! !

هذا هو عمل الأدباء والشعراء على الاختصار والإجمال. أما أن يتوهم متوهم أن أثر الحرب إنما يكون إذ يلوك أخبارها وأحداثها ويمضغها في لفظه وعبارته مضغ الكلأ، فذلك شيء لا يقع عليه إلا عقل العامة الذين لا ينفذون في المعاني إلا على الوهن والضعف والفساد. إن أفكار الأدباء التي تسمو بألفاظها ومعانيها سمو الروح بين خوافق السماء، وإن أحلام الشعراء التي تختالُ في زينتها رقيقة ناعمة أو ثائرة مُتفجرة -هي أحبُّ إلى نفوس الناس في زمن الحرب، لأنها تنفيس عنهم من كرب الحروب، وإخراج لهم من حمأة الدم الذي ينشر رائحته مع كل نَفَس، ثم هي التمهيد الصحيح لتهذيب النفس الإنسانية وتربيتها والتسامى بها عن المعنى الحيواني الضاري الذي تنشّئه الحروب في مهد من الأشلاء والدم. العقل المصري! ! كتب الأستاذ (محمود المنجوري) كلمة في السياسة الأسبوعية (155) يريد أن يكشف بها عن (طبيعة العقل المصري، ومدى تأثرها بالانقلابات) الاجتماعية أو السياسية أو الدينية. وساق حديثه فيها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية. ونحن نتجاوز عن بعض الخطأ الذي وقع الأستاذ فيه عصبيَّة للعقل المصري كما يسمّيه، كدعواه أن إنشاء الأزهر كان نتيجة للأسباب الفكرية والاجتماعية والروحية -التي نشأت في مصر فيما يرى- فأريدَ إقامة الدعوة الفكرية المتميزة عن صواحباتها في سائر العالم الإسلامي بإنشاء هذا المعهد العلمي العظيم. ولا شك في أن هذا تأويل غير جيد لحقائق التاريخ، فإن الفاطميين هم أنشأوا هذا المسجد الجامع لأول فتحهم لمصر، ولم يكن للعقل المصري إذ ذاك كبير شأن ولا صغيره في دفع الفاتحين إلى إقامة هذه العمارة في مصر، وإنشاء الأزهر كان لغرض في نفس الفاطميين أصابوه أو أخطأوه. . . فليس ذلك من شأننا هنا. وأيضًا فأنا إلى اليوم لا أكاد أعرف شيئًا يمكن أن يسمى "العقل المصري" أو "العقل الإنجليزي" أو "العقل الفرنسي" وهلم جرّا، حتى يوضع في كفة

وحده أعدت له في موازين العقول، وليس قيام المدنيات بأجزائها على "العقل" حتى يمكن أن يقال إن العقل المصري هو الذي استطاع أن يبقى خالدًا والمدنيات من حوله تفنى وتبيد. حقًّا إن مصر -وغير مصر من الأمم التي كانت منزلًا لمدنيات كثيرة متباينة- قد احتفظت مع هذه المدنيات بأشياء امتازت بها، ولكن هذه الأشياء المميزة لم يكن مرَدُّ أكثرها إلى العقل بل كان مردها إلى الطبائع التي أنشأتها إرادة الإقليم المسيطرة على الطبائع الإنسانية، وإلى العادات المتوارثة التي لم تقاومها هذه المدنيات مقاومة الحرب والإبادة، فلذلك بقيت هذه المميزات قائمة سائرة متعارفة، فيخيل لبعض من لم يَغُرْ إلى أعماق هذه المخلفات أنها ظواهر عقلية مع أن الحق غير ذلك. . ونحن نجد الجنس من الناس ينزل أرضًا غير أرض، فما يمضي الجيل أو الجيلان حتى تفنى المميزات الجنسية في نسلهم من أبنائهم وأحفادهم، ويبدأ الوطن الجديد بطبيعته المستبدة في تحويل هذا النسل إلى طبائعه التي تلائم تربته وسماءه وجوه وحاجات سكانه، فكذلك المدنيات إذا نزلت أرضًا خضعت لما يخضع له الإنسان الحي المتحدر من أصلاب قوم غير سكانه الأوائل، وجعلت تتميز بضرورات الإقليم الطبيعية. ولماذا يريد كثير من الكتّاب أن يجعلوا عقول أممهم بدْعًا في العقل الإنساني؟ لا أدري، وما يكاد يدري أحد من هؤلاء ما هو العقل، وكيف يتميّز في الإنسان، أو كيف يتبيَّن في الأفكار أو المدنيات مكان العقل من مكان غيره من الغرائز والطبائع والدوافع وما إلى ذلك من الأشياء التي تشترك في نتاج الفرد ثم في إنشاء المدنيات الاجتماعية؟ ولو استطاعوا لأبانوا لنا -على كثرة ما يقولون- عن موضع واحد يقولون فيه هذا "صنع العقل" الفلانِيّ. إن العقل المصري كغيره من العقول يقبل كل شيء، ولكن طبائع الإقليم تريد أشياء وتنفي أشياء لأنها لا تستطيع البقاء في سلطانها. إن جوهر الأشياء كلها لا يتغير في العقل بعد العقل، ولكن الأعراض هي التي يصيبها التبدُّل والتغيير لأنه من طبيعتها أوّلُ، ولأن العقل لا يعمل فيها عملًا إلا للتدبير والتصريف وحسب.

المنطلق

وقد عرضَ الأستاذ (المنجوري) في مقاله هذا إلى عهد الاحتلال وما صنعت سياسته في أخلاق مصر وتعليمها، وكيف حطم بجوره وعدوانه كل الصلات القوية التي يعتمد عليها ترابط الكيان الاجتماعي، فتمزقت الجهرد المصرية في الإصلاح، واستبدَّت الشهوات الجارفة بأخلاق الطبقات كلها، ففشل الاجتماع المصري في إرادته، وقام على أساس فاسد من الأخلاق حتى صار أكثر ما نرمي إليه غرضًا فرديًا لا قيمة له في البناء الاجتماعي، ومن هنا استبد المستبد وصارت السيطرة الفردية في كل أعمالنا هي المبدأ، فلم يقم بيننا التعاون على أساس صحيح، وكذلك تنازعت الشهوات أعمالنا فصار الآخر بأنانيته يريد هدم عمل الأول لينفرد بأحدوثته وَصِيته، كالذي رأيناه في الحكومات الكثيرة التي تعاقبت على الدولة المصرية فشرعت ووعدت وبدأت وسارت، ثم جاءت أختها من بعدها لتقف كل ذلك وتبدأ من جديد بلجانها وتقريراتها واقتراحاتها، تريد أن تخالف وأن تنشئ وأن توجد، ثم هكذا دواليك حتى غدت وعود الحكومات عند المصريين خاصة والشرقيين عامة إلى مثل التي يقول فيها كُثَيِّر عزَّة: تَمَتَّعْ بها ما ساعفتك، ولا تكن ... عليك شجى في الصدر حين تبينُ وإن هي أعطتك الليان، فإنها ... لآخرَ من خُلّانها ستلين وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمَخْضُوبِ البَنَان يَمينُ فهذه أمراض وأوبئة لا تزال تنتشر، ولابد من مكافحتها مكافحة صارمة بغير هوادة. فهل في الذين يصير إليهم السلطان الوازع العامل من يستطيع أن يتجرد لمكافحة هذه الأوبئة، ولو كان في كفاحها كفاح لنفسه وشهواته وأغراضه؟ هل تجد مصر أخيرًا طبيبها المغامر؟ ليتها تجد. . . المنطلق قرأت في العدد 341 من "الرسالة" أغنية -أو هكذا سمّاها صديقنا- بعنوان "الناى". قال الأستاذ بشر فارس: وهي على بحرين مختلفين رغبة في

تنويع مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه: "فاعلاتن مفاعلتن" مرتين وليكن اسمه "المنطلق" انتهى. وصديقنا بشر شخصية جوالة في معاني الدعَة والرقة واللطف والظرف والابتسام والمرَح، وسائر هذه الكلمات الراقصة بألفاظها قبل معانيها. وهو كالبحر الذي زعم أنه اخترعه وسماه "المنطلق". . . فهو منطلق في كل أشياء الحياة بأحلام كأحلام الليل جميلة هادئة ساكنة. . . ولكن إذا فجأها النهار تطاردت له هاربة وقد تركت آثارها أخاديد نديّة كذكريات الحبيب الهاجر في قلب العاشق. . . وهذا البحر "المنطلق" كما يسميه، قد أرسله على مثل هذه الأبيات: "جَنِّبوا الناي عن أُذني ... أُذُني زلزلتْ طَرَبا مثلَ قلب تُحَدِّثهُ ... سرَّه السرْدُ فاضطربَا" وقد زعم "بشرٌ" أنه وضعه، ونحن نُسلِّم لبشر ما يقول، ولكن أصحاب العَروض هم أبدًا كبحورهم لا يهدأون، فقد زعموا أن الأخفش قد تدارك على الخليل بحرًا سموه "الشقيق" يزعمونه أخا "المتقارب"، وسموه المحدث والمخترع والخبب إلى غير ذلك وعُرف عندنا باسم "المتدارك" -أي الذي تداركه الأخفش على الخليل بن أحمد- وأصل تفاعيله عندهم: "فاعلن، فاعلن، فاعلن، فاعلن" مكررة، وله عروضان تامة ومجزوءة، فالعروض المجزوءة هي: "فاعلن، فاعلن، فاعلن" مكررة. وهذه العروض المجزوءة من بحر المتدارك، هي زنةُ شعر بشر قد دخلها من رِقَّتِه ما جعلها تتأوّد عند قوافيها لتستريح؛ فالبحر ليس إذن "منطلقًا"، ولكنه "خليع المتدارك". وسائر أبيات القصيدة في قوله مثلًا: "أوتار الخاطر تغمزها ... أَنَّاتُ الناي فترتجف" هي أيضًا من عروض المتدارك التامة دخلها التشعيث والخبن كقول ابن حَمديس:

صادَتكَ مَهاةٌ لم تُصَدِ ... فلواحظُها شركُ الأسَدِ من توحى السِّحر بناظرة ... لا تنفثُ منه في العُقد هذا في مخترع "بشر" ولكن ما بال هذا الصديق يريد أن يزلزل أذنه، ونحن لم نفرغ بعد من حديث الزلازل التي هدمت ما هدمت في الأناضول، لماذا أيها الصديق؟ ولماذا تريدنا أن نشعر أن أذنك وحدها -دون سائرك- هي التي تطرب، ولا يكون طربها إلا زلزلة. كفي. . . كفي، فإني إذا نقدت "بشرًا" فلن أجد الراحة بعد، وإن كنت أظن أني لم أفهم الشعر كله جيدًا. . . فلعله شعر جديد، والجديد على من بدأ الشيب يغزوه يبليه ويخيفه فينتشر عليه فهمه فلا يفهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . .

الغذاء العقلي والروحي للشباب

الغذاء العقلي والروحي للشباب ألقى الدكتور طه حسين في قاعة الجامعة الأمريكية كلمة أُريد عليها، كما قال في أول كلامه، فاستغرقت هذه الكلمة من الوقت ساعة أو أشفَّ قليلًا، افتتحت بالتصفيق الشديد للدكتور طه حين خرج على الناس ليتكلم! ! ولستُ هنا في مقام التلخيص لهذه الكلمة، ولكني بالمكان الذي يجب عليَّ فيه أن أشقّ للقراءِ موضع الرأي الذي ينبغي لهم أن يشغلوا أفكارهم به ولو ساعةً من نهارٍ، كما شغل الدكتور طه سامعيه ساعةً من ليل يوم الإثنين 29 يناير سنة 1940. وليس في القراء الذين يعرفون الدكتور طه من يجهلُ أن أوّل ما يتكلم به الدكتور إِنْ هو إلا أن يجعل مَردّ كل شيء إلى "يونان" ومدن يونان. . . فلا شك إذن في أن أول نظام عرف للغذاء العقليّ والروحيّ للشباب، إنما كان في المدن اليونانية والحضارة اليونانية والعقلية اليونانية! ! فهذا شيءٌ مفروغٌ منه قد جعله الدكتور طه مذهبًا لا يحيدُ عنه، وأسلوبا لا يسلُك غيرَه، ولا بأس بذلك. . . فأنا أعتقد أن اختلاط المدنيات المتعاقبة على الأزمان المتقادمة، قد جعلت لصاحب الرأي سعةً يذهبُ فيها حيث يشاء. فلو قلت أنا مثلًا: إن أول نظامٍ عرفه التاريخ لتنظيم الغذاء الروحي والعقلي للشباب، إنما كان بالصين، وقد فصَّله لنا ما بقي من آثار "كونفوشيوس" فيلسوف الصين الأكبر، لوجدت من الدليل ما أستطيع أن أقيم بها عِوَجَ الرأي، وأردُّ به على مخالفيّ رد إِلزامٍ وخضوعٍ. . . وكيف لا أستطيع ذلك وفي كل كلمةٍ من كلام هذا الفيلسوف العظيم توجيهٌ لقوى الشاب الصينيّ إلى الخير المحض، وهو الذي يقول: "من حق الشاب أن ننظر إليه بعين الاحترام، فما يدرينا أن علمه في المستقبل سيكون فوق علمنا في الحاضر؟ أمّا من أسند في الأربعين أو الخمسين من عمره ولم يشتهر بعلمٍ من العلوم، فلا يستحق أن ننظر إليه بعين الاحترام". وقد جَعَلَ كل جهده في تدبير شؤون الدولة الصينية، يقول: "إن الاضطراب قد مزّق البلاد بالفوضى، فمن ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 344)، 1940، ص: 222 - 224

الدولة والثقافة

الذي يُعيدُ نظامها"، "لا يمكن أن أعاشر الطيور والوحوش. . . وإذا أنا لم أعاشر هذه الأمة، فمن أعاشر؟ لو كانت البلاد تحت سياسة عادلة لما كنت في حاجة إلى أن أُحاول إعادة نظامها". . . هذا وغيره من تاريخ الأمة الصينية وتاريخ فيلسوفها يعلمنا أن أول نظام كان إنما كان بالصين، فإن شئت أن أقول الهند وأسوق الدليل فعلت. فأنت ترى أن المذهب يتسع في الحضارات القديمة لكل رأي يحتمل به صاحبه إن شاء. واليونان من الأمم القديمة ذات الحضارات القديمة، وإنما نفَعَها وجعَلَها مثابة لبحثِ كلُّ باحثٍ يريدُ أن يردَّ إليها مذهبًا من المذاهب، بقاءُ كثير من آثارها. ثم قيام أوربا الحديثة بإحياء ما طَمّ عليه الزمن من مدنيتها، وأخفى أمر الحضارات الأخرى ضياع أكثر آثارها أو بقاؤها في قبر من الإهمال والنسيان، وهمود النشاط في البلاد الشرقية التي هي أحق بإحياء آثارها. هذا قليل من كثير يمكن أن يقال في مثل هذا الأمر من أمور التاريخ القديم. وبعد هذه المقدمة، ساق الدكتور طه حديثه ببراعته التي لا يستعصى عليها غامض ولا بعيد ولا متشامخ. وأنا وإن كنت أظن أن الدكتور طه لم يوفق في كلمته كل التوفيق ولم يمس أغراضها إلا مسًّا رفيقًا غامضًا بعيدًا، فإني أعترف بأنه قد استطاع بحسن تحدُّره في المعاني أن يثير من الآراء ما يجبُ أن يُثَار في أفكار هذا الجيل، حتى يمكن بعد ذلك أن نستصلح من أمورنا ما أفسده طغيان الجهل واستبداد الحاكمين، وتوالي المصائب المرهقة على شعب نائم لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أسبابها، ولا أن يذودَ الوحوش الضارية التي فَرَضَتْ عليه بالاستعباد أقسى ما يمكن أن تبتدعه من ضروب الفتك والعدوان. الدولة والثقافة فأهم ما تناوله الدكتور في حديثه هذا هو بيانُ موقف الحكومة من الأمة التي رضيتها أن تقبضَ على زمام الأمر فيها تصرفه بما ينفع الناس ويزيدهم قوة على قوتهم. فالأمم كلها قد أسلمت إلى حكوماتها أمر القيام على الثقافة والتعليم، وأعطها من حُرِّ مالها ما تستطيع أن تنشيء به نظامًا كاملًا للتعليم يكون فيه رضى

الأغنياء والفقراء

الشعب وحياطته وتوفير أسباب النهوض العقلي له، وحماية أفراده من أمراض الجهل وأوبئته التي تهد قوى الشعوب وتفتك بالعقول التي خلقها الله لتعمل في تدبير الحياة الإنسانية للوصول بها إلى الكمال الممكن على هذه الأرض. وإذا كانت الحكومة -أو الحكومات- تأخذ من الشعب الأموال المتوافرة الكثيرة بالضرائب التي تفرضها عليه في كثير من مرافق حياته كتجارته وزراعته، لتتخذ هذه الأموال في تدبير الجيش وإعداده وتسليحه وتقويته ليدفع عن الأمة شر المطامع الأجنبية التي لا تلبث أن تغزو البلاد إذا وجدت منه ثغرًا مُضاعًا تنفذ إليه منه، فمن العبث أن تهمل شأن الفرد الذي يقوم به معنى الجيش، والذي هو المدد الأول للجيش بروحه وعقيدته وفكره وقوته. فالجيش الذي يتكون ويتجمع من شعب جاهل معذب بالجهل محطم بالضعف العقلي والخلقي، لا يمكن أن يكون جيشًا مؤتمنًا على ثغور البلاد يحميها من غوائل الحروب. الأغنياء والفقراء وإذا كانت الحكومات جميعًا لا تفرِّقُ في إمداد الجيش بين طبقات الشعب كلها ناظرة إلى الغني والفقر، فمن الخطل الذي ليس بعده خطلٌ أن يقوم نظام تعليم هذا الشعب على التفريق بين الغني والفقير، فكلاهما قد فرض عليه أن يبذل دمه وماله وقوته وجهده في الدفاع عن أوطانه التي تحكمها هذه الحكومة، فمن حقه على الحكومة أن تمده بالأسباب التي يستطيع أن يدافع بها عن هذا الوطن. والأسلحة المختلفة هي بعض أدوات الدفاع، ولكن الأداة الكبرى في الدفاع إنما هي الرجل الذي يحمل هذه الأسلحة، فيجب أن ينصرف أعظم هَمِّها إلى أحياء الرجل في طبقات الشعب غنيها وفقيرها على السواء بالحرص على إعطاء الشعب غذاءه كاملًا من الألوان المختلفة من الثقافات المتعددة، كلٌّ على قدر طاقته ورغبته واستعداده، مكفولًا له الحرية في الاختيار مع التسديد والحياطة والنصح. والحكومة حين تنظر إلى قوى الدفاع تفرض الضرائب على نسبة الأموال التي يملكها الشعب غير مفرقة بين الغني والفقير في نسبة الضريبة التي تتقاضاها منه

اقتسارًا وفريضة، فكذلك يشترك الغني والفقير على السواء في تحمل واجبات الحرب. فأولى إِذن أن يشترك الغني والفقير معًا في القيام بأعباء التعليم والثقافة ونشرهما والمساواة في منحهما للغني والفقير على المساواة بغير تفريق. وليست تفرق الحكومات على الحقيقة بين الغني والفقير بقانون موضوع، وإنما هي تفرق بما هو أعظم خطرًا من القانون الوضعي لأنه قانون الطبيعة وقانون القدر. فالغني يستطيع أن يدخل أبناءه جميعًا بيوت العلم من الابتدائي إلى العالي مستعينًا على ذلك بماله الذي استخلفه الله عليه، والفقير لا يستطيع أن يفعل مثل ذلك فيبقي أبناؤه طعامًا للجهل الضاري وبقايا من فرائس الفقر المتوحش. ومن العجيب الذي لا يعجب إلا منه أن يكون في أمة من الأمم رجل تفضى إليه ثلاثة آلاف جنيه في العام، وليس له من الولد إلا ثلاثة أو أربعة يتكلف في تعليمهم ما لا يزيد عن مائة جنيه في العام كله، ورجل آخر يكون ما لا يدخل عليه مائتا جنيه في العام وله من الولد مثل الذي للأول فهو يدفع مائة مثل مائته أي نصف دخله! فما بالك إذن بالذين ينصبّ عليهم من الأموال ما لا يستطيعون التصرف فيه إلا أن يسفكوه على اللذات والمنكرات من النساء والخمر والقمار وحالِقات (¬1) المال والخُلُق وليس لهم ولدٌ، ثم يكون في الأمة آلاف مركومة من الإنسانية إلى ملايين تنسل وتلد وتمد الأمة بأسباب حياتها من الأبناء والبنات ولا يملك أحد ما يقوت به نفسه فضلًا عما يقوت به ولده، فضلًا عما يدفعه لوزارة المعارف أجرًا للتعليم. . .! إذن فواجب الأمة أن تحمل الحكومات على تغيير نظام التعليم ونظام الضرائب، فتحصل الضرائب من الشعب كله على نسبة رأس المال والدخل، ليستخدم هذا المال المجموع من الضريبة في تعليم الشعب كله على المساواة بين غنيه وفقيره، ويلغى من وزارة المعارف نظام التحصيل، "تحصيل المصروفات المدرسية من أولياء أمور التلاميذ" ويكون التعليم كله من أوله إلى نهايته مجانًا مبذولًا معرضًا لكل مستطيع وطالب وراغب بغير تفريق. ¬

_ (¬1) الحالقات: المُفْنِيات، يقال: وقعتْ في القوم حالِقة فلم تدع شيئا إلا أهلكته، ومنه سُمّيت المنِيَّة: حَلاق.

عناصر الثقافة المصرية

وأحب أن أقول للدكتور طه، ولغيره من كتابنا، إنه حقٌّ عليهم أن يقوموا بالدعوة، وبالكتابة في مثل هذا الغرض النبيل الذي ينفع الناس ويرفع عن أعناقهم نِير العبودية التي يفرضها الجهل مرة والفقر مرات كثيرة. فإن كلمة الدكتور طه التي ألقاها، إنما سمعها عدد من الناس-أكبر الظن فيهم أنهم قد طرحوا عبء التفكير فيها حين خرجوا من باب "قاعة يورت التذكارية"، كما تطرح الأعباء المثقلة. وليس شيء يحمل الحكومة على الجادة وعلى سواء السبيل كالصحافة وكتابها إذا أخلصت وتطهرت من الغرض والهوى والحقد والبغي والعدوان. . . فهل يمكن أن يكون هذا في مصر؟ فإن تسألينا: كيف نحن؟ فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحَّر عناصر الثقافة المصرية وقد حدد الدكتور طه ألوان الغذاء الروحي والعقلي الذي يجب أن يقدم للشباب، فجعله مركبًا من ثلاثة عناصر: العنصر المتحدرُ من تاريخ مصر القديم -الفرعوني- وهو الفن، والعنصر المتغلغل في مصر الإسلامية، وهو الدين والأدب والفن العربي الإسلامي، والعنصر المتلبس بحياتنا الحاضرة منذ اتصلنا بغيرنا من الأمم التي نتعاون معها أو ننافسها، وهو العنصر الأوربي الجديد، وسترى بعد ما هو عند الدكتور طه. أما العنصر الأول، وهو الفن الفرعوني القديم، فأنا أدعه للكلمة الآتية، فإن اللَّبس كثير فيه، وقد زلّ على مزالقه أكثر أصحابنا ممن فُتنوا به عن صواب الرأي. وأنا أحب أن أتناوله بالبيان الذي يدفع عن مصر شرًّا كثيرًا ويحقق لها ما نتمناه جميعًا من الخير. وأما العنصر الإسلامي من الدين والأدب والفن، فقد أجاد الدكتور طه في الدعوة إلى العناية به لأنه أصل المدنية، ومن جَهِل في بلاد مصر -أو بلاد العربية على اختلافها- تاريخ الإسلام فقد حطّ في مَهوًى ينقطع به حبله الذي يصله إلى قومه وإلى حضارته وإلى مستقبل هذه الحضارة التي سوف تنبعث بنورها مرة ثانية في جنبات الشرق فيما أرى. ولكن الدكتور طه بعد أن تكلم عن الاجتماع العربي

أو الإسلامي الذي عاشت عليه الأمة المصرية هذه الأجيال ولم تجد به بأسًا -كما يقول- عاد فاستدرك عليه بقوله: "بشرط أن يتابع تطور المدنية الحديثة". فأنا والدكتور طه وكل عربي قد درب بالحضارة وجرَّبها يعرف أن البناء الاجتماعي هو أصل المدنية، وأن الاجتماع إذا صلح استطاعت كل القوى أن تعمل في بناء الحضارة بعقائدها وآرائها وإيمانها وفلسفتها، فإذا أردنا أن نجعل النظام الاجتماعي الإسلامي في العمل والتشريع والسياسة هو النظام فمن الخطأ الذاهب في الفساد أن نخضعه لتطور مدنية أخرى قد بُنى اجتماعها على المسيحية في التشريع والسياسة والأخلاق. فمصر والشرق الإسلامي إذا أراد أن ينهض فلابد له -كما قال الدكتور طه- أن يستمد نهضته من أصول الاجتماع الذي يربطه به التاريخ والدم والوطن واللسان والدين والوراثة، وإذا ساير فإنما يساير في فكرة مطلقة وهي "النهضة والحضارة والمدنية الإنسانية" على الطريق الذي يوافق طبيعة هذا الاجتماع. أما المدنية الحديثة فقد بنيت على غير ذلك وقد تطورت على أصوله، وليس بعد خطبة الملك جورج ملك الإنجليز ما يدع موضعًا للشك، فقد خطب الملك يوم 25 ديسمبر سنة 1939 في الاحتفال بعيد ميلاد المسيح -صلوات الله عليه- فذكر الاتحاد الإنجليزي الفرنسي للحرب ضد ألمانيا النازية فكان مما جاء في خطته (ترجمة الأهرام): "إني أومن من أعماق قلبي بأن القضية التي تربط شعوبي معًا، وتربطنا بحلفائنا المخلصين الأمجاد هي (قضية المدنية المسيحية). وليس ثمة قاعدة أخرى يمكن أن تبنى عليها مدنية صحيحة". ونحن ننظر إلى المدنية الأوربية هذا النظر، وكلام الملك جورج هو من أدق التصوير لحقيقة الحضارة الأوربية في نظر كل باحث نصراني أو يهودي أو مسلم. فإذا أردنا أن نتابع تطوّر هذا الضرب من المدنية بتبديل اجتماعنا -الذي دعا إليه الدكتور طه في حديثه- ليطابقه، فكأنما ندعو إلى "تنصير الإسلام". وما أظن الدكتور طه يرضى أن نصير هذا المصير! والعجيب بعد ذلك أن يذكر الدكتور طه العنصر الثالث وهو الحضارة

الحديثة الأوربية، فلا يدعو إلى الأخذ بشيء مما فيها دعوة صريحة إلا في الذي يتصل بالخلق ليكون عندنا الرجل الصريح الذي يتحرى ألا يكذب نفسه قبل اجتنابه الكذب على الناس، والرجل الذي يستطيع أن يقول: "لا" أو "نعم" حين يريد أن يقولها، لا حين يكره عليها! ! ألا إن أخلاق المدنية الأوربية قد استعلنت جميعها في هذا البغي المتفجر في الحرب التي لا يعلم خَبْأها إلا عالم الغيب والشهادة، وإن أردنا أن نأخذ -أي أن نقلد- فلنأخذ من تاريخنا، من ديننا، من أخلاق رجالنا .. من الذين استطاع أحدهم أن ينكر على عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ويقول له: "اتق الله يا عمر"، فيقوم رجل يستأذن عمر في أن يأمره فيه بأمره، فينهاه عمر ويقول: "دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم". فالرجولة هنا ليست أن يقول الرجل، ولكن أن يتقبل صاحب السلطان هذا القول بالخضوع والرضا، فهل فينا من يقبلها يا دكتور طه. . . أو في النفاق الأوربي المتلبس بالرجولة طبقًا للمنافع في أكثر أمره إلا مَنْ عصم الله. . .؟ لا أدري.

الفن

الفن كنت أرجأتُ الحديث عن "الفنّ الفرعوني" الذي أراد الدكتور طه حسين أن يجعله أحد العناصر في "الغذاء الروحي والعقلي للشباب" في عصرنا هذا، وهو رأْي متداولٌ قد دعا إليه فلان وفلان ممن استطارتهم العصبية فعصفت أعاصيرها بعماد الرأي وحسن البصر وكمال التقدير لما ينبغي أن نقيم عليه حضارتنا المصرية الإسلامية. والعصبية هي دليل الضعف، وهي الآفةُ التي تتخون الرأي، وهي الهدْم الذي يأتي بنيانَ العقل والعاطفة من القواعد حتى يدمّره تدميرًا. وسنوجز القول ما استطعنا، فإن الإفاضة والشرح والبيان مما لا يتسع لها هذا الباب. فالفنان هو القلب النابض الذي يُفضي إليه الدمُ الحي الذي تعيش به حضارة أُمته في عصره، وهو الفكر القلق النافذ المتلقف الذي ينقد الحياة الاجتماعية في عصره يألفها أو يُنكرها، وهو العبقرية المارِدة التي لا تخضع إلا لناموس الحياة الأعظم. والفنان بطبيعته الإنسانية فكرة معبرة عن حقيقة الاجتماع الإنساني الذي يعيش عليه، وعن طبيعة الأرض التي يمشي فيها، والسماءِ التي يَستظلُّ بها، وكل أولئك ينشيء للفنان أفكارًا وأَخيلة وأحلامًا تستمد غذاءَها من ينبوعها الذي يتفجر بين يديه ولعينيه وفي قلبه. ونحن لو تتبعنا الآثار الفنية وتاريخها في كل أجيال الناس من الهند والصين والعرب والترك والروم، وكل الأمم القديمة، وسائر الأمم الحديثة لم نخطئ أَثر الحياة الاجتماعية في الأثر الفني، ولا أثر الطبيعة الجغرافية في جوّه الفني. ونعني بالحياة الاجتماعية كل ما تقوم عليه من الدين وعقائده وشرائعه، وما يتميز به العصر من الأخلاق والعادات والوراثات والأساطير الشعبية التي انحدرت إليه من القدم، ثم سائر أسباب الحضارة المعاصرة بكل مادتها وألوانها وحقائقها وأباطيلها. وأما الطبيعة الجغرافية، فهي صورة الأرض بنباتها وأنهارها وفدافدها (¬1) ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 345)، 1940، ص: 259 - 262 (¬1) الفدافد: جمع فَدْفد، وهي الصحراء لا شيء بها.

الفن الفرعوني

وحيوانها وغابها وما إلى ذلك، وجو السماء بصفائه والتماعه وشمسه وقمره ونجومه وسحابه وثلوجه وصيفه وشتائه وربيعه، وغير ذلك مما يولّد في نفس الفنان ألوانًا من أخيلة الفن التي يريد تحقيقها أو تمثيلها أو إبداعها، والأثر الفني لا يمكن أن يكون خاليًا من تأثير هذين العنصرين المميزين. فالفن -ولا شك- نتيجة من نتائج الاجتماع الإنساني والطبيعة التي تحتضنه فهو يتأثر بها تأثرًا بينًا، لمكان الإحساس المرهف البليغ من الفنان القدير المتمكن. فأعظم الآثار الفنية التي يعدها الجيل الأوربي -مثلًا- في طليعة العبقرية الفنية، هي الآثار العظيمة الخالدة، التي نشأت وربت وترعرت وامتدت تحت ظلال الكنيسة والعقائد المسيحية، التي عاش في مدنيتها الفنانون الذين أبدعوها، وتأنقوا فيها وبالغوا في إتقانها، ونحن لا نحتاج هنا إلى أن نضرب المثل بفلان وفلان من الفنانين الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم، ولا أن نعدِّد آثارهم التي بقيت إلى اليوم أصلًا للفن الأوربي الحديث. وهذه الآثار كما يشاهدها المشاهدون تختلف باختلاف الطبيعة الجغرافية التي هي سببٌ ثان في إنتاج الفنان. فكذلك الفنون الصينية والهندية تتميز بالاجتماع الوثني الذي يعيش فيه الفنان الصيني أو الهندي، وبطبيعة البلاد الهندية والصينية. ونحن لا نشك أن عظم الفنون والآثار عامة قد كان نتيجةً لازمة للعقيدة الدينية -وثنية كانت أو إلهية- وللطبيعة الجغرافية التي تمد عليها من ظلالها، وأن الدين والعقيدة هما عماد الاجتماع وأصله وأعظم مؤثر في توجيه أغراضه وحياطتها وتدبيرها وتوليدها، فهما إذن أصل قائم في الحضارة التي تدين بهما مهما تطورت بعد ذلك وخرجت عليهما فأهملتهما. وذلك لأن الشعوب تحتفظ من الأديان بخصائص كثيرة لا يمكن أن تؤثر فيها تطوراتُ الحضارة المدنية الخاضعة للعلم والسياسة وما إليهما. الفن الفرعوني فالفن الفرعوني -بغير شك- ليس إلا نتاجًا مركبًّا من الوثنية المصرية الفرعونية والطبيعة المصرية الرائعة القوية، وأثرها بيِّن في هذه الأبنية الضخمة

تمثال نهضة مصر

بتماثيلها الغريبة المتقنة المختلفة الدلالات على المعاني الدينية المصرية القديمة، وعلى الأصول الاجتماعية الخاضعة للوثنية الفرعونية التي كان يعيش عليها الشعب المصري القديم. فهذه الديانة القديمة الجاهلية التي عبدت أوثانها وتقدست بعقائدها الباطلة، وخضعت لأساطيرها الرهيبة المخيفة، واستمدت تهاويلها من الإيمان بجَبْريَّة هذه الأوثان والقوى الطبيعية المختلفة كالشمس والنيل والتمساح وكذا وكذا من الأوهام الغالية، هي التي أنتجت هذا الفنَّ المصري القديم بمعابده وتماثيله وكتابته الهرغليفية المعبِّرة أدقَّ تعبير عن حقيقة المدد الفني للآثار المصرية الفرعونية. والفنَّان الفرعوني لم يستطع أن ينشيء هذه الآثار الهائلة الغريبة التي بقيت هذه القرونَ الطوال تتحدى الزمانَ المُتطاوِل عليها، ولم يمنحها هذا الجبروتَ الهائل والاستبداد الطاغي إلا بالقوة التي أنشأتها ودبرتها له عقائدُه الوثنية الرهيبة، وإيمانُ المجتمع المصري بها إيمانًا خاضعًا مُتعقبًا أيضًا، وأعانتها الطبيعة الجغرافية المصرية العظيمة بشمسها وقمرها وصيفها وشتائها، وصحرائها التي تحفُّ بالنيل العنيف المتدفق بسلطانٍ طاغٍ كسلطان الفراعنة الملوك. كل أولئك أثار الفنانَ وأمد إحساسه المرهف بالمادة التي استطاع أن يصوغ فيها فنه الوثني العبقري. وعلى ذلك فيجب أن نقرر أن الفن المصري الفرعوني -على دقته وروعته وجبروته- إن هو إلا فنٌّ وثَنىٌّ جاهلىٌّ قائمٌ على التهاويل والأساطير والخرافات التي تمحقُ العقل الإنسانيّ، فهو إذن لا يمكن أن يكون مرة أخرى في أرض تدين بدين غير الوثنية الفرعونية الطاغية -سواء أكان هذا الدين يهوديًّا أم نصرانيًّا أم إسلاميًّا أم غير ذلك من أشباه الأديان. تمثال نهضة مصر وهذا "تمثال نهضة مصر" القائم في "ميدان المحطة"، والذي أقامه المَثَّال القدير "مختار"، أنا أراه فلا أرى فيه إلا تقليدًا فاسدًا لآثار حضارة قد دثرت وبادت ولا يمكن أن تعود في أرض مصر مرة أخرى بوثنيتها وأباطيلها وأساطيرها

وبشر أيضا! !

وخرافاتها. نعم، هو تقليد رائع يدل على قدرة الفنان الذي نحته، ولكنه لا معنى له الآن في مصر الإسلامية. هل يستطيع الفنان الذي نحته وأقامه أن يعيد في مصر تاريخ الوثنية الجاهلية، واجتماع الحضارة الفرعونية، وما يحيط بذلك من الأبنية الضخمة التي شادها أوائله، والتي كانت وحيًا للفنان الفرعوني الذي عبد الشمس وخضع لفرعون وأقر له معاني الربوبية، وآمن بالأباطيل والأساطير والتهاويل الدينية والوثنية الضخمة الهائلة المخيفة التي قذفها في قلبه أبالسة عصره من الجبارين والطغاة؟ وهل يستطيع أن يجعل في أرض مصر شعبًا وثنيًّا مُتَعَبِّدًا للفراعنة والجبابرة بالخوف والرهبة والرعب حتى يتأثر بمعنى هذا الضرب من الفن المصري القديم؟ ولكن أفي مصر الآن من الشعب من يستطيع أن يجد له معنًى أو تأثيرًا أو اهتزازًا إلا من القدم أو أخيلة القدم؟ كلا. . . كلا. لقد ذهب كل هذا، لقد دثر، لقد باد. إن الأصول الفنية التي يكون بها الفن فنًّا قلما تتغير، وهي ممكنة دانية في كل الآثار على اختلاف أنواعها وبلادها وأراضيها وأديانها، ولكن روح الفن هي دين المجتمع وعقائده وطبيعة أرضه وسائرُ أسباب حضارته، وهي التي تمنح الفنان القوة والقدرة على الإبداع، وهي التي ترفع فنه أو تضعه. وإذن فدعوة الدكتور طه إلى الاستمداد من الفن الفرعوني -كما استمد "مختار"، ثم دعوته إلى جعل اجتماعنا اجتماعًا إسلاميا، ثم استمدادِنا أيضًا من الفن الإسلامي- تناقضٌ عجيب في أصل الرأي، لا يمكن أن يكون ولا أن يُعمل به إلا إذا شئنا أن نوجِدَ لمصر حضارةً مقلّدة ضعيفة ملفَّقة من أشياء ليست نتيجة ولا شبه نتيجة للاجتماع المصري الإسلامي الحديث الذي ندعو إليه ويدعو إليه الدكتور طه حسين! ! وبشر أيضًا! ! يقول بشار بن برد لخَلَف بن أبي عمرو في حديث جرى بينهما معابثة ومزاحًا: أرْفق بعمرو إذا حركتَ نسبته ... فإنه عربيٌّ من قواريرِ

وصديقي "بشر" قارورة عطر نشوان من نفحات روحه، قارورةٌ عربيةٌ معربدةٌ تختال بطيبها تيَّاهةً من الخفة والطرب. وأنا أرفق به ولكنه يأبى -كرمًا منه- ألا أن يتحطم في يدي ليسكب طيبَه عليها فيعبَقُ بها، ويبقى أبدًا يتضوع منها نسيما يسكر، ويَعْلَق بهذا القلم من عِطْره أثرٌ خالد كرائحة الحبيبة في ذكرى المحب، و"للرسالة" بعد ذلك من شذاه ما يفور وما يتوهج وما يسطع من نضخ عبيره. وبشر -هذا الإنسان الرقيق- يتجهم لي ويملأ عليّ "بريد الرسالة" زلزلة ورعدًا وبرقًا وصواعق. . . ويبصرني بفروق اللغة بين "وَضَع بحرًا" و"اخترعه"! ! وأنا بلا شك لا أستطيع أن أشغل نفسي بتبصيره بمنطق اللسان العربي. ثم لا يكتفي بهذا بل هو يغلو في تقديري فيعدني من "الخَلْق" الذي يقف على معاني الألفاظ العربية من "الإكباب على قراءة الصحف اليومية"! ! كلا، بل يجوز ذلك فيعلِّمني مجاز العربية وحقائق بيانها ودقائق ألفاظها! ! أوَّه، بل هو يعرِّفني بالقرآن لأني "من عامة الناس في هذا الزمان" ممن يفهمون القرآن -كلام الله- بما يغلب عليهم من عامية العصر! ! ولا يكون كل ما يكتبه "بشر" من علمه هذا "إلا على جهة التسلي والتلهي"! بلى، فهو يرحمني ويشفق على أن يدخل بي في المقاييس العربية الدقيقة الغامضة التي تستهلك قوةَ العقل والإدراك، فهو يأخذني من قريب! ! وأنا قد أخطأتُ وأسأتُ وأثمتُ وحَبِط عملى، ومَحَقني اندفاعي إلى شعر بشر "أتلمس" -هكذا قال بشر- أتلمس له الخطأ! ! ولا كلّ هذا أيها العزيز، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}، وأنا يا بشر لا أطاولك في علم ولا فقه ولا بيان ولا معرفة، فأنت أنت، وأنا حيث أنا من العجز والبلادة، ورحم الله امرءًا عرف قَدْر نفسه. ومن جَهِلتْ نَفْسُه قدرَهُ ... رَأَى غيرُه منْه ما لا يَرَى وأنا يا صديقي أقل شأنًا وأضعف من أن أجرى في عنانك، ولكنك -إذ كتبت ورددت وأعطيتني فوق ما أستحق في نفسي- تحملني على المركب

الصعب، فكان أولى بك أن تهملنى، فأما إذ أبيت فلا بأس عليك إذا أنا أقحمت نفسي معك، فاصبر على هذا البلاء "فالحرُّ يظلم أحيانًا فيَظَّلم". وقد زعموا -أيها العزيز- أنه كان رجل عِبَادِىٌّ بالحيرة البيضاء، فلاقى ضحضاحًا من الماء لابد له أن يجوزه ويخوض فيه، فاستعان الله وأقبل على الماء -وهو إلى الكعبين حسبُ- فلما دخله صاح: "الغريقَ، الغريق! " يستنجد أصحابه، فتناولوه يسألونه: ما دعاك إلى هذا وليس غرقٌ؟ فقال: "أردت أن آخذ بالحزم". وأنت -أيها الصديق- تأخذ بهذا الحزم، فتهرول إلى "لسان العرب"، و"أساس البلاغة" و"الألفاظ الكتابية" تحشد لي ما جاء فيها من مادة العربية في قولهم "زلزل" ولا تكتفي بهذا بل تسعى إلى "الأغانى" (طبعة بولاق! ) تقلب أوراقه، تستخرج تراجم المغنين وأصحاب الملاهي كإسماعيل بن جامع وإبراهيم ابن ميمون الموصلي -وغيرهما في دواوين العربية وأصولها- فتفلِّي ألفاظها وتجري عينيك وراء إصبعك على حروف الكلمات عساك تقع على جملة يكون فيها "زلزل" وما يخرج منها وما يتداعى إليها، ولا تكتفي أيضًا فتتناول من بين كتبك أحد فهارس القرآن الكريم -"وهو الحجة العليا في مثل هذه المشكلات" -كما قلت وإن لم تقل- فتجد اللفظ في آيات بينات منه. فتجمع ذلك كله في مقالك -أو ردِّك عليَّ- حشدًا بارعًا عظيما تُضاهي به عمل "المستشرقين" الثقات الأثبات المتضلّعين المتقنين المجيدين! الذين لا يدعون للحرف مكانًا إلا نبشوه وتقصوه ورموا بعضه فوق بعض "أخذًا بحزم العبادي. . . ." الذي عَرَفْت. وهو أسلوب فاسد عندنا لا يعول عليه في الحجة، وإنما هو أسلوب ضروري حسن حين راد منه المقارنة والتدبر لاستخراج المعاني من الألفاظ وبيان سرها من الحقيقة والمجاز ودقة التصوير للأغراض التي نصبت لها هذه الألفاظ. والنصوص التي جمعتها وحشدتها ورتبتها تختلف في حقائقها ومجازها في العربية، وأنت لم تشرح حرفًا واحدًا منها تبين عن وجه مجازه على العبارة التي وقع عليها، ولو كنت فعلت ذلك أو أحسنته لطويت كل الذي نشرته عليّ وعلى

القراء. . . تعلمني به ما غاب عني من "القرآن وهو في صدري، والتفسير والحديث واللغة وهي شواغلى" -كما تقول- وأنا لا أضن عليك، أيها الصديق، بما يجعل لحشدك هذا -الذي رُعْتنا به حين قذفته علينا- قِرانًا ونظامًا يسلك فيه ويمضي عليه، ويَعرف به من لا يعرف سرّ البيان وكيف يكون مجازه على طريق اللسان العربي المبين! ! فأصل الحرف "زلزل" من "زلّ الشيء إذا زلق فتحرك فتدأدأ، فمر مرًّا سريعًا في ذهابه عن مستقره". فلما ضعَّفت العرب الحرف، فقالوا: "زلزل وتزلزل"، ضاعفوا معنى هذه الحركة، فكان معناها الحركة الشديدة العظيمة والاضطراب والتزعزع، وتكرار هذه الحركة مرة بعد مرة، حتى كأن بعض الشيء يَزِلُّ عن مكانه، فينقضّ على بعض ويتساقط ويتقوض. وإذن، فشرط مجاز هذا الحرف أن يكون لشيء يتحرك حركة عظيمة شديدة، فالرجل يتزلزل، والأقدام والأيدي والرؤوس والقلوب وما إليها من أعضاء الإنسان المتحركة حركة ما، وكذلك الحيوان كالإبل جاء راعيها بها "يزلزلها" أي يسوقها سَوقًا عنيفًا كأنها تزلّ معه مرة بعد مرة، والمكيل في مكياله كالبُرّ والشعير، كلٌّ يتزلزل لأنه يحرك فيتحرك، والدار والأرض والدنيا كلها تتزلزل لأنها تتحرك أو يجوز عليها الحركة فيتهدم بعضها على بعض، والنفس كذلك لأنها تضطرب في حيزوم المحتضر اضطرابًا شديدًا يتجلى في الكرب الذي يلحقه والضيق الذي يأخذه، فينتزع الأنفاس، ويضطرب القلب بالنبض الشديد، ويزيغ البصر، وتتحرك اليد والرجل في الحشرجة حركة كثيرة شديدة بتردُّد النفس في نزاع الموت والحياة. ومع ذلك فأنا أدع أشياء كثيرة لا أتناولك منها أيها الصديق. أما الأُذن. . . فالإنسان من بين جميع الحيوان هو الذي لا يحرك أذنيه البتة، لا في طرب ولا غضب، فما بالك وهي ليست مجرد حركة، وإنما هي حركة شديدةٌ مهدِّمة لأنها زلزلة. فإذا علمت ذلك وتلقَّيته وتدبرته وأحكمته ولم يأخذك العناد عليه عرفت أنه لا يمكن أن تقول "أُذني زلزلت" لأن الزلزلة تتطلب أصلها المقرر وهو الحركة والانتقال والزّلةُ بعد الزّلة من مكان إلى مكان ولو على وجه

المبالغة. فدع أذنك من آذان خلق الله الذين صورّهم فأحسن صورهم إن شئت. وأنا لا أصنع في كلامك هذا تعبًا فأتلمس لك الخطأ كما تزعم، ولكن انظر يا بشر كيف يتكلم الشعراء عن الآذان وعن الزلزلة؛ يقول بشار في مغنية: لعمرُ أَبي زُوَّارِها الصِّيدِ، إنهم ... لفي مَنظر منها وحسنِ متاعِ "تُصلّي لها آذانُنا" وعُيوننا ... إذا ما التقينا والقلوبُ دَوَاعِ إذا قَلّدَت أطرافَها العودَ "زَلْزَلَتْ ... قلوبًا" دَعَاها للوساوِس دَاعِ يَروحون من تغريدها وحديثها ... نَشاوَى، وما تسقيهم بصُواعِ لَعوبٌ بألباب الرجال وإن دنت ... أطيعَ التُّقى والغيُّ غير مُطاعِ فانظر صلاة الآذان بالخشوع والإنصات والسجود للصوت، وتأمل زلزلة أوتار العرد التي تزلزل القلب بوقعها وتوقيعها. وكيف أتم المعنى بذكر الوساوس وهي قلق واضطراب. . . وأما أنت أيها العزيز. فلا تذهبْ بحلْمِك طامياتٌ ... من الخُيلاءِ ليس لهن بابُ فإنك سوف تَحْلُمُ أو تَناهَى ... إذا ما شبتَ أو شاب الغرابُ

الهجرة

الهجرة يا نبيَّ الله! ! إنّ الإسلامَ قد قَعَدَ به أَهْلُه، والزمنُ بالناس يعدُو، والحياةُ في العالم فكْرٌ يتحقَّق، وهي عندنا حُلُمٌ يَتبدَّد، هذه أُمَّتُك تملأ الأرْض، ولكن قد فرغت قلوبها من الإيمان، والإيمانُ في دِينك قولٌ وعملٌ، كانت به المعجزةُ الإسلامية ولكنه عندنا قولٌ وجدَلٌ، تكون به الفُرقةُ الجاهليّة. . . فاللهمَّ هِجْرةً كهجرَةِ نبيِّكَ بالعزِم والإيمان اللهمَّ جهادًا كجهادِهِ يُجدِّد القلوبَ والأوطان الشباب والأدب الطفل حياةٌ صغيرة غضَّةٌ ليِّنةٌ تقبلُ التشكل وتطاوِعُ على ضغط البيئة التي تكتنفها وتُطيفُ بها وتميل عليها، وبيئةُ الطفل هي أخلاق أبويه، ومعاملتهما وحديثهما وما يحيط بهما من الأقارب والأصحاب والخدم وكل من يعود البيت من زوّاره. وقد حُمِّل الإنسان طبيعة التشكل من أَوَّل عمره ليكونَ بعدُ إنسانًا اجتماعيًّا مقتدرًا على التصرُّف في نظام الجماعة بما لا يخرجه من جوّها ويقذفه وراءَ حدودها التي ضربتها عليها الأحوال الاجتماعية التي يتميز بها الجيل من الناس الذين يعاشرهم. وتتصل بهذه الطبيعة من قريب طبيعة أخرى هي التقليد، ليسوغَ له أن يَثْقف الحياةَ ويتلقَّفَ أسبابَها وطرائقها وأساليبها في مدًى قصير، فلا ينقطع دون إدراك الطلائع الإنسانية السابقة التي بدَرت أمامَه في الحياة ومارستها وعملت لها وجددت فيها بعضَ ما يمكن تجديده في نظامِ الجماعات. ولا يزال الإنسان -من أول عمره- خاضعًا خضوعًا تامًّا لهاتين الطبيعتين ولقانونهما المستبدّ، حتى يأتي عليه زمان يستطيع أن يتحرر في بعض نواحيه بالخضوع في بعض النواحي للتشكل والتقليد في زحمة الجماعات وضغطها لقانون آخر هو ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 346)، 1940، ص: 300 - 302

قانون الاستقلال الفكري والعملي الذي تقوم عليه رجولة الإنسان وقوته، ولكنه مع ذلك يبقى أبدًا متلبسًا بأسباب القوانين الأولى التي تخضعه وتأثيرها. فهو إذن لا يبلغ مرتبة الاستقلال إلا بعد أن يكون قد قبل من الأَشكال -بالضعف والتقليد- ما لا يستطيع أن ينفك منه أو أن يتفصَّى (¬1) من قيوده التي تحبسه على ضروراتها. . . فمن هنا يَبين مقدار الخطر الذي تنذر به هذه الفترة الأولى من حياة الإنسان، ونحن لا نستطيع أن نحدد عمر هذه الفترة، ولكنها تستمرُّ على الأقل إلى نهاية رَوْقِ الشباب ما بين العشرين والثلاثين، بل ربما جاوزت إلى نهاية العمر إذا ما انتكست الحياةُ في الحيّ وصار إلى حيوانية آكلة شاربة غير مفكرة! فالشاب حين يخرج إلى الحياة العقلية والفكرية تستهويه أسماءُ المفكرين من الكتاب والشعراء والفلاسفة فتستهيمه وتذهب بهواه وعقله إلى الأخذ عنهم والاقتداء بهم والسير على مناهجهم، ولا يزال كذلك في تحصيل وجمع وتأثر واتباع حتى يتكوَّن له قِوَامٌ عقليٌّ يجرّئه على الاستقلال بفكره ورأيه ومذهبه. فالقدرة والأسوة هي مادة الشباب التي يتم بها تكوينه العقليّ على امتداد الزمن وكثرة التحصيل وطول الدُّرْبَةِ، فإذا كان ذلك كذلك فالكتَّاب والشعراء والفلاسفة وأصحاب الرأي وكل من يعرض نتاجه العقلي للشباب، ويكون عُرضةَ الاقتداءِ والتأسّي والتأثر -يحملون تبعة تكوين العقول الشابة التي ترث علومهم وأفكارهم ثم تستقل بها وبإنتاجها الخاص، وكذلك يكون هذا الإنتاج الخاصُّ ضاربًا بعرق ونسب إلى الأصل الأول الذي استمد منه واتبعه وتَلَقَّى عنه. هذا. . .، فتبعة الكتُّاب والأدباء أمانة قد تقلدوها وحملوها، ثم ارتزقوا منها أيضًا وأكلوا بها وعاشوا في الدنيا الحاضرة بأسبابها، فهم على اثنتين: على أمانة قد فرض عليهم أن يؤدوها إلى من يخلفهم من الشباب الذي يتبعهم ويتأثر آدابهم، وعلى شكر للمعونة التي يقدمها لهم الجيل الشاب الذي يبذل من ماله ليشترى ¬

_ (¬1) يتفصى: يتخلص من القيود بفصمها.

ناقد يتكلم

منهم ما يكتبون وما يؤلفون وما يقدمون للتاريخ من آثارهم ليكسبوا به خلود الاسم وبقاء الذكر. وشبابنا اليوم قد تهدَّمت عليه الآراء، وتقسَّمته المدنية الأوربية الطاغية، وهو لا يجد عصامًا يعصمه من التدهور في كل هوة تنخسف بين يديه وهو مقبل عليها بشبابه ونشاطه واندفاعه وعنفوان قوته في الشوط الذي يجريه من أشواط حياته. والمدارس في بلادنا لا تكاد تعطيه من الرأي أو من الفن أو من الأدب ما يبلُّ أدنى ظمأه إلى شيء من هذه الأشياء، وإذن فليس يجد أمامه إلا المجلات والصحف والكتب التي يقدمها له أصحاب الشهرة من كتَّابه الذين تُرفَع له أسماؤهم في كل خاطرة وعند كل نظرة. وهو لا يَنى يستوعب منهم أساليبهم وأفكارهم وآراءهم وما يدعونه إليه من موائدهم. فهل ينصف هؤلاء الكتاب هذا الشباب؟ أتراهم قد عرفوا قدر أنفسهم عند الشباب فعبَّأوا له قواهم احتفالًا بشأنه وحرصًا على مصيره الذي هو مصير الأمة ومصير مدنيتها؟ أنا لا أرى ذلك إلا في القليل ممن عرفهم الشباب وجعلهم نصب عينه، واتخذ أساليبهم فتنة يهوى إليها. ناقد يتكلم وأنا أدع أحد الكتاب من إخواننا الشآميين يتحدث عن بعض ما نحن بسبيله، وهو الأخ "قسطنطين زريق" في كتابه "الوعي القومي" فقد قال في ص (162 - 163): "لسنا نعيش اليوم في عصر ترف عقلي ورفاهية فكرية. في عصور الترف والرفاهية قد يسمح للكاتب أن يقول: "لي الحق أن أكتب ما أريد وأعبر عما في نفسي كما أشاء". . . إن عصرنا عصر أزمة فكرية وضيق عقلي. وكما أنه لا يسمح للناس في زمن الأزمة المالية أن يبذروا أموالهم في سبيل شهواتهم الخاصة وأمورهم التافهة، فكذلك يجب ألا يسمع لقادة الفكر في عصر الضيق العقلي والأزمة الفكرية أن يبددوا قواهم على المسائل الطفيفة والأبحاث الجزئية.

هل يمكن؟

فعلى كل منا عندما يهم بكتابة مقال أن يتساءل بصراحة: "إلى ماذا أرمي؟ أتراني أُضيف بمقالي فوضى إلى هذه الفوضى الفكرية التي يتخبط فيها عالمي، وأقذف بعنصر جديد إلى العناصر التي تتطاحن في محيطي، فأزيد في بلبلة أمّتي واضطرابها الفكري أم أنا أعمل لتوجيه قوى هذه الأمة العقلية نحو فكرة صائبة أو عقيدة واضحة؟ فإذا لم تكن غايته من هذا النوع الأخير، فخيرٌ له وللأمة أن تظل كلماته مدفونة في نفسه، وأن يبحث له عن طريق آخر يخدم بها أمته ولغته". اهـ إن هذه الكلمات القلائل التي ختم بها الأستاذ زريق بحثه عن الأدب الذي يقود الأمة وشبابها إلى إنقاذ المدنية العربية والإسلامية والشرقية من رَدَغَة الخبال (¬1) التي تورط أهلها في أوحالها ومستنقعاتها -حقيقة بأن تكون من "محفوظات" كبار الأدباء الذين يرمون عن أقلامهم آراءَ وعقائد وأساليب لا يمكن أن تكون مما يحتملها مخلص لأمته، ينظر إلى المستقبل الذي هو ثمرة الماضي والحاضر، ونتاج اللّقاح الفكري الذي تتقبله عقول الشباب حين تبدأ تتفتح عن أكمامها لتعمل عملها في إنتاج الثمار إما غضًّا شهيًّا وإما فجًّا متعفنًا موبوءًا. هل يمكن؟ فهل يمكن أن يكون أدباؤنا ممن يتقبل النصح الخالص الذي لا تحمل عليه ضغينة أو رياء أو حيلة؟ وهل يمكن أن يعرف أحدهم أن ليس في الدنيا أحد هو أعلى من أن يتعلم، ولا أحد أقل من أن يُعلم؟ وهل يمكن أن تفرَغ النفوس التي تتخذها الكبرياء من الروح النّافشة التي لا طائل تحتها؟ لقد جعلت مقامي في هذا الباب مقام المذكِّر الذي يحب أن يؤدي واجبه لمن يقرأ كلامه، فأنا لا أستطيع إلا أن أتكلم بكلامي وإن أغضَب من لا يرضى إلا بما يرضيه من الملق والدهانِ والمماسحة، وقد انقضت أسابيع طوال من أسابيع الأدب وأنا أزداد كل يوم شكًّا في مقدرة أدبائنا على الإنتاج الأدبي الرفيع ¬

_ (¬1) رَدَغَة الخبَال: جاء في الحديث: مَن قال في مؤمن ما ليس فيه حَبَسه الله في رَدَغَة الخبَال، فسَّرها أهل الحديث بأنها عصارة أهل النارِ، والأصل في هذا الحرف: الطِّين والوَحْل.

الرحلتان

الذي يمكن أن يخلد في تاريخ الأدب، وقد تتبعت أقوال هؤلاء وأساليبهم فلم أجد إلا كل ما يحفزني على المصارحة والنصح وإبداء الرأي مكشوفا غير مكفَّن. وأنا لو كنت أحمل نفسي على تتبع هؤلاء واحدًا بعد واحد أنقد أقوالهم على التفصيل دون الجملة، ثم أقيد ما أريد بالكتابة في هذا الباب من "الرسالة" لما كفاني القدر الذي أكتبه ولما استطعت أن أستوعب الرأي في كل ذلك على أسبوع أسبوع، فلذلك تجنبت جهدي أن أعرض لأشياء كانت تقتضيني أسابيع في تقصيها وتفصيل أجزائها، وبيان مكان الفساد منها، والدلالة على قلة عناية هؤلاء بقرائهم، وصغر احتفالهم بالأدب الذي اتخذوه لهم صناعة عرفوا بها عند الناس، حتى صاروا للشباب أئمة بهم يقتدون. نعم، وكأنهم لا يعرفون أن ما يخرجونه للناس إن هو إلا غذاء جيل من الشبان يأخذ عنهم ويحتذى عليهم، فإن يكن في الذي يأتون به فساد فهو إلى إفساد الشباب الجديد أسرع، وفي طبائعه اللينة أعمل وأوغل؛ فأيُّما خطأ صغير منهم فهو عدة أخطاء كبار في الذين يلونهم من الشباب المقلد المسكين. إن أمثال الدكتور طه حسين والأستاذ أحمد أمين والدكتور زكي مبارك والأستاذ الزيات وفلان وفلان من كبار الأدباء هم من هذه الأمة الشابة من الناس بمنزلة السراج الذي يضئ للشباب معاني الحياة المظلمة بالجهل، فإذا انقلب السراج فإنما هو الحريق وانتشاره ومعمعته ومضغُه قوة الشباب بفكين من نارٍ حُطَمة. الرحلتان ويذكرني هذا ما يقطع عليّ نهاية الرأي. فقد قرأت أخيرًا مقالتين، إحداهما للدكتور طه، والأخرى للأستاذ أحمد أمين، وهما بهذا العنوان "رحلة". وقد تعود الأستاذان أن يتقارضَا المقالات منذ أسابيع طويلة، وأكثرا في ذلك إكثارًا لا يمكن أن يُغْضَى عنه، وكنتُ أحبُّ ألّا أعرضَ لَهُ لعلّه ينتهي إلى نهايته، فإذا هو شيء لا ينقطع. فمن يوم أن كتب الأستاذ أحمد أمين ما كتب وسماه "مدرسة الزوجات" وقارضه الدكتور طه "بمدرسة الأزواج" ثم "مدرسة المروءة" ثم

جناية! !

"مدرسة. . . ." إلى آخر هذه الأشياء، وافتتنا بهذه الطاحون التي تدور على دقيق مطحون قد فُرِغ منه -من ذلك اليوم وأنا لا أرى فيما يكتبان إلا استسلامًا للقلم وبدواته وبوادره، واجتلبا في ذلك من الرأي ما لا يستقرُّ ولا يتماسكُ. وفي هاتين الرحلتين رأيتُ العجب! ! فالدكتور طه مثلًا قد أطال في تحقير مصر والزراية عليها وعلى أرضها بما احتمله عليه الغضب الذي رغب في إنشاء مدرسة له يسميها "مدرسة الغضب". رحل الدكتور طه بالسيارة في الطريق الزراعية فغاظه التراب الذي يثور من حوله فيطلق لسانه بهذه الأسئلة "لماذا ندفع الضرائب" وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشيء الدولة؟ ". فليخبرنا الدكتور طه عن السبيل الذي نتَّقي به الزراية على أرض مصر! ماذا تصنع الدولة في طريق عن جانبيه تلك الأرض الخصبة الواسعة التي تُسْقَى لتطعم أهل مصر من خيراتها؟ كيف تتقي الدولة مرور الناس والدواب وأرجلهم تحمل أوحال الأرض الخصْبَة فتمرُّ بها على الطريق الزراعي الممهَّد، فتأتي الشمسُ المصرية الملتهبة فتجفف الوحل فيثور ترابًا؟ إن هذا كلام يقال في البلاد الباردة التي لا تفعل الشمس فيها ما تفعل في أرض مصر الغبراء، هناك في "قرية من قرى السفوا أو الدوفنييه أو الكانتال، على قمة جبل من هذه الجبال التي ألف الدكتور طه الاعتصام بها إذا أقبل الصيف، والتي فارقها في الصيف وقلبه يتقطع حسرات" أو كما قال. . .! إن مثل هذا يجب أن يلغى من آراء أدبائنا، إن لم يكن من أجل أنفسهم فمن أجل مَن يتولاهم من الشباب. وليس أكثر آراء الأستاذ أحمد أمين في هذا المقال بأقل ابتعادًا عن الحق من الذي عرضنا له. جناية! ! والأستاذ أحمد أمين هو الذي حمل على الأدب العربي، وحقر الشعر الجاهلي، ودفع بحجته في وجوب نبذ هذا الأدب وذلك الشعر الجاهلي لأنه كان جناية على أدبنا. وأنا كنت هممت أن أؤدى واجبي للأدب العربي بإظهار فساد هذه الآراء التي لم تنضج ثمراتها، ثم رجعت عن ذلك، رغبة أن يترك مثل

هذا الرأي حتى يفني في نفسه، لعلمي -بالاستنتاج- أن الأستاذ ليس أديبًا ناقدًا، والناقد أديب مضاعَف، وقدرته على الأدب أكبر من قدرة الأديب المحض. وقد أحببت أن أقف على كلمة في مقالة الأستاذ أحمد أمين "رحلة" تدلك على أن رأي الأستاذ في الأدب العربي والشعر الجاهلي رأي لا يؤخذ به، فقد قال: "وهاهم أولاء رفقة كأنّ أخلاقهم سكبتْ من الذهب المُصفَّى، وكأن شمائلهم عصرت من قطر المزن" وهي جملة لا ينطلق بها أديب متمكن البتة، فما ظنك بأديب ناقد، وأنا لا أعرف كيف يعصر قطر المزن (أي الماء)، وهو لا يمكن أن يُعصر. ونحن لا نشك في أن الذنب ليس للأستاذ الجليل، وإلا فهو ذنب الشيخ اليازجي صاحب "نجعة الرائد، وشرعة الوارد، في المترادف والمتوارد". . . إلخ، الذي ذكر هاتين العبارتين بنصهما وترتيبهما في فصل "كرم الأخلاق ولؤمها ص 70 الطبعة الثانية، وهما من حشد الشيخ الذي لا يقوم على أصل من البيان والبلاغة. أَجَلْ، إن كثيرًا مما وقع في كتاب الشيخ اليازجي -على جلالته- إنْ هو إلّا مجازات واستعاراتٌ كأخيلِة المحموم مادَّتها من الهذيانِ اللغويِّ الذي لا يَصِل إلى الحقيقة بأسباب من منطق العقل. والبلاغةُ ليست إلّا حفظ النسبة بين الحقيقة اللغوية والمجاز البياني، فكل ما لم يكنْ كذلك من المجاز والاستعارة فهو لَغْوٌ يتشدقُ به من ليس لَهُ طبعٌ أدبيٌّ رفيع. وجهدُ اليازجيّ كان حشدًا من كلامِ العصور المتقدمة في العربية، فأخذ من الجيد والردئ على غير نقد أو تمييز. فكان واجبُ الأستاذ أحمد أمين -الزاري على الشعر الجاهلي وواصمه بالجناية على الأدب العربي- أن ينقُد مثل هذه العبارات الضعيفة المتهالكة التي لا تتصل بسبب إلى البلاغة العربية على اختلاف عصورها لا أن ينقلها إلى كلامه. وإلا فلينظر الأستاذ إلى أثر هذه المجازات في بيان الشباب الذي يحبُّه ويعجب بأدبه، ويتلقى كلامه بالإجلال وحب الاقتداء.

الشعر والشعراء

الشعر والشعراء أخشى أن يكون أهمَّ أركان الشعر إحساسُ الشاعر بمعانيه إحساسًا كاملًا نافذًا متغلغلًا، لا يدعُ للمنطق العقلي المجرّدِ عملًا في تكوين شعوره. وليس معنى ذلك أن يَتَعرَّى الشعر من المنطق العقلي المجرد، بل معناه أن ينقلب المنطق العقلي -بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته- حاسة دقيقة مدبِّرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتصريفه في وجوهه على هُدًى لا يضل معه، فلا يشرُد عن الغرض الذي يرمى إليه في التعبير عن الصور التي تنشأ لهذا الإحساس. وإذن فأكبَرُ عمل المنطق العقلي في الشاعر أن يُمِدَّ الإحساسَ، بما ليسَ لَهُ من الاستواءِ والاستقامةِ والسدَاد، وكذلك تتداعَى إليه الألفاظُ التي يريدُ التعبير بها مقترنًا بعضها إلى بعض، بحيث لا تخرج هذه الألفاظ في الكلام حائرة قلقة، تجول في عبارتها من انقطاع الرباط الذي يربطها بالمعاني التي أحسها الشاعر، فهاجتْه فغلبته فأراد التعبير عنها تعبيرًا صافيًا مهتزًّا متغلغلًا قويًّا، فيه صفاءُ الإحساس، واهتزازه وتغلغله وقوته. وأداة المنطق العقلي هي اللغة، والعقل بغير اللغة لا يستطيع أن يستوى ويتسلسل ويتصل، ولا أن تتدفق معانيه في مجراها الطبيعي. فالمنطق العقلي كما ترى هو خزانة اللغة التي تمول الإحساس، فهو يتقاضاها ما تستطيع أن تمده به من المادة التي تمكنه من الظهور والانتقال. فربما أخذ من اللغة ما هو "موصل ردئ" للإحساس، وربما أخذ منها ما هو "موصِّل جيد" يستطيع أن يسرى فيه إلى قارئه أو سامعه، فإذا عرفت هذا أيقنت أن الشعر يتصل أول ما يتصل بإحساس قارئه وسامعه، فيهزه بقدر ما تحمل ألفاظه من إحساس قائله. فإذا أَخفق أن يكون أثره كذلك، فمرجع هذا إلى أحد أمرين: إما أن الشاعر لم يُوَفَّق إحساسُه في الاستمداد من لغته ما يطابق الإحساس ويكون "موصِّلًا جيدًا" له، لأن منطقه العقلي لم ينبذ إليه من مادته ما هو حق ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 347)، 1940، ص: 343 - 347

المعاني التي يتطلبها إحساسه، هذه واحدة. أو لأن مادة هذا المنطق العقلي أفقر من إحساس الشاعر، فهي لا تملك عندها ما يكفي للتعبير عن إحساسه، فهذه أخرى. ولهذه العلة الأخيرة تجد كثيرًا من عامة الناس ليسوا شعراء، ومع ذلك فربما كان أحدهم أدق إحساسًا وأعمق وأعنف، ويكون إحساسه أحفلَ بالمعاني وأغنى، وإنما يقطعهُ عن الشِّعر هذه العلَّة، وهي فقر المنطق العقلي من اللغة التي هي مال له. أو انقطاع المنطق العقليّ دون الوصول إلى المنطقة التي ينقلب فيها هذا المنطق -بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته- حاسة دقيقة مدبِّرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتسديده للغرض الذي يرمى إليه في التعبير عن معاني الإحساس، كما قدمناه آنفًا. وأما الأمر الثاني -الذي يُخْفِقُ بسببه الشعر في التأثير- فمرَدُّهُ إلى القارئ أو السامع. فإذا كان إحساسُ السامع أو القارئ ضعيفًا بليدًا غثًّا، فمهما يَأتِه من شعر حافل قويٍّ عنيف دقيق العبارة عن إحساس شاعره -فهو لديه شيءٌ فاتِرٌ ضعيفٌ لا يهزُّه ولا يبلغُ منه ولا ينفذُ فيه، وهذا الضرب من العامة الذين لا يتأثرون بالشعر لا يُعتد بهم ولا ينظر إليهم، ولكن هناك ضربٌ آخر يكون بليغ الإحساس جيد التلقي، صالحًا للتأثر بما ينتقل إليه من هزة الإحساس فيهتزُّ لها ويطرب، وقد يكون مع ذلك خِلوًا من اللغة التي يعبِّر بها الشعر، إذ ليس له منطقٌ عقليٌّ سامٍ متخير للكلام يختزن اللغة لنفسه إذا فكَّر، ولفهمه إذا حُدِّث أو أُنشد؛ فهو ربما سمع الشعر الجيد فلم يبلغ منه المبلغ الذي أريد له هذا الشعر، وكثر هؤلاء في عصرنا هذا حتى سقط الشِّعر ولم يحفلْ به إلا قليلٌ؛ وهم لم يكونوا كذلك إلا لفساد التعليم وقلة احتفاله باللغة وبيانها وأسلوب مجازها، ولأن الجهلاء والسخفاء هم سوادُ الناس، وفساد الطبائع فيهم راجعٌ إلى هذين: فمخالطة الجهالة تورث الجهالة والخبال، وترك التعلُّم وسوء التعليم ذريعةٌ مفضيةٌ إلى الجهل والبلادة، فكيف -مع هذين- يخلص أحدهم من فقر العقل وبلادة التأثر بالشعر البليغ الحافل بالإحساس المشبوب العنيف؟ فأنت ترى: أن اللغة المتخيرة المرصدة للتعبير عن الإحساس تعبيرًا مسددًا

شاعر! !

بالمنطق العقلي الذي لا يزلُّ على مدارج المجاز فتنقطع صلاتُه بحقائق المعاني التي وضعت لها هذه الألفاظ اللغوية. . .، ثم المنطقُ العقلي الذي يختزن هذه اللغة، ويستطيع أن يتحوَّل حاسة دقيقة مدبرة تقوم على الإحساس وتحوطه من الضلال. . .، ثم المعاني التي يتمثلها إحساس الشاعر حين يَهيجه ما يؤثر فيه تأثيرًا قويًا عنيفًا -هذه الثلاثة هي، مادة الشعر الجيد، فإذا سقط أحدها أو انحط أو ضعف، سقط الشِّعرُ بسقوطه أو انحط أو ضعف. وأنا أقول: إن أكثر شعر العصر العربي الحاضر قد انحط وضعف وسقط، لأن أكثر الشعراء قد بلغ منهم العيب مبلغًا أفسد كل ما يعتدُّ به من آثار "الشاعرية" التي بقيت فيهم، ولم يخلص لأحد منهم جميع هذه الثلاثة التي ذكرنا. ولكن بقي لشاعرين أو ثلاثة ما يمكن أن يُلحقهم بأهل المرتبة الأولى من الشعراء العبقريين، وهذه المرتبةُ الأولى إنما نتخيلُها ولا نكاد نعرف أحدًا استوى عليها، فملك فيها بيان العربية وشعرها يصرفهما كيف شاء، فيكون في تاريخ اللسان العربي عبقرية جديدة كامرئ القيس، ومسلم بن الوليد، والمتنبي، وأبي نواس، والبحتري، وأبي تمام، وغيرهم ممن يعد لسانًا وحده. . . شاعر! ! وأحد هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين سيدفعون أنفسهم في مجاز العربية حتى يبلغوا المرتبة الأولى -فيما نتوهم- هو "محمود حسن إسماعيل": فهو إنسان مرهف الحسّ دقيقه، متوهِّجُ النفس، سريع التلقى للمعاني التي يصورها له إحساسه، وإن إحساسه لينشئ له من هذه الصور والمعاني أكثر مما يستطيع أن يطيق صبره، وهو -إذ فقد الصبر على مطاولة هذه المعاني من إحساسه- تراه يثبُ وثبًا من أَول المعنى إلى آخره لا يترفَّق، كأن في إحساسه روح "قنبلة". فلذلك تجد المنطق العقلي في شعره متفجرًا أبدًا لا يبالي "أوقع على اللفظ من اللغة، أم وقع اللفظ عليه"، ولكنه على كل حال منطق يقظٌ حساس بعيد الوثبة، يحاول دائمًا أن يضبط هذا الإحساس الذي لا يهدأ ولا يستقر. وسينتهي -بعد قليل من المصابرة والمرابطة لإحساس مشاعره- إلى القدرة على متابعة إحساسه وكبحه وتزجيته على هدْى واحد مؤتلف غير مختلف، وذلك حين يجتاز الشاعر

قصيدة الزلزال

السن التي هي علة التوقد الدائم والاهتزاز المتتابع تتابع البرق إذا خفق وومض وضرب بعضه بعضًا بسياط من الضوء في عوارض السحاب. . . وأما لغته، فقد ملك منها ما يكفيه بقدر حاجة بعض إحساسه، فإذا امتدت يده إلى خزائن العربية التي لا تنفد، وتداخل في أسرار حروفها بالمدارسة الطويلة، وتآمرت -ثلاثتُها- على تسنية الأبواب له واحدًا بعد واحد، حتى يستطع أن يستوي على سَرارة (¬1) المرتبة الأولى للشعر غير مدافع. هذا. . . وإن في كثير من شعره الذي نشره إلى اليوم، ما يجعلني على ثقة -إن شاء الله - من أنه مدرك ذلك لا محالة، فهو قد استولى على كل ما هو به شاعر، ولا أظن ظن السوء بقدر الله أن يكون هو قاطعه دون المنهج الذي تعبَّد بين يديه، ولم يبق له إلا قليل حتى يبلغ الذروة العليا. قصيدة الزلزال وقد قرأت قصيدته (*) الأخيرة في "فاجعة تركيا" -كما سماها- ثم سمعتها، فوجدت لزامًا عليّ في هذا الباب أن أثبت بعض رأيي في الشعر والشاعر، ثم في "محمود حسن إسماعيل" خاصة، ثم في هذه القصيدة، وقبيح أن يجهل مريدو الشعر الجيد هذه القصيدة الفذة، التي تكشف عن السر المستكن وراء هذا الشاعر. وإذ قد عرضنا مرة لبعض الشعر الأسود المظلم، فلا بد إذن من أن نمحو آيته ببعض آيات الشعر المشرق المضئ. وقد كان "زلزال الأناضول" عذابًا من العذاب الأكبر بأهواله، حتى قالوا إنه أشد ما عرف من الزلازل وأخطرها وأفظعها موقعًا وأثرًا، وقد كان ما تنشره الصحف اليومية من أخباره هولًا هائلًا مفزعًا يكاد يجعل الولدان شيبًا. فلا شك إذن أن يكون هذا الرعب الراجف في إحساس شاعر فزِعٍ "كمحمود" رجفة يُرعد بها رِعدة طائرة مدوية مصلصلة مجلجلة. ¬

_ (¬1) سرارة كل شيء: أكرمه وخياره. (*) وهي طويلة تزيد على ثمانين بيتا، فلذلك لم نستطع أن نستوفي الكلام عنها وإنما دللنا على منهاجها وروعتها (شاكر).

وأنت إذا بدأت القصيدة: هات الشدائد للجريحةِ هاتها ... فالصبر في الأهوال دِينُ أُساتها واحشُد صروفك يا زمان فربما ... لهبُ العظائم شُب من نكباتها ولعلها خمرٌ تدور فيستقى ... خَمْرَ الكفاح الشرقُ من كاساتها رأيت الأمر والنداء، نداء الفزع الطامي بطغيان أمواجه على إحساس الشاعر، فلم يملك إلا إسلام نفسه إلى اليأس، فيستزيد من البلاء ويطلبه فيقول: "هات الشدائد" ثم يعود فيقول: "هاتها" ليثبت إيمانه بالصبر على هذا البلاء، فهو إيحاء، إذ قد يئس أن يصرف عن إحساسه ما طغى به عليه هول ما سمع من صفة الزلزال. ويَدُلُّك على أن هذا المطلع قطعة من اليأس، عودتُه إلى الشك في هذه الشدائد الموقدة بنارها ولهيبها، والتي زلزلتْ أمة من الناس فكانوا كما قال الله تعالى في صفة زلزلة الساعة: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}. فكذلك عاد الشاعر يشك بعد طغيان البلاء عليه أن ينقلب كل ذلك الرعب الذي اضطرب به الناس سُكرًا يجزِّئ هذا الشرق المغلوب على الكفاح، في زمن يرمى من أهواله شدائد ترجف بالشرق رجفة كأشد ما رَجفتْ زلزلة الأناضول، فلذلك قال: "ولعلها خمر. . . .". هي أمةٌ زلزلتَ جَنبَ مِهادها ... ونفختَ ريحَ الموت في جَنباتها وهذا البيت يكاد يكون الحد الفاصل بين يأس الشاعر الذي طغى عليه حتى أنساه روح الزلزلة التي كانت في إحساسه، وهو نفسه الذي يردُّه مرة أخرى فزعًا ثائرًا متوثبًا تتقاذقه تهاويل إحساسه في رعب بعد رعب. شَوَّهتَ صَفحتها بمديةِ جازِر ... الرحمة انتحرت بحدِّ شَباتِها مجنونةُ الحدّيْن لو هي لَوَّحتْ ... لانهَدَّ رُكن الأرض من حركاتها ذئبية الشهوات جاع حديدُها ... وأراق جوع الوحش في لَهَواتها وهنا موضع يوقف عنده، فإن المعنى الذي أراده الشاعر، والصورة التي

نشأت من شدة إحساسه بهول الزلزلة طغتْ فلم يستطع المنطق أن يضبط اللغة على قياسها، فهو يريد أن يقول: إنه ورى هذه المدية الصقيلة الذئبية الجائعة المهلكة المجنونة فيرى على حَدَّيْها وصفحتيها من فِرِندها وضوئها ومائها ما ينسابُ ويتريَّق ويتلألأ ويرمي بأضوائه كأنه ضوء جائع يريد أن يلتهم كل ما يلقاه، وذلك قوله: "وأراق جوع الوحش في لهواتها" فقوله: "وأراق" هنا لا توافق المعنى، وقد أوقعه عليها اختلاط "فرند المُدْيَة" -وهو ماؤها- بالمعنى الذي أراده، ولو قال: "يذكى سعار الوحش في لهواتها" أو ما يقارب ذلك لكان أجود. ثم يمضي الشاعر في تصوير ما تخيله -حين فجأت الزلزلة الأناضول-: والناسُ غَرْقى في السكون سَجتْ بهم ... سِنَة يَنامُ الهوْلُ في سَكناتِها بَيْنا همُ فَوْق المهودِ عَوَالمٌ ... غشَّى ضبابُ الصمت كل جهاتها وإذا بقلبِ الأرض يرجفُ رجفةً ... دُكَّ الصباحُ وذابَ في خَفَقَاتِها وانشقَّت الدُّنيا لديه فلم يَجِدْ ... أرضًا يغيثُ النورَ في رَبَواتها فَطوَى المدائن والقرَى وهَوَى بها ... في سدْفَة تهوي على ظلماتِها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وبنى اللحودَ على المهودِ وهدَّها ... فَنَضَا ستورَ الموت عن عَوراتها زأرت جراحُ الأرضِ فاهتاجَ الردى ... وتنهد الزلزال في ساحاتها وإذا الذي أتى به في وصف الزلزلة إلى آخر القصيدة شيء هائل مخيف تقشعر

إلى بعض القراء

له الأبدان، وتراه متدفقًا طاغيًا لا تكاد تقف على كلمة منه إلا مرتاعًا قد قفَّ شعرك (¬1) عن هول ما تنقل إليك ألفاظه من معاني إحساسه الثائر المتفجر: أنفاسه لهبُ الجحيم وخطوه ... خطو المنايا السود في فجآتها إلى بعض القراء . . . وبعد، فإن العالِمَ الثقةَ الثبت المحقق الدكتور بشر فارس قد عَلِمَ فَعلَّمَ! ! وأنا أشكرُ له ما علّمني، فأنا لا أحب أن أكون كالذي قيل في أمره: "لا تناظرْ جاهلًا ولا لجوجا فإنه يجعل المناظرة ذريعة إلى التعلُّم بغير شكر". ثم بصَّر "بشر" أيضًا بما كنت أَجهل من العروض واللغة والبيان، فأوغَرَ صدري، فنثرت حول قَهْري ما ملكت من نُفاية الكلام وكذلك طوّقتُ نفسي به زينة وحِلية أتبرّج بها للناس أو كما قال! وهو كذلك. . . فأنا أحمد الله الذي كفاني شر الغرورِ والخيلاء، ولم يجعلني كالجاهلة الخرقاء التي زعموها تأنَّقت بما ليس فيها، ولا هو من طباعها، حتى ضربوا بها المثل فقالوا: "خرقاءُ ذات نِيقة" (¬2)، والحمد لله الذي لم يجعلني ممن يتزين بما ليس تملكه يداه، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "المتشبّع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبي زُور" (¬3)، والحمد لله الذي جعلني جاهلًا يعرف أنه جاهل، ومن أين لمثلي العلم؟ أليس قد "ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوء" كما قال ابن شُبرمة في رواية بشر فارس عن ابن شبرمة: (بريد "الرسالة" العدد 346). وقد قرر الأستاذ بشر أنه بصرني بأمور ثلاثة، وأني سلمت مرغمًا بأنه بصرنى بما كنت أجهل من أمرها! ! وإذا قرر الأستاذ بشر فقد وجب عليّ وعلى الناس التسليم بما قرر، أليس ذلك كذلك. بَلى، {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ومع ذلك، فمن غَلَبة الجهل علينا أن البحر الذي وضعه وسماه ¬

_ (¬1) قَفَّ الشَّعْرُ: قام من الفزع. (¬2) قال الميداني في مضرب هذا المثل: "يضرب للجاهل بالأمر وهو مع ذلك يدعى المعرفة". (¬3) "كلابس ثَوْبَىْ زور" مثل، انظر الميداني 3: 35.

"المنطلق"، لا يزال عندنا وعند أصحابنا من علماء العروض هو من "مجزوءة المتدارك" أدْخَل الشاعر الأستاذ على ضربها العرج أو الفساد أو الخبن أو ما شئت فسمِّه، ثم ألزمها ذلك في سائر أبياته، ثم قال إنه وضع بحرًا. ومن غلبة جهلنا أيضًا أننا نعده وزنًا ثقيلًا غثًا كسائر الأوزان الممكنة التي تركتها العرب لثقلها على السمع، فلم تجزها في شعرها، ومن غلبة جهلنا أيضًا أننا لا نزال ندعى أن لن يوجد في أصحاب الألسنة العربية من الشعراء المجيدين من يتابع النظم على هذا الوزن الجافي من "مجزوءة المتدارك"، وكذلك أهملناه وسنهمله. وأما حديث "الزلزلة"، فلا نزال نقول إن كل حرف من حروف العربية ينقل إلى المجاز، فهو يتطلب دائمًا حقيقته، وإلا فسد مجازه. فإذا كان أصل الحرف "زلزل" وحقيقته: أن يزلَّ الشيء عن مكانه مرة بعد مرة، أي أن ينتقل ويتحرك ويسقط ويخرج عن الموضع الذي يستقر عليه، فلابد في كل مجاز لهذا الحرف أن يكون ما يقع عليه فعل الزلزلة - (أي نائب الفاعل أو المفعول) - شيئًا منتقلًا من مكان إلى مكان أو شيئًا يجوز أن ينتقل من مكان إلى مكان، فهذا هو شرط المجاز أو الاستعارة في هذا وأمثاله، وإذ ليست الأذن كذلك، فقولك "زلزل الطرب أُذُنى" مجازٌ فاسدٌ لأن الأذُن ثابتة لا تتحرك. وإذا قال كتاب "خلاصة الطبيعة في الصوت! ! " في باب "شرح عمل الأذن" إن الصوت يهزُّ غشاء طبلة الأذن حين تصكُّها الأمواج الهوائية التي يُحدثها مصدر الصوت، فليس معنى "يهز الغشاء" هنا أنه ينقله من مكان إلى مكان آخر، فإذا كان ذلك كذلك، وكان غشاء طبلة الأذن مثبتًا لا يتحرك أي لا ينتقل من مكانه، وإنما هو اهتزازٌ يلحقه، فليس في الدنيا "ناى" أو غيره يستطيع أن يجعله يتحرك أي ينتقل من مكانه، ولو كان في قلب هذا "الناى" عشرون فرقة من فرق "الجازبنْد". . . ولو كان ذلك فتحرك الغشاء قليلًا عن مكانه لتمزَّق وانخرَق، وكان الصَّمم، وإذن فليس يجوز في العربية أن يقال "زلزل الطرب أو الناى غشاءَ طبلة أُذُني"! وإلا فهو مجازٌ فاسدٌ أيضًا.

ابن شبرمة! !

وأما ما يقال من أن الزلزلة والطرب على مجاورة في لغتنا! ! فهو شيء لا أصل له، وهي عبارة لا تؤدى إلى معنى، وهو كلام "يدخل بعد العِشاءِ في العرب". وأخيرًا. . .، فمن عظة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قوله: "من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يُباهي به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار". ونحن نعوذ بالله أن نخالف عن أمر نبينا، أو نكون ممن يستخف بما أنذر به، فنباهي الأستاذ بشر بما نعلم، وإذن فلست أجهل حديثي هذا إلا للقراء وحدهم لأضع به عن نفسي أمانة العلم. . . حتى إذا ما الصباحُ لاحَ لهم ... بيَّن ستُّوقَهم من الذهب (¬1) والناس قد أصبحوا صيارفة ... أعلم شيء بزائف النسب فأستأذن القراء وأستغفرهم، فأنا امْرُؤٌ لا يحب أن ينصب نفسَه لمَن هو عنده نفسُه أكبرُ من نفسه والسلام. ابن شُبرمة! ! وما دمنا في حديث أمانة العلم، فقد رأيت أن الأستاذ المحقق "بشر فارس" روى خبرًا عن ابن شبرمة القاضي قدمناه آنفًا وهو: "ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سود". وقد رأيت صاحب العقد الفريد (ج 1 ص 205 طبعة بولاق أيضًا! ) قد أورده بهذا النص عينه، وهو يبدو لنا نصًا عربيًا مظلم النور. وتحرير رواية الخبر: "ذهب العلم إلا غُبَّراتٍ في أوعية سوء" بضم الغين المعجمة وفتح الباء المشددة. والغبّرات جمع غبّر، وهو آخر الشيء وعقابيله وما يبقى منه. يريد ابن شبرمة: أن العلم لم يبق منه إلا قليل قد وقع في صدور رجال من الفخار والخزف لا تضئ ولا تقبل الضوء. وقد ورد هذا الحرف (غبرات) في حديث عمرو بن العاص يقول لعمر بن الخطاب: "إني والله ما تأبّطتني الإماءُ، ولا حملتني البغايا في غبّرات المآلي". ¬

_ (¬1) الستوق (بفتح السين وضمها): الزَّيْف البهرج الذي لا خير فيه، وهو مُعَرَّب.

والمآلي خرق للنساء يكون فيها الدم، وغبّراتها بقايا الدم. ومن ذلك أيضًا قول أبي كبير الهُذَلي يصف ابن زوجته تأبط شرًّا الشاعر الفاتك: حَملتْ بِهِ في ليلةٍ مَزْؤودةٍ ... كرْهًا وعقدُ نِطاقِها لم يُحللِ (¬1) فأتتْ بِهِ حُوشَ الفؤاد مبطنًا ... سُهدًا إذا ما نام ليل الهَوْجَل (¬2) وَمُبرَّأ من كل "غُبّر حَيْضة" ... وفساد مرضعة، وداءٍ مُغْيل (¬3) فهذا تحقيق رواية الخبر على التحرير والدراية، فمن كانت عنده نسخة من (العقد الفريد طبعة بولاق! ) فليصححه ¬

_ (¬1) مزؤودة: فَزِعة، نسب إليها الفزع لأنه وقع فيها. (¬2) حوش الفؤاد: وَحْشِيّ الفؤاد حديده. المبطَّن: الضامر البطن، وهو مدح. السُّهُد: الذي لا ينام الليل، من حذره وتوقُّده. الهوجل: الوَخِم الثقيل، ونسب النوم لليلة لأنه يقع فيها. (¬3) مُغْيِل: من الغَيْل، وهو أن تُغْشَى المرأة وهي تُرْضِع، فذلك اللبن الغَيْلُ، ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "لَهَمَمْتُ أن أنهي عن الغَيْلَة".

من مذكرات ابن أبي ربيعة (الحقيقة المؤمنة)

من مذكرات ابن أبي رَبيعة الحقيقة المؤمنة " قال عمر بن أبي ربيعة". . . فبادرت أعدو يكادُ ينشقُّ عليَّ جِلْدى من شدَّة العَدْو، فقد أَكلتْ مني السنُّ وتعرَّقتْنى (¬1) أَنيابُ الكِبَر؛ فما جاوزت رَوْضة قصر أمير المؤمنين حتى تقطعت أنفاسي من الجهد، وتلقاني الآذِنُ: ما عدا بِكَ يا أبا الخطاب؟ فقلت: إِيذَن لي على أمير المؤمنين [هو الوليد بن عبد الملك]، فقد نزل بنا ما لا ردَّ له، وتبعتُه. . . والله إِنَّ فرائصي لتُرْعدُ وكأني محمومٌ قد جرت عليه هبَّةُ ريح باردة. . . وغاب الآذنُ: فما هو إلا أمير المؤمنين يستقبلني كالفزِع، وقد خرج إليّ فقال: أي شيء هو يا ابن أبي ربيعة؟ قلت: والله ما أدري يا أمير المؤمنين، فما كان إلّا ومحمد بن عروة [بن الزبير] تحت سناكبها، فما زالت تضربه بقوائمها، وما أدركناه إلا وقد تهشم وجهه وتحطمت أضلاعه! ! . وكأنما فارقتني الروح، فما أشعر إلا وأمير المؤمنين قائم على رأسي ينضح الماءَ على وجهي، وقد قُرِّبتْ إليَّ مَجْمرَةٌ يسطعِ منها ريح المندَلِ الرطِب، فلما أفقتُ ورجَعَتْ إليّ روحي سألني أمير المؤمنين أن أقصَّ عليه الخبرَ. . . قلت: خرجنا أنا ومحمد بن عروة وهشامٌ أخوه نريد منزلنا من قصر أمير المؤمنين، نرجو أن نتخفَّف من بعض ثيابنا، فقد أنهكنا الحرُّ. . . فنظر محمد إلى مرآةٍ من فِضِّة مُجلوّةٍ معلقةٍ في البيت، ثم قال: أتذكُر يا أبا الخطاب حَجَّتنا تلك قلت: أيَّتهنَّ؟ فقد أكثرتَ وعمَّك الحجَّ، فقال: سرعان ما نسى الشيخ، لقد كبرت والله يا أبا الخطاب! وقد حدثني أبي بالذي كان منك، فقد كنت تسايره ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 348)، 1940، ص: 383 - 385 (¬1) تعرق فلانٌ العَظْمَ: أخذ عنه اللحم

وتحادثه، فلم تلبث أن سألته: وأين زينُ المواكب (¬1) يا أبا عبد الله؟ فقال لك: أمامَك، فأردت تركضُ راحلتك تطلبُني، فقال لك: يا أبا الخطاب، أوَ لسنا أكفاءً كِرامًا لمحادثتك، ونحن أولَى أن تسايرنا، فقلت له: بَلَى، بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! ولكني مُغرًى بهذا الجمال اتّبعهُ حيث كان، ثم عدلتَ بِراحلتك وضربتها وأقبلتَ إليَّ، وجعل أبي يتعجب منك وَيضحك، وقد استنار وجهه. . . إحدى سوآتك هي والله يا أبا الخطاب. . . فضحكت لقوله وتناقلنا الحديث وإذا هو ساكنٌ ساجٍ كأنما غشيَته غاشية همٍّ، فقلت: ما بك يا محمد؟ فزفر والله يا أمير المؤمنين زفرة كأنما انشقت لها كبدي، ثم قال: أرأيت هذا الجمال الذي تبعته يا أبا الخطاب، يوشك أن يكون طعامًا يلحسه تراب القبر فما ترى إلا عظما أغبر من جمجمة تقذف الرعب من محجريها. لقد روَّعني والله يا أمير المؤمنين حتى تطيَّرتُ وما بي الطيرَة، فأردت أن أصرفه عن بعض وهمه أن يكون الصيف قد أوقد عليه حرّه فحيّره. فانطلقنا جميعًا [يعني هو وهشام ومحمد] إلى سطح البيت نستظل بظلته ونستروح النسمات وأقبلنا نضحك ونعبث ونلهو من بعض اللهو، وإذا طائر يحوم يصفق بجناحيه ثم رنّق فكسرهما من الإعياء ثم سقط ثم درج ثم اضطرب قد كاد يقتله الظمأ. فجرى إليه "محمد" ليأخذه فَيبُلّ ظمأه. فخفّ الطائر فهوى إليه محمد ليدركه، فما نرى والله محمدًا .. قد اختطفه أجَله فجذبه فهوى به إلى اصطبل الدواب، فيقعِ بينها فيثيرها فتهيج، وإذا "زين المواكب" تحت سنابكها تضربه، فما أدركناه والله يا أمير المؤمنين إلا جثة قد ذهب رأسها، وما نرى إلا الدم. . . رحمة الله عليه، لقد. . . قال أمير المؤمنين: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فكيف نحتال لهذا الأمر يا ابن أبي ربيعة؟ قلت: فيم الحيلة يا أمير المؤمنين وقد ذهب القدر بما يُحتال له! فقال: أههنا أنت يا عمر، نمت وسار الركب، هذا أبوه أبو عبد الله شيخ كبير يوشك أن يصاب في نفسه، قلت: يا أمير المؤمنين، هذا ¬

_ (¬1) كان محمد بن عروة يُسَمّى زين المواكب، ربما لجماله وبهائه.

مصابه في ابنه، فما مصابه في نفسه إلا أن يكون الخبر إذ يبلغه؟ وسأحتال له. قال أمير المؤمنين: مهلًا يا عمر، لقد علمت أن أبا عبد الله [عروة بن الزبير بن العوام] كان قد اشتكى رجله وما زال يشتكي، فبينا نحن الساعة جلوس إذ دخل علينا "أبو الحكم" الطبيب النصراني، فاستأذنت أبا عبد الله أن يدَع "أبا الحكم" حتى يرى علة رجله، فما راعنا إلا "أبو الحكم" يقول إنها الأُكلة، وإنها قد ارتفعت تريد الركبة، وإنها إذا بلغت الركبة أفسدت عليه جسده كله فقتلته، فما بُدٌّ من أن تقطع رجله الساعة خشية أن تدب الأكلة إلى حيث لا ينفع القطع ولا البتر. فوجَمتُ والله لهذا البلاء، وقد اختلف به القدَر على شيخ مثل أبي عبد الله في إدبارٍ من العمر، وأخذ أمير المؤمنين بيدي وقام. فدخلنا مجلس الخلافة وإذا وجوه الناس قد جلسوا إلى عُرْوة أبي عبد الله يواسونه ويصبّرونه ويذكرونه بقدَر الله خيره وشرِّه، وإذا فيهم سليمان بن عبد الملك أخو أمير المؤمنين، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وقد حضره ولده هشام فأرَمَّ (¬1) قد انتُسف لونه من الحزن على أخيه والرحمة لأبيه. وأقبل أمير المؤمنين وأنا معه على عرْوة، فتفرق الناس إلى مجالسهم، وإذا عُرْوة كأنْ ليس به شيء، يرفُّ وجهه كأنه فِلْقة قمر وهو يضحك ويقول: لقد كرهت يا أمير المؤمنين أن يقطعوا مني عضوًا يَحط عني بعض ذنوبي، فقد حُدّثنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، فكل سوءِ عملناهُ جزينا به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غفر الله لك يا أبا بكر؛ ألستَ تمَرضُ؟ ألستَ تَنْصَبُ؟ ألست تحزَن؟ ألست تصيبك الَّلأْوَاءُ (¬2)؟ قال: بلى يا رسول الله. قال - صلى الله عليه وسلم -: فهو ما تُجزَون به، فإن ذاك بذاك. لَوَدِدْت يا أمير المؤمنين أنها بقيتْ بدائها فهي كفَّارةٌ تحتُّ الذَّنْبِ. ¬

_ (¬1) أَرَمَّ: جلس ساكنا لا يتحرك. (¬2) الَّلأوَاءُ: الشِّدِّة.

قال أمير المؤمنين: غفر الله لك، غفر الله لك، وما أعجبُ لصبرك، فأمُّك أسماء بنت أبي بكر الصديق "ذات النِّطاقين" وأبوك حَوَاريُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته الزبير بن العوام، فرضى الله عنك وأرضاك يا أبا عبد الله. فما كدنا حتى أقبل أبو الحكم، وهو شيخ نصرانيٌّ طويل فارعٌ مَشبوحُ (¬1) العظام، قد تخدَّد لحمه، أحمرُ أزْهرُ أصلع الرأس إِلا شعرات بيضًا قد بقيت له، كثُّ اللحية طويلها، لو ضربتها الريح لطارت به؛ ودخل أبو الحَكَم وراء لحيته وهي تسعى بين يديه، حتى وقف على عروة بن الزبير فقال: لابدّ مما ليس منه بُدٌّ يا أبا عبد الله، وإني والله لأرحَمك وأخشى أن يبلُغ منك الجهد، فما أرى لك إلا أن نسقيك الخمر حتى لا تجد بها ألم القطع. قال عروة: أبْعَدَكَ الله من شيخ، وبئس والله ما رأيت! إنا والله ما نحبُّ أن يرانا الله بحيث نستعين بحرامه على ما نرجو من عافيته! قال أبو الحكم: فنسقيك المُرْقِدَ (¬2)، يا أبا عبد الله! قال عروة: ما أحبُّ أن أُسْلَبَ عضوًا من أعضائي وأنا لا أجد أَلَم ذلك فأحتسبه عند الله. قال أبو الحكم: وقاك الله يا أبا عبد الله! لقد ألنت منا قلوبًا كانت قاسية؛ ثم التفت (أبو الحكم) إلى رجال سود غِلاظ شداد قد وقفوا ناحية فقال: أقبلوا، فأقبلوا. . . فأخذتهم عينُ عروة فأنكرهم فقال: ما هؤلاء؟ فقال أبو الحكم: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب (¬3) معه الصبر، قال عروة: أما تُقلع أيها الشيخ عن باطِلك، انصرفوا يرحمكم الله، وإني لأرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، ولا والله ما يسعني أن هذا الحائط وقاني أذاها فاحتمل عني ألمها. أقبل يا أبا الحكم، وخذ فيما جئتَ له {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}. ¬

_ (¬1) مشبوح: عريض. (¬2) المُرْقِد: شيء يشرب فيُنَوَّمُ مَنْ شربه ويُرْقِدُه. (¬3) عزب (من باب ضرب ونصر): بَعُدَ.

فرأيت أبا الحكم وقد برق وجهه وتوقد كأنما أسلم بعد كفر، ثم نشر درجًا كان في يده وأخرج منشارًا دقيقًا طويلًا صقيلًا يضحك فيه الشعاع ووُضع الطست ومَد أبو عبد الله رجْله على الطست وهو يقول: باسم الله والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}. تقدم يا أبا الحكم فقد احتسبتها لله. فما بقي والله أحدٌ في المجلسِ إلا استَدارَ ودَفَنَ وجههُ في كفيه، وبكى القوم فَعَلَا نشيجهم، وإن عرْوةَ لساكن قارٍّ ينظر إلى ما يرادُ به، وكأنما مَلَكٌ قد جاء إلى الأرض يستقبل آلامها بروح من السماء. ووضع أبو الحكم منشاره في اللحم إلى العظم، وإن عروة لصائم يومه ذاك، فما تضور وجهه ولا تقبض، والمنشار يأكل في عظمه الحي، وما يزيد على أن يهلل ويكبر ويسبح الله، وكأن الدار والله قد أضاء جوها كأنه شعاع ينسكب من تهليله وتكبيره، ودخل رجال يحملون مغارف من حديد يفور منها ريح الزيت وقد غلى فيها على النار، ودنوا فما هو إلا أن فرغ أبو الحكم وقد فار الدم منها وتفجر مثل الينبوع، فأخذها أبو الحكم يغمسها في الزيت فيسمع نشيشها فيه حتى حسم الدم. وإذا عروة قد غشى عليه، وإذا وجهه قد صفِر من الدم، وقد نجِدَ (¬1) فنضح وجهُه بالعرق، ولكنه بقي مشرقًا نيرًا يرفُّ كأنه عَرارة (¬2) تحت الندى. قال أبو الحكم: ما رأيت كاليوم يا أمير المؤمنين إنه الرجل، وإنها الحقيقة المؤمِنة، وإن إيمانه ليحوطه ويثبته ويسكنه وينفض عنه الجزع، ثم التفت إلى عروة يقول: جزاك الله خيرًا يا أبا عبد الله، لأنت والله تمثال الصبر في إهاب رجل. وما لبثنا، حتى إذا أفاق أبو عبد الله جلس يقول: لا إله إلا الله والحمد لله، ويمسح عن وجهه النومَ والعرق بكفيه، وينظر فيرى قدمه في يد رجل يهم أن يخرج بها فيناديه: على رِسْلِك أيها الرجل، أرنى ما تحمل؛ فيأخذ قدمه في يده فيرنو إليها وقد سكن وحرّك شفتيه. ثم يقلبها في يده ثم يقول لها: أما والذي ¬

_ (¬1) نجد: سال عَرَقُه. (¬2) العَرارة: نبتة طيبة الريح، وهي النرجس البرِّي.

حملني عليك، لقد علمتِ أني ما مشيت بك إلى حرام ولا معصية، اللهم هذه نعمة أنعمت بها عليّ ثم سلبتنيها أحتسبُها عندك راضيًا مطمئنًّا إنك أنت الغفور الرحيم. خذها أيها الرجل؛ ثم أضاءَ وجهه بالإيمان والصبر عن مثل الدرة في شعاع الشمس. . . . قال أمير المؤمنين: غفر الله لك يا أبا عبد الله، وإن في الناس لمن هو أعظم بلاءً منك، يا عمر [يريد عمر بن عبد العزيز]، ناد الرجل من أخوالي [يعني من بني عَبْس] فيقبل عمر ومعه رجلٌ ضريرٌ محطومُ الوجهِ لا تُرى إلّا دمامته، فيقول لهُ أمير المؤمنين: حدّثْ أبا عبد الله بخبرك يا أبا صعصعة، فيلتفت الرجل إلى عُرْوة ويُقبل عليه فيقول: ابنَ الزُّبير، قد والله لقيتَ البلاءَ، يا فقيه المدينة وابن حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإني والله محدثك عني بخبري عسى أن يرفع عنك: فقد بتُّ ليلة في بطن واد، ولا أعلم عَبسيًّا في الأرض يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيلٌ جارفٌ كأنه الطوفان، يتقاذف بين يديه موجًا كالجبال، فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد إلا صبيًا مولودًا وبعيرًا نِضوًا ضعيفا. فندَّ البعيرُ يومًا والصبي معي، فوضعته واتبعت البعير أطلبه، فما جاوزت ابنى قليلًا إلا ورأسُ الذئب في بطنه قد بعجها بأنيابه العُصل فاستل أحشاءه، وإن الصغير ليصرخ، ويركض برجليه الأرض، فكدت والله أسوخ في الأرض مما رأيت، ولكني ذكرت الله واستعنته واحتسبتُ الصغير فتركته لقدر الله واتبعت البعير، فهممت آخذ بذنبه وقد أدركته، فرمحني رمحة حطم بها وجهي وأذهب عينيَّ، فأصبحت لا ذا مال ولا ذا ولد ولا ذا بصر، وإني أحمد الله إليك، يا أبا عبد الله، فاصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور. قال عُروة: لقد أفضل الله عليك يا أبا صعصعة وإني لأرجو لك الجنة. قال عمر بن أبي ربيعة: وألاح إليَّ أمير المؤمنين أن أقبل، فدنوت إليه فأسرَّ إليّ: إن أردت الحيلة فقد أمكنتك، فاذهب إلى أبي عبد الله فانْعِ إليه ولده "زين المواكب"، قلت: هو والله الرأي يا أمير المؤمنين، ثم مضيت إلى عروة وقد غلبتني عيناي بالبكاءِ.

فلما قاربته قلت: عزاءك يا أبا عبد الله؛ قال عروة: فيم تعزيني يا أبا الخطاب؟ إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتها لله، قلت: رضى الله عنك، بأبي أنت وأمي، بل أعزِّيك "بزيْن المواكب"، فدهش وتلفَّت ولم ير إلا هشامًا ولده، فرأيت في وجهه المعرفة ثم هدأ فقال: ما لَهُ يا أبا الخطاب؟ فجلست إليه وتحلّق الناس حوالينا وتكنَّفُونا، وأخذت أحدِّثه بشأنه، ووالله ما يزيد على أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنّا لله وإنا إليه راجعون، فلما فرغت من خبري ما زاد على أن قال: وكنتُ إذا الأيامُ أحدثنَ هالكا ... أقول شوًى ما لمْ يُصبنَ حَميمي (¬1) ثم رفع وجهه إلى السماء وقد تندّت عيناه ثم قال: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد فيما أخذت وأبقيت، اللهم أخذت عضوًا وتركت أعضاء، وأخذت ابنًا وتركت أبناء، وأيْمُ الله لئن كنت أخذت لقد أبقيتَ، ولئن ابتليت لطالما عافيت، سبحانك ربنا إليك المصير. قوموا إلى جهار أخيكم يرحمكم الله، وانظروا لا تكون عليه نائحة ولا مُعْوِلة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النياحة، ومُرُوهنَّ بالصبر للصدمة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على امرأة تبكى صبيًّا لها فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: وما تبالي بمصيبتي! فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنما الصبر عند أول الصدمة. وجزاك الله خيرًا عني وعن ولدي يا أمير المؤمنين، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. ¬

_ (¬1) الشَّوَى: اليسير الهيِّن.

غبرات لا غبارات

غُبَّرات لا غُبارات قال شيخُنا أبو عثمان الجاحظ في "كتاب الحيوان" يذكر ما يعرض للكِتابِ المنسوخ من آفات الناسخين: ". . . . ثم يصيرُ هذا الكتاب بعد ذلك لإنسان آخر، فيسير فيه الورّاقُ الثاني سيرةَ الورَّاق الأوّل، ولا تزال تتداوله الأيدى الجانية، والأعراض المفسدة، حتى يصير غَلَطًا صرفًا وكذِبًا مُصْمتًا. فما ظنكم بكتاب يتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخطّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله. . .، كتاب متقادِم الميلاد، دهري الصنعة". ولم يزل أئمتُنا وعلماؤنا وأصحاب العقل من شيوخنا، يردُّون الكلام المنقول المكتوب إلى العقل -بعد التحري للفظه المكتوب- اتِّقاءً لما عرفوه من تحريف الناسخين، وانتحال المبطلين وغفلة الجاهلين. ونحن إنما نمضي على سنتهم -إن شاء الله- ولا نقف عند القول نخرُّ عليه تعبُّدًا لحرفه، وخضوعًا لنصِّه. ولئن فعلنا لمحق الله منا نصف العقل وبقى النصف الآخر متردِّدًا بين قال فلان وكتب فلان. . . . وعلى ذلك، فقد صححنا قول ابن شبرمة في رواية صاحب العقد الفريد في العدد (347) من الرسالة، فجعلناه "ذَهَبَ العلم إلا غُبَّرات في أَوْعية سوء"، ورفضنا نص العقد وهو: "إلَّا غبارات". ثم رأيت في البريد الأدبى من الرسالة (349) كلمة الدكتور بشر فارس يردّ ما ذهبنا إليه بثلاثة براهين نثبتها بالترتيب من تحت إلى فوق: الأول: أن الحرف (غبارات) قد وَرَدَ كذلك في جميع نسخ العقد الفريد المطبوعة، وكذلك في مخطوطة منه بدار الكتب يُظَنُّ أنها كتبت في القرن السادس. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 350)، 1940، ص: 513 - 514

الثاني: أن هذا النص يصح لغة وأداءً وبيانًا. وإذا صحّ كذلك فمن الاستبداد أن يُرَدّ على الهوَى. الثالث: مخالفة نهجنا في ذلك لنهج علماء الفرنجة (المستشرقين). وجوابنا على الترتيب من تحت إلى فوق: إننا أَدْرَى بأساليب هؤلاء الأعاجم -الذين اتخذوا العربية عملًا من أعمالهم- من أن نخالفهم في الجيّد من مذاهبهم، فتحرير النص ومراجعته على جميع النسخ التي ذكر فيها وما إلى ذلك، عملٌ ضرورىٌّ لكل باحث. ولكن هؤلاء الأعاجم تقعد بهم سلائقهم عن معرفة أسرار العربية، فلم يتجاوزوا الوقوف عند النص المكتوب، وذلك لعجزهم عن بيانها. فلما عرفوا ذلك من أنفسهم، كان من أمانتهم أن يتوقفوا، فلا يقطعون برأي في صواب أو خطأ. وهي أمانة مشكورة لهم. ولكن العربيّ إذا أخذ بأسبابهم، فلابُدَّ له من أن يهتدى بعربيته إلى ما عجزوا عنه بأعجميتهم، فكذلك فعلنا في كلمة ابن شبرمة وقلنا "إنه نصٌّ عربيٌّ مُظلم النور". وبيان ذلك أنه ليس من قياس العربية أن يجمع "غبار" على "غبارات" ولا غيرها من الجموع، وأن ابن شبرمة لم يُردْ تحقيرَ العلم نفسه فيجعل ما بقي منه "غبارًا"، وإنما أراد أنه بقي من العلم شيء هو من صحيح العلم، ولكنه وقع في صدور رجال من أهل الباطل يفتونَ الناسَ، يضِلّ بهم من يضِلُّ إذ يحسبونهم لا ينطقون بباطل ما داموا أصحاب فقه ودين وعلم. ولم تكن الشهادات وألقابها عُرِفتْ لعهد ابن شبرمة حتى تكون هي التي تقدر العلماء وتميزهم للناس، وإنما كانوا يتميزون بالعلم، فإذا لم يكن عندهم علم لم يعدهم الناسُ في العلماء. ثم إن الغبارَ لا يمكن أن يُوكى (¬1) عليه في وعاء حتى يصح أن يجعل -ما أغلقت عليه صدورهم من بقية العلم- غبارًا. فلو صح نص العقد لكان المراد تحقير العلم وأصحابه جميعًا. ¬

_ (¬1) يُوكَى: يُرْبَط.

وأخيرًا، فنحن نرفض نص العقد من جهة بيان العربية وتحريرها، ونقول: إنه لا يصح أن يروى إلا هكذا: "ذهب العلم إلا غُبَّرات في أوعية سوء". وإذا كان الدكتور بشر أو غيره يريد أن ينحاز إلى رأينا بنص آخر. فلا بأس علينا أن ندله عليه فقد روى ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" -المطبوع في سنة 1346 عن نسختين قديمتين: إحداهما للإمام الشيخ الشنقيطي وعليها خطه في الجزء الأول منه (ص 153 سطر 6) بإسناده إلى محمد بن سيرين (وليس ابن شبرمة) قال: "ذهب العلم فلم يبق إلا غبرات في أوعية سوء". فهذا نص، وهناك نصوص غيره؛ فمن شاء أن يبحث فليبحث، ونصيحتنا إلى من عنده نسخة من العقد -أي الطبعات كانت- فليصححها بالذي أثبتناه، وما سوى ذلك، فهو -كما قال- أبو عثمان: غلط صرف وكذب مصمت. . . والسلام.

العودة

العودة إن بعض الحوادث في حياة الرجل لتنزل منزلة الآية المحكمة: تنسخ ما كان قبلها، ثم يأتي بعضها كالقنبلة: تخسف الأرض أمامه فلا يرى إلّا هوةً وغبارها، فإذا تلاحقا لم يدر المرءُ ما يستدبرُ من أمره ولا ما يستقبل، وإنما هو الحيرة والضلال والرُّعبُ، والتردّي كلما أقدم أو أحجم. . . بَلَى، إن علينا أن نصارع الحياة بالقوة، وأن نداورها بالحيلة، حتى نخلص إلى الأرض المطمئنة، ولكن هل يستطيع أحدنا بعد ذلك أن يصل إلى هذه الأرض؟ لولا أن اليأس هو باب الموت، لكان هو -في الحقيقة- إحدى الراحتين. . . كتب ولنعُدْ. . . أصدرت المطابع المصرية في الأسابيع الماضية طائفة كثيرة من الكتب العربية، بعضها لأصحابنا من المعاصرين، وبعضها مما أنقذه المعاصرون، من المكتبة العربية المدفونة في خزائن الكتب، فنحن نختار من هذه الكتب ثلاثة يجرى الحديث فيها مجرى واحدًا في الغرض الذي نرمى إليه، وهي كتاب: "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية" وهو دراسات لكبار المستشرقين مثل: بِكَر، وجولد تسيهر، ونلينو، ومايرهوف. ترجمها إلى العربية الأستاذ عبد الرحمن بدوي، وكتاب "الرسالة" لإمام المذهب محمد بن إدريس الشافعي. نشره العالم المحدِّث الثقة الشيخ أحمد محمد شاكر، وكتاب "الذخيرة" لأبي الحسن علي بن بسام، نشرته كلية الآداب مستعينة بمراجعة الأساتذة محمد عبده عزام، وخليل عساكر، وبخاطره الشافعي؛ وأشرف على عملهم أساتذة الجامعة: أحمد أمين، ومصطفى عبد الرازق، وعبد الحميد العبادي، وعبد الوهاب عزام، وطه حسين. وهذه الكتب الثلاثة لا يجمَعُها بابٌ واحدٌ من حيث موضوعها، فالأول آراء للمستشرقين في فروع من الحضارة العربية والآراء الإسلامية، ورسالة الشافعي هي ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 351)، 1940، ص: 539 - 542

المستشرقون

أصل علم "أصول الشريعة". والثالث في تاريخ الأندلس، وشعرائها، وبلغائها، وكتابها. فالذي حملنا على جمعها في باب واحد من كلامنا هو الرأي في المستشرقين، وما يجب علينا أن نتابعهم عليه، وما ينبغي لنا أن نحذره منهم. المستشرقون فقد قرأت مقدمة كتاب "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية" -كتبها الأستاذ "بدوي" بحرارة الشباب التي تتضرم في دَمِه، وجعل يتهدّمُ فيها على التُّراث العربيّ بآراء كالمعاول: تضربُ في الجِذع بعد الجذع على غير هُدًى ولا كتابٍ منير. فلما توغلت في الكتاب رأيت أن آراء المستشرقين- الذين ترجَمَ لهم كلامهم -هي التي وضعتْ في يديه هذه الفأسَ ليعمل بها، ونحن لا نرى أن مثل ذلك مما يُضر بالتراث الإسلامي بشيء، ولكنا نرى أنه يُضرُّ بأصحابه والعاملين عليه أوّل، لأنه يأكل قواهم في شيء لا يمكن أن ينال منه شيءٌ {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}، والمُشْكلة كلُّها هي فتنَةُ أكثر الناس بأسماء المستشرقين، وأن ما يكتبون في التاريخ الإسلامي والعربي ينزل من قلوب كثير من شبان الجامعة وغيرهم منزلة الكلام القُدْسي: تحريف معانيه إبطال لقوة "الاستشراق" التي فتنتهم. ونحن -حين قرأنا بعض آرائهم التي ترجمها الأستاذ "بدوي"- وجدناها عملًا صالح المذهب من ناحية مَدْرَجِه، وأما من ناحية التحقيق العلمي، والغاية التي يرمي إليها، فهو عمل غير صالح. فكان هذا الذي عرفناه هو الذي دفعنا أن نخصص هذه الكلمة للكتب الثلاثة المذكورة آنفًا، ولمذاهب المستشرقين في تناول الكتب العربية القديمة بالتحقيق لنشرها، ثم مذاهبهم خاصة فيما يعالجون من تاريخ الفكر الإسلامي أو الحضارة الإسلامية. وليس غرضنا هنا أن نعرض لنقد شيء بعينه من آرائهم، وإنما نريد أن نثبت لهم حقهم الذي وجب لهم بما بذلوه من جُهْدٍ، ونحذر شبَّاننا من الافتتان بباطل من باطلهم. وينقسم أمر المستشرقين كما ترى إلى عملين: أحدهما عملهم في الكتب العربية القديمة التي نشروها من بدءِ توجههم إلى هذا الغرض، والآخر ما كتبوه

نشر الكتب العربية

من دراساتهم في الآثار العربية، وما أرّخوه من تاريخ الإسلام، وتاريخ آرائه ومذاهبه العلمية والفلسفية. نشر الكتب العربية فالمستشرقون حين بدأوا فنشروا الكتب العربية القديمة لم يقَصِّروا في بذل المال والوقت لاستجلاب الأصول التي يطبعون عنها هذه الكتب، ثم يتفرغ أحدهم لمقارنة الأصول بعضها ببعض، وإثبات الاختلاف بين النسخ الكثيرة التي تقع لهم، وتحرير ذلك بالحرف والنقط والشكل على ما هو عليه في أصل من الأصول، وأمانتهم في إبقاء المحرّف على تحريفه والخطأ على صورته. . . إلى غير ذلك من الدقة والأمانة في إعطاء القارئ صورة كاملة في نسخة واحدة من الكتاب المطبوع لعدة نسخ مختلفة متباينة من الأصول المخطوطة. حتى إنهم ليثبتون في "الهامش أو الاستدراك" ما هو خطأ بيِّنٌ لا يصح على وجه من الوجوه، وإنما هو جهلُ ناسخٍ وإفسادُ كاتبٍ، ثم لا يعطونك رأيًا يرجِّحون به لفظًا على لفظ. . . وحتى إنهم ليثبتون الخطأ الصرف في صلب الكتاب ويكون صوابه في الاستدراك، وحجتهم في ذلك أنهم يعتمدون أقدم النسخ عندهم، يطبعونها كما هي، وأما اختلاف سائر النسخ فهو من حق المستدرك وإن كان هو الصواب الذي لا صواب غيره. وهذا -على علاته- عمل جيد وأمانة صحيحة. ثم جاءتنا هذه المطبوعات في بلادنا على فترة جهل وإهمال، وعلى زمن كلُّ أصحاب المال الذين ينشرون الكتب فيه، إنما هم عامة لا يعنيهم إلا الربح من طبع الكتب حروفًا قد جُمع بعضها إلى بعض على غير نظام ولا تحرير ولا فن. فلما قارن بعضنا هذا بهذا ونحن عرب وهم أعاجم لا يعينهم من عربيتنا ما يجب أن يعنينا، انبثق بثق الفتنة، ومجد الناس همة هؤلاء المستشرقين الأعاجم -وحقَّ لهم- وجعل جماعةٌ ممن لُبِّس عليهم يدفعون القول بعد القول في تعظيمهم والمغالاة فيهم بغير الحق. . . ثم مضى ذلك وانسحب التبجيل على آرائهم في الفكر الإسلامي والتاريخ العربي كما انسحب على أعمالهم في نشر الكتب. . . وأين هذا من ذاك؟

رسالة الشافعي

ثم انبثقَ بثقٌ آخر، فظن بعضُ المغالين أنّ المذهب الذي سلكه المستشرقون في التصحيح، هو المذهبُ لا مذهبَ غيره، وجعلوا يَنْعَونَ على مَنْ يخالفهم من أصحاب اللسان العربي في طريقة نشر الكتب العربية. ومع ذلك فهم على الحق في بعض ما يقولون، ولكنه ليس كل الحقّ، فإن المستشرقينَ لم يذهبوا هذا المذهب، ولم يقفوا هذا الموقف من اختلاف النُّسخ، إلا لعجزهم عن ترجيح بعض الكلام العربيّ على بعض، وذلك لعِلَل بيّنة: أولها جهلهم بالعربية على التمام، فإن تمامَ العربية هو السليقة التي لا تكتسب، كما أن تمام الإنجليزية والفرنسية هو السليقةُ والنشأة والاندماج في الوسط الإنجليزي أو الفرنسي من بدءِ المولد والحضانة، والثاني أنه قَلَّما يوجد فيهم المتخصص في فقه علم بعينه حتى يكونَ حجّة فيه، اللَّهمَ إلَّا أن تكونَ الحجة -عندهم- في جمع نصوص كثيرة في موضوع واحد من كتب شتى، ولكنهم لا يدّعون أبدًا أنهم أصحاب رأي في البيان والتأويل والترجيح. رسالة الشافعي ويجب أن نضرب المثل هنا "برسالة الشافعي" التي طبعها العالم الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر، فهو طبعها عن أصول مخطوطة ومطبوعة، وأقدمها نسخة بخط الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي وراوي كتبه. فالأستاذ الشيخ شاكر حجة في علم الحديث النبوي، وفقيهٌ مُتْقِنٌ للسنة التي هي أصل من أصول الدين، فلمّا تناولَ "الرسالة" يُعدّها للطبع لم يترُك شاردة ولا هائمةً من اللفظِ إلا رَدَّها إلى مكانها من عربية الشافعي وأصوله التي في كتبه، وأثبت الاختلاف ورجح بعضه على بعض، وعمل في ذلك عمل العقل المفكّر بعد أن ضبط كل اختلاف رآه إلى غير ذلك من أبواب التحرير والضبط. فإذا أنت قرأت الأصل دون التعليق رأيته قد سلم من كل عيب، وصار بيانًا كله، بعد أن كان في الطبعة الأولى من "الرسالة" شيئًا متخالفًا يتوقف عليه البصير، فما ظنك بسائر الناس ممن يقرأ وليس له في هذا العلم قديم معرفة أو مشاركة؟ وأنت إذا قارنت هذه الرسالة بأي كتاب من الكتب التي أتقنها أصحابُها من ثقات المستشرقينَ، وجدت الفرق

الذخيرة

الواضح، وعرفت فضل العربي على الأعجمي في نشر الكتب العربية، إذا هو حمل أصولها على أصول الفقه والدراية والتثبت، ولم تخدعه فتنة برأي لعل غيره أقوم منه وأجود. وأنا أذكر بهذه المناسبة أن الأستاذ قد أرسل إليّ في (إبريل سنة 1932) يسألني عن كلمة وردت في حديث من مسند أحمد بن حنبل، ولم أكن قرأتها قبل ذلك، فكتبت إلى الرافعي -رحمه الله- أسأله عنها وعرضت له ما رأيت من رأي، فخالفني الرافعي، ثم لم تمض أيام حتى وجدت في الطبري ما يوافق بعض رأيي أو يدل عليه، وأبى الرافعي أيضًا. ثم لم ألبث أن وجدت نصًا بعينه على الذي رأيت، وهذا الكلمة هي في الحديث. . . "رجل قد جرد نفسه، قد (أطَّنها) على أنه مقتول)، فرأيت أن قراءتها: "أَطَّنَها" والهمزة فيها منقلبة عن الواو فهي "وطنها" وكذلك وردت في الطبري، ولكن أصحاب كتب اللغة لم يثبتوا ذلك في كتبهم كما أثبتوا "وكَدَّ وأكَّدَ، ووثل وأثل" إلى غير ذلك. فأنت ترى أن الطبع والسليقة ربما هدت إلى ما لا يقع إلا بعض طول التنقيب والبحث والتجميع. الذخيرة وهذا أيضًا كتاب "الذخيرة" فإن الجهد الذي بذل في تصحيحه وضبطه على الأصول المخطوطة التي طبع عنها وبيان اختلاف النسخ، قد أوفى على الغاية، وقلَّ من المستشرقين من يستطيع أن ينفذ إلى إجادة مثله في التحرير، ومع ذلك فقد وقع فيه بعض ما كان يمكن تجنبه، لولا أن الأساتذة المصححين قد تهاونوا في تحطيم أسلوب المستشرقين الأعاجم، في التوقف الذي لا معنى له عند العربي ونضيف إلى هذا علة أخرى، هي أنهم ليسوا ممن تخصص لشيء بعينه من تاريخ الأندلس وأدبه، فكذلك بقي بعض الخطأ كما هو، وأُثبت على ذلك وليس له أي معنى. وترْك مثل ذلك للقارئ مما لا يصح ولا يستحسن، ولنضرب لذلك مثلًا أو مثلين: ففي ص 82 ". . . . دبّروا جميعًا عليه فقتلوه ليلًا. . . ." وفي نسخة أخرى "بدروا"؛ وكلا الحرفين لا معنى له في الجملة،

مباحثهم

والصواب عندي أن يكون "اندَرَأوا عليه. . . ." أي هجموا واندفعوا، ومن قرأ النص عرف أن هذا هو حق السياق، وكذلك في ص 110 "وفارس ميدان البيان، وذات صدر الزمان" وفي نسخة "وأذات" وكلاهما ليس له معنى، وهو محرف عن "ودُرَّة" أو أي شيء يكون حليًا للصدر. . . ونحن لا نتتبع وإنما نقلب بعض أوراقه الآن على غير ترتيب، ومع ذلك فهو أجود بكثير من أغلب كتب المستشرقين. هذا. . .، وليس كل المستشرقين ممن يصح الاعتماد عليهم في كل شيء، فقد طبعوا كثيرًا من الكتب. . .، وأقل كتاب وأردأُه مما يطبع في مصر هو خير من مثل هذه الكتب. فلو أخذت مثلًا "كتاب الزُّهرة" لابن داود الظاهري، الذي طبعه الأستاذ "لويس نيكل" بمساعدة الأخ "إبراهيم طوقان" (*)، لوجدت أكثره خطأً، بعد الذي بذله الأستاذ طوقان في الاستدراك عليه. . . ولو شئنا أن نضرب المثال بعد المثال على ذلك لضاق المكان عن إتمام ذلك. مباحثهم أما مباحث المستشرقين فهذه هي موضوع الإشكال كله، والمستشرقون -كما لا يشك أحد- ثلاث فئات: فئة المتعصبين الذين تعلموا العربية في الكنائس لخدمة التبشير، وهم الأصل، لأن الاستشراق في أوله كان قد نشأ هنالك بين رجال الدين. . . وفئة المستشرقين الذي يخدمون السياسة الاستعمارية في الشرق العربي، وفئة العلماء الذين يظن أنهم تجرّدوا من الغرضين جميعًا. . . فأما الفئة الأولى والثانية فما نظن أكثر أقوالهم في المباحث الإسلامية إلا جانحًا إلى غرض أو مركوسًا (¬1) بقوله إليه، وهم أكثرية المستشرقين، ولا نظن أن كلام هؤلاء مما يمكن أن يعتمده أحدٌ إلا أن يكون مفتونًا جاهلًا. وأما الفئة ¬

_ (*) ترجم الأستاذ بدوي هذا الإسم فجعله "توقان"! ! شاكر. (¬1) مركوسا: ركس الشيءَ وأركسه: قَلَبَه ورَدَّه إلى أوله. وفي التنزيل العزي {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا"، أي رَدَّهم إلى الكفر.

العقاد

الثالثة، فهي أيضًا موضع الإشكال، فمن غير الممكن فيما نظن أن يتجرد هؤلاء عن الغرض الخفي الذي يدب من وراءِ الكلام؛ هذا على أنهم كما قدمنا ليسوا أصحاب سليقةٍ في فهم النصوص العربية على التحري لموضوعها، وتمامِ الفقه لمعانيها التي يتعاطونها، وإذن فمن واجب قارئ كلامهم أن يقف عند آرائهم موقف الناقد الذي لا يقبل إلا ما تقبله الطبيعة الفطرية للغة في المعاني التي يستخرجونها من الكلام. ومع ذلك أيضًا فمن عيوب هذه الفئة أنهم ربما استخرجوا قولًا ضعيفًا فاسدًا ليس بشيء في تاريخ الإسلام والعربية، ثم يكتبون وقد اتخذوا هذا القول أصلًا ثم يجرون عليه سائر الأقوال ويؤولونها إليه، ثم يحشدون لذلك شبهًا كثيرة مما يقع في تاريخ مهمل لم يمحص كالتاريخ الإسلامي، وكذلك يلبسون على من لا يعلم تلبيسًا محكما لأنه حشْد وجمع، وتغرير بالجمع والاستقصاء الذي يزعمون. وسنتناول ذلك بعد قليل بعرض بعض الآراء التي ترجمها لنا الأستاذ بدوي في كتابه لنحقق كل ذلك إلى نهايته، حرصًا على أن نحصر الفساد في أضيق محيط. العقاد وأنا لا أحب أن أختم هذا الحديث بغير مثل أيضًا. فهذا الأستاذ "العقاد"، وكلنا يعلم أنه قلما كان يتناول الأغراض الإسلامية بالتحرير والبحث، ولكنه منذ العدد الهجري للرسالة كتب مقالة عن عبقرية محمد - صلى الله عليه وسلم - العسكرية، ثم عن عبقريته السياسية، فاستوفى القول في ذلك وأشبعه، ورد كثيرًا من الشبه التي كان يلبس بها الأعاجم على الأغرار من شبابنا. وليس يستطيع مستشرق أن ينفذ في فهم التاريخ العربي، والاجتماع الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، كما يستطيع كاتب قارئ مطلع كالأستاذ العقاد. ثم هو فوق ذلك أديب عربي يستطيع أن يجعل فطرته العربية الأدبية عونًا له على التغلغل في أسرار تاريخية مطموسة، لا يطيقها المستشرق لفقدانه مثل هذه الفطرة، ثم لأن البيئة العلمية والاجتماعية التي نشأ فيها وتثقف على أساسها لا تطاوعه أو تلين معه، حتى يكون في نظره

إلى التاريخ العربي أو الفلسفة الإسلامية، خَرَّاجًا وَلَّاجًا على طبيعة العرب وطريقتهم في تداول معاني حياتهم، وحياة أفكارهم وفلسفتهم. ونحن نرجو ألا يخلى الأستاذ العقاد مباحثه من هذا النوع الجديد من الفكر في تاريخ تنقذف عليه كل يوم جهالات كثيرة مفسدة ليس لها أصل ولا بها قوة.

توطئة

توطئة كتبت -في هذا الباب- منذ أسابيع بعض رأيي في الشعر والشعراء، ولم يكن همي أن أستوفي كل الرأي فيهما وليس من عملي الآن أن أفعل ذلك، وإنما هي إشارات في لمحات يأخذ بها من يأخذ، ويدعها من شاء أن يدع، وأنا أحب أن أقدم بين يدي كلامي. . . فإن بعض من يغافل نفسه عن حدود الألفاظ ومعانيها ينطلق من ورائها يمد منها بأوهامه مدَّا بعيدًا حتى يخرج بما نكتبه عن المعنى الذي نريده إلى أحلام ووساوس وخطرات يحم بها ثم يغلى ثم ينتفض. . . ثم لا يكون رأيه فينا إلا وهمًا، من فوقه وهم، من فوقه عناد، ظلمات بعضها فوق بعض. فأنا حين أهجم على الغرض الذي أريده من النقد أو البيان، لا أتلجلج دونه لما أخشاه من قالة السوء التي يوكل بها بعض من فرغ زمانه إلا من الفراغ الذي يستهلكه في اختلاق الأوهام واقعة وطائرة، رائحة وغادية، ثم هو يجلس إليها -بعد أن تفصَل عنه- ليتأملها ويملأ عينيه وأذنيه من مفاتنها وألحانها! وأنا أحب أن يعلم من ليس يعلم أني حين أكتب أكتب عن صديقي وكأن ليس بيني وبينه سبب من مودة، وأكتب عن عدوي وكأن ليس بيني وبينه دخان من غضب. . . فإذا خُيِّل لبعض من يتخيل أني أماسح صديقي أو أتلفف على عدوي فقد أخطأ، وإنما العيب منه لا منا. . . وذلك عيب علمه أن هذا عدو وهذا صديق، فيرى من وراء اللفظ ومن تحته ومن فوقه ومن بين يديه معاني ليست منه ولا تتداعى إليه، وإنما نحن نستوفي الكلام ونعطيه حقه على وجوهه في الرضا والغضب، ونأخذ أنفسنا بذلك ما استطعنا، فإن الحق في هذا الذي نكتبه هو حق القارئ لا شهوات من يكتبه؛ ثم هو بعد ذلك رأينا أصبنا أو أخطأنا، وليس علينا أن نوافق هوى قارئ لأنه هواه، بل علينا أن نجتهد له في إمحاض الرأي الذي نراه ليأخذ منه أو يدع على قدر من اقتناعه أو مخالفته؛ فهذه كلمة أوَطِّئُ بها ما بيني وبين القراء، ليسيروا إلينا ونسير إليهم في مهاد مذلَّل من الرأي والنصيحة. . . ويعتَدُّه قومٌ كثيرٌ تجارةً ... ويمنعُني من ذاك ديني ومنصِبي ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 352)، إبريل 1940، ص: 583 - 586

الملاح التائه!

الملاح التائه! أمّا "الملَّاح التائه" فذاك هو الصديق الشَّاعر المهندس "علي محمود طه"، وقد عاد بعد خمس سنوات فألقى على شاطئنا ديوانه الثاني "ليالي الملاح التائه" ثم نشر شراعه ومضى. وقد أحدث ظهور هذا الديوان الجديد -في معرضه الأنيق وشعره القوي الجميل- آثارًا في توجيه أنظار الناسِ إليه وإلى صاحبه ثم إلى الشِّعر خاصة، ثم اختلف الأدباء عليه بأحاديثهم وآرائهم، ولَغَوْا لغوًا كثيرًا في الأغراض التي اشتملتْ عليها ضفتا هذا الديوان الثاني في شعر "الملاح التائه". ونحن لن نعرض لشيءٍ مما قيل في ذلك إلا كما يدرج الكلام على أغراضه بالإشارة والتنبيه والبيان على مجاز السياق. والشعر أيضًا! ولابُدّ من أن نعود مرة أخرى للحديث عن الشعر عامةً، ليكون بعض الرأي فيه مدخَلًا للكلام عن "الملاح التائه"، فإن أكثر ما قيل -عن ديوان هذا الشاعر- إنما مردُّه إلى آراء فاسدةٍ في معنى الشِّعر، وما هو، وكيف هو؛ وإلى الجَهْل بطبيعة الشاعر وفطرته ومن أين تأتي، وأنى تتوجَّه، وكيف تجري به إلى أغراضِها على نِظام لا ينفَكُّ عنه أراد أو لم يُرِدْ. وليس يشكُّ أحد أن الشِّعْر في أصله هو معانٍ يريدُها الشاعِرُ، وأن هذه المعاني ليست إلا أفكارًا عامّةً يشتركُ في معرفتها كثير من الناس، وأنها دائرةٌ في الحياة على صورتها التي تأخُذُها بها كل عينٍ، ويتداولُها من جهته كل فِكْرٌ، وأنها -إذ كانت كذلك- ليست شيئًا جديدًا في الحياة ولا في معانيها وأوصافها وحقائقها، وإنما تصيرُ هذه المعاني شعرًا حين يعرضُها الشاعر في معرضٍ من فنِّهِ وخياله وأدائِه ولفظه، فيجدد لك هذه المعنى تجديدًا ينقلها من المعرفة إلى الشعور بالمعرفة، ومن إدراك المعنى إلى التأثُّر بالمعنى، ومن فهم الحقيقة إلى الاهتزاز للحقيقة، فتجد المعنى القريب وقد نقلك الشاعر إلى أغواره الأبدية وأسراره العظيمة وكأنه قد خرج عن صورته التي ضُربت عليه في الحياة إلى السِّر

الأول الذي أبدع هذه الصورة، وإلى الصلة التي تصل ما بين المعلوم إلى المجهول البعيد الذي لا يُرى ولا يُلمس. فالشعور والتأثر والاهتزاز هي أصل الشعر، ولا يكون شعر يخلو منها ومن آثارها وتأثيرها إلا كلامًا كسائر الكلام ليس له فضلٌ إلا فضل الوزن والقافية وهذه الثلاثة لا يكتسبها الكلام من المعاني من حيث هي معان معقولة مدركة، وإنما هي فيه من روح الشاعر وأعصابه، ونبضات الشوق الأبدي التي تتنزَّى في دمه؛ فأيُّما معنًى عرفه الشاعر، وأيُّما صورة رآها، وأيُّما إحساس أحس به، فهو لا يكون من شعره إلا حين يتحول في روحه وأعصابه ودمه إلى أخيلة ظامئة عارية تبحث عن رِيِّها ولباسها من أسلوب الشاعر وألفاظه، ثم تريد بعد ذلك زينتها من فن الشاعر لتفصل عنه في مفاتنها الجميلة كأنها حسناء قد وجدت أحلام شبابها في زينتها وأثوابها. وبقدر نقصان خزائن الشاعر مما تتطلبه أخيلته الظامئة العارية، يكون النقص الذي يلحق العذارى الجميلة التي تسبح في دمه من معانيه. والشعر على ذلك هو فن تجميل الحياة، أي فن أفراحها الراقصة في نسمات من الألحان المعربدة بالحقيقة المفرحة، وفن أحزانها النائحة في هدأة التأملات الخاشعة تحت لذعات الحقيقة المؤلمة، وفن ثوراتها المزمجرة في أمواج من الأفراح والأحزان والأشواق، قد كُفَّتْ وراء أسوار الحقيقة المفرحة المؤلمة في وقت معًا. وهو على ذلك فلسفة الحياة، أي فلسفة السمو بالحياة إلى السر الأبدي الذي بث في الحياة أسراره المستغلقة المبهمة التي تُرى ولا تُرى، وتظهر ولا تظهر، وتترك العقل إذا أرادها حائرًا ضائعًا مشردًا في سبحات من الجمال تضئ فيه بأفراحها كما تضئ بأحزانها، وتفرح بكليهما وتحزن، فرحًا ساميًا أحيانًا، وحزنًا ساميًا أبدًا. وإذا كان الشعر هو فلسفة السمو بالحياة، فمعنى ذلك أنه النظام العقلي الدقيق الذي يبلغ من دقته أن يكون منطقه إحساسًا مسددًا لا يخطئ ولا يزيغ ولا يبطل ولا يتناقض في أسلوبه الفني ونظامه الشعري البديع، وهذا النظام العقلي

ليالي الملاح التائه

النابض الذي يتلقف مادة أفكاره من الحياة لا يستطيع أن يشعر أحيانًا، ولا يشعر أحيانًا، كما قال بعضهم، ولا يستطيع أن يتقيد بزمان ومكان يستوحي منهما الشعر ثم لا يكون هو يستوحي من غيرهما، كما ذهب بعض أصحاب الكلام الى القول حين ظهر "ليالي الملاح التائه" في شعر الطبيعة المصرية، وشعر الطبيعة الأوربية وما إلى ذلك من فضول الحديث. إنّ هذه الحاسَّة العاقلة المفكرة النابضة في الشاعر تأخذ مادتها من مَساقط الوحْي في كل أرضٍ وتحت كل سماءٍ؛ وربَّ خمول أو فَترة تأخذُ هذه الحاسة في موطنها ومنشئها ومدْرجها ثم تكونُ البلادُ البعيدة في مطارح الغُرْبة هي التي تنفُض عنها غبارها وتمسحه حتى تجلوها جلاء المرآة، إعدادًا لها لتتلقى صُورها التي تجري في مائها إلى دم الشاعر ثم إليها مرة أخرى، ولا تزال كذلك بين الأخذ والإعطاء حتى ينبثق ماء الينبوع من صخرة الحياة الشاعرة. فلا يخدعنَّك ما يقول فلانٌ وفلانٌ، فإنْ هم إلا أسماء قد ركبتْ على ألقابها تركيبًا مَزجيًّا على خطأ وفساد، كما ركِّبتْ حضرمَوت وبعلَبك تركيبًا مزجيًّا على صحة وصواب. ليالي الملاح التائه كل هذا الديوان شعرٌ من شعر "على طه" بعد رحلتيه من مصر إلى أوربا في خلال هذه السنوات التي انقضت بعد نشره الجزء الأول من ديوانه وهو "الملاح التائه". وقد كانت هاتان الرحلتان وحيًا جديدًا في نفس الشاعر وأعصابه وأحلامه، وكانتا تغييرًا في حياته عامة وفي أفكاره خاصة، ولم يكن بد إذن أن يجدَ قارئ هذا الديوان فرقًا بيِّنًا بين شعر "الملاح التائه" و"ليالي الملاح التائه". وليس هذا الاختلاف بشيء ألبتَّة، فإن شاعريَّته لم تزل هي ما هي في كليهما على نمط لن يختلف، ولكنه نزع في هذا الطَّوْر الجديد إلى السهولة والرِّقة ومعابثِة المعاني والألفاظ بغزل رقيق من عواطفه. وعلةُ ذلك فيما نرى أنه انطلق من قيود مصر في أول رحلته وخرج شاردًا يستجلى روائع الحياة الأوربية الزاخرة ببدائع

الجندول

الفن ومعجزات الحضارة والعلم، ونزلَ المنازل المتَبرِّجة بفتَنها في عواصم المدن الأوربية، وعبَّ من مُسكرَاتِ الجمال الفطريِّ والصناعيِّ البديع الذي تستجيده أنامِلُ الحضارة الرقيقة العابثة اللاهية، والتي لم تدع للفنّ مَعقلًا إلا لعبت به واستخرجت كنوزه وتلاعبتْ بها على أصول أخرى غير التي بنى عليها الفن القديم البارع المحكم، وعرضت له الصور التي تفتن الناس بجمالها وتهدمهم بفتنتها، وتقعُ في دمائهم موْقعًا لا تلبث معه إنسانية الإنسان أن تشتعل من جميع نواحيها بلهيب من اللذة والسكر والفرح. . . كل ذلك هزَّه وهزَّ أعصابه وألقى عليه من وحيهِ وتركه يقول من الشعر على السجية غير متكلِّف ولا مُنقِّح ولا راغبٍ في الكد والعناء و. . .، والحنبليَّة الفنية التي تريد البديع، فإذا أدركته طلبت الأبدع، فإذا بلغت تسامت إلى ما هو أبدع منهما، لا تهدأ ولا تقرُّ ولا تستريح إلى جميل. كان هذا -فيما نرى- وكانت نفسه الشاعرة المتلقِّفة -والتي تهجم بعينيها على أَبكار المعاني بنشوة الشباب العِربيد- تتلفت تلفُّت الصائد، تكاثرَ الصيد بين يديه، فما يدرى ما يأخذ وما يدع، وهو مع ذلك لا يزال يذكر صِغاره وأحبابه وهوى قلبه، ومن يريد أن يصنع لهم حياةً من صَيده؛ فهو يتلفَّت إليه بقلبه حنينًا وذكرى وصبابة. فهذه العواطف الدائبة في تكوين شاعريته، والتي تلوّنها بألوانها وتخاريجها، هي التي جنحت به إلى السهولة والرقة والغزل الحُلو بينه وبين معانيه وألفاظه، ومن غير الممكن أن يتقيد الغزل الشعري بقيودٍ تضبطه، وإلا انقلب تكلفًا واستكراهًا وجفوة. الجندول وإذا أردت أن تعرف صدق الذي قلنا به من العوامل الجديدة في تلوين هذا الشعر، فخذ هذه الأغنية الجميلة التي ترنَّم بها الشاعر الموسيقي، ثم أعطاها الموسيقيّ البارع "عبد الوهاب" تغريدها في ألحان هي من شعر الموسيقى. . . . فإن الشاعر حين لعبت به فتن "عروس الإدرياتيك" في كرنفالها المشهور، ودَفِئ دَمُه في أنفاسها الحبيبة المعطَّرة وفجأته فِتنة من فِتَنِهِ التي عرضت في

صبابته. . . أَرَقَّ فتنة في أحلى جوٍّ في سِحر الليل المضئ في أجمل فن الحضارة في أَحْفَل الليالي باللهو والعبث، والضحكات التي تتردد بين أضواء الكهرباء حتى كأنها أمواجٌ من الضوء تضحك ضحكها -لم يستطع ضَبْط تلك الأمواج الفرحة المعربدة في إحساسه الشاعر، فبدأ يترنَّم: أين من عينيَّ هاتيك المجالى ... يا عروس البحر يا حلم الخيالِ أين عُشَّاقُك سُمَّار الليالي ... أين من واديك يا مهد الجمالِ ثم انطلق يصف عاطفته وجو عاطفته وعطر عاطفته، كل ذلك بألفاظٍ غزلةٍ عاشقةٍ، تتنفس أنفاسها من المعاني المرحة، حتى في بعض اللوعة المستكنَّةِ وراءَ نفسه، والتي استعلنت في قوله: "أنا من ضيَّع في الأوهام عمره" بعد أن قال: ذهبيُّ الشعر شرقي السماتِ ... مرح الأعطاف حُلوُ اللفتات كلما قلت له: خذ، قال: هات ... يا حبيب الروح، يا أُنس الحياة كل ذلك والشاعر في مرح ونعمة وخيال وافتتان، وكأنَّه نسى الدنيا التي ولد فيها كما "نسى التاريخ أو أنسى ذكره". . . . ولكن لا يلبث يتلفت بعد ذلك تلفتًا مؤثرًا عجيبًا، هو دليل الشاعريّة الصحيحة التي اشتمل عليها تكوينه العصبي. . . يقول: قال: من أين؟ وأصغى ورنا ... قلت من مصر، (غريب) هَهُنا (غريب)، هذه كلمة النفس الشاعرة في مكانتها من ألفاظها وفي أقصى مدِّها من التأثير، إنه حرف يبكي من الغربة والذكرى، ولو سقطت هذه الكلمة من الشعر لسقط كل الشعر ولسقط معه رأينا في العوامل التي عملت شعر "على طه" بعد رحلته إلى أوربا، لو قال: (من مصر) وسكت، أو أتى بذلك الحشو الذي لا معنى له، والذي يكثر في شعر الضعفاء، لانسلخ عن الشعر إلى سؤال يتلقاه المرء من فضولي قائم على طريق السابلة، وجواب استخرجه الفضول

واللجاجة. . . ثم هي بعد ذلك التفات يخيل لك معه أن الشاعر قد رد فقال: من مصر، ثم انتقل بوجهه إلى مصر، وتلقى دمعة يموِّهها بيده ويمسح أثرها بمنديله -في هذا الجو المرح العابث اللاهي- وهو يقول: (غريب ههنا). هذا. . . وقد أخذت هذا الموضع وحده من القطعة لشهرتها الآن وليتدبر من يسمعها فإن فيها من أمثال ذلك كثير، مما هو دليل الشاعرية الناضجة التي لا تخطئ معانيها. ولو أخذت سائر شعره على هذا الأساس الذي كشفنا لك عنه في حديثنا عن الشعر لوقفت على روائعه التي هي روائعه.

الرأي العام

الرأي العام كتب الأستاذ "الزيات" في العددين الماضيين من الرسالة كلمتين جليلتين، إحداهما عن "التبشير" والأخرى عن "فقهاء بيزنطة": أي فقهاؤنا وعلماؤنا. وهما تنزعان جميعًا إلى بيان أصل واحد، وهذا الأصلُ هو غفلتُنا وإهمالنا، ثم غثاثة آرائنا وضآلتُها، وهذه مردّها إلى عِلل كثيرة قد توغَّل داؤها في أعصاب الأمم الإسلامية، حتى صار الدواء لها باطلًا أو كالباطل، وذلك لغلبة الجهل علينا، وفي الجهل العناد، وفي العناد المكابرة، وفي المكابرة اللجاجة، واللجاجة أمٌّ ولودٌ كل أبنائها أباطيل، ومَنْ طَلَب علاج الأباطيلِ وترك أمهاتِها تَلِد، فقد جعل علاجَه باطل الأباطيل. وهذه الأمة المصرية وسائر الأمم الإسلامية قد خضعت من قرون طويلة لسيطرة الجهل وبغيه، وامتدت عليها حقبٌ طويلة أظلّتها بالغفلة والنسيان والموت، وحجبت دونها شمس المعرفة ونور العلم، حتى انحنت على أساطير التراب تجدُ فيها كل معاني الفكر والعقل والقوة، وصار همُّها الأرضَ وما تنتج مما يكفي شهوات النفوس المشتغلة باللذة، أو يردُّ مسغبة النفوس المحطَّمة بالعمل. ثم جاءت الذئابُ الذكية العاقلة المدبّرة، فعرفت صيدها وقالت له: اعمل عَملك، فهذا طريقُك، ولكنها خشيتْ أن تتمزَّق الظُّلَلُ وتسقطَ الحُجُب، وتهبَّ تلك القوة العلوية الرابضة في دمِ الإنسان، فترى أشواقَها فتندفع إليها اندفاعَ الوحش المجوَّع في مَهوى الريح التي تحملُ أنفاسَ فريسته، وعندئذ تعجزُ الحيلة في دفع هذه القوة وردّها إلى ما كانت عليه تحت أطباق الخمول والخمود والغفلة. وعمِلَ ذكاءُ الذئاب عمله، ورأى أن قمع القوة العلوية بالاستبداد والفجور في الاستبداد هو الشر عين الشر، وأنه كقمع البخار في قماقم الحديد ومن تحتها جاحم من النار يتضرم، فما يعقب إلا الانفجار والتصديع والأذى. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 353)، 1940، ص: 620 - 622

فنكبوا عن ذلك إلى تصريف هذه القوة العلوية حين تستيقظ في هذا الشرق تصريفًا يكفل لهم معها أمرين: الأمر الأول: التنفيس عن هذه القوة، واتخذوا لذلك أبرع الأساليب، فحاولوأ أن يظهروا وكأنهم هم الذين يعملون على إزالة غشاوة الجهل عن العيون المحجبة، فأنشأوا المدارس وتلبَّسوا بالنصيحة للتعليم في معاهده كلها، وجعلوا خلال ذلك يضعون ويقررون أصولًا تؤدى بهم إلى أغراضهم، ليسيروا بالتعليم إلى حالة ترضيهم وتنفعهم، فلا يخرجون من هذه المعاهد جيلًا يقف أمامهم كما تقف القوة للقوة وكما يناهض العقل العقل، ثم يزاحم في إنشاء الحضارة بالقوة العاملة والفكر المبدع. والأمر الثاني: وهو بناء على ذلك البناء، وذلك اجتهادهم -بكل أساليب التنبيه والدعاية والمثال وغير ذلك- في توجيه الرأي العام في نواح بعينها إلى العصبية الفردية والإجماعية، ثم صرف هذا الرأي العام -أي أهله- عن الاهتمام بتقرير الأصول العامة التي تسير عليها السياسة الخلقية والعقلية والإنشائية والعملية، وعن العمل في توحيد الرأي العام للشعب توحيدًا يكفل للأمة أن تستغل كل قواها في تدبير المستقبل على نظام ثابت مستقر ماض على أسبابه إلى النهاية غير مختلف ولا متنافر. وقد كان من نتائج هذين الأمرين العظيمين -حين استيقظنا وأبصرنا- أن تعددت الثقافات في الشعب الواحد، وتنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المفضية إلى الغايات، وعاون ذلك ما ورثناه من الجهل الداعي إلى العناد والمكابرة واللجاجة، فاستشرَى داء العصبية وأصبح العمل عندنا لا يكون عملًا حتى يحاول أن ينقُض كل ما سبقه من العمل، وتعاقبت على الأمة أطوارا بعد أطوار ولا تزال في عهد الإنشاء، ولا تزال اللجان تجتمع عامًا بعد عام لتقرر وتضع، وليس إلا التقرير والوضع وَحَضَانة المذكرات! ! وكذلك اختل نظام الرأي العام. وهو لا يكون إلا من اشتراك الجماعة في الأصول الثقافية كلها، واختَل أيضًا مكوِّن الرأي العام، وهو الصحافة وما ينزل في

التبشير

ذلك منزلتها، فتكَوَّن من الصحف المختلفة المبادئ آراء متخالفة، لا بل متباعدة، لا بل متعادية، كلا بل هي في الواقع لا تمس جوهر حياة الشعب العامل المستَهلَك في الزراعة والصناعة والجهْل أيضًا. . . وحتى لا نجد صحيفة واحدة قد بَنَتْ دعوتها على أصولٍ بيِّنة موافقة لحاجة هذا الشعب، وعلى هذه الأصول تأخذ وتدع، وتحبذ وتنقد، وتهدم وتبنى، على تعاقب السنين وتغير الظروف والأحوال. التبشير وأحدُ الأمورِ التي ابتُغِى بها العملُ على إضعافِ الشعب والتفريق بين أهله، وإيجادُ ضروب من الثقافات في بلد واحد يجب وجوبًا قطعيا -كما يقولون- أن تتوحد ثقافته -هو ما اتخذوه من التبشير ومدارسه المختلفة، وما يبطن أصحابها وما يظهرون. وليس التبشير هو الدعوة الصريحة إلى الدين المسيحي، فإن هذا لا يمكن أن يكون في بلد جل أهله من المسلمين، وخروج المسلم من دين الإسلام الى دين غيره يكاد يكون مستحيلًا في العامة من الشعب، ويكاد لا يصح عند المتعلمين وأشباه المتعلمين وهذه حقيقة يعرفها المبشرون قبل أن يعرفها المسلمون، وإذا فليس الغرضُ من التبشير هو المفهوم من لفظه، ولكنه الذي أشار إليه الأستاذ "الزيات" في مقاله، ثم إيجاد ضرب من الثقافة الأدبية والخلقية والعقلية يناقض ضروبًا أخرى من الثقافات المختلفة في مدارس الأجانب والمدارس الوطنية، وبذلك تتعدَّد المناهج الفكرية في حياة الشعب، ويعسر بعد ذلك أن تتحد هذه الثقافات على رأي عام يقوم عليه الشعب ويحرص على تنفيذه، ويأخذ في الإعداد للوصول إليه درجة بعد درجة. وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدء لا ينتهي وفي اختلاف لا ينفضُّ، بل يصير ولابد إلى المعاداة والمنابذة والأحقاد التي تؤرثها السياسة الاجتماعية الخفية التي طغت على الشرق من قِبَل حضارة قوية باهرة عظيمة كالحضارة الأوربية. ولا يزال أهل الشرق مختلفين ما بقيت هذه الثقافات المتعددة من مدارس التبشير إلى المدارس الإلزامية، تمد الرأي العام بأصحاب الآراء المختلفة والعقول

فقهاء بيزنطة

المتباينة. ولن يصلح أمر هذا الشعب حتى يناهض ذلك كله بانصرافه إلى مدارسه ابتغاء توحيد ثقافته على أصل واحد. والأصل الضعيف الموحد في ثقافة الشعب خير وأنفع من الأصول المتعددة القوية، لأن هذه تغرى بالتفرقة والعداء، وذلك يؤلف ويوفق ويضم أشتاتًا ويقيم القلوب على الإخلاص والتفاهم. فقهاء بيزنطة وهذا مثل جيد ضربه الأستاذ الزيات لاختلاف عامة المسلمين على بعض أحكام الفقه الإسلامي والسنة النبوية، وبغي بعضهم على بعض في ذلك، وتركهم الأصول الإسلامية التي ترفع المسلم إنسانية فوق إنسانية، وتمحِّصه من الجهل والضعف والفساد والذلة وكيف يختلف علماء المسلمين على فروع من دينهم ويدعون الأصل لا ينفذ نوره إلى قلوب هذه الملايين من المسلمين، فيطهر أدرانها ويزيل غشاوة العمى التي ضربت عليهم أسدادها. وضرب الله مثلًا فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. فقد بين الله سبحانه أن اختلاف من سبقنا لم يكن إلا بغيًا من بعد أن جاءهم العلم، وأنه جعل المسلمين على شريعة من الأمر. وحق ذلك ألا يقع الاختلاف بين المسلمين إلا في رأي لا يفضى إلى فرقة، وعلى ذلك كان السلف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعوا قوله: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"، وقد نهى عن الجدل والمراء وتناهى أصحابه عنه حتى قال ابن عمر: "لا يصيب الرجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو مُحِقّ". ونحن قد صرنا الآن إلى زمن قد غلبت فيه بدع كثيرة ليست من الدين ولا تنزع إليه، ولكنها من محدثات الأمم وفتن الأهواء. ونحن أيضًا في زمان ضعف وقلة وتفرق، والأمم من حولنا تتباغى على أنفسها وعلينا، فما يكون

سياسة الإسلام

اختلافنا على البدع والمحدثات وبغى بعضنا على بعض -ومصير ذلك كله إلى العداوة والبغضاء وأن يكفر بعضنا بعضًا- إلا إعانة لهؤلاء على النيل منا ما شاءوا. ثم نحن في زمان جهل بالدين، فليس من أمر الله أن ندع أصل الدين مجهولًا، وننصرف إلى فروع نحاول على إبطالها أو تحقيقها. وقد روى البخاري: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه"، فإذا كان من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحسم أصل الخلاف بترك مجلس الخلاف في القرآن وهو أصل الإسلام كله، فأولى أن نقوم عن مجلس الخلاف في فروع وسنن، لئلا يفضي ذلك إلى مثل الذي نراه بيننا اليوم من التعاند على بعض السنن بالعداوة، حتى صار لكل صاحب رأي فريق يحامى دونه ويعادى عليه، ثم يقع بعضهم فيما هو أشد نكرًا من أصل الخلاف، ألا وهي الغيبة والتفريق بين المسلمين. سياسة الإسلام والإسلام في بنائه قائم على مصلحة الجماعة، وجعل المسلمين يدًا على من سواهم، وأن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضًا. وهذه مصلحة مقدمة على كل المصالح الأخرى. وهي مقدمة على فروع الفقه الإسلامي، كما قدم الجهاد في سبيل الله على كل عمل من أعمال الإسلام. والإسلام في أصله أيضًا لا يعرف من نسميهم اليوم "رجال الدين" فإنما هم من المسلمين يعملون أول ما يعملون في حياطة الجماعة وإقامة كيانها الاجتماعي والسياسي بالعمل، كما يعمل فيه سائر الناس في وجوه العيش وضروب البناء الاجتماعي. وليس الانقطاع للجدل في الفقه والسنن والتوحيد عملًا من أعمال الحياطة إلا أن يبنى على المسامحة والأخوة والرضا وترك اللجاج والمعاندة، وإلا فهو شرٌّ كبيرٌ يجب على المسلمين أن يحسموا أصله. فإذا استقرَّ البناءُ الاجتماعيُّ للأُمم الإسلامية على أصولِ الإيمان المُبصِر والتقوى الهادية، وتبرأت النفوس والقلوبُ من غوائل الضعف والذلّةِ والخُضوع،

وقام على الأمم الإسلامية قرآنُها يَهديها، ويُهذِّبُ شُعوبها، ويرقِّق أفئدتها لدين الله، ويؤلف قلوبها على إعلاء كلمة التوحيد، ويجمعها على دستور الإسلام في التشريع الواضح الحازم القوي، ويجعل الاجتماع في كل بلد إسلامي اجتماعًا بريئًا من فتن الغواية ومحدثات الشر، ثم تكون للمسلمين حضارة من أصل دينها تضارع الحضارات التي تناوئ شعوبها وتستذلها، -إذا كان ذلك كله- فعندئذ يستطيع الحكم الإسلامي أن يرد ما يبقى من البدع التي غلبت على أهل الجهالة بالسلطان الحاكم لا بالكلام المفرق بين الناس وإذن فأجدرُ العملين برجال الإسلام من أصحاب الفقه والشريعة والتوحيد أن يعملوا على إنقاذ المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه بهدايته بأسباب القوة الأخلاقية والفكرية التي جعلت المسلمين في ثمانين عامًا سادة حاكمين على الإمبراطورية التي جاهد الرومان في بنائها ثمانمائة عام. . . وإلا فلن يكون بعد مائة عام محمل في حج ولا محراب في مسجد.

نقد

نقد كتب الأخ الفاضل الأستاذ سلامة موسى في مجلة اللطائف (8 إبريل سنة 1940) كلمة يتعقب بها كلامنا في (الفن فرعوني، وتمثال نهضة مصر) المنشور في عدد الرسالة 345 في 12 فبراير سنة 1940، وجعل عنوان نقده "تعارض التيارات الفكرية، وضررها على التطور الاجتماعي والثقافي". وسنلخص لك نقده ثم نتبعه ببعض ما يجب علينا من تحرير رأينا، وتقدير رأي الأستاذ الفاضل، يقول: إن الأفكار تتعارض في كل أمة حرة ولكنه لا يخرج بها عن أسلوب الحياة العامة من التوافق الى التناقض والتنافر، فيفضي ذلك إلى اختلال التوازن الاجتماعي، يعتاقُ الأمة عن الرقيّ والإصلاح. ويقول: إن بعض الآراء في مصر ليتناقض كما يكون التناقض بين أمتين متخالفتين، وإن (العقلية المصرية) التي تفكر بها مصر في أنظمتها الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والتعليمية، والحربية: هي ضرورة الوضع الجغرافي والاحتكاك السياسي بأوربا، وإننا لا نعيش فقط في القرن العشرين، بل في سنة 1940 من هذا القرن. ويقول ما نصه: "ونستطيع أن نضرب الأمثال على هذا الاختلاف الذي يقارب التنافر. فقد ألَّفَ الدكتور طه حسين بك كتابًا يدعو فيه إلى أن نجعل من الفن الفرعوني أحد العناصر في "الغذاء الروحي والعقلي للشباب" فتناول هذه الدعوة الأستاذ محمود محمد شاكر بالاستنكار حتى قال في مقاله بالرسالة: وعلى ذلك، فيجب أن نقرر أن الفن المصري الفرعوني -على دقته، وروعته، وجبروته- إن هو إلا فنٌّ وثنيٌّ جاهلي قائم على التهاويل، والأساطير، والخرافات التي تمحق العقل الإنساني، فهو إذن لا يمكن أن يكون مرَّة أخرى في أرض تدين بدين غير الوثنية الفرعونية الطاغية -سواء أكان هذا الدين يهوديًّا أم نصرانيًّا أم إسلاميًّا أم غير ذلك من أشباه الأديان". . . . ثم استمر فنقل بعض رأينا في الذي قلناه عن تمثال نهضة مصر. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 354)، 1940 ص: 661 - 664

التيارات الفكرية

وهذا تعارضٌ عجيبٌ، كما يرى الأستاذ سلامة موسى، واختلاف في التيارات الفكرية يحمله على أن يدعو الاجتماعيين أن يحاولوا التوفيق بين هذه الآراء حتى لا يصير اختلاف الرأي الحر تناقضًا في العقائد المجزومة، وحتى نُصْبح أمة متمدنة تستطيع أن تنصت إلى الرأي المخالف في تسامح، وأن تعبر عنه في اعتدال ينأى عن الحدة والتهور. ثم يقول الأستاذ الفاضل إنه يتوهّم مما كتبته أن الدكتور طه أو المثَّال مختار يريدان منا أن نحنط الموتى ونعبد (رعْ) مع أن حقيقة ما طلبه كل منهما أن نستوحِىَ هذا الفن المصري القديم. ثم يقول عني وعن الدكتور طه: "إن الاختلاف بين الكاتبين هنا يرجع إلى أكثر من ذلك، وهو أشبه بالتنافر بين القائلين بعقيدتين متناقضتين، ومصلحة الأمة تقتضي إزالة هذا التنافر بين الذين يكلفون هذه المهمة، وكل رجل مثقف يهتم بالانسجام الاجتماعي في الأمة". وهذا نهاية الرأي في كلام الأستاذ سلامة موسى نقلنا أكثره بنصه أو ما يقربُ منه. ونحن نشكر الأستاذ سلامة موسى على حُسن مقصده ورغبته في تحقيق الإصلاح الاجتماعي بإزالة كل العوامل المفرِّقة بين الناس. التيارات الفكرية ومن الغريب أن اليوم الذي صدرت فيه هذه المقالة في اللطائف، هو نفسه اليوم الذي كتبنا فيه عن "الرأي العام وسياسته" في العدد الماضي من الرسالة، وقلنا إن تعدد الثقافات في الشعب الواحد قد أفضى إلى شر آثاره، حيث تنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المؤدية إلى الغايات، وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدء لا ينتهي، وفي اختلاف لا ينفضُّ. وكما يرى الأستاذ سلامة موسى أن هذا التعارض البغيض بين الآراء مما يعتاقُ رقى الشَّعب، ويمنعه من الاجتماع على رأي، ويَحْرِمُه فضيلةَ القوة التي تنفُذُ به إلى غاياته. . . كما يرى نحن نرى، ونرى وراءَ ذلك كله ما هو أسوأ وأقبحُ مما يستعاذ منه وتخشى مغبَّتُه. فهذا إذن أمرٌ مفروغٌ من تقريره بيننا وبينه، وهي رغبة نتوافى جميعًا على العمل لها، ونَشْرِي أنفسنا في سبيل إنقاذها.

القرن العشرون

وكان جديرًا بالأستاذ سلامة موسى أن يرى مثل هذا الرأي في الذي كتبناهُ، ويعلم عِلْم ما طويناه في نقدنا لرأي الدكتور طه، ولعلّه لم يقرأ كل ما كتبناهُ في العدد 344، 345 من الرسالة، ولعلّه لم يتتبَّع ما نقولُ به من الرأي في باب "الأدب في أسبوع" ولو قد فَعَل لعرف أن الرأي بيننا وبينه في ذلك غير مختلف إن شاء الله. القرن العشرون وما دمنا في حديث تعارُض هذه التيارات الفكرية، فقد كنت أحبُّ أن ينزِّهَ الأستاذ سلامة موسى كلامه عن بعض التعريض. . . وذلك تنبيه لنا أننا نعيش في القرن العشرين، وفي سنة 1940 منه. فهل يَظُنُّ الأستاذ أننا نعيش في غيره أو أننا نرى أنفسنا رِمَمًا تاريخية عتيقةً قد انبعثتْ في أجلادِ إنسانِ (القرن العشرين). . . . الزمن لا يكون هو العلة في إنشاء الحضارة، وإنما تُستجدُّ الحضارة بالروح الإنسانية وبالإنسانية الروحية، وإنما الزمن وحدوده تبع للإنسان الحي، ولا يكون الإنسان تبعًا للزمن إلا حين تفقد الروح إنسانيتها العالية، وتفقد الإنسانية روحانيتها السامية. . . وترتد الحكمة والحضارة والتهذيب وجميع الفضائل إلى منزلة الغرائز الدنيا التي تصرِّف العجماوات من الأحياء في سبيلها، وعلى سنّتها، وبقانونها، ومن مدارجها النازلة إلى أغوار الحيوانية الفطرية. إن من أخطر التيارات الفكرية التي تهاوى فيها أكثر كتاب القرن الماضي، والمخضرمون من كتاب القرن العشرين اعترافهم بالقرن العشرين وما فيه اعترافًا (تعبُّديًّا) يكاد يكون إيمانًا وعقيدة، فما أقنع منه بالبرهان والحجة فهو ببرهانه وحجته، وما لم يقنع فهو مردود إلى الأسرار الأزلية للحضارة، وأنه هكذا كان. . . وأنه هكذا خلق، وأنه مادام موجودًا في حضارة القرن العشرين، فوجوده هذا هو برهانه وحجته. . .! وأنا -مع الأسف- لا أعتقد في هذا القرن العشرين اعتقادًا قلبيًّا مطمئنًّا بالإيمان، لا لأني أريد أن أرتدَّ إلى الماضي لأعيش في ظلماته وكهوفه وتهاويل

الحرب

خرافاته، بل لأني أرى أن حضارة الإنسانية يجب أن تتجدد بمادتها النبيلة السامية التي كل أجزائها فضائل. أما هذه الحضارة الأدبية العصرية للقرن العشرين، فهي حضارة حيوانية الفضائل، ليس في أعمالها إلا فتنة بعد فتنة. ولا نقول هذا في العلم -معاذ الله- فإن العلم الحاضر قد استطاع أن ينفذ في بعض أسرار الكون بأسباب كأسباب المعجزات، ومع ذلك، فقد كان هذا العلم نفسه، هو ما اتخذوه تدليسًا في تمجيد حضارة القرن العشرين، ليفتنوا الناس بها عن حقيقة الإنسانية الروحية المتجردة من أغلال الحيوانية النازلة المُتَسَفِّلَة. الحرب ويكفي أن تكون هذه الحرب التي أحدَّت أنيابَها ونشرت مخالبها، وزأرت زئيرها، ثم أسبابها التي نشأت عنها من المطامع الاستعمارية المستكلبة الضارية، ثم ما سيكون من آثارها في الأرواح الإنسانية والمدنية الروحية. . . يكفي أن تكون هذه الحرب -من جميع نواحيها وأطرافها، وبجميع خلائقها وزمن هذه الخلائق- توصيما كتوصيم الفجور الأسود في الأعراض النقية البيضاء. هذه الحرب الفاجرة المتعرِّية من جميع الفضائل برذيلة الكذب والخداع مما يسمونه الدعاية والسياسة هي البرهان الحي في أذهاننا جميعًا -أهلَ القرن العشرين- على أن مدنية هذا القرن، مدنية حيوانية الأصول والفروع، هي مدنية مفترسة متوحشة، لا تعترف بالحق ولا تعرف الحق، وليس إلا. . . الغذاءَ الغذاءَ. . . الصيدَ الصيدَ. . .: هذا نداؤها وهذا دينها وهذا إيمانها. ثم لا تكون مغبّة أعمالها إلا تمزيقًا وقضقضة وقضما، وتدميرًا لبنيان الله الذي يسمى "الإنسان". الحرية! ! إن هذا القرن العشرين أُسطورةٌ مُهَوَّلةٌ قد انحدَرت من القدم إلى هذا الزمن، في دمها كلُّ الأساطير الحيوانية المرجِفة في تاريخ الإنسانية. إنه أسطورة عظيمة كاذبة مُكَذَّبة على الناس، وإن في مدنيته من الباطِل ملءُ علومِها حقًّا. إنَّ الأجيالَ

الفن الفرعوني

الإنسانية النبيلة لتصرخ من وراءِ أسوار التاريخ تريدُنا أن ننقذ أنفسنا من أوهام (القرن العشرين)، ومن خرافاته الجميلة المزينة بالعلم، المثيرة باللذة، المندلعة بألسنة من نيران الشهوات والأهواء، الصاخبة بعبادة الأوثان التي تجُولُ في أدمغةِ البشر حاملة نَدَّها وبخورها ومجامِرها وطيبها، وكل ما ينفذ عطره إلى أعمق الإحساسات يثيرها لتقديس البشرية المتجسدة بلذاتها وشهواتها. يجب -في هذا الزمن- أن نتحرر من أباطيل القرن العشرين وأباطيل القِدَم معًا، يجبُ ألا نعرف الحاضر بأنه هو الحاضرُ وكفى، ولا الماضي بأنه هو الماضي وحسْبُ، يجبُ ألا نَتعبَّدَ بشيء من كليْهما، يجبُ أن نأخذَ الحاضر والماضي بالعقل والعلم والفضيلة، وما لم يكن كذلك مما مضى ومما حضر فهو نَبذٌ يجب أن ننبُذَه ونتجافى عنه، يجب أن نتحرر، يجب أن نتحرَّر. . . إننا الآن أممٌ تريد أن تسيرَ إلى غاياتها في إبداعِ حضارتها التي سترث جميع الحضارات التي سبقتها، والحضارةُ التي تأتي من التقليد ليستْ حضارة، وإنما هي تزييفٌ وكذبٌ ووثنيةٌ جاهلية تنحدر إلى هذا الزمن عن السلالات التي قال الله فيها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟ ! }. لن نبلغ شيئًا حتى تكون (الحرية والحب) نقييْن طاهرين مبَرَّأين كاملين متواضعيْن، فهما القوة التي تسير بهما الحضارة إلى مجدها وروائعها. إذا عرفنا الحرية وجرتْ في دمائنا فيومئذ تتهدّم كل هذه الأباطيل التي تعوقنا وتقف بين أيدينا من قمامات الرذائل الإنسانية التي قُذِفتْ في طريقنا من أباطيلِ الماضي وترهات القرن العشرين! ! الفن الفرعوني والأستاذ سلامة موسى قد بنى نقده على ما يسميه (العقائد المجزومة)، وعلى عقيدته في (القرن العشرين)! ! ونحن -مع الأسف- لا نبني أبدًا كلامنا على (العقائد المجزومة)، ولا على التعصب (للقرن العشرين)، لو رجع

الأستاذ إلى المقالين اللذين نشرناهما في الرسالة عدد 344 و 345 عن محاضرة الدكتور طه، ولو رجع خاصة إلى حديثنا عن (الفن) ما هو، وكيف هو؟ وعن الفنان وعمله في فنِّه -لعرفَ أن دعوتنا كلها مبنيةٌ على تحرير أعمالنا من قيود الماضي والحاضر معًا على أساس من العقيدة والعلم والفضيلة، فلا يُزرِي عندنا بالقديمِ قِدَمه، ولا يُوغل في الجديد جدّته. وإن القول في (القديم والجديد) على اطلاع اللفظ، وجعله لفظًا تاريخيًّا زمنيًّا محصورًا باليوم والسنة، إن هو إلا تلذذ بالكلام كما يتمطق آكل العسل بعد أكله من تَحَلُّب الريق وشَهْوة الحُلْو، ولو كان في هذا العسل السم الناقع. إن حديثنا عن الفن الفرعوني، وأنه لا يصلح أن يكون شيئًا يستمد منه الفنان في زماننا، لا يمت بصلة إلى الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ سلامة موسى في فهم كلامنا، لأننا نظرنا إلى شيء واحد، وهو تحرير الفن من التقليد. ثم معرفتنا أن الفنان لا يستوحى كما يقول الأستاذ سمة من فنون غيره بل إن الفنان عندنا هو القلب النابض الذي يفضى إليه الدم الخاص الذي تعيش به حضارة أمته في عصره، والفن إن هو إلا نتيجة من نتائج الاجتماع الإنساني والطبيعة التي تحتضنه، والعقائد التي تسيطر على الشعب وتملأ قلبه بالإيمان بها والفكر فيها. فإنْ لم يكن الفن ناشئًا من ثَمَّ، فاعلم أنه ليس بفن وإنما هو كذا مضرَّج بتحاسين قوس قزح، وما أسقط الفن الرفيع في زمانه وفي بلادنا إلا أنه نتاج العقول المزيفة بالتقليد والخيال المدلل بالسرقة. وهذا الهمج الهامج من الفنانين والأدباء والشعوب والعلماء أيضًا ممن يعيشون بأدواتهم تحت جناح الليل الأسود وفي ستره، ثم يقبلون على الناس إذا أصبحوا فيقولون أين كنتم؟ يقولون: كنا نستوحي، ثم يخدعون الناس بزيفهم وبهرجهم لأنهم لا يعلمون من أين يأتي هؤلاء هذا الوحي. ولو علموا أنما وحيهم وحي اللص الذي يبدع له المال، وإنما دبيب واستخفاء وحرص، و"طفاشة" تهشم بها أقفال خزائن بعض الناس، يستخرجون كنوز غيرهم ليتنبّلوا بزينتها وجمالها. الحرية هي أصل الفن كما بينا، وكما هو ظاهر كلامنا وأما الاستيحاء من

فنون القدماء لإنتاج فن لا يتصل بمدنيته بسبب إلا القدم والوراثة وتاريخ هذه الأرض، فهو إبطال للفن ومعنى الفن وقيمة الفن، وإلا فما الذي فعله الأستاذ المثال القدير "مختار" إلا أن نقل صورة لا معنى لها في عقائد الشعب المصري الحاضر، هي صورة أبي الهول، وليس فيها معناه القديم الباسط ذراعيه في جوف رمال الصحراء هناك، ثم ماذا؟ ثم فعله بعد أن كان باسطًا متطامنًا، ثم ماذا، ثم ألصق إلى جانبه فتاة تضع يدها على رأسه. . . سبحان الله هذه نهضة مصر، وهذا هو فن القرن العشرين! ! إذا كان الأستاذ سلامة موسى أو غيره يريد أن يناقشنا في هذه الآراء. فليناقش على أساس واحد، هو أساس الفن، وما هو، من هو الفنان. أما (القرن العشرون)، وأنظمة مكافحة الأوبئة، والنظام الاقتصادي، والعلوم، وما إلى ذلك، فليس له مدخل أو سبب في الطبيعة الفنية، وتقدير الآثار الفنية، وهل يمكن أن تكون فنًّا إذا كانت تقليدًا واستيحاء وتشاكلا ذكيًّا بارعًا؟ كل فن يأتي من التقليد واستيحاء فنون الناس، وكل فن يتولد من شهوة التقليد وبلادة العزيمة وعبودية الروح، فهو فن كالمولود السِّقط في آخر تسعة أشهر من حمله. . . فيه صورة الحي ولكن ليست فيه الحياة، فيه قوة المشابهة للحي ولكن ليست فيه قوة استمرار الحي على الحياة.

مولده

مولده سَكن الكون وأصغى، وتعبَّأت كل القوى الأبدية لحشدها، وَعَبَّ التيَّار الإلهيُّ الذي يَمُوج به الكون، وسعت الملائكة بالبشرى بين خوافق السماء والأرض، وتهلَّلتْ أجيال النبوّة بأفراح خاتمها الذي أتمَّ الله به نعمته على الناس، وسَرَتْ في الكائنات أسرار الحياة الجديدة فاهتزَّت وربتْ واستشرفت إلى النور الخالد الذي ينبع من أُفق الإنسانية العالى البعيد، ووسوست رمال الصحراء بتسبيحة الحمد لله، تستقبل الأقدام التي تطؤها النورَ الذي سيمشي أوَّلَ ما يمشي على حَصْبائها، ثم يمشي بأصحابه في أرجاء الأرض يحييها بعد موت، ويطهرها بعد دَنَس. سكن الكون وأصغى، وسكنت نأمةُ (¬1) الشياطين في مخارمها ومهاويها وآفاقها، (¬2) وخضعت وساوس إبليس بالرُّعب والفزع، وثبتت في مسارِبها جائلاتُ الجِبْت والطاغوت، وتحيَّرت في مستقرِّها أباطيلُ الأوثان وأوهام الألوهة المزيفة على الناس. ثم اهتز الكون كله بالفرح، فتداعت أبنية الأجيال الوثنية الباطلة، ثم أخذت تتداعى تحت الأشعة النبوية التي نشرت على الدنيا نورها بالحق والعدل والتوحيد والسلام. . . سكن الكون وأصغى، ثم اهتز بنوره وتطهر، - صلى الله عليه وسلم -. والسلام عليك يا رسول الله، سلامًا من كل قلب، وفي كل زمن، والحمد لله الذي أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. أعيادنا أعياد الأمم هي الأيام التي تستعلن فيها خصائص الشعوب وذخائرها ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 355)، 1940، ص: 701 - 703 (¬1) النأمة: الصوت الضعيف الخفيّ. (¬2) المخارم: جمع مخرم، وهو منقطع أنف الجبل.

وخلائقها الأدبية والعقلية والنفسية والسياسية. هي الأيام المبتهجة التي تنبض بالحياة وأسبابها في الأمة، لتدل على السر الحيوي الساري في أعصاب الحياة العملية اليومية المتتابعة على نظام من الجد لا يكاد يختلف. واحتفال الشعب بأعياده أمر ضروري لإعطائه المثل الأعلى وإمداده بالروح التي تدفعه إلى مجده، أو إلى المحافظة عليه. فهو من ناحيتيه يظهر ما في الشعب من خصائصه ومحامده وعيوبه، ويبقى على المثل الأعلى بالتجديد والبهجة والزينة. فأعياد الأجانب الأوربيين مثلًا تكشف عن قوتهم واعتدادهم بأنفسهم، وتعشقهم لجمال الحياة الدنيا إدمانًا وإغراقًا، وعن جعلهم المجاملة أصلًا أخلاقيًّا في أنفسهم وأهليهم، وعن غرورهم واستهتارهم واستهانتهم بأكثر الفضائل الإنسانية حين تجري في دمائهم عربدة الطغيان الإنساني المتوحش الذي يرتد إلى الغرائز الحيوانية المستأثرة باللذة، المجردة من الورع والتقوى. وأعيادنا نحن تهتك الحجاب عن ضعفنا وذلتنا، واستكانتنا لما نشعر به من الضعف والذلة، وتبين عن ذهول الشعب عن نفسه وعن تاريخه، وعن مجده، وتعلقه بتُرَّهات الحياة، وقلة مبالاته بجمالها، وانصرافه عن معرفة الأحزان الخالدة في طبقاته بخلود الفقر والجهل والبلادة. فهل يزدلف (¬1) إلينا ذلك اليوم الذي تتمثل فيه أعياد الشعب الإسلامي صورةَ السيطرة والسيادة والقوة، وتتبدَّى عليه أفراح الحياة الراضية المؤمنة المطمئنة، وتعود إليه الأخوة الإسلامية التي ساوت بين الناس غنيهم وفقيرهم وعالمهم وجاهلهم، وجعلتهم سواء لا فضل لأحد على أحد إلا بالخلق والتقوى؟ هل يأتي ذلك اليوم السعيد الذي يجعل أعيادنا صورة من مدنية دين الله التي تبدأ بالرحمة والحنان والتعاطف، وتنتهي بالعمل والجد والصبر والتعاون؟ يومئذ تكون السيادة العليا للمدنية المستقبلة، مدنية الحرية التي لا تشتهي أن تَفْجُر، والعلم الذي لا ينبغي أن يكفر. ¬

_ (¬1) يزدلف: يقترب، وأصله المشْي البطيء إلى غاية الشيء.

التعليم

التعليم فاز الأسبوع الماضي في مجلس النواب بإثارة انتباه الناس إلى شأن التعليم وسياسته التي درجت عليها وزارة المعارف من سنين تطاولت، وقد قدمت اللجنة المالية تقريرها عن ميزانية المعارف، وتناولت في هذا التقرير سياسة التعليم وأغراضه، وعيوبه وما ترجو به له الإصلاح، وناقش المجلس بعض هذه الآراء، وعرض حضرات النواب بعض آرائهم وملاحظاتهم. ونحن -على أننا لم نحضر هذه الجلسة بل قرأنا ما اختصر مما جرى فيها- نظن أن حديث النواب كان يدل دلالة قاطعة على أن وزارة المعارف التي انقضى على قيامها بهذه المهمة ما يربو على قرن من الدهر لم تقرر فيها أصولٌ صحيحةٌ للتعليم، ولم تجر سياستها على منهج يستمر بها إلى غاية تريدها على تدبير وحياطة. أفلا ترى أن الوزارة لا تزال تسمع من الناس ومن النواب ومن أصحاب الرأي ما يجب عليها للتعليم الديني في مدارسها، وما ينبغي في مناهج تعليم البنات، وما تتطلَّبه أنظمة التعليم الإلزامي، وهل أدى الغرض منه إلى اليوم أو لم يؤده؟ وما تفرضه الوطنية من النظر الصادق في ترقية التعليم الحر حتى يصل إلى الدرجة التي تليق به وبالأمة التي يتولى هو بعض الرعاية على بعض أبنائها، وغير ذلك من الشؤون الابتدائية في سياسة التعليم. فهذا عجيب أن تبقى وزارة المعارف إلى هذا اليوم، ولم تتقرر لها سياسة كاملة عامة تتناول حياة الأمة العلمية والأدبية والخلقية والبدنية بأدق النظر وأحسن الرأي، فلا ينبغُ لها نابغ يسددها إلى هذه الآراء الأولية التي يفرض كل أحد أنّ الوزارة قد انتهت من إقرارها والسير عليها والتدبير لها بكل الوسائل التي تكفل للشعب تربية أبنائه تربية تامة كاملة مهيَّأة لتحمُّل الأعباء المثقلة التي سيحملها جيلهم من بعد هذا الجيل. وقد سارت وزارة المعارف في السنين الأخيرة على سُنَّة لا يمكن إلا أن تُفضي إلى توهين الروابط الثقافية التي تربط الشعب كله بعضه إلى بعض؛ وذلك

تعليم العربية

كثرة تبديل المناهج وتغييرها عامًا بعد عام لغير ضرورة ملجئة في أكثر هذا التبديل والتغيير. ولابد أن تحزم وزارة المعارف أمرها على خطة واسعة متراحبة ترمي إلى أبعد مدى على أتم حذر، ليتسنى لها أن تمحو كل أخطاء الماضي التي لعبت فيها الأيدي الاستعمارية والسياسية بكل ما من شأنه أن يسلب الشعب قدرته على التحفز والتوثب والتجمع، وما ينشئه على الحرية العقلية والنفسية التي ترفعه إلى الدرجات السامية التي يجب أن يرقى إليها كل شعب يريد أن يتحرر ويسود ويفرض مدنيته على الأرض التي يعيش عليها. وإذا أرادت وزارة المعارف ذلك الآن، فإن في همة وزيرها الذي لا يَمَلّ ولا يتأخر عن دواعي الوطن، إنفاذًا لهذه الإرادة. فوزير المعارف رجل معروف بالجد والإخلاص والمثابرة وقوة العزيمة، فلو اجتمع له كل أصحاب الرأي ممن يحب أن يساهم في شأن التعليم مساهمة الدرس والكفاح للمستقبل، لأمكنهم أن ينقذوا وزارة المعارف من البلبلة التي لا زالت تتساقط بها من ذلك العهد القديم المعروف بأغراضه في تحطم قوى الشعب تحطما استعباديًّا مستبدًّا. فنرجو أن يضمَّ وزير المعارف إلى رأيه جماعة من أصحاب التدبير السياسي للتعليم غير متقيِّد بشيء من الرسوم القديمة -وهو الرجل الحر- فإن القيود هي التي جعلتنا إلى هذا اليوم نسري في ظلام دامس من الأهواء التي غلبت على شأن التعليم فيما مضى. تعليم العربية وبهذه المناسبة أذكرُ أني قرأتُ في الأسبوع الماضي أيضًا كلمة عن أسباب ضعف الناشئة في اللغة العربية، وأن الكاتب ردّ هذا إلى أسباب من المعلم والكتب وغير ذلك، وزعمَ أن أكثر كتُبنا لا يصلح لتعليم الناشئة لسانَ أمتهم. وإن يكن في هذا بعضُ الحقِّ فليس هو كلُّ الحق، فإن أسبابَ ضعفِ النشءِ في العربية ليس يُردُّ إلى المعلم والكتاب، بل مَرَدُّه إلى المنهج الذي يُقيِّد المعلم بقيود كثيرة ترفع عنه التبعة في نتيجة التعليم، ويقيد الكتاب بمثلها، ويُعطي النشء ما لا يَصْلُح عليه لسان ولا يستقيم به تعليم لغة. فلو أنت نظرت لما رأيت شعبًا من شعوب الأرض المتعلمة، يفعَلُ بلغته

ما نفْعل نحنُ من التجاهل للآثار الأدبيةِ وقلّة الاحتفال بتزويد الناشيء بمادّتها التي تحفظها لتكون أبدًا على مدِّ الذاكرة وفي طلب اللسان، ولو أنت سألتَ أي مُتعلِّم من أهل الأمم الأخرى أن يُسمِعك من روائع شعر أُمته ونثرها وحديث بلغائها لاحتفَلَ لك بالكثير الذي تظنُّ مَعَه أنه إنما أعدَّ لك الجواب لعلمِه أنك قد أعددتَ له السؤال. فلو أنتَ جئت بعدَ ذلك إلى أحد المثقَّفِين المكثرين المتنفِّخين من المتعلمين عندَنا وسألته مثل ذلك لنَحا إليك بَصَرَه فأتأرَ (¬1) النظَر فابتسمَ فضَحكَ فاستهزَأ بك فولاك ظهره فمضى يعجب من غفْلتك وحماقتك وقلّة عقلك. وإن بعضهم ليقول: ليس لنا ما لهم، أَين للطالب المصري أو العربي ما يغريه بالقراءة كما يغرى شكسبير وملتون وبيرون وشيللي وفلانٌ وفلانٌ من الشعراء والكتاب؟ بَلى أين؟ وإن يكن هذا كله حقًّا فافترضناه كذلك، فليس يكون لنا مثل شكسبير وأصحابه إلا باستيعاب قديم كتابنا وشعرائنا، والحرص على آثار مُحْدَثيهم، فإذا كان ذلك أخرج الشَّعْبُ يومًا أمثالَ هؤلاء لمن يلينا من أهل أمتنا. وإلا فإننا سائرون إلى ضعف أبدًا مادُمنا نرَى أن الطالب لا يطيقُ أن يستوعب من شعر البحترى إلا قصيدة واحدة ومن المتنبى مثلها، ثم يكون ذلك آخر عهده وأوله بدراسة الآثار الأدبية العربية. إن الحفظ الأول للآثار الأدبية الرائعة قديمها وحديثها هو الذي يخرج الأديب والكاتب والشاعر. انظر إلى المنفلوطي والرافعي وشوقي وحافظ والبارودي والزيات وطه حسين، كل هؤلاء لم يكونوا كذلك إلّا لأنهم نشأوا وقد حفظوا القرآن أطفالًا فحملهم ذلك على متابعة حفظ الآثار الأدبية الجليلة، ثم حفز هذا المحفوظ ما انطووا عليه من الطبيعة الأدبية التي استقرَّت في أنفسهم وأعصابهم، فلما استحكموا استحكمت لهم طريقتهم في الأدب والشعر والإنشاء، ولولا ذلك لما استطاعوا أن يكونوا اليوم إلا كما نرى مِن سائر مَنْ تخرجهم دور التعليم بالآلاف في كل عام ينقضي من أعوام الدراسة. ¬

_ (¬1) أتأر النَّظَرَ: أحَدَّه.

مشروع

مشروع كتب الأخ الأستاذ "محمد خلف الله" كلمة جليلة الغرض تحت هذا العنوان "مشروع" في مجلة الثقافة العدد (68) الماضي. وخلاصة هذا المشروع: أن تؤلف جماعة من الباحثين يمثلون اللغة والأدب وعلم النفس والاجتماع يكون من أغراضها أن تدرس النواحي المختلفة للاجتماع المصري الحاضر وما يكون فيه من الظواهر المختلفة التي يخشى أن تدرج وتبيد ولم نستفد من الحرص عليها إن كانت نافعة، أو الاستعانة بها في درء الأمراض الاجتماعية عن الشعب فيما يستقبل إن كانت من السوء بحيث تكون كذلك. وقد عَدّ الأستاذ خلف الله بعض الأمثلة فيما يجب أن تتوجه إلى دراسته هذه الجماعة كمخارج الحروف وأصواتها في كل الأقاليم المصرية، ورد ذلك إلى أصوله الأولى التي انحدر عنها من تاريخ القبائل، وكذلك اللهجات الكثيرة في الوجه البحري والقبلي مما هو -ولا شك- نتيجة لإقامة بعض العرب في هذه الجهات، ثم دراسة الأدب الشعبي من قصيد وموال ومثل وفكاهة وسمر، ودراسة الخلق المصري، وعيوبه وفضائله، وما يتعاوره من الغلو والضعف. ويكون ذلك كله إعدادًا لمعرفة حقيقة هذا الشعب معرفة صحيحة، ثم نشر كل ذلك على التتابع في رسائل قد استوفت شروط المنهج العلمي للدراسة الاجتماعية واللسانية والفنية. وكلنا يرحب بهذا المشروع الذي نستطيع معه أن نخدم الشعب خدمة عظيمة باستظهار ما يستسر من قوته، وما يستعلن من ضعفه، فيكون ذلك أحرى بأن يهدينا إلى إصابة الدواء الذي يحسم مادة الداء التي تلتهم أسباب رقيه سببًا بعد سبب. وهذه الدراسات المفصلة للشعوب على طبيعتها التي تتعامل بها في السوق والحقل والمصنع والمدرسة والبيت، وهي النجاة لنا من شر كبير قد أوقعنا فيه الاضطراب وقلة الخبرة. ولو علمت أن أكثر الأمم المستعمرة تلجأ إلى هذا الطريق نفسه في دراسة الشعب الذي تريد أن تستبد به، ليتسنى لها أن تعمل على إضعافه وقتله بتقوية ضعفه وإضعاف قوته دون أن يشعر أو يتألم بل يحسب أنه

يسير إلى غايته على تدريج طبيعي -لو علمت ذلك علمت ما نستطيع أن نستفيده من نتائج هذا المشروع الجيد إذا أُحكم تنفيذه، ولم تَغْلب على اختيار رجاله محاباة، ولم تتحكم في هؤلاء الرجال شهوةٌ أو هوًى.

الأزهر

الأزهر الأزهر -كما يجب أن نعرفه- إن هو إلا تاريخ مصريٌّ عربي إسلامي كاملٌ متتابعٌ قد امتدَّ على مَدْرَجةِ التاريخ ألف سنة يجدِّد فيه ويتجدَّد به، ويعيشُ عيشه هذا في التاريخ كالمدد المتلاحِق الذي يستفيضُ بمادَّته لينشيء القوةَ في رُوح الجيش المرابط وأعصابه وأفكاره وأعماله المجيدة. وهذا التاريخ العجيب الذي لا يزال حيًّا في هذه الأرض، هو كالتاريخ الإسلامي والعربي كله مجهولٌ متروك لم تَنفُضْ عنه الحياةُ العربية الجديدةُ غُبار السنين المتقادمة والأجيال المتطاولة التي تعاقبت عليه بالنسيان والإهمال والهجر. وإذا نظرنا إلى الأزهر على مقتضى هذه النظرة وبسبب من هذا الرأي -علمنا أنه كهذا التاريخ الإسلاميّ قد تعاورته القوَّة والضعف، وحزَّت فيه سِيما العلم ومِيسم الجهل، وتغلغل فيه النبوغ الفذُّ السامي والنبوغ الشاذُّ النازلُ: النُّبُوغُ السامي الذي ارتفع بروحانية الشعوب الإسلامية وأخرجها من سُلطان الشهواتِ والجهالات، فمدَّتْ بذلك سلطانها على جزء عظيم من العالم، والنُّبُوغُ النازل الذي هَوَى بروحانيةِ هذه الشعوب إلى الجَدَل والفُرقة والمذاهب والآراء الخاضعة لسلطان الشهوات العقلية المريضة، فقلَّصتْ ظِلَّ هذا السلطان عن هذا الجزء العظيم من العالم. والأزهرُ -كان- مجْتَمَع القُوى المختلفة التي عملتْ في إنشاءِ الحضارة الإسلاميَّة والعربيَّة التي عاشَتْ في التاريخ الماضي وملأته بالألوان المختلفة من مميزات هذه الشعوب الإسلامية المتباينة، والمتباعدة في مطارح الأرض ما بين الصين إلى المغرب الأقْصى، واستمرَّ على ذلك مئات من السنين تتلوها مئات، وكذلك مهدت هذه السنين للشعب العربي المصري في هذا العصر -عصر النهضة الجديدة في الشرق- أن يكونَ هو قِبْلَة الأمم العربية والإسلامية. وذلك لأن روح الشعب المصري، وثقافته الموروثة في تفكيره وأخلاقه وطباعه، وحضارته القديمة التي تبرَّجتْ على ضفاف النيل -هذه كلُّها ليست إلا خلاصة ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 356)، 1940، ص: 741 - 744

هائلةً مصفّاة من أرواح الشعوب الإسلاميَّة كلها وثقافاتها وحضاراتها. وكان الأزهر هو المصدر الذي استمدَّتْ منه مصر هذا الفيض العظيم الجاري في أودية التاريخ المتقدِّم، لأنه هو كان الجامعة الوحيدة في هذه الديار، وكان أكبر جامعة وأعظمها في سائر الديار العربية الإسلامية. وبهذه الخلاصة التي اجتمعت في الأزهر، ثم انتشرت منه في أرجاءِ مصر قديمًا وحديثًا استعد الشعب المصري بطبيعته لأمر مقدور، هو أن يكون زعيما للشرق في عصر النهضة الجديدة، لأن كل شعب من الشعوب العربية والإسلامية يرى في هذا الشَّعْبِ صورة من نفسه مكملة بألوان أخرى من صور سائر الشعوب التي تمتُّ إليه بسبب من الدين واللغة والحضارة والثقافة والفكر والدم. ونحن نأسف إذ نرى الناس إنما ينظرون إلى الأزهر نظرةً محدودةً ضيقة لا تتراحب ولا تنفذ إلى حقيقة هذا التاريخ القائم في أرض مصر. فهم يعدُّونه معهدًا دينيًّا، ويكون تفسير كلمة الدين هنا على غير الأصل الذي يعرف به معنى الدين في حقيقة الفكرة الإسلامية التي ختم الله بها النبوَّات والأديان على هذه الأرض. وهذا المعنى الجديد المعروف في زماننا لهذه الكلمة كلمة "الدين" ليس إسلاميًّا، لأنه لا يلائم روح الإسلام في شيء. . . كلا، بل هو يهدمُ أعظم حقيقة حية أتى بها هذا الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليجعل الذين آمنوا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ويجعلهم الوارثين. وهذه الحقيقة الحية الجميلة هي جعل كل عمل من أعمال الإنسان المسلم في الحياة عبادة تقربه إلى الله. . . فليس البيْع والشراءُ، أو تدبير أمور الناس في الملك، أو العلم والتعليم، أو تربية الولد، أو الخدمة التي يؤديها الرجل لمن يخدمه ليست كل هذه الأشياء الاجتماعية في منزلتها من الدين الإسلامي. . . إلا كالصلاة والصيام والزكاة وسائر الأعمال التي يفهم بعض الناس الآن أنها هي الدين حسبُ. فالأزهر الإسلامي هو الذي تتمثَّل فيه حقيقة الإسلام -أو يجب أن تتمثل فيه هذه الحقيقة-، وتاريخه الماضي كان صورة صحيحة للحياة الاجتماعية الإسلامية بكل ألوانها وأنواعها، مع ما كان قد عرض فيها من العيوب التي أدركت الشعوب

إصلاح الأزهر

الإسلامية وجعلتها تنزل عن المرتبة الأولى التي كانت لها في تاريخ الحضارات السالفة التي سبقت الحضارة الأوربية لهذا العصر. فلما هجمت علينا الحضارة الحديثة من أوربا بعواملها المختلفة، وسياستها القوية التي تغلبت على كل سلطان في الشرق، ثم اندست العوامل الغربيّة في الأمم الإسلامية، وعملت الأيدي العدوَّة عملها في تمزيق الروابط بين طبقات الشعب. . . رجع الأزهر إلى غيله يستتر فيه، وقبع أهله عن صراع الحياة الجديدة صراعًا يراد منه الظفر، وكذلك سار الناس ناحية وسار الأزهر ناحية أخرى، وكان ذلك أول البلاء على الأزهر وعلى الشعب نفسه! إصلاح الأزهر وقد أحس كثير من المصلحين من أهل الأزهر وغير أهله -ممن يعرفونه أصلًا كبيرًا في الحياة المصرية والعربية والإسلامية- بما تقتضيه طبيعة الموقف الذي صار إليه في هذا العصر، وبما توجبه حقيقة الدين الإسلامي، فهبوا إلى إصلاحه والنظر في شأنه مرة بعد مرة. وكان العمل لذلك شاقًّا كثير المتاعب غير قريب المنافذ، فاضطربت الأيدي واختلفت الأغراض، وسار هذا الزمن السريع بقوة واندفاع، لا يملك معه المصلح الانطلاق في آثاره على مثل سرعته واندفاعه وكذلك لم يزل الأزهر الآن في منزلة غير المنزلة التي يوجبها له قيامه ألف سنة على التاريخ الفكري والثقافي والعملي في الحضارة الإسلامية. وقد كتب الأستاذ "الزيات" -في فاتحة العدد الماضي من الرسالة- كلمته الجليلة "في سبيل الأزهر الجديد" يطالب الأزهر بالرجوع إلى المنابع الأولى للدين واللغة والأدب والعلم. وحُبُّ "الزيات" للأزهر، ورغبته في المبادرة إلى علاج الأدواء التي تلبست به من أمراض الأجيال السابقة، هي التي حملته على أن يكتب كلمته لتظفر مصر "بجامعتها الصحيحة التي تدخل المدنية الغربية في الإسلام، وتجلو الحضارة الشرقية للغرب، وتصفّي الدين والأدب من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة". نعم إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر لم يقصّر في اجتهاده أن يجعل

الأزهر مثابة للعلم الإسلامي الصحيح، ولم يتخلف عن النصيحة له بما توحي به الرغبة الصادقة في تحريره من آصارٍ (¬1) قديمةٍ عاقته عن بلوغ غايته التي يحق له أن يبلغها. فقد وضع الأستاذ الأكبر من عشر سنين نِظامه الجديد للكليات في الأزهر وجعل أحد قسمي التخصص في هذه الكليات موقوفًا على مادة من مواد الشريعة أو اللغة أو الأدب أو التفسير والحديث أو المنطق والفلسفة أو الأخلاق والتاريخ وعلم النفس وما إلى ذلك. وأمدّ هذه الكليَّات العالية -في دراستها لما خصصت له- بالكتب الأصول المعتمدة في بابها ككتاب سيبويه، وخصائص ابن جنى، وسر صناعة الإعراب لابن جنى، وتصريف المازني، وكتاب فيلسوف النحو رضي الدين الإستراباذي صاحب شرح الشافية، وشرح الكافية، وهما عمدة أصحاب النحو والتصريف. وكذلك جُعلت كتب عبد القاهر -دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة-، وكتاب الصناعتين لأبي هلال، وأدب الكاتب والكامل والأمالي وغير هذه من أصول الأدب واللغة هي مادة الدراسة في هذه الكليات. وقد قام على التدريس في هذه الكليات جماعة من خيرة من أنجبهم الأزهر فاستقلوا بتدريس هذه الكتب الجليلة خير استقلال، فنرجو أن يظهر الأزهر الجديد بعلمه الجديد الذي استمده من الكتب الأصولِ، وأن يعتمد فيما يستقبل من أيام نهضته كل الأصول الأولى في تدريس الفنون المختلفة التي يقوم ببثها بين أبنائه ومريديه وطلبته. هذا ونرجو أن تحقق روح الأزهر -التي تتصل بالشعب المصري وسائر الشعوب الإسلامية- معنى الإسلام الصحيح الذي يطالب المسلمين بالسيادة والقوة والغلبة، ولا يكون ذلك إلا يوم يتصل الأزهر اتصالًا تامًّا بجميع ألوان الثقافات العالمية، ليوجد للشعب المصري والعربي والإسلامي ثقافة تضارع كل هذه الثقافات، مبرَّأَةً من عيوبها التي فرضتها عليها البيئة غير الإسلامية التي نشأت تحت ظلالها وفي رعايتها. وأنا أكتفي بهذا القدر من القول، وسأعود قريبًا لأبدي بعض الرأي في أنواع ¬

_ (¬1) الآصار: جمع إِصْر، وهو الثَّقْل الذي يؤود الإنسان.

المجمع المصري للثقافة العلمية

من الإصلاح تراد للأزهر وغير الأزهر، أرجو أن تنال بعض الرعاية ممن يتولون شأن هذا الإصلاح. المجمع المصري للثقافة العلمية بدأت في الأسبوع الماضي جلسات المؤتمر السنوي للمجمع المصري للثقافة العلمية برياسة حضرة صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا، وهذا هو المؤتمر الحادي عشر لهذا المجمع العلمي الصامت الذي يجاهد في إنشاء الثقافة العلمية العربية في الشرق بما يسعه جهده وماله. والمجمع العلمي هو أهم ما يحتاج إليه الشعب العربي الذي ابتعد به الزمن عن متابعة النهضات العلمية المختلفة التي تجددت بالحضارة الأوربية الحديثة. وقيام هذا المجمع بنشر الثقافة العلمية -في حدود طاقته- قد أوجد للأمة العربية ذخيرة عظيمة تقع في عشرة مجلدات، كلها مباحث علمية عظيمة مكتوبة باللغة العربية مع قلة الاصطلاحات العربية العلمية التي تؤدي المعاني العلمية الجديدة التي لم تقرر لها بعد مصطلحات ثابتة في مادة هذه العلوم. وهذا المجمع العلمي العظيم لا يَلْقَى -مع الأسف- ما هو حقيق به من الحفاوة والاحتفال في الأوساط الأدبية والعلمية التي توجب عليها مهمتها الشاقة إمحاض النصيحة للأمم العربية، بتشجيع القائمين بأعمالهم المجيدة في صمت وسكون ورفق. ومن أعجب العجب أن تعقد المحاضرات والمناظرات الكثيرة التي تعتمد أكثر ما تعتمد على الثرثرة ومضغ الأحاديث والتمطق بمبذول الكلام، وتجتمع لهذه المحاضرات والمناظرات فئات كثيرة من طبقات الناس، وفي صدرهم كثير من أصحاب الأمر وعظماء الأمة ثم يعقد هذا المجمع مؤتمره مرة في كل عام فلا يلقى من هذه الفئات ولا من هؤلاء العظماء ما هو أهل له من المتابعة والاهتمام أو المجاملة إن شئت. وكان الظن أن تعمل وزارة المعارف والجامعة وسائر المعاهد والوزارات التي يتناول المجمع -بعض ما يخصها أو يقع في حدود أعمالها- بالبحث والدرس والتحقيق والكشف. كان الظن أن تمهد هذه له سبيل إبلاغ صوته إلى أكبر عدد ممكن من المثقفين، تشجيعًا له وللقائمين عليه، وطلبًا للمنفعة التي تأتي من إثارة اهتمام هذه الجماهير بنتائج الأبحاث العلمية وأنواعها، وضروبها المختلفة التي

آلهة الكعبة

يقوم المجمع وأعضاؤه على إعدادها ومتابعتها والعمل على نشرها، لتكون سببًا من أسباب اليقظة العلمية التي تقتضيها النهضة الحديثة في الشعوب العربية. وقد جمعني مرة مجلس فيه فئة من كبار الأساتذة في بعض المعاهد العلمية العالية، فلم أجد عند أحد منه خبرًا يعلمه عن هذا المجمع، فما ظنك بعمله أو إنتاجه أو غايته التي أريد لها إنشاؤه وتأسيسه؟ وهذا أمر يؤسف له، ويوجب على المجمع وعلى كل ذي رأى أن يعمل على تنبيه الوزارات والمعاهد إلى قيمة هذا العمل الذي يقوم عليه المجمع، وإلى توجيه أنظار الناس إليه بكل سبيل، حتى يستطيع أن يؤدي إلى الناس ما يرغب فيه من نشر الثقافة العلمية التي يحتاج إليها هذا الشعب في كل أغراضه وأعماله، وفي بعث الروح العلمية التي تكفل له القيام بالعبء المثقل الذي يريد أن ينهض به في بناء الحضارة الجديدة التي يتهيأ الشرق لوراثتها عن الحضارات التي هي في سبيل إلى الهلكة والتدمير والبوار. هذا وقد بدأ المجمع مؤتمره لهذه السنة بالمحاضرة التي ألقاها الدكتور حافظ عفيفي باشا عن "الأصول العلمية الحديثة وتطبيقها على الزراعة"، وقد عرض فيها لأهم ما يشغل الأسواق المصرية في هذا الوقت، وهو نظام الحاصلات والأسواق الداخلية، فأبان كل البيان عن وجه المصلحة التي يجب أن يقصدها القائمون على أمر الشئون الزراعية في هذه الأوقات العصيبة المنذرة بأن الأزمات على الأسواق التجارية. ثم تبع ذلك بحث في أهم ما يخافُ منه وما تخشى عواقبه في أزمان الحربِ، وهو تفشِّي الأمراض والأوبئة، وما يجبُ على الشعب المصري وحكومته أن تعمل على تفاديه بكل سبيل. فألقى الدكتور عبد الواحد الوكيل: "حاجة البلاد إلى تعديل خططها الطبية والصحية"، وقد أبانت هذه المحاضرة عن هول الحالة الصحية التي تختفي في كل ناحية من نواحي هذا الشعب المهمل المسكين. آلهة الكعبة كنت قرأت في البريد الأدبي من عدد الرسالة 350 كلمة للأخ محمد صبري في قصيدة الأخ الشاعر محمود حسن إسماعيل، ينكر فيها أن "اللات، والعزَّى، ومناة" من آلهة الكعبة، قال: "وليس واحد من هذه الثلاثة من أصنام الكعبة، بل لم

يكن واحد منها داخل الكعبة ولا حولها". ثم استشهد قول ابن الكلبي في كتاب الأصنام، حين ذكر مواضع هذه الأوثان الثلاثة. وقد كان اعترض بعض أصحابنا قبل ذلك -في مجلس الأستاذ الزيات- بمثل ما اعترض به الأخ صبري، فرُمتُ أن أقول: إن وجود هذه الثلاثة في الكعبة أو حولها ليس يَمْتَنِع: وذلك لأن ابن سعد ذكر في طبقاته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت -بعد فتح مكة- وهو على راحلته، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه بقضيب في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}. فيقع الصنم لوجهه. وابن الكلبي لم يعد لنا في كتابه الأصنام غير أسماء ثلاثين صنما، وزاد زكي باشا عليها تسعة وأربعين صنما، فهذه خمسة وسبعون (¬1)، فأين هي من ثلاثمائة وستين؟ . . . . وما كانت كل هذه الأمة من الأصنام إذن -إن لم يكن منها اللّات والعُزّى ومَنَاة، وهي أشهر أصنام الجاهلية، وهي المذكورة في القرآن في سورة النجم، وقد كان نزولها بمكة، وما أظنها تذكر بأسمائها إلا وكفار قريش يعظمونها، فإذا عظموها اتخذوها في الكعبة وهي بيتهم المعظم، كما كانوا يتخذون الأصنام في بيوتهم ودورهم. ثم رأيت أخيرًا أن ابن سعد يذكر في فتح مكة أن رسول الله بث السرايا إلى الأصنام التي حول الكعبة فكسرها، منها: "العزى، ومناة، وسواع، وبوانة، وذو الكفين. فنادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَدَع في بيته صنما إلا كسره". ثم جاء كلام أبي جعفر الطبري في تفسير سورة النجم ج 27 ص 36 يقطع الشك باليقين إذ يقول. "وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: اللات والعزّى ومناة الثالثة -أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها"، وهذا هو المعقول، وليس من المعقول أن تخلو كل هذه الأمة من الأصنام التي كانت حول الكعبة من تماثيل منصوبة للات والعزى ومناة الثالثة، وهذا ليس يمنع أن تكون القبائل غير قريش مكة قد اتخذت لها أنصابًا نصبتها في الأماكن التي ذكرها ابن الكلبي وغيره. ¬

_ (¬1) كذا جاء بالأصول، والصواب: تسعة وسبعون.

الأغنياء. . . .

الأغنياء. . . . كانت ليلة السبت السالفة من الأسبوع الماضي، فوقع في دنياي أمرٌ مُفْزِعٌ كنتُ معه كمن عَمِي دهرًا من عمره ثم أبصر. فأخذتني الحيرة أخذًا شديدًا، وتضرَّبتْ نفسي كما يتضرَّبُ الماءُ في مرجَله على معركةٍ من النار تشتعلُ من تحته وتتسعر، وتقاذفَتْنى الهموم كما يتقاذفُ تيَّارُ البحر الأعظم موجةً هائمة من موجِهِ، وتنزَّى قلبي بين ضلوعي كما تتنزَّى الكرَةُ مقْذوفة من علُ، وهاجَ هَيجى واضطربَ أمرِي وتغوَّلَتْنى الأفكارُ الخائفة الحزينة المجرَّحة التي تَدْمَى أبدًا، فلا تحسمُ الدَّم، وانقلبتُ بِهَمِّى أدورُ في نفسي دَوْرة المجنون في دنيا عقله المريض المشعَّث. وهكذا قَضَّيتُ ليلَ أيامى، وليس لمثل هذه الأيامِ نهارٌ. ودعوتُ ربي جاهدًا، وكنت من قبل أدعوهُ، إنه هو البرُّ الرحيم. . . .، وكنتُ أرى الدنيا كلها وكأنما ارتدتْ لعَيْنَىَّ غِلَالةً من سرابٍ تخفِقُ عليها وتميدُ وتتريّعُ، وإذا الأرضُ غيرُ الأرضِ والناس غيرُ الناسِ، وإذا كل شئ يجئُ ويذهبُ، ويبينُ ويَخفي. . . .، وفقدتْ الأشياءُ معانيها في نفسي، فما أرى إلا بؤسًا وخَصاصة وجوعًا وعُرْيًا، وإذا كلُّ شيء بائسٌ فقيرٌ جائعٌ عارٍ لا يستره شيءٌ. . . . اللهم إني فوضتُ أمري إليك وألجأتُ ظَهرى إليك. . . . ومضيتُ أنسابُ في أيامِي البائِسَة، حتى إذا كان الليلُ في أَوَّلِهِ مُذ أمس، أويتُ إلى بيت كتبي آخذُ كتابًا لا ألبثُ أُلقيه كأنْ بيني وبينه عداوةٌ أو حقدٌ قديمٌ. فضِقتُ ثم ضقتُ وخَنقني خانقُ الضَّجر واليأسِ، وغاظني ما غلبنى على عقلي وإرادتي، فأهويتُ بيدى إلى كتاب عزمتُ ألا أدعه، وإذا هو: "إِغاثة الأمة، بكشف الغُمَّة، للمقريزي". وفتحتهُ وانطلقتُ أقرأ، فما أجوز منه حرفًا أولَ إلا وجدتُ الألفاظَ تتهاوى في نفسي وفي عقلي، وكأنها تُقذفُ فيهما من حالقٍ، حتى لَوجدتُني أسمع لها فيهما صلصلةً ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد: 357)، 1940، ص: 777 - 778

ودويًّا وهدًّا شديدًا شديدًا، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة. وإذا بحر يموجُ لعيني أسمعُ هديرَه وزئيره وزمجرة أَمواجِه في الريح العاتية، وإذا هو أحمرُ كالدَّم يَفُورُ ويتوثَّبُ، وإذا صرخةٌ تخفت زمجرة الأمواج، وإذا هو هاتف يهتف بي: "قم إلى صلاتك، فقد أظلك الفجر! ! ". فانتبهت فزعًا وإذا أنا أقلب الصفحة التاسعة والعشرين من هذا الكتاب، وإذا خطوط حمر قد ضربتها فوق هذه الأسطر: "ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ولده مشويًّا ومطبوخًا، والمرأة تأكل ولدها. . . . فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه. ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ، فإذا هي لحم طفل. وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت" (*). أين يعيش أحدُنا وهو يقرأ؟ هذه تسع ساعات يخيَّل إليَّ أني قضيت ثماني ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلِّبها لعيني فتتقلَّب معانيها في نفسي، إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المتفجرة بدمي في قلبي، فلا يكون الحرفُ منها إلا أفكارًا تتَّسع وتتراحب وتتداعى وتتوالد ويَنْسَخ بعضها بعضًا. ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي من هذه الأسطر، وما تحدثت به النفس من حديث أَكَلَ ثماني ساعات من أول الليل إلى مطلع الفجر، لملأ ذلك ما يقع في كتاب مفرد، ولكن. . . . لماذا لا تكون هذه القسوة المتوحشة إلا من أعمال القلوب المتحجرة في بيوت الأغنياء والأكابر؟ ولماذا يكون أقسى القسوة في قلب المرأة الغنية، فتكون هي أعظم استهانة بجريمة أَكْل ولَدِها الذي والدَتْه؟ ولماذا يكون الفقير والفقيرة ¬

_ (*) كتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة" هو تاريخ المجاعات التي كانت بمصر، وقد طبع بلجنة التأليف والترجمة والنشر منذ أسابيع. وهذا الذي نقلناه من تاريخ المجاعة التي كانت بمصر في الدولة الأيوبية سنة 596 فقيل فيها: "سنة سبع افترست أسباب الحياة" (شاكر).

دائمًا هما مِثالُ الرحمة والحب والعطف والحنان؟ أليس الناس جميعًا -غنيُّهم وفقيرُهم- سواء في هذه الحياة؟ بَلَى، ولكن. . . . ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض، وفي الحياة الدنيا، ألا وإن المالَ عِصامُ هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يُقضى من أعاجيبها عجب، ألَا وإنه لَلنِّظَام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها، ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة، إذ يكون هو كل شيء، ثم هو ليس بشيء على الحقيقة، وإذ يكون في وَهْم الفقير القلق سِرّ السعادة، ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة. ألا إنه العجب والفتنة، إذ يكون سر الحياة الإنسانية المدنية على الأرض، ومع ذلك فهو إذا مَلأَ الغَني أفرغه من إنسانيته، وإذا فرَغَ الفقير منه امتلأَ إنسانية ورحمة وحنانًا، ثم يكون بينهما أشياء في هذا وفي ذاك تختلط وتضطرب ويرمى بعضها في بعض حتى يصبح كل شيء فسادًا لا صلاح له. "أكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت! " و"أكثر ما يفعل ذلك النساء! " إنه ليس عجيبًا ولكنه مؤلم، إنه ليس بعيدًا ولكنه مفزع، إنه هو الحقيقة الدائرة مع معاني الثراء والغنى والترف والرفاهية، ولكنها الحقيقة الضارية المتوحشة التي انطلقت من قيودها حين أزَمتها الحاجة والقحط والجوع ونداء المعدة التي تتلوّى أمعاؤها كما تتلوى الحية الجائعة على شهواتها المتجسدة في فريستها. ليس هذا هو كل شيء، وليس القحط وحده هو الذي يُضَرِّى عبيد المال فيأكلون بنيهم وبناتهم أكل الوحش الطاغي بطغيان حيوانيته التي تريد البقاءَ لنفسها، ثم لا تعرف غير نفسها، ولا تعبد إلا نفسها. إن كل أزمة تطلق في أعصاب الأغنياء -إلا من رحم ربك- وحشًا آكلا طاغيًا مستأثرًا لا يرى إلا نفسه ولا يريد البقاء إلا لنفسه. فإذا وقع القحط بين صديقين أحدهما غنى كان صديقه طعامًا تفترسه الصداقة الغنية! وإذا وقع القحط بين حبيبين أحدهما ثرىٌّ مترف تثاءب عنه يريد النوم لأنه شبع من حبه حتى تملّأ! وإذا وقع القحط بين أخوين أحدهما غنى، كان حق الرحم عليه أن يشرب ما بقي من دم أخيه يستولغ فيه حتى يَرْوَي!

إن الترف والنعمة والكفاية، وأحلام الغنى وكنوز الثراء، إن هي إلا الماحقات الآكلات التي تمحق العواطف الإنسانية النبيلة حين لا ملجأ إلا إلى الخشونة والشدة والصبر وحقيقة الفقر. إن الفقراء هم أكثر الناس رغبة في النسل على ضيق رزقهم، والأغنياء أقل الناس إقبالًا عليه على ما يجدون من السعة. الفقراء أشد حزنًا على من فقدوا من أبنائهم وأحبابهم، ولكن أولئك لا يحزنون إلا ريث يشعرون الناس أنهم حزنوا، ولئلا يقول الناس إنهم لم يحزنوا على أحبابهم. . . الأغنياء، الأغنياء. . . نعم هم زينة الحياة الدنيا، ولكن مع الزينة الخداع، ومع الخداع الضعف، ومع الضعف القسوة حين تجد ما يتلين لها أو يتساهل أو يستكين. . . أو يثق. فمن صادق غنيًا فليحذر، ومن آخى ثريًا فليتحصن، ومن عامله فليرهب، فإذا بلغ المرأة الغنية فأحبها فخيلت له أنها أحبته فوثق بها فقد هلك، وإنما هو ملهاة من ملاهي الترف، إذا فقدت لذة اللهو به نبذته لما به.

نجوى الرافعي

نجوى الرافعي أيها العزيز! "في القلب تعيش الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تَفْنَى وفي القلبِ تُحْفَرُ القبورُ العزيزة التي لا تُنَسى" هكذا قلت (**) "وعواطفي تشيِّع الميت الحبيب مطرقة صامتة" واليوم ماذا أقول؟ أمَا إنك لتعلم -أيها الحبيب- أن الذي بيني وبينك دنيا تمشى الأحزان في أرجائها نائحة باكية. . . لستُ أكفر بأنعم الله عليّ أو عليكَ. . .، كلا، كلا! ! لقد ذهبتَ إلى ربك راضيًا مرضيًّا فرحًا بلقائه، مؤمنًا بما زيَّن في قلبك من الإيمان، وبقيتُ أنا لأبحث عن أحبابى بعدَك، . . . لأفقد لذَّة المعرفة التي يفيض فيضها من الصداقة والحب، . . . لأتلدَّدَ هاهنا وهاهنا حائرًا أنظر بمن أثق، . . . لأجدَ حرَّةَ القلب وكَمد الرُّوح وألَم الفكر من حبي وصَداقتي، . . . لأسير في أودية من الأحزان بعيدة: أمشي وحدي، وأبكي وحدي، وأَتألَّم وحدي. . . لا أجدُ من أنفُضُ إليه سرَّ أحزاني، . . . ذهبتَ وبقيتُ. . . لأتعلَّم كيف أُنافق بصداقتي بعضَ النفاق لأنهم يريدون ذلك، . . . لأُجيد مهنة الكذب على القلب لأنهم يجيدون ذلك، . . . لأتعلَّم كيف أنظر في عيونهم بعينين لئيمتين يلتبس في شعاعهما الحب والبغض، لأنه هو الشعاع الذي يتعاملون به في مَوَدَّاتهم، . . . لأفْنىَ بقائى في معانيهم المتوحشة إذ كانوا هكذا يتعايشون، . . . لأحطِّم بيدىّ بنيان الله الذي أَمَرَنا بحياطته، وأتعبَّد معهم للأوثان البغيضة الدميمة التي أنشأتها أيديهم المدنسة القذرة، . . . لأجنِي الثمار المرّة التي لا تحلو أبدًا، ولكنهم يقولون لي: هذا ثمَرٌ حُلوٌ، فلماذا لا تأكل كما يأكل الناس؟ . . . ذهبتَ -أيها الحبيب- وبقيتُ. . .، بقيتُ في الحياة التي أوَّلها لذة وآخرها لذْعٌ كأحرِّ ما يكون الجمرُ حين يتوهج، بقيتُ للحياة التي تريدُ أن تسلُبَ القلبَ براءَةَ الطفولة لتملأهُ إثمًا وخداعًا وشهوةً. . . بقيتُ على الحياة في الأرض التي ¬

_ (*) الرسالة العدد (358)، 3 مايو 1940، ص: 824 - 826 (**) الرسالة: العدد (202)، 17 مايو 1937

تميدُ وترجفُ وتحتدمُ من تحتي، لأنها تنكر الإيمان الذي يمد بسبب إلى السماء. . . بقيتُ بقاءَ حبة القمح في رمال الصحراء المجْدبة لا أجدُ مائِي ولا ترْبتي. . . ولا من يزرَعُني. . . شدَّ ما اختلفتْ عليَّ أحداثُ الحياةِ من بعدِكَ أيها الحبيب! كنتُ أشكو إليكَ ما أُلاقي من ظمأ الروح الهائمة، وهي تطوف بحسراتها على ينابيع الحياة لا تنتهي ولا تستطع أن ترِدَ. . . كنتُ أبثُّك أحزاني وهي جالسةٌ توقِد النارَ على نفسي وتؤرَّثها بأفكارى القلقة التي لا تهدأ ولا تنقطع. . . كنتُ أشكو إليك آلامَ الشَّوْكِ الذي تنْبِتُهُ في قلبي الشُّكوكُ العاملةُ الناصبةُ التي جعلتْ همَّها تعذيبي بالحيرةِ والخوفِ والحرمان. . . والحقيقةِ المؤلمة أيضًا. . . كنتُ أجدُكَ حين ينبغي أن أَجدَك، لأقول لك ما يجبُ عليَّ أن أقول. . . شدَّ ما اختلفتْ عليَّ أحداثُ الحياة من بعدك أيها الحبيب! وها أنذا أريدُ أن أجدَ بعدَكَ من أضعُ في يديه الرفيقتين هذه الجروحَ الداميةَ النابضةَ التي أسمِّيها قلبي. . . أريدُ أن أضعَ أفكارِي التائهة في بيداءِ الظنون المقفرة، بحيث تجدُ مَن يتولى أمر إرشادها إلى رَوْضة اليقين الناضرة. . . أريدُ أن أجدَ مَلْجئى المؤمن حينَ تطارِدُنى من الظن صعاليكُه الكافرة. . . . أُريدُ أن أعرفَ لذَّة الصداقة والحبِّ حين لا أجدُ من الحياة إلاَّ آلامَ صداقتي وحبِّي. . . . أُريدُ. . . . أُريدُ! . . . . أُريدُ مَنْ أقول له: ها أنذا بعَذَابِي وضَعْفي وخُضُوعي؛ فيقول: وها أنذا بصبري وقوَّتي وحبي لك. . . . أُريدُ من أقولُ له: هذه جروحي التي تَنْفُثُ الدَّمَ، لا ترْقأُ ولا تستريحُ ولا تبرأُ إلاَّ على وعي من دَمِها؛ فيقول لي: وهذا طِبِّى الذي يحسمُ هذا الدم لتستريحَ وتبرأَ من أَلم النزيف، يا بُنيَّ. . . .! (يا بُنَيَّ. . . .)، هذه طفولتي، أريد من يحنو عليّ بها حنو الأم على صغيرها الذي هو كل أشواقها الرقيقة من قلب نبيل رقيق. . . . (يا بُنَيَّ. . . .)، هذه طفولتي، أريد من يمسح بها أحزاني التي حيَّرت بصري لأعرف من بعد طريق رجولتي التي تريد أن تعمل وأن تسير وأن تصل إلى سر أشواقها البعيدة الجميلة. . . . (يا بُنَيَّ. . . .)، هذه طفولتي، أريد من يعرف أنى طفل وديع حين أؤوب من كدِّى وكدحي،

فيتلقاني بين ذراعيه إلى قلبه لأشعر بحنان من الروح يطفئُ غلتي، ويرسل في أعصابي ريَّها من الحب، الحب الذي هو فجر الحياة بنعومته ورقته وطهره، الحب الذي يردُّ القلب المكدود الظامئ زهرة تتفتح في جو من النور والندى والشباب. . . (يا بُنَيَّ)، من يقولها لي يضع في نَبْض أحرفها نبض الحب. . . أين أنت أيها الحبيب؟ كنتَ أخي وصديقي ومن أستودعه سر قلبي المعذب في تنُّور الحياة الموحشة التي يضطرم جوها بالصمت المتوهج والوحدة المستعرة. . . كنت أخي وصديقي، وأنا أبيد كما تبيد الأيام والليالي في كهوف الحياة الدنيا. . . كنت أخي وصديقي، وعواطفي تزأر وتجأر في باطني كأنها وحش جريح متألم ثائر لا يرى مَن جَرحه لينتقم. . . فالآن وقد جددت الدنيا أساليب تعذيبى عذابًا ضِعفًا من الآلام. . . الآن وقد أوجدتني الحياة ما أريده، ثم وضعت بيني وبينه سدًّا يصف ما وراءه من أشواقى ويقف دوني فلا أنفذ منه. . . الآن وأنا أشتعل وأتفانى من جميع نواحىَّ. . . الآن وأنا أتوثب في قيود مرخاة تمنحني الحركة وتمنعني دون الغاية. . . الآن وأنا أمزق جو حياتى بزئيري وأنيابي ومخالبي، وأُحرقه بوجدي ولوعتي واشتياقي. . . الآن أين أنت أيها الحبيب؟ يا أخي وصديقي. انظر إليّ -أيها الحبيب- من وراء هذه الأسوار المنيعة التي تفصل بين الحياة والموت. . . الأسوار التي تمشي إليها الحياة كلها ساعة بعد ساعة دائبة ماضية لا تقف، فإذا بلغتها ابتلعتها من حيث لا تشعر ولا تتوقَّعُ. . . انظر إليَّ -أيها الحبيب- وتكلَّم بكلامٍ من شعاع مضئ حىٍّ يُفهمُني حقيقتي الحية، ويضئ لعينى هذه الظلمات التي تعترك بين يدي في مدِّ عيني. . . انظر إليَّ -أيها الحبيب- واسكُبْ في قلبي ورُوعى حقيقة الإيمان الحىّ الذي لا يموت. . . انظرْ إليَّ واصحبْني فأنا الذي لا يصاحبُ الأحياء من الناس، لأنهم لا يعرفون معنى الحياة إلا فائدة تلد فائدة، كما يلد بعضهم بعضًا في مَشيمَة من الكره والعنتِ وآلام المخاضِ وأمشَاجٍ من الدم يشْخَب من حولها ويتضرَّجُ ويقيحُ بعضُه في بعض.

ذكرى الرافعي

ولكن. . . ولكن ما أكذب النَّفسَ على النفْس! أنتَ هناك بحقيقتك الخالدة التي تحيا بأمر الله في جو السماء، وأنا هنا بحقيقتي الفانية التي تموت يومًا بعد يوم بأمر الله في جو هذه الأرض. . . أنتَ هناكَ وأنا هنا، وبينهما البرزخ الذي لا تجوزه الروح إلا بعد أن تتطهر من أدران هذا الدم المتجسِّد في أجلاد الإنسان. . . أنت هناك وأنا هنا، فكيف أنخلعُ من ثَوْرَتى التي أنا بها هنا؟ كيف أنخلع من جسدي؟ ومع ذلك. . . "ففي القلب تعيشُ الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تفنى وفي القلب. . . تُحْفَر القُبُور العزيزة التي لا تُنسى لم أفقِدْك -أيها الحبيب- ولكني فَقدتُ نفسي". ذكرى الرافعي لستُ أدري! فأنا أذكر الرافعيّ. أعرفهُ أديبًا شاعرًا فيلسوفًا. . . رجلًا قد انصرف بهمِّه إلى الأدب والفكر يجدُ فيهما ما يَجِدُ، ولكني حين أذكره لا أجده في نفسي إلا الصديق وحده. لم أعاشره طويلًا حتى أقول إني أعِى للناس خبره وأعرف عنه ومن أمره ما لا يعرفه غيري، كلا لست أدعى ما ليس عندي ولكني كنت أبدًا معه بحبي له وصداقتي، وكان هو أبدًا يحوطنى بروحه في أنفاس من حنانه وحبه. كنا روحين تناظرتا من بعيد وتناسمتا من قريب فعرفته وعرفنى. كان بيننا سرٌّ جامعٌ لا أدري كيف أصفه، ولكن كان من يعرفنى ويعرفه يجد آثاره ويرى من بعض بيناته ما لا أحبُّ أن أحدِّثَ به. ومع ذلك فأنا أقصر في حقه ما لم يقصِّر أحد ممن توجبُ عليه الصداقةُ بعض واجباتها، ولم يكن ذلك، لأني لا أريد، بل لأنى لا أستطيع ولا أطيقُ فما زلتُ كلما ذكرتُ الرافعي -وقد مضت سنوات- أجد لذعة حُزْن في قلبي تُرسلُ آلامها في كلّ سابحةٍ من دَمِي. ولكن الله لم يُخْلِ حقَّ الرافعي من رجُلٍ يقوم عليه ويُحسنُ النظر فيه، فهيأ له الأخ "محمد سعيد العريان"، يرد -بوفائه لذكرى الرافعي- كل ما وجب على أصدقاء الرافعي وأبنائِه وتلامذته ومُتَّبِعيه. فقد بادر "سعيد" بعد وفاة الرافعي فأنشأ يحدّث الناس بأخباره ما دَقَّ منها وما جلَّ، ويضع بين أيدي الأدباء أكثر العوامل

مصر المريضة

التي يتكوَّن منها تاريخ الرافعي، والتي كانت تعمل في إنشاء أدبِه وتوجيه بيانِه. وفتح "الزيات" باب القول في الرافعي له وعليه حتى اجتمعتْ من ذلك طائفةٌ من القول صالحةٌ لدراسة أدب الرافعيّ دراسة جيّدة لمن ينبعث نفسهُ لها. ولكن الأخ "سعيد" لم يرض أن يقنع بذكره هو عن الرافعي وجمعه في كتابه الذي طبعه بعد وسمَّاه "حياة الرافعي"، فدأب على إظهار ما لم يظهر من آثار الرافعي قديمها وحديثها، وقد كان آخر جهد بذله في ذلك سعيه لإنقاذ مؤلفات الرافعي كلها من الضياع. فانتدب لجمعها وتصحيحها ومراجعتها وطبعها بعد ذلك سلسلة واحدة تقوم بنشرها "المكتبة التجارية". وقد كاد يفرغ من طبع أكثرها، وأنا أعلم أن بين يديه الآن كتابًا من كتب الرافعي التي لم يتمها وكان أصولًا مبعثرة رديئة الخط كثيرة الاضطراب، وهي أصول الجزء الثالث من كتابه الجليل "تاريخ آداب العرب"، واستخراج هذا الجزء وحده دون سائر كتب الرافعي يعد عملًا عظيما ووفاء نبيلًا لرجل هو كسائر الأدباء: حياته حياة أدبه، فإذا مات لم يجد في هذا الشرق الغافل من ينفخ الحياة في آثاره الأدبية مرة أخرى. إن هذا التراث الذي خلفه الرافعي للأدب العربي، قد جعله الله أمانة بين يدي "سعيد" فهو يؤدي اليوم إلى الناس هذه الأمانة وافية كاملة لم ينتقص منها شيء -إلا شيئًا يعجزه أن يهتدى إليه أو يقع عليه، وغدًا يجد الناس بين أيديهم كل ما كتبه الرافعي حاضرًا لم يضع شيء منه وكذلك يجد من يريد سبيله إلى معرفة الرافعي من قريب وتقديره والحكم إما له وإما عليه. مصر المريضة ألقى الدكتور عبد الواحد الوكيل بك، أستاذ علم الصحة بكلية الطب، في المؤتمر الحادي عشر للمجمع المصري للثقافة العلمية محاضرة هي تصوير للآلام التي تعانيها الصحة في مصر، وتمثيل للحقائق المؤلمة المخيفة التي تعمل عملها في هدم البناء الصحي للأبدان المصرية. وقد نشر صديقي الأستاذ "فؤاد صروف" قسما من هذه المحاضرة في مقتطف مايو سنة 1940، فأخذتها

وقرأتها وأنا أرجف بالرعب والفزع لما مثل لعيني من تلك الحقائق البشعة الشنيعة، وهي على بشاعتها وشناعتها متفشية منتشرة تغزو مصر من جميع نواحيها غزوًا مهلكًا مبيرًا، ثم لا تجد من يرده عنها من الجنود المجندة المقاتلة التي هي كل صناعة الطب وأسباب صناعته. لقد عمد الدكتور الوكيل إلى الإحصاء الصحي في مصر، فبان منه أن البلاد إذا لم تتدارك أمر الصحة بأوثق العزم وأحكم التدبير وأسرع العمل، فسوف تنتهي إلى فناء محقق يأكل القوة المصرية كما تأكل النار يَبْس (¬1) الهشيم. ونحن في فاتحة عصر رهيب قد بدأ بالحرب المجتاحة، تأتي معها الأوبئة والأمراض وتجر في أذيالها أوبئة أخرى وقحطًا ومجاعة -إلا أن يشاء الله. والعالم كله يخشى ويتأهب ويستعد، فهل عمدتْ مصر إلى جعل الوقاية الصحية تدبيرًا ممتدًّا مع أسوأ الفروض التي يمكن أن توحي بفرضها أوهامنا ومخاوفنا وتشاؤمنا من الأيام المحاربة والأيام التي تلْقى عن عواتقها أوزار الحرب بعد أن تأكل القوة بعضها بعضًا في ميادين الوَغَى والقتال؟ يقول الدكتور الوكيل: "ونحن إذا رجعنا إلى نسبة الوفيات العامة سنة 1937 في مصر وثلاثين دولة أخرى في مختلف القارّات متدرجين من الأسوء إلى الأفضل، اتضح لنا أن مصر في رأس هذه القائمة؛ ومن هذه البلدان: الهند واليونان وبلغاريا وفلسطين". . . لا، بل أكثر من ذلك، وهو أن الإحصاء يدل دلالة قاطعة على أن الأطفال هم 8 , 55 % من مجموع الموتى، وأن هذه النسبة في صعود متواصل حتى في هذا العهد الذي نحن فيه. بل انظر إلى الأصل فالدكتور الوكيل يقول: إنا إذا أخذنا الأمراض المتفشيه كالبلهارسيا والأنكلستوما والرمد والسل والأمراض العقلية والملاريا والتيفوس والتيفود والدفتريا والأنفلونزا الحادة والحمرة وغيرها، ثم جمعنا بعضها إلى بعض مرضًا مرضًا كانت ما يربو ¬

_ (¬1) اليَبْس واليابِس بمعنى.

على 50 مليون مرض، فإذا وزعت هذه الملايين على المصريين أصاب كل شخص ثلاثة أمراض في وقت واحد. وهذه النتيجة المؤلمة قد أفضت إلى هذه الغاية باهتمام القائمين على أمر الصحة والتعليم بالحضر دون الريف، وبالذي كان من طغيان الجهل واستبداد الفقر بطبقات الشعب التي يتكون منها السواد الأعظم. وقد وضع الدكتور الوكيل مشروعه لمكافحة هذه الحالة، فهل يمكن أن تكون الوزارات المختصة قد عرفت حق مصر فهبت إلى القيام بواجبها في الدفاع عن البلاد لإنقاذها من براثن هذه الأعداء المتعادية المتخالفة على قتال الروح والحياة في الشعب المصرى؟ ذلك ظننا، واللَّهُ خيرٌ حافظًا وهو أَرْحَمُ الراحِمِين.

إلى أين. . .؟ 1

إلى أين. . .؟ - 1 - جلست وصاحبي تحت جنح من الليل كأنه باز أسود قد طوى أفقًا من السماء في كهف من جناحه. وطمس هذا الليل الدامس ذلك الشعاع الذي لا يزال يبرق به وجه صاحبي كلما سكن ظاهره واطمأن. . . وبقيت نفسه من وراء ذلك السكون الوديع تتوقد بأفكارها المشتعلة، وترسل لهيبها يتلألأ على محياه ويتموج. وكان إحساسنا بمعنى الغارة الجوية، يثير النفس ثم يجثم عليها متثاقلًا بوطأته، فلا هو يجعلنا نثور فيخف ما نجد من ثقله، ولا هو يتركنا نهدأ. وبقي صاحبي صامتًا لا يتكلم، ولكني كنت أكاد أجد الألفاظ والمعاني وهي تعترك في داخله وتتشاجر. أما إني ما رأيته -أو قل ما أحسسته- كاليوم. لقد كان كالعاصفة من اللهيب مكفوفة في محيطها، تدور وتتراكض، وكان هو هذا المحيط. لقد رحمته حتى كدت مرات أقوم إليه أضع يدي على رأسه، أقول: ذلك مما يخفض عنه بعض ما يغتلى فيه من سعير الفكر. ولكني كنت أهاب أن أشعره أني قد نفذت إلى بعض أسراره التي يريد كتمانها. فسكت معه ساعة أحتال في خواطرى لفض هذه الأغلاق التي يضربها على ضمير نفسه، فلست أشك أن بعض الحديث إذ اشتكى خفف وأراح. لم تكن لي حيلة معه، ولكن طول الصمت بيني وبينه في ظل هذا الليل الأسود كان هو مفتاح هذه الأقفال الكثيرة. وكان الحجاب الذي أسدله دجى الليل هو الحيلة التي جعلته يقلق ويتململ في مجلسه يريد أن يستكتمني وهذا الليل سرًّا من القدر. ثم سكت سكتة ظننت معها أن أنفاسه قد أبت عليه أن يتنفس بها. لقد كان يجاهد نفسه: كان هو يأبى أن يتكلم، وكان الذي يجده في صدره من الضيق يأبى عليه إلا أن يتكلم. كان نزاعًا هائلًا بين قوتين متحاربتين صارمتين عنيدتين ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 362)، 1940، ص: 970 - 973

متكافئتين، لقد أَثْبَتَه ذلك حتى كاد يتمزق. إني لأحس بل أسمع صوت التمزيق الذي يحدثه في نفسه هذا الصراع المخيف الرائع بين إلحاح هاتين القوتين في تنازعهما. ومضت الدقائق وأنا أعدها ساعات من عجلة النفس إلى تخفيف العذاب عن هذا الصديق البائس المحطم، والذي يأبى عليه عناده إلا أن يتجلد. ولكنه ما لبث أن شق كثافة هذا الصمت المبهم بكلمة ضربت فيه: لست أدري! ! لست أدري! ! لقد سمعت لكلماته في أذني صليلًا كما يَصِلُّ الحجر الصلد على ضربة معول من الحديد الصلب. لقد بغتني بصليلها حتى نسيت أفكاري فيه منذ أول الليل. ولكني سرعان ما اجتمعت لحديثه وأردت أن أحتال للتخفيف عنه ما استطعت. فقلت: وكأني أعلم خبء ما يشير إليه: كلنا ليس يدرى. وهذه هي الحياة. إنك لا تستطيع أن تعرف الحقيقة حتى تخوض إليها الباطل خوضًا. إن الشك هو أعظم أعمال النفس الإنسانية، فإذا ما ابتُلى به الإنسان فهو بين نهايتين: بين أن يهتدى فيلحق بالذروة فيستوي على عرش من عروش الحكمة، وبين أن يضل ويتزايل فيتدَهْدَى على هذه الصخور الفكرية العاتية فيتحطم. وأيُّ ذلك كان، فالمسألة كلها قدر محتوم يا صديقي! رُفِعَتْ الأقلامُ وجفَّت الكتب. لقد رأيت شرارتين تتطايران من عينيه في جوف هذا الظلام، ولكأني اقتدحتُ بكلماتي من النار التي تكمُن في تلك الصخرة الفكرية الململمة التي انطوت عليها ضلوع هذا الصديق المسكين. . . ثم رأيته يرتد مرة أخرى إلى صمته وصراعه، ولكني كنت أشعر به وهو يلين ويتخشع من كل ناحية. لقد كان هذا الصديق قاسيًا عنيفًا، ولكنه كان رقيقًا أيضًا. وكان صبورًا، ولكنه ربما استكان للجزع، وكان مستوحشًا آبدًا، ولكنه ربما ألف وطاوع وانقاد، وكأنه لم يجمح مرة. وكان راسخًا شامخًا وطيد الإيمان، ولكني كنت أنفذ إليه أحيانًا فأجد الزلزلة التي في قلبه قد جعلته يتزعزع ويتطامن ويضطرب بعضه في بعض اضطراب الموج في تياره.

لست أدري! ولكني أريد أن أحدثك، أريد أن أنبذ إليك من القول لتشركني في بعض الفكر. . . ثم سكت وسكن، ولكنه أقبل على وقد جمع أطراف نفسه المبعثرة، يقول: . . . كانا صغيرين، وكانت أيامهما الصغيرة لا تدرك معنى النظرات التي تلتقي فتتعانق، فتتعقد عقدة لا تحل. وهكذا نسيهما الزمن في معبده الآمن، ثم انتبه يومًا فزفر بينهما زفرة واحدة فتفرقا. لم يدركا يومئذ شيئًا من معاني الفراق المهلكة التي تمحق النفس بالتأمل واللهفة والحنين، بل نظرا ثم توادعا، ثم افترقا ثم نسيا. أو هكذا كان، ولكنه لم يكن في الحقيقة نسيانًا، بل كان عملًا من أعمال القدر الغامضة، كان تعبئة للأحداث العظيمة التي تتهيأ فتصنع النفس الإنسانية صنعة جديدة، لقد عرفت ذلك فيما بعد. وتسحَّبت حواشي الحياة بينهما، حتى رقت أيامهما الأولى ثم جعلت ترق حتى استحارت أحلامًا من الذكرى المبهمة ترف على القلب رفيف النسمات: لا تُرى بل تُحَس، ولا تمسك ولكنها تلقى عطرها في القلب وتمضي. نعم لقد نامت تلك العواطف الناضرة الصغيرة في مهد من النسيان، ولكنها كانت تنمو أيضًا في جو هذا المهد. ومشى الزمن بينهما يقيم سدودًا وأسوارًا من السنين وأحداثها، وكما كبرا وامتدّا من أيام العمر، كبرت السماء التي تظلهما وترامت آفاقها، واستحالت الأيام الصغيرة الأولى أشباحًا ضامرة لا تكاد تبين من دقتها وخفائها. ثم فجأهما القدر فتلاقيا بعد دهر طويل كما يتلاقى نجمان في ظلمة الليل، يتناظران لمحةً وشعاعًا من بعيد لبعيد. هكذا عرفتُ. لقد كان هو يحسُّ في بعض أيامه قبل ذلك اللقاء، أن الفلك قد دار دورته في القدَر، وأن القوة المسخِّرة قد قذفت به في نظام من الجذب جديد، فلم يكد حتى لمح له شعاعها من بعيد يليح إليه بأضوائه وكأنما يقول: أقبل. . . هلم إليَّ. . . هأنذا، هأنذا! ولم يلبث أن أتم هذا الفلك دورته، فإذا هما يتناسمان في جوٍّ عطرٍ تنفح من أردانه أنفاس الأيام الصغيرة الأولى. . . أيام الطفولة التي تنمو فيها عواطف القلب

وتتفتح، كما تنمو الزهرة في أكمامها تحت السَّحر في مهد الفجر بين روح وشعاع وندًى. واجتمعا. . . فإذا هي غادة مضيئة تزهر. ولكأن الزمن اختطفها كل هذا الدهر وتسلل بها في بعض مصانعه العجيبة، وجعل يجهد جهده بأنامله النابغة الدقيقة، فهو يجلوها ويصقلها حتى إذا فرغ من فنه الذي احتفى لها به، ردَّها إليه ينبوعًا من النور الضاحك المرح يترقرق لعينيه ممثلًا في صورتها. . . لقد شبت الصغيرة، ولكن شبابها كان رقَّة وحنانًا في أُنوثتها، واستوت فكان استواؤها دقَّة في فن من جمالها، ونمت نموًّا وضّاحًا، وكأنما كان يَغْذوها نور الكواكب ويُرْضعها روح الزهر. . . لقد وجدها وهي تضوع وتلألأ من جميع نواحيها. . . لقد كان يخيَّل إليه أن النسيم من حولها يطوف بها متعبِّدًا خاشعًا ثم يسعى إليه حاملًا نفحة من نفحات الجنة. فكان يحس دائمًا أن جوها ينتقل إليه فينفذ إلى قلبه، فيقعد هناك يتمتم يحدِّثه بأخبارها أو يصفُ له منها ما يُوعِب هذا القلب الحزين افتتانًا ولوعة وحنينًا. لقد شبَّتِ الصغيرة. . .، فنَضَتْ عنها كل مطارف الطفولة، وتجلَّت جَلْوة العروس في زينة من الصبي والشباب. لقد خلعتْ كل قديمها، ولكن شيئًا واحدًا بقى كما هو، لا بل بقى أقوى مما كان وأصفى. تلك هي روحها، الروح القوية الآسرة المتسلطة. تغيَّر كل شيء إلا عيونها التي تشفُّ عن هذه الروح التي لا تتغير. فالنظرة الباسمة الخاطفة التي كانت تخضع بها تمرد ذلك الصبي العارم الصغير، هي هي النظرة الباسمة الخاطفة التي هجمتْ منه على الرجل فأضاء وميضها له الطريق، وحبسته بأمرها وسلطانها على هذا الطريق نفسه وفي وقت معًا. . . ثم نحا صاحبي بصره إلى قِطْع من الليل جاثم من عن يمينه وأطال النظر في جوفه. ثم خيل إليّ أنه قد جعل يصغى إلى همس الليل، ويتسمع وسوسته الخافتة إلى رمال الصحراء، وبقى زمانًا لا يكاد يتحرك، ثم انتفض في مكانه انتفاضة خفيفة، ما رأيتها ولكن رعدتها جرت في دمي وأوصالي قشعريرة عرفتها.

ثم عاد إليّ يتنهد ويقول: هكذا هي. . . أو هكذا كانت. . . أما هو. . . وارتعشت الكلمات في نبراته وعلى شفتيه فأمسك وسكت، وكأنه عزم ألا يتم ما بدأ من حديثه عن الرجل. فخفت أن ينقطع عني دون خبره، وأردت أن أستفزه من حيث أعلم كيف أستنبط نبع حديثه، فعجلت إليه أقول: أما هو -يا صاحبي! - فقد كان مجنونًا تنشيء له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي، و. . . فانقض عليَّ بصوته يقول: كلا، كلا! لا تقل هذا. ليس الأمر كذلك. لا تعجل عليه. إنك لا تعرفه، ولو عرفته فما أظنك تحسن فهم حياته التي يعايش بها الناس. سأحدثك عنه، لقد علمت أنك تريد أن تحملنى على ذلك، ولا بأس إذن. لا أقول لك إني فهمته، واستطعت أن أكشف لنفسي عن سر طبيعته، كلا! بل أقول لك إني لأحس بكل ما يعتلج في قلبه من آلامه، وكأنها عندي هي كل آلامي إنه رجل قد امتلأ حكمة من طول ما جرب، ومن عنف ما لقى من الأحداث التي نقضت بناء حياته مرة بعد مرة. نعم إنه لملء رجولته تجربة، ولكن. . . ولكني سأصفه لك على كل حال. سأحاول أن أعبر لك عن حقيقة معرفتي به. نعم! هو إنسان غامض مبهم محير، إذا صحبته رأيت من نقائضه التي تجتمع لك من أعماله وظواهره، ما يلتوي بفكرك فيه من هنا إلى هناك، حتى تجد وكأنما أنت تمشي منه في غمض من الأرض منكر قد درست صُواه (¬1) وعَفَت رسومه وجهلت معالمه. لا تهتدي فيه أبدًا إلى شيء تستطيع به أن تقول: هذا هو! هذه هي الفكرة. . .، هذا هو الطريق! ! سكت صاحبي قليلًا وقد طرح فكره في مذاهبه ثم عاد يقول: فلنعد إلى حديثنا إذن، لقد حملتني على أن أذهب بك بعيدًا. . . كذلك كانت هي كما ¬

_ (¬1) الصُّوَى: علامات تقام في الطريق يهتدى به المسافر.

وصفتها لك بل أروع مما وصفتها، حين التقيا على غير موعد يتوقعه أحدهما. . . أما هو فكان يومئذ رجلًا ضربًا (¬1) متوقدا ثائرًا عنيفًا، لا يزال يتمزع من جميع نواحيه كأن في تجاليد شخصه روح وحش شارد لا يألف الحياة ولا هي تألفه. كان فكرة شامخة عاتية عضلة تأبى أن تتهضم لأحد أو تستذل. كان كالبركان في عنفوان فورته تتقلَّع به صواعقه وزلازله. وهكذا كنت أبدًا أعرفه، ولكنه كان مع كل ذلك يحب أن ينطوى على هذه العواصف التي تتقصف برعودها بين جنبيه، ومن أجل ذلك كنت أجد في عينيه أحيانًا بارقًا ساطعًا يتداركُ ويَتلهّبُ، حتى يجعل نظراته كأنها سياط من الأشعة يتضرم اللهب على عذباتها (¬2). . . لا تعجب، فأشهد لقد خيل لي مرارًا أن نظرته هذه إنما تكوى من يتعرض لها أو من يجلده بها، حتى لأخشى أن تكون تترك فيه من آثارها أخاديد تنتفض كسَلَع (¬3) النار على الجسد. لا تعجل، ولا تشطط. لقد تعلم أنه كان -مع كل هذا الذي وصفت لك- إنسانًا وديعًا رقيقًا. كان قلبه خلاصة صافية ممثلة من الحنان والشفقة. ولكنه أصيب بأحداث كثيرة جعلته ظنونًا حزينًا، فهو لذلك يضن بما في قلبه أن يطلع على حقيقته الكاملة أحد من الناس. لم أر -فيمن رأيت من الناس- من هو أبعد منه مذهبًا في الاحتراس والحذر، ومع ذلك أيضًا، فلو أنك رأيته في بعض ساعاته لظننت أنه رجل غُمْر (¬4) يختدعه عن نفسه كل أحد، ولكنه ليس كذلك. نعم، لقد كان هشا أحيانًا بين يدي من يتناوله. . . فإذا أُخِذ بالاعتناف والقسر، انقلب الذي فيه ضاريًا لا يطيق ولا يطاق. هكذا كان أول ما تلاقيا. . . ثم صمت صاحبي، وخيل إليّ أنه يضحك. لقد كان يخافت من ضحكه، كأنما هو يسخر، ورجع إليّ بعد قليل فواصل حديثه: كيف قلتَ في نعته؟ كان ¬

_ (¬1) الرجل الضَّرْب: الممتلئ حيوية ونشاطا، هكذا وصف طرفة نفسه في معلقته. (¬2) عَذَبَةُ السَّوْط: طَرَفُه. (¬3) السَّلَع: آثار النار بالجسد. (¬4) الغُمْر: الغِرّ القليل التجارب.

مجنونًا تنشئُ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي. . .! ! نعم، ربما كان ذلك صحيحًا من بعض وجوهه، ولكني على يقين من أنك لا تكاد تعرف وجه الحق في تأويل هذا الوصف. لا بأس ومع ذلك، فأي هذا الناسِ ليس مجنونًا على الحقيقة من بعض نواحيه؟ إنك لو جهدت فتتبعت تاريخ الإنسانية كله لم يخلص لك من أصحاب العقل الكامل إلا أفذاذ قلائل. ومع ذلك، فليس أحد من هؤلاء الأفذاذ قد نجا من قذف الناس إياه بالجنون. ألا فخبّرني أي الأنبياء -وهم فضائل الإنسانية الكاملة- برئ أن يقول فيه أهله وعشيرته: "إن هو إلا رجل به جِنة" أو "ساحر" أو "مجنون"؟ إن من أعظم حقائق الحياة الدنيا أن العقل لا يستطيع أن يدرك حقيقة العقل، أي أنه لا يستطيع أن يدرك حقيقة نفسه! و. . . وصدَع السكونَ صوت صفير الغارة الجوية، فانتزع صاحبي ثم قال: - أليس هذا هو صوت جنون سكان العالم؟ أليس كذلك؟ "لها تتمة"

إلى أين. . .؟ 2

إلى أين. . .؟ - 2 - قال صاحبي بعد قليل من سكتة صفير الإنذار بالغارة الجوية: الآن وقد صم صدى هذا النذير البغيض، ومات صوت البومة الدميمة التي قامت تنعق على الموضع الخراب من عقل هذا العالم، فأسرعت الأيدي وتناهضت الأقدام، وخفت الأحياء ليطمروا أشلاء النهار التي كانت مبعثرة في طرقهم وبيوتهم على معركة الليل البهيم، إنهم يدفنون هذه الأشلاء الوهاجة خشية أن تراها عيون العافية (¬1) من سباع الجو المنقضة بأنياب كرجوم الشياطين. آه يا صديقي! ما أقبح هذا وما أفجره. ولكن دعني من هذا، فالآن أعود إليك. لقد مثلت لك بعض صورتها هي وبعض صورته عند أول اللقاء. لم أكشف لك بعد عن حقيقة النفسين وهما تعملان بأسباب من القدر، إن هذه الأسباب التي لا يُدرى متى أولها، قد أخذت تلتوى عليهما فيما يستقبلان من أيامهما، وثمت بدأ الإشكال، وتراكبت العقد الجديدة على تلك العقدة القديمة التي التبست عليهما في الطفولة، فلست أدري، ولا هما أيضًا يدريان، إلى أين المصير! لمحها ولمحته في يوم اللقاء الأول، فوقفا طويلًا ينظران. وشخص البصر وكفت العين لا تطرف، وكأن العين قد أرسلت إلى العين رسلًا من أشعتها لتبحث في أعماقها عن معانيها الحائرة التي لم تستقر بعد على قرار مؤمن، تتبين فيه كلتاهما صورة كلماتها القلبية التي تنبض في موج الدم. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 363)، 1940، ص: 1007 - 1009 (¬1) العافية: التي تعفو، أي تطلب ما تأكل، يوصف بذلك السباع وجوارح الطير، وفي شعر النابغة "ترى عافيات الطير"، والذي قصده أستاذنا هنا: الطائرات.

أما هو، فقد أخذه ما يأخذ الغريق المشفي على هاوية من الهلاك الرطب الندى، ثم يفتح عينيه، فإذا هو ملقى على الشاطئ قد انتشلته من فزع الردى نجاة برحمة من روح الله. ولكنه لا يدري من الذي رده إلى الحياة بعد ملابسة الموت؟ ولا كيف كان؟ ولا أين هو؟ ولا أي مكان هذا؟ . . . وأما هي، فقد أنكرته بادئ اللحظ، ثم انكشف لعينيها الحجاب الكثيف الذي أرخاه الدهر الماضي بين أيامها وأيامه. . . لقد عرفته وأثبتته معرفة. فأقبلت عليه تندفع بقوة الرد المتفلت من شد عشرين عامًا كانت تجاذبها دونه: أنتَ، أنت! ! أين كنت؟ ! آه، لقد نسىَ المسكين عندئذ أين كان! إنه هنا. . .! أليس هذا كافيًا؟ أليس هو كل شيء؟ . . . أما الماضي، أما الحياة التي عملت في بنيانه أعوامًا طوالًا كلها جهد وإرهاق. . .، كل ذلك ذهب وباد وامَّحى، وكأن اليد التي تمحو ما تشاء وتثبت في تاريخ الإنسان، قد أمرَّت صفحتها على رقعة أيامه الماضية فغسلتها وطهرتها من سوادها، وردت إليه وإليها صحيفة أيامه بيضاء نقية قد تهيأت أن ينمنم فيها القدر تاريخه الجديد. . . أجل! كان هذا هو الإنذار الأول من القدر لهذا المسكين أنه سينسى معها كل تجاريبه في الحياة، وأنها هي التي ستكتب له هذا التاريخ الجديد من القدر خيره وشره. ومضت الأيام الأولى بعد هذا اللقاء البغت على ذكرى حاضرة تصارع وحوش الماضي التي وطئت بأقدامها عهود الصغر وملاعب الطفولة فطمست معالمها ومحتْ بعض آياتها. جعلت هي تتكلم، وكأنها ذاكرة التاريخ الواعية التي لا تكاد تفلت شيئًا إلا أحصت دَقيقهُ وجليلهُ. حدّثته وذكَّرته وأعادتْ عليه زُخْرفَ الصِّبا ووشيه من نسج حديثها، أما هو فبقى صامتًا ينصت لها خاشعًا ضارعًا يسمع صدى الماضي الذي يتكلم في سراديب النفس العميقة الممتدة الذاهبة بأساليبها الغامضة في أقصى غيب الحياة. كيف تدب الحياة في أشياء الطبيعة التي تخيل للناس أوهامهم أنها مواتٌ؟ كيف تستيقظ الأرواح النائمة في غار مظلم قد أطبقت على منافذه صخورٌ صم من

جبال الزمن؟ كيف تستقبل النفس -التي أحرقها الظمأُ المتضرِّم- شؤبوبًا (¬1) من الغيث يهمى عليها باردًا عذبًا زلالًا سائغًا يترقرق؟ كيف وكيف؟ لقد عرف هو كيف يكون ذلك كله حين تكلمت روحها في ثنايا روحه المتغضِّنة بأحزانها، وحين أخذت تناجيه بالذكرى. . .، ويتحدر في صوتها ذلك اللحن الخالد الذي يتحدر مع الغيث من السماء يناجي الأرض الظامئة المقشعرة المجدبة، فلذلك تهتز وتربو على مد أنغامه التي تفجر في ذرَّات الثرى كل ينابيع الحياة. واستجاشت هذه الساحرة الجميلة التي خرجت عليه من لفائف الغيب المحجب تلك النفس المصممة العنيدة فما زالت حتى انقشعت الغمامة الغبيّة التي كانت تحيط بنفسه عمرًا من قبل. إنه الساعة يسمع ويرى ويحس، ويتغلغل في الحياة ببأس شديد. لا، بل كان في أول أمره هذا مضطربًا حائرًا يدور بقوته حيث دارت به على غير هدى ولا صراط، كان ربما خلا فاستوحش فارتاع، فيحتمل كل أعباء الهم الذي يجده في نفسه، فيخرج يضرب في البيداء المقفرة البيضاء في مدّ البصر، حيث لا يرى إلا صفاء السماء وبحر الرمل الساكن في مهاد الأرض. . .، حيث لا يسمع إلا حنين الرياح ونجوى أشواقها الأزلية في المَهْمَه القَذَف (¬2). يمشي ثم يمشي حيث يتصرف به القدر الغالب، وهو لا يسمع مع ذلك إلا أنغام صوتها من حوله يتردد: أنت، أنت! ! أين كنت؟ اشتعل القلب وفارت الروح، فانطلق بعد الحيرة والضلال في طريق سويّ مؤيدًا بهذه الروح القوية التي سيطرت على كل روحه بالحب والحنان، ومضى يعمل لها وبأسبابها نافذًا مقدمًا لا يمل. ولكن سمعه لم يزل على حالة من الإصغاء ثابتة، كأنها إغماء أخذه كما تأخذ غمية الوحي إذا نزل فاشتد فاستبان، ثم تنحدر رنات صوتها إلى قلبه فتجرى في أنهار الحياة المتدفقة في جثمانه بدمه، فيرجع الدم ألحانها ترجيعًا موسيقيًّا هفافًا آتيًا من أغوار القدر العميقة. نعم، إنه لا يزال يسمع في مخارم نفسه ومهاويها صدًى يتردد: ¬

_ (¬1) الشُّؤْبوب: الدَّفْعَة من المطر. (¬2) المَهْمَه: الصحراء. القَذَف: البعيد.

أنت، أنت! ! أين كنت؟ فتجيبها الروح من أعماقها: أنا هنا، أنا هنا! ! أيتها العزيزة! * * * هكذا بدأ وقد نام كل ما فيه وخَضَع لسلطانها الذي لا ينتهي ولا يفتُر، ثم دبَّتْ في روحه اليقظة الجديدة فتجددت النفس المتغضنة ورقَّ شبابها، واستجمت قواها الشاردة بعد فترة كإغفاءة النائم في أنفاس الفجر الندى المتروّح بعطر الرياض النضرة. ولكنه عاد -بعدئذ- برجولته يتوحش، فارتدّ إليه حذره الوحشي يتوجس خيفة، وأخذه بذلك الرعب من كل مكان أين أنا؟ وكيف كان هذا؟ ولم خضعت؟ وإلى أين أسير؟ كل هذه أسئلة جعل صداها يتردد في نفسه، ثم يلقيها على الدهر الأصم، فلا يجد جوابها جميعًا ولا تأويلها. ويومئذ جعل يصول صيال الوحش يريد أن يجد الغيل المفرد الذي يفرض فيه سلطانه على جوه وغابه. . . ولكن وارحمتا له! لقد حق ما قلت يا صديقي: المسألة كلها قدر محتوم! رُفِعَت الأقلام وجَفّت الكتب! أرأيت إلى ما وصفت لك منه أول ما تلاقيا؟ أرأيت إلى ذلك الوحش الآبد الحذر الذي لا يألف الحياة ولا هي تألفه؟ أرأيت إلى تلك الفكرة الباذخة العضلة التي تأبى أن تذلّ أو تتهضّمَ؟ أرأيت إلى البركان المتقلع في عنفوان فورته؟ كل ذلك قد استحال بين يديها، وتحت أشعة عينيها، وفي مس أنفاسها، شيئًا غير هذا كله. فكل ما توحش منه فهو عندها يألف وادعًا يلوذ بها خاشعًا متضرعًا، وكل ما بذخ وسما وتعضّل فهو يتطامن لها ويرق ويتلين، وكل ما تقصف منه وفار وغلى فهو ينساب إليها صبابة وحنينًا ولوعة. * * * وعندئذ سكت صاحبي بغتة كأن لسانه قد عقد عقدًا على ألفاظه، ثم تنهد واحدة كأنما انهدّ بها ركن من جبله القائم في ضمير نفسه. ورمى بصره في هذا

الركام المتكاثف بعضه على بعض من ظلام الليل. لم أرد أن أستثيره من هدأته التي يستريح إليها بعد هذا الجهد الهائل الذي كان يتدفق به في حديثه. لقد كان يعاني من هذا الحديث أشد مما يعاني الهارب السائر في وحشة الليل الصامت في غوْل الصحراء، وهو هائمٌ على وجهه تطارده من ورائه شياطين العذاب التي تريد أن تنتشطه (¬1) إليها بخطاطيف هائلة من الرعب والفزع. كنت أرق له وآسى عليه، ويمنعني من الحديث معه مخافتي أن يكون ذلك مما يصرفه عن بعض الفكر الذي يتعذب بوساوسه وخطراته. نعم، إنه عذاب عقلي أليم، ولكنه على ذلك مما يعطى النفس بعض راحتها من عذاب الشك والقلق والحيرة. والحياة كلها صروف متعاقبة يراد بها السمو بالنفس على وجه من وجوه الألم. والألم وحده هو الذي يستطيع أن يصقل النفس الإنسانية صقلًا رائعًا، وبذلك يرد إليها حقيقة الإيمان المشرقة بالإطمئنان والتسليم. إنه حائر يشك في حقيقة ما يقع عليه فكره ولكن هذا الألم الذي يصارعه صراعًا عنيفًا لا رحمة فيه، هو نفسه الرحمة المهداة إليه، ليؤمن بعد ذلك إيمانًا لا يداخله شيء من الشك أن قلبه لم يخطئ، وأن أفكاره القلقة هي التي تخطئ وأنه ينبغي أن تقيد أفكار العقل الحائر بأغلال متينة من أفكار القلب المؤمن. وتضربت في همسات الليل أفكاري فيه، وجعلت أستعيد في نفسي كل ما قاله لأرى من تحته المعاني التي تتهارب وتختفي بطبيعتها في ظل الألفاظ اللغوية المحدودة بمعانيها. كنت حائرًا في فهم هذا الصديق الذي يحدثني عن صديقه، وما صديقه إلا هو. وكنت ألمح هذا الجبل وهو يتخلع من أعضاده التي ينهض عليها ثابتًا قارًّا متساميًا يهزأ بالتلال القصيرة التي تطمح إليه بأبصارها، وجالت في نفسي أفكار وأسئلة لا جواب لها. يا رب! أهكذا يضمحل الرجل؟ وارتفع صوتي بهذا السؤال غير متعمد لذلك. فما هو إلا أن هبّ صاحبي من غفوة الفكر التي غشيته، فابتدرني يقول: ¬

_ (¬1) تنتشطه: تنتزعه وتشدّه.

نعم، هكذا يضمحل الرجل! وما تريد أنت إلى ذلك؟ إنك دائمًا تفجؤني بتمثال يتكلم بأفكارى التي أتكلم بها في غيب نفسي، أي شيء هو الرجل؟ هل تستطيع أنت أو من سواك أن يقرر للعقل حقيقة الرجل، وأن يمتهد لفكرته أصلًا لا يزول، فإن يخرج عنهما أو عن أحدهما انتفى في العقل أن يكون رجلًا حق رجل؟ هذا هو الغرور الذي يتهاوى فيه الناس ما داموا ناسًا يبغى بعضهم على بعض، فطرة ركبت في سر طبائعهم. إن هذا ليس اضمحلالًا وضعفًا بالمعنى الذي تتوهم، إنه ليس من قوة في الطبيعة إلا وفوقها قوة تحكمها وتصرفها، وخضوع قوة لقوة أعضل منها ليس يعرف ضعفًا فيمن يخضع، وإنما هو القانون الطبيعي الذي يستقيم به نظام العالم. إنه لا يقال للدوحة الفينانة العظيمة: أيتها المسكينة، لماذا تخضعين لسلطان الفصل الذي تساقط به أوراقك؟ أو لماذا هذا الحنين الدائب إلى قطرات من الغيث، وهذا الجبل أمامك يسفح عليه ماء السيل ثم ينقطع أعوامًا فلا يظمأ إليه فيحن كمثل حنينك إلى قطرات من الماء انقطعت بضعة أشهر؟ هذه طبيعة الدوحة، فإذا انقلبت طبيعتها إلى غير هذا الناموس قتلها الظمأ وتركها حطبًا يابسًا لمن يستوقد. آه أيها الصديق! إنك لن تعرف الحقيقة حتى تستشعر قوة الآلام الملتهبة التي تترك الرجل يتزايل على الشوق والوجد واللوعة كما يتزايل جبل من الفولاذ قد تجوفته نار متضرمة من لهب جهنم. أبغنى قليلًا من الماء ثم أحدثك كيف اضمحل الرجل! (لها تتمة)

إلى أين. . .؟ 3

إلى أين. . .؟ - 3 - [تتمة] أخذ صاحبي كأس الماء في يده، وجعل يرشقها ببصره رشقًا حديدًا يلمح لمحًا تحت حواشي الليل، فكنت أرى وهج مقلتيه يكاد يتطاير تطاير الشرار بينهما وبين الكأس، وأدام نظره طويلًا إلى الماء وهو يقر شيئًا بعد شيء ويسكن، فكأني به كان يغمس نظراته الملتهبة في برد الماء، ليبترد من وقدة العاطفة التي تضطرم في داخله. وبعد فترة عب من كأسه عب الظمآن استحر على كبده العطشى، ثم فرغ فوجه إليّ، وقد برق وجهه، أو هكذا تخيلت ثم قال: آه. . .! ما كان أبصر ذلك الأعرابي الظريف الذي عطش وضل عن الماء في بيدائه، فلما رمى به السير فأفضى إلى بئر عميقة عادية (¬1) قد بعد ماؤها، أجهد أن ينزف بدلوه من بعض مائها حتى بُلغ به وكاد يهلكه غؤور الماء، وبعد لأي ما استطاع أن ينزح من مائها ما يرويه، حتى إذا شرب وارتوى وأطفأ غلة الظمأ، حمل تلك الدلو بين يديه ينظر إليها ويقلبها كأنها بَنِىٌّ من صغار بنيه يرقصه ويداعبه ويقول: أي دلاة نهل دلاتي! ! ... قاتلتى وملؤها حياتي! ! كأنها قَلْتٌ من القلات فانظر كيف يفرح الرجل بأديم جاس (¬2) غليظ متغضن موات! إنه يحبه، ويحرص عليه، ويرق له، ويدلّله دلالًا كأنه طفل يطفله ويرعاه. وما ذاك إلا أنها أداة يتخذها ليطفئ بها الغُلَّة التي يُؤَرِّثها حر الظمأ، لو هو فقدها في مجاز (¬3) ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 364)، 1940، ص: 1044 - 1046 (¬1) عادِية: قديمة، كأنها من عهد عاد. (¬2) جَسِىَ الشيء: أصبح قديما يابسا متغضِّنا. (¬3) مَجاز: جاز المكانَ وبه: سَلَكه وسار فيه.

البيداء المجدبة الظامئة، فقد معها القدرة على الحياة، ومع كل ذلك فما هي إلا أديم أصم، وأداة لا خير فيها إذا لم يكن كل الخير من قوة الساعد التي تمتد في رشاء يتطوح بين أرجاء البئر. ما أبلغه من أعرابي، لولا نقل حديثه من الدلو إلى المرأة! "قاتلتي وملؤها حياتي! ! " إنها المرأة يا سيدي هي وحدها التي تستطيع أن تكون القاتلة المحيية في وقت واحد. إن كل ما فيها هو حياة محبها، وكل ما يكون منها -إذا أرادت- هو سبب من أسباب سلب هذه الحياة سلبًا جبارًا لا رحمة معه ولا هوادة فيه. إن المرأة الحبيبة هي النبع الصافي النمير الذي يرى المحب الصادق في كل قطرة منه حياة تتلألأ في روحه بالمنى، فإذا أرسلت هذه الحبيبة في دمه قطرة واحدة من مائها -أي من حبها- أطفأت هذه الواحدة كل النيران الملتاعة التي تجفف بحرِّها ماءَ حياته. فإذا منعتْ عنه غيثها جعلتْ كل أفكاره وأحلامه وأمانيه تحتطب من الحياة ما تؤرِّث به تلك النار المبيدة التي لا تنفح نفحها على شيء إلا جعلته رمادًا أغبر. ويومئذ تتحول الحياة فيه إلى خمود بليد، أو إلى حماقة مجنونة كما يعترض الرماد للريح العاصف تطير به في كل وجه حتى يتفرق. . . ثم سكت صاحبي. . .، وخيّل إليّ أن غمامة سوداء داجية من ذكرى أحزانه وآلامه قد أظلَّت عليه وتدانت أهدابها، فهو يرفع يمينه إلى جبهته، ثم يُمرها إلى ناصيته، إلى يافوخه يضغط عليه. ويتنفس خلال ذلك أنفاسًا جاهدة ينتزعها انتزاعًا من أقصى منابع الحياة في قرارة نفسه. . . ما أقسى الذكرى إذا ضربت في القلب بفأسها تحطمُ وتدمِّر وتنقضُ بناء الأيام الماضية! إن غبار هذا الهدم ليرتفع ويثور حتى يملأ الجو النفسي بما يضجر ويخنق من ترابها، وما أضعف الرجل إذا أخذت الذكرى تلح عليه إلحاح الكبرياء، تتحدى الإنسانية والرجولة بأوهن الفكر! الذكرى. . .! هذا شيء مخيف مفزع. إنها الشبح الذي يدب من بين القبور المهجورة التي تناثرت فيها أشلاءُ الموتى. إنها تقتل بالرعب، فإذا أتت المحب ذكرى حبيبه، فذاك شبح هائل يقتله بالرعب والحنين معًا.

أقول لنفسي: أيها الصديق البائس! لماذا لا تعرف طريقك إلى النسيان؟ لماذا تقف في مقبرة أفكارك دائمًا فترتاع وتتألم؟ لماذا لا تحاول أن تسخر من الحياة التي سخرت منك؟ لماذا أنت حائر أيها الصديق؟ وبقيت أتداول الهاجس من أفكاري فيه، حتى شُغِلتُ به عنه. ثم جاءني صوته من بعيد كأنه كان يتكلم في بعض أحلامي تحت النوم: اسمع. . . اسمع يا صديقي! لقد كنت أفكر في بعض ما شغلني عن تمام حديثي قبلُ، لقد سألتَني وساءلت نفسك أهكذا يضمحل الرجل؟ أما إني لا أستطيع أن أضعَ لك اللغة وضعًا جديدًا حتى أعبر لك عن كل خالجة من خوالج النفس الإنسانية حين تضطرب فتهتز فتطير هزاتها على مساقها ومجراها، ثم تنشعب فتنتشر فتعمَل عَمَل الجيش المحارب في هدم صفوف العدو وتفريقها وبَعْثَرة قواها المحتشدةِ للِّقاء احتشادَ البنيان المرصوص بعضه على بعض. نعم. . . لن أستطيع ذلك، ولكني سأصف لك بعض الصفة وأستشعر أنت كيف يعمل ذلك في هدم الرجل ويسرع في تدمير رجولته أمام أنوثة طاغية تتحدى وتأخذ سلاحها الذي تتحدى به من رجولة عواطف المحب الذي يَرى أن تعاونَ القلبين بالحب، وصبابة النفس إلى النفس الأخرى، هو تمام رجولته وتمام أنوثتها. كان لقاؤهما تجديدًا غريبًا في قديم نفسه. . . لقد استطاعت هذه الساحرة الجميلة الفتانة -كما وصفت لك- أن تمحو ماضيه كله، وأن تمزق صُحفَ أيامه المهملة التي كان القَدَر يكتب فيها تاريخه الأول. مزقت هذه الساحرة تلك الصحف، وألقت بها في النار التي أشعلتها في قلبه بالحب. بدأ يحيا بها وبسحرها حياة رائعة فاتنة من أحلام الحب. وجعلت هي. . . وجعلت هي. . . آه يا صديقي! هذا كثير كثير. إن ذكرى ذلك كله تؤلمني. . . إنها تعذبني. . . إنها تخِز قلبي بمثل السنان الحديد يقع وخزًا متتابعًا شديدًا يتفجر في نزعه بالدم .. كيف أستطيع أن أقول لك الآن ما الذي كانت هي تفعل! وماذا أقول لك؟ آه. . . إن أنوثتها، بل رقتها، بل حنانها، بل رحمتها، بل إخلاصها، بل حبها .. كيف يكون هذا؟ بل ذلك الصوت المنغم الروى الممتلئ صوت الحنين

المتعذب. . . صوت القدر الآتي من بعيد بأفراح السعادة. . . صوتها. . . صوتها. . . ذلك الصوت المعبر عن نفسها بألحان تتجاوب وتسرى وتموج في كل غيب من غيوب نفسه المتراحبة. . .! إن كل هذه العواطف التي يرسلها إليه صوتها وهي تتكلم كانت تعبُّ فيه عُبابها، حتى يجد الأمواج النفسية تتقاذفه في فرح بعد فرح، ومن سعادة إلى سعادة، ومن حلم إلى حلم، كأنه ماض إلى جنّة الخلد في زورق من اللذات الطاهرة الجميلة، تحف به الملائكة تغنى لقلبه أناشيد المجد والخلود. . .! إنه سوف يسمو بروحه إلى ذلك الجو الذي يعطِّره النبل، ويفيئه الحب، وينديه الحنان، وتضيئه هي بسُنَّتها المشرقة، وتسبح فيه النجوى أنغامًا حرة تهيم وتتعانق. جعلت أيامه معها تتهدل ثمارها الناضجة المغرية، وجعل يقتطف منها حيث أراد، وجعلت هي تغذوه كل يوم غذاءً جديدًا هنيئًا يملأ روحه قوة وشبابًا وعزمًا. جعل إحساسه بسحرها وفتنتها يغلو به في إيمانه بعبقرية أنوثتها الكاملة. أجل. . .، إنها أرسلت في دمه الحياة الجديدة، الحياة التي تجدد فكره في أشياء الدنيا، وتستفزه إلى فرض سلطانه على هذه الأشياء وكانت هي تنشيء لعينيه في كل يوم بل في كل ساعة دنيا مائجة، من فنها البليغ الذي يعبر عن ضميره تعبيرًا بليغًا كبلاغة أنوثتها فانبثقت في عينيه وفي قلبه ينابيع متفجرة من الأحلام الرقيقة، والأماني الطائرة، تلك الأماني التي تتنهد دائمًا على قلبه بأنفاس الفجر. . . امتلأت عيناه الحائرتان بأحلام الشباب، وانبعثت القوة المتلهبة بالرغبة، فهو ينظر ثم يندفع إلى أمانيه يريد أن يختطف حظه من السعادة السانحة سنوح الصيد المستطرد، قبل أن تسبقه إليها أنياب الشقاء والألم والبؤس فتفترس منها وتنتهش. إنه يريد أن يظفر بسعادته ليتمتع بالحياة بعض المتاع، ولكن يا صديقي. . . إن هذه الغريزة المتحكمة في الإنسان وفي أعماله -غريزة التمتع بالحياة- هي التي تذهب بالإنسان في القدر مذهبًا بعيدًا إنها هي التي تجمل الحياة لعيني كل حي، ولكنها هي هي نفسها التي تعمى المحب فلا يبصر تلك الهوة السحيقة التي فغرت

له أشداقها وأحدت أنيابها، فلا يزال -إلا أن يعصم الله- يتهاوى فيها ما اندفع به إليها هواه. ولكن كيف كان يملك صاحبي وإرادته في البصر؟ إنها كانت تعمل أبدًا -وهو لا يستطيع أن يدرك- على أن تبقى حبيبة أحلامه ولو قتلته. نعم إن بعض ضحكها كان يصفق بدلالها كأن أمواج شبابها تتلاطم فيه وتزخر، شبابها. . .! ! شباب امرأة جميلة متكبرة معجبة، شباب أنثى تحب، وتريد أن تبقى أبدًا محبوبة يهيم في أوديتها المسحورة من يحبها. ومع ذلك فقد كان يجد لما يلقاه منها فرحًا في نفسه، ونشوة في روحه وعربدة في دمه، كان كالسكران بحبها لا يستطيع شيئًا ولا يملك إلا أن يخضع لذلك السلطان المرح الظافر المبتسم، السلطان العنيف الذي يقبض على روح المحب بحنان طاغ مِن روح مَن يحب. وعلى ذلك فإن هذا الرجل المسكين -على عنفه وصلابته وفحولته- لم يجد بُدًّا من أن يسلم لها قياد عواطفه التي تَصبُو صبواتها إلى أناملها الرخْصَة الساحرة. كيف يقاوم الرجل الحب -مهما استصعب والتوى- امرأة مقدسة يحبها، فهو يتصبب بروحه في روحها؟ استسلم لها، ولكنه كان يشعر بعد هذا الاستسلام أن ليس في هذه الدنيا شيء يستطيع أن يقهر إرادته، أو أن يحول بينه وبين ما يرمي إليه من أغراضه وإن بعدت. كان معنى خضوعه لها أنه يستطيع إذن أن يخضع الأشياء كلها لسلطانه. . . وما أعجب هذا الحب! أرأيت إلى ذلك الضرس الفولاذي الصليب المتكبر من الجبل الإنساني في صاحبي ذاك. . .؟ لقد كان يُرَى وهو يذل لهذه الساحرة أيامه ولياليه خاشعًا مستكينًا كأنه يهودي منبوذ فقير في غربة موحشة! ولكن لا تخطئ معنى الذل في فحوى حديثي، أعرفه صورة أخرى من الكبرياء المأسورة في سجن امرأة محبوبة. إن إحساسه بحبه لها كان ضروبًا من فن الروح العاشقة. لم يكن يراها امرأة مجردة يحبها بحرارة القلب الملتهب بالرغبة أو بالحب. كلا، كلا، لقد كان يجدها أحيانًا في أوهام عواطفه ومدّها أُمًّا، فهو يريد من أمومتها المحبوبة أن تمهِّد له في قلبها تلك العاطفة الوثيرة اللينة

من الحنو والعطف. وهو يراها مرة أختًا يلتمس في مس يديها، وفي نبرات صوتها، تلك العاطفة الساكنة ذات الأفياء والظلال، عاطفة الأخت التي تضحي في سبيل أخيها المنكوب، ثم يرقى بها إحساسه فينظرها أخًا مخلصًا يشد أزره إذا انطبقت عليه قُحَمُ (¬1) العيش ومتالف الحياة. ثم إذا هي تارة أخرى روح من الأبوة المسددة، الحازمة المصممة البليغة، لا تزال تجد الرجل مهما أناف به العمر وشمخ ذلك الطفل العابس الغرير الطياش، وهي مع ذلك كله الصديق الذي يحامى عنه إذا تعادت عليه الدنيا بأسرها، الصديق الذي تبقى صداقته تطوف عليه تحرسه وترعاه. أتدري بعد إلى أين تنتهي به هذه الألوان المختلفة من إحساسه بها؟ لقد تنتهي في بعض ساعاته معها أن يراها أستاذه، فهو كأنما يجلس بين يديها ليأخذ عنها روائع الحكمة، ويسألها عن سر الأبدية المحجب بالغيب، ويلقى عندها كل أفكاره المعقدة في الحياة، يلتمس عند حكمتها الخالدة حل ما تَعَقَّد، وأن تمنح أفكاره ذلك الهدوء الفلسفي الذي تسبغه الحكمة العالية على سَدَنتها وحفاظها. ثم سكن صاحبي وغشيته فترة الحديث إذا تطاول به وامتد ولكنه ما لبث أن أقبل عليّ يندفع: انظر. . . انظر الآن كيف يضمحل الرجل. هذا هو في مد عواطفه وهي تفور وتتثوَّر بأمواجها في الحب العنيف المتلاطم، ثم إذا هي تطير عن أحلامه وتنفر من مجثمها السحرى، وإذا هو منفرد لا يدري كيف كان هذا؟ ولمَ؟ ومن أين؟ وإلى أين. . .؟ إنها ذهبت وتركت الدنيا التي أنشأتها له مشرقةً زاهيةً ناضرة، فإذا هي تطفأ وتخبو وتذبل. إن قوة رجولته قد ذهبت تطلبها عند قبور الذكرى، فكيف لا يضحملُّ الرجل؟ كيف لا يضمحلُّ؟ ! ¬

_ (¬1) القُحَم: الأمور العِظام.

ويلك آمن. . .!

ويلك آمن. . .! أيام من الدهر حائرة في أودية الزمن، وساعات تخلع المصائب وتلبسها بين الثانية والثانية، ورعب مظلم خيَّم على الأرض فلا تضيئه إلا شقائق النار وهي تفرى الجو ذاهبة وآيبة، وحيرة سابحة فيها عقول البشر لا تدع قرارًا لفكر ولا خيال، وسهام نافذة من البلايا تفتق نسج النفس الإنسانية فتقًا رغيبًا (¬1) يتعايا على الراقع والمصلح. . . فيا له من بلاء مطبق على العالم إطباق اليوم الصائف يسد بحَرِّه منافذ الأنفاس. ما الحياة؟ ما الإنسان؟ ما العقل؟ ما الحضارة؟ إلى أين نسير؟ كيف نعمل؟ لماذا نعيش؟ فيم نتعب؟ تبًّا لكل هذه الضلالات الداجية التي لا يبرق فيها نجم واحد يقول للإنسان: اتبعني، سوف تهتدي! ! هذه هي الحضارة الأوربية الحديثة قد انتهت بالناس إلى خلق هذا الإشكال الدائم الذي لا يحل، وساقت الناس إلى مرعًى من الشك وبئ، كلما ازدادوه غذاء زادهم بلاء، فلا ينتهي من ينتهي إلا إلى هلكة تدع فكرة الحياة خرافة عظيمة قد اتخذت لها أسلوبًا تتجلى فيه، فكان أبلغ أسلوب وأفظع أسلوب، هذا الإنسان الذي يحمل من رأسه قنبلة حشوها المادة المتفجرة التي تهلكه وتهلك ما يطيف به أو يقاربه، فلا هو ينتفع بنفسه، ولا ينتفع العالم به. لو سئل إنسان هذا القرن: ما أنت؟ لقال: أنا اللعنة الملعونة التي تشأم نفسها وتشأم من يعترض انصبابها وسيلها. أنا الناب الذي ينقع في الإنسانية سُمَّه حتى تبرد حياتها في عضته. أنا الهالك المهلك، هذه حياتي، وهذا عقلي، وهذه حضارتي، ومن أجل هذا خلقت، وفي سبيله أعيش، وعلى قضائه أعمل. . .! ! ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 365)، 1940، ص: 1084 - 1086 (¬1) الرغيب: الواسع.

ولو نشر اليوم فيلسوف من محبي الحكمة والعاملين عليها الذين أفنوا أعمارهم في طلب الخير والفضيلة والحق والجمال، وجعلوا عملهم هداية الإنسان إلى أسبابها وسلكوا له سبلها، ثم نظر إلى هذه الحقبة من عمر الإنسانية فما تراه قائلًا في صفة الإنسان وما فيه من العون على دَرك هذه الحقائق، والتحلي بها في حياته؟ أم تراه يعرف الصورة وينكر المعنى؟ المدنية الأوربية الحديثة هي التي استطاعت أن تنفذ بالعقل في ضمير الحياة تستنبط منه ناموس الحياة التي تدب على الأرض ومع ذلك فهي التي سلبت هذا العقل قدرته على الخضوع للروح لتمده بالنور المشرق الذي يستضيء به في رفع الإنسانية درجة بعد درجة إلى مراتب الملائكة، أي إلى مرتبة الروحانية الصافية التي تنهل أضواؤها على النفس والقلب والروح، فتروى من فيضها، وترث من ذلك نورًا ورحمة وسكينة، وتنبت غرسها الإلهي الذي يجنيه الإنسان هداية وعدلًا وسعادة، فتتضاعف به الحياة حتى يقوى الخير فيها ويضوى الشر. لقد أخفقت هذه المدنية في سعيها لخير الإنسان، وأثبتت بكل دليل أنها مهما تكن أحسنت إلى الإنسانية فلم تحسن مرة واحدة أن تضبط نوازع النفس، وتردها إلى الطريق الواحد الذي ينبغي أن تصدر عنه، حتى تكون كل أعمالها نقية طاهرة متشابهة. ذلك الطريق هو طريق الروح الذي لا يتم لعمل تمام ولا يظفر بخلود أو بقاء، إلا أن يكون فيه مس الروح وطهارة الروح، وقدس الروح. أطلقت هذه المدنية في الدم الإنساني كل ذئاب الشر والرذيلة، فخرجت من مكانها جائعة قد سلبها الجوع كل إرادة تحملها على بعض الورع الذي يكف منها، فعاثت في إنسانية الإنسان حتى جُنَّ، وتنزَّى في الأرض وحشًا يجعل شريعته المقدسة تنبع أحكامها من معدته، ومن أحكام هذه المعدة ومطالبها، وكذلك انقلب النظام الاجتماعي في العالم من نظام روحي عقلي سام، إلى نظام اقتصادي تجاري ضار، الآكل والمأكول فيه سواء، لأن النية انعقدت في كليهما على الافتراس، وما الفرق بينهما إلا فرق القوة التي أعدت هذا للظفر، وأسلمت ذلك إلى العجز، فدفعت به إلى رحى تدور بأسباب من الطغيان والفجور.

وما هي شريعة المعدة في هذه المدنية الاقتصادية التجارية؟ هي شريعة السوق التي لا تعرف قيمة الشيء إلا في ميزان من الطلب. فما طُلب فهو الجيد، وما عُمِّىَ على الطالب فهو الردئ الذي لا قيمة له، وكل شيء قائم في جوهره على النزاع الذي لا تسامح فيه، والأمر كله للغلبة: غلبة الأقوي، لا غلبة الأعدل، غلبة الحيلة لا غلبة الصدق، غلبة البراعة لا غلبة الحق. فهذه الشريعة هي شريعة إعزاز القويِّ، لأن القوة تسوِّغه أن يتسلط، وإذلال الضعيف، لأن الضعف تهالك به أن يتحكم، وليس بين هذين مَعدلة ولا نصَفة، وليس أحدهما من الآخر إلا كالثعبان من العصفور إذا عرض له، فسلط عليه الرعب من عينيه، فينتفض في قبضة أشعتهما المفترسة المسمومة حتى يبرد دمه فلا يستطيع حركة، ولا يتنغش بدنه بذَماء من الحياة. هي الشريعة التي تجعل إنسانها القوي مقبرة لإنسانها الضعيف، فالقوي أبدًا آكل قد أرَمَّت في نفسه تلك الجيف التي انتهشها وألقى بها في معدته، فتجيفت وتعفنت، وتصاعدت أرواحها المنتنة في حياته، فجعلته متسرِّعًا نفّاذًا كأنما يريد أن يهرب بنفسه من نفسه التي لا يطيق جوها، لأنه جو خانق، تطوف فيه أشباح الفرائس المسكينة التي بطشت بها أنيابه ومخالبه. هذه الحضارة القابرة التي تدنست روحها بالرمم التي ضعفت أن تقاوم القوة، لن تستطيع إلا أن تفسد العالم وتدنسه كما تدنست، فإنه محال أن تكون الشريعة مدنَّسة نجسة، وتأتي الناس بخير طاهر مبارك يغسل أدران الإنسانية التي تتجمع عليها يومًا بعد يوم، ولا أن تخرج نفس الإنسان فيها مع الفجر ندية مشرقة رفافة تستقبل بفضائلها أعمال نهارها. إن شريعة إعزاز القويّ وإعلاء الأقوى، وإذلال الضعيف وإسقاط الأضعف، هي الشريعة الحيوانية التي لم تعل إلا بإذلال الروح والعقل وإسقاطهما ونبذهما، هي شريعة البغي والعدوان على الروح بالروح الشيطانية، وعلى العقل بالعقل المتمرد، وكلما استحكم أمرها كانت الإنسانية ذاهبة إلى نبع نجس تنغمس فيه لتصدر عنه أقوى مما وردت -أي أنجس مما وردت.

إن الكون لا يصلح إلا على معنى الأقوى والأضعف! هذا حقٌّ لا يمارى فيه إلا مكابرٌ أو مبطل أو أحمق. ولكن يبقى ذلك العمل الإنسانيّ الذي يثبت للإنسان معاني النبل المنحدرة في روحه من نبل النور الأزليّ الذي بعث الحياة بعثًا في نفسه وفي أعماله، وبهذا العمل وحده يعرف الإنسان معنى السعادة في السراء والضراء، وفيما أرضي وما أسخط، وتكون حاله في الحالين واحدة، وذلك بأن تتسع روحه بالواجب الاجتماعي الروحي الذي يتراحب بإنسانيته في الكون كله، فتقع اللذة منها موقع الألم، وينزل الألم في منزل اللذة، وتمسح النظرة السامية عن الوجود كل الغبار الأرضي الذي يغطي محاسن الحياة وتنير الكلمة ظلمة النفس: الحمد لله فيما سر وما ساء. والعمل الإنساني المستمد روحه من الجزء الإلهي في الإنسان هو العدل والمساواة، وقد جعلت الحضارة الحديثة معنى العدل والمساواة صدقة يتصدق بها أغنياء قوم على فقرائهم، وأقوياؤهم على ضعفائهم، لا على معنى الصدقة في إخلاصها لله ثم للإنسانية ولكن على معنى التخفف من تعب الغني وتعب القوة. أما حقيقة العدل والمساواة، فهي عمل الإنسان الأقوى في رفع الإنسان الأضعف إلى مرتبته، فلا يزال هو يرتفع بقوته، ولا يزال الضعيف يسمو معه لأنه معقود الأواصر به. وإذا كان ذلك هو القاعدة، فالاجتماع كله سام ذاهب إلى السمو، ولا يكون فيه معنى للطبقات إلا على معنى التدرج، ولا يكون التدرج إلا على تماسك وتواصل، وليس تماسك ولا تواصل إلا على حرص الأعلى على التعلق بالأدنى، وكذلك لا يرتفع شيء من المجتمع لأنه أعطى القدرة على الارتفاع، ولا يسقط الشيء الآخر منه لأنه لم يجد ما يتعلق إذ حرم هذه القدرة أو زويت عنه أسبابها. وقد جعل الإسلام من أول أمره غرضًا للمسلم لا يرضى منه غيره، ورد معنى الإسلام إليه، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقاعدة وقال للناس: اعملوا: فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه أزر بعض. والإيمان لا يعرف الغنى والفقر، والقوة والضعف، والمراتب الحيوانية التي طبعتها الطبيعة على تنازع البقاء وغلبة الأقوى،

بل هو معنى يوحد الناس حتى ليس لأحد فضل على أحد إلا بقدر منه، وحتى إن العبد المملوك العاجز ليرفعه إيمانه على مَنْ مَلَكَه واستبد به واعتقد رقبته بماله، إذا لم يكن هذا المالك قد استحق بإيمانه مرتبة هذا العبد. وفي بعض الصحيح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء هداية إلى هذا الأصل، فقد روى عن المعرور بن سويد أنه قال: لقيت أبا ذَرّ بالربذة، وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببتُ رجلًا، فَعَيَّرته بأمه، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذرٍّ، أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية! ! إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم. ولا ينتهي عجب متعجب من بلاغته - صلى الله عليه وسلم -، وكيف ينزل كلامه تنزيلًا في معانيه، تدور بها دورة دائمة لا تنتهي على نظام ثابت لا يتبدل. فقدَّم - صلى الله عليه وسلم - الأخوَّة بين المؤمنين لأنها هي الأصل الذي لا يتم معنى الإيمان ولا معنى الإنسانية إلا به، وردّ على هذه الأخوة ما يوجبه المجتمع من مراتب الناس على الغنى والفقر، والقوة والضعف، ألا وهي الخدمة التي يقوم بها النظام الاجتماعي فقال: "إخوانكم خولكم" ولم يقل: "خَوَلكم إخوانكم"، هذا مع أن أصل الخطاب إلى أبي ذر يتوجه إلى مقصود بذاته، وهو خادمه أو غلامه الذي سمه، فكان أول ما يسبق إلى اللسان، وأقرب ما يسرع إليه الوهم، أن يتعين خادمه بالابتداء. ثم انظر كيف قال: "جعلهم الله تحت أيديكم"، "فمن كان أخوه تحت يده"؟ وكيف حرَّر الإنسان من رِبْقَة العبودية القابضة على عنقه، فجعله تحت يده يستظل ويتحرك في هذا الظل، ولم يجعله في يده يتصرف فيه ويقبض عليه ويستذله، فإن شاء حطمتْه قبضتُه. ثم دَرَج على هذا الأسلوب البليغ حرفًا بعد حرف حتى قال: "فإن كلفتموهم فأعينوهم"، وذلك زكاة القوة التي بها مَلَكَ المالكُ، واستخدم المستخدم. فإذ كان المؤمن قد قوي على تكليف ضعيفه أن يعمل، فهو أقوى على أن يشاركه إذا عجز أو قعد به الضعف الذي أصاره إلى أن يرضى أن يخدم نفسه من كان أعلى يدًا وأقوى قوة.

فهذه هي شريعة الروح الطاهرة التي تتعطر من نواحيها برائحة جنة الخلد، فانظر ما بينها وبين شرائع المعدة التي جعلت أحشاءها مقابر للضعفاء تأكل منهم لتتسع بمعنى الجريمة الحيوانية، وتنقبض عن معنى الرحمة الإنسانية الإلهية. فهل يمكن أن يتطهر العالم فيما يستقبل من أيامه على أساس هذا الهَدْي النوراني الذي جعل النظام الاجتماعي سموًّا بالإنسان كله على مراتبه كلها؟ هل يمكن أن يفهم العالم حقيقة هذا التطهير التي أشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا قدَّستْ -أي طهَّرت- أمةٌ لا يؤخذُ لضعيفها من قويها"؟ ويلك آمن. . . إن وعد الله حق.

هذه هي الساعة. . .!

هذه هي الساعة. . .! قامت الدنيا وأخدت تعد زينتها لأمر غير ما مضى من أمرها. إنها لابد أن تتبرج لعيون عشاقها، ممن كتب لهم أن يشهدوا مشهدًا آخر من فصول الرواية الإنسانية التي تمثل في ساحاتها. نعم، فإن الحرب المهلكة التي لا تزال تقعقع من شواهقها حين تنقض، أو تزحر وتئن تحت أثقال الوقائع -لا تلفت الحياة الدنيا عن عملها في تلبيس العيش بالفتنة لمن يعيشون، ولا عن تقديم اللذة لمن يشتهون، وكأن هذه الحرب إن هي إلا تضخيم عظيم لعمل العامل في إزالة التطرية (التواليت) عن وجه الغانية، ونسف التطريف (المانوكير) عن بنانها، وما سوى ذلك من إعداد الغانية الحسناء لتبدو مرة أخرى في حلي وبهاء وزينة. لا أتشاءم ولا أتفاءل، فالقدر قد قضى على الدنيا قضاءه، وما ندري ما يراد بنا منذ اليوم! فرب شر نتوهمه كذلك قد احتقب (¬1) الخير، ليرمى في أرجاء الدنيا غرسًا جديدًا في أرض جدد ثراها ما أصابها من تدمير وهدم. إن بعض القسوة في الحياة يكون كتشذيب الشجر في إبانه، يقطع منه ليزداد قوة على إثبات وجوده وتقرير حقه في البقاء ناميًا فينان يسمو وينتشر ويخضر ويثمر. وقانون الفطرة الذي تجرى أحكامه على الطبيعة لتتجدد، لا يخطئ ابن الطبيعة يعمل فيه، ليصنع له حياة جديدة تثبت أن وجوده على الأرض حقيقة نامية أبدًا، إن يكن الماضي قد باد في التاريخ، فإن الحاضر يثبت إثباتًا عمليًّا أنه مستمر في الحاضر، ويكون استمراره في الحاضر دليلًا على امتداده إلى المستقبل. ويكون من جميع ذلك أن الحياة الدنيا مهما أصابها من شيء باقية، ولا يمحوها إلا القانون الآخر الذي يجعل لكل أول نهاية ينتهي إليها. فإذا جاء أوان هذا القانون فقد بطلت حيلة المحتال. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 366) 8 يوليو 1940، ص: 1123 - 1125 (¬1) احتقب: حَمَل، وأصله وَضْع المتاع في الحقيبة تكون على مؤخر البعير، ثم استعمل في المجاز، فقالوا: احتقب فلان الإثمَ.

إن الزمنَ الذي يمشي في الأرض فَتَخضرُّ منها مواطئ أقدامه، هو نفسه الزمن الذي يدب عليها فيُسمع لدبيبه دمدمة مما يتقصف تحته من عمارة الدنيا وبنيان الحضارة، وعلى مواطئ الزمن تتنزل الحضارات كلها أو تتهَدم. ومن يوم أن تنهَّدَت الأرض بالحياة يبيدُ شيءٌ ويقومُ شيءٌ، وما يزول منها ما يزول إلا ليحل عليها ما يحل، لأن الحركة دليل الحياة، فلا يثبت معنى الحياة إلا بها، وما يتحرك من متحرك إلا لتكون لانتقاله نهاية إليها يتوجه، وعندها يقف، فإذا وقف فهذا آخر أنفاسه، ثم يسكن سكون الموت. فما بنا على ذلك أن نتشاءم أو نتفاءل، وما التشاؤم والتفاؤل إلا حركة النفس الفارغة التي لا تجد عملها، فهي تعمل في إرهاق نفسها بما لا ينفعها ولا يعنيها، وليس من عمل الإنسان ما هو أضر عليه من إجهاد نفسه في باطل، والجهاد بها في غير طائل. فإذا أردنا اليوم أن ننظر فما ننظر إلا لنعرف الطريق التي يجب أن نقرر لجهودنا أن تمهدها لنا ولمن يأتي بعدنا على تدبير وسياسة. والقدرُ اليومَ قد قضى بين الناس، ووضع القضية لمن يختار، فمن شاء أن يدخل في عقد هذا وعهده دخل فيه، ومن شاء أن يتخلَّف فقد رضي لنفسه على مَيْزة وبصيرة، وما ينقض القدر قضاءه الذي أبرم، فيأتي من يأتي ينوحُ بما ظُلم، ويتوجَّع بما غُبنَ! ! ونحن قد لقينا من أحداث الدهر ما ردَّنا بعد عزٍّ إلى قرار هوان. وقد أنَى (¬1) لنا أن نرفع أنفسنا من وهدة واطئة قد ربضت بنا فيها سلاسل من حديد الذل، وقد حضرت ساعة ينبغي أن نفصل فيها بين عهد مضى وزمن يستقبل. فإذا قعدت عزائمنا، وعميت أبصارنا، فأنفسَنا نضيع، وأرواحَنا نزهق. جاءت هذه الحرب لتنسف تاريخًا شامخًا ثقيلًا قد اضطجع على حياة الشرق كما يضطجع الجبل على سفحه الرَّحْب، فإذا تأخر الشرق وتهاون وتكاسل على ما عوَّده الموت الروحيُّ الذي كان فيه، فقد سنَحتْ له الفرصة ثم ولَّت عنه، ¬

_ (¬1) أَنَى: حانَ.

وتركتْ يدَه ممتدَّة لا تمسكُ إلا أذيالَ الريح التي استَرْوَحتْ عليه بأنفاس الصيد ورائحته. إن في هذا الشرق لميراثًا نبيلًا من الأعمال والأخلاق والآداب والسياسات، ولكن هذا الميراثَ المضيَّع المنسي لا يجدى من خير على نائم قد أغمض عينيه عن الحياة، استمتاعًا بحياة أخرى تعرضها له أحلام رخية تختال في خياله. هذا الميراث المجهول في حاجة إلى من ينفض عنه غبار القدم، وأتربة الإهمال، ويزيل عنه أدران الجهل والخمول، ويجلوه مرة أخرى على أعين الناس مضيئًا مشرقًا يتوهج بأنواره كأحسن ما يتوهج. لقد كانت الحضارة الأوربية الماضية، وقامت على روح من الأثرة والبغى والاستبداد، وفقدت كل معاني الروح السامية التي تبذل أكثر مِمّا تأخذ، وتعتد الغنى من الاستغناء لا من الجمع والتعديد، وتجعل حرية النفس في ضبطها وإمساكها على المصلحة لا في تسريحها وإرسالها على مد الشهوة. وقد كان للشرق مجد وحضارة ومدنية، وتمم الإسلام كل الكمال لهذه الحضارة بما أقام للناس من شعائره وآدابه، وجاء على الشرق زمان كان الإصلاح فيه ضربًا من إفساد الصالح، وزيادة الفاسد فسادًا وخبالًا، وكذلك ضاع كل شيء، ورجع بنا الزمن إلى جاهلية جهلاء، تقوم على التقليد لا على الإبداع، وعلى المتابعة لا على الاستقلال، وبالكبرياء لا بالتواضع، وحتى ذكرى مجدنا السالف قد صارت عندنا نخوة جاهلية في التعظم بالآباء والأجداد، لا عملًا عظيما تعظمه أعمال الآباء والأجداد والوراثة القومية النبيلة. والحضارة ليست هي العرض الظاهر من قوتها وبنيانها وفنونها وكل ما يقوم به نعت الحضارة، بل الحضارة هي السر الذي يعمل في إيجاد ذلك واستنباته، وإخراجه على الأرض واستثماره: هي سر الحبة التي تنبت الدوحة، والذرَّة التي تقوم بها المادة. فكل حضارة لابد لها من روح تعيش بها وتنمو، وعلى ما في هذه الروح من النظام والتدبير والنبل والسمو، تنشأ الحضارة منظمة مدبرة سامية نبيلة. ونحن لا نشك في أن الروح التي ورثها الشرق في نواحيها، والتي طهَّرها

الإسلام من نواحيها وأتمها، وأحسن سياستها، ونفي عنها خبثها -هي التي تستطيع أن توجد على الأرض حضارة تملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جَورًا، وتفيض بها رحمة كما فاضت غلظة، وتجعلها طريقًا للإنسانية تخرج به من ظلمات الباطل والبغي والغرور إلى نور الحق والتواضع والمساواة. ويومئذ لا يقتتل الناس من أجل سلب الحق للزيادة في أنفسهم وجنسياتهم، بل يقتتلون -إن هم اقتتلوا- من أجل إعطاء الحق وردِّه على أهله مهما اختلفت جنسياتهم، ولا فضل لأحد على أحد إلا بما يحسن هذا ويسئ ذاك، ويصبح القانون العالمي، قانون الحق يستقر حيث ينبغي أن يستقر. إن العالم الآن ليقتتل على غير غرض إنسانيٍّ كامل مقرّرٍ لا يشذ على غاياته ومبادئه أحد. إنه يقتتل على طعام يؤكل، بل على هذا الطعام كيف يُؤكل. فليس لهذه المدنية الأوربية إلا معنًى جنسيٌّ مُتَعصِّبٌ تدافع عنه لنفسها لا للإنسانية كلها، لا يشك في ذلك إلا من طمس الله على بصيرته، وقادته أهواؤه وغرائزه دون عقله وواجبه. وما هذا التوحش الحيوانيُّ في هذه الحرب إلا نتيجة طبيعية للفكرة القومية المستقلة التي لا تريد إلا أن تستولي على أعظم ما يمكن أن تضع يدها عليه لتستمتع بالحياة والشهوات والسلطان. أما الإسلام -وهو روح الشرق من أقدم عصوره على اختلاف أديانه وأجناسه- فقد وضع كل مأثرة قومية جاهلية تحت قدمي صاحب الرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسوّى بين الناس من أهله وبينهم وبين أهل ذمته وعهده، واختار المسلمين ليكونوا شهداء على الناس، فيكونوا قضاة يحكمون بالعدل لا يبغون ولا يجورون، وجعلهم دعاة يدعون إلى مبدأ يتساوى عليه الناس، فمن دخل فيه فهو منه، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وكتب عليهم القتال وأمرهم به، وعظم الجهاد في نفوسهم، ولكنه قتال على دعوة إلى هذا المبدأ وجهاد في سبيله وحرم عليهم العدوان ابتغاء عرض الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها. فالمسلم من دينه في قانون إنساني كامل، لا يعمل للجنس أو الفرد أو السلطان والسيطرة، بل يعمل لإعطاء العالم كله روح المساواة، قد تحاجزوا

بينهم في الشر، وانطلقوا في أيامهم يعملون على إثباتها في تاريخ الدنيا بمبدئها لا باستبدادها، وبغايتها دون لذاتها، وبالسمو بها إلى الإشراف على نظام الدنيا والسمو بها، لا بسيطرة القوة على إخضاع الدنيا وإذلالها، وجعلها كالبقرة يُحلب درُّها لمن يملكها. فالقانون الإسلامي العظيم هو روح الحضارة التي يجب أن تسود العالم، فإنها حين تسود عليه تجعل الحق هو السيد الذي تخضع له أعناق الناس، لا يبغي بعضهم على بعض في سبيل شهوات غريزية حيوانية مفترسة، يغذوها الدم ويهيجها الدم، فهي آكله لا تشبع وثائرة لا تقر. والمسلمون اليوم هم جل الشرق، وروح الشرق، ولكنهم مسلمون قد أُفرغوا من معاني الإسلام وبقيت ألفاظه تعيش بهم. إن كل فضيلة من فضائل هذا الدين، وكل عمل من أعماله قد انتزعت منه روحه، فتعامَل الناس على ما خيَّلتْ، لا يبالون ما أمروا به ولا ما نهوا عنه، ففقد هذا الشرق الرأي العام الإسلامي الذي يكون تعبيرًا صحيحًا عن إرادة الإنسانية في الاستعلاء والسمو. ولكن هذه الحرب قد تثير هذا العالم الراكد، وتدفع فيه أمواجه الأولى التي غسلتْ وجه الأرض وطهرته من دنس الحياة المادية العابثة المعرْبدة، فإذا كان ذلك فإن هذا الشرق قد أعد اليوم لأمر جلل، وقد حفظ الله له تاريخه الذي ورثه كاملًا فيه الأسوة وفيه العبرة، وفيه فلسفة الحياة الاجتماعية التي تجعل الفرد الواحد أمة كاملة لأنه هو ممثل الأمة، وتنصبه حاكما لأنه يحكم نفسه أول ما يحكم، وتهيئه جيشًا محاربًا في سبيل الحق الأعلى للإنسانية، لأنه يحارب نفسه أول ما يحارب في إقرارها على إعطاء الحق لمن يستحقه من حقيقة نفسه. فاليوم يوم الشرق إن اختار أن يبدأ حركته إلى الغاية التي أمر بالبلوغ إليها والوقوف عليها شاهدًا قاضيًا، يدبر الأمر ويصرفه في سيادة الحق كله على الباطل كله. ونحن لا ننسى ما صرنا إليه، ولا نغفل عما فرغت منه أيدينا من أسباب الغلبة التي تتحكم اليوم في مصير الدنيا، ولكن الإرادة تحكم الرجل الواحد، تستطيع أن تحكم العالم كله، وسبيل ذلك أن يكون كل رجل مريدًا إرادة صارمة لغرض مقصود بعينه، فهذه الإرادة هي التي تفتق له الجو الإلهي الذي يعد الإرهاص للمعجزة الإنسانية.

ستكون أحداث، وتتجدد على الناس نوازل، وتسيل الكوارث من كل مسيل، ولكن الشخصية الاجتماعية التي لا تختلف ولا تتدابر ولا تتعادى تستطيع أن تغرس في أيام المحن غرس المجد الإنساني السامي، لتنبت شجرة يمتد ظلها، ويترامى فيئها، ويطيب ثمرها، ولا يكون ذلك إلا بعد جهد ومشقة وعنت، ومصابرة للنفس على لَأْوَاء الحياة التي فرضت علينا أن نتألم، وأن نصاب، وأن يبلغ منا العذاب مبلغًا يُجهد ويؤود. فهذا أوأن يستطيع الشرق أن يضرب الاستحكامات في أرضه وفي أوطانه بأخلاق سامية عاتية، فيها القدرة على النمو، والقوة على البقاء، وأن ينظم لحياته نظامًا يهدف بغاياته إلى مستقبل يبعد عنه أو يقرب على حياطة تحفظه أن يقع فيه ما وقع في أيام البلبلة الأخيرة التي تبعت الحرب الماضية. نعم، إن الشرق يفقد اليوم زعيمه الذي يهب من جماعاته كالأسد تنفرج عنه الأجمة الكثيفة عاليَ الرأس حديد النظرة، تتفجر القوة من كل أعضائه ولكن، أيمنع هذا أصحاب القلوب الحية التي تشعر بحاجتها إلى هذا الرجل أن تهزّ شعوبها هزًّا عنيفًا متتابعًا، حتى ينفلتَ إلى المقدمة ذلك الأسد الرابض إلى الأرض في قيوده الاجتماعية التي تقعد به عن الحركة للوصول إلى المكان الذي أعده له القدر، ليبدأ بدأه في إعداد الدنيا لاستقبال الدين الذي سيتجدد في الدنيا، لأنه هو سر الدنيا وسر القدر. إن علينا أن نعمل، فإن كان ما أردناه وما نتمناه، فذاك عز الإنسانية ورضوان من الله، وإلا فقد أدينا ما وجب، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أخوك أم الذئب. . .؟

أخوك أم الذئب. . .؟ أجل! ! هذا هو العالم المغرور الذي ظن خير الظن بمدنيته، وأثنى عليها ثناء الأم على عذرائها، ونفض عليها من تحاسين الخيال فنونًا كذُنابَى الطاووس، وأدار عليها مجامر الندِّ والمندل والعود من عطر الشهوات واللذات، وأحاطها بالعبقرية العلمية التي توجد في كل شيء شيئًا جديدًا يدخل على العقل إبليسًا صغيرًا ليُضل عن سبيل الحق، ويضع في الثمرة حلاوة تلذ ونشوة تسكر، ثم زاد فأعطى المادة المتبدلة الفانية تدليسًا يجعلها في فتنة الرأي ثابتة خالدة ثم غلا فجعل النفس تطلق أهواءها جميعًا لتحرز من لذات الحياة كفايتها، إن كان لأهواء النفس كفاية. هذا العالم المغرور يقف اليوم في فئتين التقتا للقتال في سبيل الأهواء الغالبة والشهوات المستحكمة. وفي هذا القتال تتكشف لمن أبصر حقيقة هذه المدنية، وحقيقة أغراضها التي عملت لها وعمدت إليها، وحقيقة الروح التي يتعامل بها الاجتماع الإنساني الذي تعيش به هذه المدنية الأوربية التي تنكر من الحياة وتعرف وتدعي لنفسها إسقاط ما أنكرت وإقرار ما عرفت. وفي كل يوم تتجدد أحداث الحرب، فتتجدد معها أساليب الغرائز الوحشية المصبوغة رحمتها بأصباغ الافتراس، وفي كل يوم يخلع الوحش عن مخالبه ذلك المخمل الناعم الذي دسها فيه، ويهجم بطبائعه على فريسته ليعلن بذلك أنه هو الوحش: قانونه المنفعة، وشرفه المنفعة، وصداقته المنفعة، وأدبه المنفعة، ودينه المنفعة. فهو لا ينفك من منفعته في مثل السعار إذا أخذ الوحش فاستكلب فهاج فطغى، لا يهدأ حتى يطفئ هذا السعارَ ما يشفيه أو يرده أو يقدعه (¬1)، وهو لا يرعى في ذلك حرمة، ولا يكفه شرف: ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 367)، 1940، ص: 1161 - 1163 (¬1) يقدع: يَكُفّ.

وكان كذئب السوء لما رأى دمًا ... بصاحبه يومًا أحال على الدم (¬1) وقبيح بنا -نحن الشرقيين- أن نغمض أعيننا عن النظر إلى هذه المدنية التي أخذت تنهار تحت قصف المدافع وهد القنابل وزلازل الحرب، وأن ننام عن مستقبل أيامنا، وألا ننفض هذه المدنية نفضًا لنأخذ منها وندع، ولنعرف سوء ما تركت أنيابها في جسم أوطاننا، ونتبين حقيقة النفوس المسمومة التي أصبحت في الشرق فاشية تعمل على إدماجه في حضارة غريبة عنه، ولا يطيقها إلا على نكد ولا يحتملها إلا عنتًا وإرهاقًا وغرورًا. إن رؤوسًا من الناس في هذا الشرق قد طالت بهم أيامهم حين أقبلت عليهم الدنيا، فأخذوا على الرأي العام منافذه كلها، وصرفوه ما شاءوا بما شاءوا كما شاءوا، لم يغلب عليهم إلا ذلك الداء الوبيل الذي قبسوه من مدنية الغرب، داء المنفعة. طلبوا المنافع لأنفسهم فاستبدوا في غير ورع، وتجبروا في غير تقوى، وعملوا على أن يكون سلطانهم في الأرض كسلطان الله في السماء: يمحو ما يشاء ويثبت، علوًّا في الأرض واستكبارًا، قاتَلهم الله أنَّى يؤفكون؟ إن الشرق لا يؤتى ولا يغلب إلّا من قبل أهله. هذه هي القاعدة الأولى في السياسة الاستعمارية الماضية، فعملت هذه السياسة على أن تنشر في الشرق عقولًا قد انسلخت من شرقيتها وانقلبت خلقًا آخر، وقلوبًا انبتَّتْ من علائقها ولصقت بعلائق أخر، وبهذه العقول المرتدة والقلوب المرتكسة استطاع الاستعمار أن يمد للشرق طريقا محفوفًا بالكذب والضلال والفسوق، يختدعه عن الصراط السوي الذي يفضى به إلى ينبوع القوة الذي يتطهر به من شرور الماضي ¬

_ (¬1) هكذا رواه أستاذنا -رحمه الله-، والرواية المعروفة "وكُنْتَ كذئب"، والبيت للفرزدق، ديوانه: 749، وهو مرويّ هكذا أيضا في طبقات ابن سلام 1: 362، الأغاني 21: 306 (طبع الهيئة)، وستأتي هذه الرواية في مقال "لا تدابروا أيها الرجال"، ص: 360. وأحال على الشيء: أقبل، والذئب إذا رأى الدم على أخيه أقبل عليه يفترسه، ويترك عدوهما.

وأباطيل الحاضر، فيمتلك من سلطان روحه ما يستطيع به أن يهدم الأسداد التي ضربت عليه، ويجتاز الخنادق التي خسفت (¬1) حوله. لقد لقينا بهؤلاء العنت حين استحكم لهم أمر الناس فتسلطوا عليهم بالرأي وأسبابه، فخلعوا بسوء آرائهم على الشرق ليلًا من الاختلاف لا يبصر فيه ذو عينين إلا سوادًا يختفي إذ يستبين. وكانوا له قادة فاعتسفوا به كل مضلَّة مهلكة تسلّ من قلب المؤمن إيمانه، وتزيد ذا الريبة موجًا على موجه. فلما كتب الله أن يدفع مكر هؤلاء بقوم جردوا أنفسهم للحق، رأوا أن يلبسوا للناس لباسًا من النفاق يترقون به إلى التلبيس عليهم ما حذقوا من المداورة، وما دربوا عليه من فتن الرأي، وما أحسنوا من حيلة المحتال بالقول الذي يفضى من لينه إلى قرارة القلوب، حتى إذا استوى فيها لفها لف الإعصار، واحتوشها من أرجائها، ثم انتفض فيها انتفاض الضرمة على هبة الريح في هشيم يابس. وقد أقبلت اليوم على الشرق أيامٌ تتظاهر فيها الأقدار على أن تسلم إليه قيادة مدنيته الجديدة بعد طول الابتلاء وجفاء الحرمان، وجاءت مع هذه الأيام فتنٌ يُخشى أن تضرب أوّله بآخره حتى لا يقوم شيءٌ هو قائمٌ، ولا يبقى من أعلام الماضي إلا آثار التاريخ التي تقف شواهد على ما مضى وآيات لما يستقبل. فإذا كان ذلك، فإن الحكمة والحزم والجِد أن نميز الخبيث من الطيب، وأن نختار لأنفسنا قبل البدء، وأن يلي منا أمر القيادة من هو حق صاحبها والقائم عليها والمحسن لتصريفها وتدبيرها وسياستها، وإلا انفلتت من أيدينا حبال الجمهور المتحفز، فانتشر على وجوهه وتفرق، وكأن ما كان لم يكن، وكأن الفرصة قد عرضت لنا لتدع في قلوبنا بعد ذلك حسرة لا تزال تلذع بالذكرى. إن أكثر هؤلاء الذين وصفنا قد وجدناهم يمدون أعناقهم يتطاولون مرة أخرى للوقوف في مقدمة الطلائع الشرقية، ورأوا -من أجل ذلك- أن يماسحوا الرأي العام على بعض أهوائه وعلى طائفة من أغراضه، ليستمر لهم ذلك المكان الذي ¬

_ (¬1) خَسَفَت الأرض (من باب ضرب): ذهبت وغارت.

حازوه من قبل، وليكونوا في الشرق الجديد ما كانوا في أيامه السالفة. فهم يبدون له ما لا يعتقدون عليه نياتهم، ويحدثونه حديث مَن طَبَّ لمَن حَبَّ (¬1)، وهم كانوا قبلُ أعانوا عليه، إذ أفسدوا صالح أعماله بالآثم من أعمالهم وآرائهم، وهم كانوا عليه حربًا، إذ نزعوا من يديه سلاح القتال في سبيل حريته واستقلاله وانفراده بخصائصه التي ورثها وخص بها، وعمل الجيل بعد الجيل في تنقيتها له تنقية المدَرة (¬2) من بين الحَب. ليس اليوم أوان يترك الشرق عنانه في الأيدي التي لعبت به وغررت، ولا هو يوم التهاون في القليل لأنه قليل، ولا هو يوم إحسان الظن بمن يحتال للظفر بحسن الظن، ولكنه اليوم الذي يتفلت فيه من كل ضلالة وعبث، ومن كل مرتفق للنفع متشوِّف (¬3) للمصلحة، ومن كل سبب من أسباب التدمير. فإذا فعل ذلك، وأعطى كل ذي حق حقه، وامتاز المجرمون، وخلص له المخلصون واستعان بحرية اختياره على إقرار الناس في مواضعهم وعلى مراتبهم، فيومئذ يجد القدرة على انتزاع حريته من أنياب الغاصبين، ويصيب مهاد الطريق إلى الغاية التي ينظر إليها بآماله وأشواقه نظرة العامل لا نظرة الحالم المتخيل. وأخوف ما نخافه هو ما أوتى هؤلاء من الرفق واللين وحسن المجاملة، وأنهم قد أحكموا معرفة الأسباب التي بها يأخذون بأيدي الناس وعقولهم، وأنهم قد أوتوا نصيبًا من الصيت يتغلب بهم على ما يعترضهم أو يردهم، وأن الناس أسرع اتباعًا لما ألفوا وحنينًا إليه، وأن البلبلة التي تأتي مع الحروب وتمتد في أذيالها، تدع الناس حيرى غرقى يتلمسون في كل شيء شيئًا يتعلقون به، فإذا لم نأخذ من الآن في جد من الأمر، ولم نصرف جهودنا إلى اختيار الأصلح في كل شيء، فما بد من أن تنجلي العمايات بعد عن الدنيا لتطبق علينا عماية مصفقة كالظلام المصمت. ويومئذ نرتدّ على أعقابنا حسرى عُناة كأسوأ ما مر بنا من زمن، وتضيع الفرصة السانحة ونحن غرقى في بحر طام قد نزح عنا شاطئه بعد الدنو. ¬

_ (¬1) الطَّب: الخبير الحاذق بالشيء، وأصله الطبيب الماهر. (¬2) المَدَرَة: الطَّين. (¬3) تشوَّف: تَطَلَّع إلى شيء بعيد.

فعلينا الآن أن نثق بأنفسنا غاية الثقة، لأن الثقة بالنفس هي جيش الحرية، وأن نشك كل الشك في أصحاب الرأي ومن يتعرضون للإمارة عليه، لأن الشك في هؤلاء هو حارس الحرية، وأن نشتد في مطاردة الضلال والعبث، لأن هذه الشدة هي سلاح الحق وسلاح الحرية. فإذا غلب علينا التهاون في شيء من ذلك، فإنها ثغرة تتدفق منها على الشرق مرة أخرى ضلالات وفتن كقطع الليل المظلم، ويعجز أهله عن حمل أعباء الحضارة الجديدة التي اختارهم الله مرة أخرى للعمل عليها والقيام بها. فما بد من أن ينفض الشرقي بعينيه ورأيه كل بارقة وكل غمام، مخافة أن تنزل الصواعق عليه من حيث ظن الغيث. ليس في الشرق قوًى تضارع تلك القوى الهائلة التي صبت من الحديد والنار وأسرار الكون، وليس فيه ذلك الغنى غنى الاستبداد والجبروت والسياسة، وليس فيه ذلك الجمهور العظيم من العقل العامل لإيجاد القوة في كل شيء لاستخلاص المنافع من كل شيء، ولكن هذا الشرق لا يزال يحتفظ بأعظم قوة تخضع كل هذه الأشياء لسلطانها الذي ينال النصر ما تعاون ولم يتفرق. وتلك هي قوة الروح، وقوة الخلق، وقوة الاستمرار إلى النهاية مصابرة لا ذلًّا، وإيمانًا لا عنادًا، وتسليما لا غفلة، فعلينا أن نعرف فضائلنا التي توارثناها، وأن ننفي عنها ما خالطها من خبهث الجهالات القديمة التي تراكمت عليه فقعدت به أزمانًا طوالًا، حتى استرخى نائمًا والناس يقظى. إن الشرق إذا خلص من شر النفايات الطافية على سطحه، وإذا وثق بسلطان الروح السامية التي لا تذل، وإذا نهج النهج لا يتهيب، فما بدٌّ من أن يحوز من القوة ما يضارع قوة المدنية الأوربية المتهالكة، وأن يجعل في هذه القوة من النظام الروحي النبيل ما يرد كل غائلة ويمنعها كل عدوان، ويرفع الإنسانية درجات في طريقها إلى السماء. وهذه أيَّامٌ فيها عِبَرٌ كثيرةٌ لمن يعتبر، فإن حقائق المدنية الأوربية تستعلن كلها في هذه الرجة العظيمة التي ترجف بالعالم ساعة بعد ساعة. ولكن علينا أن نثق، وعلينا أن نشك، فإذا رفعت الثقة أسباب الشك، فإن الخير كله آت على طول الجهاد وترك التهاون وعلى استجادة العمل ومرابطة

النفس عليه، وعلى الأناة دون العجلة، فإن الغَرس الصغير يكبر على التعهد حتى يؤتى الثمرة، ومن استعان بأسباب الحق أُعين، ولا يهلك الناس إلا من هيبة أو تهور.

يوم البعث

يوم البعث إن أحدنا لتستبد به في بعض عمره فترات يجد فيها الحياة قد وقفت في دمه كالجدار المصمت لا تميل ولا تنثني ولا تتحول، ويجد النفس متماوتة لا ترف رفة واحدة تشعر العقل أن الحي الذي فيه لا يزال حيًا يعمل، ويجد الدنيا كأنها بساط ممدود يمشي فيه بعينيه، ولكن البساط لا يمنحه حركة من هموده وسكونه وانعدام الحياة ذات الإشعاع فيه. ويتمنى أحدنا يومئذ أن تحل بأيامه قارعة تملأ عليه الزمن ضجيجًا ونزاعًا، عسى أن يتحول كل ما يجده من الفتور إلى نشاط ويقظة وخفة تبعث ميت نفسه من رمس الحياة الخاملة. وهذا العارض إذا ألمَّ جعل الأيام مقعدة تزحف في زمانه زحفًا بطيئًا مرهقًا كأنها أمسكت على مرفأ الحياة بسلسلة ربوض، ويجعل الحي يعيش في كذب وباطل وفراغ من الروح، أي في حيرة وقلق وملل، فإذا حار وقلق ومل، جاءت أعماله كلها جسدًا لا ينبض نبض الحياة، وكذلك يختلف ما بين الحي وعمله، ويقف أحدهما من الآخر موقف المثَّال العاجز من تمثاله، يقول له: أين أنا فيك أيها التمثال الغبي؟ فيجيبه الصامت البغيض: أين أنت في نفسك أيها الأحمق؟ الحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل، فلم تتمثل في كل أنحائه حركة الروح العاملة، فذلك دليل على أن الروح مضروبة بالموت أو ما يشبهه، وأنها قد فقدت شرطها ونعتها وحقيقتها، وأنها إن عاشت على ذلك فستعيش في قبر منصوب عليها في تمثال إنسان. وإذا بلغ الإنسان ذلك أريقت كل إنسانيته على أيامه المقفرة فلا يثمر، فإن يثمر فما يطيب له ثمر، وإنما هو حسَك (¬1) وأشواك وحطب وكل ما لا نفع فيه إلا أذى وبلاءً عليه وعلى الناس. وكما يكون ذلك أمر الفرد الواحد، يكون هو أمر الأمة من الناس، والجيل ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 368)، 1940، ص: 1188 - 1189 (¬1) الحسك: عُشْبة تضرب إلى الصفرة ولها شوك يسمى الحَسَكُ أيضا، مُدَحْرَج، لا يكاد أحد يمشي عليه إذا يبس إلا مَن في رجليه خُفّ أو نعل.

من الأمم، فإن الفرد هو خلاصة الجماعة وأصل الجماعة. فالأمة تصاب بمثل الفترة التي يصاب بها الواحد منها، ولا يمنع ذلك أن يكون في بعضها ما يخرج على ضرورة هذا العارض من الفتور الذي وصفناه. وعندئذ تتمنى الأمة أن تنزل القارعة لتهز الجو الذي تعيش فيه هزة مدوية مجلجلة، ترمى في سمع أبنائها الصوت الموقظ الذي يفزع عليه النائم ينفض عن نفسه الخمول والأحلام الهائمة والأماني الباطلة المكذوبة. وقد عاش الشرق من قرون طويلة وهو يجد الحياة من حوله فاترة ساكنة بليدة ميتة الظلال عليه، وجاء بعض أبنائه من سراديب الفكر البعيدة يصرخون ليوقظوا الأحياء الذين ضُرِب على آذانهم بالأسداد، وغشاهم النعاس عجزًا وذلًّا ومهانة، ولكن هؤلاء رجعوا وارتدوا، ولم يسمع الناس، وإنما سمعوا هم صدى أصواتهم وهي تتردد في قفر خراب موحش. أما اليوم الذي نحن فيه، فقد جاءت الشرق القارعة التي حلت بديار الناس وبدياره، وهو يسمع صليل صواعقها بأعصابه كلها لا بآذانه وحدها، وهو يفيق من نومة طويلة على ما لا عهد له بمثله. فهل يحق لنا أن نؤمل أن هذا الصليل المفزع سيجعل الشرق يلم ما تشعث من حياته ليستقبل حياته الجديدة قد جمع قواه للنهضة والوثبة والانقضاض على أوثان المظالم القديمة التي تُصِبت فعَبَدَها مَن عَبَد ممن خشعوا وذلوا، وطمعوا في رحمة الطواغيت فما نالوا -على أوهامهم- إلا فُتاتًا من موائد هذه الطواغيت المتوحشة المستبدة الطاغية؟ إن الشرق اليوم يجب أن يسأل سؤالًا واحدًا يكون جوابه عملًا صارمًا نافذًا لا يرعوى دون غايته، وهذا السؤال هو أول سؤال ينتزع إنسانية الحي من الموت الفادح، إذا كان الدافع إليه هو رغبة النفس في تحقيق إرادتها تحقيقًا لا يبطل. من أنا؟ هذا هو السؤال؛ فإذا أخذ الشرق يسأل يحاول أن يصل إلى حقيقته المضمرة في تاريخه، فهذا بدء النصر على الأيام الخاملة التي غط غطيطه في كهوفها المظلمة. ولكن البحث عن الحقيقة هو أبدًا أروع شيء وأخوف شيء، فإن السائل

شاك حائر، فإذا لم يستعن في حيرته بالسداد في الرأي وطول التقليب وحسن الاختيار وبالله التوفيق، فإن السؤال سوف ينزع به وَيَنبُثُ (¬1) عليه ويأخذه ويدعه حتى تتحطم قوته على جبل شامخ قد انغرست فيه أشواك صخرية من الحصا المسنون، ويرجع مجرحًا تدمى جروحه، يتألم ويتوجع ويشتكي قد أعياه الصبر على الذي يلقاه من أوجاعه. فحاجتنا في البحث عن الحقائق التي يتطلبها هذا السؤال، أن نتدرع بقوة اليقين مما نحن مقبلون عليه من مجاهله ومنكراته، وأن نستجيش للنفس كل ما يزعها ويكفها عن الشك والتردد، وأن نقبل على دراسة أنفسنا بفضيلة المتعلم المتواضع، لا برذيلة المتعالم المتشامخ، فإن بلاء التعلم والدرس هو كبرياء الحمقى وغرور ذوي العناد والمكابرة. والأمر كله الآن بيد الشعب أفرادًا أفرادًا، فإن العادة المستقبحة في هذا الشرق أنه يكل كل أمره إلى حكوماته التي أثبتت بوجودها إلى اليوم أنه لا وجود لها في حقيقة الحياة الشرقية. فالحكومات لا تستطيع أن تضع في روح الشعب هذا الإلهام الإلهي السامي الذي يشرق نوره على الإنسانية فيجلى لها طريقها، وينفي عنها خبثها، ويغسلها بأضوائه المنهلة من أعراض البلادة وجراثيم التفاني والانقراض. ليس لشرقي أو عربي بعد اليوم أن يقف مستكينًا يقول لحكومته: افعلي من أجلي ياحكومتي العزيزة! ! بل يجب أن تكون كلمته: اعملي يا حكومتي فإذا أسأتِ فأنا الذي سيصحح أخطاء أعمالك الرديئة! ويجعل كل أحد منا همه ساميًا إلى غاية، وأمله معقودًا بغرض، ويبيت ليله ونهاره يتَدارَس في نفسه وفي أهله وفي عشيرته وفي شعبه، وفي التاريخ النبيل، وفي التراث المجيد حقيقة ما يجب أن يتعرّفه من شُعَب هذا السؤال الواحد: من أنا؟ ؟ والدعوة الجديدة إلى اليقظة الشرقية والعربية والإسلامية يجب أن تقوم على إثارة الشعب كله ليسأل كل أحد نفسه هذا السؤال: من أنا؟ فالعالم والأديب والشاعر والفيلسوف والعامل والصانع وأعضاء الأمة على اختلاف منازعهم ونوازعهم يجب ¬

_ (¬1) ينبث شَرّه: يستخرجه.

أن يشعروا في قلوبهم بحاجتهم إلى هذا السؤال، وأنهم موكلون به لا يهدأون، وأنهم دائمًا في طريقهم إلى جمع الحقائق للجواب عن هذا السؤال الواحد. أما قيام الدعوة على البحث عن طريق الإصلاح وأساليب الإصلاح وتحقيق ذلك بالطرق العلمية. . . إلى آخر ما يقال في هذا الباب من القول، فما يجدى على الأمة شيئًا إلا ما أجدى قديم ما رددوه ولاكوه ومضغوه من الآراء التي عانوا وضعها، فلما وضعوها ماتت في المهد. وليس يمنع البحث عن مثل هذه الأشياء أن نكون أول ما نكون سباقين إلى الأصل الذي يجب أن تقوم عليه هذه الأشياء كلها. إن الأمم لا يُصلحها مشروع ولا أسلوب من الحكم، ولا باب من الإصلاح، وإنما يحييها أن يكون كل فرد فيها دليلًا -بما فيه من الحركة النفسية- على أن الحياة التي يعيشها هي إثباث لوجوده. ولا يثبت الوجود للحي إلا بقدرته على الاحتفاظ بشخصيته، ولا يحتفظ المرء بشخصيته إلا أن يكون قد استوعب فهم ما يستطيع من حقيقة هذه الشخصية، وهو لا يفهم هذه الشخصية إلا أن تكون كل أفكاره متنبهة لتحليل كل شيء يعرض له، وذلك حين يكون كل همه في البحث عن أشياء هذا السؤال الواحد: من أنا؟ فإذا استطعنا في هذه الساعة الهائلة من تاريخ العالم وتاريخ الإنسانية أن نجعل طبقات الشعوب الشرقية تثور ثورتها على الفتور والجهل والغباء والبلادة وقلة الاحتفال بالحياة، وأن نجعل سلاح الثورة على أحسنه وأجوده وأمضاه في هذا السؤال، فقام كل أحد يسأل مَن أنا؟ فتجديد الحياة في الشرق حقيقة لا مناص للعالم بعدها من الاعتراف بأنها واجبة الوجود على الأرض. وأما إذا انطلقت مع أحلام النوم وفلسفة الأحلام، وجعلنا نلبس مُسُوح العلماء والمفكرين، وجلابيب الوقار والسمت. . . أي البلادة! فقد هلك على أيدينا من كان حقه علينا أن نجعل هذه الأيدي خدمًا في حاجاته ومرافقه. إن من الهراء أن تأتي مجلس قوم من بلداء المهندسين قد اختلفوا في الأرض: هل تصلح لوضع الأساس أو لا تصلح؟ فتحدثهم أنت أن الرأي أن يتحولوا إلى مكان آخر من صفته ومن نعته. . . مما يصلح عليه البناء! فإن هؤلاء إذا بدأوا أمرهم بالاختلاف على ما يجدون عنه مندوحة، فاعلم أنه لا فلاح لهم، وإنما

الرأي أن تتحول أنت عن هؤلاء البلداء إلى من تجد عنده من الانبعاث إلى العمل ما لا يجد معه وقتًا يضيعه في ترجيح بعض ما يختلف عليه على بعض آخر. فالطريق الآن إلى الحياة الجديدة أن يتحول الشرق عن أصحاب الاختلاف والمنابذة وعلم الآراء التي يضرب بعضها وجوه بعض تناقضًا وتباينًا وافتراقًا، وأن يصغى إلى حنين النفوس المتألمة التي تحن وتئن من أشواقها، فيتجاوب حنينها نغمًا روحيًا فيه حركة الحياة، وحرارة الوجد، وأضواء الأمل. وعندئذ يستجيب القلب للقلب، وتستمد الروح من الروح، وتثور الأشواق الخالدة في القلوب الطامحة والأرواح السامية، وبذلك تستحث الحياةُ الحياةَ إلى الغاية التي يرمى إليها الشرق بأبصاره من تاريخه ومن وراء التاريخ. إن عمل العامل في أول الطريق غير عمله في آخره، فنحن سوف نبدأ -وسنبدأ بإذن الله-، فعملنا الآن هو إنقاذ أرواح الملايين من الموت ومن الفتور ومن الكسل، وليس عملنا أن نضع الأسس العلمية أو السياسية أو الأدبية لأرواح موات لا حركة فيها ولا انبعاث لها. وما جدوى علم لا روح فيه؟ أو سياسة لا نشاط فيها؟ أو أدب لا قلب له؟ إن عمل من يريد أن يعمل اليوم هو أن ينفخ في صور جديد يكون صوته فزعًا جديدًا مع الفزع الأكبر الذي نحن فيه، حتى تنبعث الأمم الشرقية من أجداثها ثائرة حثيثة قد احتشدت في ساحة الجهاد تلمع قسماتها بذلك اللهيب المتضرم الذي يتوقد بالأشواق، وتلمح نظراتها لمحًا بالشعاع الظامئ المتوهج بالأماني المرهقة المتسعرة، وتتجلى في كل عضو منها تلك القوة المعروفة في العضلات المفتولة، يخيل لمبصرها أنها تكاد تنفجر من ضغط الدم في أنهارها وأعصابها لولا ما يمسكها من جلدة البدن. يومئذ يكون جواب الشرق عن سؤاله: من أنا؟ عملًا صامتًا لا يتكلم، لأنه لا يضيع أيامه في إسماع الزمن الأصم أساطيره الباطلة التي يرويها عن أحلام البلادة والجهل والخمول.

الحضارة المتبرجة

الحضارة المتبرجة أعطت هذه الحضارة الأوربية الحديثة أعظم روح من الفن كان في الأرض من لدن آدم إلى يوم الناس هذا. وهذه الروح الفنية -على سموها في بعض نواحيها إلى غاية ما يتسامى إليه الخيال الفني- تتساقط وتتدنى وتنحدر من جوانبها إلى أدنأ ما يبتذل من الفن العامي المثير لأشأم الغرائز الحيوانية في الإنسان. وبهذه الرُّوح الفنية عالجت الحضارة الأوربية مشكلة الحياة السريعة الدائبة المثقلة بأعباء العمل، فاتخذت لكل مَلَل راحة واستجمامًا بلغت بهما غاية اللذة الفنية، تلك اللذة التي تجعل الأعصاب المجهدة إذا أوت اليها كأنما تأوى إلى بيت ذي رونق وزخرف وعطر وضوء يغمغم ألحانًا من الفن الموسيقي، فإذا بلغته استنامت بإجهادها على حشايا الخز والديباج، نعومة ولينًا ترسل في الأعصاب لذة تمسح الجهد حتى يسكن ويخف ثم يتبدد. وكانت المرأة هي فنُّ الفنِّ للإنسانية، وهي الشاطيء الوادع لبحر الحياة المتموج، وكانت الظل الرطيب في بيداء موقدة تحت أشعة الشمس المحرقة، وكانت هي السكن للقلب المسافر دائمًا في طلب أسباب العيش والحياة. فجاء فن المدنية الحديثة فجعل الشاطيء بحرًا آخر يموج موجًا فنيًا مغريًا يجعل السباحة المجهدة فيه ضربًا من الراحة، وتركت الظل الرطيب حرارة مستعرة تحرق، ولكنها تحرق بلذة، وفرشت السكن حتى مدته طريقًا بعيدًا متراميًا يسافر فيه القلب سفرًا بعيدًا في أحلام وفتنة وجديد لا يتقادم. وبدأت المرأة بدءها لتجعل الحضارة فنًّا جديدًا من تجميل الحياة للمكدودين. ثم جاءت الحرب الماضية، فخرجت المرأة من وطيسها المتوقد قد إستوت ولذَّت وطابت، وتجدّدت عقلًا وروحًا وجمالًا، وشاركت أسباب ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 370)، 1940، ص: 1252 - 1254

الحضارة في إيجاد حل جديد لمشكلة الإنسان العامل المنطلق في أعماله بسرعة وكدٍّ وإرهاق وعناء، فاتخذت فن العقل السامي عبدًا تصرفه في إنشاء لذات الحياة إنشاءً عبقريًا تخشع لسلطانه النفس خشوعًا راضيًا، ثم تمشي في جنّاته. تأْبى أن تجد راحتها إلا راحة فيها ذلك السحر الناعم الرقيق الفاتن، الذي يصنعه بنان مؤنث يقول للأشياء كوني جميلة، فتكون. وأعطت العين للمرأة أشواقها المستبدة، وزَينت المرأة للعين متاعها المتجدد، فاستيقظت الغرائز كلها من هزة الأشواق وحب الاستمتاع، وانحدرتْ في دم الرجل قطرات الفتنة المؤنَّثة، وسطعت في كيانه كله نفحات العطر المعربد، وألقت المرأة ظلها على كل شيء ألوانًا تتخايل بالفن المنسَّق البديع، وصبغت كل شيء في حلاوة أنوثتها، حتى لم يبق للرجولة ولا للإنسانية هوًى في الحياة إلا وهو من المرأة وإلى المرأة وفي سبيل المرأة. وصارت المرأة هي المحور الذي تدور عليه الإنسانية في فلك الشهوات الضارية التي تنزع منازعها في حياة الإنسان باقتدار وقسر، وسار العالم كله على ذلك حتى ما يُحس ذو شعور أنه يعمل من أجل المرأة، مع أنه ما يعمل عامل إلا من أجلها. فهو في نشوة متصلة لا تنقطع في عمله، لأن الغرائز المنتشية هي التي تحكم وتصرّف، وبذلك لم يبق له من الفكر ما يستطيع به في هذا الأمر أن يتبين حقيقة التيار المسكر الذي يتدافع به في حياته. أصبحت الحضارة الأوربية بعد ذلك فنًا جميلًا يتوالى فيه زخرف الحسن مبعثرًا ومنتظمًا، لأن الأعمال كلها قد احتملتها إرادة واحدة، هي إرادة جعل الحياة أجمل مما هي لتكون أمتع للعين والقلب والنفس والغريزة، مع إسقاط مطالب الروح السامية المتحررة من استعباد الشهوات. ومن عجيب تصريف القدر في الحياة أن يجعل أعظم شيء فيها هو أقل الأشياء حظًّا من الحياة، فالروح التي هي أعظم ما وجد في الحياة، ترجع في غمرة اللذات والشهوات وأمواج الغريزة الطاغية، أقل ما وجد في الحياة، حتى ما يكون لها نصيب منها إلا ذلك الجو الأغبر القائم في عزلة موحشة، بعيدة عن

تحقيق لذاتها الروحانية الحلوة التي تبقى حلاوتها خالدةً في الهرم بعد الشباب، وفي العجز بعد القدرة، وفي السكون بعد الحركة وفي الموت بعد الحياة. وتقف الروح متغضنة جافة متكسرة تنظر نظرة متألمة إلى ما يصيب الإنسان من اللذات الطارفة الطارئة التي تتحول في نار الشهوات رمادًا بعد توقد واشتعال. فاعتزال الروح في هذه المدنية الأوربية قد جعل العالم يعيش ليحترق بأسرع ما يمكن أن يحترق، وهذا هو العلة في امتياز هذه المدنية بالسرعة والنشاط والتوقد، واحتمالها متاعب الجهد المضني في سبيل استغلال أقصى ما يستطيع الإنسان من الإنتاج في العمل، ثم امتيازها بنظام الطبقات الذي تجهد جهدها أن تستره بتلك الزينة الفنية العلمية الظاهرة، لئلا يكون معنى ذلك أن المدنية تريد أن ترتد بالناس إلى الحالة الطبيعية الوحشية اللئيمة التي ينتجها اجتماع همجي مستبد لا يعقل، وإنما يكون فيه اللذة التي تسكر العقل، والظلم الذي يثير العقل، والأثرة التي تطغى العقل. وجاء اشتراك المرأة اشتراكا عمليًّا في الحياة الأوربية العامة ليقذف الروح بعيدًا في عزلتها، ويدنى غريزة تشتاق إلى غريزة تشوق، فكذلك بدأت الأنظمة الأدبية والاقتصادية والمدنية تخضع لسلطان الأشواق وحدها دون سلطان الروح والعقل، وسلطان الأشواق هو الذي يكون غرضه دائمًا أن يضيق ويتخصص وينفرد بأسباب شوقه، وسلطان الروح والعقل هو الذي يتراحب ويشمل ويعم ويوجد المساواة بين الناس، مهما لقى من العنت والقسوة في وضع النظام الذي يريد أن يجعل به الناس أحرارًا في قيود من الإنسانية السامية المترفعة عن الذل كما تترفع عن بغى السطوة، والتي تستنكر العبودية الخاضعة كما تستنكر الحرية الفوضى، والتي تأبى تحكم طبقة في طبقة كما تأبى ثورة طبقة على طبقة. ولكن تبرج الحضارة الأوربية في ذلك الخَلق الجميل الفتان ذي الحيلة والفتنة والسحر الذي يعيش في صورة الأنثى، قسر هذه المدنية على الخضوع لسطوة الشوق المتمرّد، فقام النظام كله على هوى واحد إلى المرأة. فالعامل الذي يعمل يريد أن يستغل الحياة بين يديه لا ليعيش ويعيش معه أهله وبنوه وتلك الدولة

الصغيرة التي تسمى البيت، بل هو يعمل ليجد أولًا تلك اللذة الحاكمة الممتعة التي يستمتع بها في ظل تلك الدولة العظيمة التي تسمى المرأة. وإذا بدأت الطبقة العاملة من الشعب تجد حوافز أعمالها في شيء بعينه، كانت كل أعماله من الأدنى إلى الأعلى لا تجد في أعمالها إلا هذا الحافز الواحد، وإذا تشابهت الحوافز تشابهت الغايات، وما يفترق هذا عن ذاك إلا بأن لكل شيء أسلوبًا، ومهما اختلفت الأساليب في هذا فلن تختلف في الدلالة إلا بمقدار الأصل العملي الذي يوجب هذا الاختلاف. والمكان الذي نصت عليه عروس النفس الإنسانية في هذه المدنية الحديثة، هو الحافز وهو الغاية، ولذلك تجد هذه المدنية قد تبرجت لأبنائها تبرج الفن العبقري الحافل بأسباب التحكم المستمر في أعمال كل حي. ولما كانت هذه الحوافز على تعددها إنما هي في الحقيقة اختصاص فردي لكل واحد من الناس -لأن اللذة لا تقبل الشركة والتعدد- ولكل اختصاص عيب هو الأثرة، والإصرار على التفرد، ومعاندة الناس بعضهم بعضًا في سبيل هذا التفرد -وقع التضارب والتعادى والانتقاض في كل عمل، وصار ما يبنى لا يكاد يتم حتى يلقاه ما يهدمه، وبذلك كان نظام هذه الحضارة مع روعة ما يبنى يقابله نظام آخر في الهدم والتدمير، يخيف هذا بقدر ما يروع ذاك. ولولا هذا التبرج الفاجر في هذه المدنية، ولولا هذه الشهوات التي انطلقت ترشف من مسكرات الفن المتبرج، ولولا هذه الغرائز الجامحة في طلب السيطرة لإدراك غاية اللذة، لما كان النظام الاقتصادي الحاضر في هذه المدنية هكذا مهدَّمًا مستعبدًا مستأثرًا باغيًا، ولما تعاندت القوى الدولية هذا التعاند الذي أفضى بالعالم إلى الحرب الماضية ثم إلى هذه الحرب المتلهبة من حولنا اليوم؛ وذلك في مدى خمسة وعشرين عامًا، لم يستجمع العالم خلالها قوته، ولم يتألف ما تفرق، إلا ليضيع قوته مرة أخرى ويتفرّق. إن الحضارة في هذه السنوات التي تبعت الحرب الماضية كانت ترفه عن المكدودين ترفيهها الحُلو الغني المتبرج لتعطي القُوى العاملة نشاطًا جديدًا من

النشوة، أي من الحالة التي يفقد فيها العقل والروح قدرتهما على التحكم في نظام الحياة. وأقدمت المرأة الأوربية إقدامَها الجرئ فجلبت زينتها من كل خيال ومن كل فن ومن كل سحر، لتعين الحضارة على الحياة والبقاء في هذا الجوّ الذي اختارته وعملت له. وكان هذا الإقدام ضرورة طبيعية للمقدمات التي سبقت عصر الحرب الماضية، ثم للحرب نفسها. فإن المرأة التي فقدت زوجها، والفتاة التي أضلت حبيبها، والبنت التي أضاعتْ قَيِّمها من أب أو أخٍ أو عمٍ، . . . وبقيت في موج الحياة حَيرى متلَدّدة (¬1)، لم تجد بُدًّا من الإقدام على الطريق المجهول بجرأة واندفاع وتهور، فلما أوضعتْ (¬2) في الطريق المجهول وأسرعت خطاها جرى العالم وراءها يطلبها، فلم تجد بدًّا من أن تأخذ منه أكثر ما تستطيع لتجتلب لزينتها أحسن ما تستطيع، وتطارد الصيدُ للصائد في كل وجه حتى اصطدم العالم كله هذا الاصطدام الهائل الذي لا يدري إلى أين ينتهي ولا كيف ينتهي. وستخرج المرأة من هذه الحرب أيضًا كثيرة فاتنة حائرة لا تجد أباها ولا زوجها ولا أخاها ولا حبيبها، وستكون في عينيها تلك النظرة الحزينة الضارعة التي تقول لك: أنقذني! أنقذني! ! أنا وحدي، لا أجد من يعولني! وسينظر العالم الجديد إلى هذه المرأة بالرحمة والعطف والحنان، كما نظر للّواتي كنَ بعد الحرب الماضية. وستعمل المرأة يومئذ لتكتسب الرجل في كل وجه، ثم لا تلبث أن تُوجِد من بقايا العالم المتحطم سحرًا جديدًا لمدنية ساحرة، وبذلك يرتد العالم إلى النظام الاقتصادي الفاجر المبني على اللذة وطلبها والبحث عنها، فتكون أنظمته كلها قائمة على الاستبداد والفجور في الاستبداد. ويومئذ يبدأ تحقيق نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشراط الساعة وما يكون في أعقاب الدهر، إذ "يُرفَع العِلْمُ، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد"، وحتى ¬

_ (¬1) تَلَدَّد: وقف متحيرا لا يدري أين يذهب. (¬2) أوضع: أسرع.

"ترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به". وما يكون ذلك إلا يوم يتحقق للحياة المعنى الفني المحض الذي لا يعرف قاعدة اجتماعية يحرص على تحقيقها للاجتماع، والذي يرى الحرية انطلاقًا من قيد الأخلاق التي تقسره على مصلحة الجماعة دون لذة الفرد، وتتبرج الحياة تبرجًا هائلًا يجعل العقل غريزة جديدة تشتهى، والروح خلقًا منبوذًا حائرًا يطوف على هذه الفتن كما يطوف الصعلوك على مائدة ملكية. ويومئذ يُرفَع العِلْمُ لأنه سيُستعبَدُ في إيجاد اللذات، وتفارقه الروح النبيلة التي لا يكون العلم إلا بها علمًا، ولا يبقى في الأرض إلا الجهل الأحمق الذي لا يعرف إلا السيطرة بحماقة، والأثرة بكَلب، وتكون المرأة هي علم الحياة الجديدة الذي يمزق الرجولة القليلة في جذب الشهوات العنيفة، ويغرق الفضيلة في طوفان المتعة الجميلة التي تبعث في الأعصاب المجهدة نشوة مسكرة.

1 - اقتطف!

1 - اقتطف! قرأت سؤال الأخ الفاضل "رشاد عبد المطلب"، وكنت أرجو أن أكون مخطئًا، كي أقرَّ له بخطأ ما جاء في قولي: "وجعل يقتطف منها حيث أراد"، وذلك لحسن أدبه، ولطف سياقه. والقول في "اقتطف" إنها خطأ، وإنها لم ترد في كتب اللغة: كاللسان والأساس والقاموس والنهاية والمصباح. . . إلى آخر هذه الجملة -قول قديم، قد ذهب إليه المتأخرون من فضلاء المشتغلين باللغة في عصرنا وما قبله بقليل. ولو لم يرد هذا الحرف في اللغة لوجب أن يوجد للغة وجوبًا بيانيًا من عدة وجوه، وليس هذا موضع تفصيل ذلك ولا هذا أوانه. وأنا لا أستطيع الآن أن أقف في الطريق لأتلفت إلى ما ورائي مما قد مضى زمنه. وإذ كان لابد في إقامة الدليل على صواب هذا الحرف، من شاهد عربي، فنحن نأتي به، وذلك من قول نابغة بني شيبان "عبد الله بن مخارق": تُسْبِي القلوبَ بوجه لا كِفاء له ... كالبدر تَمَّ جمالًا حين ينتصفُ تحت الخمار لها جَثْل تعكِّفُه (¬1) ... مثل العَثاكِيل سودًا حين تقتطف لها صحيفةُ وجهٍ يُستضاء به ... لم يعل ظاهرها بَثْرٌ ولا كَلَفُ وفي قديم الشِّعر من الرجز ما أحفظه ولا أُثبت موضعه: "يقتطِفْنَ الهاما" (¬2)، يصف السيوفَ. وبيت النابغة كافٍ في الدلالة والشهادة، وأدع ما وراء ذلك لمن يجعل همَّه اقتناص الكلمات الهاربة من معاجم اللغة. وما دمنا في ذكر شاهد من شعر نابغة بني شيبان، نقول: إن أبا الفرج الأصفهاني زعم أنه نصراني، لأنه زعم أَنه وجد في شعره يحلف بالإنجيل ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 370)، 1940، ص: 1271 (¬1) الجثل: الشعر الغزير. تعكفه: تُعطِّفه وتُعَوِّجُه. (¬2) الهام: جمع هامة، وهي أعلى الرأس.

2 - باريس!

والرهبان وبالأيمان التي يحلف بها النصارى، وذلك كله وهمٌ فاسدٌ، استغرّ به صاحب شعراء النصرانية لويس شيخو اليسوعيّ، فاحتمله فيمن احتمل من شعراء العربية. وشعر النابغة ليس فيه حرفٌ واحدٌ مما زعم أبو الفرج. هذا، وأبوه "مُخَارِق بن سُلَيْم الشيباني" صحابيٌّ جليلٌ روى له أحمد بن حنبل في مسنده ج 5 ص 294، والنسائي ج 7 ص 113، وروى عبد الله (هذا الشاعر) وأخوه "قابوس بن مخارق" عن أبيهما. وكان عبد الله يكثر رواية الحديث، ثم انصرف إلى الشعر، وله في انصرافه إلى الشِّعر خبرٌ. 2 - باريس! قرأت في عدد الرسالة الماضي كلمة يذكرني فيها صديقنا الأخ "زكي مبارك" ويزعم أنه قرأ في "الدستور" كلمة بإمضائي، عدها هو تعقيبًا على المقال الذي نشره في "الرسالة" بعد سقوط باريس تحت أيدي الألمان. ولو أحسن الدكتور زكي فأخرجني من عداد من ذكر لكفى نفسه مؤونة الفكر في أنى أتعقب كلامه. ولو كان ما قاله الدكتور زكي صحيحًا لكان للسان مقال غير الذي قلت. والذي كتبته كان حديثًا عامًّا لم أرد به أحدًا بعينه وخاصته، وكثير غير الدكتور بكى باريس وناح، فكيف يريد أن يخص نفسه دون سائر مَن أَعْوَل على هذه المدينة؟ وإذن فسائر ما جاء في كلمة الدكتور زكي ليس يعنيني. ولا هو مما أستطيع أن أشتغل به، والمذهب الذي يجري فيه الدكتور غير مذهبنا، وبينهما من الفرق ما يوجب علي أن أصرف خطابه -في هذا المكان من الرسالة- إلى من شاء غيري. وللدكتور مني تحية، وعليه سلام.

وزارة المعارف العمومية عدوان لطيف

وزارة المعارف العمومية عُدْوان لطيف حضرة المحترم ناظر مدرسة. . . الثانوية قررت الوزارة (أي وزارة المعارف) كتاب المكافأة لأحمد بن يوسف للسنة التوجيهية في العام الدراسي الحالي 40/ 41، والوزارة تطبع هذا الكتاب الآن بالمطبعة الأميرية، بعد أن عهدت في تهذيبه وتصحيحه وشرحه إلى حضرتى الأستاذين أحمد أمين عميد كلية الآداب، وعلي الجارم بك وكيل دار العلوم. "وقد ظهرت أخيرًا لهذا الكتاب طبعة أخرى قامت بنشرها المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، وهي طبعة فيها فحش وتحريف ونقص في الشرح والتعريف بأعلام الرجال، وغير ذلك من العيوب". فنلفت نظر حضرتكم إلى أن الطبعة التي ينبغي استعمالها والاقتصار عليها بالمدارس الأميرية والحرة هي طبعة الوزارة التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريبًا. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام 11/ 11/ 1940 السكرتير العام حسن فائق * * * وكان من قصة هذه النشرة الظريفة التي أذاعتها وزارة المعارف على المدارس الأميرية والحرة، أني نشرت كتاب المكافأة لأحمد بن يوسف في المكتبة التجارية الكبرى في 14/ 10/ 1940، بعد أن حققت أصله وراجعته على الأصول، وشرحت ما يعرض للقارئ من غامضه، وكتبتُ لأحمد بن يوسف ترجمة وافية جمعتها من بين سطور كتب التاريخ والتراجم، إذ أن ترجمة أحمد ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 389)، 1940، ص 1826 - 1828

ابن يوسف لا تبلغ عشرة أسطر في الكتاب الفرد الذي ترجم له، وهو معجم الأدباء لياقوت الحموي. وكان حقًّا على وزارة المعارف، أو على الأصح، كان من الأدب المتبع أن تشكرني على الجهد الذي بذلته في تصحيح هذا الكتاب. ولكن الوزارة أبت أن تكافئ الجميل من العمل بالجميل من القول، وقذفت الكتاب وناشره وطابعه قذفًا جارحًا لا مسوغ له، وإذ كنت أعلم علم اليقين أن ليس بيني وبينها عداوة مستحدثة، أو حقد متوارث، فقد أذهلني اجتراء هذه الوزارة على الطعن في الكتاب طعن المنتقم المتضرم المغيظ الذي يفقده الغيظ سلطان الإرادة الحكيمة. والقارئ يعلم -ووزارة المعارف تعلَم أيضًا- أن القانون يقدُعها ويردها عن الطغيان كما يقدعني ويردني، وأن هذه الجملة التي وضعتها بين الأقواس في نشرة الوزارة، إن هي إلا حشو لا معنى له، وأن قد كان لوزارة المعارف مندوحة عنها، وأن الكلام يستقيم بإسقاطها، وأن أمرها لنظار مدارسها وأساتذتها وطلبتها واجب الاتباع. فإذا قالت الوزارة لهؤلاء إن الطبعة التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريبًا! ! هي الطبعة التي ينبغي استعمالها والاقتصار عليها، فهذا كفاية وفوق الكفاية في منع الأساتذة والطلاب! ! من اعتماد طبعتي في الدراسة. ومع ذلك، فمما لا شك فيه أن السنة الدراسية الحالية، قد انقضى من عمرها أكثر من الثلث ولم تصدر طبعة وزارة المعارف. أفيكون ثمة بأس على الأساتذة والطلبة أن يوفروا من الوقت المضاع أشهرًا أخرى بالنظر في نسختي، حتى إذا ظهرت نسخة وزارة المعارف اتبعوها وألقوا نسختي ومضوا في دراستهم في كتاب الوزارة؟ إنه مهما يكن في نسختي من العيوب، فلا يمكن أن يكون الأصل الذي طبعتُه من الكتاب غير الأصل التي تطبع عنه وزارة المعارف، ومادام الأصل واحدًا، والنص واحدًا، فليس على الأساتذة والطلبة بأس. فهل تستطيع الوزارة أن تدَّعي أن نص الكتاب الذي طبعتُه -مهما يكن فيه من الخطأ والتحريف- غير النص الذي يطبعونه؟ وبالطبع نقول: لا وكلا، وليس معقولًا. وإذن، فالجميل الذي أوليته وزارةَ المعارف، وإخوانَنا الأساتذة والطلبة،

جميل يوجب الشكر على من قدَّم له. وأنت تعلم -ووزارة المعارف تعلم أيضًا- أن الأساتذة والطلبة مكلفون بشراء كتاب الوزارة كما اشتروا كتابي. فتكليف الأساتذة والطلبة بالاقتصار على طبعة الوزارة التي ستصدرها المطبعة الأميرية قريبًا! ! إيجاب عليهم بشراء كتابها وطبعتها، فليس يضير الوزارة على ذلك شيء، مادامت ستنتهي إلى النهاية الطبيعية وهي بيع كتابها ورواجه بين المكلفين بدراسته. ونحن نعلم -ووزارة المعارف تعلم أيضًا- أن المفروض في أمر هذه الكتب، أن الوزراة لا تتجر بها للربح، فإذا فُرِضَ وهذا مستحيل بعد أمر الوزارة للمدارس بالاقتصار على طبعتها التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريبًا! ! -أن بقيت جميع نسخ الوزراة معطلة موقوفة لا تباع ولا تشترى ولا ترهن! ! كالأوقات والحبوس، لما كان في ذلك شيء، مادام الغرض من طبع هذا الكتاب قد حقق للطلبة والأساتذة على ما قد يكون في طبعتي من العيوب. وبعد الاقتصار على هذا، أظن وزارة المعارف قد استطاعت أن تفهم الآن مقدار ما أساءت به، مع صرف النظر عن المسئولية الأدبية والقانونية التي وقعتْ فيها في نشرتها التي أذاعتها على المدارس الأميرية والحرة. وسأدع المسئولية القانونية التي يكفلها القانون لي ولصاحب المكتبة التجارية الكبرى إلى أن يحين حينها وتأخذ طريقها الذي تقتضيه، وأنصرف الآن إلى المسئولية الأدبية التي أغمضت فيها هذه الوزارة بغير رفق ولا حكمة ولا حرص. إن عمل وزارة المعارف ليس إلا الإشراف على التعليم، وكل أمر أو نهي يصدر منها يجب اتباعه على المدارس الأميرية والحرة ونظارها وأساتذتها وطلبتها، هذا ما نعلمه -وأظن وزارة المعارف تعلمه أيضًا- وليس من عمل وزارة المعارف فيما نعلمه -وأظن هذه الوزارة تعلمه أيضًا- أن تكون حكما قاضيًا على ما يصدر من الكتب غير مرسوم برسمها واسمها، وإن كانت هذه الكتب مما قررته الوزارة لمدارسها. ومادمتُ لم أُشر بحرف واحدٍ في كتابي إلى أني قد نشرته لطلبة السنة التوجيهية للمدارس الأميرية والحرة، فليس من حق وزارة المعارف أن تعرض للحكم عليه أو الطعن فيه على الأصح.

ومع ذلك فأنا وأنت نعلم -ووزارة المعارف تعلم أيضًا- أن حكمها على الكتاب قد صار، وأن هذا الحكم ليس نقدًا ولا شبيهًا بالنقد، وإنما هو طعن وتجريحٌ وطغيانٌ كلاميٌّ مُؤذٍ كان يجب على هذه الوزارة أن تترفع عنه. ومع ذلك كله، فالوزارة تقول إن هذه الطبعة التي نشرتها المكتبة التجارية الكبرى فيها "فُحْشٌ"، هذا الحرف، بهذا النص، على هذه الصورة، في هذا الوضع! فأنا أتحدّى هذه الوزارة في هذا المكان وأطالبُها باستخراج "الفحش" الذي وقع في طبعتي، أين هو؟ فإذا فعلتْ، فسنرى أيُّ الفُحشين أفحش، أهذا الذي تدعيه وزارة المعارف على كتابي ادِّعاءً، أم الذي هو قائمٌ مقررٌ في الكتب التي قررتها وزارة المعارف وطبعتها وأذاعتها، وأمرت مدارسها بدراستها أعوامًا طوالًا؟ وتقول وزارة المعارف إن في طبعتي "تحريف"؛ هذا الحرف، بهذا النص، على هذه الصورة، في هذا الوضع! فأنا أتحدَّى هذه الوزارة أيضًا في هذا المكان، وأطالبها باستخراج هذا "التحريف"، ليعلم من لم يكن يعلم أي التحريفين أقبح، ما أقع أنا فيه، أم ما وقعتْ فيه هي في الكتب التي صححتها وشرحتها وأذاعتها وقررت دراستها أعوامًا طوالًا؟ ومع ذلك كله، فأنا أقرر في هذا المكان أن "الفحش"! هذه واحدة، وأن "التحريف"! وهذه أخرى، ليسا سوى دعوى من الوزارة لا برهان لها عليها ألبتة، وأن الجرأة والطغيان قد بلغا مبلغًا في هذه النشرة الرسمية، وأن كتب وزارة المعارف قد عرضت لي صفحتها، فإن شئت قضيت وإن شئت أمسكت. أما ثالث أقوال الوزارة من أن الكتاب فيه "نقص في الشرح"، فليس صحيحًا بوجه من الوجوه، إذ كان شرحي مختصرًا مبينًا عن وجه العبارة والمعنى؛ وقاعدتي في الشرح أن أدع نص أصحاب اللغة في شرح اللفظ اللغوي، إلى عبارة أعبر بها معنى الجمال على الوضوح والبيان. وبذلك أسقط من الكلام ما تحشو به وزارة المعارف كتبها من الشروح التي لا معنى لها، وسأضرب في كلمة أخرى أمثلة كثيرة أزعم أنها هي التي بغضت إلى الطلبة أكثر كُتب الأدب التي وزعتها عليهم، وصرفتهم عن الاستفادة منها.

هذا، ومن قرأ كتاب أحمد بن يوسف يعلم -ولعل وزارة المعارف تعلم أيضًا- أن الكتاب مجموعة من القصص القصيرة، في عبارة قريبة واضحة ليس فيها من غريب اللغة إلا القليل، ورب غريب فيها يبين عنه سياق الحكاية، فلا معنى لإرهاق نظر الطالب والتهويل عليه بالشروح المستفيضة التي تخوفه أو تثقل عليه. ورب شرح قصير موجز واضح يكون أعظم بركة على القارئ من تَعالُم غليظ ثقيل وتقعر. وعندنا أن الأسلوب الذي جرت عليه وزارة المعارف في شرح كتبها أسلوب غير منتج إلا أسوأ النتائج، لأنه يصرف الطالب عن الاستمتاع بالنص، وعن التقليب له والنظر فيه، وعن التردد لطلب المعنى بالجهد القليل، وتجعله حائرًا بين الكلام الذي يقرأ وبين الشرح الطويل الممل الذي تتدلى حواشيه على كل كلمة أو حرف من عبارة قصيرة قريبة المعنى دانية البيان، وأن هذه الطريقة المضحكة هي التي تجعل الطالب لا يهتم كثيرًا بالإصغاء إلى أستاذه اعتمادًا على ما يتوهمه في الشرح الطويل العريض من الإبانة الصحيحة عن المعنى، فإذا فعل ذلك، ثم رجع إلى كتابه وقرأ شرح الشراح وأصحاب الحواشي لم يفهم، وربما أضله هذا الشرح عن بعض الصحيح من الفهم الذي فهمه قبل قراءة الشرح. وأنا لا أقول هذا عن رَجْم وَتَظَنٍّ بل أقوله وقد وقفت عليه من ملاحظتي لأكثر من عشرين طالبًا من أبنائنا الذين كتب عليهم أن يتعلموا العربية في وزارة المعارف. ولست أشك أن أكثر أساتذة العربية في المدارس الأميرية، لو أتيح لهم أن يتكلموا لأظهروا هذه العيوب كلها لما يقاسونه مع الطلبة في دراسة النصوص العربية التي شرحتها وزارة المعارف. ومع كل ذلك، فأنا أوافق وزارة المعارف على أن كتابي فيه نقص في الشرح! فهل يعيبه هذا! إنما العيب أن يطول الشرح ويكثر، وتلج لجاجته، ثم يكون هذا الشرح تضربًا في خطأ بعد خطأ، وفي سوء فهم للعبارة، وفي إبهام آت من قلة المعرفة بأساليب العرب في كلامها. وأنا أتحدى وزارة المعارف أن تخرج من كل ما صححت من الكتب، بل من كل ما أكتب، شيئًا يدل على ذلك.

وما دامت الوزارة تأبى إلا أن تعتدي عليَّ فسأضع يدها على ضرب مدهش من الشروح التي وقعت فيها فيما طبعت من الكتب، يدل كل الدلالة على أن الشراح لم يفهموا حرفًا واحدًا مما قرأوا، وأنهم ينقلون من الكتب ما يصادفون من المعاني، لا ما توجبه الجمل من معاني اللغة، وأنهم لا يتذوقون الأدب إلا بالوظيفة وعن طريقها! ! أما النقص في التعريف بأعلام الرجال -كما تقول وزارة المعارف- فلا أظن أحدًا قرأ كتاب أحمد بن يوسف ورأى ما فيه وعلم غرض مؤلفه منه، إلا وجد من عيب وزارة المعارف لكتابي بهذا النقص -كما تسميه- أسلوبًا مضحكا في النقد. أتظن الوزراة أنها تستطيع أن تعرف بفلان وفلان وفلان ممن ذكر في هذا الكتاب في سطرين أو ثلاثة، ثم يكون هذا تعريفًا؟ كيف تستطيع هذه الوزارة أن تعرف قارئ كتابها في سطرين أو ثلاثة: بإبراهيم بن المهدي، وابن طولون، وابن بسطام، والمأمون، وابن مدبر، وخاله العشرى، وابن أبي الساج، وخمارويه، وفلان وفلان ممن لا نحصى كثرة؟ ؟ وهل تعتقد أن التعريف بأحد هؤلاء إن هو إلا ذكر سنة مولده أو سنة وفاته أو وظيفته في الدولة؟ وقضى الأمر الذي فيه تستفتيان! هذه طريقة في التعريف بالرجال مضحكة، لا نلجأ نحن إليها ولا نقرها، ونعلم أن لا فائدة فيها للطالب أو غير الطالب بتة. وستخرج طبعة وزارة المعارف التي تطبع بالمطبعة الأميرية قريبًا وسنعلم كيف فعلت! وندلها على الصواب في كل ذلك إن شاء الله. وأخيرًا. . . وأخيرًا، أيها القارئ، تقول وزارة المعارف بعد أن أنهكها تعداد عيوب كتابي، وبلغ منها، وكَدَّها، وأَوْهَى مَتْنَها، واستصفى نشاطها، وحيَّرتها الكثرة التي لا تحصى من بلادتي وغفلتي وأخطائي. . . أخيرًا تقول: وفي هذا الكتاب الذي نشرته: "غير ذلك من العيوب": {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: 45]. وأخيرًا أيضا، أشكر وزارة المعارف على حسن جزائها في كتاب لم أتقدم به إليها، ولكني تقدمت به إلى قراء العربية ثم أشكرها على توصيمها لاسمي واسم

هذا الكتاب بالنشرة التي أذاعتها على مدارسها. وإذا كانت وزارة المعارف تجهل من أنا، وما عملي، وكيف هو -ووزارة المعارف تجهل أشياء كثيرة- فكل ذلك لا يبيح لها أن تتهجم على الناس بالسئ من القول. إني أعلم كيف كتبت هذه النشرة، ومن الذي أملاها ولأي غرض أمليت على من كتبها، ومن المضحك أن يجوز إنسان كل درجته في هذا الأمر تأتي من قبل وظيفته. أو أن يجرؤ إنسان كل علمه يأتيه من قبل شهادة نالها، ثم من وظيفة قدر له أن يحرزها أو تحرزه، ثم من ثالثة الأثافي التي هي أَلحظ أقول: من المضحك أن يجرؤ أحد هذين أن يدعى لنفسه من الحكم على عمل أعمله مستترًا وراء نشرة تصدرها وزارة المعارف وهو لو وضعته بين ثلاثتي التي أمسك بها هذا القلم لمزقت كل الوشى المصنوع الذي يكتسبه ويتجمل به. . . ومع هذا فسوف نرى.

إمتاع الأسماع

إمتاع الأسماع قرأت -في الرسالة عدد 412 - كلمة الأخ الصديق الأستاذ محمد عبد الغني حسن عن كتاب "إمتاع الأسماع" الذي ألّفه المقريزي، وكان لي شرف تصحيحه وشرحه، وإني لأشكر للأخ الكريم ثناءه وحسن ظنه بأخيه. جزاه الله عني أفضل الجزاء. وقد استدرك الأخ الأستاذ بعض ما فاتني من الخطأ، فله الشكر على اهتمامه وحسن تهَدّيه ويقظة عينيه، وإن صحّ لي أن أقول شيئًا تعقيبًا على استدراك الأستاذ، فلست أزيد على أن التصحيح المطبعي صناعة وفنّ قبل أن يكون علمًا ورواية. وكل ما استدركه -إلا الفقرة الأولى يدخل في باب تصحيح الأخطاء المطبعية، فالأخيرة منها مثلًا، وهي: "من هوزان" ص 401 مذكورة في هذا الوجه نفسه مرات كثيرة على الصواب "هوازن" بتقديم الألف على الزاي- لا كما جاءت في تصحيح الأستاذ نفسه "هوزان" كما في الإمتاع! ! -ولكن تَنَبُّه الأستاذ إلى مثل هذه الأخطاء يدل على دقة وبصر، وأنه يحسن التصحيح المطبعي وذلك لما جُبِل عليه من الهدوء والوداعة. وأما الفقرة الأولى من استدراكه، وهي التي جاء فيها على هذا الرجز: ص 222 "اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصَدّقنا ولا صَلَّينا . . . . إن الأُلَى قد بغوا علينا ... . . . . وقوله: إن صواب الأول: "لا هُم لولا أنت ما اهتديْنا، وإن صواب الأخير: "إن الألى لقد بغوا علينا"، ثم تعجّبُه من أن يفوتني ذلك الاختلال في وزن الرجز، وأنا شاعر وعروضيٌّ! فإني أبرأ إليه من نسبة العروض، فطالما أَفْسَد العروض ما بيني وبين أصحابي من الشعراء، وليس الأمس ببعيد. ورواية الأول: ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 413)، 1941، ص 742 - 743

"اللهم لولا أنت ما اهتدينا". هي الواردة في الأصل، وفي البخاري وفي مسلم (شرح النووي، ج 12، ص 166)، وفي أكثر كتب التاريخ والسير والحديث. وقد جاءت الرواية التي ذكرها الأستاذ في كتاب الطبقات الكبير لابن سعد ج 2 ص 51، وجاءت رواية أخرى: "والله لولا الله ما اهتدينا" في البخاري ج 5 ص 109، وأخرى: "والله لولا أنت ما اهتدينا" في مسلم (شرح النووي) ج 12 ص 170، وقال النووي في ذكر الرواية الأولى ج 12 ص 166 ما نَصُّه "كذا الرواية"، قالوا: وصوابه في الوزن "لاهم"، أو "تالله"، أو "والله لولا أنت" كما في الحديث الآخر: فواللهِ لولا الله. . . .". رواية الأخير: "إن الألى قد بغوا علينا" هي الواردة في الأصل أيضًا، وفي البخاريّ في مواضع، وفي مسلم ج 12 ص 171، وفي أكثر كتب السير والتاريخ والحديث. وجاء في مسلم ج 12 ص 170: "والمشركون قد بغوا علينا"، وفي ص 171 منه ما نصه: "وربما قال [يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] "إن الملا قد بَغَوْا علينا"، وهي في اختلال الوزن كالرواية الأولى التي أثبتناها. ومثلها في ذلك أيضًا رواية من روى: "إن الأعادي بغوا علينا". وقد نصّ شُرّاح كتب السير، وشراح البخاري على أن هذا الرجز ليس يتَّزِن (انظر العيني ج 14 ص 132، وابن حجر ج 7 ص 309)، ولم يصححوه أو يبدلوه إلى ما يتزنُ، مما جاء في الروايات الأخر، كالذي ذكر الأستاذ "إن الألى لقد بغوا علينا"، وهي رواية ابن سعد ج 2 ص 51. فإذا كان أصحاب العلم والدراية والبصر بالرواية لم يفعلوا ما أرادني الأستاذ على أن أفعله -من حيث أني عَروضي كما يقول، فلى العذر تابعًا لهم، مقتديًا بهم، حريصًا على ألّا أبدِّل أو أُحرف ما اتفق عليه الأصل الذي أطبع عنه، والروايات المتعددة التي جاءت في أصحّ الكتب إسنادًا أو رواية بعد كتاب الله. هذا، والكلام عن مثل هذا الرَّجَز -وما يقع في بعض أوزانه من الاختلال والاضطراب- يفضي إلى القول في المواضع التي كان يُنْشَد فيها، وكيف يكون إنشادُه؟ ولِمَ يُتجاوز فيه عن الوزن؟ ولو نظر الأستاذ الشاعر إلى صلة هذا الرَّجَز

بما كان من الصحابة في حفر الخندق، وحملهم التراب في المكاتل، وسيرهم مصعّدين ومصوِّبين، متوافقين في الإنشاد يمدُّون به أصواتهم مختلطة مرتفعةً، لعَلِم عِلْم ذلك، ولكفانا مؤونة الجرى وراءَ العروض، أهو يتَّزنُ أو لا يتزن؟ حتى يبلغ بنا ذلك إلى تبديل الروايات وتحريفها، وقد جاءت عمن كان أعلم منا بالشعر والعروض. وأخيرًا، أشكر للأستاذ هذه الهمة التي دفعته إلى النظر والتنقيب، والبحث والتنقير؛ وأثنى عليه بما هو له أهل، وأسأله أن يتغمد خطأ أخيه بما أعرفه من نبله وعلمه وفضله، والسلام.

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة (أيام حزينة)

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة أيام حزينة " قال عمر بن أبي ربيعة. . . .": وجاء ابن أبي عَتيق [هو عبد الله بن محمد أبي عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق]، فوالله لَأَن كنتُ بين ضِرْسين من الجبل يدوران عليَّ دَوَرانَ الرَّحَى، أهونُ عليَّ من أن أكون لقيتُ هذا الرجلَ الحبيبَ! كانَ رجُلًا ضَرْبًا خفيفَ اللَّحم أحْمَر ظاهِرَ الدَّم كأنّ إهابَه شُعْلَةٌ تَشِبُّ (¬1) وتتلهَّب، أفرعَ فينَانَ الشَّعَر، مخروطَ الوجه، أزهَرَ مُشْرِقًا كأنّ بين عينيه نجمًا (¬2) يتألّق، يُقْبل عليك حُرُّ وجْهِه بعينين نَجْلاوين قد ظَمِئ جَفْناهما حتى رقَّا، يرسِلُ إليكَ طَرفَهُ فترى الضحكَ في عينيه خِلقَةً لا تكلّفًا، ما أَحسبني رأيتُه مَرة إلّا خِلْتُه دُعابةً قال لها الله: كوني! فكانَتهُ. وكأني به قد دَخَل على أمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وهي تَكِيد بنفسها (¬3) -في مرضها الذي ماتت فيه- يَقُول: كيف أصبحت يا أماهُ؟ جعلني الله فِدَاكِ! فتقول عائشة: أجِدُنِي ذاهبةً يا بُنَي! فيقول: فلا إذَنْ يا أمَّ المؤمنين! ! فتتبسم عائشة وتقول: حتى على الموت يا ابن أبي عتيق! ! فيقول: أَرضاكِ الله يا أمَّاه! لو جَاءني الموتُ كأكرهِ ما يأتي على حيٍّ، ما تركتُ له دُعابتي حتى يَستضحكَ، فيرحَل بي عن الدُّنيا بوجْهٍ غير الذي جاء به! فلو أنّ امرأً من عُرض الناس لا أَعرفه، جاءني فزعم أنّ نجمًا في السماءِ ¬

_ (*) الرسالة، السنة العاشرة (العدد 449)، 1942، ص: 194 - 196 (¬1) الضَّرْبُ: الرجل الخفيف اللحم. الإهاب: الجِلْد. (¬2) الأفرع: الطويل الشعر. (¬3) تكيد بنفسها: تجود بها، وذلك عند الموت.

بكى، وأن القَمَر مَدّ إليه مثلَ اليَد فكفكف من عَبَراته، لكانَ أقربَ إلي منْ أنْ يأتي آتٍ يقول هذا ابنُ أبي عتيق يمشي في الناس بعينين ضارعتين خاشعتين ذاهلتين يُعرفُ فيهما البُكاءَ! رجل صالح تقي خفيف الروح نشوان القلب، قد انحدر إليه من جده [عبد الرحمن بن أبي بكر الشاعر]، حنين الشاعر حين يرى الدنيا كالغانية المنعّمة تتصبَّى له وتتقتَّل، فيحن إليها بصبَوات الشباب المتوهّج. . . وآب إليه من جده [أبي بكر الصديق] حَنَانُ التقى وهو يرى الدنيا كالناشئة الغريرة لا تزال تنشُدُ تحت جناحه دِفءَ الأبوّةِ فتأوى إليه وتتضوّرُ، فهو يخفض لها من رحمة الوالد المتحنن. . . فابن أبي عتيق من هذين الأبوين كالربيع: جمال وشباب، ورقة وحنان، وفرح لا ينتهي. وكنتُ أجدُه فيما يتوقَّدُ علي من الكُرَبِ كالغمامة الغادية: ظِلٌّ ورِيٌّ، ثم لا يزالُ بي حتى أَنام إلى دُعابته، فإذا آلامي تطوف بي من بعيد كأنها أَحلام، بعد أن كانت في دمي جمرةً تتلذّعُ. ولقد أكونُ مما أستعصي عليه بأحزاني، فأريدُ أذهب عنه نافرًا أبتغي أن أعكفَ على آلامي كما يعكُفُ العابد على بُدّه (¬1)، فما هو إلا أن يأخذَ ينشد: مَتى تَرَ عَيْنَي مالكٍ وجرَانَه ... وجنبَيْه، تعْلَم أنه غيرُ ثائِر (¬2) حِضَجْرٌ، كأمٍّ التَّوْأمَينِ توكلَتْ ... على مَرفِقَيها مُستهِلَّةَ عاشِر (¬3) فينشد أغربَ إنشادٍ وأعجبه، ولا يزال يحرِّك ويشير ويمثِّل، فوالله ما من ساعة أنشدنيها هذين البيتين، وأقبل عليَّ يُريني ما يأتي به، إلا نَبَع الضحك من قلبي دفعة حتى ما أتماسك معه. فكيف به اليوم وقد سكنَ كأنه دمعةٌ خافتة تئنُّ تحت الزفراتِ، يمشي إليَّ ¬

_ (¬1) البُدّ: الصنم الذي يُعْبَد، وهو فارسي معرّب. (¬2) الجران: باطن عنق البعير، واستعاره الشاعر للسخرية. (¬3) الحضجر: العظيم البطن الواسعه، وهو حرف ساخر الجرس والحركة.

كأن أيَّامه تطوفُ به ثاكلاتٍ نائحاتٍ، يغض طرفه كأنما يُمسك عبرةً همَّتْ هاربة من الأسر، يطأطئ هامته كأنما يقول للزمن: تَخَطَّ، فلم يبق بيني وبينك عَملٌ أيها الجبَّار، يستكين حتى لإخالُه يجمعُ أطرافَ نفسه لا يزاحمُ أفراحَ الناس بما يريدُ أن يتنفَّسَ من أحزانِه. لك الله يا ابن أبي عتيق! لقد كانتْ لك كالجدول النَّامي النمير: هو سرُّ الأرض، وسرُّ العود، وسرُّ الزَّهر، وسرُّ العطر؛ فلما جَفَّتْ عنك همدت أرضُك، وظمئ عودُك، وصوَّحَ (¬1) زَهرُك، وتهاربَ عطرُك. . . زوجةٌ كانت تستودع روحك مع كل شارق، ما تتملَّى به أفراحك ولهوك ودُعابتك، فتخرج إلى أحبابك لتحمل عنهم همومهم فتغرقها في ذلك البحر الخِضَمِّ من الفرح والابتسام والرضى! * * * ودخل ابن أبي عتيقٍ فسلَّم سلام الذاهل المتوَلِّه، ثم جلس كأنما هو يلقى عبئًا ثقيلًا كان يمشي به، ثم نَظَر في عينيَّ بعينين نديَّتين ترى في غَوْرهما ذلك التنُّور المتضرِّم يتقاذفُ شُعَلَه في ثنايا النفس وفي مسارب العاطفة. وأدامَ النَّظر لا يرفعه عني كأنما يقول: انظر واعرفْ ولكن لا تتكلَّم! فأشهد أني افتقدتُ ما أقولُ أعزِّيه به أو أُرفِّه عنه، بل كأنما أفرغَ بعينيه في عينيَّ من أحزانه، حتى أراني أجد مسَّ النار في صدري وهي تستعر. ولكني خفتُ على صاحبي ورفيقي إن أنا سكت له، أن أكون قد خلَّيت بينه وبين همِّه، وإن أحدنا لو قَعَد يمارسُ أحزانه يومًا بعد يوم لصرعتْه. أجلْ! وإن الحزن ليهجُم على النفس كالسَّبُع الضاري، حتى إذا عَبَر إليها وقف يستأنس متلفِّتًا يريد ما يختلج أو يتحرَّك، فما هو إلا أن يُهوِي إليه فيبطش به، أو ينشِب فيه براثنه ينفُضه ثم يقضقضُه حتى يهمَد، وإذا خُلِّي السبع لا يُذَاد ولا يُطْرد يبقى حتى يتأبّد ويستوحش. ولا يزال على عادته يستمرئ كل ساعة فريسته يغمس في دمها أو يَلِغُ، ثم لا يكفُّ حتى تكفَّ الحياة عما ينبض أو يتنفَّس. ¬

_ (¬1) صَوَّح: جَف ويبس.

وأخذْت أزوِّر له الأحاديث في نفسي. فلما هممت بها لم أقل إلا ما يقول الناس: عزاءك يا أبا محمد! فوالله كأنما هِجْت بها الطير الجثوم، وظل وجه ابن أبي عتيق يروح الدم فيه ويغدو، وجعلت عيناه ترسلان على نظراتهما الدمعَ الذي لا يسفح، والعَتْب (¬1) الذي لا يتكلم، وظلّ صامتًا، وراحت نفسي تنخزل عما أقدمت عليه، ولكنه لم يلبث أن زَفَر إليّ زفرةً خلت في نفثاتها شررًا يتطاير. ثم قعد يتململ حتى قال: إن أيامي -يا أبا الخطاب- قد استحالت تيهًا أمشي فيه على مثل هذه الجَمَرات، ولقد كنت مما عَهِدتُني، والأيام من حولي عُرسٌ لا أعدم فيها ما أُطربُ له. كنت إذا ما حَزِن بعض أيامي، أجد من أفراح الماضي ما أهرب إليه بالذكرى، وأتوهَّم من نشوة الآتي ما أترامي إليه بالأمل، فكنت أعيش بفرحةٍ أحضرُها أو تحضرُني، لا أخاف ولا أجزع ولا أتوهم في الحياة إلا الخير. فأنا وقد أبتْ بغتات القدَر إلا أن تنتزع من كَفَّىَّ ما كنت أضنّ عليه، فهيهات لها بعد اليوم أن تطيقَ انتزاعَه من فكري. آهِ. . . آهِ يا عمر! كانت مِلْء عيني وروحي وقلبي. كنت أعيش تحت نسيمها كالنشوان ذاهلًا عن الألم مهما أمضَّ، مستصغرًا للكبير وإن فَدَح، راضيًا باسمًا متحفِّفًا (¬2). . . إذ كانتْ هي هي الأمانيُّ تتجدَّد مع أيامى عليّ وتتبلّج مع كل فجر في قلبي، ما كنت جزوعًا ولقد جزعت! كيف قلت: عزاءً يا أبا محمد! ها الله يا ابن أبي ربيعة. كيف صَبري عن بعض نفسي! وهل يَصبِرُ عن بعض نفسه الإنسان؟ كانت بيني وبين الدنيا، وكانت آية الرفق والفرح، فكنت أرى الدنيا بعينيها مشرقة من تحت غياهب الأحداث، فالآن إذ نامت عني، كيف أرى إلا قِطعًا من الليل تغتالني من كل وجه، أو أشلاءً من الدياجى تجثم لي بكل سبيل؟ ثم رأيت في عينيه الملَل وهو يطوى على نظراته ما نَشَرتْهُ الحياة من همة ¬

_ (¬1) العَتْب: الغَضَب. (¬2) متحفف: لم أجد هذا البناء في المعاجم، ولعل أستاذنا نحته من حَفّ، بمعنى مَرَّ، يعني يمشي على رِسْله مهتزا طرِبا.

النفس؛ وتخيلته -حتى كدت أتبينه- شبحًا ينساب في ظُلمة الليل فردًا قد انخلع من الحياة وأسبابها، فهو يضربُ في حَشا الظلماء بسآمةٍ لا تهتدي ولا تريد أن تهتدي، وقد كدت مما شجيتُ له أن أدع إليه الحديث حتى يَستَتِمَّه، ولكني أعرف في قلبه الرقَّةَ، فخشيتُ أن يَمضِي به الحزن على غُلَوائه، فقلت له: مَهْ مَهْ يا أبا محمد، والله ما أنكرتك منذ عرفتك، ولكني اليوم منكر لك أو كالمنكر؟ أليس لك في إيمانك وإيمان آبائك معتصم أيها الشيخ؟ ما إسلامُك النفس للجزع وما غلوُّك فيه؟ إن امرأ يؤمن بالله واليوم الآخر لخليق أن يستكين إلى قضاء الله استكانة الوليد إلى أمه. وإن أمرًا يختاره الله لامرئ هو أهدى سبيليه لا رَيب، شَقِى بذلك أم سَعِد، وما يمسك النفس على أحزانها للأمر من قدر الله إلا الشيطان. خبرني يا أبا محمد! هل ابتُلىَ الناس فيما ابتُلوا به بما هو أفظع من فجيعتهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كلا! فقد حزن الناس حتى أخذتهم آخذة، وحتى أنكر أحلمهم حلمه، وحتى إن بعضهم ليوسوس، فقام إليهم جدُّك الصديق فرد الناسَ إلى أحلامهم، وهو أشدهم حزنا على صاحبه ورفيقه؛ فعلَّم الناس أن الحزن للقلب وحده، وأن العقل والجوارح إنما هي للعمل، وأن هذا هو طريق الإيمان بالله وبقضائه: خيره وشره، أفأنت من يَجور عن سنة الله وسنة المهتدين من آبائه يا أبا محمد؟ كنتَ المرءَ الصالحَ الذي يرى الدنيا بعيني زائلٍ، فما بالك اليوم تراها بِعَيْني متشبث قد أنشب فيها أمثال البراثن من عقله وفكره، فهو يتأبَّى أن يدور في وهمه أنه مفارقها؟ قال ابن أبي عتيق: حنانيك يا عمر! فوالله ما تعلمني يا ابن أبي ربيعة إلا ما علمت. لقد عَجمتْ (¬1) مني الحوادث صخرة مُلملمة لا تضرع. كم سخرت من الدنيا وأحداثها، فجعلْت أطويها في دُعابتي طَىَّ المُلاءة! كنت أتخفَّفُ منها بنشوة ¬

_ (¬1) عجمتني: اختبرتني فوجدتني صلبا، وأصله من عَجَم العود، إذا عَضَّه لينظر أَصُلْبٌ هو أم رِخْو، ثم استعاروه للشدائد.

أُحْدثها في قلبي، فلو كان عليه مثل الجبل من الهمِّ لطار فيها كما تطير خافية (¬1) من جناح، ولكني اليوم. . . آه! لقلَّ ما جرَّبتَ يا عمر! أسلمتُ لله مُقْبِل أمري ومُدْبرهُ يصرِّفه كيف شاء. ولكني أجدُ هذا القلب المُعَنَّى لا يزال يخفق بالذكرى، أفأنت منكرٌ عليّ يا عمر أن أذكرها نسيمًا رَفْرَفَ بين الجوانح والقلب؟ أنَّى لي أن أَلوِي النفس عن آثارها، وما أكاد أرى شيئًا إلا خلته يحدثني حديث الثاكِل: أنينٌ وحنين؟ فأين المهرب؟ دع عنك يا أبا الخطاب! أَأَراكَ تَلْحاني (¬2) على الجَزَع، وما على ظهرِها أشقى ممن يُصبح ليفتقد في نهاره حُلمًا ضَلَّ عنه مع الفجر؟ كم خلوت إلى هذه النفس ألومُها كالذي تلوم؟ وكم وقفت على هذا القلب أذكره ما يذكرُ الناس مني، فإذا الذي كان بالأمس قد أصبح وكأنه أديمٌ مرقوم قد تَفَرَّى (¬3) عاثَ فيه البلى فمحاه. أريد، ويا لضلَّتى فيما أريد! أنا كالساري في لُجَّة الليل يلطم في سوادها، قد أضاع لؤلؤة يَبحثُ عنها بين الحصى والرمال! . . . لن أعودَ إلى الناس حتى أجد لؤلؤتي يا أبا الخطاب. . . لن أعود. ورأيتُ الرجل ينتفض انتفاضة المحموم من هول ما يجد، فَرَحِمْته، ولكني آثرت أن أدور على بُنَيَّاته، عسى أن يَأْوِى لهن (¬4) فيؤوب إلي كبعض ما كان، قلت: ظلمتَ نفسَك يا ابن أخي فظلمت من لا يلوذ إلا بظلك صغيراتٌ ضعيفات ضائعات: فمن لهن بعدك؟ لو كنتَ وشأنك لهان الأمر، ولكنك استُحْفِظتَ من لا يحفظه بعد الله إلا رحمتك، ومن لا يغذوه بعد الطعام إلا حديثك، ومن لا يضئ له وجه الدنيا بعد النهار إلا ابتسامك، ومن إذا أهمل ضاع عليك ضيعة الأبد. إنهن بناتُك منها وبناتُها منك، فوالله ما تذكرها ذِكرًا في شيء هو أكرم وأحب وأرضى عندها منهن، أجْمِلْ يا أبا محمد، أجْمِل! فرفع إليَّ رأسه ونظر، ثم ربا صدره بالزفرات وهو يقول: ¬

_ (¬1) الخافية: الريشة تكون في مؤخر جناح الطائر، وهي لينة ضعيفة. (¬2) لحاه: لامه وعذله. (¬3) مرقوم: مُزَيَن مُوَشَّى. تَفَرَّى: تَشَقَّق وتقطَّع. (¬4) أوى له: رقَّ له ورحمه.

لقد كنت أخشى لو تمليتِ خشيتي! ... عليكِ الليالي كرَّها وانفتالَها فأما وقد أصبحتِ في قبضةِ الرَّدَى ... فشأن المنايا، فلتُصِب من بَدَا لها . . . لولا علمتَ يا عمر! كيف -بربك- كنتَ تراني أحبوهنَّ من قلبي خفقات لامعات باسمات؟ كنتُ لو أطقتُ أن أجعل قلبي بينهن لهوًا يَتَلَعَّبنَ به لفعلت! فانظر إليك ماذا ترى؟ ما شيء أجتلب به على قلبي ألمًا كنوافذ الإبر إلا رؤية هؤلاء الصغيرات الضعيفات الضائعات، وإن إحداهن لتعدو إليَّ تستأوى فأحملها، فكأن قد والله حملتُ بها صخرة مسرفة (¬1) يُعيى حملها، لولا بقية من رحمةٍ -يا عمر- لنفرتُ عنهن نفرةً واحدة لا أراهن ولا يرينني. أفزعني والله الرجل، ولكني فهمت عنه ما يأتي به. إنه لا يزال يراها بعينيه تحول بينه وبين صغاره. إنه يريدها ويريدهن جملة واحدة، فإذ ذهبت هي، فكأنما ذهب منهن الذي كان يراه فيهن. يرحمك الله يا ابن أبي عتيق! فأما إذ بلغ به حبها هذا المبلغ من اليأس، فلا والله ما ينجيه إلا أن يُحْتال، فقلت له: أأراك أُنسيت ذكر ربك يا أبا محمد! أتُرانا نعيش في هذه الأرض إلا بما نرجوه عند الله في غيب الله؟ فلولا ما نمثله في أنفسنا من الرجاء، ما نبض لامرئ عرق مما يأخذُه من السَّأم. وأنت، أفيغبى (¬2) على امرئ في مثل عقلك أن يجعل من مفقودٍ يحبه رجاءً يستمسك به؟ انظرها يا ابن أبي عتيق بين عينيك، ولا تدع البَدن الراحل يَغلبُك على ما يحضرُك من روحها. إنك بعينيها ما عشت، فلا تحسبنَّ أحزانك التي تبتغى أن تتسلَّب بها في حياتك، تجعلها تنظر إليك راضية مطمئنة. لا تشكَّنَّ يا ابن أخي، فوالله إن الجسد ليذهب إلى البلى، وإن الرُّوح ¬

_ (¬1) كذا في الأصول. وظني أن الصواب بالشين المعجمة، أي ضخمة. (¬2) غَبِيَ الشيءَ وغبِيَ عنه: لم يفطن له.

لتخلد، فما تُرضِي من يحبك بأمثل من أن تكون في غيْبِه ما كنت في مَحْضَرِه: "إِن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول ما يغضب ربنا" وصدق رسول الله (¬1). وما ذلك إلا أن نقصر الحزن، وأن نجعل أقوالنا وأفعالنا مرضاة لمن نحب وطاعة. ولا تستطيلنَّ ما بين الحي والميت، فإنما هي ساعات قلَّت وإن أطلت لها. يا أبا محمد! أرض ربك وأرض صاحبتك، واجهد أن تكون كما أحبت لك، فإنك عن قليل تلقاها، فلا يلقاها منك إلا ما تعرفه دون ما تنكره. . . ¬

_ (¬1) قال ذلك عندما مات ابنه إبراهيم.

الطريق إلى الحق

الطريق إلى الحق كتب الأخ الصديق الأستاذ محمد مندور كلمة في البريد الأدبي الرسالة (488) بعنوان "اللغة والتعريب"، عرض فيها مسألتين: إحداهما: مسألة الصواب والخطأ في اللغة، والأخرى: هو عنصر الثبات في اللغة كما سماه. وقد دفعه إلى الحديث عنهما ما كان من تخطئة الأب أنستاس الكرملي إياه في حرف من اللغة استعمله في كلامه، وهو "عثرت بالشيء" وهو يريد "عثرت عليه" وأحبُّ أن أقدم بين يدي كلامي بعضَ ما أعرفه عن "مندور"، قد كنا زميلين في الجامعة، فكان أحد الشبان الأذكياء المدقّقين. وإن فيه من ثورة النفس ما أرجو أن يبقى له على الشبابِ والهَرَم. ثم عرفته من بعدُ مطلعا حريصًا على العلم قليل العِناد فيما لا خطر له، ثم هو لا يزال يدأب إلى الحق في غير هوادة، فكل هذه الصفات تجعله عندي غير متعنّتٍ ولا مكابر، ولكني رأيت الأب أنستاس قد سلك إلى "مندور" طريقًا، فاندفع كلاهما يطاعن أخاه بعنفٍ لا يهدأ. وأنا لا أحب أن أدخُلَ بين الرجلين فيما هما بسبيله، ولكني أحرصُ على أن أدلَّ "مندورًا" على الحقّ الذي كنا ولا زلنا نميل إليه بكُلّ وجهٍ، ونسعى إليه في كل سبيل. وينبغي لي أن أعرض للكلام على الفرق بين الحرفين "عثرت به" و"عثرت عليه" قبل أن أتحرى إلى "مندور" طريق الحقّ في المسألتين اللتين ذكرهما في كلامه. فأصل اللغة في هذه المادة "عَثَر يعْثُر عَثْرًا وعِثَارًا"، وهو فِعْل لازمٌ لا يتعدَّى إلى مفعولٍ، ويَأتي هكذا غير مصاحب لحرفٍ من حروف الجرِّ. ولكلِّ فِعلٍ في اللغة مَعْنًى يقومُ بذاته، ودلالات يقتضيها بطريق التضمُّن أو الالتزام. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد 491) نوفمبر 1942، ص: 1103 - 1106

فقولك "عثر الرجل" معناه "تهيأ الرجل للسقوط": فالمراد بالفعل هو حدوث "حركة سقوط" الرجل، ولا يقصد به السقوط نفسه، أي أنه يدل بذاته على الحركة التي تسبق السقوط. وأما الدلالات التي يقتضيها الفعل فأولها: سبب حركة السقوط، وهذا السبب عقلي محض يتضمنه الفعل ويقوم فيه مقام الفاعل "كالحجر" مثلًا. وثانيها: الفعل الذي فعله هذا السبب وهو "الصدم"، وثالثها: الحالة التي تلحق الرجل من جرَّاء اصطدامه وهي التنبه والتماسك قبل السقوط. أما الدلالة الرابعة. . . فلو شئت أن تفسر "عثر الرجل" لقلت: "صدم الحجرُ الرجلَ فكاد يسقط"، فكأن "عثر" قامت مقام الكلمات "صدم الحجر. . . فكاد يسقط". وأنت ترى أن "الرجل" هنا هو الذي وقع عليه الفعل (أي المفعول به)، لأنه هو الذي صُدم فكاد يسقط. فلما كتم هذا الفعل "عثر" فاعله الحقيقي -وهو الحجر مثلًا-، وكتم "الصدم" الذي هو فعل الفاعل الحقيقي، نسب فعله إلى الرجل، مع أنه ليس فاعلًا بل مفعولًا به. فهذا يدل على أنه ليس مريدًا للفعل (وهو العثرة)؛ كما يكون مريدًا للفعل في قولك: "قام الرجل" إذ أنه مريد هنا للقيام. وشبيهٌ به قولك: "مات الرجل" و"نام الرجل"، فالرجل هنا -على أنه "فاعل" في عبارة النحاة- ليس فاعلًا في حقيقة المعنى بل هو "مفعولٌ به" لأنه غير مريد في حالة الموت أو النوم. فإذا صح لديك أن الرجل غير مُريد للعثرة في قولك "عثر الرجل"، رأيت الدلالة الرابعة لهذا الفعل وهي أن الشيء الذي فعل العثرة -وهو الحجر مثلًا- كان صغيرًا لم يتبيَّنْه الرجل، أو لم يتوقع وجوده في المكان الذي كان فيه، فلذلك كاد يسقط على غير إرادة من الرجل لذلك. وإذا تأملت قليلًا رأيت أن قولك "عثر الرجل" لا يراد به الإخبار عن حدوث الصدم، بل المراد أن تصور هيئة الحركة التي جاءت بعد الصدم، وهي حركة السقوط. ولذلك بني مصدرها على هيئة المصادر التي تدل على عيوب الحركة في أصل الخلقة كالتي تكون في الدابة وغيرها من كل ما يمشي أو يتحرك.

وذلك هو وزن "فِعال" كالشِّماس، والجماح، والنفار، والشراد، والهياج، والطماح، والحران، والعضاض، والخراط، والضراح، والرماح، والفرار. فأنت ترى من ذلك أن المصدر قد نظر فيه إلى أن المراد في الفعل هو حركة السقوط لا الصدم، فإن الصدمة ليست عيبًا، وإنما العيب في هيئة الحركة. وكثيرًا ما يستعمل العثار للخيل يقال: "عثر الفرس" أو غيره من الدواب. هذا. . . وحروف الجر التي تأتي لمصاحبة الأفعال إنما تأتي لمعان يتعين بها للفعل معنى لم يكن ظاهرًا فيه قبل دخولها، بل ربما اضطر الحرفُ الفعلَ أن ينتقل من الحقيقة إلى المجاز، لذلك تسمى حروف المعاني. ثم إن كل حرف من هذه الحروف له معنى أصليٌّ يقوم به، ثم تتفرع منه معان أخرى لا تزال متصلة إلى المعنى الأول بسبب. فالباء مثلًا هي في حقيقة معناها تدل على إلصاق شيء بشيء أو دنوه منه حتى يمسه أو يكاد. ففي قولك "ألصقت شيئًا بشيء" تقع الباء في معناها الأول وهو الإلصاق الحقيقي. وفي قولك "مررت بزيد" تكون مجازًا لأنها تدل على الدنو والمقاربة الشديدة، كأنك ألصقت مرورك بالمكان الذي يتصل بمكان زيد. وينتقل الحرف من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي بدليل من الفعل الذي يشترك معه في الدلالة. ولذلك تخرج من معناها الحقيقي إلى معنى السببية أو التعليل أو المصاحبة أو الاستعانة مما يذكر في باب معانيها، ولكنها في جميع ذلك تدل على الإلصاق الحقيقي أو المجازي. فإذا جاءت الباء بعد فعل يقتضي معناه بذاته أو بدلالته معنى من الإلصاق، تعين لها أن تكون واقعة في معناها الحقيقي، ويكون دخولها مبالغة في إظهار معنى الإلصاق. وذلك كقولك: "أمسكت الشيء"، و"أمسكت بالشيء" فالباء هنا تزيد في معنى الفعل تقوية الإمساك إذ أن الإلصاق مما يدل عليه هذا الفعل بدلالة التضمن أو الالتزام. فإذا قلت "عثر الرجل بحجر" فمعناه كما بيَّنا آنفًا "صدم الرجلَ حجرٌ فكاد يسقط". والباء قد دخلت على الفاعل الحقيقي للعثرة وهو "الحجر"، فهي إذن

مكملة لمعنى الفعل، ولم تأت لتعدية الفعل إلى مفعول، كالذي يكون في قولك "ذهب الرجل" و"ذهب الرجل بمحمدٍ". فإذا كان الفعل دالًا بالتضمن على الصدم، والصدم يقتضي الإلصاق، وجاءت الباء مكملة لمعنى "عثر" تجرُّ وراءَها الفاعل الحقيقي للصدم، فالباء إذًا ستزيد في معنى الفعل، وذلك بأن تُظْهِر الصدم -المقتضى للإلصاق- بعد أن كان مكتومًا في الفعل، ويُقوي ذلك أيضًا ظهور الفاعل الحقيقي للعثرة بعد أن كان مكتومًا في "عثر". فقول الأستاذ (مندور) إنه أراد بقوله "عثرت بالشيء" أنه لاقاه اتفاقًا غير ممكن، لأن الباء وافقت الفعل فزادت في الإبانة عما يضمره من دلالة "الصدم" الحقيقي ولم يكن فيها من المخالفة ما يحمل هذا الفعل على الميل إلى المجاز (أي إلى الصدم المجازي). وليس من شك في أن قوله "لاقاه اتفاقًا" مجازٌ في تأويل "عثر بالشيء"، فإذا كانت الباء إنما تزيد حقيقة الفعل قوة وبيانًا، فكيف إذن تصيرُ بعد ذلك مجازًا بغير عامل يحملها إلى المجاز؟ وقد يستخدم مع هذا الفعل حرف آخر هو "في"، فتقول "عثر الرجل في ثوبه" إذا كان واسع الثوب طويل الذيل، فهو يطأ بعض ذيله كلما مشى، فتشد الوطأة الثوب عليه، فيميل كأنه يتهيأ للسقوط فيتماسك. فهذا الحرف "في" يدل في أصل معناه على الظرفية الزمانية أو المكانية، وينسحب بها على سائر معانيه. وهو بذلك يدل على استقرار لا على حركة كالحركة التي تكون في الإلصاق. ولما كان الفعل يدل دلالة ظاهرة على حركة السقوط وجاء الحرف "في" يطالب الحركة بالاستقرار، أسرع الفعل إليه. وذلك أنه حين يقول لك "عثر الرجل" لم تكد تجاوز تصوُّر حركة السقوط حتى يفجؤك بقوله "في ثوبه"، فيطالبك بإقرار هذه الحركة ثم تصورها في جوف الثوب. وهذه السرعة التي يتطلبها الانتقال تضعف دلالات الفعل التي كان يدل عليها مستقلًا بذاته أي في قولك "عثر الرجل" مجردا، وهي كما ذكرناها آنفًا: فاعل حركة السقوط، وفعله وهو الصدم، وحالة التنبه والتماسك قبل السقوط، وعدم التوقُّع أو الاتفاق.

فدخول "في" على "الثوب" أبعدتْ عن أول التصور أن يكون الثوبُ فاعلَ الصدم المؤدي إلى حركة السقوط، وبذلك أيضًا أضعفت دلالة الفعل على "الصَّدْم"، إذ أن "الصدم" لا يشبه أن يكون من فعل الثوب؛ فيتغير ما يتضمنه الفعل "عثر" من الدلالة، وتضمن وَطْء الثوب المفضي إلى شدِّه. ولما كان لابس الثوب الطويل ينبغي له أن يعلم أن طوله يؤدي إلى وطء ذيله فيعثر، اختفت من الفعل -إلا قليلًا- دلالة الاتفاق من غير تعمد. ولذلك تستطيع أن تقول "جاء فلان يعثر في ثوبه"، ولا تستطيع أن تقول "جاء فلان يعثر بثوبه"، لأن الأولى قد ذهب منها الاتفاق من غير تعمد، فجائز أن تستمر، وأما الأخرى فمحتفظة بالاتفاق من غير عمد، فهي لا يمكن أن تستمر. ومع ذلك فهذا الحرف "في" لم يستطع أن يغير من حقيقة "عثر" لأنه دانٍ منها، أو هو مستقر لها، إذ سوف تنتهي حركتها إلى استقراره. وأما "على" فحرف يدل على الاستعلاء في جميع معانيه دلالة مطلقة، والاستعلاء المطلق لا يوجب الإلصاق كما في الباء، ولا يوجب الاستقرار كما في "في". فاستعمالها مع "عثر" سيحدث في معناها أثرًا جديدًا ينقلها من حال إلى حال. فحين تقول "عثرت على الكرسي" يقتضيك فيها معنى "عثرت" -وهو تهيؤك للسقوط وتماسكك دون السقوط- ألا تجعل معنى "على" استعلاءَ ملاصقًا كما في قولك "وقعت على الكرسي"، وذلك لأنك لم تسقط بل كدت ثم تماسكت. وإذن فالحرف "على" هنا يدل على الاستعلاء المطلق الذي يقتضي نَفْي الملاصقة كقولك: "فضلت فلانًا على فلان". والاستعلاء المطلق مناقض كل المناقضة لمعنى "الصدم" لأن الصدم يقتضي الملاصقة، فلما جاءت "على" خلعت عن الفعل "عثر" كل ما كان يتضمنه من معنى الصدم الحقيقي (لا المجازي)، ولما خلعته عن الفعل خلعته أيضًا عن الفاعل (الكرسى) الذي كان فعله الصدم الحقيقي (لا المجازي)، ولكن هذا الفعل لا ينفك من أحد دلالاته وهو "الصدم" سواء أكان حقيقيًّا أم

مجازيًا، فإذا خلعت "على" عنه الصدم الحقيقي بقي الصدم المجازي مكتومًا فيه قائمًا مقام الصدم الحقيقي، وإذا كان ذلك فلابد من حدوث تغير في الفعل وفي معناه، لأن الصدم قد انتقل من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، والصدم وفاعله سببان في "عثر" التي تدل على حركة السقوط. فإذا صار الصدم من الحقيقة إلى المجاز -وهو أحد مقومات حركة السقوط- فلابد من أن تصير "عثر" إلى المجاز أيضًا لأنها صارت مسببة عن مجاز. فأنت ترى أن هذا الفعل لم ينقله من الحقيقة إلى المجاز إلا حرف واحد هو "على" الذي يدل على استعلاء مطلق يناقض معنى الصدم الحقيقي الذي كان ثابتًا في الفعل بدلالة التضمن أو الالتزام. وعلى ذلك لا يزال هذا الفعل مع "على" يدل على حركة السقوط المجازية، ويتضمن بدلالة الالتزام فاعل هذه الحركة، وفعله وهو الصدم المجازي، ثم حالة التنبه والتماسك قبل هذه الحركة، ثم عدم التوقع أو الاتفاق، وهذا بعينه ما يريده الأخ "مندور" بقوله في تأويل "عثرت به" أنه لاقاه اتفاقًا. وانظر الآن إلى سليقة هذه اللغة فإنها إذا كانت قد جعلت مصدر "عثر وعثر به" و"عثر فيه" عِثارًا بوزن "فِعال" الدال على عيوب الحركة، أو على الحركة نفسها: كالمِزَاح والضِّرَاب والنِّزَال، والصِّرَاع، فإنها تجعل مصدر "عثر عليه" عثورًا على وزن "فُعول" الذي يدل أكثره على مجرد الحركة، كالنزول، والسقوط، والقعود، والجلوس، والشرود، والنفور، والجموح، والطموح؟ وبذلك خالفت بين المصدرين مع اشتراك الوزنين في معنى الحركة، لأن الفعل انتقل من الحقيقة إلى المجاز. وفي الآيتين من كتاب الله: المائدة (110) {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا}، وآية أصحاب الكهف (20) {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} جاء الفعل بالمعنى المجازي الذي يقتضي حركة السقوط المجازية، والصدم المجازي، وحالة التنبه والتماسك قبل حركة السقوط. وعدم التوقع أي الوقوف على الشيء بغير طلب أو بحث أو كشف.

ولكن الأخ مندور يقول: "ولم أرد (العثور عليه) أي الإطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبذة لا أدعيها". والذي أوقعه في هذا التأويل قول أصحاب اللغة "عثر على الأمر عثورًا" اطلع، فتفسيرهم مقصر عن الغاية كل التقصير لأنه يدل على جزء واحد من الدلالات التي يتضمنها الفعل، وهي حالة التنبه التي تلحق الرجل من الصدمة فينظر ويتبين ما صدمه، وأهملوا بقولهم (اطلع) المعنى الأصلى للفعل "عثر" وهي حالة السقوط المجازي، والصدمة المجازية، وعدم التوقع. وهذا نقص مخل في عبارة كتب أصحاب اللغة. وأنا أقرر أن أكثر ما في كتب اللغة عندنا من تفسير الألفاظ إنما هو تفسير مخل فاسد، لأنه قد أهمل فيه أصل الاشتقاق، وأصل المعنى الذي يدل عليه اللفظ بذاته كما رأيت هنا. وإذا أُهْمِل هذان فقد اضطرب الكلام واضطربت دلالاته، وأوقع من يأخذ اللغة بغير تدبر في حالة من التعبد بالنصوص كتعبد الوثني للصنم. وأيضًا فهو يوقع بعض النابهين من الكتاب في أوهام ليست من الحق في شيء، يحملهم عليها تكرار هذا التفسير الفاسد فيسلمون به على غير تبين، كما رأيت في تفسير قولهم "عثرت عليه" أنه "اطلعت عليه"، فإنك حين تقول: "عثر على الكلمة في الكتاب" فلست تقولها إلا حين تريد أن تصور الكلمة كأنها فاعل الصدم، وتصور رؤيتها كأنه صدم لك، وهذا الصدم يستدعي تنبهك فتتماسك وتنظر إلى ما صدمك، وإن هذا كله كان بغير طلب أو بحث وإنما جاءك اتفاقًا على غير تعمد كان منك. هذا وأنا لم أقصد ببحثي هذا إلى اللغة، بل قصدت إلى الدلالة على طريق الحق إلى فهمها. وأحب أن أظهر من يقرأ كلامي هذا على أنني لا أجعل مفردات اللغة كل الهم في عملي أو عمل غيري. ويقيني أن أكثر من يطيق التدبر والتأمل يستطيع أن يصل إلى فهم اللغة فهمًا صحيحًا نافعًا معينًا على حسن العبارة ودقتها في البيان عن المراد، وهو لم يتكلّف إلى ذلك إلّا قليلًا من الجهد وأحسبني قد سلكت إلى أخي مندور طريق العلم إلى غاية الحق، وهي غايته التي أعلمه لا يعمل إلّا لها، وسواء عليه بعد ذلك أكان الحق له أم عليه.

أما مسألة الخطأ والصواب في اللغة، ومسألة عنصر الثبات فيها، فنتركها إلى العدد التالى من الرسالة، ولأخي مندور تحيتي وشكري.

أدباء. . .!

أدباء. . .! قرأت في مجلة الثقافة العدد "209" كلمة تحت عنوان "الصحافة والأدب في أسبوع"، فرأيت كتابًا من صديقي الشاعر الأستاذ محمود حسن إسماعيل إلى صديقي أيضًا. . . الأستاذ (ق). وفي هذا الكتاب ذكْرُ بعض أصحابنا وذكرى، ويصفنا الصديق الأستاذ الشاعر بصفات جميلة محببة كاللجاج، والتهاتر، والكسل، والجبن، والغفلة، والتخلف عن سير الزمان، ويدعونا إلى ملازمة الصمت على رفوفنا الجامدة حتى يتحرك بنا أو ينسانا الزمان! . . . وهو كذلك لا أدري! فقد سمعت أن الأوائل قالوا: "عقل المرء مخبوءٌ تحت لسانه"، وأنهم قالوا: إذا لم يكن للمرء عقْلٌ يَكفُّه ... عن الجهل، لم يَسْتَحْيي وانهتَكَ الستر وللصديقين منِّي تحية المخلص المعجب بأدبهما وبيانهما. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد 496)، 1943، ص: 19

من مذكرات ابن أبي ربيعة (جريرة ميعاد)

من مذكرات ابن أبي ربيعة جريرة ميعاد " قال عمر [بن] أبي ربيعة. . . .": ركبتني الحمى ثلاثا حتى ظننت أن الله قد كتب عليّ أن أذوق حظي من نار الدنيا قبل أن أردَ على نار الآخرة. وكنت أَجِد مسها كلذع الجمرات على الجلد الحيّ، وأجدني كالذي وضع بين فكَّيْه ضرسًا من جبل فهو يجرشه جرش الرَّحى، وظللت أَهْذِي وابن أبي عتيق يتلقف عني ما كنت أسِرُّ دونه، حتى إذا قَصَرتْ عني وثاب إلى عقلي قال ابن أبي عتيق: ويلك يا عمر! والله لقد فضحتها وهتكت عنها سترها؛ أما والله لو قد كنت أخبرتني قبل الساعة لاحتلت لها، ولوقيتها مما عرضتها له. قلتُ: ويبك يا ابن أبي عتيق! من تعني؟ قال: من أعني؟ ما زلت منذ الساعة تهذي باسمها غير معجم! إنها الثريا، واليوم ميعادها، ولقد مضى من الليل أكثره وما بقى منه إلا حُشاشة هالك! ووجم الرجل واعتراني من الهم ما حبب إلى الحمى أن تكون خامرتني وساورتني حتى قضت علي، وطفقتُ أنظر بعيني في بقايا الليل نظرة الثكلى ترى في حواشي الدُّجى طيف ولدِها وواحدِها. وتمضي الساعات عليّ كأنما تطأنِى بأقدام غلاظ شداد لم تدع لي عضوًا إلا رضَّتْهُ. وابن أبي عتيق يذهبُ ويجئ كأنما أصابه مس فهو يرميني بعينه صامتًا يتحزّنُ لما يرهبُ من فجاءات القدر بي وبها. ثم أقبل على يقول: خبرني يا عمر أين واعدتها من داركَ هذه؟ فوالله لكأنما ألقى في سمعي لهبًا يتضرَّمُ، فلم أسمع ولم أُبصر ودارت بي الأرض، فما أدري بم أُجيب، فلقد واعدتها منزلًا كنتُ أحتفي به لميعادها، قد استودعته سري وسرها، فما أدري ما فعل به أهل الدار، وقد ربضتْ بي الحمى بمنأي عنه. ولا والله ما شعرت أن الفجر قد صدع حتى سمعت الأذان كأنه ينعَى إليّ بعض نفسي، فما تماسكت أن أنتحبَ. وابتدر إلى صاحبي يكفكف غَرْبَ (¬1) ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد 550)، 1944، ص 69 - 72 (¬1) غَرْب كل شيء: حَدُّه.

أحزاني. وقال: خَفِّض عليك يا عمر، فإن هذا يهيضُك إلى ما بك. وما تدري لعل الله يحدث بعد عسر يسرا. قم إلى وضوئك أيها الرجل، واستقبل بوجهك هذه البنية، وادع الله جاهدًا أن يستر ما هتكت، فإنهنَّ النساءُ لحمٌ على وضمٍ إلاما ذُبّ عنه (¬1). فما كدتُ أفرغُ من صلاتي حتى جاءت جاريةٌ صغيرةٌ تعدو قد أنزفَها الجرى، ورمتْ إليَّ كتابا في سدَقة من حرير يفوح منها العطر، وقالت: سيدتي تقول لك: في هذه شفاءٌ من داء. واستدارت وانطلقت تسعى. فنظرتُ وشممتُ ونشرت الحريرة المطوية عن كتاب مطوي طيّ العَجَلةِ، وإذا فيه: "جئنا لميعادك، فإذا شبحٌ نائمٌ في بُردِك فرميتُ نفسي عليه أُقَبِّلُه، فانتبه وجعل يقول: اعْزُبي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله. ودفعني فعدوتُ أفرُّ بنفسي من فضيحة تنالنى فيكَ وما شعرتُ أنك محموم حتى أنبأتني بذلك أختي، فويلى عليك وويلى منك يا عمر! ". فألقيتُ الكتاب إلى ابن أبي عتيق، وأستعفي به أن يدبر منذ اليوم ما أتقي به خَبْءَ الليالي، فنظر إليَّ بعينين زائغتين من سهر وسهاد وقال: والله يا عمر لكأني بك قد ركبتَ إلى بلائك وبلاءِ الثريَّا حين قلتَ: تشكَّى الكُمَيْتُ الجَرْىَ لمَّا جهدته ... وبيَّن لو يستطيع أن يتكلما (¬2) وما أدري كيف أحتال لك في أمرٍ قد انفلتت من يديك أعنَّته، فدعِ الأمر لله يدبره، ووطن نفسك على الثقة، ولا تجزع لبغية إن جائتك، والق من يلقاك بالفضيحة كأتم ما كنت بشاشةً ورضًى وسكينة؛ فأنت خليق أن تنقذها مما ورطتها فيه. وإياك والتردد، فإنه مدرجة النكبات. ولقد عهدتك صَنَع (¬3) اللسان، فإن لم ينفعك اليوم لسانك فلا والله لا نفعك، قلت: جزاك الله عني خيرًا يا ابن أبي عتيق، ما ضرَّني كتماني دونك ما أكتم إلا اليوم، ولو كنت أعلم ¬

_ (¬1) الوضَم: الخشبة أو ما شابهها التي يقطع عليها اللحم. وهذه العبارة من قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬2) الكميت، الفَرَس لونه بين الحمرة والسواد. (¬3) الصَّنَع: الماهر الحاذِق.

الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. ويلي من نفسي ثم ويلي منها! واعلم أنه ما يكربني أن يلقاني من أحتال له وأصرفه، وإنما يكربني أمر الثريا وهي تقضي الساعات قد ألقى الهَمّ في دمها ناره وفي فكرها ظلمته، ولا والله ما أستطيع أن أحتال لرسول يلم بها فيقول لها بعض ما تسكن إليه. قال ابن أبي عتيق: فهلَّا حدثتني عنها يا عمر؟ فلقد صحبتك ما صحبتك وما أدري من خبر الثريا وأمرها إلا ما أتسقّطه (¬1) من حديث الناس. قلت: وما تبغي إلى ذلك؟ أما كفاك ما تعرف من أمر سائرهن؟ وإني لأراك كالمنهوم الذي لا يشبع، فلو كنت مثلي لقلت عسى أن تكون لك في نفسك حاجة، ولكن الله عافاك مما ابتلاني به، فدع عنك الثريا وأخبارها. فورب السموات والأرض وما فيهن ما أمنت على سرها نفسي، فكيف بي إذا بُحْتُ لك؟ قال: إذن فصِفْها لي كيف تراها؟ قلت: أما إنك على ذلك، لشديد الحرص شديد الطمع. وما تبغي إلى امرأة من النساء تسمع من نعتها وحليتها وصفاتها؟ لولا أن كنت اليوم شاهدي لما حدثتك بحرف. يقول الناس: ما فعل الله بابن أبي ربيعة؟ ما زال يمد عينيه إلى كل غادية ورائحة حتى أفضى إلى الثريا، فتعلق منها بنجم لا يناله وإن جَهِدَ. وإنها لعرضة ذلك جمالًا وتمامًا، وإني لخليق أن أفنى فيها نور عيني وقلبي. ويقول الناس: ما الثريا؟ إن هي إلا امرأة دون من نعرف من النساء حسنًا وبهاءً. وقد والله كَذَبَتْهم أعينهم، وإني لبصير بالنساء خبيرٌ بما فيهنَّ، ولئن كنت قد عشت تبيعًا للنساء أنقدهن نقد الصيرفي للدينار والدرهم (¬2) فأنا أهل المعرفة أحقق جيادها وزيوفها بأنامل كالميزان لا يكذب عليها ناقص ولا وافٍ. ما يضيرك يا ابن أبي عتيق أن ترى الثريا أو لا تراها، فإنك لا تراها بعينيَّ، وإنما أنت من الناس تضل عن جمالها حيث أهتدي إليه، وتسألني كيف أراها؟ فوالله إن رأيتها إلا ظننت أني لم أرها من قبل، فهي تتجدد في عيني وفي قلبي مع كل طرفة عين، ولئن نعتها لك فما أنعت منها إلا الذي أنت واجده حيث سِرت ¬

_ (¬1) تسقط الحديث: أخذه شيئا بعد شيء. (¬2) نَقْد الصيرفي للدينار والدرهم: تمييزه لما هو صحيح ولما هو زائف.

عن النساء: غادة كالفنن (¬1) الغَض يميد بها الصبا وسكر الشباب، لم ترْبُ رَبْوةَ الفارعات (¬2)، ولم تجف جفوة البدينات، ولم تضمر ضمور المهزولات، ولم تُمسح مسحة الضئيلات (¬3)، ولم تقبض قبضة القصار القميئات، فتمَّ تمامها بضَّة هيفاءً أُملودًا (¬4)، خفاقة الحشا هضيمة الكشحين مهفهفة الخصر، تتثنى من اللين كأنها سكرى تترنح. فلو ذهبت تمسها لمَسْست منها نَعمة وليانًا وامتلاء، قد جُدِلَت كلها جَدْل العصب، فهي على بنانك لدنة تُرْعد من لُطفها واعتدالها. وانظر بعيني يا ابن أبي عتيق، تُبصر لها نحرًا كذَوْب الفضة البيضاء قد مسها الذهب؛ فلا والله ما ملكت نفسي أن أعب من هذا الينبوع المتفجر إلا تُقًى لله أن أدنِّسه بشفتين ظامئتين قد طالما جرى عليهما الكذب والشعر. أما وجهها فكالدرة المصقولة لا يترقرق فيه ماء الشباب إلا حائرًا لا يدري أين ينسكب إلا على نحرها الوضاء، يزينه أنف أشمُّ في دقيق العرنين لطيف المارِن (¬5)؛ فإذا دنوت إليها فإنما تتنفس عليك من روضة معطارٍ أو خمرٍ معتقةٍ، فاذهب بنفسك أيها الرجل أن تزول عن مكانك كما يقول صاحبنا جميل: فقام يجر عطفية خُمارًا ... وكان قريب عَهْدٍ بالمَماتِ ودَعْ عنك عينيها يا رجل، فلو نظرتْ إليك نظرة لَوَجَدْتها تنفُذ في عينيك تضئ لقلبك في أَكنّته مساربَ الدم في أَغْوار جوفك، ولتركتك كما تركتني أسير بعينين مغمضتين ذاهلتين إلا عما أضاءتْ لك في الحياة عيناها. فإذا دنتْ إليك فكُنْ ما شئت إلا أن تكون حيًّا ذا إرادة تطيق أن تتصرف، وذَرْ كل شيء إلا عطر أنفاسها وضياءَ وجهها، وغمامةً تظلل روحك النشوى طائفة عليك بأطراف شعرها المتهدِّل كحواشي الليل على جبين الفجر، وخذْ بنانا رخْصًا مطرَّفًا (¬6) كثمار العُنّاب تغذوها يدٌ بضة بيضاء يحار فيها مثل ماءِ الصفا، فلقد قبَّلتها يومًا ¬

_ (¬1) الفَنَن: الغُصْن المستقيم. (¬2) الفارعات: الطويلات، أي ليست مفرطة الطول. (¬3) أي ليست صغيرة العجيزة. (¬4) الأملود: المرأة المتثنية الناعمة. (¬5) المارن: طرف الأنف. (¬6) المطرف: مُخَضَّب الأظافر.

قُبلةً ظننت أن قد أطفأت بها غليلي فزادتني غُلَّةً وصدًى، فما نفعني في نار هذه الحمى إلا ما لم أزلْ أجد من بَرْدِها وطيبها وعذوبتها على شفتي حتى اليوم. ولا والله إنْ (¬1) رأيتُ كمثلها امرأة إذا حدثت، فكأنما تسكب في روحي سرَّ الحياة يهمس عن شفتين رقيقتين ضامرتين كأنّ الدم فيها مكفوف وراء غلالة من النعمة والشباب. فآه من الثريا! لقد حجبت عني كل نجم كان يلوح لي في الدياجى يُلهمني أو يُغويني. . . وَىْ، ما دهاك أيها الرجل؟ ورأيت ابن أبي عتيق يتخطاني بعينيه ينظر إلى الباب من ورائي، قد انتُسِف وجْهه وغاض من الدم كأنما يرى هَوْلًا هائلًا قد أوشك أن ينقض عليه، وما كدت أرد الطرف حتى سمعت من يقول: السلام عليكما يا عمر! وأنت يا ابن أبي عتيق ما لك تنظر إليّ كالمغشي عليه لا ترفُّ منك عاملة ولا ساكنة؟ وما بك يا أبا الخطاب! أترى الحمى كانت منك على ميعاد؟ لقد أقبلت أمس من سفري، وكان الليل قد أوغل فتلقاني ولدك جوانٌ فأنبأني أن الحمى قد وردتك فأردعت (¬2) عليك أيامًا فنهكتْك حتى خيفت عليك بُرَحاؤها (¬3)، وأن ابن أبي عتيق جزاه الله عنا وعنك خيرًا أبي إلا أن يتعهدك بمرضك حتى تبرأ وتستفيق، وإني لأراك بارئًا يا أبا الخطاب. فوالله لقد سكنتْ نفسي لما أتم كلامه وسكتَ، وأدنى يده يجسُّني جسَّ المشفق، ورأيت ابن أبي عتيق يثوب كأنما كان في كرب يغتُّه (¬4) ويعصرُه ثم أرسله فعاد إليه الدم. فهذا أخي الحارث (هو الحارث بن أبي ربيعة أخو عمر) سيد من سادات قريش شريفٌ كريم عفيفٌ ديّنٌ، ما رآه امرؤ إلا دخلته الرهبة له حتى تتعاظمه. فما زاده أن كانت أمه سوداء من حَبش إلا رفعة ومكانًا. ولقد كان عبد الملك بن مروان ينازع عبد الله بن الزبير أمر الخلافة، وكان ابن الزبير ¬

_ (¬1) إن: هنا حرف نفي. (¬2) أردعت: من الرداع، وهو وَجَعُ الجسم أجمع. (¬3) بُرَحاؤها: شِدَّتها. (¬4) الغَتُّ والعَصْر بمعنى، وفي حديث المبعث "فأخذني جبريل فغَتَّني".

قد ولَّى الحارث بعض الولايات، فلما جاءه النبأ بولاية الحارث قال: أرسل عوفًا وقَعَد! ولا حُرّ بوادي عَوفٍ (¬1). فابتدر من المجلس يحيى بن الحكم وقال: ومن الحارث يا أمير المؤمنين؟ ابن السوداء! فقال له عبد الملك: خسئتَ، فوالله ما ولدتْ أمةٌ خيرًا مما ولدت أمه! ثم صرف الحارث وجهه إلى ابن أبي عتيق وهو يبتسم له وقال: أما زلت يا ابن أبي عتيق بحيث قال صاحبك فيما بلغنى من شعره إذ يقول لك؟ لا تلمني عتيقُ حسبي الذي بي ... إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني إنَّ بي داخلًا من الحب قد أبْـ ... لَى عظامي مكنونه وبراني لا تلمني وأنت زيَّنتها لي ... أنت مثل الشيطان للإنسان فقال ابن أبي عتيق: هُديت الخير، فوالله إن أخاك لشاعر يقذف بباطله، ولقد وقعت في لسانه ولقيت من دواهيه. ثم نظر إليَّ الحارث وقال: أما وقد لقيتك بخير يا عمر، فإني منصرف إلى وجهي، وبالله إلا ما تقدمت إلى أهل بيتك أن يعدوا لي المنزل الذي نزلته بالأمس حتى أعود، وإني أرى الريحان قد ذبل فَمُرْهم أن يستبدلوا به، وأن يطيِّبوا الفراش ويجمروه، وقل لطائف الليل أن لا يلم بنا؛ فلسنا عن حاجته ولا هو من حاجتنا. فما تمالكت أن قلت له: ويحك! أفهو أنت؟ قال: أجل هو أنا أيها الفاسق! قلت: إِذن فوالله لا تمسك النار أبدًا وقد ألقت نفسها عليك وقبَّلَتك. فقام مغضبًا يفور وقال: اعزُبْ، عليك وعليها لعنة الله! وانطلق الحارث واستفقت من غشيَة الحُمَّى وما نزل بي عن الغم لما فاتني من الثريَّا. وقال ابن أبي عتيق: قد والله أسأت فما تراني كنت أحدثك من جوف الليل أنهاك أن تجزع لبغتة إن جاءتك، فوالله لشد ما جزعت وخانتك نفسك وأرداك لسانك! ولبئسما استقبلت به أخاك! ولقد كنت أقول لك إن التردد ¬

_ (¬1) لا حُرَّ بوادي عوف: مَثَلٌ، يضرب لكل مَن ناوأ مَن هو أشد منه قوة وأعز سلطانا فخضع وذلّ.

مَدْرَجَة النكبات فإذا جرأة لسانك مدرجَة إلى كل بلاء، وإلا (¬1) والله لا تفلح أبدًا أيها الرجل. فلقد اضطرب عليَّ أمري حتى ما أدري ما أقول، ثم سكَّنت نفسي وقلت له: أفرخ روعك يا ابن أبي عتيق، ولتعلمن اليوم دهاء عمر، فأرسل في طلب ابنتي "أمَة الوهاب" والحق أنت الحارث فردّه علي. وانطلق ابن أبي عتيق، ولم ألبث حتى جاءتني أمَةُ الوهاب، فقلت لها: يا بنية! أشعرت أن عمك الحارث قد نزل بنا الليلة؟ قالت: كلا يا أبَهْ! قلت: إذن فانطلقي إلى هذه الغرفة التي إلى جواري وتباكى وانتحبي ما استطعت حتى أنهاك. ففعلت، وجاء الحارث وابن أبي عتيق، فقلت له: جعلت فداءك! مالك ولأمة الوهاب ابنتك؟ أتتك مسلمة عليك فلعنتها وزجرتها وتهددتها، وها هي تيك باكية. فقال: وإنها لهي! قال: ومن تراها تكون؟ فانكسر الحارث كأنما اقترف ذنبًا لا يعفو الله عنه إلا رحمة من عنده، وقال: فما بالك وما كنت تقول؟ فقال ابن أبي عتيق: ذاك هذيان المحموم يا ابن أخي، ولو أنت كنت الليلة إلى جانبه لسمعت من بوائق (¬2) لسانه ما تصطك منه المسامع. وإني لأظن الحمَّى هي التي خيلت له حتى أُنطقته ببعض تكاذيبه. قال الحارث: والله لشد ما يغمني أن يدع عمر كل خير في الدنيا، وكل ثواب في الآخرة، وأن يحبط أعماله بما يسول له شيطان نفسه وشيطان شعره، فيهتك عن الحرائر ما ستر الله. ولقد طالما نهيتك يا عمر عن قول الشعر فما زلت تأبى أن تقبل مني، أتراك فاعلًا لو أعطيتك الساعة ألف دينار ذهبًا على ألا تقول شعرًا أبدًا. قلت: قد رضيت! قال: فهي منذ الساعة في ملكك. قال عمر بن أبي ربيعة: فما أخذتها منه إلا لأهديها إلى الثريا عطرًا ولؤلؤًا وثيايًا من تحف اليمن. أما الشعر فوالله لا أتركه لأحد، رضى الحارث عني أو غضب. ¬

_ (¬1) كذا بالأصول، والسياق يقتضي أن تكون: ولا. (¬2) البَوائق: الدواهي.

الحرف اللاتيني والعربية

الحرف اللاتيني والعربية ربَّ رجل واسع العلم، بحر لا يزاحم، وهو على ذلك قصير العقل مضلّل الغاية، وإنما يعرض له ذلك من قِبَل جُرأته على ما ليس له فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصرارُه إِصْرارَ الكبرياء التي تأبى أن تعقل. وإن أحدنا ليقدمُ على ما يُحسنُ، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجبُ عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدمَ عليه فينقضه نقض الغَزْل. ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحملَ صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزّه، ثم لا يلبثُ أن يفسده طول التمادى في إعجابه بما يحسنُ من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرأي فيما لا يُحسِن، ثم لا تزال تغريه عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يُصرّ ثم يغالى ثم يعنُفُ ثم يستكبر. . . ثم إذا هو عند الناس قصيرُ الرأي والعقل على فضله وعلمه. فمن ذلك أني قرأت في عدد مجلة "المصور" 1015 بتاريخ 29 ربيع الأول سنة 1363 حديثا لصاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا عن "الإسلام والحروف العربية" فرأيته يفتتح حديثه بهذه الكلمة، إذ يقول لسائله: "إني لا أُعَنِّي نفسي البتة بالإطلاع على ما قد يقال من هذا الهراء الذي هو أهونُ علي من الغبار الذي يمس ردائي وحذائي، فما بالك أنت تهتم بما لا أكثرث له؟ ". وعبد العزنر فهمي رجل كنا نعرفه بالجد والحرص والفقه وطول الباع في القانون، وكنا نظنه رجلًا محكم العقل من جميع نواحيه، لا يتدهور إلى ما ليس له به عهد، ولا يرمي بنفسه في غمرات الرأي إلا على بصيرة وهدى. فلما قال ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد 562)، إبريل 1944، ص: 308 - 310.

ما قال عن الحروف العربية في المجمع، ونشرت الصحف قوله ورأيه، قلنا: عسى أن يستفيق الرجل ويعودَ إلى سالف ما عهد فيه من الحكمة والمنطق، وأن يكون ما قال خالصًا لخدمة العربية، فإن يكن في رأيه شيء من الصواب فسيحقق الجدل الذي يدور بينه وبين الناس فضيلة رأيه على الآراء، وإن يكن أخطأ فهو خليق أن يرجع إلى صواب الناس غير معاند ولا لجوج. كان هذا ظننا فيه، فلما قرأت فاتحة حديثه التي رويتها قبل، علمتُ أن الرجل لن يستفيق، ولن يعودَ، ولن يعقلَ ما يقول الناس -وما ظنك برجل من رجال القضاء- رجلٍ مارس العقلَ والفهم وتقليب الرأي، والتثبت من الحجج المتضاربة الموهمة، والحرصَ على أدق الصغائر لا تخدَعُه عن عَدْله وإنصافه؟ ما ظنك برجل هذه صفته يزعم أنه لا يطّلع، بل لا يعني نفسه بأن يطلع على آراء خصمه! ثم ماذا؟ ثم ترى هذا القاضي العادل، بعد أن شهد على نفسه وأقرَّ أنه "لا يعني نفسه البتة بالاطلاع على ما قد يقال"، يصف هذا الذي لم يطلع عليه ولم يقرأه ولم يتعب فيه، بأنه "هراء"؟ ! فمن أين عَلم؟ وكيف حكم على شيء لم يقرأه؟ ثم يزيد فيقول إن هذا الهراء الذي لم يقرأه، أهون عليه من الغبار الذي يمس رداءه وحذاءه! ثم يبالغ فيعنف سائله ويتعجب له ويسخر منه، ويقول له: ما بالك أنت تهتم بما لا أكترث له؟ وهذا التسلسل العجيب الذي كنا لا نظنه مما ترضى عنه بصيرة رجل مفكر، فضلًا عن قاض حريص، فضلًا عن رأس من رؤوس القانون، فضلًا عن نابغة من نوابغ مصر، قد كان، ورضى عنه عبد العزيز فهمي باشا، وجعله حجته ومنطقه في حومة الرأي والجدال. ولعلَّ الغضبَ هو الذي احتمله حتى أضله عن مواطيء حجته، ثم تركه يتضرّبُ في كلامه، حتى اقترف من اللفظ والمنطق ما لا يليق به. ونحن سنرضى أن نكونَ في الغبار الذي يمسُّ رداء الباشا، وفي الغبار الذي يمس حذاءه! ونسأل الله أن يجعله بركة للناس وخيرًا، وأن يسبغ عليه من نعمه ما هو له أهل، وأن يسدد خطاه حيث ذهب، فحيثما اهتدى الباشا كنا من الغبار الذي يهتدى بهَدْى حذائه! وسواء علينا بعد ذلك أقرأ هذا الهراء أم لم يقرأه!

نحن نسلم للأستاذ الجليل بما يقول عن صعوبة الحرف العربي المكتوب، وبأنه يعوق القراءة، وأنه يجعل العربية أبعد متناولًا عن عامة الناس، نسلم له بهذا، ثم ننظر كيف يكون الرأي الذي اعتسفه مظنة للتسهيل، ومدعاة لنشر العربية! وكيف يكون هو الذي يخرج الحرف العربي الغامض إلى البيان والوضوح، فلا يكون مضللًا ولا معوقًا، فإنه زعم أن "ليس لدى المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم"! هذا هو محصول رأيه. فما هذا التضليل الذي زعم؟ لقد قال من قبل إن الذي دفعه إلى هذا الرأي هو تيسير الكتابة العربية، "لأن حروف هذه اللغة ليس بينها حروف حركات! وكثيرًا ما يحدث فيها التصحيف والتحريف لهذا النقص، فمهما تعلمها الإنسان فلابد أن يخطئ في قراءتها، وقد عالج الأقدمون هذا المشكل الكبير بوضع الشكل، ولكن هذا الشكل قد أفلس، بل كان مجلبة لزيادة التحريف والتصحيف". ودليل الاضطراب لم يزل يظهر في هذا المنطق كما ظهر في حديث محرر المصور، وهو سؤال وجواب لا عنت فيهما، فأول الوهن وأول الفساد في هذا المنطق أننا رأيناه في اقتراحه قد أبقى الحروف المعجمة (المنقوطة)، وقصر ما ادعاه من التضليل والعسر على (حروف الحركات). وهذا عجب. فالإعجام (النقط) هو في التصحيف والتحريف بمنزلة الشكل أو أقل منه قليلًا، فكان لزامًا أن يبحث مسألة الحروف المعجمة، ويخلص العربية منها ليدرأ عنها التصحيف والتحريف! ولكنه لم يفعل، ولم؟ لا ندري! ومع ذلك، فلنفرض أننا أدخلنا ما سماه (حروف الحركات) في كلام عربي مكتوب باللاتينية، ثم لنفرض بعد ذلك أنه قد أجدى ونفى التضليل من هذا الوجه. ولكن يبقى أن ننظر: أينتفي التضليل البتة، أم هناك نوع آخر من التضليل يجره هذا العمل؟ وأي التضليلين أهون شأنًا؟ فإذا تساويا بطلت الحجة المرجحة، وإذا غلب أحدهما كان الانصراف إلى أخفهما ضررًا هو الوجه الذي

لا معدل عنه، أليس هذا هو منطق الناس يا صاحب الحروف اللاتينية، أم تراه ينبغي أن نسير على هَدْى منطقك؟ ! فخذ إليك مادة من العربية مثل "قام"، ثم اجعلها فعلًا، ماضيًا ومضارعًا وأمرًا، وألحق به ما يلحقه من الضمائر، وأدخل عليه ما يدخله من قبل أوله وآخره مثل "فليقمهنَّ" وفي التثنية والجمع، والخطاب والغيبة، ثم أخرج جميع مشتقاته من الأسماء، وألحق بها ما يلحقها، وضعها في حالة الإضافة إلى الاسم الظاهر والضمائر، في التثنية والجمع أيضا، ثم أجمع الأسماء على اختلاف صور الجموع الممكنة فيها، ثم افعل ذلك بالمادة حين يزاد فيها ما يزاد مثل "أقام وقوّم واستقام"، وصرّفها في الوجوه التي ذكرناها، وتبين حركات الإعراب في سياق الكلام، وضع كل ذلك أمامك مكتوبًا بالحرف العربي، ثم بالحرف اللاتيني ذي الحركات التي تجعل الكلمة مرسومة كمنطوقة، ثم انظر إليهما، فهل تستطيع، غير معاند ولا لجوج، أن تميز بين كلمة وكلمة، وأن تتبين الشبه بين هذه المتقاربات من مادة واحدة في اللغة؟ نحن قد جرينا على أسلوب صاحب اللاتينية، فجربنا ذلك بأنفسنا فما اهتدينا ولا أدركنا، وصارت الكلمة الواحدة التي لا تخطئها العين في العربية، ولا تخطئ الشبه بينها وبين صواحباتها، كلمات لا يُدرى ما هي! وهذا شيء قائم على الحس والتجربة والعيان (*). فإذأ عرف، من لا يستكبر عنادًا ولجاجًا، أن ذلك مما يُضِل ويعمى، نظر فإذا هو يرى أن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية، أن يضيع على القارئ تبيّن اشتقاق اللفظ الذي يقرؤه، فإذا عَسُر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نسب له، وصار فرضًا عليه أن يعمد إلى رسم المادة الواحدة من اللغة في جميع صُورها التي تكون في السياق العربي، ثم عليه أن يحاول تقريب الشبه بالذاكرة الواعية، ثم عليه أن يحفظ معاني ذلك كله. فإذا كان هذا شأنه في المادة الواحدة فما ظنك باللغة كلها؟ يومئذ تصبح العربية أجهَدُ لطالبها من اللغة ¬

_ (*) لقد تجنبنا أن نرسم على الكلام العربي في هذه المادة، ووجوه التصريف واللواحق، لأنها يسيرة على القارئ فهو يستطيع أن يستخرجها جميعًا ويرسمها لنفسه وينظر أي مخرقة يرى! (شاكر).

الصينية. نعم، وإذا ضل عن تبين الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها، لأنها لم تُبْن إلا عليهما. وهي من هذا الوجه مخالفة لجميع اللغات التي تكتب بالحرف اللاتيني، لأن الاشتقاق والتصريف يعرضان لها من قبل بناء الكلمة كلها، حتى تختلف الحركات على كل حرف في كل بناء مشتق أو مصرف، ثم يزيد على ذلك ما يدخل على الكلمة من جميع ضروب الحروف العاملة وغير العاملة، ثم عِلل الإعراب والبناء والحذف. . . . إلى آخر ما يعرفه كل مبتدئ في العربية. فإذا كان هذا هكذا، وكان التضليل كائنًا، وكان هذا التضليل واقعًا في أصول الاشتقاق والتصريف، الذي يردّ القارئ إلى أصل المادة اللغوية، وإذا كان الضلال عن أصل المادة ضلالًا عن معناها، فأي السبيلين أغمض وأضل: سبيل عُسر القراءة لعدم (حروف الحركات)، أم سبيل امتناع الفهم لامتناع الاهتداء إلى أصل الاشتقاق؟ ونحن لا نشك في أن كل رجل ذي بصيرة حسن المنطق، سيجد في هذا وحده من المشقة والعسر، وما لا يدع اختيارًا في الاعتراف بالضلال المطبق الذي تجلبه الكتابة بالحرف اللاتيني، وأن التصحيف والتحريف الذي يدخل الحرف العربي أهون بكثير من الاختلال والفساد والمضلة والعبث التي يجرها الحرف اللاتيني. وإذن فغاية المشروع الذي انتحله، أن ييسر نطق الكلمة المكتوبة في حال إفرادها، غير ناظر إلى سهولة الاهتداء إلى الاشتقاق الذي هو أصل العربية، وأراد أن يأمن الخطأ في الإعراب، والتحريف في ضبط الكلمة، فنسي كل شيء، ولم ينظر ماذا يجلب مشروعه من التضليل والتشويه والتعسير والاستحالة، والغموض الأعمى الذي لا يهدى إلى شيء في هذه اللغة العربية! وهذا وحده عجب أي عجب. هذه واحدة، ثم زعم الباشا أن الحروف العربية تعوق القراءة، فمهما تعلمها الإنسان فلابد أن يخطئ! وأن هذا المشكل قد عالجه الأقدمون بوضع الشكل، ولكن هذا الشكل قد أفلس، بل كان مجلبة لزيادة التحريف والتصحيف! هما علتان، ثم علتان ملفقتان قد غلغل فيهما البطلان، ونخرتهما المغالطة

في الصميم وفي المنطق. ونحن لن نناقش اليوم هاتين العلتين إلا من وجه واحد يظهر به فسادهما، أما سائر الوجوه فندعها حتى يحين وقتها ومكانها من الكلام. فالخطأ عندنا لا يعود إلى صعوبة الحرف المكتوب، وإنما يعود إلى القارئ المخطئ نفسه، وهذا هو وضع القضية عندنا: إذا كان المتكلم حين يتكلم يستطيع أن يسوق كلامه على العربية الصحيحة غير مخطئ، فمحال أن يخطئ فيها عند القراءة مهما اختلف الخط عليه سهولة وصعوبة، لأن النطق سابق للقراءة، فالذي لا يخطئ وهو يتكلم (أي كأنه يقرأ من حرف غير مكتوب)، لا يتأتى له أن يخطئ وهو يقرأ حرفًا مكتوبًا ظاهرًا مميزًا ببعض الدلالات. وإذا عولج بعض العسر بوضع الشكل على الحروف، فالخطأ عندئذ أشد استحالة لوجود دلالات صريحة لا تقل في إفصاحها وبيانها عن حروف الحركات التي أرادها صاحب هذا المشروع اللاتيني، ومن ثم فهي ليست مجلبة لزيادة التصحيف والتحريف كما زعم. أما قوله، في خلال ذلك، إن الشكل قد أفلس، فهذا حكم باطل في قضية باطلة بطبيعتها، وما دامت القضية في أصلها لا تصح على الوضع الذي لفقه، فالحكم نفسه لم يدخل إلا زيادة في التلفيق. لقد نسى صاحب الحروف اللاتينية أن الإعراب في العربية شيء يختلف اختلافًا كبيرًا عن سائر اللغات المكتوبة بالحروف اللاتينية، وأن الخطأ فيه لن يكون من قبل الكتابة سهلة أو صعبة، بل هو راجع إلى المتكلم أو القارئ من قبل الضعف والقوة والعلم والجهل ليس غير. وأما ثالثة الأثافي، كما يقولون، فهو زعمه أن "ليس لدى المسلمين، وغيرهم من أهل البلاد العربية، وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم"! فأي طلاسم؟ أهي الطلاسم التي تدخل على كل حرف من الحروف في المادة الواحدة، ألوانًا من الحركات تكتب بين كل حرف وحرف، وفي أواخر كل كلمة، وتقف فواصل متباينات بين حروف مادة واحدة من لغة بنيت على الاشتقاق وعلى الاختصار، وجاء فيها الجموع المختلفة، والصفات والأبنية ذوات المعاني، والبناء للمجهول، وأحكامُ المعتل في التصريف، واختلاف

المصادر وأسماء الزمان والآلات، والترخيم والنسبة، والإضافة والتقاء الساكنين، وأحكام الإعلال والإبدال والإدغام، إلى آخر هذا كله، ممَّا يغيّر الأبنية والأطراف والأوساط، هذا إلى كثير من أحكام النحو الأخرى التي تفزع من يتتبعها إذا هو أراد جدال صاحب الحرف اللاتيني! أهذه هي الطلاسم أم تلك؟ وأيهما أفسد لوقت المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية؟ بل أيهما أضرَى وأشنع فتكًا وشراسة؟ بل أيهما الذي يغول العقل لا الوقت وحده! ولكنها فتنة! فتنة اغتر بها شيخ صالح، فاستغلها من لا يرى للعربية حقًّا ولاحُرمة، ولولا بعض حسن الظن لقلنا: لا تأمنوا قومًا يَشبٌّ صبيُّهم ... بين القَوابِلِ بالعداوة يُنشَعُ (¬1) فَضِلَتْ عداوتُهم على أحْلامِهِم ... وأبتْ ضِبابُ صدُورِهم لا تُنْزَعُ (¬2) إن الذين تَروْنَهم إخوانَكم ... يشفي غليلَ صدورهم أن تُصرعُوا وأي مصرع يا صاحب المعالي! علَّمك الله الخير وهداك إليه وسددك وحفظك. ¬

_ (¬1) القوابل: جمع قابلة، وهي التي تستقبل الولد عند الولادة. يُنشَع: وُيربَّي. (¬2) الضباب: الحقد الكامن في الصدور.

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة (صديق إبليس)

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس " قال عمر بن أبي ربيعة": "لم أزلْ أرى كَلْثم "هي بنت سعد المخزومية زوجة عمر" أجزلَ النساء رأيًا وأصلبهنَ مكسِرًا (¬1)، وأقواهُن على غيرة قلبها سلطانًا، حتى إذا كان مُنذ أيام رأيتُ امرأة قد استعلن ضعفها، وتهتَّك عنها جَلَدُها، وعادتْ أنثى العقلِ يُغويها الذي يغريها. "وإن أنسَ لا أنسَ يوم احتلتُ عليها حتى دخلت إليها، وقد تهيأت لي أجملَ هيئة وزينت نفسها ومجلسها، وجلست من وراء الستْر؛ فلما سلمتُ وجلستُ، تركتني حتى سكنت، ثم رفعت الستْر عن جمال وجه يخطفُ الأبصارَ، ثم رمت في وجهي تقول: أخبرني عنك أيها الفاسق! ألست القائل كذا وكذا؟ تعني أبياتا لي، فما زلت أفتِلُ في الذِّرْوَة والغاربِ (¬2)، وهي تَنِدُّ عليّ وأنا مقيم عندها شهرًا لا يدرى أهلي أين أنا، ولا أدري ما فعل الله بهم. ولا والله ما مرّ عليَّ يوم إلا حسبتها امرأة قد خلقتْ بغير قلب، لما ألقاه من عنادها وامتناعها، وإني لآتيها بالسِّحْر بعد السحْر من حديث تحنُّ عليه العوانس المعتصمات في مَرَايئ الزمن، وأنا يومئذ شاب تتفجَّر الصَّبْوة من لساني، ويتلألأ الغزلُ في عينيَّ، وهي يومئذ غادة غريرة لو نازعها النسيم، فيما أرى، لاستقادتْ له من دَلِّها ولينها وغضارة العيش. ولبثت شهرًا أقول وأحتال وأستنزل عُصْمها (¬3) ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد 601)، 1944، ص: 37 - 40. (¬1) يقال رجل صُلْبُ المكْسِر، على المدح والثناء، وذلك إذا كان باقيا على الشدة لا يلين ولا ينخزل. (¬2) هذا مَثَل. الذروة: أعلى السنام. والغارب: ما بين السنام والعنق، وأصله أن يكون البعير مُصْعَبا. فيحكّ صاحبُه سنامَه وغاربَه، ويفتل الوبَر بينهما بأصابعه حتى يؤنسه بذلك، ويخدعه حتى يمكن منه فيخطمه. (¬3) العُصْم: من الوُعول ما في ذراعيه بياض، وهي تسكن أعالي الجبال.

برُقى السحر، حتى إذا قلت قد دانتْ، انفلتت مصعَّدَة قد تركتني شاخصًا أنظر إلى صيد قد طار، ثم أطرق ناظرًا إلى سحر قد بطل. فلما اشتد ذلك عليّ استأذنتها في الخروج إلى أهلي، وقد يئست منها ومن هواها، فما سمعت حتى قالت: "يمينَ الله أيها الفاسق! بعد أن فَضَحتني؟ لا والله لا تخرج أبدًا حتى تتزوجني! " فتزوجتها وهي أحبُّ النساء إليّ أن أتزوَّج، ومازلتُ معها وأنا لا أنكرُ منها شيئًا، وأقول الشعر تأخذه الألسن لتشيعه إلى الآذان، وأدخل بيتي فألقاها فلا أسمعُ منها قلتَ وقلتَ! فيكربنى إغفالُها لما يبلغها من الشعر، فألحُّ على النسيب، وأذهب كل مذهب في التشبيب، وأتبعُ النساء بعينيّ وقلبي، وأقولُ، فلا والله ما نَبَضَ لها قلب ولا تحركت لها جارحة، ولقد أدخُل عليها فإذا هي تلقاني ضاحكة لاهية، حتى أقول: لعلها لم تسمعْ! فأنادي مولاي وأملي عليه، وهي بحيث تسمعُ ما أملي، وأتخلل الإملاء بالشكوى والحنين وأرفع بهما صَوْتي، ثم أنهضُ ألقاهَا فما أرى وجْهها يربَدُّ أو يتمعَّر (¬1)، فكان ذلك غَيظي وشِقْوَتي، لا تزيدُهما الأيام إلا اتقادًا. ويْلُمِّه كيلًا بغير ثمن! كم ذا أُغِيرُها فلا تغارُ! وأقبلتُ ذلك اليوم، بعد مرجعي من الكُوفَة بشهر أو أكثر، فاستقبلني جُوان (هو ولد عمر من كلثم) فقال: "يا أَبَهْ. أُمي، ما فعلت بها؟ ". قلت: "أُمك! بخير يا بُني وَعداهَا السوء". قال: "كلاَّ يا أَبَهْ، وما أدري ما بها، غير أني ظللتُ أيامًا أستخبرها، وهي خالية، عما يريبها أو يؤذيها، فلا أسمعُ منها إلا ما تنشده من شعرك. كُنا كَمِثل الخمْرِ كان مِزَاجَها ... بالماء، لا رَنْقٌ ولا تكديرُ فإذا وذلك كان ظِلَّ سَحَابة ... نَفحَتْ به في المُعْصراتِ دَبورُ (¬2) "ثم تنظر إليَّ وتقول: يا جُوان، امضِ لشأنِكَ، ولا تَنْسَني في صلاتك، فوربّ هذه البنيَّةِ، لقد حملتُك ووضعتُك وأنا أدعو الله أن يُجنّبني الشيطانَ، وأن ¬

_ (¬1) تَمَعَّر: تغير وتقبض غَضبًا. (¬2) الدبور: ريح حارة تهب من جهة الجنوب.

يجنبَ الشيطانَ ما يرزُقني، فكنتَ أنتَ يا بُنيّ دَعوتي، فادعُ ربَّك يا جُوان لأمك التي حملتك وهنا على وَهن. فابْكِ ما شئتَ على ما انقضَى ... كل وَصْل مُنْقَض ذاهبُ لو يردُّ الدمعُ شيئا، لقد ... ردَّ شيئا دمعُك الساكِبُ فأقول: "يا أماه لقد أفزعتِني! " فتقول: "اذهبْ يا بُنيّ "لو تُركَ القَطَا ليلًا لَنام" (¬1). ثم تشيحُ وتنصرفُ، ولا والله ما قدرتُ منها على أكثر من أن أسألها فتجيبني بمثل ما أخبرتُك. فبالله، يا أَبَهْ، لا تدع أمي تموتُ بحسرة تتساقط عليها نَفْسُها! ارحمها يرحمك الله. ويذهبُ جُوان ويَدَعُني لما بي، ويأخذني ما حَدُث وما قَدُم، وكيف ولم أُنْكِر منكِ يا كلثمُ شيئًا منذ رجعت من غيبتي بالكوفة؟ وإني لأدْخُلُ عليها فتُدَاعبُني وتضحك لي وتذهبُ بي في لهوها مذاهبَ، ولا والله إن وقعتُ منها على مَسَاءة تضمرها أوهمّ تكتمه، وكأن الحياة قد منعتْ دونها غِيَرَ النفس فهي لا تتغير. وهذا جُوان يقول، فلئن صَدَقَ لقد كذبتني عيناي وكذبَ عليّ قلبي، وإن كلثم لَتلهُو بي وتتلعبُ وأنا في غفلة عن كُبْر شأنها وأساها! وأذهب من ساعتي أدور في الدار أنظر، فإذا كل شيء أراهُ قد لبس من همّ نفسي غلالة سوداء نشأت بيني وبينه، وإذا أيامنا المواضى قد بُعثتْ في أَسْمال هلاهيل تطوف متضائلة في جنباتِ البيت وهي تنظرُ إليّ نظرة الذليل المطرَّد المنبوذ، وإذا كلثم قد خرجت إليهنَ كاللبؤة المُجْرِية (¬2) رِيعتْ أشبالُها، وإذا أنا أسمعُ همهمة كأنين الجريح تنفذُ في أذنيّ من حيثما أصْغَيتُ، وما هو إلا أن أراني في فراشي قد توكأتُ على مرفقي، والغشيةُ التي أخذتني تنقشعُ عني شيئا بعد شيء. وبعد لأي ما ذكرت ما كان من حديث جُوان كما كان، فنهضت من مكاني أَطلب كلثم في غِرَّتِها حيث هي من البيت. وقصدت مقصورتها فإذا هي قد أجافت الباب (¬3)، فذهبت أفتحه وإنّ يدي ¬

_ (¬1) هذا مَثَل، يضرب لمن يتنبه لنواذر الشر فيأخذ حذره. (¬2) المجرِية: ذات جِرْو، وهو ولدها. (¬3) أجاف البابَ: رَدَّه عليه.

لتأبى عليّ أن تمتد خشية أن أطلع منها على ما يسوؤني، وهي أحب إليَّ من أن أراها مغمومة أو مكروبة على غير ما عودتني وعودتها. فأستأذنها من ورائه قالت "مهلا يا أبا الخطابِ، وبخير ما جئت". فقلت لنفسي "كذب والله جُوان وما كان كاذبًا". فلما فتحتْ لي الباب رأيتُ سُنَّة وجه كالسيف الصقيل يبرق شبابًا ورضى، وقالت "مرحبًا بك يا عمر، لو رأيت الساعة جاريتي وهي تدخلُ على ساعية تجري تقول: سيدتي أَدْركي مولاي فقد سمعت الناس يتناشدون من شعر قاله اليوم، وإذا فيه. ليس حُب فوق ما أحبَبْتُها ... غير أن أقتل نفسي أو أُجَن فاحفظيه يا سيدتي من روعة المصيبتين. فقلت لها: لقد وقى مولاك السوءَ أن ليس بينه وبين الناس إلا لسانه! ولا يقتل مولاك نفسه أو يجنّ حتى يقتل الحمام نفسه على هَدِيله (¬1) أو يجنُّ". لم أدر ما أقول، فقد كانت كلماتُ جوان قد تشبحَّتْ لعينيَّ ودوَّت في أذني، فما أطقتُ صبرًا أن أسألها: "ما يقولُ جوان؟ زعم أنك لا تزالين مهمومة لأمر يستخبرك عنه فلا تخبرينه، ولقد مضت السنون بيني وبينك، ولا والله ما علمتُ إلا خيرًا ولا رأيت إلا خيرًا، وما قال إلا ما يجعلني آسَى على ما كان مني إليك مما ساءك أو رابك". وما كدتُ أتم حتى رأيتها تنتفض كالرشأ المذعور أفزعته النبأة (¬2)، وبَرقَت فتخاذلت وغَرِقَ صوتها فما تنطقُ فخاصرْتها (¬3) ومشيت بها إلى مجلس في البيت وجلست أتحفَّى بها حتى تهدأ. وبعد قليل ما قالت: "أما إذا كان هذا يا أبا الخطاب فوالله إنْ كتمتُك شيئًا". ثم أطرقت ساعة، وأنا أنفُذُها ببصرى أطلب غيب ضميرها، ثم رفعت إليَّ بَصَرها ونظرت نظْرَة المرتاب ثم قالت "إني مُحَدِّثتك يا أبا الخطاب عما كان ¬

_ (¬1) الهديل: فَرْخٌ -زعموا- كان على عهد نُوح -عليه السلام- فهلك ضيعة وعطشا، فيقولون إنه ليس من حمامة إلا وهي تبكي عليه. (¬2) النبأة: الصوت الخفي، يَنُم عن الصائد. (¬3) خاصرتها: أخذت بيدها في المشْي.

كيف كان. هذه جاريتي ظمياءُ تدخل عليَّ كالمجنونة منذ أيام تقول: "سيدتي، يمين الله أن تكتمي عليَّ ما أقول". فأقول: "أمنت يا ظمياء! ما يروعك"؟ فتقول: "لا والله ما يروعني إلا أن أدع مولاتي توصم بين نساءِ قريش وبني مخزوم، ويتحدث أهل مكة أن أم جوان قد لقيت من البلاءِ كذا وكذا". فأقول: "ويبك يا ظمياء! انظري ما تقولين! ". فتقول: "لا والله إن هو إلا الحقّ، أرأيت إلى تلك البيضاء الصهباء ذات العينين التي مازلت تجيئني منذ أيام، لقد قالت لي في عُرض حديثها: يا ظمياء لقد جئت مكة من بلادٍ بعيدة، وإني لأسمع الناس على الطريق يذكرونها ويذكرون بيت الله الحرام، فما ازددت إلا شوقًا أن أرى بيت الله الحرام، وأن أرى الناس يجاورون هذا البيت العتيق، وما وقع في قلبي إلا أن أرى دنيا لم أرها، وقومًا كتب الله لهم أن يكونوا أطهر وأتقى الناس لله. ولقد خرجتُ من بلادي وهي أبغضُ إليَّ لما أرى من فجور أهلها وانغماسهم في كل إثم وباطل، وكنت أرى أشد أهلنا فجورًا ولجاجًا أولئك الشعراء. ثم دخلت بلادكم وطوّفت فيها ما طوّفت حتى إذا انتهيت إلى أرضكم هذه، لم أزل أعرف الشعراء فيكم أَفْجَر وأفسق وأضلّ". "فما أطقت أن أصبر يا مولاتي حتى قلت: "مَهْ يا صهباء، وكذبتِ. وأين بنو الأصفر (¬1) من بني يعرب؟ فإن شاعر العرب ليقول، وإن قلبه لأطهر من أن يدنسه ما يدنس به شعراؤكم أنفسهم يا بني الأصفر. وهذا مولاي وهو أغزل العرب لسانًا، وما علم أحد عليه سوءًا. قالت صهباء: ما أحسن ما رباك أهلك يا ظمياء! وأحسني ما شئت ظنك في مولاك. قلت: تبًا لك. وإنك لَتُرِيغين (¬2) إلى مولاي منذ اليوم، فلا والله لقد كذبتِ وخسئت أيتها الصهباء الطارئة التي لا مولى لها، فقالت صهباء: كذبتُ وخسئتُ! ما أصدق ما قال مواليك "من دَخلِ ظَفار حَمَّرَ" (¬3)! وإنك لغريرة يا ظمياء، وأنا الصهباء الطارئة من بنات الأصفر لأَخبَرُ منك بغيب مولاك عمر. قلتُ: كيف قلتِ؟ قالت: إنه الحق، وإن لمولاك غيبًا ¬

_ (¬1) بنو الأصفر: هم الرُّوم. (¬2) أراغ إلى فلان: طلبه سرا في خفاء للإضرار به. (¬3) ظفار مدينة يمنية كانتِ لِحِمْيَر. وحَمَّر: تَعَلَّم الحِمْيَرِيَّة، وهذا مَثَلٌ.

عميت عنه عينك وعين مولاتك، وهو أحرص عليه من أن يطلع على خَبئه أحد قلت وأنَّى لك أيتها الغريبة؟ قالت: دعي عنك، فهو الذي أحدثك. "ثم دنتْ مِني كالتي تُسِرُّ إليّ، وقالت: ما كذبتُك أيتها الحُلْوَة الغريرة، فهذا مولاكِ قد ذهب إلى الكوفة منذ زمن، ألم يكن ذلك؟ وهذا مولاكِ قد نزل بأفسق خلق الله وأخْبثهم عبد الله بن هلال الحميريّ الذي يزعُم أنه صديق إبليس وخَتَنُه (¬1) وصاحب سرَّه، وإذا هذا الفاجر يخرجُ إليه قَينتين من أجمل خلق الله وأَحسنه يغنيانه بشعره حتى ذهبَ عَقْلُه، وإذا هو يديرُ مولاك يومًا بعد يوم على أن يُفتَتَن بهما، حتى إذا بلغ منه ما أراد ضمن له أن تكونا بالطائف بحيث لا تراهما عينُ بشر. لا تنظري إليّ كالمرتابة، فهذا الخبيث ابن هلالٍ قد ألقى الطاعة إلى إبليس حتى عظُم أمره عنده فهو يُخْدِمُه (¬2) ويُناطقه، وحتى لقد ترك له صلاة العصر تقربًا إليه، وحتى أباحه إبليس أن يأمر الشياطين تتلعَّب ببني آدم، ومن شرطه عليه أن لا يزال أبدًا يجمَعُ بين الرجال والنساءِ في الحرام. وهو رجل كما يقول مولاي. . . .". قالت ظمياء: وإن لك لمولى يا صهباء؟ قالت صهباء: دَعيني حتى أتمّ يا ظمياء .. هو رجُل قد أوتى من القُوَّةِ على السِّحْر والقدرةِ على تلبيس أنظار الناس ما لم يجتمع لأحد من شياطين السَّحرة قبله، فلو هو مسَّ وجْه امرئ بمنديله الأزرق ذي الوشي لم تأخُذْه عينُ بشر. وهكذا هو يفعل بمولاك وصاحبتيه حتى لا يراهم الناس. قالت ظمياء: وإنَّ هذا يكونُ؟ ! قالت صهباء: نعم! وليس في الأرضِ أحدٌ يطيق أن يَدْرأ شرّ هذا الشيطان الخبيث إلا مولاي. فقالت لها ظمياء: ولكن أنَّى لمولاك يا صهباء أن يكونَ عَرَف الذي خبرتني به إن كان ما تقولين عن مولاي مما سمعته منه؟ قالت ظمياء: فدنت مني ونظرتْ في عَيني بعينين مذعورتين يخفِقُ فيهما مثل شقائق البرق، ثم قالت: ما من شيء يفْعَله هذا الخبيث ابن هلالٍ حيث كان إلا كانَ عند سيّدى خبرُه. فقالت لها ظمياء: وَيْبى! أحقا قلت يا صهباءُ؟ قالت: وَىْ، أو كنتُ كاذبة عليك وما أنا ¬

_ (¬1) الخُتُونة: المصاهرة، والخَتن: أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته وكل من كان من قِبلِ امرأته. (¬2) يُخدمه: جعل له خَدَمًا.

وأنت إلا من هذه الجواري الغريبات المستضعفات؟ ومالك تكذبيني وإنْ عندي من برهانِ ذلك ما لا قِبلَ لك بردّه. قالت ظمياء: بالله! قالت: بالله، فاذهبي إلى صِوَان سيّدك في هذه الغرفة التي إلى جوارنا، وأخرجي من بين المِطْرف السابع والثامن من ثياب مولاكِ ما تجدين! [قالت كلثم امرأة ابن أبي ربيعة]: "فهبت ظمياء فدخلت إلى صِوَانك (تعني عمر) فأخرجت شيئًا رجعتْ به إلى صهباء. ثم إذا هي تدخلُ عليّ وتقصُّ قصة ما كان، فأمرتها أن تأتيني بصهباء لأسمع ما تقول، فروت لي كل ما حدثتك به يا أبا الخطَّاب. (قال عمر بن أبي ربيعة): "فما تمالكت أن قلت لكلثم: ما تقولين؟ وأي شيء هذا الذي كان بين مطرفي السابع والثامن؟ فقالت كلثم: رُويد يا عمر، إما أن تدعني أتمّ وإلَّا والله لا سمعتَ مني شيئًا حتى يقطَع الموت بيني وبينك. قلت: ويحك، فأتمي. قالت كلثم: "ثم إني سألت صهباء عن سيدها ومولاها فقالت إنه رجل صالح يسيح في الأرض، وإنه قد جاء فَحجَّ حِجَّتَهُ وهو على سَفَرِه بعد قليل يضرب في البادية حيث يشاء الله. قلت لها: أو يعلم مولاك من أمر ما تحدثيني عنه أكثر مما قلتِ؟ قالت: لا أدري يا مولاتي، فإنه ربما دعاني ويجعل يحدثني ويحدثني حتى أقول لن يَسْكُت، وما هو إلا كخاطفة البرق حتى يقطع فلا يتكلم. فربما عدت فسألته فلا والله ما يزيد على أن ينظر إلي ويبتسم. قلتُ لها: أو تستطيعين يا صهباء أن تأتيني بمولاك، ولك عندي مائة دينار؟ كلا لا نلت من مال مولاتي شيئا، ولكني سأديرُه حتى يأتيك لما أرى في وَجْهك من الخير والسَّعْدِ.

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة (صديق إبليس)

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس (بقية ما نشر في العدد الماضي) "وذهبت صهباء وبقيت أترقَّبُها ثلاثة أيام ولياليها وهي لا تجئ، حتى إذا كانت ليلة خرجتَ إلى الطائف آخر خَرْجة، جاءتني صهباء في جِنْح العَتمَة ودخلت هي وظمياء. قالت: لقد أطاع مولاي مرضاتك، فإن أذنتِ جئتُ به الساعة. قلت لها: لبِّثِي حتى يأوىَ جوان. فلما كان بعد هدأة الليل وفقدنا الصوت، ذهبت صهباء ساعة ثم جاءت. وَدَخَل عَليَّ رَجُل أسمر طُوالٌ نحيل البدن مَعْروق الوَجْه أبيض اللحية أشعث أغبر، كأن عينيه جمرتان تَقِدان في وقْبَين (¬1) غائرين كأنهما كهفان في حِضن جبل ونظر في عيني فوالله لتمنيتُ أن الأرض ساخَتْ بي ولم أنظر في عينيه، فما هو إلّا أن سلَّم حتى سمعت نغمةَ صوتٍ شجى كحنين الوالهة، فوالله لتمنيت أن يتكلم ما بقيت. ولم أدر ما أقول ودَهِشْت وهلك صوتي، فنظرت فإذا هو يبتسم إليَّ ثم يقول: "يا أم جوان! لقد سعيت إلى بيتك وما سعيت من قبل إلى بيت إلا إلى هذه البَنِيَّة "يعنى الكعبة". وقد جاءتني فتاتي صهباء تحدثني عما كان منها إليك، وقبيحٌ بامرئ أفزع قلبًا ساكنًا أن يدعه أو يطمئن، ولو كنت أعلم أنها مفتوقة اللسان، ما حدَّثتها بشئ أبدًا". قالت كلثم: فكأن الله جعل لي قوة سيلٍ جارف فقلت له: كذبت يا رجل وكذبت بنت الأصفر، ووالله لئن لم تأتني ببرهان ما تقول، لتركت شيبتك هذه أباديدَ (¬2) في أكف صبيان مكة. ووالله لو صدقت لأسترنَّك ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد 602)، 1944، ص: 60 - 62 (¬1) الوَقب: النُّقْرة في الصخر يستنقع فيها الماء. (¬2) أباديد: متفرِّقة، قِطَعًا قطَعا.

ولأكفينَّك ما عشتُ. فقال: "جزاك الله خيرًا يا أم جوان أما إذ كذبتي فآيتى أن تذهبي فتستخرجي من جوف حقيبة عمر الحمراء بين جلدها ومفرشها كتابَ عبد الله بن هلال الفاسق بخط يده، قد جعله تميمة لزوجك أن لا يراه أحد إذا خرج إلى مأوى الفتاتين بالطائف، ومعه منديلُ ابن هلال الأزرق ذو الوشى، يمسح به وجْهَه قبل أن يرحل". فما كذبت أن طِرْتُ إلى ما زعم، فوالله لقد صَدَق وبَرَّ. "قال عمر"، قلت: ما تقولين؟ قالت: صه يا عمر فوالله لقد صدق وبرّ، وقلت له: أيها الشيخ! أفأنت تعلَمُ أين تجد هاتين الخبيثتين؟ قال: لا. قلت: فما تزعمُ فتاتك من أن لا شيء يفعله الخبيث ابن هلالٍ إلا كان عندك خبره؟ قال صدقتْ. قلت: فكيف لا تعلم؟ قال: إنه أخبث وألأم وأضل وأدهى وأقرب إلى إبليس وبنته بَيْذَخْ ذات العرش من أنْ أُطِيق معرفة ما انقطع بيني وبينه. قلت: وما بيذخ ذات العرش؟ قال: إنها ابنة إبليس التي اتخذت عرشها على الماء حولها سودٌ غلاظ يشبهون الزُّطَّ، حفاة متشققو الأعقاب، ولا يصل إليها إلّا من قدّم لها القرابين من حيوان ناطق وغير ناطق، وترك لها من الصلاة والصوم، وقدم إليها من الذهب والفضة واللآلئ حتى ترضى، فإذا فعل ما تريد وصل إليها فسجد تحت عرشها، فَتُخدِمه (¬1) من يريد وتقضي حوائجه. قلت: وما علمك بهذا أيها الشيخ؟ قال: ذاك شيء قد كان، والله هو التواب الرحيم. قلتُ: قد كان! قال: نعم أما اليوم فلا، وما يأتيني بأخبار اللعين الزنديق ابن هلال إلا صاحب من الجن قد آمن بإيماني، ولكنه محجوبٌ عن الأسرار. فقالت أفلا تكرمني أيها الشيخ فتسأل صاحبكَ أن يحتالَ ليعرف؟ قال: لا أدري! ولكن ائتينى بطستٍ أُناطِقْ صاحبى. "فأتيته بطست فكبَّه، وأخرج من كُمِّه غلالةً سوداءَ فنثرها عليه، وأَمَر بالفتائل فأطفئت، وطلب جمرات في طبق فلما تم ذلك أخرج عُودًا من المندلى فطيَّر دُخَانه، وجلس حتى وإن عينيه لتبِصَّان (¬2) في الظلماءِ، وجعل يتمتم ¬

_ (¬1) تخدمه تجعل له خَدَمًا. (¬2) تبصّ: تَلْمَع.

ويدندن ويُهَمْهِم حتى كدتُ أنشقُّ، ثم قال: يا زوبعة! فإذا صوت يأتي كأنما يخرجُ من جوف بئرٍ شَطون (¬1) يقول: لبَّيك يا أبا الحسن! وقال: أتدري أين أنا؟ قال: بلى دَرَيْتُ! قال: لقد حضرني من الأمر ما تَعْلم، أفأنت بمُدْركي بمأوى قينتي ابن هلالٍ؟ قال: لقد علمتَ ما لي ببيذخَ طاقة إيماني بالله ورسوله! قال: أفلا تحتال؟ قال: تبًّا لك! أترومني أن أَرتَدَّ إلى الكفر بعد الإيمان؟ قال يا زوبعة! أَمالك مِنْ صديق ترفقُ به حتى تستلَّ منه السرّ؟ قال زوبعة: هذا فراقُ بيني وبينك أيها الخبيث. ووالله ما تركتَ السِّحْرَ إلا وفي قلبِك رَجْعَة إليه. خسئتَ أيها الفاجر! ". وإذا الطستُ يتحرَّك فينقلبُ فأرى كمثل شرارة النار تنطلقُ مُدَّة ثم تخْفَى. قال الشيخ: يا أمّ جوان، لقد رأَيت، ومالي من حيلةٍ. قلت: احتَلْ لي وقاكَ الله السوءَ، ولا والله لا تخرج من هذه الدار حتى تعطيني المواثيق بأن تفعلَ ما أريد. قال: أم جُوَان، وكيف بعذاب الله؟ "قالت كلثم: فوالله ما إن سمعتُ مقالته حتى خانتني قدماي فوقفت أبكي ويرفضُّ دَمْعي كلذْع الجمْر، ورأيت الدُّنيا قد أطبقت عليَّ، وما هو إلّا أن أَنشِجَ بالبكاء. فدنا الشيخُ وأسر إليَّ أَنْ أبْشري أمَّ جُوان، فلا والله ما أدعُك أبدًا حتى يطمئن قلبك، واصبري غدًا تأتيك الصَّهْباءُ. وما أفقتُ حتى رأيتُني كالمأخوذة وظمياءُ تنضَحُ وجهي بالماءِ. وبقيت الليل كلَّه أطويه ساعةً بعد ساعةٍ حتى أصبَحَ الناسُ، وقلبي يجِفُ، ودمعي ينهل، وكأنّ في سَمْعي دويَّ النَّحْل، حتى إذا قام قائم الظهيرة جاءتْ صهباء، فقالت: يقول لك مولاي إنه يَبغِي رَفْرفَين من الديباج، وعشرة أثواب من الإبريسَم، وبُرْدين كذّابين (¬2) من الخز، وخمسين لؤلؤة لم تثقب. فما كذّبتُ أن أعطتها ما طلبتْ. وغابت يومين ثم جاءتني مع العشى وقالت: يقول لك مولاي: لو أطاقَ أن لا يكلّفك لفَعَل، ولكن الأمرَ قد ¬

_ (¬1) بئر شطون: بعيدة القَعْر. (¬2) الرفرف: البِساط، وكل ما كان مِن دِيباج فهو رفرف. كذَّابينْ: يأتي مفرده أكثر ما يأتي بصيغة المؤنث، والكذابة: ثوب يُصْبَغ بألوان، يُنْقَش كأنه مُوَشى، وفي حديث المسعودي: رأيت في بيت القاسم كذابتين في السقف، لذا أظن أن صواب الكلمة بالتاء، أي مؤنثة.

استعصى عليه بعد توْبته، وإن بَيذَخ (بنت إبليس) لتتقاضاه كِفاءَ ما عَصَاها في طاعة الله. وإنها قد طلبت أن يذبحَ لها من الذبائحَ ما يسيلُ على جنباتِ الغَوْرِ (مسكن الجن) حتى ترضَى. قلت: كم يريد مولاك؟ قالت: بين المئتين والثلاثمئة. فوالله ما كذبتُ أن أعطيتُها. فما غابت إلَّا يومًا أو بعضه حتى جاءت تطلبُ المنديلَ الذي أعصبُ به رأسي، فما كذّبتُ أن أعطيتُها. ثم جاءتني من الغَدِ عند الأصيل، فقالت: يقول لك مولاي لا تصلي العشاء الآخرة الليلة حتى يُؤذِنَك. فوالله لقد كبر على ولكني أطعتُه، وإذا أنا أسمعُ في سُدْفَة (¬1) الفجر صوتا كالمتحدِّر ما بين جبلين يقول: قُومِي إلى صلاتِك. فقمتُ فصلَّيتُ وما كدتُ حتى أذن الفجر. فلما كانَ بعد أيامٍ جائتني صهباءُ تقول: أبشري! سيأتي مولاي الليلة. قلت: مرحَبًا به من ضيف. فلما دَخَلَ الليل وسكن الناس، جاءَ الشيخ لميعاده فسلَّم وسكتَ ثم قال: انظري إليّ يا أم جوان. فنظرت في عينين كالنار المشعلة في الليلة الدّامسة، وجعل يُمر يده بين عيني وعينيه، فكلما احتجبتا عني أظلمت الدنيا في عيني، وإذا وقعت عيني في عينه أضاءَ ما بيني وبينه كالسراج المتوهج، فوالله ما شعرت إلا وظمياءُ تنضحني بالماءِ حتى أفيق. قلت: يا ظمياء! أين الشيخ؟ قالت: لقد أَذنتِ له أن ينصرف بعد أن أعطيته من المال ما طَلَب .. قلت: تبَّا لي أين كان عَقْلي؟ وكم أعطيته؟ قالت: ألف دينار ذَهَبًا، وواعدَك أن يأتيك بعد سبعة أيام بمأوى الخبيثتين. "قالت كلثم: وهذا اليوم ميعاده، ووالله لئن صدقتني يا عُمَر لقد حفظتك ما عشتُ في قلبي". "قال عمر بن ربيعة": "فوالله ما كنت أدري ما أقول، إلا أني قلت لها: أَصْدُقُكِ؟ لقد ضللتِ إذن أيتها الحمقاء". قالت: "أنا حمقاء أيها الفاجر الفاسق! ثم قامت إلى صوانها فاستخرجت منه شيئًا ونشرته لعيني، فإذا سَرَقةٌ (¬2) من حرير أبيض عليها صورتان، فما تأملتها إلا كانتا والله قينتي ابن هلال حيث رأيتهما وسمعتهما بالكوفة، ولقد كانتا في السَرَقة أجمل وأفتن وأحبَّ إليَّ مما ¬

_ (¬1) السُّدفَة: الظلمة. (¬2) السُّرَقة: أجود أنواع الحرير.

كانتا. قلت: إنهما والله يا كلثم قينتا ابن هلال! قالت: وصدق الشيخ أيها الفاجر! أَتَدَع حرائر بني مخزوم إلى الخبيثات الدنيئات من بغايا الكوفة، تخالف إليهن تحت الليل والسِّحر والكفْر وعبث الشيطان بك وبعقلك. [قال عمر]: وإذا جوانٌ بالباب ينظر إلى الصورتين، ثم يتقدم ويقول: ما بك يا أمَّاه! فتقول: هذا الخبيث الفاجر يدع الحرائر من بني مخزوم ملطَّمات (¬1) ويختلف إلى زواني الكوفة يقتادُهن إليه الخبيث ابن هلال بالسحر والطلاسم. وهذا منديله يمسح به غبارَ وجهه لا يراه الناس ساعيًا إلى فجوره. [قال عمر]: وجعلت تقص على جوان قصة ما كان، وهي تنظر إليَّ كاللبؤة المُجْرية ريعت أشبالها، فما كادت تفرغ حتى جاءت ظمياء مُعْجَلة تقول: مولاتي، صهباء بالباب. قالت كلثم: إيذني لها. فما كدت أراها حتى فزعت قائمًا إليها وأخذتُها بغدائرها: "وإنك لأنتِ أنتِ أيتها الشيطانة. فانقضتْ عليَّ كلثم تذودنى عنها وتقول: دعها أيها الفاجر قلت: إنها فِتَن جارية الخبيث الفاجر عبد الله بن هِلال ولطالما خدمتني بالكوفة! أليس كذلك يا فتن؟ قالت: أراك يا سيدي فما أنا إلا جارية بائسة مسكينة يركبني هذا الشيطان بخبثه وخبائثه. قلت: وأين ابن هلال صديق إبليس؟ قالت: ما تدركه يا مولاي! فقد ارتحل الليل وتركني والثَّقَل. قلت: وما جئتِ تبغين؟ قالت: أرسلني أطلب المال من مولاتي. قالت كلثم: دعها يا عمر الآن، لقد ضللتُ إذن ما فعلتُ، ووالله لقد خدعني الشيطان ابن هلال. أين كان. فقال جوان: والله يا أمَّه! لقد كان فجور أبي بخَبِيثتين من بغايا الكوفة، أحبَّ إليَّ من شِركك بالله وكفاك. قُومي يرحمك الله فتوبي إلى الله مما كان من ضلالك وكفرك. ¬

_ (¬1) ملطمات: إما عني بيض الوجوه، وأصل ذلك في الفرس إذا سالت غرته في أحد شِقِّي وجهه، وذلك من علامات الكرم. وإما أراد أن وجوههن (وسائرهن بالطبع) تفوح بالمسك، وهي اللطيمة.

من وراء حجاب

من وراء حجاب أخي الأستاذ الزيات: السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فقد أكرمتني ودعوتني لكتابة مقالتي لعدد الهجرة من الرسالة، فجعلت أماطل الساعات كعادتي حتى تضطرّني إلى مأزق أجد عنده مفرًا من حمل القلم، والإكباب على الورق، وترك الزمن يعدو عليَّ وأنا قارٌّ في مكان لا يتغير وزمان لا يتحول. فلما كارب الرقت وأزفت الساعة، فزعت إلى ذلك الكتاب القديم الذي طال عهد "الرسالة" به، وهو "مذكرات عمر بن أبي ربيعة"، حملت الكتاب حريصًا عليه، ووضعته على المكتب بين يديّ، وترفقت بصفحاته وأنا أقلبه كما يقلب العاشق المهجور تاريخًا مضى من آلام قلبه. ووقعت على ورقة حائلة اللون قد تخرّمها البِلى، وإذا فيها هذه الأبيات الثلاثة، لم ينل منها شيء، لا تزال ظاهرة السواد بيِّنة المقاطع: "فصروف الدهر في أطْباقه ... خِلْفَة فيها ارتفاع وانحدارُ (¬1) بينما الناس على عليائها ... إذ هوَوْا في هوَّة منها فغاروا إنما نَعْمَة قوم مُتْعة ... وحياة المرء ثوب مستعارُ" لم أدر لِمَ نقل "عمر بن أبي ربيعة" هذه الأبيات في مذكراته، فإنها قائمة وحدها ليس قبلها ولا بعدها شيء يدل على ما أراد من ذكرها، فجعلت أداور الأوراق لعلي أبلغ مبلغًا من توهُّم خبرها الذي سيقت من أجله، وجعل معناها يداور قلبي ويساوره حتى كفت يدي عن الحركة، وسكن بصري على مكانها، وأحسست كأن القدر قد نام في ظلالها كالمارد الثمل طرحه طغيان السكر حيث ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 653)، يناير 1946، ص: 8 - 11 (¬1) أطبافه: أحواله المختلفة خِلْفة: يخلف بعضها بعضا، يعاقب فيها الخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض.

استقر، وأطاف بنفسي جو من السكون والرهبة والجلال، وأخذت أستغرق في تأمل هذه الحياة المتكررة المتطاولة الدائبة منذ عهد أبينا الشيخ آدم -رحمه الله- إلى يوم الناس هذا. فآنست فترة (¬1) تأخذني، ثم نعسة تتغشَّاني، وسبحت في غمرة طويلة لذيذة لا عهد لي بمثلها منذ عَقَلْتُ. وإذا أنا أفضي من غمرتي إلى ميدان فسيح أخضر الجوانب متراحب الأرجاء، وإذا مسجد بعيد يستقبلني كأحسن ما رأيت من مسجد بناءً وبهاءً، قد تباعدت أركانه وتسامت في جو السماء مآذنه، ويبرق بابه ويتلألأ شعاع الشمس عليه. فقصدت قصده، ولم أكد أدنو حتى رأيت جموعًا غفيرة من الخلق يستقبلون الباب خارجين، في ثياب بيض وعمائم بيض كأنها غَمامٌ تزجّيه الرياح (¬2). فوقفت وسألت أول من لقيت: ما الذي جمع الناس؟ قال: إنه الشيخ أيها الفتى. قلت: فمن الشيخ يرحمك الله؟ قال: غريب والله، إنه الشيخ أبو جعفر الطبري إمام أهل السنة، وشيخ المفسرين، وعمدة المحدِّثين، وثقة المؤرخين، ردّ الله غربتك يا فتى. قلت له: جزاك الله خيرًا ورضي عنك وأرضاك، أتراني أدركه الساعة؟ قال: هو رهين هذا المسجد لا يبرحه، فادخل تلقه. ولم أزل أحتال للدخول وأمواج الناس تتقاذفني عن الباب حتى كدت أيأس من لقاء الشيخ، وظننت أني لو بقيت دهرًا لم تنقطع هذه الأمواج المتدفقة من باب المسجد. وظللت أزاحم حتى بلغ مني الجهد، وانتهيت إلى صحن المسجد وقد انفضّ جمع الناس، ولم يبق فيه غيري. وجعلت أسير أتلفت وأنظر في مقصورة بعد مقصورة، حتى رأيت بصيصًا من ضوء في مقصورة بعيدة، فلما وافيتها، وكانت الشمس قد آذنت بغروب، رأيت مسرجة معلقة وحجرة واسعة، وآلافًا مؤلفة من الكتب قد غطت الجدران. فاستأذنت ثم سلمت فلم أسمع مجيبًا، فدخلت، وإذا في جانب منها شيخ ضافي اللحية أبيضها جميل الوجه، قد اتكأ وأخذته سنة من نوم، وقد مالت عمامته عن جبين يلمع كأنه سُنَّة مصقولة من ذهب، وبين يديه كتب وأوراق مبعثرة أو مركومة ومحابر وأقلام. ¬

_ (¬1) فترة: ضَعْف وفُتُور. (¬2) تزجيه: تدفعه وتسوقه.

سرقت الخطو حتى قمت بين يدي هذا الشيخ النائم، ثم جلست وجعلت أقدم ثم أحجم أريد أن أمسك شيئًا من ورقه لأقرأه، ثم عزمت فأخذت ما وقعت عليه يدي، فإذا هو تتمة تاريخ أبي جعفر الطبري الذي كان سماه "تاريخ الأمم والملوك"، وكان الجزء الذي فيه يبدأ من سنة خمس وستين وثلاثمئة بعد الألف من الهجرة (سنة 1365 هجرية الموافق لسنة 1946 م)، فانطلقت أقرأ تاريخ هذا الزمن وما بعده. وعسير أن أنقل لك كل ما قرأت، فسأختار لك منها نتفًا تغنى، كما كتبها الإمام أبو جعفر، وبعضها منقول بتمامه، وبعضها اختصرت منه حتى لا أطيل عليك. قال أبو جعفر: [ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمئة بعد الألف] ذكر ما كان فيها من الأحداث: فمن ذلك ما كان من إجماع المجلسين الأمريكيين على فتح أبواب فلسطين لشذاذ المهاجرين من اليهود. وكتب إليَّ السُّدّى، وهو مقيم هناك في أمريكا، أن موقف الرئيس ترومان الذي كان ادَّعاهُ من إيثاره العقل على الهوى في هذا الأمر، إنما كان حيلة مخبوءة أراد بها أن يغرر بالبلاد العربية والإسلامية، ثم يفاجئها بحقيقته. وهو في ذلك إنما يعمل للظفر بمعونة اليهود في الانتخاب الآتى للرياسة. ولما كان هواه هو الذي يُصرّفه، فقد علم أنه طامع في الرياسة حريص عليها، وأن اليهود في أمريكا هم أهل المال، أي أهل السلطان، أي هم الأنصار الذين إذا خذلوه فقد ضاع. قال السدّى: وقد سمعت بعض أهل العقل والرأي في أمريكا يستنكرون ما كان منه ومن قرار مجلسيه، ويرون أن الديمقراطية اليوم قد صارت كلمة يراد بها التدليس على عقول البشر، ليبلغ بها القوى مأربه من الضعيف المغرور بهذه الرقية الساحرة التي يدندنون بها في الآذان. وقد أخبرني الثقة أن الرئيس ترومان قد أَوْحى إليه بعض بطانة السوء أن العرب والمسلمين قومٌ أهل غفلة، وأن دينهم يأمرهم بالصبر ويلح فيه، فهم لا يلبثون أن يستكينوا للأمر إذا وقع، ولا يجدون في أنفسهم قوة على تغييره أو الانتقاض عليه، وأن الزمن إذا تطاول عليهم في شيء ألفوه ولم ينكروه. فإذا دام دخول اليهود فلسطين وبقى

الأمر مسندًا إلى الدولة المنتدبة (وهي بريطانيا)، وانفسح لحمقى اليهود مجال الدعوى والعمل والتبجح، وألح على العرب دائمًا إجماع الدنيا كلها (أي الديمقراطية) بأن الدولة اليهودية في فلسطين حقيقة ينبغي أن تكون وأن تتم كما أراد الله، فيومئذ يلقى العرب السَّلَم، ولا يزالون مختلفين حتى ينشأ ناشئهم على إلف شيء قد صبر عليه آباؤه، فلا يكون لأحد منهم أدنى همة في تغيير ما أراد الله أن يكون، مما صبر عليه آباؤهم وأسلافهم -وهم عند العرب والمسلمين- أهلُ القدوة. وفي هذه السنة كتب إليَّ السُّدّى أيضا يقول إنه لقى أحد كبار الدعاة من اليهود، وكان لا يعرفه، فحدثه عن أمر اليهود في فلسطين، فقال له الداعي اليهودي: لا تُرَعْ، فنحن لابدَّ منتهون إلى ما أردنا، رضي العرب أم أبوْا. وما ظنك بقوم كالعرب خير الحياة عندهم النساء، وقد قال نبيهم: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلتْ قُرَّة عيني في الصلاة"، ولقد سلطنا عليهم بنات صهيون، وهن من تعلم جمالا ورقة وأبدانًا تجرى الحياة فيها كأنها نبع صافٍ يتفجر من صفاة شفافة كالبلَّوْر. وهن بنات صهيون دلال وفتنة، وعطر يساور القلوب فيسكرها ويذهلها ثم يغرقها في لذة يضن المرء بنفسه أن يصحو من خُمارها أو نشوتها، منصرفا عن أمر الدنيا كله لا عن الصلاة وحدها التي جعلت قرة لعين نبيهم. فهن في فلسطين، وهن في الشام، وهن في مصر والعرأق وتونس والجزائر ومراكش، ولولا تلك البقعة العصية التي لا تزال نخشى بأسها على ضعفها وقلتها وفقرها -أعني الحجاز وما جاوره- لقلت لك: لقد قضينا على هذه العرب، وعلى هذا الدين الدخيل الذي سرق منا التوحيد وادعاه لنفسه. . . . [ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمئة بعد الألف] ذكر ما كان فيها من الأحداث: فمن ذلك ماكان من اجتماع ملوك العرب وأمراؤهم ووزراؤهم بعد الحج من

السنة التي قبلها، اجتمعوا في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرَّ قرارهم على أن يعلنوا للناس جميعًا وينذروهم بما رأوا وبما أجمعوا عليه: الأول: أن ميثاق الأطلسي ومواثيق الدول الكبرى كلها تغرير بالضعفاء وتلعب بعقولهم. الثاني: أن فلسطين ستجاهد، ومن ورائها بلاد العرب والمسلمين جميعًا تظاهرها بالمال والولد. الثالث: أن الفتك والغدر والاغتيال ليس من شيمة العرب ولا من دين المسلمين، وأن حوادث الاغتيال الشنيعة المنكرة التي اقترفها اليهود ينبغي أن تقابل بالصدق والصراحة لا بالغيلة والغدر. الرابع: أن الأمم العربية والإسلامية تعلم أن ليس لديها اليوم من السلاح ما يكفي لقتال الأمم المعتدية التي تظاهر اليهود بالمال والسلاح، ولكنها ستقف كلها على بكرة أبيها صفًّا واحدًا تقاتل بما تصل إليه يدها من مقاطعة ومنابذة وكبرياء. وأنها تفعل ذلك ما استطاعت، ولكنها لن تظلم يهوديًا ولا نصرانيًّا ولا أحدًا من أهل الأديان، ولن تضطهد بريئًا ولا لاجئًا، وأنها لن تقنع بشيء بعد اليوم إلا بجلاء المعتدين والمستعمرين من بلادها، وجلاء اليهود عن أرض فلسطين، ومن شاء أن يبقى فيها من يهود، فله ما لنا وعليه ما علينا. الخامس: أن الأمم العربية الإسلامية قد عزمت على أن تبدأ منذ هذا اليوم في انتخاب مجلس عام تمثّل فيه جميعًا، وهذا المجلس هو الذي سيضع الدستور العام للدول العربية والإسلامية، حتى إذا تمَّ وحّدت هذه الدول سياستها الداخلية والخارجية، وصارت يدًا واحدة في العمل، لتقاوم بذلك اتحاد الأمم الديمقراطية الغربية، التي لم تزل تريد أن تجعل الشرق سوقًا وأهله عبيدًا. [ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمئة بعد الألف] ذكر ما كان فيها من الأحداث: ففيها أراد اليهود في بعض البلاد العربية أن يظاهروا إخوانهم في فلسطين،

فأجمعوا على جعل يوم السبت كله منذ الصباح يوم عطلة فأغلقوا دكاكينهم، ورفعوا عليها أعلام الدولة الصهيونية المجترئة، واجتمعوا في بِيَعهم وجمعوا مالا كثيرًا بلغ عشرين مليونًا من الجنيهات لمساعدة المصانع التي كادت تغلق أبوابها من جرَّاء المقاطعة التامة التي أحسنت الأمم العربية توجيهها وتدبيرها. ومما كان من ذلك في هذه السنة اجتماع المؤتمر العام لنساء العرب في دمشق، وقد قرَّرن أن تعود المرأة إلى بيتها عاملة على إنشاء جيل من البنين والبنات لم تفسده الشهوة التي استبدت بالناس في تقليد ذلك الفجور القبيح الذي عملت يهود على نشره في بلادهن من زينة وتبرج ورقص وتحلُّل من أخلاق السلف، وذلك لكثرة ما وقع من حوادث هدمت بيوتًا عزيزة وأسرًا كريمة، وأفضت إلى ضروب من المآسي لم يطق أحد عليها صبرًا. وفيها أيضًا أجمعت الصحف العربية والهندية الإسلامية والتركية والفارسية مقاطعة الإعلان اليهودي. وكل صحيفة تخالف هذا الإجماع يُمحى اسمها واسم رئيس تحريرها ومحرّريها من سجل نقابة الصحافة، ولا تفسح لأحد منهم فرصة حتى يعمل في صحيفة أخرى بعد هذه المخالفة. [ثم دخلت سنة سبعين وثلائمئة بعد الألف] ذكر ما كان فيها من الأحداث: اشتعلت نيران الحروب في الشرق كله، واجتمع رؤساء الدول العربية والإسلامية في مكة المكرمة ووحَّدُوا قيادة الجيوش العربية، ولكن لم يلبث سفير بريطانيا في مصر وسفير أمريكا أن أرسلا برقية إلى المجتمعين في مكة يطلبون وقف الحركات الحربية التي سموها (ثورة)، ورغبوا إلى ملوك العرب ووزرائهم أن يتمهَّلوا حتى يصدر تصريح مشترك من الدولتين الكبيرتين، على شريطة أن تمتنع البلاد العربية من متابعة السياسة الروسية التي تتظاهر بمؤازرة العرب والمسلمين. وبعد أيام صدر هذا التصريح، وهو ينص على أن للعرب ما أرادوا من وقف

الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وعلى العرب أن يتولوا بأنفسهم مفاوضة يهود فلسطين على السياسة التي يريدونها، وأن بريطانيا وأمريكا لن تتدخلا في الخلاف الناشب يين الفريقين، وأن الدولتين الكبيرتين ستمنعان كل مساعدة تُرسل من بلادهما إلى فلسطين من مال أو سلاح. . . [ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمئة بعد الألف] ذكر ما كان فيها من الأحداث: تمَّ استخدام الذرَّة وانفلاقها في كل شيء، وحدث في زراعة البلاد انقلاب عظيم، إذ أصبح من اليسير استنبات نبات الصيف في الشتاء، ونبات الشتاء في الصيف. وقد بدأ ملوك العرب أعظم عمل في التاريخ، وهو استخدام أسلوب جديد يحوّل الرمالَ العاقرة إلى أرض خصب وافرة الزَّرع، وقد نفذ هذا في جزء كبير من صحراء جزيرة العرب. أما في مصرَ والسودان، فقد تَمَّ توزيعُ ماء النيل وضبطُه حتى لا يضيع من مائه إلا أقل قدر، وبذلك أتيح لمصر أن تُنشيء ثلاثة فروع جديدة شَقَّتها في الصحراء الشرقية حتى أفضت إلى بحر القلزم (البحر الأحمر)، وصار ما بينها أرضا مَرِيعة ذات خصب. وبذلك سيتاح لمصر أن يبلغ عدد سكانها أربعين مليونًا من الأنفس في أقل من عشرين سنة. ومما كان من ذلك نهضة عامة في سياسة البلاد العربية، جعلت الرأي العام العالمي يناصر القضية العربية مناصرة تامة في أكثر بقاع الأرض. . . [ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمئة بعد الألف] ذكر ما كان فيها من الأحداث: كثرت حوادث الاغتيال والفتك في كثير من البلاد العربية والأجنبية، وقُتل من العرب وأنصار العرب من سائر الأمم خلق كثير، واستفحل الشرُّ استفحالا عظيما، حتى ثارت الصحف الإنجليزية والأمريكية وطالبت حكوماتها بإعلان قرار واحد بأن الرأي العام والسياسة العامة في سبيل السلام تقتضي أن تُبذل النصرة الكاملة للعرب وللقضية العربية، وأن تتعاون الدول على ردّ العدوان الصهيوني

الذي صار طغيانًا شديدًا في جميع بلاد الأرض، وأنه ينبغي على الدول جميعًا أن تضحي في سبيل ذلك بكثير من المصالح المالية، وهي قيود اليهودية التي جعلت كل الأمم ترسف في أغلالها. . . [ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمئة بعد الألف] ذكر ما كان فيها من الأحداث: كتب إليَّ السُّدِي يقول: إن أمريكا قد قررت إجلاء اليهود من أرضها كلها، وأن تستصفي أموالهم، ولا يبقى فيها إلا علماء اليهود وحدهم إن شاءوا. ومن المنتظر أن تفعل بريطانيا وسواها من الدول مثل ما فعلت أمريكا. وفيها ثار العمال اليهود في فلسطين على أصحاب المصانع اليهودية، وذلك من جرّاء بوار أكثر التجارة اليهودية التي نهكتها المقاطعة العامة في بلاد العرب والمسلمين، ولقلة الأجور، ولكن الحكومة اليهودية ضبطت الأمر وبذلت الأموال، وجنَّدت جيوشًا عظيمة العدة والعدد. وحدثت أحداث عظيمة في أكثر بقاع الأرض. حتى وقع التنابذ بين الدول الكبيرة التي لا يزال لليهود فيها سلطان عظيم. وأخوف ما يُخاف أن تقع في هذه السنة حرب عالمية تستخدم فيها جميع الأسلحة الجديدة التي يخشى أن تكون على العالم دمارًا وخرابًا. * * * واستيقظ الشيخ من غفوته، ونظر إليَّ نظرة المتعجب، وقال من أنت؟ وما تفعل؟ فانتبهت فزعًا، وإذا أنا أقرأ في تفسير الشيخ أبي جعفر الطبرِي تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

تهجم على التخطئة "السلام عليكم"

تهجم على التخطئة "السلام عليكم": إلى أخي البصام: السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فقد رأيتك تستغرب هذه التحية المباركة (¬1) التي يهديها الرجل إلى أخيه، وأتاك هذا الاستغراب من أن قومًا زعموا أن "القاعدة" هي أن نبتدئ الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم)، بدون (ال) التعريف، فإذا جاء الختام قلنا: (السلام عليك أو عليكم). . . وأن بدء الكتاب بقولنا (السلام عليكم) خطأ شائع في هذه الأيام! ! إلخ. واستدللت بقول الله تعالى في كتابه الكريم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} وقوله سبحانه: {سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُون} في أكثر من ثلاثين موضعًا على وجوه مختلفة. وصدق الله الذي يقول في سورة مريم: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} بـ (ال) التعريف، وصدق الله الذي يقول في سورة طه لموسى وهرون: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} بـ (ال) التعريف أيضًا. فلا تستغرب يا سيدي! ولا تستغرب أيها السيد الكريم إذا علمت أن أهل القبلة جميعًا كانوا، ولا يزالون، وسيظلون إلى آخر الدهر، يقول الرجل منهم إذا انتهى من سجوده وقعد للتشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". ولا تستغرب إذا أنت قرأت في صحيح البخارى في باب (ما يتخير من الدعاء بعد التشهد ليس بواجب): "حدثنا مسدَّد، قال حدثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، عن عبد الله قال: كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تقولوا، السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 659)، فبراير 1946 ص: 199 - 200 (¬1) وذلك في مقاله: إلى الأستاذ الفاضل محمود محمد شاكر، الرسالة، العدد 658، فبراير 1946، ص: 170 - 171

عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين -فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء، أو بين الأرض والسماء- أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو". وكذلك في باب (التشهد في الآخرة) من صحيح البخارى. ولا تستغرب يا سيدي أيضًا إذا مر بك وأنت تقرأ في مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 439 من حديث عمران بن حصين: "أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم، فرد، ثم جلس فقال (يعني رسول الله): عشْرٌ. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد، ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد، ثم جلس، فقال: ثلاثون". أقول: يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر حسنات، وعشرين حسنة، وثلاثين حسنة. وكل ذلك بـ (ال) التعريف أيضًا. ولا تستغرب يا سيدي إذا رأيت في مادة (سلم) من لسان العرب: "ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام، بحذف عليكم. ولم يرد في القرآن غالبًا إلا منكرًا .. فأما في تشهد الصلاة، فيقال فيه معرَّفًا ومنكرًا. . . وكانوا يستحسنون أن يقولوا في الأول: سلام عليكم، وفي الآخر: السلام عليكم، وتكون الألف واللام للعهد، يعني السلام الأول". ومن هنا أتى من لا يُحسن العربية، وقلّ إطلاعه على كتبها وفقهها -والاستحسان هنا منصبٌ على ما كان في التشهد- فإنه، كما ترى عنى بالأول، ما كان في التشهد، وبالآخر السلام الذي يُخرجُ من الصلاة. وهذا شيء قال به بعض فقهائنا وأئمتنا استحسنوا من عند أنفسهم أو مما روَوا. ولا تستغرب يا سيدي إذا وقفتَ يومًا على قول الأخفش "ومن العرب من يقول: سلام عليكم، ومنهم من يقول السلام عليكم. فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود والذين لم يلحقوه حملوه على غير المعهود". ثم عاد فقال: "وفيهم من يقول: سلام عليكم، فلا ينوّن"؛ ثم ذكر العلة فقال "حمل ذلك على وجهين: أحدهما حذف الزيادة من الكلمة كما يُحذف الأصل على نحو "لم يك"، والآخر أنه لما كثر استعمال هذه الكلمة، وفيها الألف واللام،

حذفا لكثرة الاستعمال كما حذفا من اللهم، فقالوا: لهُمّ". وكأنه جعل "السلام عليكم بالتعريف هي الأصل الذي كثر استعماله". فلا تستغرب إذا نظرت فرأيت أن الذي جاء في مقالتي ليس خطأ ولا مجاراة على خطأ. ولا تستغرب إذا أنا قلت لك: إن أدعياء اللغة إنما يُؤتَوْن من سوء التقدير لما يقرأون، ومما انطوت عليه قلوبهم من حب التعالم على الناس بشيء يدعونه ويلتمسون له الحجة، حتى ما يدرك أحدهم فرق ما بين "سلام عليك" و"سلام" و"سلامًا"، كما جاءت في كتاب الله في أكثر من ثلاثين موضعًا، وبين ما جاء في كتاب الله أيضا من قوله {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}، وقول رسول الله الذي تلقاه المسلمون عنه في تشهد الصلاة وفي التحية. واعلم يا سيدي أني قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجردًا ولم أتبعه ببيان الفروق في المعاني، وما ينبغي وما لا ينبغي، ولا تحريت لك ولا للناس أن ألج بهم موالج في دقيق العربية وغامضها تدل على أن من نقلتَ أنتَ عنه هذا القول قد تمحَّل (¬1) وتهجَّم على ما لا علم له به، وعلى ما لا يحسنه ولا يجيده! فلا يغررْك التبجح بالعلم، ولا تقنع من المتحذلقين بما يسمونه "القاعدة"، فلعلها باطل مزور، وكذب مختلق، واجتراءٌ على العربية هي من سوآته براءٌ، ولعل دليلهم يكون هو الدليل على بطلان ما يزعمون كما رأيت. وفي هذا مقنع وهدًى. والسلام عليكم ورحمة الله. ¬

_ (¬1) تمحل: سَعَى إلى الشيء وطلبه وتصرَّف فيه.

وأيضا تهجم على التخطئة!

وأيضًا تهجم على التخطئة! إلى أخي البصام: السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فيخيل إليَّ -والله أعلم- أنك رجل واسع المعرفة، مغرًى بالتحصيل، دقيق البصر، تطلب الكلام وإسناده ووجهه ومكانه وضوابطه. وحسب طالب المعرفة أن يكون كمثلك. وقد طلع عليَّ مقالك في الرسالة (¬1)، فما أدري والله من أي أمريك أعجب؟ من واسع معرفتك، أم من حسن تهديك إلى مواطن الشبهة في كلامي. أم لعلي أعجب من استجلابك للحجة بعد الحجة في تخطئة شيء كان الناس في غنى وراحة عن اضطرابهم بين صوابه وخطئه؟ ومختصر القول هو أنك تريد تقول إن الكتاب ينبغي أن يبدأ كما بدئ في بعض كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتب أصحابه بقولك: "سلام عليك" فإذا كان الختام قيل: "والسلام عليك"، وأن من بدأ الكتاب بقوله: "السلام عليك" فقد أخطأ. أفهذا شيء من أدب الكتابة واتباع السُّنة وحسب. أم هو قاعدة توجب الاتباع نحوًا ولغة ورواية، فيكون من بدأ بقوله: "السلام عليك" معرفًا فقد أخطأ في حق النحو واللغة والرواية؟ وكلامك كله يدل على أن البدء بالسلام المعرَّف خطأ من قبل النحو واللغة والرواية. أليس كذلك؟ فإذا كان ذلك كذلك، فقد رويت لك قول صاحب اللسان في مادة (سلم): "ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام بحذف عليكم"، وهذا ولا ريب قول اللغة والرواية والنحو فيما رواه لنا الرواة، في تحديد بدء السلام (الذي هو التحية). هذه واحدة. ثم ذكرت لك قول الأخفش الذي رددته علي، وقلت إنه لا يعتدّ به (هكذا)، لأني لم أذكر مصدره الذي نقلتُ عنه، وفيه تصريح بيَّن كتصريح ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 664) 2 مارس 1946، ص: 333 - 336 (¬1) العدد 662، مارس 1946، ص: 283 - 284.

صاحب اللسان، ثم زاد فأَظْهَرَنا على العلة فقال إن "سلام عليكم، حذفت منه الزيادة (وهي الألف واللام) كما يحذف الحرف الذي هو من أصل الكلمة في قولنا: (لم يك)، وعلة أخرى هي أنه لما كثر استعمال "السلام عليك" بالألف واللام حذفا لكثرة الاستعمال. وهذا تقرير يدل على أن اللغة والنحو والرواية تجعل الأصل في السلام المبدوء به هو التعريف. بان شئت أن تعرف أين وقع هذا الكلام عن الأخفش فاطلبه في ص 152 ج 1 من كتاب تهذيب الأسماء واللغات للنووى وفي غيره أيضا. هذه ثانية. فإذا شئت أن تزداد علما فخذ كتاب "المخصص" لابن سيده ج 12 ص 311 واقرأ قوله: "فأما قولهم: سلام عليك، فإنما استجازوا حذف الألف واللام منه، والابتداء به وهو نكرة، لأنه في معنى الدعاء، ففيه وإن رفعتَ معنى المنصوب". يريد كأنك تدعو فتقول: "سلاما". وقوله "استجازوا" دليل على أن الأصل هو التعريف بالألف واللام في ابتداء التحية، وأن الحذف ترخُّص منهم، وهو شبيه بقول الأخفش. هذه ثالثة. فإن شئت أن تضرب الأمثال لنفسك بالشعر كما ضربتها لي، فأقرأ قول جرير في ديوانه ص 443 وفي النقائض ج 1 ص 212. يا أمّ ناجِيةَ السَّلامُ عليْكُم ... قبلَ الرواحِ وقبلَ لؤمِ العُذَّل هذه رابعة. وإن شئت أن تقرأ قول لبيد في الخزانة ج 1 ص 217 - 218 وفي ديوانه: إلى الحَوْلِ ثم اسْمُ السلامِ عليكُما ... ومن يبْكِ حوْلًا كاملًا فقد اعْتذَر فافعل، تجد قولهم أن كلمة (اسم) مقحمة، وتقدير الكلام فيما يقول النحاة: "ثم السلام عليكما"، وتجد أيضًا في إحدى الروايات "إلى سنة ثم السلام عليكما". هذه سادسة (¬1). فانظر لنفسك هل أخطأ كل هؤلاء وأصبت أنت؟ ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، وحقها أن تكون: هذه خامسة.

واعلم مشكورًا أن المقام في هذا كله مقام ابتداء لا مقام ختام مسبوق بسلام منكر غير معرف. وأما نص ابن قتيبة فهو كلام بين لا غموض فيه، فالرجل يقول لك: "تكتب في صدر الكتاب: سلام عليك، وفي آخره السلام عليك"، ولم يقل لك إنه "ينبغي"، ولا أن القاعدة "أن تكتب في صدر الكتاب كذا. . . ."، وهو إنما ذكر هذا في كتابه في (باب الهجاء) لا في باب أدب الكتابة كما ترى، ولم يأمر الرجل ولم ينه، ولم يقل لك إن من قال في أول كتابه "السلام عليك" معرفًا فقد أخطأ، كما شئت أنت تقوَّله. وأما ما ذكره من أمر التعريف، فإنه أراد أن يعلمك لِمَ عُرّف ثانيا وقد جاء منكرًا وهو أول، وكان حقه أن يأتي في الآخر منكرًا مرفوعًا كما جاء في الأول فقال لك: "لأن الشيء إذا بدئ بذكره كان نكرة، فإذا أعدته صار معرفة، وكذا كل شيء. تقول: مر بنا رجل، ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع، فكذلك لما صرت إلى آخر الكتاب، وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته أنه ذلك السلام المتقدم"، ويريد أن يقول إن التعريف هنا "للعهد لا للجنس". هذا كل ما في كلام الرجل لم يوجب شيئًا ولم يمنع شيئا. وأما الآية التي في سورة مريم من قول عيسى -عليه السلام- {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ. . .}، وما جاء من قول الزمخشري فيها: "قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله يعني في قول الله تعالى ليحيى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ. . .} فذلك تفسير من الزمخشري لمعنى (ال) في قول من قال إن التعريف هنا للعهد. وأبى الزمخشري أن يكون كذلك، لأن العهد ههنا باطل عنده، فالسلام المذكور في قصة يحيى كان من قول الله سبحانه قبل مولد عيسى، وهو آت في أول السورة في الآية (15)، ثم مضى بعدها [واذكر في الكتاب مريم] وذكر الله سبحانه قصتها، حتى أفضت إلى كلام عيسى وهو في المهد إذ قال: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ. . .} في الآية (33) فبينَ السلام الأول والثاني (1) انقطاع في المدة (2) وانقطاع في السَّرْد (3) واختلاف في مُبتَدِئ السلام ومُلْقِيه، فالأول من الله والثاني من عيسى. هذا وسلام عيسى في الآية الثانية المعرف فيها السلام، ابتداء ولا ريب.

ومن أجل ذلك ذهب الزمخشري إلى أن التعريف ههنا للجنس لا للعهد (وهذا كما ترى يخالف كل المخالفة ما أراده ابن قتيبة في كلامه). ثم ذكر الزمخشري نكتة البلاغة في التعريف فقال إن تعريف الجنس هو الصحيح لا تعريف العهد "ليكون تعريضًا باللعنة على متهمي مريم وعلى أعدائها من اليهود". وهي عندي تعليل ضعيف جدًّا من الشيخ - رضي الله عنه -، وكان خليقًا به أن يصرف عنه وجهه. ولولا أنه كان مولعًا بنكت البلاغة لما وقع في مثل ما وقع فيه. وإن شئت أن تزداد فقها ومعرفة بما قلت فاقرأ تفسير الشهاب الخفاجي والألوسي والقونوي وأبا (¬1) حيان وكتاب الأنموذج للرازي وتدبر ما فيها كل التدبر. وأما قوله في الآية الأخرى من سورة طه: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} إن معنى التعريف ههنا التعريض بحلول العذاب على من كذب وتولى، فهذا جيد وحسن لقوله تعالى في الآية التي فيها: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}. هذا أيضًا طلب لنكت البلاغة، وتبيان لأن التعريف ههنا للجنس. ولكن الزمخشري لم يقل لك، ولا غيره فيما أحسب يقول لك: إن تعريف الجنس ينبغي أبدًا أن يكون متضمنا معنى تعريض بشيء كالعذاب أو الويل أو الهلاك أو سوى ذلك كله. ولو كان ذلك كذلك أيها الصديق لكان قصر تعريف الجنس على التعريض عجبًا من العجب المضحك، فانظر إلى قولك "سلام عليك" التي كان أصلها "سلامًا عليك" منصوبة بفعل محذوف، التي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى السلام واستقراره، مع بقائها في معنى الدعاء، فأنت إذا عرفتها تعريف الجنس فقلت "السلام عليك" اقتضت التعريض، فعندئذ تقول لي كما قلت: "وبديهي أيها الأستاذ أنك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضًا بأحد إذ لا حاجة إلى التعريض". ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، والصواب: أبي، إلا إذا كان أستاذنا -رحمه الله- أراد: واقرأ أبا حيان وكتابَ الأنموذج.

فخذ عندئذ أختها وهي قولهم "حمد لله" التي كان أصلها "حمدًا لله" منصوبة بفعل محذوف، والتي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى الحمد واستقراره، مع بقائها في معنى مِن معاني الشكر والدعاء. فإذا عرفتها تعريف الجنس فقلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أفيقتضي ذلك تعريضًا أو توبيخًا أو تهكمًا! ! ! ألا يكون هذا عندئذ عجبًا من العجب المضحك. ومن أجل تعريف الجنس ما أتعب الزمخشري نفسه في آية مريم وفي آية طه. وفي سورة الفاتحة من تفسير قوله: "الحمد لله" فاقرأه هناك وتدبره كل التدبر. وأما مسألة حديث التشهد فأراك جُرْت فيها على الحق. ولقد قلت في مقالك: "أما أهل القبلة فتشهدهم بعد الصلاة مختلف عليه، فمنهم من يقول (سلام عليك) ومنهم من يقول (السلام عليك) ". وقبل كل شيء، فتشهد أهل القبلة لا يكون "بعد الصلاة" وهو "من الصلاة" ومن تركه أو بدَّل فيه بطلت صلاته. هذه واحدة، وأما الثانية، فاختلاف أهل القبلة ليس يقال كما رويتَ، فالصحابة جميعًا والتابعون من بعدهم، وأئمة المذاهب من عرفت منهم ومن لم تعرف، مذهبهم تعريف السلام في التشهد كله إلا (ابن عباس) من الصحابة، والشافعي من أصحاب المذاهب، فإنه ارتضى تشهد ابن عباس وآثره لأنه عنده (هو) أتم الروايات وأكملها، ولكنه لم ينكر التعريف، ولا استنكره المزنيّ ولا سواه من أئمة مذهبه. فلو أنت عنيت نفسك فرجعت إلى شرح البخاري كابن حجر (ج 2 ص 261 وما بعدها) والعيني (ج 6 ص 109 وما بعدها) لعرفت أن الصحابة والتابعين مجمعون على روايته بالتعريف في التشهد جميعًا، ولرأيت أن أكثر الصحابة قالوا في حديث التشهد إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، ولرأيت النووي وهو من أصحاب الشافعي يقول: "قوله السلام عليك أيها النبي، يجوز في السلام في الموضعين حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل". أبعد هذا يا سيدي تطالبني بأن أطلعك أنت "على نص يوثق به يشير إلى أنهم منذ زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقولون في

التشهد: السلام عليك أيها النبي"! عسى ولعل، ولعل أهل القبلة أخطأوا جميعًا وأصبت أنت! بما أوتيت من التدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق! ! وأما إنكارك الحديث على ما خَيَّلَتْ (¬1) لك، وأنه مما لا يستشهد به أهل اللغة والنحو، واحتجاجك على ذلك بشيء اقتطعته من بحث في خزانة الأدب ج 1 ص 6، ولم تتمه على وجهه بالتدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق كدأبك وعلى عادتك، فهذا باب وحده لو ارتطمت فيه لم تعرف مخرجك منه. وما الذي ألجأك إلى هذا أيها العزيز؟ ألأني أتيتك بحديث المسند ج 4 ص 439 وفيه النص على أن المسلمين كانوا يبدأون التحية بقولهم "السلام عليك"؟ والحديث الصحيح الذي استخلصه رواتنا رضي الله عنهم، فنفوا عنه كذب الكاذبين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين حجة في اللغة والنحو، ولو زعم لك زاعم أنه لا يكون حجة في اللغة ولا في النحو فاعلم أنه مبطل، وأنه غافل لا يدري ما يقول. ولو رجعت إلى الخزانة التي نقلت عنها (وحسبك ولا أزيدك) علمت أن صاحبك نقل الذي نقلت لي في كلامك، وأنه رجل عالم طالبُ حق لا مغرور بباطل، فقد ذكر وجوه اعتراض المبطلين في الاحتجاج بالحديث ثم نقضها حجة حجة، وصرح بأن تدوين الأحاديث وضبطها وقع في الصدر الأول من الإسلام قبل أن تفسد اللغة وترتضخ الألسنة باللكنة الأعجمية، كما يعلم ذلك من درس تاريخ رواية الحديث وتدوينه حقّ دراسته، ثم صرح في آخر كلامه بأن لا فرق بين جميع روايات الحديث مهما اختلفت ألفاظها، في صحة الاستدلال بها في اللغة والنحو. وكنت حقيقًا أن تقرأ كلَّ هذا قراءة طالب العلم، فلا تسألني أن أغلق باب الاستشهاد بالحديث، من أجل كلمات رويتها لم تحسن وضعها في مواضعها. وإلا فحدثني أيها العزيز لم ترى علماء اللغة، كصاحب اللسان، وابن الأثير، والزمخشري صاحبك وصاحب كتاب الفائق، وسواهم ممن عرفت ومن لم ¬

_ (¬1) على ما خيَّلت: على غَرَر من غير يقين، وأصله مثل، وتمامه: على ما خيلت وَعْثُ القَصِيم.

تعرف -يملأون كتبهم استشهادًا بالحديث على معانٍ لم توجد في غير الحديث، ولو طلبت لها شاهدا من الشعر أو غيره لم تجد. فإما أن يكونوا هم المبطلين، وإما أن تكون أنت على حقٍ، فنبطل من أجلك نصف اللغة ونصف النحو وأشياء أخرى كثيرة. ثم انظر إليَّ أيها الصديق! ألست أنت الذي تقول هذا، وتقول لي أيضًا في صدر من كلامك معلّما ومنبِّها ومقرعًا إنه "فاتني أن الحديث لا يستشهد به أهل اللغة والنحو". هو أنت أنت الذي لم يلبث في آخر كلامه أن يأتي بشيء يناقض هذا كل المناقضة، فنقلت كتاب رسول الله إلى المقوقس، وهو من الحديث ومما رواه المحدثون، وكتابه إلى كسرى، وهو من الحديث، وكتاب أبي بكر إلى المرتدين، وهو من رواية أهل الحديث، ثم أردفت ذلك بقولك: "ومعلوم أن هذه الكتب مُدَوّنةٌ ويستشهد بها اللغويون والنحاة"؟ ! يا عجبا كل العجب! فمن الذي روى لك هذه الكتب؟ أليسوا هم الذين رووا لك الحديث، وحديث التشهد، وحديث السلام في المسند؟ وأين دوَّنت هذه الكتب إلا في الكتب التي دوّن فيها الحديث؟ وما فرق ما بين تدوين الحديث وتدوين هذه الكتب؟ وإن كنت قد ارتضيت هذه "الكتب المدوَّنة" حجة يوثق بها، فخذ كتاب الزمخشريّ صاحبك، وهو المسمى بالفائق ج 2 ص 3، اقرأ فيه وفي غيره أيضًا: "من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد. السلام على من آمن بالله ورسوله. . . ." إلى آخر الكتاب، ولم يعترض الزمخشري أيضًا على هذا البدءِ، ولم يقل إنه خطأ في اللغة ولا في النحو. ثم خذ صاحبك الطبري ج 3 ص 156 الذي نقلت منه كتاب رسول الله إلى المقوقس، وكتاب أبي بكر، وصاحبك "كتاب صبح الأعشى" ج 6 ص 465، الذي نقلت عنه كتاب الرسول إلى كسرى، ثم اقرأ هداك الله: "لمحمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خالد بن الوليد. السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. . . ." إلى آخر الكتاب. فهل قنعت أيها العزيز بما سقت إليك؟ وأمحضك النصح أن لا تتبع تلك

الناجمة التي نجمتْ بين أهل اللغة تريد أن تتبجح بالعلم والمعرفة والفقه، فتأتي صواب الناس ترميه بالخطأ على الشك والتوهم وسوء التأويل وفساد الفهم. واعلم أن العربية تعلَّم العقل، فمن شاء أن يطلبها بحقها فليصبر عليها صبر المؤمن. وأنت امرؤ فيك خير فلا تُضيع ما آتاك الله بالعجلة والتسرّع، فتثبت قبل أن تحكم. وتدبر قبل أن تقطع، واستقصِ قبل أن تستوثق، وانظر لنفسك قبل أن تزلّ بك قدمٌ. واعلم أن شرّ أخلاق الناس اللجاجة، وشر اللجاجة لجاجة العالِم، وشر لجاجة العالم لجاجته فيما لا يعلم أو فيما لا يحسنُ، وأن نصف العلم قولُ المرء فيما لا يدري: لست أدري. فالفهمَ الفَهْمَ فيما تلجلج في صدرك هداك الله وأعانك وسدّد خطاكَ. والسلام عليك ورحمة الله.

هزل. . .!

هزْل. . .! يخيل إليَّ أن بين قلمي والليل صبابةً أو هوى قديمًا. فطالما رأيتنى أعقد الرأي والعزمَ نهارًا على شيء أجعل الكتابة له قيدًا إذا جَنَّ الليلُ، فما أكاد أحملُ القلم وأبدأ حتى أرى القلم ينقض عليَّ رأيي وعزمي ويمضي إلى حيث شاء كما شاء، فما يُبقى من آية النهار المبصرة شيئًا إلا طمسَهُ أو أزاله أو نكَّر من معارفه، وما أظنّ إلا أن كل كاتب قد ابتُلِىَ من قلمه بمثل الذي ابتُليتُ به أو بشيء يقاربه. ومن أعسر شيء ألقاه من القلم أنى ربما بدأتُ الكتابة، فإذا هو مِطواعٌ حثيث لا يتوقف، وإذا كلمةٌ مرسلة إليه ليقيدها، فإذا هو كالفرس الحرون قد ركب رأسه وأبى إباءً، فلا أزال أترفقُ به واستحثُّه وأديره بين أناملي لِيَلِينَ ما استعصى من طباعه، ولكنه يأبى إلا لجاجة وعنادًا، ثم ينزع إلى وجه غير الذي أردتُ، وإذا أنا مضطر أن أعود من حيث بدأ هو لا من حيث أردتُ أنا أن أبدأ، وعندئذ يمضي على هواه وعلى ما خيّلتْ. فقد عرفت ذلك من عاداته قديمًا، فما يكاد يفعل ذلك حتى أثوبَ إلى ورقة أخرى فأبدأ الكتابة من حيث أراد، وأمري لله. أفتراني أخطئ إذا أنا زعمت أن لقلم الكاتب شخصية مستقلة بل منفصلة تكاد أحيانًا تغلب حامله على رأيه وعلى تقديره وعلى عزائمه؟ أم الإنسان المفكر صاحب العقل شيء آخر غير إنسان الكاتب حامل القلم؟ فهو حين يفكر يُعطى أفكاره الحرية والسَّعة والحماسة ما يجعلها أقدر على التصرف في وجوه الرأي وشعابه ونواحيه، فإذا حمل القلم ليملى عليه بعض أفكاره، واستقل قلمه بالفكرة بعد الفكرة يزنها ويقدرها على قدر عقله لا على عقل حامله، فربما عرض له أن ينبذ منها أو يتنقَّصها أو يتجافي عن طريقها فيسدَّ عليها المسالك ويضرب عليها بالأسداد، ثم يشرع إلى وجه غير الذي يُرَاد له؟ أم الإنسان إذا فكر ثم أراد أن يكتب وحمل القلم صار هو نفسه شخصا آخر غير الإنسان المفكر بغير قلم ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 691)، سبتمبر 1946، ص: 1075 - 1077

محمول؟ كل ذلك ممكن، ولكنه على كل حال مَتْعَبة وشقاءٌ لحامل القلم ما بعده شقاء ولا تعب. وأعرف رجلا من أصدقائي الكتاب، إذا حمل القلم وكتب كلمات ألقى قلمه ضجرًا يائسًا متململا من عُسر المدخل الذي دخل به على ما أراد، فإذا عاد عاد القلم إلى جماحه وتعذره، ولا يزال كذلك مرة بعد مرة حتى يرى قلمه قد رضى وأطاع ومضى إلى آخر حرف في المقالة غير متوقف ولا متلعثم، وقد قال لي: إنه ربما مضت الأيام على ذلك الحِران، مع أنه يعلم مستيقنًا أن الفكرة كانت قد اختمرت واستوت وتهيأت له من قبل أن يحمل القلم بأيام، وأنه كان يظن أنه لن يحمل قلمه حتى يراه قد انساب انسيابًا لا يعوقه شيء، فإذا فرغ من كتابة ما أراد لم يجد أنه زاد قليلا ولا كثيرًا عما كان فكَّر فيه وعزم على كتابته. فأي سر هذا الذي ينطوى عليه القلم حتى يكون هو المتصرف الذي لا يردّ لما أرَادَهُ أمر؟ قد تقول: إنه الحالة النفسية التي يكون عليها الكاتب؛ وقد تقول: إنه الجو الذي تعيش فيه الكلمات التي يبتغى استنفارها من مكامنها؛ وقد تقول أشياء كثيرة من هذا وأمثاله، ولكن يبقى أنك لا تكاد تميز بعدَ الكتابة شيئًا من الاختلاف عما كنت قد فكرتَ فيه وأدرته في نقسك وعرفت أنه قد أطاع لك، فمن أين جاء هذا التوقف العجيب الذي تعتاده بعض الأقلام؟ ! وأنا قد جربت نفسي، فرأيتني إذا أردت أن أكتب أحيانًا شعرًا يدور في قلبي ويلح على خاطري، فأمسكت أي الأقلام وقعت عليه يدي، فإذا هو عصيٌّ عنيدٌ لا تلين له سنٌّ -أو قناة على ما يقولون- فإذا ألقيتُه وحملتُ القلم الذي اعتدتُ زمانًا أن أكتب به الشعر، أو الذي اعتاد هو أن يكتب لي الشعر، انطلق على سجِيته طيّعًا رفيقًا سهل المقادة حسَن التهدي إلى قِبلة الشعر. فأحبُ الآراء إليَّ أن أجعل للقلم شخصية منفصلة تعين الكاتب أو تعانده، فذلك أشبه بالسلطان العريض العظيم الذي فرضته الأقلام على الحياة، والذى لولاه لعاش الإنسان ومات وكأنه لم يوجد قط.

كنتُ أردتُ أن أكتب شيئًا عن المتنبي وعن حكمته وبصره بالحياة وبالناس وبما يعتلج في القلوب على اختلافها، وذلك لحديث جرى بيني وبين أحد ضيوف مصر من أهل العراق. وأردت أن أقارن بين ما يسمونه شعر الحكمة، وبين حكمة المتنبي في شعره، وأين وقع منه سائر الشعراء؛ فما كدت أبدأ حتى عرضت لي أبيات المتنبي التي يقول فيها: إنما أنفسُ الأنيس سباعٌ ... يتفارسنَ جهرةً واغتيالا من أطاق التماس شيءٍ غِلابًا ... واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى ... أن يكون الغَضَنْفَرَ الرئبالا وذكرت عندئذ ذلك البيت الذي أحيتْه أم كلثوم حين غنت في شعر شوقي: وما نَيل المطالب بالتمني ... ولكن تُؤخذ الدنيا غِلايا وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم رِكابا وأردت أن أعرض للفرق بين القولين، وبين العبارتين، وبين القوتين، وبين البيانين. فأي دقة وأي هداية كانت لهذا الرجل الفذ الذي لو احتلت على بعض ألفاظه أن تجد لها بديلا في كلامه لأفسدت معنى البيت وقوته وعبارته وبيانه! فخذ مثلا لفظ "الأنيس"، وتخير ما شئت من حروف اللغة وضعه حيث وضع المتنبي لفظه، واقرأ وانظر وتدبر، هل يليق أو يسوغ أو يلين أو يستقر في مكانه من البيت؟ ضع مكانه "الإنس" أو "البشر" أو "الناس" أو "الأنام" أو ما شئت، سواء استقام الوزن أو لم يستقم، تجد الفرق بين الاختيارين عظيما واسعًا. فهو قد اختار اللفظ والبناء الذي يدل دلالة على المؤانسة والرقة والتلطف وإظهار المودة والظرف وحلاوة الشمائل ولين الطباع، ليظهر لك أنها تخفي تحت هذا كله طباعًا وحشية ضارية مترفقة حينًا وباغية أحيانًا، فمهد للصورة التي أرادها باللفظ الذي لا يستغنى عنه في دقة الصورة وحسن بيانها. فأين هذا من ضعف شوقي الذي لم يزد على أن جمع كلمات رُصّ بعضها إلى بعض لا حاصل لها ولا خير فيها. وما قيمة ذكر الركاب، مع الإقدام والاستعصاء والمنال؟ وأما

البيت الأول "وما نيل المطالب"، فهو كلام عامي دائر على الألسنة، ولا فضل فيه، بل هو أشبه بتقرير ضعيف عن معنى ليس بشيء. وعندئذ عرض لي أنا أن هذا الفعل من شوقي هَزْلٌ للمعاني، وهزل في طِلابها، وهزل في إدراكها على وجهها. وإذا هذا القلم يسألني -أو يأبى إلا أن يذكرني- بأن الهزلَ الذي كان فيه شوقى خير من كل هذا الهزل الذي أصبحنا وأمسينا نعيش فيه. فالدنيا تجدُّ من حولنا ونحن نهزل، ولا نكاد نجد من كبار رجالنا أحدًا قد نهض به جَدُّه وجِدُّه في ناحية إلا وقد سقط به هزله في ناحية أخرى. وأن أشدَّ البلاءِ من مثل هذا الرجل أن يُلبس عليه حتى يظن أن هذا الهزل هو أجد الجد، لأنه ظن أنه ما بلغ إلا بجدٍّ كان فيه طبيعة مغروزة فظن حتى صار ظنه حقًا عنده. ولسنا نحب أن نطعنَ على الرجال بالحق فضلا عن الباطل، ولكن بلادنا في كل مكان من مصر إلى الشام إلى لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى بلاد الهند إلى أندونيسيا إلى الجزائر وتونس ومراكش؛ قد أحست شعوبها أن ساعة الجِدِّ قد آذنت ودنتْ، وأنها ساعة إذا أفلتت فلن تعود إلا بلاء وعناء وشقاء. ومع ذلك فالرجال والزعماء وأصحاب الرأي أيضًا، وهو أشد البلاء، وقد ركَّبُوا في رؤوسهم أُذنًا من طِين وأُذنًا من عجين -كما يقول المثل العامي- فما يسمعون حسيس النار التي تشتعل في صدور أبناء هذا الشرق إلا كحشرجة الميت، فهم يعالجون أمورنا على صورة من اليأس والملل، كأنما يرجون الظفر بأي شيء كان، ماداموا يحسبون أنهم إذا رفعوا لأعين الناس هذا الذي ظفروا به، وقالوا لهم لقد ظفرنا لكم بخير ما ترجون، صدّقهم الناس وصفقوا لهم ومشوا في ركاب مجدهم، وجأروا إلى الله بالشكر على ما أنعم على أيديهم. فهم ليسوا طُلاب حق ضائع بل طُلَّاب مجدٍ كاذب، يطون أنهم يختمون به أعمالهم الصالحات. فأي هزل كهزل رجال الهند مثلا، وهم الذين عركوا ساسة الإنجليز مئة وخمسين عامًا أو تزيد، ولقوا من خداعهم وكذبهم وتغريرهم وقسوتهم وشناعة أحقادهم ما لا ينسى مواجعه إلا غِرٌّ غافل؟ وإذا الذين كانوا بالأمس نار الثورة

وضِرامها قد رضوا أن يستمتعوا بالحكم ويصيروا وزراء في شعب مستعبد تدوسه أقدام الغاصبين، وهو لا يزال يسمع منهم أن الهند جزء لا يتجزأ من هذه الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أملاكها -فأي هزل أسخف وأبعد في الغفلة والسذاجة وسوء تقدير من هذا الحكم؟ وفيمَ يدلس هؤلاء على إخوانهم الذين يعرفون كما يعرفون من خبايا النيات البريطانية التي تدس لهم السمَّ في الدَّسم؟ أو لم تكفهم العِبْرة التي لا تزال أختهم مصر ترفل في أغلالها منذ سنة 1924 إلى يوم الناس هذا، حين قَبِل رجال الثورة أن يكونوا للناس حُكامًا تحت ظلال الغَصْب والاحتلال؟ وأي هزل أشد على النفس الشاعرة مرارة وغضاضة من رجال قاموا من غفلتهم ومنامهم يسمعون الشعب كله ينادى الجلاء ووحدة وادي النيل، أي ينادى بالحق الطبيعى الذي لا يحتاج إلى تفسير ولا بيان ولا شروط، والذي ظلت مصر صابرة تهمس به أحيانًا وتصرخ به أحيانًا أخرى منذ سنة 1882، وإذ هم يطالبون بالذي يطالب به الشعب، ولكنهم لا يلبثون قليلا حتى يرضوا لأنفسهم أن يدخلوا من باب المفاوضة مع البريطانيين، فلما دخلو داروا فيها كما تدور بهم، وهم كانوا أولى الناس بأن يعرفوا بعد طول التجربة ما عرفه الشاب مصطفى كامل إذ قال لهم: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، لأنه أدرك المفاوضة معناها أن ينزل الضعيف عن أكثر حقه للقوي الطائش الباغي؛ فما ظنك به وهو ليس بقوي طائش باغ وحسب، بل أيضًا منصور مظفر قد خرج من الحرب وهو يظن أن الدنيا له وأنه وإن كان ضعيفًا بين الأقوياء، إلا أنه هو الجبار العظيم [بين] (¬1) الضعفاء؟ وأنه سوف ينال من الأقوياء والضعفاء بحيلته وسياسته ما لا ينال بالعنف، فلذلك آثر طريق المفاوضة، واتخذ أعوانه لينيموا الشعب إليها حتى يهدأ ويسكن ويظن أنه بالغ ما يريد؛ لأن الدنيا تغيرت، ولأن العالم في حاجة إلى نظام جديد ليس بينه وبين القديم شبه. وظلت المفاوضات أشهرًا وهي تسير فينا على ¬

_ (¬1) زدت هذه الكلمة ليستقيم السياق، فمكانها مطموس في الأصول.

عكازتين كأنها هي الأخرى من ذوي العاهات الذين خَففتهم الحرب عُرْجًا وظُلَّعًا أو شرًا من ذلك. فأي هزل هذا؟ أي هزل هذا الذي يؤمن به رجال يخالهم الناس من أصحاب العقل والحكمة وسداد الرأي في المعضلات؟ وماذا فعلوا منذ بدأوا إلا أن قدَّم الإنجليز مشروعًا وقدموا مشروعًا؟ ولا يزالون كذلك إلى يومنا هذا. فهم إنما يتقارضون كلامًا لا يغنى عنهم ولا عن مصر. وفيم يتفاوضون؟ ألا إن الحق بين والغصب بين، فقولوا لأصحابكم الذين تفاوضون إن مصر لا تريد إلا تحقيق هذه الكلمات: "الجلاء ووحدة وادي النيل". إننا نريد مصرنا وسوداننا. إننا لا نريد منكم إلا أن تدعونا وشأننا، اخرجوا من بلادنا، فارقونا. قولوا ذلك وعلِّموا الشعوب يإيمانكم وإصراركم أن تكون أشد إصرارًا وإيمانا وأوفى شجاعة وأقدر صبرًا، وإلا فسوف يأتي يوم يجدُّ فيه الشعب جدَّه، فإذا الذي ظننتم أنه مجد لكم هو أبغض شيء إلى الشعب، واعلموا أنه لا مجدَ إلا بِفعَال، والهزل مَخْبَثة للفَعال، فجدّوا إذن وعودوا إلى الإنجليز من حيث بدأوا بكم. إن هذا الذي يحدث في الهند وفي مصر حسرة للنفوس تطوى تحتها أسوأ مغبَّة، فهل من رجال ينقذون بلادهم من شرِّ هذه الموبقة المستطيرة؟ إن الحكام والمفاوضين طُلَّابَ المجد لن يذوقوا لذة المجد حتى يكون الشعب هو الذي يذوق لهم طعمه، فإذا استكرهه، فلا تخدعنهم الحلاوة التي يجدونها في ألسنتهم، فإنها مرارة الدهر وذلّ الأبد، ورحم الله المتنبي: مَن أطاق التماس شيء غلابًا ... واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا فعلام المفاوضة، وفيم السعي إلى الحكم؟

بين جيلين. . .!

بين جيلَين. . .! انتفض شعر المتنبي فرمى إليَّ بهذين البيتين، وهما على بساطة لفظهما كالجبلين الشامخين في تاريخ الحياة الإنسانية: سُبِقْنَا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... مُنعنا بها من جَيْئة وذُهوبِ تملَّكَها الآتي تملُّك سالبٍ ... وفارقها الماضِي فِراق سَليبِ أفليس لمَلك الموت من عَملٍ إلا إخلاء الطريق للقادم، حتى يتاح له أن يغدوَ ويروح في الأرض التي ورثها عن السابق الذي مهَّد له بمواطئه سبيل الحياة! ! ولعلّ ملك الموت يَحارُ أحيانا حيرَة تديرُ رأسه في الأمر الذي حمل أوزاره، وكُلف بقضائه، ولعله يرى أحيانا أنه يزيلُ خيرًا كثيرًا ليخلُفه شرٌ كثير، فهو تَرَدُّدُ المتحسر على ذاهب هو [أَوْلَى] (¬1) بالبقاء من قادم، ولكنه يقضي قضاءه الذي لا يجد عنه مَنْدُوحَة ولا مهربًا؛ وهو ككل صاحب صناعة قد أَلِفها ودرِب بها ولا يجيدُ سواها؛ فهو يعيش بها على الرضى وعلى السخط، على الفقر والغنى، وعلى الفتور والنشاط؛ وهو كسائر الخلق مُيَسَّرٌ لما خُلق له، ولو تُرك له أن يختار لاختار قديما كثيرًا على جديد كثير، ولآثر ناسًا على ناس وحياة على حياةٍ. ولقد أرثى أحيانًا لهذا المخلوق البائس الذي يسرهُ الله لصناعة الإفناء والإهلاك، فإنه ولاريب يرى ما لا نرى ويحس ما لا نحس، ولربما كلَّف أن يقبض الروح من زهرة ناضرة لم تكد تستقبل الحياة. فهو يذوب لها رقة وحنانًا لما سوف تتجرعه من غُصصه وسكراته وحشرجته ومكارهه، فكيف يقسو على من هو بالرحمة أولى، وبالبقاء أخلق من أُخرى لم يُبق فيها العمر المتقادم إلا الأعوادَ والأشواك والجذور التي ضرَبت فيها الآفاتُ، وبَرِم بها البِلَى من طول مُرَاغمتها له على العيش! ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 692)، أكتوبر 1946، ص: 1099 - 1101 (¬1) لم يبق من الأصل إلا هذين الحرفين: لي، فجعلتها كما ترى.

وكيف يفعل هذا البائس حين يعلمُ أنه قد دنا أجلُ عقل عبقريّ لم يتمّ عمله لخير هذه الحياةِ الإنسانية، فهو مأمور أن يطفئ نوره ليخلُفَه عقل دَجُوجيّ لا يأتي إلا بالسواد والإظلام؟ أتُرى أنامله ترتجف من الإشفاق والضن والبُقْيا على هذا السراج الذي أُمر أن يقطع عنه أسباب الحياة؟ أم تُراه يفعل ذلك وهو مسلوب العقل والإرادة والإحساس كأنه قائد من رجال الحرب الحديثة، لا عقل له إلا الحرب، ولا إرادة له إلا الحرب، ولا إحساس له إلا الحرب، فهو كله حرب على الجنس البشري شِيبه وولدانه ورجاله ونسائه، لا يرحم صغيرا، ولا يوقِّر كبيرًا، ولا يشفق على أم ولا ذات جنين! أم تراه يعلمُ ما لا نعلمُ من خَبْءِ هذه الحياة الدنيا، وأن جليلها الذي نجلُّه ونوقره هو أولى الشيئين بالمهانة والتحقير، وأن الحقير الذي نزْدريه كان أولاهما بالتجلَّة والتوقير؟ فهو إذن يؤدي عمله راضيًا عن نفسه وعما يعمل، لا تزعجه الرحمة لما لا يستحق رحمة، ولا يُمسك يده الإشفاق عما لا يستأهل إلا الإرهاق والتعذيب. وكأننا نحن إنما نحبُّ ونبغض ونرضى ونكره على قدر إدراكنا وما بلغ، لا على منطق الحياة المتطاولة الآماد والآباد، فنرى الأشياء متصلة بمصالحنا ومنافعنا، ومحصورة في حاجات أنفسنا وآمال قلوبنا، لا متماسكة ممتدَّة في كهوف الأمس السحيق، وسراديب الغد العميق. فلو أن هذا المَلك كان ميسَّرًا لإدراك الحياة ومعانيها بمثل العقل الذي ندركها نحن به، وكان كمثلنا في تقدير الأقدار على قياس الحاجات والآمال الراهنة محجوبًا عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لرأيناه يحرص أحيانًا على أن يُبقى على بعضنا ويعجل أحيانا في القضاء على بعض آخر نظنُّ ويظنُّ معنا أنه لا معنى لبقائه في هذه الدنيا ليكونِ زِحامًا من الزِّحَامِ لا عمل له إلا أن يَعُوق المتقدم، ويعثرُ به الماشي، ويتفلَّل من جرائه حدُّ الماضي المتعجل، ولكان الناس يومئذ يأتون إلى الدنيا ليجدوها ممهَّدة من نواحيها لا يلقى لاحِقٌ عَنتًا من وجودِ سابق؛ ولا يصادف إلا طريقًا خاليًا لا يضطره إلى جهاد ولا حيلة ولا حذر، ولا يحمله على النظر والتأمل والهمة إصلاح الفاسد والفكر في أسباب

الفساد، وبذلك يتعطل العقل وتقف الإرادة ويستنيم المرءُ إلى الراحة حين يرضى عن عمل من سبقه من الذين أبقى الموت عليهم لأنهم أهلٌ للحياة. وكذلك تنقطع مادة الحياة، ويتفانَى الخلق بالرضى والقناعة كما يتفانون اليوم بالتسخُّط والطمع. بيد أن موت الرضى والقناعة شرٌّ كله لأنه عقيم لا ينتج، أما موت التَّسَخُّط والطمع فهو إلى الخير أقرب، لأنه يبقى البقية الصالحة التي تستمرُّ بها الحياة متجددة على وجه الدهر. ومن أجل ذلك قُدّر للآتي القادم على الدنيا أن يأتي منذ يولد وفي إهابه حبّ التملك والتسلط والأثرةِ والعناد واللجاج في صغير الأمر وكبيره، وكذلك الطفل. وقُدّر للذاهب الراحل عن هذه الدنيا أن يدلف إلى الغاية، وقد نَفَض عن نفسه أحب أشيائها إليه فهو يؤثر الزُّهد والإيثارَ وسعة العقل وقلة المبالاة في كبير الأمر وصغيره، وكذلك الشيخ. فإذا الآتى مُتَمَلِّك سالب، وإذا الماضي مفارق سليب. فهذا هو تاريخ الصراع بين أجيال الناس كلهم، والأمم جميعها، والآراء بأسرها، والمذاهب برمَّتها؛ إلى آخر هذا الحشد الحاشد مما يقع عليه الخلاف في هذه الحياة الدنيا، وليس يكون فيها شيء إلا كان مظِنَّة للخلاف. وهذا الصراع المُفني هو نفسه سرٌّ القوة المحْيية، وهذا الجهاد المتواصل في طلب الغلبة والظهور، والنصر بين السالب والمسلوب هو الحياة. وهذا العناء الشديد الذي يلقاه الشباب حين يحتدم الصدام بينهم وبين أهل السن من قدماء الأحياء هو تكملة الإنسان الجديد الذي يريد أن يتملك مواطئ أقدام الإنسان القديم الذي كتب عليه أن يرحل ويُفسح الطريق لمن هو أولى منه بالعيش وعليه أقدر: وقديمًا قال القائل: لكلّ جديد لَذَّةٌ، غيرَ أنني ... وجدت جديدَ الموت غير لذيذ فيأتي الآتي إلى جديد الحياة، فإذا هو بها مشعوف لهيفٌ، وإذا هو نفسه جديد، فهو معجبٌ بجديد نفسه ساخرٌ من قديم غيره؛ وإذا سر كل "آت" هو جدّته الموفورة، وسرُّ الضعف في كل "ماض" هو جدّته البالية. وللجديد نخوة

ونشوة وإرباءٌ (¬1) على القديم، وفي القديم هيبة وذهول وتقصير عن الجديد، والصراع بين القديم والجديد هو صراع على الحياة وعلى البقاء وعلى الخلود، ولذلك لم يخلُ وجه الأرض قط من نِزَال دام مفزع بشِع بين هذين الجبارين: الجبار الآتي الذي يريد أن يستأثر بالحياة، والجبار الراحل الذي يلتمس لجبروته الخلود. ولا تزال الدنيا دنيا ما اصطرع هذان الجباران، فإذا سكن ما بينهما فقد انطفأت يومئذ جمرة الحياة، ولم يبق إلا رمادها. ونحن اليوم أحوج ما كنا إلى حدّة الصراع بين الجبارين: جبار الشباب وجبار الهرم، لأن الحياة التي حولنا تريدنا على ذلك، إذا أغفلنا مطالب الحياة الإنسانية نفسها، والتي لا بقاءَ لها إلا على مكاره النزاع والنزال والمصاولة. ولكن يخيَّل إليَّ أن جبارنا هذا الشاب لم يعرف بعْدُ أن اتخاذ الأهبة للقتال شيء لا غنى عنه لمن يريد أن تكون له العزة والغَلبة، وأنه ينازل جبارًا سبقه إلى الدنيا فعرفها وخَبرها واستعدَّ لها، وصرف همه إلى درسها وتمحيصها، وأنه قد بذل في إبان شبابه من جُهد التحصيل والاستعداد، ما غفَل هو عن مثله بين اللهو والعبث والآراء غير الممحصة، وأخْذ الدنيا على أهون وجهيها وأيسرهما، وعلى أن الصدق فيما قاله أسخف قائل: "اضحك يضحك لك العالم"! ! ليمى معنى الصراع بين الجديد والقديم: هو أن ينازل أصغر الخصمين وأقلهما تجربة، أكبرهما وأوفاهما تجربة، وهو يضمر له في نفسه الإزْراءَ به والتحقير له والاستهانة به وبسابقته في الحياة، كلا، بل هو يحرص أشد الحرص على فهم خصمه، وعلى معرفة حيله، وعلى درس قوته ومواطن الضعف فيها، وعلى أساليب معالجته للأشياء التي حازها بالنصر والغلبة على من سبقه. وذلك يقتضيه أن يجعل صدر أيامه وريِّق شبابه وقفًا على الدرس والتحصيل ورياضة النفس، وتربية القُوَى، وتعهُّد نفسه في مراشدها وتجنيبها مغاويها، فإذا فعل كان أهلا لمن ينازله، وكان خليقا أن يكتب له النصر عليه، ولكن شاء الله أن يسلك جبارنا الشاب أضلَّ الطريقين. ¬

_ (¬1) إرْباء: زيادة.

فماذا كانت العقبى؟ بقينا إلى زمن نرى فيه الشيوخ الذين أكلَ الدهر جِدَّتهم، وأبلى هممهم، وأفنى حوافزهم، وقطع دابر الحماسة من نفوسهم، هم الذين يتولون تصريف الأمر في غدِنا تصريفَ العاجز، ويدبرون سياستنا للمستقبل تدبير الذاهل، ويسيرون بهذا الشرق كله إلى رَدَغةٍ (¬1) موحلة يرتطم في أوحالها الشيب والشبان جميعًا. وإلا فأين الشباب المبشر بالخير المهدي إلى طريق الرشاد، ليكون لشيوخنا إذا عجزوا عَضُدًا، وإذا قصَّروا باعًا، وإذا سقطوا خلفًا؟ إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير، ولكن لا أرى أحدَا ومعاذ الله أن أكون ممن يُخْلي هذه الأمم من رجال شبان يدخل في أطواقهم أن يغيروا وجه هذا الغد الذي نستقبله، ومعاذ الله أن يلمّ بي اليأس ويتداخلني القنوط، فإني لأرى فيهم رجالا لو هم صرفوا عامًا أو عامين في التأهب لصراع الغد، أي لصراع الحياة، أي لإنقاذ بلادنا من خَوَر الشيخوخة، وجبن الهرم، وعجز السنِّ، وضعف الكِبَر الطاحن، ومن غرور هذه جميعًا بسالف تجربتها واحتناكها، لأدركنا البغية التي يظن شيوخنا أنها محال، وأنها طَفْرة، وأنها جرأة وتقحُّم، وارتماء في مهاوي الهلاك. أو ليس من أكبر العار في هذا الزمن أن يكون الشرق الذي بلغ بفتيانه قديمًا ما بلغ، هو اليوم مبتلى بفتيانه أشد البلاء؟ أليس من الخزي أن يعرف أحدنا كيف تعاون شبابنا قديمًا وكهولنا وشيوخنا على فتح الدنيا، فإذا خَلَفهم يتعاونون جميعًا شيوخًا وشبانًا وكهولا على ترك بلادهم وأرضهم لقمة سائغة لكل طامع، ولحمًا ممزقًا بين يدي كل جزَّار وإن هان؟ إن علينا نحن الشباب أن نوقر شيوخنا ونجلَّهم ونستفيد من تجاربهم، وعلينا أن ننازلهم ونصارعهم، ونأخذ من أيديهم المرتعشة ما يستقرُّ في راحاتنا الثابتة التي لا تخافُ ولا تتهيب. علينا أن نأخذ حقنا أخْذ الكريم المقتدر، من أقران نصارعهم ليموتوا موت الكريم البذَّال. وعلى هذا الصراع بين جيلينا يتوقف أمر ¬

_ (¬1) الرَّدَغَة: الطين.

الخير الذي نبتغيه، والاستقلال الذي نجاهد في سبيله، والعزة التي نسعى إلى اقتحام أهوالها. وعلى شيوخنا أن يعلموا أنه لابد لهم من شباب شديد الأسر يشد أزرهم إذا ضعفوا، ويخلفهم إذا هلكوا ولكنهم غفلوا زمانًا فتركوا النشء ينشأ بين أحضانهم، فلم يسدّدُوه ولم يعاونوه ولم يعدوه لغدهم، وقلبوا آية الحياة وبدَّلوا معناها، فكانوا هم الصبيان حين تخلقوا بأخلاق الصبيان، وأصرُّوا على حب التملك والتسلط والأثرة والعناد واللجاج في كبير الأمر وصغيره! هذه الأيام تمضي بنا سِراعًا، فلنقدِّر لغدٍ، فإن مستقبل الشرق معقود بنواصي شبابه، فإذا نَفَضَ عن نفسه غبار الكسل والمجانة واللهو، كان إلى النصر أسرع ساع، وعلى الدنيا الجديدة أكرم وافدٍ.

اسلمي يا مصر. . .!

اسلمي يا مصر. . .! ظللتُ سنوات معتزلًا أو كالمعتزل، وما اعتزلتُ إلا لأن الحياةَ أرادتني على ذلك فأطعتها، وليتني ما فعلتُ! ثم جاءت أيام حتى كادت تقتلعُ جذور الحياة من أغمض أعماقها في نفسي وفي قلبي وفي سائر بنيانى وحواسى، فانتبهت كالذاهل وأنا لا أدري أحي أنا أم ميت، وإن كان لم يشعر بما أشعر رجلٌ أو رجلان أدركا ما أنا فيه من مِحنة وشقاء. ثم انجلت الغمة وارتفعت الغشاوة، وبدأتُ أرى الدنيا كما ينبغي لمثلي أن يراها، فأقبلتُ عليها أتفحصها كأني أقرأ تاريخًا جديدًا [لم يكن] (¬1) لي به علم ولا خَبر. ومن يومئذ آثرت أن أُغفل شأن الشعراتِ البيض التي تلتمع على فودىَّ نذيرًا وبشيرًا، وقلت لنفسي: كذب والله عليُّ بن جبلة الخزاعي. فإني لأجد الشعرات البيض أخفُّ على قلبي محملا وأشهى إلى نفسي من كل ما استمتعت به في صدر شبابي، وكيف أشجَى بشيء قد جعله الله بديلًا من جنون الصِّبا وعُرَامِ الشباب (¬2). وأنا أسوق هنا أبيات عليّ بن جبلة، وإن كان لا حاجة للمقال بذكرها، لأني أعتدُّها من أجود الشعر وأرْصنه وأحسنه تمثيلًا لمقدم الشيب، وأدقه تصويرًا لإحساس الفزع الذي تتجرَّعه النفوس الشاعرة في يوم الكريهة -يوم المشيب. قال يذكر الشيب وقد بلغ الأربعين: ألقى عَصاه، وأرَخى من عمامته ... وقال: ضَيفٌ. فقلت: الشيبُ؟ قال: أجلْ! فقلتُ: أخطأت دار الحيّ! قال: ولِمْ؟ ... مضتْ لك الأربعون التِّمُّ! ثم نزَل ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 694)، أكتربر 1946، ص: 1157 - 1159 (¬1) زيادة من عندي ليستقيم السياق، ومكانه في الأصل متآكل، ولم يظهر إلا حرف النون موصولا بآخر هكذا: ـــن. (¬2) عرام الشباب: قوته وعنفوانه.

فما شَجِيتُ بشيء ما شَجِيتُ به، ... كأنما اعتمَّ منه مَفْرقي بجَبَلْ ولست أُنكر أن عُلوّ السن بالمرءِ أمر ينبغي أن يلقى له باله ويتعهده حتى لا يؤخذ على سهوة وفي غفلة، وأن الشيبَ هو النذير العريان. ولكن ما بالشيبِ من عارٍ، فنحن إنما خلقنا لنحيا ونموت، فلتكن حياتنا كلها كما بدأَتْ جهادًا متصلا جريئًا في سبيل الغاية التي نفخ الله فينا من أجلها الروح. وقبيح بامرئٍ علمته الأيام ووعظته الأسَى (¬1) -منذ كان أبوه الشيخ آدم إلى يوم الناس هذا- أن يجزَع أشفَّ جزَعٍ من منهل لم ينج سابق من ورُوده، ولن يَنْجُوَ من وروده لاحق. وليت شعري ماذا يضيرني من شيبة في شعراتٍ، إذا كان قلبي لا يزال غَضًّا جديدًا كأنه ابن الأمس القريب؟ ولو قد كان ذلك ضائري لقد هانت الحياة هوَانًا يجعلها أسخف وأخفّ وأضأل من أن أحفل بها أقل حفل. وكذلك عقدت عزمي على أن أضربَ في مسالك الحياة حيث لا يعوقني وقار غثٌّ، ولا حنْبلية متزمّتة، وحيث أخبرُ الحياة على وجهها الذي هي عليه اليوم، لأعرف ما الذي ستكون عليه غدًا. فأسرعت إلى حلقات الشباب ممن تجاوزوا العشرين وأشرفوا على الثلاثين، لأرى كيف يفكرون، وانظر كيف يعملون، وأعرف ماذا يدبرون، وأعلم أين يستقبلون، فرأيت ونظرت وعرفت وعلمت، فأشفقتُ وأمَّلتُ، وخفتُ ورجوت، ولكني على ثقة من أن رحمة الله أوسع من أن تضيق بأمة ضَلَّت في بيداءِ هذه الحياة، وقد خرجتْ تضرب في جوانبها مطموسة البصر إلا ما شاء الله. كان من أهم ما شغلني أن أسمع ماذا يقولون عما يشغل الناس جميعًا في هذه الأيام، وأن أناقشهم فيما يقولون حتى أعرف خبء نفوسهم وضمائرهم، وأن أنقل ما استطعت شيئًا مما يعتلج في هذه القلوب الشابة التي تريد الحياة الحرة الكريمة -أي تريد الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وينبغي لكل صاحب قلم أن ¬

_ (¬1) الأُسَى: جمع أسوة، وهو ما يأْتسِي به الحزين يتعزى به، وهي أيضًا القُدْوَة.

يحرص أشد الحرص على بيان ما يرى وما يُراقب، فإن الجيل الماضي الذي صارت إلى يديه مقاليد الحكم في مصر غافل كل الغفلة عن الآمال والآلام التي تساور القلوب المصرية الشابة، وجاهل كل الجهل بالمولود الجديد الذي ولد في أرض مصر وشب ونشأ واستوى وكاد يبلغ مبالغ الرجال. يقول قائل الشباب: "لقد خرجت مصر كلها، عالمها وجاهلها وغنيها وفقيرها، تنادى يومًا ما باسم "الجلاء" وباسم "وحدة وادي النيل من منبعه إلى مصبه" وباسم البلد الواحد الذي هو "مصر والسودان". والشعوب أو الجماهير إن شئت، لا تعرف تفاصيل التاريخ ولا يهمها أن تعرف، بل هي تحس وتدرك وتتمنى وتسعى وتفعل كل شيء بالإلهام الذي يسدّده الفطرة المستقيمة، وهذه الفطرة المستقيمة إذا نظرت إلى شيء استوعبت لُبَّه وطرحت نُفايته. ولقد نظر الشعب المصري بفطرته المستقيمة فرأى دولة طاغية تحتل سماء بلاده وأرضها وبحارها، بل تحتل أرزاقها المقسومة لأهلها من طعام وشراب، وتشاركها في نسمات الهواء بل تضيق عليها أيضًا، وتحرمها النفحة بعد النفحة من هذه النسمات، وإذن فهي تمنع عنها ما هو مباح للوحوش في مساربها، والبهائم في مراعيها، والطير في مسابحها. وإذن فلابد من أن تظفر بما يظفر به أدنأ الخلائق وأهونها على الناس وعلى الله ربَّها وربهم وإذن فالشعب لن يعرف إلا كلمة واحدة هي: "الجلاء"، ولا ينادى إلا بشيء واحد هو: "اخرج من بلادي أيها الغاصب"، ولا يعرف من التاريخ ولا من السياسة ولا من البراعة والحذق في الدهاء إلا أن هذا غاصب واقف بالمرصاد يغتاله ويغتال أسباب حياته، ويرمى به في الرغام ليعيش هو في رغد وفي بحبوحة. "قام الشعب فأسمع من كانت له أذنان، فإذا فئة من محترفي السياسة، ومن كل محتال عليم اللسان، ومن كل وجيه زيَّنَه ماله وغناه، ومن كل ذي صيتٍ رفعته الأقدار بالحق أو بالباطل -قد هبُّوا جميعًا مع الشعب يقولون بمثل الذي يقول، فظن الشعب أنهم قد صدقوا بعد ماضٍ كذَبَ على التاريخ وعليهم فرضى عنهم وأعانهم، ولكن لم يلبث إلا قليلا حتى رأي الوادي يموج عليه بالحيَّات

والأفاعي والعقارب، وكل لدَّاغ ونفَّاث وغدَّار، فانتبه فزعًا يطلبُ النجاة مما تورط فيه من ثقة بأقوامٍ لم ينالوا يومًا ما ثقته، ولا حمّلهم أمانته، ولا رضى عن أعمالهم ولا سلَّم إليهم مقاليده إلا مرغمًا أو مغرَّرًا أو مخدوعًا. ثم بقي الشعب يترقب نهاية هذه المفاوضات العجيبة التي نالت فيها مصر كل شيء إلا الجلاء، وحازت كل خير إلا الاستقلال، ورأت كل عجيبة إلا عجيبة ارتحال الجيوش البريطانية ذات الزى العسكري أو الزي المدنيّ". ويقول قائل الشباب: "إنني لا أعرف تاريخ القضية المصرية على الوجه المعقّد الذي يدلسُ به الساسة علينا، ويدخلون المخافة والذعر في قلوبنا. ولا أعرفُ من تاريخ هذه القضية إلا أن بلادي كانت توشك أن تكون قُبيل سنة 1882 إحدى الدول العظمى في العالم، ثم إذا بأوربة كلها تتألّبُ على هلاكها وقتلها، والولوغ في دمِها بتحريض دولة واحدة قد امتلأ قلبها جشعًا وحقدًا. فلما ظفرت بما أرادت، ذَادَتْ كل دولة عن طريقها. ورمت مصر غدرًا وخيانة فاحتلتها في سنة 1882، وحسدتها الدول، وخافت مغبة احتلالها لأرض مصر، فتألبت عليها وطالبتها بالخروج منها، فوعدت أن تجْلُو عن أرض مصر جلاءً ناجزًا بعد أن تستقر الأمور ويتوطَّد سلطان العرش المزعزع! وقامت مصر تطالب بالجلاء فوعدت أيضًا بالجلاء، وظلت بعد ذلك تَعد وتَعِد وتَعِد وهي لا تمل وعدًا ولا تحققه، إلى أن كانت سنة 1946، فإذا هي تعلن الجلاء إعلانًا تامًا صريحًا بينًا واضحًا ناجزًا سريعًا، وتبدأ تجلو، ولكن من غرفة إلى غرفة، ومن سرير إلى سرير، ولكنها لا تخرج من باب الدار إلى لَقَم الطريق (¬1). "ثم إننا نرى هذه الفئة التي اختالت في ثياب "الزعامة" ومجدتها الصحافة وسمتها باسم "الزعامة" قد دخلت في المفاوضات بينها وبين البريطانيين باسم مصر، ومصر منها برَاءٌ، فإذا بريطانيا تزعم للشعب أنها جَلت عن مصر، فأخلت القلعة، أخلتْ فندق سميراميس! وكانت فيه القيادة العليا البريطانية للجيش البريطاني في مصر، وأخلت كذا، وستجلو عن كذا، لكنها تأبى في المفاوضات ¬

_ (¬1) لَقَمُ الطريقِ: وسطه.

إلا أن تبقى في مصر لتشارك مصر في الدفاع عن أرض مصر العزيزة -على بريطانيا بطبيعة الحال! "أفتظن هذه الفئة أن الله قد سلب الشعب المصري فطرته السليمة، حتى تخدعه كل هذه الترهات الباطلة التي يرسلها كهنة السياسة من كهوف المفاوضات على وادِيه المحرَّم؟ لئن ظنوا فقد خابت ظنونهم وباءوا بأخيب الرأي وأبعده عن مواقع الصواب. إن الذي بيننا وبين بريطانيا قد بان وتكشَّف لكل ذي بصر. نعم لقد مضَى على مصر دهر وهي مخدوعة بالمفاوضة، مخدوعة بقدرة السياسة على نيل الحقوق المهضومة، ولكن لم يبق في مصر بعد اليوم شابّ في قلبه ذرّة من إيمان بالحرية، في عقله ذرة من حسن التقدير وصدق التفكير، إلا وهو يعلم صدق العِلْم أن المفاوضة معناها كذب القويّ على الضعيف، وذلة الضعيف بين يدي القويّ. ونحن ننظر صابرين إلى هذا العبث الدائر بين رجال قد أحدُّوا أنيابهم، وأعدُّوا مخالبهم، رجال قد عرَّضوا مقاتل أُمتهم لهذا الضاري المفترس ليقضم منها حيث شاء كما شاء، ثم يقول للفريسة: لقد أعددت لك الأطباء والممرضين ليضمدوا جراحك ويحقنوا دمك، ويدفعوا عنك عادية الرَّدَى! وكذلك تكون شفقة الأسود الرحيمة! "إن القضية المصرية أبسط قضيّة على وجه الأرض: غاصب قد أقرّت الدول جميعًا منذ سنة 1882 أنه غاصب معتدٍ، ومغصوبٌ لا يزال يصرخ منذ ذلك التاريخ، ويقول لأهل الدنيا: أنقذوني. فما معنى الدخول في المفاوضات بيننا وبين بريطانيا؟ إن العالم كله مطالب بإخراج بريطانيا من مصر، ونحن لا نحب أن نفاوض بريطانيا ولا ينبغي لنا أن نفعل، بل الذي ينبغي هو أن نفاوض الدول كلها إلا بريطانيا في شأن إخراج هذا الغاصب وإجلائه عن برّنا وجوّنا وبحارنا، وفي صدِّه عن عُدوانه على أعراضنا وعلى طعامنا وعلى أرزاقنا وعلى أخلاقنا وآدابنا وثقافتنا. . . "إن بريطانيا دولة قوية ما في ذلك شك، ولكننا أقوى منها لأننا أصحاب حق. فليعلم هؤلاء المفاوضون أن مصر لن تقبل الدنيّة في مستقبلها ومستقبل

أجيالها، وليعلم هؤلاء المفاوضون أنهم لا يملكون التصرف في رقاب أهل مصر الحاضرين، ولا في رقاب الأجيال الآتية، وأنهم وإن كانوا مصريين كراما، إلا أن مصر خالدة على وجه الدهر، وهي أكرم منهم على أبنائها ورجالها الآتين. ونحن الشباب الناشيء نعرف أننا لن ننال لأنفسنا ولبلادنا حقها وحريتها إلا بالحزم والعزم وترك التهاون، والإقلاع عن هذه الخبائث التي يسمونها المفاوضات، ونسميها نحن المساومات. ونحن الشباب الناشيء نعرف أن الحياة لا معنى لها إذا خلتْ من الشرف والكرامة، وأن الشرف والكرامة عندئذ هي الموت. فلنمت كِرَامًا صادقين، فذلك خير من أن نعيش أذلَّاء مستعبدين. ولتعلم هذه الفئة أنها تسير بمفاوضاتها في وادٍ، وأن الشباب يسير في وادٍ غيره، فليحذروا مغبة ما يفعلون، وخير لبريطانيا أن تفهم هذا ولا تتجاهله، فربما جاء يوم لا ينفعها فيه هذا التجاهل، وكان خليقًا أن ينفعها الفهم وحسن الإدراك". هذا حديث الشباب أيها الشيوخ، فاحذروا غدًا، فإن القوة التي تتجمع في الصدور قد أوشكت تنقض السُّدود التي رفعتها بريطانيا وشيدتها وجعلتكم عليها قُوَّامًا وحُرَّاسًا. أيها الشيوخ شاركوا الشباب قبل أن يأتي يوم لا يُغنى عنكم عقلكم ولا استبصاركم ولاتَلَبُّسُكم بأثواب السياسة ومُسُوح الحكمة وعمائم الوقار. وذلك يوم قد دنا أوانه.

بعض الذكرى. . . .!

بعض الذكرى. . . .! كان ذلك منذ عشرين سنة، وكنت فتى لا يملُّ الدُّؤوب والسعي، وكانت أول مرة أدخل فيها بيت ذلك الشيخ (¬1) الضئيل البدن المعروق اللحم، الذي ينظر إليك أبدًا كالمتعجب. وكان الذي سعى بي إليه حبٍّ قد ملأ قلبي له، وإجلال قد أخذ عليّ العهد أن أفي لهذا الشيخ ما حييت وفاءَ الذكرى ووفاء العلم ووفاء الاقتداءِ؛ وكنت يومئذ قد حضرت بعض دروسه في مسجد البرقوقي، وقرأت عليه شيئًا من كتاب أبي العباس المبرّد، وكان يعدُّني كبعض ولده لسابق معرفته بأبي -رحمهما الله-. وكنت يومئذ سقيم الجسم خفيف اللحم نحيل التجاليد ثائر الشَّعر، فإذا لقيته فربما كان يقول لي: "كأنك آيبٌ من سفر بعيد أيها الفتى". فكنت أفهم عنه، فإذا انقلبت إلى الدار عدوت إلى المرآة لأرى ماذا حمل الشيخ على مقالته التي لم يزل يقولها لي ويدي على يده أو في يده، فما أرى سوى وجه شاحب ضامر، وعينين غائرتين كأنهما تنظران إلى شيء بعيد في جوف وادٍ سحيق عميق. فأقول لنفسي: هذا جُهْد التحصيل وكدُّ النفس في قراءة هذه الأسفار القديمة التي تباعدت معانيها وتقادمت عهودها. طرقتُ بابه في ذلك اليوم على غير ميعاد، ففتح لي صغير من حَفَدته وقادني إلى غرفة الشيخ، فإذا هو جالس على حشيّة على بساط كالح من تقادم الأيام، وعلى يمينه خزانة كتب مطوية في جوف الجدار، وأمامه صينيّة صفراء من نحاس فيها أداة القهوة، وعلى يساره كتب مركومةٌ، وفي يمناه قلم يكتب. فلما سمع حسّي رفع إليّ بصره وسكن، وظل كذلك ساعة وأنا بين يديه يأخذني ما قرُب وما بَعُد من هيبته، وجعل ينظر إليَّ فأطال النظر؛ ثم لم يلبث أن قال بصوت خافت ما كنت لأتبينه لولا أني عرفت الذي يقول وكنت أحفظه، وهي هذه ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 696)، نوفمبر 1946، ص: 1213 - 1215 (¬1) هو إمام العربية وحامل أمانتها شيخ أستاذنا سيد بن علي المرصفي -رحمهما الله-.

الأبيات من شعر بعض الأعراب: رأتْ نِضْوَ أسْفَارٍ، أُميمةُ، شاحبًا ... على نضو أسفارٍ، فجُنَّ جنونُها (¬1) فقالت: "مِنَ أيِّ الناس أنت؟ ومن تَكُنْ ... فإنك راعي صِرْمةٍ لا يَزيُنها (¬2)! " فقلت لها: "ليس الشُّحوبُ على الفتى ... بعارٍ، ولا خيرُ الرجال سمينُها عليك براعي ثَلَّة مُسْلَحِبَّةٍ ... يَرُوحُ عليه مَخْضُها وحَقِينُها (¬3) سمينِ الضواحي، لم تُؤَرِّقه ليلةً ... -وأنعمَ- أبكارُ الهموم وعُونُها (¬4) " وكان الشيخ حسنَ التقسيم للشعر حين يقرؤه، فيقف حيث ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعرَ وهو يقرؤه فهمته على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض، فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج ¬

_ (¬1) نضو أسفار: مهزول قد أذابت لحمه الأسفار ولوحته البيد، يعني بالأول نفسه، وبالثاني بعيره. (¬2) الصرمة: القطيع من الإبل والغنم. (¬3) الثلة: جماعة الغنم، مسلحبة: أي منبطحة في مراعيها قد اطمأنت شبعًا وريًّا. والمخض: اللبن الذي يستهلك فيه زبده فلا يكاد يخرج منه زبد، وهذا أطيب ألبان الغنم وأمرؤها على البدن. والحقين: هو اللبن يجمع في السقاء ويصب رائبه على حليبه، فهو غذاء حسن، وذلك كله كناية عن طيب مطعم هذا الراعي وحسن مشربه، فهو في خفض ونعمة. (¬4) الضواحي: ما برز من الإنسان كالمنكبين والكتفين، يريد مملتئ البدن من الراحة والدعة وسكون النفس. والأبكار: جمع بكر، وهي المرأة لم تتزوج بعد. والعون: جمع عوان، وهي المرأة كان لها قبل ذلك زوج. أما قوله: "وأنعم" فهي كلمة معترضة أراد بها أن قد طال على ذلك الراعي ما هو فيه من خفض ورغد وراحة ورفاهية حتى ربا وسمن وزاد، فلم يشغله شيء يضنيه أو يأكل من بدنه.

بعده إلى شرح أو توقيف، وكان في صوت الشيخ معنى عجيب من الثقة والاقتدار، وفي نبراته حين ينشد الشعْر معنى الفهم للذي يتلوه عليك، فلا تكاد تخطئ المعاني التي ينطوي عليها، لأنها عندئذ ممثلة لك في صوته. والصوت الإنسانيّ هو وحده القادر على الإبانة عن المعاني الخفية المستكنَّة في طوايا النفوس أو في أحاديث النفوس. وربَّ رجل أو امرأة تسمع كلامه أو كلامها وأنت لا تعرف عن أحدهما شيئًا، فيخيّل إليك وأنت تسمع أنك قد نفذت على نبرات هذا الصوت إلى أعمق الأعماق المدفونة في هذه النفس الإنسانية التي تحادثك، وهذا شيءٌ لا يكون إلا في ذوى النفوس الصادقة الصافية البريئة من حشو الحياة وسفْسافها، وهذه النفوس وحدها هي القادرة على أن تجعل الصوت بمجرَّده لغةً مبينة عن أغمض المعاني التي تعجزُ لغات البشر عن حملها وأدائها. وأنت محتاج حين تسمع "لغة الصوت" أن تكون يقظ النفس حيَّ الإحساس، نفَّاذًا إلى المعاني المتلفِّعَة بالغموض، حسن التيقظ للنبرات التي تدل على ضمير اللفظ، سريع الخاطر في إدراك هذا الموج المتلاحق من الحركات المختلفة. فإذا كان الذي تسمعه كلامًا يُتلى أو يُنشد كالشعر مثلا، وكان الذي ينشده قد عاش ساعة في معانيه حتى تلبَّس بها ونطق لسانه معبرًا عن لسانها وعن لسان قائلها الأول، كان عليك أن تكون لينا طيّعًا سريع التبدُّل جرئ النفس في غمرات العواطف، حتى يتاح لك أن تعيش أنت نفسك في هذه المعاني ساعة تتلى عليك وعندئذ تغشاك غمرة لذيذة تدبُّ في غضون نفسك، فتحسُّ كأنك تُبعث بعثًا جديدًا في حياة جديدة حافلة بالصُّور التي قلما يدركها العقل إلا مُشوَّهة مشيَّأةً (¬1) متخالفة التركيب، فلا يزال يجهدُ في تلفيق أجزائها حتى لا يبقى من أصولها الحيَّة الصريحة الصادقة شيء البتة. فإن استطعت يومًا أن تجد في نفسك أنك مستطيع أن تكون على هذه الصفة، فقد فهمت الشعر ونفذت إلى أغواره، وإن عجزت عن بيان ما فيه. ¬

_ (¬1) المُشَيَّأ: المختلف الخلق المختَله القَبِيح.

وفي الناس ناسٌ، وقليلٌ ما هم، قد أجادوا "لغة الصوت" إجادة بارعة، وإن كانوا في أكثر الأحيان لا يدركون أنهم يحسنون منها شيئًا، وذلك لطول ما انطوَوْا على أنفسهم حتى غمروها في بحر النسيان. وربما سمعتَ أحدهم وهو يتكلم، فما يكاد ينطق حرفًا أو حرفين حتى تحسَّ كأن كل معاني نفسه تنسرب في نفسك واضحة بيَّنَة، وأنك قد عرفت منه ما يكاد يخفيه عن الناس جميعًا؛ لأنه متكبر أو قانط أو هيَّاب جزوع، وهذا الضرب من الناس هم أشد خلق الله حرصًا على إخفاء آلامهم، وأبعدهم رغبة في الاستمتاع بالعذاب الذي يقاسونه، لأنهم يظنون أنهم بذلك قد حازوا النصر على آلامهم، وعلى الناس أيضًا؛ إذ استطاعوا أن يواروا عنه خبءَ ما في نفوسهم الحزينة المعذبة. * * * لما سمعت الشيخ -رحمه الله- ينشد تلك الأبيات، تمثَّلت لعيني تلك المأساة الخالدة بين الرجل الصادق والمرأة التي أحبَّها، وكانت تطمع أن يكون لها كما خيّلَت لها أوهامها، وأن يأتيها بتحقيق أحلامها -أي أحلام حواء منذ كانت حواءُ على اختلاف العصور وتباين الحضارات. فهذا أعرابيٌّ محب لصاحبته "أميمة" التي ذكرها في شعره، فدارت به الأيام في فيافي الحياة ملتمسًا ما يحقق به أماني هذه المرأة المحبوبة، ثم عاد إليها وقد أذابت البيد منه ما أذابت بظمئها وشمسها وجوعها ومخاوفها. فلما رأته شاحِبًا مهزولا رثًّا أسوأ حالا مما عهدته، أنكرته وقد أثبتته معرفة. فجنَّ جنونها لأنها محبةٌ قد أخطأت في الرجل الذي تحسب كل ما كانت تؤمله، وخانها ما كانت تتمثله في أحلامها من صحة وشباب وأناقة وجمال. وما أسرع ما تتنكر المرأة إذا خاب ظنها وتبددت أحلامها، وفاجأتها الحقيقة العارية كالشيء الذي يخالف ما كانت تتوهم! كانت المفاجأة صارخة في نفس أميمة، فلم تلبث أن غلبتها تلك الطبيعة المتقلبة الغدَّارة التي طال عهد المرأة بها، فأظهرت كأنها لا تعرفه ولم تلقَه ساعة عن دهر. وجرى على لسانها ذلك الحديث الذي يرويه لنا المحبّ، فقالت: مِن

أيِّ الناس أنت؟ ولم تقف عند هذا فأبدت الفزع منه لئلا يخونها ما في حنايا ضلوعها فيظهر على لسانها فعادت تقول: ومن تكنْ؟ ولكن أنَّى للمرأة الضعيفة التي زلزلت المفاجأةُ بنيانها أن تكتم حقيقة نفسها؟ لقد كانت منذ هنيهة تسأله سؤال الجاهل من هو ومن يكون، فإذا بها تنهار من شدة ما تعاني من اهتزاز كيانها، فتقول له مقالة الناقد الساخر، محاولة أن تبدى عن احتقارها وازدرائها لما ترى، فزوَتْ عنه وجهها وهي تقول: لو كنت رَاعِيَ إبل لكنت خليقًا أن تنكر النفوسُ والأَعْيُن ما ترى من حقارتك وبذاذتك (¬1)، فكيف ترجو أيها المحب المغرور أن تكون حسنًا في عين من تحبُّ، وأن تكون زينًا لامرأة أحبتك؟ وهكذا المرأة -إلا من عصم الله. . . فهم الشاعر المحبُّ مرمى كلامها فأنف لنفسه، فانطلق يسخر منها بعد أن تكشَّف له ضمير المرأة الغادرة. فقال لها: ليس الشحوب على الفتى بعارٍ، ولا خير الرجال سمينها، وإذا كان شحوبي قد ساءك وآذاك حتى أنكرت مني ما تعرفين، فنعم ولك العُتْبى عليَّ. عليك بمن يزينك. اطلبي لنفسك راعي غنم قد اطمأنت به وبها الحياة، فعاش خافضًا وادعا لا همَّ له إلا بطنه، حتى امتلأ وتضلّع وغدا سمينًا بضًّا جميلا كأحسن ما تأملين، فأنتن أيتها النسوة إنما تحببن من الرجال الزينة وحدها، كأنكنَّ إنما تتخذن الرجال حليًا لا أصحابًا ولا أزواجًا. وهكذا المرأة، هي لضعفها يؤثر لحياتها كل ظاهر يدلُّ على القوة فهي تؤثر البدن القوي على البدن الضعيف، وتؤثر اليسر على الخصاصة، وتؤثر القناعة على الطموح، وإن كان قلبها يؤثر بالحب ذلك الضعيف الفقير الطمَّاح الذي أضرَّ به الكدح، ولكن قلب المرأة هو آخِر ما تهتم له إذا جاءها بمن لا ترضاه لحياتها؛ فالمرأة مفتونة بكل ما يدل على القوة الظاهرة، ولا تكاد تبالي شيئًا بالقوة المستكنَّة كالعلم والعقل والجهاد والصبر؛ لأنها تريد أن تحيا حياة مطمئنة محفوفة بما يحسدها عليه النساء سواها لا أن تحيا مجاهدة في عذاب حبيب مجاهد. ¬

_ (¬1) البذاذة: رَثاثَة الهيئة.

ومنذ سمعتُ الشيخ ينشد تلك الأبيات، وقفتُ على كلمة في هذا الشعر لا أزال أعجب لها وهي: "أبكارُ الهموم وعُونُها" "أبكار الهموم"! يا لها من كلمة عبقرية! إن مزيَّة هؤلاء الأعراب البُدَاة على سائر من نطق بالعربية هي هذه الجرأة العجيبة التي تنقضُّ على اللغة فتنفضُها نفضًا وتختار من ألفاظها كلمة تضعها حيث تشاء، فلا تراها تقلق في مكانها أو تضطرب، وهم بذلك يختصرون المعاني كلها في كلمة واحدة يخبأون فيها أحلامهم وخيالهم وأحاسيسهم وأسرار قلوبهم، كما خبأ هذا الأعرابي كل ما كان في نفسه في "أبكار"، ودلَّ بها على المعاني التي كانت تضطرم في قلبه حتى أضنته ومسحت وجهه بالشحوب، وعرقت لحمه بالهزال، وصيَّرته إنسانًا مُنكرًا في عين من يُحب. فهذا الأعرابي الجرئ، والمحب المزدَرَى، والساخر المستخفُّ عندئذ بالناس وبالنساء وبالحياة، قد أراد أن يُعْلِم "أميمته" الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمرًا غضًّا ناضرًا ناعمًا لم تؤرِّقه هموم النفس ولم يُضرَّ به الكدح في بوادي الأحلام والآلام والآمال، فإنه غنيٌّ عنها، وعن سائر نساء العالمين -وأن أمثالها لسنَ له بهمٍّ، وأن له من حاجات نفسه وهمومها "أبكارًا" كأبكار النساء و"عونا" كعونها، فهو راض بها وبما يلقى في سبيلها من أرقٍ وسُهادٍ. وأراد أن يُعلمها أنه لا يأسى على ما فاته من بِكْرٍ ولا عوانٍ، فإن للنفس الشاعرة همومًا "أبكارًا" لم تمسسها يدٌ ولا فكرٌ ولا حُلُم، تجد النفس المحبة فيها ما يجد المحبّ في العذراء الحييَّة العصيَّة من فتنة وجمال ونضرة وشباب، ولا يزال يداورها ويحاورها ويشقى بالسعي في طِلابها شقاء لذيذًا له في القلب نشوة أو سُعار، وهي "أبكار" لا تزال عذراء على وجه الدهر لا تغيّر منها الأيام شيئًا، ولا تُنيل الطالبَ المحبَّ إلا متاع الحبّ المجرد من شهوات الأبدان، بل هي تغتذى بالأبدان فتضنيها وتنهكها لتبقى هي أبدًا أبكارًا. وللنفس أيضًا هموم "عُون" قد أصاب الناسُ منها ما أصابوا، ولكن بقيت منها للنفوس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند

الإمكان، ونُبْل في الخضوع والتسليم عند العجز، فهي تداور صاحبها وتحاوره حتى تشقيه شقاءً لذيذًا ثم تُنِيلُه ما يشاءُ حتى يرضى. ولقد عجبتُ للشيخ يومئذ وهو يكرّر: "لم تؤرِّقه ليلة، -وأنعمَ- أبكارُ الهموم وعُونُها" فقد كان في صوته ما جعلني أنسَى أني لم أزلْ واقفًا أنصتُ لدبيب هذه الحياة في جو الغرفة، ثم خرجتُ من عنده ولا يزالُ صَدى صوته يردِّد في نفسي تلك الكلمات المصورِّة المبدعة: "أبكارُ الهموم وعُونُها".

نافقاء اليربوع

نافقَاء اليَربُوع لي صديق، أطال الله بقاءه، يعيش في الدنيا وهو خارج منها. هذا غاية نَعْته وصِفته: "يعيش في الدنيا" وهو حريص عليها، لا حرصَ البخيل الذي يجمع المال، ولا حرصَ المستمتع المستهتر باللذات، ولا حرص الطامح الطامع في الخلود، كلا هو حرصٌ على حِدتِه وعلى حِياله لا يُشبهه في الناس إلا القليل. هو حِرصٌ على التعجُّب منها ومما فيها، وهو حرصٌ على النظر في الأشياءِ والحيرة في فهمها، واضحة كانت أو مبهمة، وهو حرْصٌ على استيعاب الحياة كما هي عند الناس من نُظرائه ومن غير نظرائه. ولا يخرجُ من كل هذا الحِرْص الشديد على الدنيا التي تحت عينيه إلا بطول التساؤل وبتنازُع الحيرة، وبالخوف مما كان ومما لم يكن. هذه واحدةٌ. وعجيبٌ أنه أبدًا مولَعٌ بهذا الحرص وَلوعَ المحب بحبِّ جديد. وهو نفسه يعلم أنه حرص عقيم لا يجدي عليه شيئًا في معرفة الدنيا ولا في التثبُّت من شيء من أحوالها، ولكنه يزدادُ به على الأيام وَلُوعًا وكلفًا وغرامًا حتى يستهلك نفسه في السؤال والبحث والتقصّي عن أشياءَ لا تغني عنه شيئًا، ولا يغني عقله في إدراكها، ولا يغني قلبه في الإيمان بشيء منها. وهو يأبى أن يُلْقى عن كاهله هذا العبءَ الثقيل الفادح، وإن كان يثق كل الثقة بأنه شيء لا جدوَى من حَمْله، ولا من الصَّبر على بلواه. هذه ثانيةٌ. وثالثة الأثافي، كما قال أسلافنا، أنه إنسان حيٌّ النفس قابلٌ للتلقِّي، فكل شيء من حوله يثير في نفسه الفضول، وينشُر عليه ذلك الحرصَ الشديد على المعرفة، مجديةً كانت أو غير مجديةٍ، لا يبالي، فإذا هو كالمغموم إذا اعترضه ما يعوقُه عن الاستقصاءِ. وأشدُّ من ذلك هولًا أنه لا يكادُ ينسى شيئًا مما ائتمنَته نفسه على استقصائه، إذا قطعه ذلك العارض البغيض إلى نفسه، فإذا عادَ إلى ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 698)، نوفمبر 1946، ص: 1269 - 1270

ما لابدَّ له منه عاد أشدَّ رغبة في النفاذِ والاستقصاءِ والبحث. فهو بذلك مُعَانٌ على الحرصِ على الدنيا وما فيها بالذي انطوت عليه جوانحه، وبالذي فطرت عليه نفسه، فهو لا يرى خلاصًا، أو لا أرى أنا له خلاصًا، من هذه العادة المتمكنة، أو هذه الخصلة الكامنة في أعمق أعماق طبيعته. فهو بهذا الذي وصفت: "يعيش في الدنيا"، ولكنه "خارج منها" بشيءٍ آخر، وإن كان متصلا بهذا كله أشد الاتصال. فهو لا يكادُ يعبأُ بنفسه شيئًا، بل هو لا يعرف أن له نفسًا موجودة، أو أصحُّ من ذلك أنه يشك كل الشك في وجود نفسه، فهو أبدًا مختلَسٌ من نفسه بالبحث عن نفوس الناس. وهذه مَثْلبة الفضول، فإنها تمنعُ المرءَ عن التأمل في نفسه، فإذا أراد أن يتأملها فكأنما يتأمل شيئًا غريبًا ليست بينه وبينها وشيجةٌ أو آصِرةٌ أو عاطفة. ومن أجل ذلك تراه يدور من حياته هو في مثل الحلقة المفرغة لا يدري من أين بدأ ولا أين انتهى، ولا يعرف أهذا هو الحق في فهم نفسه أم الحق سواه. ويذهب ويعود في البحث ولكنه لا ينتهي إلا إلى شيء واحد هو أنه لا يدري. كنتُ على وشك أن أكتب شيئًا حين أسرع هذا الصديق إلى التلفون ليسألني هل قرأتَ جريدة "المصري"، وما جاء فيها من الذي سمّته "النص الحرفي لمشروع اتفاقية صدقي - بيفن، ولبروتوكول الجلاء والسودان": وذلك في عدد الأحد 10 نوفمبر سنة 1946، وكنت قد فرغت لساعتي من قراءته ومن التعجب لما جاء فيه. وأنا لا أستطيع أن أطمئن إلى نصٍّ مخْتَلس لا أدري أحقٌّ هو أم باطل، ولكني قرأته فإذا لم يكن هو النص فكأنه هو، لأنه أشبه مُعْوَجٍّ بحقيقة العوَج. ولا أظن أن الإنجليز يبلغ بهم صدق الطبيعة أن يقولوا في السياسة شيئًا على وجهه وعلى استقامته. فلذلك خُيّل إليَّ أن في هذا النص طرفًا من الحقيقة الدالة على طبيعة الاعوجاج في ألسنة هؤلاء الساسة الإنجليز، ولست أعجل إلى مثل هذا النص المختلس فأقول في عبارته قولا، فإن العجلة في مثل هذا شيءٌ لا غناء فيه، كما لا غناءَ لك في إقناع الإنجليز بأن الحق الذي لك هو حقك، إذا كان الإنجليزي يرى أنه ليس حقًّا لك، وإن ظاهرتْك الدنيا كلها على حقك.

ونحن منذ كانت سنة 1919 أخذنا نجهل كيف يعامَلُ هؤلاء الناس، فإن ذلك الخَطَل الذي ضَرَب على آذاننا وأبصارنا وقلوبنا، والذي يسمونه "المفاوضة" قد جرَفنا في عُباب مُتلاطم من الحيرة والضلال، فما نكاد نبصر ولا نعي ولا نعقل شيئًا من حقيقة هذا الشعب الإنجليزي أو ساسته الذين يتصرفون في أمور الدنيا كأنهم وارثوها وأصحابها الذين تلقَّوا مقاليدها من يَدِ الله القدير العزيز. وكنت أظنُّ أن التجارب قد حنَّكت رجالنا فعرفوا مواعيد هؤلاء القوم، وأدركوا كيف تكون مواثيقهم منذ علا أمرهم في الأرض، وكيف كان تاريخ معاهداتهم منذ كان لهم شأن في هذه الدنيا يكتبون من أجله المعاهدات. بيد أن ذلك لم يكن، لأن رجالنا يستضعفون أنفسهم، ويظنون أن هذا الشعب لا يمكن أن يظفر بحقه إلا بمداورة الإنجليز والترفق في معاملتهم، حتى ينالوا من أيديهم ما تيسَّر! وهذا عجبٌ! بل هو غفلةٌ، بل هو كدْح أحمقُ في سبيل لا شيء. فقل لي بربك كيف يستطيع إنجليزي أن ينزل لنا عن شيء هو يريدُ أن يؤمن بأنه حقٌّ له، وإن كان حقًّا موروثًا متحدّرًا مع أصل البشرية كلها، وهو الاستقلال والحرية! . . . . خلق الله في دوابّ الأرض دابة يسميها العرب اليَرْبُوع تكثر في بلادهم، وهي نوعٌ من الفأر قصير اليدين جدًّا، وله ذنب كذنب الجُرَذ يرفعه صُعُدًا، وفي طرفه شبه النّوَارة ولهذا اليربوع أسلوب فردٌ في حياطة نفسه وأموره، حتى إنه يتخذ لعشيرته رئيسًا يقف حارسًا على جِحرَة اليرابيع يحميها، فإذا قَصَّر في الحراسة، وهجم على اليرابيع من جراء غفلته وإهماله هاجمٌ أفزعها أو أضرَّ بها، انقلبت على ذلك الرئيس فقتلتْه وأقامت غيره مقامه. ويتخذ كل يربوع منها جِحرَةً يلوذ بها، ويجعلها سبعةً لها سبعة أبواب. فيبدأ أول ما يبدأ بالجحر الذي يسمونه "الرَّاهطَاء" فيغطيه بالتراب حتى لا يبقى منه إلا على قدْر ما يدخل الضوء منه إلى جحره هذا، ثم يحتفر جحرًا يسمونه "الحَاثِيَاء" يحثو عنده التراب برجليه ليخفي مدخله ثم يحتفر آخر يسمُّونه "الدَّامَّاءُ" لأنه يُدَمِّمه بتراب نَبيثَته (¬1) حتى لا يَنْفذَ ¬

_ (¬1) النبيث: التراب الذي يستخرجه من الحَفْر.

منه عدُوّ، ثم ينشيء جحرًا آخر يقالُ له "العانقاءُ" يملؤه ترابًا، فإذا فجأه ما يخاف اندَسَّ فيه إلى عنقه. ثم يَحْفر "القاصِعاء" وهو جحرٌ يسدُّه سدًّا محكمًا لئلا يدخل عليه منه حيّة أو دابة. ثم يحفر "النافقاءَ" ويجعل على فَمه غشاءً رقيقًا، فإذا أُخِذ عليه بقاصعائِه عدَا إلى هذه النافقاء فضربها برأسه ونفق منها ومرق خارجًا. ثم يجعل سابع سبعةٍ جحرًا يقال له "اللُّغز" يجعله بين القاصعاءِ والنافقاءِ، يحفره مستقيما إلى أسفل، ثم يعدلُ به عن يمينه وشماله عُرُوضًا تعترض، يُغَمِّيه ليخفي مكانه بذلك الإلغاز، فإذا طلَبه طالب بعصًا أو سواها نَفَق من الجانب الآخر. أفرأيت إلى كل هذه الحيطة وكل هذا التدبير! فإن تعجبْ فإنك واجد في الخُلُق الإنجليزي أكثر من هذا مداورةً وتَفَلُّتا وإلغازًا ومراوغه. والإنجليز أنفسهم يعلمون أنهم كذلك وأنهم يخفون في سرائرهم ما لو اطَّلعْت عليه لاستصغرت من احتيال هذه الدابة ما استكبرت. ومن أراد أن يدخل على الإنجليز جحرَتهم وقع في مَتاهة لا يدري معها من أين ولا إلى أين. فمن العجيب الذي لا ينقضي عجبه أن يظن رجالٌ من رجالنا أن في طوقهم أن يراوغوا الإنجليز فيستولوا على جحراتهم المحتقرة في طبائعهم وأخلاقهم وعقولهم. إن معنى المفاوضة والمعاهدة بيننا وبينهم هي أن يسعى الإنجليز جهدهم حتى تطمئن إليهم، فإذا فعلت أخذوا بيدك وقادوك إلى مثل جحرة اليربوع، فيدخلون بك من واحدٍ إلى ثان إلى ثالث، حتى إذا خُيل إليك أنك قد تمكنت منهم "نفقوا" من نافقائهم بأسهل مما كنت تتصوَّر. وهكذا شهدنا وعرفنا وخبرنا منذ احتلّوا بلادنا في سنة 1882، فوعدوا الدنيا كلها -لا نحن وحَسْب- بالجلاء الناجز، ولكنه ظلَّ وعدًا إلى هذا اليوم. وجاءونا اليوم يعدوننا أيضًا أن يَجْلوا عنا بعد عام أو عامين أو ثلاثة -أيُّ ذلك كان. فمن الذي يصدق هذه اليرابيع! ومن شفيعهم وضمينهم في كل هذا؟ أهو الخطُّ المكتوب، أم اللفظ المنطوق، أم سوابق العهود المؤكدة والمواثيق الغليظة! ! إنها لغفلةٌ أن يرى امرؤ نفسه أقدرَ على خديعة هذه اليرابيع من قدرتها هي على خديعته. وليس يعلم شيئًا من ظن أن الإنجليز ينفضون أيديهم من شيء

هو كائن في أيديهم. الإنجليز يرابيعُ بالطبع والممارسة، حتى إن "النفَاق" الذي علمته في أخلاق اليرابيع، قد صار أيضًا خُلُقا من أخلاقهم يشهدون هُم به على أنفسهم، ويشهدُ عليهم به تاريخهم منذ كان لهم التاريخ. وهذا النفاق المطبوع هو الذي جعلهم أقدر شعوب الأرض في كل شئون السياسة. وما مواعيدهم، ولا معسول ألفاظهم، ولا روعة دعوتهم إلى الحرية، ولا كمال إخلاصهم في تحرير الجنس البشري من غوائل النازية، ولا صبْرهم على المكاره في سبيل المثل الأعلى للإنسانية -كل ذلك ليس ببعيد عنا في زمن الحرب الماضية. لقد نطقوا بكل شيء، ولكنهم لم يحققوا شيئا مما نطقوا، فكيف نرضى لأنفسنا أن نؤمن بأنهم فاعلون معنا شيئًا لم يردهم خجل ولا حياء عن نكث مثله وإخلافه، بل أكبر من ذلك أنهم فعلوا نقيضه ودافعوا عن فعله بمثل القوة والبلاغة التي كانوا يزيّنون بها لأمم الأرض أن تُعينهم في أيام محنتهم وبلواهم! ومن عجائب الإنجليز أنهم يعلمون علمًا ليس بالظن أنهم معتدون متغطرسون ظالمون، يأكلون الحقوق أكلا لا يرعون فيه حرمة ولا ذمة. ومع ذلك فهم من طول ممارستهم للنفاق قد انتهوا إلى أن أقنعوا أنفسهم بأن هذا الاعتداءَ وهذه الغطرسة وهذا الظلم ليس له وجود حقيقيّ، بل العكس هو الصحيح، وهو أنهم وحدهم دون سائر العالمين أهل العدل والنَّصَفة والتواضع، وأنهم هم الذين جاءوا إلى الدنيا ليردوا الحقوق إلى أهلها، وأنهم هم القُوَّام على هذه الرسالة السامية. ولذلك ترى كلام رجالاتهم كلامًا نَيرًا مضيئًا فاتنًا ساحرًا إذا عرضوا لمعنى الحرية وما أطافَ بها، ويُخيل إليك أن إيمانهم بهذه المثل العليا إيمان لا يعتوره نقصٌ. وهذا حق، ولكنهم إذا جاءوا إلى تنفيذ ما يقولون رأيتهم أهل بغْى وعُدْوان فيما ترى ويرى الناس، ولكنهم هم يصرّون على أن هذا هو الحق الذي لا محيصَ لك ولا للناس عن الأخذ به، تقول: وإن كان بغيًا وعدوانًا، فأقول: وإن كان بغيًا وعدوانًا! والإنجليزي يرى أن هذه الأمانة التي حُمِّلها هي الأمانة، وأنه مؤدِّيها على وجهها، فإن أنت خالفته وزعمتَ له أنه يجورُ عليك جورًا عبقريًّا قال لك: إنك

شديد المُماكَسَة (¬1) مولَعٌ بالجدال، ويحاول أن يبسُط لك الأمر بسطًا حتى تقتنع بأنه غير ظالم، بل هو العادل الذي لا يعرف العدل أحدٌ سواه. ومن شاء أن يناقض هذا الذي أقوله فلينظر إلى حُجَّة هذا الشعب في موقفهم أو احتلالهم للهند. وفي احتلالهم لمصر من أجل الهند. فالهند مستعبدة ظُلمًا وجورًا، وهم يريدون أن يحللوا بقاءهم في مصر، لأن فيها قناة السويس، وهي التي تؤدي أو تسهل الطريق إلى بلاد الهند. فإذا خرجت القناة من أيديهم كان ذلك وبالا مستطيرًا على مصالحهم في الهند! فينبغي عندهم أن ترضى مصر بالأمر الواقع، وهو بقاؤهم حراسًا على القناة، لئلا تضيع مصالحهم في البلاد التي استعبدوها واستذلوها وأفقروا أهلها وأكلوا أموالها وأعروْا ذَرَاريها، وهتكوا الستور عن أحرار نسائها. يا له من منطق! وهل في طاقة أحدٍ أن لا يقتنع برأيهم في حفظ كيان هذه الإمبراطورية الضخمة! كلا بل ينبغي أن يُطيع العالم وأن يَسمع. فلو أن الإنجليز فرَّطوا لهوَى العلم البريطاني إلى الرغام في أرض الهند، ولبقيت الهند عارية لا تجدُ هذا الدفءَ الحلو اللذيذ، ولا هذا الظل الوارف الناعم الذي ينشره عليها علم بريطانيا! فحدثني أيها الصديق ماذا تريد بعد ذلك أن أقول لك في هذه المعاهدة التي تريد إنجلترا أن توقعها مصر راغمة أو راضية! دَعْ عنك الحيرة، ودع عنك تقلب الرأي، واختر لي أنت رأيًا أصير إليه. وإلا فإني أقول لك كما قلت دائمًا: إن المعاهدة بيننا وبين بريطانيا، هي أن ندخل معها في جُحر اليربُوع حتى إذا استقرَّ بنا المقام قليلا "نفقتْ" كما يمرق اليربوع من نافقائه إذا سُدّت عليه المسالك! ¬

_ (¬1) المماكسة: المشاكسة. والمماكسة أصلها في البَيع وهي انتقاص الثمن واستحطاطه والمنابذة بين المتبايعين.

ساعة فاصلة. . .!

ساعة فاصلة. . .! إذا المرءُ لم يحْتَلْ وقد جَدّ جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدْبِرُ ولكن أخو الحزْمِ: الذي ليس نازلا ... به الخطْبُ إلا وهو للقصْدِ مبصرُ فذاك قريع الدهر، ما عاش، حُوّلٌ ... إذا سُدَّ منه مَنْخِرٌ جاش مَنخرُ (¬1) وأيُّ خطب! ! فنحن أمة قدِ عاشت أكثر من أربع وستين سنة تجاهد عدُوًّا لدودًا، واسع الحيلة، كثيرَ الأعوان، ينفثُ سمه حيث مشى، ويُخفي غوائله ليكون فتكه أخْفى وأنكى وأشدَّ. فاتخذ لنفسه من صميم هذا الشعب رجالا خدعهم عن عقولهم، وزيَّن لهم أن يعملوا في الدسيسة للأرض التي أنبتتْ عليهم شحومهم ولحومهم وحملتهم على ظهْرها هم وآباءَهم وأبناءهم وذَرَاريهم، وأظلَّتهم سماؤها بالظل الوارف الظليل، وسكَبَتْ في نفوسهم سرَّ الحياة، وسقاهم نيلها بدَرهِ الذي اشتدَّت عليه أبدانهم وأحوالهم، ومهّد لهم من المتاع ما أطغاهم، وكان خليقًا أن يملأ قلوبهم شكرًا، وألسنتهم حمدًا وثناءً. وزاد فأطلق في جنَبات هذا الوادي أسرابًا من صعاليك الأفاعي الأجنبية، أَخافت الوَادِع، ولدَّغت السليم، وذادَتْ عن سُهول هذا الوادي كل حيّ من أبنائه حتى ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبتْ وضاقت عليهم أنفسهم. ولم يزل ذلك دأبنا ودأب عدوِّنا حتى أتاح الله الحرب العالمية الأولى فاستعلن من ضغينته وبغضائه ما اكتتم، وأعلن الحماية على أرض مصر. فلما خرج ذلك العدوّ من لأوائها (¬2) منصورًا مظفَّرًا، لم يبال الشعب المصري العزيز بسطوة ولا بأسٍ ولا قوةٍ من حديد ¬

_ = الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 700)، ديسمبر 1946، ص: 1323 - 1326 (¬1) قريع: فعيل في معنى مفعول، وهو الذي قرعه الدهر بنوائبة مرات حتى جرّب وتَبَصَّر. حُوَّل: الواسع الحيلة، يفتن فيها، فلا يُؤْخَذ عليه طريق. (¬2) اللأواء: الشَّدَّة.

ونارٍ، فثار ثورته العجيبة في أوائل سنة 1919، وما كان يخيّل للعدو الباغي أن ذلك شيء ممكن، وبعد لأي ما تحقّقَ من أنه شعب حديدُ العزم لا تُرْهبه القوة الباطشة ولا العدوان الغشوم. فاحتال له حيلة أخرى يفرّق بها بين الرجل وأخيه، والأب وبنيه، والأم وفلذات أكبادها، فرمانا بالداهية الدَّهياءِ التي جعلت الناس يختلفون بينهم على غير شيء إلا الحُكم والسلطان، وتدسَّس إلى قلوب الرجال شيطانٌ مريدٌ هو: تلك الحزبية والعصبية للأشخاص، فكادت تنقض بناءَ هذه الأمة حجرًا حجرًا. ثم كان من رحمة الله أن جاءت الحرب العالمية الثانية، فخرج منها عدونا مرة أخرى منصورًا مظفرًّا، فلم يبالِ الشعب المصري وخرج يقول له: "اخرجْ من بلادي، ورُدَّ عليّ جنوب الوادي" وكادَ يكون ما كان في سنة 1919، ولكن العدو كان أسرع حيلة وأرشق حركة، فنَصَّبَ رجالا منَّا ليحملوا بلادهم على سبيل مضَلَّة. فكانت هذه المفاوضات الخبيثة التي ظلَّت تدور شهرًا بعد شهرٍ إلى غير نهاية إلى يومنا هذا، بيد أن الشعب نفسه ظل هادئًا متربصًا طوال هذه الشهور وهو عالم أن المفاوضة كلامٌ لا يغني فتيلا، وأن "الجلاءَ" حقٌّ لا ينازعه فيه أحد، وأن ضَمَّ السودان إلى أخته مصر حقٌّ لن يعوقه عنه بطشٌ ولا جبروت، وأن الحرية حقُّ البشر منذ يولدون إلى أن تُطمَّ عليهم القبورُ. ومضت الأيام والشعبُ يسمع لجَاج المفاوضة وهو غيرُ راضٍ، ولكنه استنكف أن يحولَ بين طائفة من أبنائه وبين ما يظنون فيه الخير لبلادهم، فتركهم يعملون ليعرفوا أخيرًا ما عرفه هو بفطرته النقيّة: أنْ لا خير في مفاوضة الغاصب القويّ حتى يردّ على المغصوب الضعيف ما سلَبَ منه، وأن الإباء هو خُلُق الأحرارِ، وأن العزْمَ هو المنقذ من ضلال السياسة، وأن اجتماع الكلمة على الجهاد في سبيل الحق هو الخلاصُ وهو سبيل الحرية. وقد انتهت الآن هذه المفاوضات وجاءنا المشروع الذي يرادُ لنا أن نصدّق عليه ونقبله، فللأمة حقُّها اليوم أن تقول كلمتها، ولكل مصريّ أن يقول كلمته، وليس لهيئة المفاوضة ولا لرئيس الوزارة أن يفتاتَ على حق الشعبِ بشيء

لا يرتضيه الشعبُ، فإن هذه ساعة حاسمة في تاريخ الشعب المصريّ، بل ساعة حاسمة في حياة أبنائنا الذي يدبون على الأرضِ، وحياة النّسْل المصري الذي يسرِي في الأصلاب حتى يأتي قدرهُ وإنه لهوْلٌ أي هول أن ينفرد رجُلٌ أو فئة من رجالٍ بالتصرُّف في هذه الأنفس البشرية كأنهم أصحابها وخالقوها والنافخو الحياة في أبدانها. فالله الله أيها الرجال في مصاير بلادِكم وأبنائِكم وورثة المجد القديم الذي يطالبهم كما يطالبنا بأن نعيش أحرارًا في بلادنا، وبناةً لأمجادِنا، وحَفَظةً على تاريخ أجدادنا. وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم كما قال الشاعر: وعلمتُ حتى ما أُسائل واحدًا ... عن عِلْمِ واحدة لكي أزدادها وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم مالكو رقاب هذا الشعب بمالهم أو جاههم أو سلطانهم، وليأذن لنا أولئك الذين هانت عليهم أنفسهم فضاقوا ذرعًا بإباء هذا الشعب أن يكون ككلْب الرفقة يشركهم في فضلة الزَّادِ، فإذا ضجروا به قالوا له اخسأ أيها الكلب، وليأذن لنا المخلصون من الكُتاب الذين يظنون أن التساهل والتغاضىَ لا بأسَ به ما دُمنا لا نملك أسطولا ولا طائراتٍ ولا سلاحًا ولا قنابل ذرّية، وأنه لذلك لابد لنا من أن نحالف حليفًا قويًا ينصرنا إذ بُغى علينا، ويردّ عنا إذا زحف عدو إلينا -ليأذن لنا أولئك جميعًا أن نتكلم بلسان مصر المظلومة المهضومة؛ فإنها هي وحدها التي ينبغي أن تنطق وتقول، فإن قولها هو القول الفصل، لا قول العلماء الذين يرون أن لا علم إلا علمهم، ولا قول أصحاب المال والسلطان، ولا قول المتهاونين الذين يرضون من نيل الحق أيسر ما ينال. إن هذه المعاهدة الجديدة التي تمخضت عنها المفاوضات الطويلة تقوم على أربعة آساس: الأول: أن الجلاء سيتم بعد ثلاث سنين. الثاني: أن تعد مصر بأن تقوم مع إنجلترا بالعمل الذي تتبيَّن ضرورته في حالة تهديد سلامة أي دولة من الدول المتاخمة. الثالث: مجلس دفاعٍ مشترك يقرّر الرأي في الذي سموه "تهديد السلامة"

وجعلوا له حق تنظيم الأسباب التي تسهّل مهمة اشتراك الجيش المصري مع الجيش الإنجليزي في الحرب. الرابع: أن تكون الأهداف الأساسية في مسألة السودان هي تحقيق رفاهية السودانيين وتنمية مصالحهم وإعدادهم "إعداد فعليًّا" للحكم الذاتي، وممارسة حق اختيار النظام المستقبل للسودان، وإلى أن يتم ذلك بعد التشاور مع السودانيين تظل اتفاقية سنة 1899 سارية وكذلك المادة 11 من معاهدة 1936 - هذا محصَّل ما تقوله المعاهدة الجديدة. ومصر تقول إنها لا تثق بالمواعيد الإنجليزية المتعلقة بالجلاء فقد بلتْ ذلك أكثر من ستين عامًا فلم تر إلا شرًّا، وإنها لا تريد أن تُقِرَّ ساعة واحدة للإنجليز بالبقاء الشرعي في بلادها فكيف ترضاه وتوقع عليه وتعترف بشرعيته ثلاث سنوات طوالا. ونقول إن تحديد السنوات خداع وبيل العواقب غير مأمون البقاء فإنها لا تدري ماذا عسى أن يكون غدًا أو بعد غدٍ، وإن الإنجليز قادرون إذا شاؤوا على الجلاء في أقل من ستة أشهر جلاء كاملا عن كل بقعة من بقاع هذا الوادي، فالإطالة مُرَادَةٌ لنفسها لأسباب جهلها من جهلها وعلمها من علمها. وقبيح بامرئ ذاق الذل من وعود الإنجليز ستين عامًا أن يجهل شيئًا عن مثل هذا الوعد المدخول المكتم بالأسرار. أما الأساس الثاني: فإن مصر تقول إن بلاء البلاد المتاخمة لمصر هو كبلائها مِثلا بمثل. فالإنجليز هم الجاذب الداعي إلى أن يعتدى عليها معتدٍ طاغٍ يريد أن يضرب إنجلترا في مكامنها، كما كانوا سببًا في عدوان الألمان والإيطاليين على مصر في الحرب الأخيرة السالفة. فلماذا يريد الإنجليز أن يتخذونا أعوانًا وأنصارًا على إذلال جيراننا، وأن يجعلونا نعترف ضمنًا بأن لهم حق الدفاع عن هذه البلاد التي سلطوا عليها بَغْى استعمارهم؟ ولماذا تسفك مصر دماء أبنائها في سبيل المحافظة على هذه الإمبراطورية التي ملأت رحاب الأرض جورًا؟ ثم إن هذا العدوان إذا وقع، فهو النذير العريان بالحرب العالمية الثالثة، والمعتدى فيه معروف منذ اليوم للإنجليز ولغير الإنجليز. والأسباب الداعية إلى

انفجار هذا البارود راجع إلى أسباب أخرى غير الرغبة في التوسُّع. وهو جشع الاستعمار القائم اليوم في هذا الشرق الأوسط والشرق الأدنى والهند. يوم يقع هذا العُدوان فالدنيا كلها ستهبّ هَبة رجل واحد، ولا يدرى أحدٌ منذ اليوم كيف يكون الأمر غدًا وأين تكون مصلحته، فعلام تريدنا إنجلترا أن نتعجَّل، وأن ندخُلَ نحن في حروبها التي ضرَّمتْ نيرانها منذ كانت، وأن نفرض على أنفسنا منذ اليوم قيدًا لعل غدًا يأمرنا أن نعود إلى خلافه حتى لا نكون طعمة للمنصور إذا كانت إنجلترا هي الخاسرة؟ أليس يقول لنا ذلك المنصور يومئذ، لقد قاتلتموني وحاربتموني فأنا أستحلّ دياركم وبلادكم وأقداركم بحكم الفتح؟ فماذا تقول مصر يومئذ؟ ومن زعَمَ أن سياسة الدنيا سوف تجرى غدًا على النهج الذي جرت عليه حتى اليوم، فقد أنكر عقله وأنكر تلك القوى العاملة التي تؤثر في سياسات العالم. ثم لماذا تريد إنجلترا أن تكون قيمة على مستقبلنا ونحن شعبٌ حيٍّ حرٌّ يريد أن تكون بلاده ملكا له ليتوخى لها مراشدها التي ينبغي أن يتوخاها؟ وإذا كان الإنجليز يؤمنون بأن مصلحتنا غدًا ستكون في أن نكون معهم يدًا واحدة، فعلام الجزع إذن؟ أو يظنون أننا نخرج غاصبًا من بلادنا ثم ندعها نُهْبى تتعاورها أيدي لصوص الأمم فلا نؤازرهم فيما نرى أن لنا فيه منفعة وصلاحًا؟ اللهم إن الإنجليز يعلمون أننا على حق في هذا كله وأنهم هم المبطلون، وإنما يريدون بهذا النص أن يمكثوا في بلادنا سادة يستضعفوننا ويمنعوننا أن نفعل في بلادنا ما نريد، أي أن نظل أمة لا جيش لها، ولا مصانع فيها ولا قوة لها، وأن تظل "مجالا حيويًا" لها ولأشياعها وأفاعيها من نفايات الأمم وحثالات الشعوب، وأن يكون وجودهم بيننا معوانًا لهم على تفريق كلمتنا وتشتيت قلوبنا، وأن يظل المصري يحس بهذا الإحساس القبيح الذي يوهن القوى، وهو أنه غريب في بلاده. أما الأساس الثالث: فهو باطل كله لأنه مبني على الثاني، ولأنه شيء لا مثيل له في تاريخ معاهدات الدنيا كلها، ولأن أخطاره على مصر أخطار موبقة، فإن كلمة القوي هي العليا؛ فإذا قلنا لإنجلترا إننا نرى كذا وكذا، وقال إنجليز هذا المجلس: كلا إن هذا ليس لنا برأي! فمن يكون الفَيصل بيننا يومئذ؟ أليست

هي قوة الإنجليز نفسها؟ وإذا كانت مصر تخرج اليوم من استعباد خمس وستين سنة، فهل تظن أن الرجال المصريين الذين سيضمهم هذا المجلس، سوف يكونون أو يختارون إلا ممن ترضى عنهم إنجلترا وتقول إنها تستطيع "العمل معهم"؟ هل يظن غير هذا عاقل؟ يا لهذه من سخرية بنا وبعقولنا وبعقول كل من يقرأ هذه السفسطة الإنجليزية! . أما الأساس الرابع، فإن مصر لم تعترف قط باتفاقية سنة 1899 ولن تعترف بها، وهذه المعاهدة تريدنا أن نعترف بها، وتريدنا أيضًا أن نرضى سَلفًا عن أبشع المبادئ التي لا عقل فيها. وهي بتر جنوب مصر عن شمالها. فالسودان ليس أمّة نحن مستعبدوها بل هي جزء من مصر من أقدم عصور التاريخ، وهي أهم لمصر من مصر نفسها بشهادة عقلاء الساسة من إنجليز وغيرهم. ولو فرضنا أن فئة أضلتها الأموال الإنجليزية والوعود البريطانية والأكاذيب الملفقة، قامت من السودان وقالت: إني أريد أن أكون أمة وحدي ودولة وحدي، فهل يُقبل هذا إلا إذا قبلت إنجلترا مثلا أن تقوم إسكتلندة -وبين الإسكتلنديين والإنجليز من الفروق ما لا يوجد مثله بين مصر والسودان- فتقول: سوف أكون أمة وحدي ودولة وحدي. أفترى إنجلترا تقول يومئذ نَعْمَ ونُعْمَةُ عَيْنٍ (¬1) وتخلى بينهم وبين ما يريدون، أم تخضعهم يومئذ بقوة السلاح وبالحديد والنار كعادتها في كل بقاع الدنيا؟ ونحن ولله الحمد ليس بيننا وبين السودان مثل هذا، بل السودان كله، إلا من طمس مالُ الإنجليز قلبَه، كلمة واحدة على أنه جنوب مصر لا أنه أمة وحده أو دولة وحده. إن مصر لا تستطيع أن تفرط في بتر السودان من جسمانها، فإن في ذلك هلاكها وهلاك السودان جميعًا. فليقلع عن هذا الرأي كل من غفل عن حقيقة الوطن المصري أو الوطن السوداني، فمعناهما سواء. بقى شيء واحد هو أن إنجلترا قد خرجت من هذه الحرب في المرتبة الثالثة من دول العالم. فإذا جاءت الحرب الثالثة فإنجلترا خارجة منها لا محالة كما ¬

_ (¬1) نُعْمَة العين: قُرَّتُها. وما ذكره أستاذنا بعض حديث سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتمامه "إذا سمعتَ قولا حسنا فرُوَيْدًا بصاحبه، فإن وافق قولٌ عملًا فنَعمَ ونُعْمَةَ عَين آخِه وأَودِدْه".

خرجت فرنسا -أي إنها سوف تخرج ولا تملك غير الجزيرة البريطانية إن بقيت لها، فعلام نربط مصايرنا بمصير مُظْلمٍ يُفزّع أهله منذ وضعت الحرب الأخيرة أوزارها؟ وكان ينبغي أيضًا أن لا يغيب عن أذهان أولئك الأذكياء أن هذه الفرصة إذا أفلتت لن تعود، فإن إنجلترا اليوم لا تملك أن ترغمنا على شيءٍ، وإنها لتهددنا وتبدئ وتعيد في تهديدها، ولكننا إذا صبرنا وعزمنا وأبينا ميسمَ الذل الذي تريد أن تَسِمَنا به، فهي لن تملك إلا التسليم بلا قيد ولا شرط. فكان عليهم أن يكونوا أبصر بخير هذه الأمة المجاهدة المصرية، وأجرأ على تلك الأمة الإنجليزية، ولو فعلوا لرأوا عجبًا، فإننا إنما أُتينا من قبل الخوف والهيبة والعجز عن إمضاء العزيمة على وجهها ولكن لم يفت الأوان بعد، فاحملوا على أنفسكم أيها المفاوضون المصريون واملأوا قلوبكم إيمانًا بالله، وإخلاصًا للوطن، وأجمعوا رأيكم وارفعوا النير عن هذا الشعب بالإباء والأنفة والحميّة، ورفض المفاوضة والمعاهدة، فإن إنجلترا لن تملك يومئذ صرفًا ولا عدلا، فإن لم تفحلوا فالله من ورائكم محيط. واحذروا غضبة الشعوب فإن لغضباتها مواسم ككيّ النار هي ذل الدهر وسُبّة الأبد.

احذري أيتها العرب

احذَرِي أَيتُها العَرَب اليوم، لقدْ أحدّ الجزَّار شفرته وشمّر عن ساعديه، وأقبل على الذبيحة يريدُ أن ينحرَها نحرًا فذًّا، وهي راضية عنه داعية له، مستسلمة بين يديه، مقرّةٌ له بأن ذَبْحها هو نجَاتُها، وأن شفرته هي كما قال الراجزُ في دَلْوه: "قاتِلَتي وملؤُها حياتي"! ! (¬1) وبالأمس -في سنة 1882 - وطئت إنجلترا أرضَ مصر لتدعم ما تزعزع من أركان عَرْشِها، كما زعمت وزعم لهَا من لا يتورَع ولا يتحرَّج، ومنذ ذلك اليومِ والسكّين ماض في تمزيق أشلاء ذلك البَدَن المخدَّر بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة، والذي كان يُسَمَّى العالمَ العربي والعالم الإسلامي. وما مضى إلا قليلٌ حتى طارَتْ أشلاءُ هذا البدن بِدَدًا متفرقة مفَصَّلَةً، ذهبتْ مصر وحدها، وذهب الشامُ وَحْدَه، وذهب العراق وحده، وذهبت مراكش وحدها، وذهبت طرابُلس وحدها، وذهبت تركيا وحدها، وقطعت عُنُق الخلافةِ، وقضى الأمرُ. واليوم يوشِكُ أن يكون ما كان بالأمسِ ولكن على أسلوب آخر: أن تُحْشَد هذه المِزَقُ المقطعة حَشْدًا جديدًا لتساق إلى يوم الحشر، لتساق مَخدَّرة بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة مَرَّةً أخرى إلى الهُوّةِ المضطرمة التي لا تُبقى على حيٍّ، إلى الحرب الثالثة. * * * هذه إنجلترا تريدُ مرّة أُخرَى أن تعود بحِيَلها ورجالها وأعوانها وصنائعها، وبمداوراتها وسياساتها، لتضرب الضربة الأولى كما ضربتْها في سنة 1882، وتخضع أعناق المصريين شاهدَهم وغائبَهم لأحكام معاهدةٍ عجيبة ظاهرها فيه ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 702)، ديسمبر 1946، ص: 1379 - 1381 (¬1) مر هذا الرجَز في مقال "إلى أين؟ تَتمَّة"، ص: 188

الرحمة (أي الدفاع عن مصر والشرق) وباطنُها من قِبَله العذَاب أي نكال الحرب الثالثة. ولن تفرغ منها -إذا قدّرَ الله أن تفرغَ، ولا قَدَّر- حتى تحملها لتدور بها على أمم العرب واحدة بعد واحدةٍ، لتنال منها صَكًّا مكتوبًا، بالأسلوب الإنجليزي ولا ريب، يجعلها جميعًا في قبضة الأسد البريطاني ليوم الحَشرِ، فعندئذ تسوقهم جميعًا كعادتها إلى المجزرة الكبرى مُقدَّمين في الصفّ الأول ليكونوا قُرْبانًا لجبّار الحروبِ، ووقاءً للدَّم الإنجليزي أن يُهْرَاق منه في حروب الإمبراطورية البريطانية إلّا ما لابُدَّ منه تَحِلَّة القسم (¬1) وردَّ العين الحاسدة، كما حدث في الحرب الأولى والحرب الثانية، حيث لم يُسفَك من الدم الإنجليزي إلا الأقل، وحملَت العبءَ كله تلك الأنعام البشرية التي جُمِعت من الأسْود والأبيض، من بقاع إفريقية وأرجاءِ الهند ومن نَواحِي هذه الإمبراطورية التي تقبّل الشمسُ مواطئ أقدامها حيثما دارت في مَدَارها. فاحذري أيتها العرب. . . احذري. إن السياسة البريطانية هي السياسة البريطانية، أي هي الجشَعُ المحتالُ المخادعُ الذي يستَلُّ منك أعزَّ ما تحرصُ عَلَيه بالشدِّ والإرخاء والترغيب والترهيب والظهور والاختفاء، حتى تنهارَ النفوسُ وتسكُنَ من جَهْدٍ أو إعياء. انظري ماذا فعلتْ، أو ماذا كانت تريد أن تفعلَ بمصر. شهرٌ بعد شَهْرٍ بعد شَهْرٍ والدُّنيا كلُّها من حولنا تعج عجيجًا بالمفاوضة والمعاهدة وبالأخذ والردّ، وبالموافقة والمعارضة، وباللين والشدة، وبالسكينة والصخب، حتى دارت الرؤوس على أعناقها، وتحيَّرت العيون في حَمَاليقها، وتشتَّت منارُ الهُدَى وخيفَ على صاحب الرأْي أن يزول عن رأْيه، ومازالت إنجلترا تمدُّ للطامعين مدًّا وهُمْ يسعَون وراءَ ألفاظها الخلَّابة حتى أعيتْهم، وكادت لهم كيدًا شديدًا حتى أطغَتْهم فطغوا، وأرادوا أن يضربوا على عقول هذه الأمة وألسنِتها بالقهر والعنف والاستبداد حتى تدَعَ العقلَ واللسانَ، وتقبلَ منهم ما أرادوا هم أن يفرضوه علينا فرضًا. ¬

_ (¬1) تحلّة القسم: أي بقَدْر تحلته، أي وقتا يسيرا.

ولكن يأبى الله أن يكونَ لهذا الكيد كله قرارٌ، فهذه الفئة التي ظنَّت أنها سوف تخدعُ إنجلترا عن نياتها الملفَّقة في الألفاظ الكاذبة، قد جاءَها البرهان الساطِعُ القاطِعُ، بأن هذه الدولة "المفاوضة" تضع الألفاظَ على قدرِ ما تريدُ، لا على قدر ما يريدُ مفاوضُها أن يفهم فإذا خيَّلتْ له نفسُه أنه فاهمٌ من النصٍّ ليقول لها ويبين عن فحوى ألفاظها أرسلت عليه شيئًا يردّه إلى صوابه. فبالأمس كان المفاوض المصريّ يزعم لمصر أنه جاءها "بوحدة وادي النيل"، وأن النصّ المتعلق بالسودانِ كان خيرًا كلّه، وأنّ وأنّ. . . فما أصبح الصباحُ حتى طلع عليه شيءٌ من أشياء بريطانيا يقول له: جاوزتَ حَدَّكَ فاستبقِ، وإن بريطانيا لا ترضى هذا التفسير المصنوع من جانب واحد، وأن السودان وديعة في اليد البريطانية، والودائع مستردَّة، والخيانة فيها تفريطٌ لا يليق بالشرف البريطاني! فنحنُ في السودان أمناءُ عليه، ولن ندعَه لمصر العادية الباغية تفعل فيه ما تشاءُ كأنه جزءٌ مِنها! ! بل لابُدّ لنا من أن نبقى هناك حرَّاسًا حتى يبلغ السودان رشده بعد السنين التي يقتضيها بلوغه الرُّشْد! وعندئذ يكون للسودان أن يختار بعد أن يكون قد تهيأ لحكم نفسه بنفسه. هذه هي السياسة الصريحة المتكشفة، وهذه هي بريطانيا على حقيقتها، وهذه هي ألفاظها المكتوبة مفسرة في تصريح حاكم السودان. فليت شِعْري ما الذي يظنُّه امرؤ في نَفْسه ذَرةٌ من الإيمان بحقّ الإنسان في الحرّية، ما الذي يظنه كائنًا بعد ذلك في تفسير نصوص المعاهدة التي يُرادُ لنا أن نرتبط بها مع هذه الإمبراطورية؟ ومهما تكنْ نصوصُ المعاهدة، ومهما يُقَلْ في تسويغها أو تقريظها، وسواءٌ أكانتْ هذه المعاهدة المعروضة اليوم أم غيرُها، فهل يحِلُّ لمصريٍّ أوعربيٍّ أن يأْمَنَ على بلادهِ بعد هذه الخَديعة التي لا تعرفُ وَرَعًا ولا حياءً؟ ! وليس هذا فحسب، لقد قال حاكم السودان ما شاء، فماذا كان جواب الحكومة المصرية على هذا التصريح العجيب! كان الجواب أن ينشر رئيس الوزراء كلمة يحتج فيها على تصرف حاكم

السودان، وأنه قد تجاوز حدود وظيفته من حيث هو حاكم إداري، ومن حيث هو موظف مصري بريطاني معًا! أيكون حقًّا حاكم السودان هو المسئول عن تصريحه، وهو ينسبُ ما يقول إلى الحكومة البريطانية بلسانه! هذا، ومن الغفلة أن يظن ظانّ أن رجلا إنجليزيًا يدير شيئًا من أمور هذه الإمبراطورية يجرؤ أن يتكلم من ذات نفسه بالنيابة عن حكومته ويوقعها في ورطة سياسية كهذه الورطة. إذن أفما كان أولى وأجمل وأكرم وأنبل وأشجع أن يوجه الاحتجاج رأسًا إلى الذي أنطق هذا الرجل بما نطق به وأن يقال لهذه الحكومة البريطانية "المفاوضة" إنك أنت الملومة لا هذا الرجل! ولكن هكذا كان. فما الذي سيكون غدًا أيها الرجال المدافعون بأقلامكم وألسنتكم إذا جاءتكم لجنة الدفاع المشترك، وجاء البريطاني، ونطق لسانه بما لا تطيقه هذه الأمة ولا ترضى عنه؟ أتظنون أن موقف الرجال المصريين الذين سيختارون ليكونوا أعضاء في هذه اللجنة ممن تستطيع أن "تعمل معهم"، سوف يكون أكرم أو أولى أو أشجع من موقف رئيس الوزارة السابق حيال تصريح حاكم السودان؟ ستقولون كما قلتم: هذا مطعنٌ في الضمير الوطني المصري. . . وكلَّا! ليس هذا مطعنًا، فإن الرجال الذين سيختارون لهذه اللجنة سيكونون ممنِ "صُنِعوا على عين بريطانيا" منذ احتلت مصر في سنة 1882 إلى هذا اليوم. ولأن يقال إن هذا الذي نقول مطعنٌ خير من أن تُلقى مصر كلها تحت أقدام بريطانيا وفي تنور حروبها، لتكون دماءُ أبنائها فداءً للدم البريطاني الطاهر المقدس. * * * أيتها العرب احذري. . . احذري هذا المصير الذي يرادُ لمصر لا قدر الله أن تصير إليه. ولئن كان هذا يومنا نحن، فغدًا يومكم ليُعرض عليكم مثل الذي عُرض علينا، لتكون لكم "لجنة دفاع مشترك" كلجنتنا نحن، فاحذري أيتها العرب، ولا تقرى بينك وبين بريطانيا معاهدة أبدًا، فإن بريطانيا تريد بجمعكم اليوم على مثل هذه المعاهدة، كالذي أرادته بكم جميعًا يوم وطئت أقدامها أرض مصر في سنة 1882، تريد أن تمزقكم بعد أن تكونوا وقودًا لنيران الحرب الثالثة.

أيتها العرب احذري. . . فإذا كنت نازلة في ميدان الحرب الثالثة فانزليها حرة لتموتي حرة، ولكن لا تُلقى بفلذات الأكباد في أتون الحرب المسعورة، ليكونوا هناك عبيدًا ويموتوا عبيدًا، كما تريد المعاهدات الإنجليزية بنا وبأبنائنا وبناتنا وأوطاننا. أيتها العرب احذري. . . لقد لبثتْ إنجلترا تدس لكم وعليكم وتنشِّئ فيكم أجيالا من الخلق صاروا لها صنائع وأعوانًا، أرادوا ذلك أو لم يريدوه، وعرفوه أو جهلوه، وعين إنجلترا بصيرة نفاذة فهي تختارهم وتمهد لهم، وتحمِلهم بسلطانها وبحيلتها وبتهديدها حتى ترفعهم إلى الذروة التي تجعلهم أهلا للمكانة في بلادهم، ثم لا تزال تعمل هنا وهناك بأنامل بصيرة قادرة متدسسة حتى يتم اختيارهم، فيتولوا هم زمام هذه الشعوب المسكينة، ثم تقول لهم كما قال الأول: فعِثْ فيما يليك بغير قصدٍ ... فإني عائثٌ فيما يليني وإذا هؤلاء المساكين الذي ارتفعوا إلى غير أقدارهم ومنازلهم يكيدون لأممهم من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، وإذا سياسة الأمم الناهضة في أيد لا تُحسن إلا العيث والفساد، ومصايرها على ألسنة لا تُحسن إلا التغرير والدهان والممالقة. أيتها العرب احذري .. ودعى المفاوضة والمعاهدة بينك وبين بريطانيا حتى ترد إليك كل حقوقك كاملة غير منقوصة ولا متهضّمة، فإذا فعلتْ فانظري في مراشدك. أما إذا قال لك هؤلاء: وماذا تفعلين أيتها العرب إذا لم تفاوضي إنجلترا وتعاهديها؟ إذا ألقوا إليك هذا السؤال العاقل الحكيم الذي يفرض عليك أن تتركي نصيبًا من الحرية من أجل كواذب الآمال والوعود، فاعلمي أن هذا التعاقل "الشديد" فسادٌ في الطبائع التي تلقيه عليك: يرى الجبناءُ أن العجزَ عقلٌ ... وتلك خديعةُ الطبع اللئيمِ

وأنتم أيها الكتاب العرب: هذه أمانة القلم تعرض اليوم عليكم. وهي أثقل الأمانات، فاحملوها بحقها أو دعوها بحقها، فإن الأيام أسرع مُضيًّا من البرق في حواشي الغمام. ومن حمل أمانته فعليه أن ينذر قومه قبل أن يأتي يوم لا تغنى فيه النُّذر، وقبل أن يأتي يوم لا يردّ فيه البكاءُ على فائت!

من استرعى الذئب ظلم

من اسْترعَى الذئب ظَلم في سنة 1927 عرفت رجلًا إنجليزيًا، فنشأت بيني وبينه مَوَدة، وكان رجلًا حريصًا على أن يعرف أشياء كثيرة على وجهها الصحيح، وكان صادق اللسان فيما يبدو لي منه. وإن كنت قَلِقَ الشك في صدق اللسان الإنجليزي! وكانَ لطيف المعشر طلق المحيَّا، فيه دُعابة رقيقة لا تبلُغُ العُنْفَ ولا يتجاوز بها حدَّها. وبقينا معًا سنة كاملةً؛ فكان كأكمل الناس أدبًا، وأَزْكَنهم (¬1) عقلًا وأبعدهم عن الملاحاةِ والمغاضبة وسوءِ العشرةِ. كان إذا تقصَّى مِنِّي أمرًا أخلصتُه القول، فقد ظننتُ أني جرَّبْتُه وعرفته ونفذت في طوايا ضميره. وكان هو يحدّثني فلا أشكُّ أبدًا أنه كسائر أهل جلدته، بل كان خَلْقًا غير الخلقِ فيهم، فهو يقول ويعني ما يقول، وليس كأمثالهم يَتَسَلَّل من إهابٍ ليدخلَ في إهابٍ. ولم أزل أطمئنّ إليه وإلى حديثه وإلى بثِّه ما في نفسي ونفس بلادي مِنْ شعورٍ، فكان لا يتردَّدُ في إعطاءِ الحق لمن له الحق، ولا يرضَى أن يكونَ ظالمًا ولا متعنتًا ولا مدافِعًا بالعصبية أو الكبرياءِ أو المماراةِ. وفي سنة 1928 جاءت امرأتُه من بلادها ودعاني مرَّاتٍ فما لبثتُ أن رأيتُ هذا الرقيق الوديع المنصِف ينقلبُ خشنًا جريئًا على الباطل جائرًا في الحكومة، مُتعنتًا فيما كان بالأمسِ يعطي النَّصفةَ فيه، وإذا هو شديد اللَّدَد تيَّاه الخصومِة، وإذا هو ينسلخُ من إهاب ليدخلَ في إهابٍ كفعل سائر قومه، فكانَ ذلكَ آخر عهدي به، وكان من عاقبته أني كرهتُ هذه الإنجليزية العجيبة التي يقال فيها ما قال الشاعر: "كالعُرِّ يكمُنُ حينًا ثم ينتشرُ" (¬2). فإنّ مجئ امرأته أعداهُ كما يُعْدى الجَرَب، فثار ما كمن فيه منه ثم اسْتَشْرى، فإذا هو وافِدُ قومٍ هُم ما هُمْ. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 704)، ديسمبر 1946، ص: 1435 - 1438 (¬1) أزكنهم: أفطنهم وأكثرهم فهما. (¬2) العُرّ: الجَرَب.

وفي هذه السنة التي انتفض عليه فيها عُرُّ قومه، جلسنا يومًا نتحدّث فجرى الحديث إلى ذكر السودان، فقال لي إن قضية مصر في مسألة السودان ليست إلا دعْوَى لا خير فيها، فإن هذا النَّيل الذي تزعمون أنه يربط بين مصر والسودان رباطًا لا انفصام له لا ينفعكم في إقرار الحجة لدعواكم أن مصر والسودان أمَّة واحدة أو ينبغي أن تكون أمة واحدة. وقال: أرأيت إلى نهر الدَّانوب، كيف يجوزُ في العقول أن يَدعى مُدَّعٍ ممن يعيش على مدّه أنه يُوجِب توحيد الأمم التي عليه لتكون أمة واحدة؟ أو ليسَ إذا قام شعبٌ من شعوب الدانوب فادَّعى بمثل ما تدّعون، فإن الواقع كله يبطلُ حجَّته، والعقل يوجب أنْ يشكَّ المرءُ في صحة إدراك هذا الشعب؟ فهذه هذه، فليس ينفعُ قضيَّة مصر أن تدَّعى أن النيلَ بينكما هو الرباط الذي يوجب أن تصيرَ مصر والسودان أمة واحدةً. والعجبُ العجابُ عندي أنَّ حديث السودان كان قد جرى بيننا قبل أن يمسَّه عُرُّ قومه، فلم يقتصر يومئذ على أن يسكت؛ بل كان قد وافقني على ما ذكرتُ لهُ من حجة في قضية السودان، فإذا هو قد نسى كُلّ هذا بعد أن ارتدَّ إلى سِنْخه (¬1) وطبيعته. . . وهكذا الإنجليز. ومضى الزَّمنُ، وإذا بنا نسمع إحدى الببَّغاوات (¬2) التي سُلِبَت العقل وكُسِيَت الريش الجميل، تردّد هذا القول المدخول الفاسدَ من جميع نواحيه، ولو كان قائله إنجليزيًّا لهانَ الأمرُ، وهو هيّن على كل حالٍ، ولكنه مع أشَدّ الأسف سُوداني بالمولد والإهابِ، أما قلبُه فقد بيع بالمزادِ فوقع في قبضة الرَّجُل الذي رفعتْه إنجلترا بين عشية وضُحَاها من وهدة البؤس والحرمانِ، وكان فيهما رجلًا فاضلًا، إلى ذروة الغِنَى والجاه، فأصبح بعدهُما جانحًا إلى النقصان ساعة بعد ساعة. زعمت الببّغاء أنّ ليس في الدنيا شيءٌ يقال له وحدة وادي النيل، كما أنه ليس في الدنيا شيءٌ يقال له وحدة نهر الدانوب، وأنّ الذي يُبْطِلُ هذه يُبْطِلُ تلك ¬

_ (¬1) السنخ: الخليقة والسجيّة. (¬2) يعني الأستاذ هنا يعقوب عثمان.

في مقام الاحتجاج، ويخرجُ من هذا إلى أن السودان ينبغي أن يكون أمّة وَحْدَه، وأن مِصْر أو أثرياء مصر! "ينصبون فخاخًا تخفى أغراضهم الحقيقية ببراعة بالغة خلف الثوب اللامع من الدين واللغة والتاريخ، وهو الثوب الذي اصطنعوه بأيديهم". هكذا قالت الببغاء التي يزعمون أنها رئيس تحرير جريدة النيل وعضو في وفْد حزب الأمة في لندن لهذا التاريخ! فهذه الببغاء تجمع إلى نقيصة الترديد والتقليد نقائصَ كل واحدة منها شرٌّ من الأخرى هي الجَهْلُ بمعنى ما يقول، والكذب على أهل السودان، والجرأةُ في التهجُّم على الناسِ بما ليس يعلم، والتدليسَ في التاريخ، والعبثُ بمصير أمّته المصرية السودانية، وشرُّهن جميعًا ما يلوحُ في خَبِئ كلامِه مِنَ العَدَاوة البغيضة التي يؤرثها هو والمستأجرون من أمثاله بين مصر والسودان. وقِصّةُ هذا الدانواب الذي يحتج به ذلك الإنجليزي ثم احتجَّت به الببغاء الملقَّنَة، قِصَّةٌ فاسدة المبنَى والمعنى، والإغماضُ في الاحتجاج بها دالٌّ على ضيقِ التصوّر وقلة العقْل وجُثُومِ الجَهْل في جمجمة قائلها. فهذا النهر ينحدر من منابعه في بادن مخترقًا ألمانيا ثم النمسا ثم هنغاريا ثم يوغوسلافيا ثم بلغاريا ثم رومانيا حيث ينتهي إلى مصبّه في البحرِ الأسودِ، فهو مشترك بين ست دُولٍ كُل واحدة منها لها خصائصها، حتى يبلُغ التباين بينها مبلغًا ليس بعده شيءٌ، في اللُّغة والعادات والآداب والتاريخ وأسباب الحياة كُلها تقريبًا. هذه واحدة. أما الثانية فهذا النهر واقِعٌ في قلبِ أوربة، وهذه الدول كلها قائمةٌ على حِفافَيه متاخمة لدُوَل أُخرى تُحِيط بها شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، فهو ليس نهرًا في صحراء جرداءَ كما نرى في نهر النيل الذي يحده من الشرق صحراء، ومن الغرب صحراء ومن الشمال بَحْر ينتهي إليه مصبه، وفيه دلتا مصر. وأمّا الثالثة، فهو أنه ليسَ نهرًا تقوم على جوانبه الزراعة في خطٍّ ضيّقٍ في بلدٍ واحدٍ كالذي تراهُ في نيل مصر والسودان، بل لعلّ أكبر فوائده هي النَّقْل لا الزراعة وحدها. وأما الرابعة فهي أن هذا النَّهْر يمرُّ في دُوَلٍ ستٍّ قوامُ حياتها الصناعة لا الزراعة

وحدها. أما نهر النيل فالزراعة هي قوامُ حياة أهله وسبَب أرزاقهم، والذي فيه من مادة الخِصْب يوجب أن يكون نهرًا للزراعة واستصلاح الأراضين البور التي تَحُفُّ به من شرق وغرب. وأما الخامسةُ فهي أن إقامة السدود على نهر الدانوب لا يمكنُ أن يرادَ بها إلحاق ضَررٍ بالأرضين التي تقع على مُنحَدره، فإذا أرادَ ذلك مُرِيدٌ وعزمَ على أن يضر بلد بمنع ماءِ الدانواب عنه فقد وقعت الواقعة بين ستِّ دُوَلٍ كُلها متأهب للحرب في سبيل ردّ هذا البَغْي. فهو كما ترى أمر مستحيل بطبيعته. وهناك قول كثير ولكنْ حَسبُنا هذا لمن يريد أن يَفْهم فهمًا، لا أن يردّد الأقوال ترديد الببَّغاوات التي تُبَاع وتشترى للأغراض الخبيثة التي تريدها إنجلترا بهذه الببغاوات المسكينة. فهذه المقابلة السخيفة بين مسألة الدانواب ومسألة النيل لا تدلّ على شيء إلا على جَهْل الناطق المردّد لها، ولا تقوم حُجّة إلا على خُبث النيَّات التي أخذت تندسُّ لتفرِّق أوصال هذا الوادي وتزايل بين روابطه التي لن تنفصم، بإذن الله. ونحن نحمد الله على أن الأحرارَ أهلَ السودان ليس لهم برأي أن يقطعُوا أَرحامَهُم، ويُخربوا بُيوتهم بأيديهم، ويمزقُوا هذه الوشائج الممتدّة من أقصى عُهُودِ التاريخ إلى يومنا هذا. فنحن نسوق الحديث إلى هذه الببغاوات التي تنتسب إلى الشعب الأبيّ الحرّ لعلها تفيء إلى الحق، وإلى الذين يهادنون في الحق الأبْلج (¬1) مخافة أن يقالَ إن مصر تريد أن تبسط سلطانها على السُّودَان في زمن تنادى فيه الأمم بالحق الأبلج أيضًا في تقرير المصير. ولولا أن هذا كله تدليس خفيٌّ يُراد أنْ تروّعَ به القلوبُ، ثم يتغلغلَ خُفْية إلى معانٍ بعيدة يراد بها قتل السودانِ ومصر جميعًا، لكان الردّ عليه هو إهمالُه وازدراؤه. إن هذا النيل الجاري بين الصحراء الشرقية والصحراء الغربية من أقصى الجنوب إلى أدنى الشمالِ يُوجِب أن نكون أمةً واحدةً، فليس مثله كمثل ¬

_ (¬1) الأبلج: الأبيض الواضح.

الدانوب. فإنه إذا قُدّر للسودان أن يكونَ وحده مستقلًّا، وهذا أبعد البعيد، أو تحت سلطان إنجلترا، وهو الشيء الحادث والذي يُراد الإيغالُ في إقراره بفصله فصلًا تامًّا عن مصر، فإن الخطر الدَّاهم والداهية المصبوبة تكون على مصر جاثمة حاضرة في كل أوانٍ، فإن أسهل السَّهل أن تُضارنا إنجلترا في ماءِ النيل، وأن تمنع عنا رِفْده متى شاءت وتتخذه سلاحًا مخوفًا مفزعًا وحشيًّا للتهديد والإرهابِ بقطع مادَّة الحياة في مصر بل في الشرق الأوسط، فإن قحط مصر هو قحط الشرق الأوسط، بل قحط جُزْءٍ عظيم من حوض البحر الأبيض المتوسط. فإذا كان ذلك فبمن نستنجد؟ ومن أين نؤمل النُّصْرة؟ برمال الصحراء الشرقية وسوافى (¬1) الصحراء الغربية! ! إنه إذا كان مثل ذلك في أي مكانٍ من الدانوب لهبَّتْ أممٌ بأسرها -أمم صناعية- تدفع البَغْي دفعًا رادعًا رادًّا للحق مانعًا لاستمرار هذا البغي. أما مصر، فماذا تصنعُ أيها المأجورون للدسيسة الإنجليزية! أتدافع برجالٍ هدَّهم الجوعُ والظمأ والوباءُ؟ تعست الحماقة! ولو كانت إنجلترا هي الأمة التي تسكن هذا الجزء من وادي النيل المسمى باسم مصر، لما تردَّدت ساعة واحدة من أجل هذا وحده أن تفتح السودان فتحًا وتنتهبه انتهابًا، وتحتج لفعلاتها فيه بكل حجةٍ. لأن النيل حياة إذا جاء بمدِّه، وموت إذا أمسك سَيْبه. وهذه إنجلترا نفسُها ليس لها حُجة في البقاء الذي تريده في الشرق الأوسط وفي قناة السويسِ وفي نواح أخرى كثيرة، إلا أنها إذا خُلِّيتْ جلبت على الإمبراطورية كل شرٍّ، وقطعت شُرْيان الحياة الذي يمدُّها بالطعام والمال والقوة والسلطان. أفيجوز في العقل أن تحتج إنجلترا بذلك في سبيل أن تبقى عند قناة السويس وفي فلسطين، ولا نحتجُّ نحنُ بأضرارٍ محققةٍ إذا كان في السودان إنسانٌ واحدٌ في يده قدرةٌ على الإضرار بمصر إضرارًا يصيب أبدان أهلها وأرواحهم، ثم أبدان ملايين أخر من أهل الأمم التي تجاورنا ونستعين بها وتستعين بنا. ¬

_ (¬1) السوافي: ما تحمله الرياح من الرمال فتلقيه.

ونحن لا نقول هذا ولا نسوق الحجة على هذا الوجه لندعى -كما يُراد لنا اليومَ أن ندَّعى- إنَّ لمِصْر حقًّا في استعمار السودان أو احتلاله أو الوصاية عليه أو غير ذلك من الأباطيل المضللة، بل لنقول إنَّ هذا وحده يوجبُ عقلًا أن يكون وادي النيل كلُّه دولةً واحدة، لها حكومةٌ واحدة، وتشريع واحدٌ، ونظامٌ نيابي واحدٌ، شأنُ السودان فيها كشأن أَسْوَان، وقنا وجرجا ومديريات مصر كلها، فإن موقع أية مديرية من هذه المديريات كلها هو من الناحية الجغرافية كموقع السودان؛ فلو جاز أن يُفصل السودان اليوم عن مِصر بحجة، فهذه الحجة تنطبق كل الانطباق على أسوان ثم قنا ثم جرجا إلى أن تبتلع النيل كله. وأيضًا فإن مكان السودان كمكانها من الناحية التاريخية والأدبية والأخلاقية والدينية. وإذن فالنيل يحدث بلسانٍ لا يكذبُ بأنه لا يمكن أن يتجزَّأ إلا أذا جاز التجزؤ على هذه المديريات حتى تُصبح كل واحدة دولة قائمة برأسها. والشعب الذي يسكن أسفل الوادي (المعروف باسم مصر)، والشعب الآخر الذي يسكنُ أعلاه (المعروف باسم السودان)، شعبٌ واحدٌ ناطقٌ بلسان عربيّ مبين لا يعرف نفاق اللسان الإنجليزي ولا تكاذُبه وخداعَه، بأنه أيضًا لا يستطيع أن يتجزأ، ولا هو قابل للتجزّؤ. ولقد استزلَّ الشيطانُ بعض ساستنا؛ فأخذوا يقولون إنَّ مِصر لا تريد أن تستعمر السودان، بل تريد أن تمنحه الاستقلال الذاتي! فحِلًّا حلًّا (¬1) أيها الرجال، فإن هذا ما يريده الإنجليز، إنهم يريدون أن تقرُّوا بألسنتكم ما الحق شاهدٌ على بُطْلانه، وهو أن الشعب المصريّ شيء، والشعب السوداني شئٌ آخر، ويريدون أن تقولوا إن النيل ممكن أن يتجزَّأ، ولو بعضَ التجزّؤ، فإن هذا حسبهم منكم اعترافًا وتقريرًا. فتوبوا أيها الساسة من هذا الإثم، ولا يُرهبكم حقٌّ تقرير المصير، ولا مجلس الأمن، ولا هيئة الأمم المتحدة، فإن هذه الرهبة باطِلٌ كلُّها. توبوا أيها السَّاسة، ولا تخافوا من أكذوبة الدانوب، فهو النهر الوحيد ¬

_ (¬1) حِلًّا: أي مَهْلًا.

الذي تتعدَّدُ الدُّول على حفافيه، وهو نهر ليس له قيمة زراعية. واعلموا أنه لا يكاد يوجد في الدنيا كلها نهرٌ زراعيٍّ وَاقِعٌ مجراه في أكثر من أمةٍ واحدةٍ، وهذه الأمة الواحدة يكون لها كل السلطان عليه من منبعه إلى مصبّه. لا تخافوا أيها الساسة وتوبوا وتبرأوا مما قلتم، وخيرٌ لكم أن تدرسوا طبيعة النيل والأضرار المخوفة من تمزيقه، وأن تعرفوا ماذا تريدُ إنجلترا بفصل السودان عن مِصر وضمّه إلى الجزء المفضي إلى جنوب إفريقية والجنرال سمطس، فهناك البلاء الأعظم. أيها المصريون السودانيون: إن النيل هو إفريقية كلُّها فاحذروا أن تضيعوا أوطانكم، وتُلْووا (¬1) بأمجادِكم، وتضعوا أعناقكم في نير العبودية السرمدية إذا احتوشتكُم (¬2) العناصر الغريبة عن إفريقية النائمة التي بدأت تستيقظ من غفوة طالت عليها الآباد. احذروا كذب البغاة الطغاة المفسدين في الأرض، واحذروا ببغاواتهم وصنعاءهم فإنهم الحارقة الآكلة إذا استمكنوا منكم وأوضعوا (¬3) خِلالكم يبغونكم الفتنة ويَسُومونكم ذُلا مستورًا ببهرج الاستقلال وتقرير المصير. لا تخافوا مجلس الأمن ولا هيئة الأمم إذا قدمتم إليهم قضيَّة فيها كل دليل لا يبطله شيء من تاريخٍ ولا عقلٍ ولا مصلحةٍ. وأنتم يا أخواننا وأهلنا وعشيرتنا في السودان احذروا الدولة التي تريد استقلالكم، وتريد أن ترعاه لكم، كما رعت غيره من قبل! ! فإن "مَنْ استرعى الذئبَ ظَلَم" (¬4). ¬

_ (¬1) أَلْوَى به: أَوْدَى به وأهلكه. (¬2) احتوشتكم: اجتمعوا عليكم وأخذوكم من كل جانب. (¬3) أوضع: أسرع. (¬4) هذا مَثَلٌ.

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة حديث غد. . .

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة حديث غد. . . (قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة) (* *): خرجتُ في صفر من سنة أربعين أريدُ المدينة أزورُ فتيانًا من أصحابي بها، وأتحسَّس الأخبارَ أخبار الفتن المشئومة التي توزَّعت قلوب المسلمين، وأنظر ما فعل بُسْر بن أبي أرطاة بِمُهاجَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد بلغنا أنه أحدث فيها أحدَاثًا عظامًا. غادرت مكة يوم غادرتها وهي كالتنور المتوقد، فقد ذابت عليها الشمس، واحتدمَ وَهجُها وبقينا نتنفس بين أخشبيها (¬1) لظى من فيح جهنم، حتى يحس المرء كأنّ الدمَ يفورُ فورانًا في عروقه، وقد خدر النهارُ من حوله فلا ريحٌ ولا روحٌ، فلكلّ نَفَسٍ لذعة في الخياشيم والصدر تنشف الرِّيق حتى يكادُ اللسان ينشقُّ من فرط جفافه، وحتى يكاد يظن أنه الجنون. ما أصبرنا يا أهل مكة على صياخيدِها (¬2)، وما أحبها إلينا على شدة ما نلقى من لأوائها! بورِكتْ أرضًا وتعالى من حرَّمها وتقدَّست أسماؤُه. كان النهارُ حرًّا ماحقًا منعنا التأويب، فكان سيرُنا كله إدلاجًا (¬3) تحت غواشى الليل إلى أن يُشفِرَ الفجر وطرفًا من النهار. ولشدَّ ما أعجبني الليل وراعني حتى تمنيتُ أيّامئذ أن الدهر ليل كلُّه، فقد كنت أسرى تحت سماءٍ زرقاء ملساءِ صافية كأن النجومَ في حافاتها وعلى صفحتها دُرٌّ يتلألأ على نحرِ غانيةٍ وأنا تحت ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 705)، يناير 1947، ص: 14 - 17 (* *) كتب عمر هذه الكلمات وهو في السابعة عشرة من عمره، فقد كان مولده ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين يوم مقتل عمر بن الخطاب (شاكر). (¬1) الأخشبان جبلا مكة المطيفان بها، وهما أبو قبيس والأحمر. (¬2) الصياخيد: جمع صَيخود، شدة حَرّ الشمس. (¬3) التأويب: الرجوع بالليل، يعني لا ينزلون ليلا وإنما يسيرون الليل كله، وهو الإدلاج، لأنهم لا يستطيعون السير نهارا لشدة حر الشمس.

أنفاسها كالشارب الثمل. وكيف تفعل هذه البيداء بنا وبقلوبنا؟ قيظٌ يسلخُ جلد الحية ويذيبُ دماغ الضبِّ، لا يلبث أن تنفحنا بعده بنسيمٍ هفافٍ كأن الليل يتنفس به ليخفف عنا بلاء نهارنا، ويفوح من بُرُود الليل شَذا الأقاحيّ (¬1) فيفغم (¬2) الفضاءَ كلَّه أحيانًا حتى يخيل إليّ أن البادية المجدبة قد استحالتْ روضة تنفث أزهارُها الطيبَ من حيث استقبلتُ، فأجد لها روحًا على كبدي وواحة فأعبُّ من أنفاسها عبًّا حتى أقول لقد سَكِرتُ من غير سُكرٍ. ثم ما أندى رويحةَ الفجر على قلوب السارينَ في هذه المهامه السحيقة المتقاذفة (¬3)! فإن عبِيرَها وبَرْدها والنور المشعشع على أرجائها يجعلك تحسُّ حسًّا لا يكذب بأنك تحيى في لذاذات لا ينقضي منها أربٌ ولا يستحيل لها مذاقٌ. ولقد حبب إلى الخروجُ إلى البادية كلما وجدتُ في نفسي طائفًا من سآمة أو مللٍ، فيا بُعدَ ما بين الحاضرةِ وجوّها الكامِد الجاثم ليلا ونهارًا، وبين هذه الرّحاب المتمادية التي يبثُّها النهارُ لواعجه وحرقه، ويأتي الليل فيناجيها نجوى خافتةً بما في ضميره العميق المشتمل على أسرار الحياة برِّها وفاجِرها، وتقف النجومُ على أرجاء سمائها مصغياتٍ مشرقات زاهرات كأنما يومِضُ بعضُها لبعضٍ فرحًا بما سمعت من تلك الأسرار المصونة المكتمةَ. * * * كلما أوغلنا في البادية وفي قلب الليل ازددتُ فتنةً بليالي الصحراء وتهامُس رمالها وتَناجى كواكِبها، وأسمعُ للَّيل هَسهسةً كأنها أحاديثُ قُلوب عاشقة قد تدانى بها السِّرارُ، فتمضي الساعات والعيسُ ماضيةٌ بنا فلا نملّ ولا نكلُّ ولا نحسُّ وحدة ولا مخافةً، كأنّا قد دخلنا الحرم الآمنَ الذي لا يراع اللائذ به. وجعلتْ نفسي تتجدَّد وتتطهر كأن برد الليل قد غسلها فما تشوبُ نقاءها شائبة. ¬

_ (¬1) الأقاحي: جمع أقْحُوان: نَبت طيب الريح، حواليه ورق أبيض ووسطه أصفر، تُشبه به ثغور النساء. (¬2) يفغم: يملأه برائحة طيبة. (¬3) المهامه: جمع مهمه، وهو الصحراء. المتقاذفة: البعيدة.

وبعد ليال أفضتْ بنا المسالك إلى "الرَّبَذَةِ" التي بها قبر أبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه، فلم يبق بيننا إلى المدينة سوى ثلاثة أميال، وأدركنا الفجر وإننا لعلى مشارفِها، فقلنا نعوجُ بها فنصلي الفجر ثم نرتحل حتى نبلُغ المدينة في نهار يومنا هذا. فلما أنخنا جمالنا وقمنا إلى الصلاة، سمعت صوتَ قارئ قد تأدَّى إلينا من بعيدٍ، فتلمَّسته حتى تبينتُ صوتًا رَاعِدًا تقيًّا كأنه الجبالَ والرمالَ والدنيا كلَّها تهتزُّ على نبراته القوية العنيفة الصادقة، وكأنه يمضي في إهاب الليل المهلهل فيفْريه فريًا ويمزقه بِمُدى من النور، وكأنه يسيلُ في البطحاءِ كالسَّيل المتقاذفِ فتموج فيه رمالها كأمثالِ الجبالِ نُسفتْ من قراراتها، وكأنّ ألفاظهُ هَبَّاتُ عاصفة تفضُّ دُرُوع الليل فضًّا، وكأنّ نغماتِه أنوار مشعشعة تخالطُ هذا كلَّه فتملأ الفجر فجرًا من نُورِها ونور ألفاظها ومعانيها. وأول ما تبيّنْتُه حين دنوت منه بحيث أسمع قراءته: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} , إلى آخر الآيات، فلما أخذ يكبر سمعت التكبير يملأ جنبات الأرضِ كلها مترددًا ظاهرًا كأن لم يبق في الدنيا شيء إلا كبر بتكبيره. فرغ الرجل من صلاته ووضع عمامته وبقى حيثُ هو قليلا ثم قام، فأضاءَه لي ذَرْوٌ (¬1) من نور الفجر الناهد من قبل المشرق، فإذا رجل في السبعين من عمره وافر اللحية أبيضها، أسمر شديد السمرة طوالٌ جُسامٌ فارعٌ كأنه صعدة (¬2) مستويةٌ، أصلعُ الرأس شديدُ بريق العينين، نظر إلينا نظرةً وحيَّى ثم انفتل راجعًا إلى فسطاط مضروب قريب من حيث كان يُصَلِّي. رأيتُه وهو يمشي كأنه قائدٌ يحسُّ ¬

_ (¬1) ذَرو: القليل من الشيء. والناهد: الذي بدأ في الظهور. (¬2) الصعدة: القناة تنبت مستوية، ولما كان الرمح يُصنَع منها سُمّى صَعْدَة.

كأن الجحافِلَ من ورائه تمشي على أثره. وبعد قليل جاءنا رجل كأشد من رأيتُ من الناس نَفاذَ بَصَر، فحيَّانا وقال: من الناس؟ قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومى. قال: ابنُ العِدْلِ (¬1)؟ رحم الله أباك، فقد شهد معنا المشاهد بعد عام الفتح. قلت: فمن يكون الرجل الذي أوى إلى فسطاطه يرحمك الله؟ قال أو ما عرفته؟ إنه محمد بن مَسلمة الأنصاري صاحبُ رسول الله وصاحب أبي بكر وعمر. قلت: فما جاء به، وقد سمعنا أن رسول الله نهى عن أن يرتدَّ المرءُ أعرابيًا بعد الهجرة، وأنه ذكر ثلاثًا من الكبائر منها "التعرُّبُ بعد الهجرة"، فيعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرًا. قال: صدقت يا بُني، ولكن لذلك خبرٌ: كانَ محمد بن مسلمة فيمن ثبت مع رسول الله يومَ أُحُد، فأعطاهُ رسول الله سيفًا وقال له: "إنه ستكون فتنة وفُرقة واختلافٌ، فإذا كان ذلك فأت بسَيفِك أُحُدًا فاضربْ به عُرْضَه حتى تقطعه، واكسر نبلك واقطع وتَرَك، واجلس في بيتك حتى تأتيك منيّة قاضية أو يد خاطئة، فإن دَخَلَ عليك أحدٌ إلى البيت فَقم إلى المخدَع، فإن دَخَلَ عليك المخدع فاجثُ على ركبتيك وقل: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاءُ الظالمين". وقد فعل حين كانت هذه الفتن بين عليّ ومعاوية فكسر حدّ سيفه وقعد في بيته، وأطاعَ نبيَّه وعصى الشيطان الذي استزل هذه الناس التي يقتل بعضُها بعضًا. ولقد قضى في مكانه هذا ثلاث سنواتٍ يدعو ربه أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين التي جعلت تتفانى على دُنْيا فانيةٍ، وعسى ربك يستجيبُ لدعاءِ هذا الرجل الصالح فتحقن الدماءُ وتوصَل الأرحامُ ويعزُّ بهم دين الله في هذه الأرض. (قال عمر): فسألتُ الرجل أن يستأذن لي على أبي عبد الرحمن محمد بن مسلمة، فذهبَ ثم جاء يُومئ إليَّ أن أقْبِل. فدخلت على أبي عبد الرحمن ¬

_ (¬1) كانت قريش تلقب عبد الله "العدل"، لأن قريشًا كانت تكسو الكعبة في الجاهلية بأجمعها من أموالها سنة، ويكسوها من ماله سنة فكان وحده عدلا لقريش جميعًا في ذلك، وكان تاجرًا موسرًا.

فسطاطه فإذا فيه سيف مُعلَّقٌ على جانب منه، فلما سلَّمتُ رد التحية وقال: مرحبًا بك يا ابن أخي! ما جاء بك؟ قلت: زائرٌ إلى مدينة رسول الله يا أبتاه. فدعاني أن أجلس، فوالله لقد أخذتني للرجل هيبَةٌ ما وجدتها لأحد ممن لقيت من صحابة رسول الله، ولا من أمراءِ المسلمين، وكانت عيناهُ تَبِصَّان في سُدْفَة (¬1) الفسطاط كأنهما قِنْديلان يلوحانِ في ظلامٍ بعيدٍ. وجعلتُ أنظر يمينًا وشمالا فلا ألبث أن أثبت نظري على سيفه المعلق، فلما رأي العجَب في عينيّ قال: لعلك تقول، لقد كسر سيفه، وهذا السيفُ معلق بحيث أرى! ثم قام واستنزل السيف واخترطه (¬2) فإذا هو سيفٌ من خشب. ثم قال: لقد فعلت ما أمرني به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - واتخذتُ هذا أُرْهبُ به الناس. * * * (قال عمرُ بعد حديث طويلٍ): قلت له: يا أبتاه والله لقد آنستني وأدنيتني وأطلقت لساني فلو سألتك! قال: سل ما بدا لك يا ابن أخي. قلت: لقد حدَّثتني عن قتلك كعب بن الأشرف اليهودي، وعن قتل يهودَ أخاك محمودًا - رضي الله عنه -، فهلا حدثتني عن إجلائك يهودَ عن جزيرة العرب في زمان عُمَر؟ فقال: رحم الله الرجل، فقد كان شديدًا في الحق حافظًا للعهد، ولكن يهودَ قومٌ غُدُرٌ، أساءُوا الجوار وخانوا العهد وتآمروا على المسلمين، فعزمَ عمرُ على أن يجليهم عن أرض العرب ليقطعَ غدرهم ويحسم مادة النفاق في هذه البقعة المباركة. فأرسَلَ إليّ وقال "لقد عهد إليك رسول الله مراتٍ أن تجلى يهود، فأنا أتبع سنته وأعهد إليك أن تجلى لي يهود عن أرض العرب، فلا تظلمهم ولا تؤذِهم، ولكن لا تدعْ منهم صغيرًا ولا كبيرًا ولا طفلا ولا امرأة حتى تستوثق من جلائهم بجموعهم عن أرضنا. ولئن عشت لأجْلِيَنَّهم عن كل مكان كبَّر فيه ¬

_ (¬1) تبصان: تلمعان. السدفة: الظُّلْمة. (¬2) اخترط السيف: استلّه من غمده.

المسلمون لله، فإنهم أهل فسادٍ ونفاقٍ وخَبَث". فخرجتُ إلى طوائف اليهود في خيبر وسقتهم مستقبلًا بهم الشام، فلما بلغنا غايتنا أقبل عليّ رجل من ولد الحارث أبي زينب اليهوديّ ثم قال لي: لقد كنت مسترضعًا فينا يا أبا عبد الرحمن، وكنت أنت وابن الأشرف رضيعي لَبَانٍ، فما لبث أن جاء هذا الدين واتبعتم ذلك النبيّ حتى قتلت أخاكَ ورضيعَك، وها أنت تخرجُنا من ديارنا وأرضِ أجدادنا، وترمينا في ديار الغُربة، فهلا كنت تركت كل ذلك لغيرك أيها الرجل! فقلت له: يا أخا يهودَ، لئن كنت قتلتُ رضيعي فقد قتل قومُك أخي محمود بن مسلمة غدرًا، وعرضتم لحرم رسول الله بالتشبيب والبذاءة والسفَهِ، وأردتم أن تغدروا بنبي الله وتدلوا عليه صخرة لتقتلوه، أفتظن يا أخا يهودَ أنَّا تاركوكُم تعيثون في الأرض فسادًا، وتكفرون النِّعم، ولا ترعونُ حرمة ولا ذِمامًا ولا عهدًا، وتتآمرون على المسلمين تحت الليل، وتعدون عليهم غارِّين آمنين؟ ووالله لقد صبر عليكم عُمَر صبرًا طويلًا، ولو كان حَزَّ رقابكم جزاءً بما تصنعون لقلَّ ذلك لكم. قال ابن الحارث: لشدَّ ما تِهْتُم علينا أيها الناسُ، فوالله ليكونن لهذا اليوم الذي أذللتمونا فيه وفضحتمونا وأجليتمونا عن أرضنا وأرض آبائنا يوم مثله يكون لنا عليكم، فقد جاء في كتبنا أنه سوف يجئ يوم تدخل فيه اليهودُ على أبناءِ يعرب هؤلاء فتذيقهم بأسًا شديدًا وعذابًا غليظًا، حتى ترى اللُّقمة في يد المسلم قد أدناها إلى فيه فإذا على رأسه رجالٌ من أشدَّاءِ يهود تنفِّره حتى يدعَها لهم. ولتدخلنَّ نساؤنا على نسائكم حتى لا تبقى امرأة منكم إلا نامت بشرّ ليلةٍ ممّا تَلْقى من نسائنا، ولنسوقنكم كما سقتمونا حتى نجليكم عن ديار آبائكم وأجدادكم ولنفعلن الأفاعيل حتى تكون لنا الكلمة العليا ونحن يومئذ أحق بها. والله ما نصبر على ما آذيتمونا إلا انتظارًا لما يكون غدًا كما قال لنا أنبياؤنا. وكأني أنظر إلى غدٍ، فأرَى وجوه الأحباب من بني إسرائيل قد سقطت عليكم من كل فج كأنهم جرَادٌ منتشرٌ تأكل يابسكم وطريَّكم، ولا تدعُ لكم موطئ قدم إلا كان تحته مِثْل جَمْرِ النار. وإنكم لتقولون إن الله قد ضرب علينا الذلة والمسكنة. فوالله لئن

صدقتمُ اليوم إذْ أَمِر أمرُكم (¬1)، لتعرفنّ غدًا أننا شعب الله الذي لا يرضى له الله بالذلة والمسكنة، ولقد كنا ملوك الأرض فدالت دولتنا كما دالت من قبلها دول، ولكن الله بالغُ أمره يوم تدولون كما دُلْنا ويعودُ الأمر إلينا، فنحن قوم أولوا بأس شديد، ونحن أهل الكتاب الأوّل، ونحن أتباع الحقِّ. فإذا جاء ذلك اليوم يا أبا عبد الرحمن فستعلمون أينا أشدُّ تنكيلا. فوالله لنتخذَّنكم لنا أعوانًا على أنفسكم، ولنضربَن غاديكم برائحكم ومقبلكم بمدبركم، ولنوقعنَّ الفتنة بينكم حتى يُصْبح الرجل مِنكم مؤمنا ويمسي كافرًا، وليكوننَّ لنا من أنفسكم رجالٌ يخربون بيوتهم وبيوت آبائهم وهم عنا رضوان ولنا مطيعون! قال محمد بن مسلمة: فسمعتُ الرجل يقول قولًا كبيرًا، فقلت له: لئن صدقَ أنبياؤكم فكانَ ذلك، فما صدقوا إلا ليصدقوا رسول الله في خبره، فأنتم اليوم أشتاتٌ مبعثرون في جنبات الأرض، وليزيدنكم ربُّكم فُرقةً وشتاتًا، فإذا جاء ذلك اليوم فدخلتم علينا أرضَنا وعلا أمركُم في حيث يشاءُ الله منها، فلكي تتم فيكم كلمة الله وليعذَّبكم وليستأصل شأفتكم من أرْضه، ولتكونوا عبرةً للطاغين من أمثالكم، فقد قال الصادق المصدّق رسول الله: "تقاتلكم يهودُ فتسلَّطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهوديّ ورائي فاقتله"، فوالله ليكونن ذلكَ كما أرادَ الله، ويومئذٍ يعض طُغاتكم وطواغيتكُم أطراف البنان من النَّدم، فالعربُ هي ما علمت يا ابن الحارث لا ينامُ ثائرها (¬2) ولا يُخطم أنفها بخطام. (قال عمر) قلت: يا أبا عبد الرحمن! وإن ذلك لكائنٌ؟ قال: يا بني، ما علمي بالغيب! ولكنه إذا جاء فليقضيَنَّ الله بيننا قضاءَه، ويكونُ يومئذ فناؤهم على أيدينا، فأمرُ المسلمين إلى ظهور، وأمر يهود إلى حُكم الله الذي ضرَب عليهم الذِّلة والمَسْكَنَة إلا بحبلٍ من الله وحبل من الناس. والله يحكم لا معقِّب لحكمه. ¬

_ (¬1) أَمِرَ أمركم: اشتدَّ وقويَ. (¬2) الثائر: الذي لا يُتقى على شيء حتى يُدرك ثأرَه.

مصر هي السودان

مصر هي السودان دخلت المسألة المصرية السودانية في ساعة حاسمة لابد فيها من العمل والتسديد والحزَامة والتصميم، وأصبح لزامًا على أهل الرأي ورجال السياسة أن ينزعوا الخوف من قلوبهم ويطرحوا التردّدَ جانبًا، ويقبلوا على المعركة مستبسلين لا يخافون. وقد صار أمر مصر والسودان إلى مصير ليس في تاريخ مصر والسودان أسوأ منه، فكل نكولٍ عن أداء الواجب وعن التنبيه والتحذير خيانة لوادي النيل لا يغتفرها لنا آباؤنا ولا أحفادنا من بعدنا. وإذا أضعنا اليوم حق مصرَ والسودان علينا، فقد ضاع كلُّ ما ترجوه بلادُ العرب والمسلمين من أطراف الصين إلى أقاصي المغرب الأقصى، وإذا الفرصة السانحة قد أفلتتْ من يد هذه الأمم إلى غير رجعة. فمسألة مصر والسودان ليست إذن مسألة مفردة برأسها بل هي أمّ المسائل العربية والشرقية جميعًا، وموقفنا حيالها هو المحكُّ لكل ما يرجوه الشرق ويؤمله. بيد أن مسألة مصر والسودان قد أصابها من البلْبلة على مر السنين الطوال ما يُخشى معه أن يدعَ للعدوّ منفذًا يتدَسسُ منه إلى إحداث الفرقة والتنابذ، وقد بدا شيءٌ من آثارهما في العهد الأخير بعد أن استطاعت الدولة الخدّاعة أن تستميل قلوب نفر من أهل المطامع ورجال السوء في السودان وغير السودان. فلابُدّ إذن أن نبدئ ونعيدَ في بيان الحقيقة التي لا تطمس نورها الأكاذيب الملفَّقة، ولا يُطفئ رونقها طول الإهمال والترك. وإنا لنأسف أن قد مضى على كبار ساستنا زمانٌ وهم يظنون أن علاج المسألة المصرية مفصولة عن السودان هو الطريقُ إلى نيل الحق من غاصب وادي النيل، فأصبح الناس وإذا هم يرون ضلال الساسة الغابرين في بتر قضية وادي النيل وشطرها إلى شطرين سموها باسم المسألة المصرية والمسألة السودانية. ولو هم عملوا، منذ ولَّاهم الله سياسة هذه الأمة، ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 708)، يناير 1947، ص: 104 - 106.

على أن القضية واحدةٌ، وتجزئتها مفسدة للجزءين كليهما، لسار تاريخ مصر والسودان غير هذا السير الخبيث الذي ساقتنا بريطانيا في سراديبه المضللة المظلمة. إن الجزء المسمى بمصر من هذا النيل المنحدر من منابعه إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، جزءٌ يسيرٌ من مجرى هذا النيل، وهو واقع في صحراء جرداء لولا هذا الجزء من النيل لاتَّصلت رمال الجانب الشرقي والجانب الغربي من الصحراء وتصافحت على مسيله. وهذا الجزءُ الخصبُ بمدّ النيل، خط ضيق محصور أكثره بين الجبال والرمال، ولا يرجو أهله منه خيرًا إلا باسم النيل وبماء النيل وبركة النيل. فإذا حبس النيل ماءه أو منع بركته، أو وُجد على الجزء الجنوبي منه (وهو السودان) من يحبس ماءه ويمنع بركته، انقلبت هذه الأرض المصرية نقمة على أهله وشرًّا وبلاءً. والتاريخ يحدِّث منذ قديم الأزمان بأنه ما امتنع ماء النيل أو قل إلَّا حدثت في مصر المجاعات والقحوط التي أهلكت الحرث والنسل، حتى اضطُرّ أهل مصر في كثير من أزمان القحط أن يأكل الرجل لحم أخيه وولده من شدة المَتْرَبة التي حاقت بهذا البلد الخصيب. فالنيل هو كل شيء في بلدٍ لا تمطره السماء إلا غبًّا (¬1)، وليس فيه ما يُغني أهله عن أن يجعلوا مادة حياتهم وأرزاقهم مما تخرجه الأرضُ التي يكدحون في زراعتها كدحًا شديدًا، والتي لا تنفع فيها زراعة إلا إذا استوفت حظَّها من ماء هذا النيل. وقديمًا قامت في هذا الجزء الأدنى من النيل أممٌ وحضارات لا تزال آثارها باقية إلى هذا اليوم، وكان أوْلى بقيام هذه الأمم والحضارات الجزء الأعلى وهو السودان، لولا أن أهل الزمن الماضي فرُّوا من وقدات الشمس المحرقة في السودان إلى هذا الجزء الأدنى فأقاموا الحضارات على حفافيه، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا وهم مطمئنون إلى أن الجزء الأعلى ليس فيه دولة قائمة يمكنها أن تردَّ هذا النيل عن مجراه إلى قرارة هذا الوادي الذي سُمى "مصر". ولو كان هناك ¬

_ (¬1) الغب: المرّة بعد المرة دون اتصال، يعني قليلا.

شيء مثل ذلك لرأينا، كما رأينا في شأن الوجه القبلي والبحري، رجالا ينصبون أنفسهم لضَمّ الشمال إلى الجنوب وتوحيدهما حتى لا يكون في الأرض الواحدة دوَلٌ متقسّمة يناوئ بعضها بعضًا، فلا تقوم لواحدة منهما قائمة، ولا يكون لواحدة منهما مجدٌ أو حضارة أو تاريخ، وبذلك بقى النيل الأعلى (السودان) في سَلْم دائما، إذ لم تكن فيه دولة مناوئة، وبقيت صلته بمصر كصلة أي بلدٍ من بلاد الدنيا يكون في أرضها جزء متروك لم يُعمر بالهجرة أو الاستصلاح والاستثمار. وهذا الترك لا يدل على اقتطاع هذا الجزء، بل على أن الحاجة لم تدفع بعدُ إلى استصلاحه أو استثماره. هذا هو التاريخ القديم في العلاقة بين جزئي النيل "مصر والسودان". ومضى التاريخ على هذا إلى أن جاء العصر الأخير، فقام شمال النيل "مصر" ليضم الجنوب "السودان"، كما قام الشمال من أمريكا لضم الجنوب إليه، وكما قام جزءٌ من بريطانيا نفسها ليضمَّ إليه بلاد الغال وأرض إسكتلندة. ولو بقى شمال أمريكا منفصلًا عن جنوبه، وبقيت بلاد الغال وبلاد إسكتلندة على أحوالها التي كانت عليها منذ قرون، لما كان في الدنيا شيءٌ يسمى الولايات المتحدة، ولا شيء يسمى بريطانيا. وإذن فضَمُّ السودان إلى مصر بالحرب لا يمكن أن يسمى "فتحًا" بل هو ضمٌّ فحسب، فلذلك يخطئ بعض الساسة الذين يحتجون في المسألة المصرية السودانية بهذا الشيء السخيف الذي يسمونه "حق الفتح". وكل ما هنالك هو أن هذا الجزء المتروك من أرض مصر أو أرض السودان -كما تشاء- كان لابد في ضمه من بعض الحرب حتى تستقر الحال ويستتبّ النظام، كما حدث في كل بلاد العالم منذ أقدم عصور التاريخ، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وهذا شيءٌ بديهيّ لا يحتاج إلى زيادة. ويتبع هذا الخطأ في الاحتجاج بحق الفتح خطأ آخر أقبح منه، وهو احتجاجُ من يحتجُّ بما أنفقت الأرض الشمالية على الأرض الجنوبية من الأموال، وهذا أيضًا فاسدٌ كل الفساد. فكل دانق أنفقته مصر في السودان هو حق السودان على مصر، كحقّ أي قرية في أرض مصر، وكحق كل شارع أو مديرية. فينبغي إذن

أن ننفي من احتجاجنا كل شيء يسمى نفقات أنفقت في السودان، فإن كل ذلك هو حق السودان الذي إذا قصَّرْنا في أدائه وجب عليه أن يطالبنا به بالكلام أو بالسيف أو بكليهما. ومن المؤلم أن يكون هذا الأسلوب الذي جَرَى ولا يزال يجري على ألسنة بعض الساسة، هو خديعة بريطانية قديمة لم نزل ننزلق في مداحضها ونزل، حتى كادت تكون نكبة عقلية ألمَّتْ بهؤلاء الساسة. فلابد إذن من وضع هذه الحجج حيث ينبغي أن توضع في زوايا الإهمال، وأن ينظر الساسة إلى الحق الطبيعي الذي يجب لمصر على السودان، والذي يجبُ للسودان على مصر، وأنا أقدِّم فأقول إن حق السودان على مصر هو الأصل، وهو الحق الأعظم، وهو الحق الذي لا يمكن مصر مهما بلغت من قوة ومجد وحضارة أن تتنصَّل منه أو تتبرأ، فإذا فعلت، فذاك هلاكها وضياعها في هذا العصر وإلى الأبد البعيد. إن السودان كما كان قديمًا، وكما هو الآن، هو حياة الأرض التي تسمى باسم "مصر"، فزراعتها وتجارتها ومالها وأهلها وتاريخها وحضارتها، كل ذلك فضل أتى به النيل. والنيل فيما بعد أسواره إلى منابعه واقع في الأرض التي تسمى السودان، فإذا أبى السودان أن يُفْضِلَ على مصر بالقدر الكافي من ماء النيل، فقد حدثت المجاعات، وهلكت الزراعة وبارت التجارة وذهب المال واندثرت الحضارات وانطمس التاريخ، ولم يبق في الدنيا دولة تسمى نفسها الدولة المصرية، بل مكان في الصحراء يقال له مصر ليس إلا، مُجَردًا من كل ما تكون به دولة أو أمة. فالحقيقة التي ينبغي أن لا نتمارى فيها بالعصبية أو الكبرياء هو أن السودان هو سيد هذا الوادي الذي يمده النيل بمائه، وإذن فالسودان هو أحق الشقيقين باسم الدولة، فإما أن يسمى وادي النيل كله باسم الدولة المصرية برضى أهل السودان، أو أن يسمى هذا الوادي باسم الدولة السودانية برضى أهل مصر. فهذا هو الوضع الصحيح للمسألة المصرية السودانية. ومن البيّن الذي لا خفاء فيه أن السودان كَنزٌ كله، بمائه ومعادنه وغاباته وحيوانه وكل شيء فيه، والذي في مصر من ذلك لا يعدل واحدًا من ألف من

هذه القوى الطبيعية المكنوزة في أرضه وجباله وسمائه. وهذه القُوَى هي التي تجعل لصاحبها السيادة العليا على الذي يستمدُّ من فضلها. فمصر تستمد من قُوى السودان جزءًا يسيرًا وهو الماء، وتستمده برضى أهل السودان ومسالمتهم وأخوَّتهم، فمن العبث إذن أن تدَّعى مصر "سيادة" على السودان، بل الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن سيادة السودان هي العليا، وأن مصر جزء من السودان، وهو جزء عظيم خصب صالح للاستثمار في الزراعة وغيرها استثمارًا عظيما، فمن مصلحة السودان أن يُفْضِل الماء على هذا الجزء لتزدهر زراعته وحضارته ويكون للسودان ذخرًا من القوة يضارع القوة التي فيه. والسودان محتاج إلى هذا الإفضال لأن المنطقة الصالحة للزراعة في مصر أعظم وأجدى من المنطقة الواقعة في الجزء المعروف اليوم باسم السودان. ومن هذا تعرف كيف دبَّر الله لهذين الشطرين العظيمين أن لا يجد أحدهما مَنْدُوحَة تغنيه عن صاحبه، وتفرض على كل واحد منهما أن يتشبث بصاحبه، فإذا تنابذا وتنافرا وتدابرا وتقاطعا، حاق بهما جميعًا ما يحيق بكل أخوَين متنابذين متدابرين، وهو الهلاك والضياع الذي تُخاف مَغَبتَه. وأنا لا أظن أن في الدنيا شيئًا هو أوضح للعقل السليم من هذا الذي ينبغي أن يكون بين مصر والسودان، أي الحقوق الطبيعية التي يفرضها وجود هذين الشطرين المتجاورين: شطر لا بقاء له وحده وهو مصر؛ وشطرٌ هو القوَى الكامنة التي تعطى البقاء للشطر الأول، وذلك هو السودان. والشطر الأول منهما "مصر" هو الذي مهد الله له سبيل القوة والتاريخ والعلم فكان في الوجود أسبق الشطرين إلى قيام الدولة فيه، والشطر الآخر باقٍ ساكنٌ قار. . . شيخ وقور رزين لا يفارق خَلْوَته إلا بسيب من العطايا والمنح التي يرسلها إرسالا إلى الشطر الأول ليحيى ويقوى ويكون سلطانًا في أرضه، وتاريخًا في الزمن، وحضارة في العالم، ولكن الشيخَ هو سرّ السلطان والتاريخ والحضارة - هو السودان. وذلك حسْبُه. وقد كتب الله لمصر أن تكون كما هي الآن، وأن تكون دولة في الدول لها سلطان ظاهِر ولها عمل في بعض السياسة، ولها آمال في تحرير نفسها وتحرير العرب وتحرير الشرق من بُغاة الاستعمار في أوربة وأمريكا وروسيا، فكيف يجوز

في عقل عاقلٍ أن تدع أباها الذي يمدها بكل هذه القوة ينخزلُ عنها وينفصل ليقع في يد الدولة المستعمرة المعروفة في الناس باسم بريطانيا؟ إن مصر هي السودان، ولا مصر بلا سودان، وإذا كانت إنجلترا نفسها تدّعي أن الهند لازمة لها، وقناة السويس لازمة لها، وكذلك روسيا فيما تدّعيه، وكذلك أمريكا في دعوى مصالحها في الأرض والبحر والجوّ، فكيف يجوز في عقل عاقل أن يُراد لدولة ترجو أن تكون دولة في هذه الدنيا العريضة المتراحبة -وهي ليست إلا خطًّا محرومًا حظَّ الحياة وأسباب البقاء- بانفصال السودان المفضل المتكرِّم عليها بأسباب القوة التي تمكنها من أن تكون دولة؟ إن واجبنا اليوم هو أن نموت في سبيل السودان، لأن السودان هو حياتنا، ونحن بضْعَةٌ منه، فدفاعنا عنه وموتنا في سبيله هو دفاع الولد البارّ عن أبيه، والذي لا حياة له ولا عزّ ولا مجد إلا بحياته وعزه ومجده. نحن لا نريد سيادة على السودان بهذا المعنى العاميّ الجلْف، فإن السودان هو سيّد هذا الوادي، ولكننا نريد أن تبقى مصر حيَّة قوية في كنف السودان أبينا ومادة حياتنا. إننا لن نفرِّط ساعة في السودان لأن الدولة المصرية ليست شيئًا، ولن تكون شيئًا في هذا الوجود إلا بالسودان. ولو أنصف القَدَرُ وأنصف الناس، لكان ينبغي أن تسمى "الدولة المصرية" الدولة السودانية. أما بريطانيا فهي تريد السودان، لأنها تدرك هذا كله حق الإدراك وتعلم أنها إذا بقيت في السودان، تحكمتْ في حياة مصر كلها، وزادت عليه ما في السودان من كنوز لا تزال مطمورة تحت تاريخ الحياة الإنسانية المتقادمة منذ أبعد الآباد. فليحذر السودان ولتحذر مصر، فإن مصر هي القوة الحقيقية لأهل السودان، والسودان هو الحياة الحقيقية لمصر. فإذا انفصل أحدهما عن الآخر ماتا كلاهما بين أنياب الوحش الذي لا تشبع نهمته ولا تسكن ضراوته.

لا تدابروا أيها الرجال!

لا تدابَروا أيها الرجال! زعموا أن رجلا ضلّ له بعير فأقسم لئن وجده ليبيعنَّه بدرهم، فأصابه، فقرن به سِنَّوْرًا وقال للناس: "أَبيع الجمل بدرهم، وأبيعُ السنور بألف درهمٍ، ولا أبيعهما إلا معًا". فقيل له: "ما أرخصَ الجملَ لولا الهرّة! " فذهبت مثلا! والظاهرُ أن بعض ساستنا لا يفتأون يفعلون فِعْل هذا الأعرابيّ، كأنما كُتبَ عليهم أن يتحدَّوْا دائمًا إرادة هذا الشعب المسكين المصفد في الأغلال الوثيقة، وكأنما كُتب عليهم أن يختلقوا العِنادَ اختلاقًا حتى يضيعوا عليه كل فرصة سانحة لنيل حقوقه المهضومة منذ قديم الأيام، وكأنما كُتبَ عليهم أن يتعيَّشوا بنكَبَات هذا البلد وآلامه. وإلَّا فليحدثنا هؤلاء الساسة فيم يختلفون اليوم، وعلامَ يتدابرون تدابُر الذئاب التي قال فيها القائل: وكنتَ كذئب السَّوْء، لما رأى دمًا ... بصاحبه يومًا، أحالَ على الدَّمِ! (¬1) لقد ظلَّت المسألة المصرية السودانية منذ أكثر من نصف قرن وهي تتخبط في أساليب السياسة البريطانية وتكاذيبها وخُدَعها وتغريرها بعقول الرجال، وتكاثرت النكَبات على مصر والسودان، واتخذت بريطانيا صنائع لها لبسوا ثوب الصديق وهم ألدُّ عدوٍّ وأبشعُه وأخلاه من الشرف والمروءة، ولم تزل مصر والسودان تجاهد بطبيعتها الحرة الصريحة المكنونة في صدور أهل هذا الوادي الحر النبيل، فغلبت الشرّ وقهرَته، واستعلنتْ على أبْين ما تكون وأكمله، فانتهينا من ذلك الوباء الفتاك الذي كان ينخر في جسم هذا الوطن، والذي كان يتهادى عليه من سماهم الناس "زعماء" -انتهينا من وباء "المفاوضة" ومن حصر المسألة المصرية ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 712)، فبراير 1947، ص: 218 - 220 (¬1) البيت للفرزدق، وقد مر في مقال "أخوك أم الذئب"، ص: 206

السودانية في حيازة بريطانيا وشرف تاجها وَوُعودها المبذولة بألفاظٍ من سراب. وهذه النتيجة وحدها هي حَسْبُ مصر والسودان من جهادِهما، فإنه لم يكن من المعقول أن يقف مغصوب ضعيف ليفاوض غاصبًا قويًّا مفاوضة الندّ للندّ كما كان "الزعماء" يزعمون! ووالله ما ندري كيف كان يجوز ذلك في عقولهم "الزعيمة"؟ وكيف كانوا يخدعون الناس عن عقولهم "المزعومة"! ! ولكنه كانَ، وعلم أسرار ذلك عند الله خالق الزعماء! ثم خرجنا من بلاء المفاوضة إلى عرْض قضيتنا -قضية مصر والسودان- على مجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة لتحكم بيننا ويين بريطانيا المغتصبة الجريئة على حقوق خلق الله، وعلى الإيقاع بين الأمم والشعوب، وعلى خلق المشكلات التي لا وجود لها، كما فعلت في فلسطين، ثم تظاهرها بعد ذلك بأن حلّ هذه المشكلات هو همُّها، وهو تعبٌ صبَّه الله عليها وحمَّلها إياه، وهي كانت تتمنى لو زعمت أن الله لم يصبَّ عليها هذا التعب ولم يحمّلها عبء حله وتصريفه حتَّى تبلغ إرضاء المختلفين في هذه المشكلات! ! وهي تريد أن تخدع الأمم في مجلس الأمن أو في هيئة الأمم المتحدة بهذا الكذب الأبلق (¬1)، وعندها من أفانين الدعاية وأساليب الصحافة، ومن رجال القلم واللسان ما يعينها على إجازة هذا الكذب الصِّرف إلى عقول الرجال في مجلس الأمن أو سواه. وهي تعلم أن هؤلاء الرجال قليلا ما يعرفون من سيئاتها ومظالمها وبغيها وجرائمها وآثامها في هذا الشرق الَّذي ابتُلى بها وبخداعها. وظني بساستنا، هداهم الله، أنهم يعرفون هذا حق المعرفة، فإن لم يكونوا يعرفونه فقد نُبهوا مرارًا ويومًا بعد يوم، فهم الآن على أتم علم بما يُخاف وما يُتجَنَّبَ في ساعة العُسرة التي نحن فيها منذ فتح الله مغاليق القلوب المُصْمتة فأدركت أن المفاوضة عبث لا يُجدي ولا يغني، وإنما هو الجهادُ العامُّ في سبيل نيل الحق المغصوب. فما معنى هذا التدابُر إذن؟ ¬

_ (¬1) الأَبْلَق: يعني الواضح، وأصل الَبَلق ارتفاع التحجيل (أي البياض) إلى فخذي الفرس.

معناه أن هؤلاء الساسة قوم تصرفهم أهواؤهم، لا حقوق هذا الوطن الَّذي أعطاهم حق الحياة فيما أعطى، ومعناه أيضًا أنهم قوم جَمدوا على سياسة لا يحسنون غيرها ولا يفهمون الأشياء إلا على أسلوبها. وهو أخسُّ الأساليب، ومعناه أيضًا أنهم يجهلون معنى خروجنا من أسر المفاوضات وارتفاعنا بقضية وادي النيل إلى مجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة. ولو همْ نفوْا من صدورهم هذه الشحناء القديمة البغيضة لأدركوا موقف مصر والسودان حق الإدراك. فالأمم لا ترتفع إلى مجلس الأمن أو هيئة الأمم إلا في القضايا التي تهدد السِّلم العالمى، أي التي يخشى أن تجر إلى حرب مبيدةٍ بين الأمم، فإذا ارتفعت أمتان إلى المجلس أو الهيئة لكي يحكم بينهما؛ فمعنى ذلك أنهما قد بلغا مبلغًا يمكنُ أن يسمى "حالة حرب" كما يقولون اليوم، وإذن فاحتكامنا إلى مجلس الأمن معناه أن ههنا "حالة حرب" يُرادُ من مجلس الأمن أن يتداركها. فإذا كان ذلك كذلك فهل في عقل عاقل أن تكون أمة في ساعة أشبه بساعة حرب، فإذا رجال من قادتها يقومون ليتنابزوا بالألقاب ويتكايلوا بالتهم، ويتدافعوا بالبغضاء، ويبسطوا ألسنتهم في حديث الماضي الَّذي عفَّى عليه الزمن حين عفَّى على أسبابه وهي المفاوضات التي كان قوم يستأكلون بها كراسي الوزارات ومقاعد البرلمان؟ ألا فليعلم هؤلاء جميعًا أننا لا نريد أن ننصر قومًا على قوم فما بنا إلى أحد منهم حاجة، وأننا إنما نريد لهذا الوطن أن يخرج من المحن منصورًا مؤزّرًا ظافرًا بالحق المسلوب. إن مصر والسودان قد أعلنت على بريطانيا -باحتكامها إلى مجلس الأمن- ما يمكن أن يسمى حربًا بغير سلاح، فكل مصر سوداني هو اليوم جندي منوط به حراسة الثغرات التي يتدسس منها العدوّ الأكبر وهو بريطانيا، لا فرق بين كبير وصغير، ولا زعيم ولا تابع، فأهل هذا الوادي جميعًا يدٌ واحدةٌ وسواسيةٌ كأسنان المشطِ في التكليف الَّذي كلفوا به، وعلى كل منهم أن يبذل ما وسعه من النصيحة والمشورة اللذين سيتولون الدفاع عن حق الوطن في ذلك المكان الَّذي سنحتكم إليه. وخيرٌ لأولئك الذين يقولون: إن فلانا هذا لا يصلح لعرض القضية المصرية

السودانية على مجلس الأمن أو هيئة الأمم أن ينزعوا هذا الإفك من ألسنتهم فإنه مضَلة ومفسَدة وخذلان للوطن لا لفلان أو فلان، وخير لهم أن يقضوا الليالي الطوال في درس الحجج التي سنتقدم بها لإقناع رجال يجهلون كل الجهل تاريخ النكبة البريطانية التي صبَّها الله على رأس مصر والسودان، وخير لهم أن يستخرجوا آثام بريطانيا وضروب بغْيها في مصر والسودان، وفي الهند، وفي فلسطين، وفي سائر بلاد الشرق ليعرضوها جملة واحدة تصريحًا أو تلميحًا ليكشفوا لرجال مجالس الأمن عن فظائع بريطانيا وأفعالها البشعة منذ سلطها الله على هذه البلاد، فإن أكثر التاريخ الَّذي يقرؤه هؤلاء مكتوب بأقلام بريطانية وأهواء بريطانية. وإلا فحدثونا مَن مِن رجال مجلس الأمن، فضلا عن شعوب هؤلاء الرجال، عرف ألوان الخساسات التي ارتكبت في دنشواي، وفي فلسطين أيام الثورة العربية؟ إننا لن نذهب إلى مجلس الأمن وحده بالقضية المصرية السودانية بل سنذهب إلى كل فرد في روسيا وأمريكا وسائر الشعوب المشتركة في مجلس الأمن. وإننا لن نذهب بالقضية المصرية السودانية وحدها، بل سنذهب بجميع قضايا الشرق الَّذي ذاق نكال بريطانيا أكثر من قرن ونصف قرن. إننا نريد أن نُدخل قضيتنا وسائر قضايا الشرق في كل بيت وفي كل نادٍ وفي كل مصنع، وفي كل مكان فيه إنسان يعقل -كما تفعل بريطانيا الغادرة بباطلها الَّذي تنفثه في كل حنيَّة من حنايا هذا العالم، متظاهرة بأنها المدافعة عن الحق وعن الحرية وعن العدالة وعن رفع مستوى الشعوب! ! ويا له من كذب لا يفله إلا الحق الأبلج (¬1)! فأين نحن من هذا كله؟ أين؟ أفي البغضاء وتعداد المساوئ الماضية، وبسط الألسنة في المطويّ من الأحداث القديمة؟ إننا لن ننال شيئًا إذا فعلنا إلا الخزى والعار وعرض فضائحنا على أعين الناس! إننا أيها السادة محاربون، فافعلوا فعل المحاربين في ساحة القتال، لا فعل المتشاتمين على قارعة الطريق. واذكروا هذا الوطن، فهو أحق بالذكرى من ضغائنكم وإحنكم (¬2) وثاراتكم. اجعلوا هذه كلها دَبْرَ آذانكم وتحت أقدامكم، ¬

_ (¬1) الأبلج: الأبيض الواضح. (¬2) الإِحَن: جمع إِحْنَة، وهي البغضاء.

فإن الوطن يأمركم بهذا فأطيعوه ولا تطيعوا داعي الشهوات وكراسي الحكم ومقاعد البرلمان فكلها عرض زائل، وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وهي هي التي تتقدم إلى مجلس الأمن بقضيتها، لا فلان هذا ولا فلان ذاك؛ فالكلمة الآن لمصر التي أنتم أبناؤها، لا لأحدٍ منكم على حياله. فأجمعوا أمركم، ولا تحملنكم الكبرياء على تزييف القول إرضاءً لشهوات أنفسكم، فإنكم إن فعلتم كدْتم لبلادكم وأوطانكم وشرقكم كيدًا لا يكيده عدوّ حقود ولا شامت باغٍ لكم أهوال المصائب. وماذا تريد بريطانيا إلا اختلاف الكلمة وتفرّق الوحدة؟ ألم تدركوا بعد ماذا كان يريد كهفُ (¬1) بريطانيا بيفن حين زعم أنَّه لم يعرف أنَّه أخطأ إلا يوم عزمت مصر والسودان على رفع قضيتها إلى مجلس الأمن، فإنه زعم أنَّه أخطأ إذ أدار المفاوضات بينه وبين حكومة أقلية! ! ويا سبحان الله! إنه لم يُرد من تلك الأكثرية التي يعرّض بها إلا أن تكون خصومة ولدَدًا على حكومة الأقلية، وأن يستثير دفائن الأحقاد ويفت من عضد الأمة التي سوف ترغمه وترغم بريطانيا على احترام إرادتها وحقها. فإن لم يكن في الاتحاد والتناصر إلا قتل هذه الكلمة وما ترمي إليه، حتَّى يحمل الرجل حسرتها إلى الأبد- لكان ذلك واجبًا مفروضًا وخيرًا مرغوبًا فيه. وكيف جاز في العقول -أعني عقول بعض الساسة- أن الأمر أمر حكومة أقلية أو أكثرية! ! لا أدري، ولكنه كان. ومع كل ذلك، فالأمر كله تدليسٌ سخيف، ففي البلاد المنكوبة المهضومة الحقوق، لا رأي لأكثرية ولا أقلية بل الرأي للشعوب وللبلاد، أي للشعب من حيث هو تاريخ ماضٍ وتاريخ حاضر وتاريخ مستقبل، فحكومة الأكثرية لو هي خانت الأمانة وفرطت في حقوق البلاد ومهرت ووقعت وأسلمت المقاليد وعقدت المعاهدات وأقرها البرلمان وأجاز كل ما جاء فيها من تفريط -فذلك كله باطل، لأن الحق ههنا حق طبيعي متوارث في البشرية كلها، لا يغيّر رأي الأكثرية شيئًا من حقيقته وجوهره، ولا تمتلك الدولة القائمة في أرض البلاد المحتلة أو المهتضمة أن تنزل عن هذا الحق لأحد، فنزولها عنه عملٌ باطل من أصله. ¬

_ (¬1) يقال: فلان كهفُ بني فلان: أي ملاذهم ووَزَرُهم.

وإذن فالذي يقيّد الأكثرية، ويؤيدها هو حق الشعب وهي بحرصها على هذا الحق تسمى أكثرية لا بغيره. فلو جاءت الأقلية وفعلت ما يدل على أنها حريصة على هذا الحق الطبيعي المتوارث الَّذي لا يمكن حكومة أن تتنازل عنه لأحد، فهذه الأقلية بمنزلة الأكثرية، لأنها هي المطالبة بالحق الطبيعي، وهذا شيء بيّنٌ واضح، اللجاجة فيه شهوة وعبث. أو ليس عارًا أن يكتب المرء مثل هذا لقومٍ كان لهم جهاد في سبيل بلادهم؟ إنَّه لعار. ألم يكن لهؤلاء أسوة حسنة في سورية ولبنان حين وقفت صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص، على ما كان يومئذ من اختلاف أشد وأعنف من اختلاف رجالنا؟ بلى قد كان. أيها الرجال! إن العالم كله ينظر إلينا، وإن قلوب الشرق كله تخفق إشفاقًا علينا وحبًّا لنا، وإن الأمم الجريحة التي مزق الوحش البريطاني أوصالها قد كفَّت عن الأنين لتسمع صوتكم وهو يُدوِّي في جنبات الأرض لتنسى عندئذ آلامها وأوجاعها، وإن فلسطين -وآه لفلسطين- إن الجزع ليأكل قلوب أبنائها مخافة أن تزل أقدامنا، وهم قد ناطوا بنا رجاء قلوبهم. فرفقًا أيها الرجال ولا تخذلوا شعبًا مجاهدًا كتب عليه أن يقاتل أنذال الأمم. أيها الرجال! لا يغرنكم هذا الوحش البريطاني، فإنه يضرب بقوامه وهو كالصريع فذَفِّفوا (¬1) عليه باتحادكم، وأجهزوا عليه بتناصركم، وانسوْا ما مضى وخذوا عُدَّتكم للذي سيأتي، فإنه النصرُ لمصر والسودان بإذن الله مذِلِّ الجبابرة، ومُرْغم الطغاة الغادرة، وناصر الأمم المتآزرة. ¬

_ (¬1) ذَفّف على الصريع والجريح: أَجْهز عليه.

إنه جهاد لا سياسة!

إنه جهاد لا سياسة! عجبتُ أشدَّ العجب حين قرأتُ في الأسابيع الماضية خبر وساطة سورية ولبنان وغيرهما من بلاد العرب والتي أرادوا بها اجتلابَ التفاهم بين بريطانيا ومصر والسودان. ومعنى ذلك أن البلادَ التي دفعتها الغيرة والصداقة والقُربَى إلى هذه الوساطة، تَعْنِي أو تظنُّ أو تؤمِّل أن تكون المفاوضةُ بيننا وبين بريطانيا خيرًا من الارتفاع إلى مجلس الأمن أو الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، ليقضى بيننا فيما اختلفنا فيه! وللعجب من مِثْل هذا الفِعْل وجوهٌ كثرةٌ. فمن ذلك أننا ظللنَا نُفاوض هذه الدولة المتغطرسة سنين طوالا مغرَّرِين بالمفاوضة، فما أجدتْ علينا إلا ألوانا من البلاء، وعلمتنا ضروبًا من كَذِب الألسنة واحتيالها وخداعها، وعرفنا أن بريطانيا تراوغُ ما استطاعت المراوغةَ، وتتجنَّى ما أطاقت التجني، ولا نكسبُ نحنُ من ذلك شيئًا إلا الفرقَة والتدابُر والتنابُذ والتشاتُم، وهي كلُّها من مبيدات الأمم. نعم، وكانت العبرة التي لا عبرة بعدها أن القوم الذين ظلُّوا أكثر من خمسة وعشرين عامًا يُصرُّون على أن المفاوضة هي خير طريق لاستنقاذ حقوقنا من الأيدي الغاصبة، هم هُم القوم الذين عرفوا أن لا جدوى من المفاوضة، فقطعوها وآثروا أن يرفعوا الأمر إلى هيئة دولية تحكُم بيننا. هذا فضلا عن أن صريح الرأي، وصريح الدلالة، وصريح التجربة، تُوحي جميعًا بأن بريطانيا لم تستفد قطُّ من شيء في هذا الشرق المبتلى بها ما استفادت من مبدأ المفاوضة. فهو الَّذي أتاح لها في مصر مثلًا أن تُطفئَ جمرة الشعب المصري التي ظلَّت تتوهج فيما بعد سنة 1919، حتَّى صدق فيها قول المتنبي: وكم ذا بمصر من المضحكاتِ ... ولكنه ضحكٌ كالبُكَى فمن هذه المضحكات المبكية، ما كان من تغرير المفاوضين الذين جاءوا ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 714)، مارس 1947، ص: 271 - 273

بمعاهدة 1936، والذين استطاعوا أن يصبُّوا في آذان الشعب من الكلام الفاتن حتَّى احتفل بها احتفاله المذكور على أنها "معاهدة الشرف والاستقلال"! ! ومن ذلك أن ترى شعبًا قد أُوذى وامتُهِن وحقر على يدِ فئة من طُغاة العسكريين فإذا هو يحمل ممثل هذا الشعب بعدَ قليل على الأعناق! ونحنُ لا نذكر هذا رغبةً في ذكره، ولكن الذين توسَّطوا ينبغي لهم أن يعرفوا هذه الفظائع التي أورثتنا إياها مبادئ المفاوضة وما يتبعُها. ومن العجب أيضًا أن سورية ولبنان تعلم حقّ العلم، وتعلم بالتجربة التي جربتها مع الفرنسيين، أن المفاوضة لا تجدى، وأنها لم تنلْ حقَّها إلا حين كانت يدًا واحدة تطالب بحقها المغصوب، فلم تقبل معاهدة ولا شروطًا ولا وعودًا تعد بها فرنسا، وأصرَّت على ذلك إصرارَ الكِرامِ القادرين، فإذا فرنسا تجلو بجيوشها جميعًا عن كل بقعةٍ من بقاعها، وكل مكتب من مكاتبها. فالذين يعرفون هذا في أنفسِهم، إذا هم أتوا خلافه أو أرادوا غيرهم على إتيان خلافه، إنما يزيدون العجبَ عجبًا ولا ريبَ. أما العجبُ فهو أن هذه الدول التي بذلت وساطتها نسيتْ موقف بريطانيا في مسألة السودان كل النسيان، وغفلت عن السرِّ الَّذي دفع بها إلى إيثار التشدّد على المساهلة، والصراحة على المواربة. وذلك أنها لا تريدُ أن تفصِل السودان عن مصر مُكايدة لها أو انتقامًا منها، بل لأنها لا تريدُ الجلاءَ عن مصر كلَّ الجلاء، وهي تعلم أن السودان هو مصر، فبقاؤها فيه هو بقاؤها في مصر سواءً بسواء. ولكن بريطانيا لا تريدُ أن تفضح نفسَها بالإصرار على البقاءِ في أرض مصر، فاخترعت قصة الدفاع عن مصير السودان واستقلاله أو تهيئته للحكم الذاتي وأنه لابُدَّ لذلك من أن تبقى فيه حتَّى يتهيأ ويستعدَّ، وأن تمنع مصر الباغية من العدوان على السودان! ! وهذا كله تدْليسٌ بيّنٌ، وكنا نرجو أن يعرف المتوسِّطون حقيقة هذه المسألة على وجهها فيكفُّوا عن الوساطة التي تعودُ بنا إلى المفاوضة -أي إلى تعذيب الشعب المصريّ السودانيّ سنين أُخَر، وإلى بقاءِ العالم كله جاهلا بعدالة قضية مصر والسودان على وجهها الصحيح.

وأما أعجبُ العجبِ: فهو أنهم نسوا ما تُلاقي فلسطين على يد البريطانيين اليوم، من إرخائها الحبْل لنذالة الإرهاب اليهودي ومعاونتها في هجرة اليهود بأساليبها الخدَّاعة، واحتمالها في ذلك الأمر ما لم تكن تحتملُ قليلا أو كثيرًا من مثله حين ثارتِ العربُ على ظلمها وبغيها وعدوانها هي وأشياعها من يهود. وهل ننسى، نحن العرب، لم وعدت بريطانيا شُذَّاذَ اليهود الذين ضربَ الله عليهم الذلة والمسكنة، بأن ينشئوا في فلسطين وطنًا قومًّا، ثم معاونتهم لهم في ذلك، ثم إغضاءَها عن جشع اليهود بعد ذلك وطلبهم إنشاءَ "دولة يهودية" تقوم في قلب الأوطان العربية التي تحيط بها من كل ناحية؟ إن الوساطة لا تكون حقًّا إلا حين تتوسَّط بين شريفين كريمين يُحْسِنان تقدير الوساطة. فما الَّذي رأته سورية ولبنان وسواهما من الشرف والكَرم في تاريخ بريطانيا في بلادِ العرب حتَّى تركب هذا المركب الوعر؟ الجواب: لا شيء، بل النقيضُ هو الصحيح. * * * وأنا لا أكتب هذا عتابًا ولا ملامةً، فأنا لا أشك في أنهم جميعًا إنما أرادوا الخير، وظنوا الخير، وعملوا للخير، ولكن غير ذلك كان أولى وأدلَّ على فهم الحقائق. لقد وقعت الحربُ العالمية الأولى (1914 - 1918) فإذا الشعوب العربية فِرَق مقطَّعة بين الدولتين الباغيتين فرنسا وبريطانيا، وكان رأي العرب مفرَّقًا ضائعًا في فوضى الاضطراب الَّذي أعقبَ الحرب، ومع ذلك فقد قامت الثورات في كل مكان مطالبة بالحقوق الواضحة التي لا جدال في وضوحها، فأنكرتها علينا بريطانيا وفرنسا، ولكنَّا مع ذلك ثُرْنا وبقينا نثور في كلّ مكانٍ. ثم جاءتنا الحرب العالمية الثانية، فإذا رَأْى العرب مُجْتمعٌ غير مفرَّق كما كانَ بعد الحرب الماضية، وبدأنا نثورُ فإذا الثورات قد خمدت بعد قليلٍ، وإذا نحنُ نوشِكُ أن نتفرق بعد اجتماع. ولعل هذا رأي غريبٌ مع ما نرى من قيام الجامعة العربية، ومن تصريحها في مناسبات كثيرة بأنها تؤيد مطالب مصر

أو مطالب غيرها من الأمم العربية: بالإجماع. بيد أن السبب الَّذي من أجله أخشى تفرُّق الكلمة هو ما رأيت من أمثال هذه الوساطات التي تردّ كلُّها إلى سبب واحدٍ، هو أن الرأي العربيّ لم يدرُسْ القضايا دراسة مستوعبةً، ولم يتخذ لنفسه خُطَّة بيّنةً واضحةً في كل قضية. وأظنُّه لو فعل ذلك لنفى من قلبه خاطرَ هذه الوساطات بين أقوام العرب، وبين الدول المتغطرسة التي لا أمانة لها، ولا هدفَ لها إلا استعباد هذا الشرق بأساليب "مطابقة لمقتضى الحال". وإنه لأولى بنا جميعًا، نحن العربَ، أن نصارح بالعداء كلّ أمة من أمم الطغيان الاستعماري، وأن نحذرَ كلَّ الحذر مزالق السياسة وأساليبها الخدَّاعة، فإننا أمم مجاهدةً، وينبغي أن تظل مجاهدة حتَّى تنال حقها في كل مكان، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. والمجاهد مُقاتلٌ، لا صاحب سياسة ومُوَاربة ومداراةٍ، فإن ضرَرَ هذه الثلاثة على الشعوب المجاهدة أكَبُر من أن نَغْفُل عنه أو نتهاون فيه. وأنا أتعجَّبُ أحيانًا: لماذا لا تتعاونُ الدول العربية جميعًا والدول الشرقية الخاضعة للاستعمار، فتهبّ هبَّة رجل واحد، وتقاطع هذه الدول الباغية، وتقول لها: إني لن أتعاون حتَّى أنالَ كلّ حقوقي كاملة غير منقوصة! وهذا شيءٌ ليسَ بغريبٍ بعد قيام هيئة الأمم المتحدة التي يزعمون أنها أنشئت للمحافظة على سلام العالم، والتي تنقض مبادئها كل حجة تقالُ في مسألة مخافة العُدْوان على هذه الأمم بعد خروج الجيوش المحتلة من أراضيها، ولو فعلنا ذلك، وأبينا أن نُلْقى السَّلَم حتَّى تحلّ هذه القضايا الكثيرة التي عمَّدتها بريطانيا وأشياعها من الدول المستعمرة، لكان قريبا أن ننال كل ما نريد، ولكان ذلك معوانا للشعوب العربية والشرقية على الشُّعور بقوَّتها وعزتها واجتماع كلمتها، ولكان ذلك وِقاءً لنا من أن نكون كما نحن الآن: خداعٌ يُراد يمصر، وخداع يُرادُ بالسودان، خداع يُراد بالمغرب، وخداعٌ يرادُ بالهند وما جاوَرَها. إنه ليس عجيبًا. بل الدلائل على صدقه وعلى صلاحه ما رأينا من نتائجه بعد قيام الجامعة العربية التي لا تزال في أول نشأتها. فالجامعة العربية على قلة وسائلها

وقلة تجربتها، قد جعلت العالم الغربي كله يتنبَّه إلى أن في الدنيا شيئًا من القوة لا يَنفع في الخلاص منه سلاحٌ فتَّاك ولا غطرسةٌ حربية. فإذا اجتمعت الكلمةُ في الشرق كله، وهبَّت الأمم الشرقية كلها مرة واحدة لاستيقظ العالم كله على صوت هذه الضجة المدوِّية، ولطالبت الأمم الغربية نفسها بدراسة هذه المسائل المعقدة وفهمها على وجهها الصحيح، لا على الوجه الَّذي ظلَّت بريطانيا وسواها من حكومات الاستعمار تعمل جهدها سنين مطاولة على تدليسه وبثِّه في صحافتها وكتبها وإذاعاتها. فلا سبيل إلى ردّ هذه الأكاذيب جملة واحدة إلا بأن نشعر العالم جملة واحدة بما نريد، فيتنبَّه ويستعدُّ للمعرفة، فنتخذ عندئذ كل وسيلة إلى إفهامه عدالة قضايانا، ونكشف له عن الأكاذيب التي أذيعتْ عليه من قبْلُ، ونفضح أساليب سياسة الاستعمار في تشويه الشعوب وقضايا الشعوب. هذا رأيٌ، وطريقة العمل له ميسرة وواضحة. وهو شيءٌ كبيرٌ، ولكن صاحب الحقّ الَّذي يستهوِل الإقدام على بيان حقه بالأساليب التي ينبغي اتخاذها وإن عظمت، لن ينال شيئًا إلا العجز، وتراكم العجز بعد العجز، ثم ضياع حقه إلى الأبد. ولقد بدأت مصر والسودان تخرج بقضيتها عن محيط المفاوضة إلى الاحتكام إلى الدول الممثلة في هيئة الأمم المتحدة، فينبغي على كل عربي وشرقيّ أن يحرّضَها على ركوب هذا الطريق وإن شق مسلكه، وينبغي على كل دولة عربية وشرقية أن تقف صحافتها وإذاعتها صفًّا واحدًا للجهاد في سبيل مصر والسودان -أي في سبيل فلسطين وليبية ومراكش والجزائر وتونس والهند وما وَالَاها، أي في سبيل الدفاع عن حقوق جميع الشعوب التي ذاقت مرارة الاستعمار ونكاله أجيالا أو أعوامًا. والعاقبة للمجاهدين الصابرين على لَأْوَاء (¬1) الجهاد وبأسائه. ¬

_ (¬1) اللأواء: الشِّدَّة.

الخيانة العظمى. . .!

الخيانة العظمى. . .! كثرت لجاجة الصحف البريطانية ومراسليها في مسألة مصر والسودان، ولا تزالُ تلحُّ في ترديد الأقوال التي تشكك في عرض قضية الجلاء عن وادي النيل -مصره وسودانه- على مجلس الأمنِ أو أية هيئة دولية يكون من حقّها أن تنظر مثل هذه القضية، ولم تزل هذه الصحف ومراسلوها يدسُّون كلمة "العودة إلى المفاوضة" دسًّا عجيبًا حيث يحتاج إليها الكلام وحيث لا يحتاج، وهذه عادة قديمة وأسلوب عتيق كسائر أساليب بريطانيا في الخُدَع التافهة التي تسمِّيها سياسة. ولسنا ندري على أيّ أساسٍ يبنى هؤلاء المراسلون، أو الموحون إليهم، كلامَهم وثرثرتهم هذه. ولكن الشيء الَّذي لا نشكّ نحنُ فيه ألبتّة، والذي ينبغي أن تعرفه بريطانيا ومن ترسلهم إلى مصر والسودان ليحملوا إليها أنباء هذه البلاد -هو أن الشعب المصريّ السوداني قد قال كلمته منذ اليوم، وقد قَضى على كل سياسيِّ يخرجُ على إجماع الشعب بالخيانة العظمى كما تفهمها الشعوب- لا كما تفهمها الحكومات. وقد انعقد إجماع الشعب على اختلاف الأحزاب التي ينتمى إليها: 1 - بأن لا مفاوضة بينا وبين بريطانيا بَتةً وقولا واحدًا. 2 - وأن الجلاء كلمةٌ يرادُ بها أن تجلوَ بريطانيا عن وادي النيل لا عن مصر دون السودان. 3 - وأن طلَب الجلاء ينبغي أن يعرضَ على هيئة دولية لها شرفٌ تخافُ أن يُثْلَم، ولها مكانة تتحرَّج عن سقوطها في أعين البَشَر. 4 - وأن التجربة قد دلَّت على أن بريطانيا خِلْوٌ من هذين الشرطين، وهما شرطان لابُدَّ منهما لمن نرتفع إليه بقضيتنا أو من نفاوضه فيها. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 716)، مارس 1947، ص: 327 - 330

5 - وأن كل دعوةٍ يُراد بها أن نعود إلى المفاوضة في حقٍّ من الحقوق المكفولة لسائر البشر، ليست إلا خيانة توجب على مُرتكبها ما توجبه سائر الخياناتِ من قصاصٍ. 6 - وأن مصر والسودان أمةً واحدة، سوف تتولى بنفسها عقاب كل خائن. هذا مختصر ما ينبغي لبريطانيا وساستها أن يعلموه علم اليقين. أما مراسلوها وجواسيسها الذين كُلِّفوا بأن يحملوا إليها الأنباء التي تهتدى بها في سياستها التي تخصُّ مصر والسودان فقد كذبوها أفحش الكذب، لا لأنهم يريدون الكذبَ على أُمَّتهم البريطانية، كلا، بل لأنهم جهلوا كلَّ الجهل طبيعة الشعب المصري السوداني، وخدعتهم الظواهرُ عن حقيقة النار المضطرمة في أحشاء مصر والسودان، منذ استيقن شعب مصر والسودان أن بريطانيا أمة من أخلاقها الغَدْر والوقيعة وإخلاف الوعدِ والتلوُّن في ألفاظٍ من بهرج الكلام وزائفه ونحن لن ننصبَ أنفسنا لإفهام هؤلاء القوم ما طبيعة شعب مصر والسودان، ولكنَّا سنحدثهم عن مسألة المفاوضة نفسها كيف كان من أمرها، ولهم بعد ذلك أن يحكموا بما يشاؤون، فإن إخراجَ الغُرور من رأسِ المغرور أعسر من ردّ النور إلى عيْنَي الأكمه (¬1)؛ ولاسيَّمْا إذا كان غرورًا بريطانيًّا متغطرسًا. ففي أوائل القرن الماضي قام في مصر فتى ينادي في جنبات هذا الوادي: "بلادي! بلادي" فهبَّتْ مصر والسُّودان تتلفَّت مستجيبة لهذا الداعي النبيل الصوت، الحبيب النداء، القويّ الإيمان. لقد كانت مصر والسودان هي التي تنادي مصر والسودان، فهي دَمُه، وهي أعصابه، وهي نفْسه، وهي جنانه، وهي لسانه، وهي حقيقته التي صار بها هذا الفتى يُدعى بين الناس "مصطفى كامل". ثم أوحت مصر والسودان إلى فتاها أن يقذفَ في وجه بريطانيا ذاتِ البأس بكلمتها الخالدة: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، لأَن حقيقة مصر والسودان المستقرِّة في بنيان هذا الفتى كانت تعلم من سرّ ضميرها أن هذا هو الحق، وأما كلّ شيءٍ ¬

_ (¬1) الأكْمَه: الَّذي يُولَد أَعْمَى.

سواه فباطلٌ وقبضُ الريح، كما قال سليمان. نظرت مصر والسودان إلى هذا الفتى الضئيل المعْرُوق وهي تبكى من فَرْطِ لهفتها وتخوُّفها ومن فرط ما كانت تشعرُ به يومئذ من العجز الَّذي استهلكها وأثقلها عن أن تكون مثله توقُّدًا ونشاطًا وقوة وحياةً، ولكنها آمنت به ورضيتْ عنه وجعلت دمعها شهادةَ الإيمان بحقّه وحقّها الَّذي أجراه الله على لسانه. ونجمت يومئذٍ فئة من خلق الله الذين شاءَ برحمته وحكمته أن يجعلَ مصر والسودان لهم منبتًا ومَباءةٌ كما جعلها منْبتًا ومباءةً لسائر الهوامِّ وخَشَاش الأرض وهَمج الجوّ، وقامت بريطانيا تتعهَّد هذه الفئة وتغذُوها وترضعُها من دَرِّها بُغيةَ أن تشتدَّ فتكون سباعًا وجوارحَ وأعوانًا لها على الفتك بهذا البلد الأمين، وما هو إلا قليلٌ حتَّى خرجَ منها خلقٌ يعْوى في وجه الفتى وينبَحُ ويهرُّ هريرًا لا ينقطعُ، ولكن مصر والسودان أبتْ إلا فتاها فأطاعتْه وأنكرت تلك الفئة التي نبتت أبدانها على شيء غير نيلها وتربة هذا النيل. ثم قبض الله إليه فتى مصر والسودان، فخرجت مصر والسودان في جنازته تبكي الصوت الَّذي ردَّد الكلمة الخالدة المنبعثة من سرّ أحشائها: "بلادي! بلادي! لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، خرجت مصر والسودان حتَّى سباعُ بريطانيا وعُواتها ونُبَّاحُها يبكون أيضًا، لأن في دمهم شيئًا من مصر كان يحن بهم إلى صوت بلادها ومأتمها ونواحها. بقيت مصر تذكُر فتاها، وتسمع صدى كلماته من حيثما تلفَّتت، حتَّى جاءت الحرب العالمية الأولى وخشعتِ الأصواتُ لهدّ القنابل ودوي الرصاص، فما كاد يسكتُ ناطق الحرب حتَّى انبعثت مصر بالقوة الدافعة التي جيَّشَها في قلبها هذا الفتى الشاب، وصرخت في وجه بريطانيا الظافرة: "حقّي! حقّي! أيتها الغاصبة". لم تَهبْ بأسها ولا سطوتها ولا جبروت الظفر المسكِر الَّذي ثملت بنشوته. ثم كان شيءٌ لا ندري كيف كان! ! كان منطق الحوادث يقضي بأن تردّد هذه الجماهير الثائرة كلمة مصر والسودان الخالدة: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، ولكنها اقتصرت يومئذ على

ما يتضمن ذلك النداء الحكيم الَّذي نادى به فتى مصر فجعلت تقول: "الاستقلالُ التام"، وخرجت بريطانيا تُقتِّل بالرصاص جمهورًا ثائرًا مطالبًا بحقه مستبسلًا في سبيله، فكلما انطلقت رصاصة انطلقت معها صيحةٌ واحدة من حناجر أمة بأسرها: "الاستقلال التام"، فكأنها رأتها تغني عن كلمتها: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء". فهما عندها كلمتان مترادفتان. وألحّت بريطانيا في التقتيل والفتك والعُدوان والبغي، وألحت مصر والسودان في الجرأةِ على باطل بريطانيا مطالبة بحقها وهو "الاستقلال التام"، ولم يكن يدورُ بخلدها شيء إلا هذا النداءُ وحده ليلا ونهارًا وبكرة وعشية ويومًا بعد يوم، ولم يكن يجرى في وَهْم الشعب الثائر المطالب بالحق أنَّ أحدًا سوف يقول: تعالى أفاوضكِ يا بريطانيا! فيَحذر عندئذ حذره ويعود إلى ندائه الأول الَّذي هو الكلمة المستكنة المضمرة في دَمِ هذا الشعب الذكي على قلة علمه، القوي على ضعفِ حيلته. ثم كانَ شيء لا ندري كيف كان! ! كان زعيم هذا الشعب الثائر "سعد زغلول"، وكان رجلا شيخًا، ولكن ناهيك به من شيخ، وكان خطيبًا حسبُك من خطيب، كان يسمعُ الهمهمة التي تدور في دم الشَّعب ولا تجد لها بيانًا، فيصوغ لها بيانًا من عنده ويلقى به إلى الشعب فإذا هو يسمعُ كل ما في ضميره مترجمًا في ألفاظٍ حية تتردَّد في أذنيه. وفُتِن الشعب بسعدٍ، بلسانه الَّذي ينطقُ بأسراره التي تتحيَّر في دمه ولا يعرفُ كيف يبينُ عنها، وأسلم القياد لرجل يهديه ويرشدهُ ويعبِّر عنه، ويلطم بشيخوخته الوقورة الصاحية شبابَ بريطانيا الظافرة الطائشة السَّكرى براحِ النصر. ثم كان شيء الله يعلم كيف كان! ! فإذا هذا الشعب المأخوذ بسعد، الفائر بالثورة في طلب حقه المتَهَجّم على بريطانية العاتية، المائج من منبع النيل إلى مصبه يطلبُ الحرية من قيوده وآصاره (¬1) فتتلقَّاه أسنّة الرماح البريطانية ويتخطّف أرواحه رصاصُ الوحوش ذاتُ ¬

_ (¬1) الآصار: جمع إصْر، وهو الثِّقَل، وما يقعد بالإنسان فلا يستطيع حِراكا.

المدنية العريقة منذ كان أرسطو إلى هذا اليوم! ! إذا بهذا الشعب المنادى بالاستقلال التام يسمعُ دعوةً إلى مفاوضة بريطانيا لا يدري أحدٌ كيف جاءت وكيف تدسست إليه، وإذا سعدٌ هو المفاوض، فمشت مصر في آثار زعيمها ثقةً به وتسليما لهُ، ورجتْ لحكيمها الشيخ أن يرتدَّ إليها باستقلالها التام. . . كان هذا ولا يدري أحدٌ كيف كان! ! ولكن بقيتْ في مصر والسودان بقيَّة لم تزلْ تسمع صدَى كلماتِ الفتى الأوَّل، فهبَّت تصرُخ في وجه الشعب المطالب بالاستقلال التام! ! حذَار حذارِ، وألحَّت في صراخها ولكن مات صوتها في دويِّ الأصوات المطالبة بالاستقلال التام! وفي موْج الجماهير، وفي أزيز الرصاص وهديره وقصفه. وأخيرًا وقف رجلٌ يسخر من كلمة مصر الخالدة: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء" سُخرية لاذعة ملفَّفة في ثوب الدُّعابة المحبَّبة إلى هذا الشعب منذ قديم الأزمان، والذي يُدَاعب ويحب الدعابة ولا ينساها وهو في حبل المشنقة، أو في سياقِ الموت. وكانت هذه الدعابة أفْعَل من رصاص بريطانيا وحِرَابها ونذالتها جميعًا في قتل كلمة مصر والسودان: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، حتَّى صار من يقولُ بها معدودًا عند أصحاب العصبيات الجاهلية في عداد المجانين والموسوسين والبلهِ والملاحيس. نعم كان ذلك ولكن لا ندري كيف كان! ! ولكن بقي شيءٌ واحدٌ جهلته بريطانيا وجواسيسُها، وجهله كل مِفراحٍ طيَّاش من أصحاب العصبيات الجاهلية التي غلبت على قلوبهم وأعمت أعينهم. ذلك الشيء الواحد هو أن المفاوضات ظلَّت تجرى منذ بدأت إلى أن كانت سنة 1936، والشعب يتبَعُ المفاوضة بقلبه عسى أن يرجع إليه الرجال المفاوضون بحق مصر كاملا غير منقوصٍ، وهو من ورائهم يدفعهم دفعًا رجاء أن ينفعهم ذلك فينتفع بنفعهم. ولكن. . . ولكن مرة أخرى، وفي الثالثة كان الشعب يفعل ذلك مجتمعًا، فلو سألتَ كل رجل وكل أنثى وكل طفل أيضًا: "هل ترجو من وراء هذه المفاوضات خيرًا؟ " فهو قائل لك: "يا سيدى، ياما جرَّبْنا" ثم يمضي لشأنه يائسًا تكادُ دماؤه التي تجري في عروقه تبكي من الحسرات التي تقطّع قلبه وتنهش ضمير حياته!

هكذا كانت مصر والسودان برغم المفاوضات الدائرة، وبرغم مطالبة الشعب مجتمعًا أحيانا بهذه المفاوضة. كانت الدّماءُ تجري في الأبدان المصرية السودانية وتُهَمْهم وتدمدمُ، ولكن الرجُل الَّذي يفهم معنى هذه الهمهمة الخفيَّة لم يكنْ موجودًا، وهي لا تستطيع العبارة عن نَفْسها بلسان ناطقٍ مبين. وبقينا جميعًا ننظُر، لأن عبارة أمثالنا لن تؤدّى إلى شيء، إذ لم يكن لأحدٍ يومئذٍ من قوة الاستجابة لنداء الدم المصري السوداني، ولا من استعداد الأبدان والعقول التي تجري فيها هذه الدماء، ما يجعَل لكلمة مصر الخالدة "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء" صدًى يتردّدُ فيستجيب له الوادي كُلّه كما استجاب للفتى الأوّل مصطفى كامل، وبقيت الأبدانُ العاقِلَةُ (والتي هي الشعب بأفراده) في ناحية، والدّم الَّذي يجري في هذه الأبدان نفسها في ناحيةٍ أخرى -وجعلَ الله بأسَنا بيننَا، فكانت إرادة الله ولا رادّ لما أراد. ثم كان شيءٌ ونحن ندري كيف كان. فقد سكنتْ زمجرة المدافِع، وعجيج القنابل الذرية، وقامَ رجالٌ يريدون مفاوضة بريطانيا، ولكنهم لم يلبثوا إلَّا قليلًا حتَّى سمعوا صوت الدَّمِ المصري السوداني ينطقُ من كُلّ ناحيةٍ لا مفاوضة إلا بعد الجلاء" فتمَّت المعجزة التي كان كل امرئ يترقَّبها، وكان لمصر والسودان النَّصْر بعد الهزيمة المنكرة الأولى، وظهرت كلمةُ الحقِّ حتَّى صار أكفَرُ الناس بها هو أشدَّهم إيمانًا، وأجودَهم في سبيلها بروحه وحياته، وعادت مِصْر والسودان إلى حقيقتها المستكنَّة في سِرِّ القلوب والدماءِ والأحشاءِ! "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء": كلمة حكيمة صريحةٌ قوية، ظاهرة المعنى، بيّنة الطريق، كريمة المنْبت لأنها بنت مصر والسودان -لا يسخرُ بها بعد اليومِ أحدٌ إلا كان دَمُه هو أوّل من يسخرُ منه ويزدريه ويلعنُه ويبرأ من الانتساب إليه. هذا ما كان من أمر المفاوضات بيننا وبين بريطانيا، فليفهمه من شاء كما شاء. وليقُل أصحاب الغرور المتغطرس، وليقل أشياعُهم من المضللين: هذا شعر، وهذه عاطفة، ولكنَّها ليستْ بحقيقة معقولة أو تحليل متّزنٍ. ونقول:

نعم! إذا شئتم، ولكنّ الشعوبَ هي العواطف أوّلًا، وعواطف الشعوب أصدقُ حُكمًا من عقول الساسة! وأخيرًا، ليعلم من لم يكن يعلَم من المتغطرسين أو من الساسة العقلاء الذين أظلَّتهم سماءُ مِصْر، أن دم الشَّعب قد نطقَ بالكلمة المتحيّرة فيه، وأجمعَ عليها، وكتبَ على نَفْسه أن يَنْفِي الخبثَ عن مصر والسودان. ومعنى ذلك أنَّ كل من خرج على إجماعه فقد خانَ وادي النيل خيانة عُظْمى، وأنّه رهنٌ بالقِصاصِ، وأن قصاصَ الشعوب أبقى على وجه الدهر من قصاص الحكومات. والكلمة الآن لمِصْر والسودان، لا لفلان الزّعيم ولا لفلان السياسيّ -فمن شاء أن يخالف عن كلمة مصر والسودان فليتقدّم، ولينظر ما هو لاق في غد أو بعد غدٍ.

الجلاء الأعظم

الجلاءُ الأعظَم أكتب هذا وكُلّ ذرةٍ في ثَرَى مصر وفي جَوّها وفي مائها تَتَلفَّتُ حوَاليها لتنظُر إلى الضجَّة التي خفقت في جَنَبات الأرض المصرية لليوم المشهود -يوم الجلاءِ عن مُدُنِ الوجهين القبلي والبحري إلا ما استثنته بريطانيا غصْبًا وافتئاتًا. نعم هو الجلاءُ- جلاءُ الجندي المتغطرس الَّذي كان يمشي على أَديم مصر تيَّاها مستكبرًا متعاليًا ليذلَّ الشَّعب الَّذي احتقره وازدراه على قوّته وعلى سلطانه، ولم يعبأ به ؤلا بثيابه ولا بكبريائه. وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الفقير الَّذي يسير في الطريق حافيًا في أسمالٍ؟ وكيف يفعل ذلك وهو الجاهلُ الَّذي لا يقرأ ولا يكتبُ ولا يعلمُ من أمر الدُّنيا إلّا ما حضر بين يديه؟ وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الَّذي هَزَمته بريطانيا في موقعة التل الكبير سنة 1882، ثم انساحت جيوشها في أَرضه تأخذُ ما تأخذ وتدعُ ما تدعُ وهو ساكنٌ قارٌّ راضٍ بالمذلَّة التي كتبها اللَّهُ عليه؟ هكذا كانَ يمشي كل جندي بريطاني على أرضِ مصر هو يحدّث نَفْسه بهذا كله، والمصريّ ينظر إليه نظرة ليس فيها الحقد ولكن فيها الاحتقار، ويبتسم إليه ابتسامة ليس فيها الرضى ولكن فيها السخريةُ، ويصافحه مصافحة ليس فيها الترحيب ولكن فيها الإيمان بأن الَّذي أَمامه إنسانٌ مغرورٌ يظنُّ أن الدنيا باقيةٌ له، وهي الدنيا التي تداولتها من قبله القرون والأمم فزالوا وبادوا، ونالها من بعدهم من كانوا لهم تبعًا أو عبيدًا. هكذا كان ينظر الشعبُ الجاهل الفقير المهزوم بزعمهم نظرة الفيلسوف الَّذي قَنِع بما عنده فاستغنى عما عند الناسِ، شعب فقيرٌ ولكنه عزيزٌ، شعب جاهل ولكنه مؤمنٌ، شعب مهزوم ولكنه مترفعٌ عن دنايا الأخلاقِ. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 718)، إبريل 1947، ص: 383 - 385

نعم هذا الجلاءُ، ولكن هل يقنع هذا الشعب به؟ وهل يزيلُه الفرحُ بما تمَّ عن الهدَفِ الَّذي رَقى إليه؟ إن بريطانيا قد عَلِمَتْ أن لا قِبَل لها بإبقاء جنودها مفرقةً في مُدُن مصر فتكون قَذى في العيون يحدث آلامًا تنبه النفوس يومًا بعد يوم إلى عُدْوانها وبغيها، فآثرتْ أن تحمل جنودها وتجمعهم في مكانٍ بعيد عن عيون الشعب، تريدُ أن تجعل مثل هذا العبث مِنَّةً يحملها الشعبُ المصري، فيكفَّ عن مطالبتها وعن كشف عيوبها وسيئاتها وخَبَثها. فلما رأت أن هذا الشعب العجيب قد فرح بجلائها عن بعض أرضه، ولكنه لم يكف عن مطالبتها، ولا عن إماطة اللثامِ عن رذائلها، قامت صُحُفها تزعم أن الصحف المصرية قد شنّت على بريطانيا "حملة سِبَاب" في نفس المكان الَّذي أشارت فيه إلى مسألة الجلاء إشارة عابرة. وهذا دليلٌ على أن موقف الشعب قد غاظها غيظًا شديدًا وأنها كانت تؤمل أن تخدعنا بهذا الجلاءِ من أماكن في أرض مصر إلى مكان واحد حصين في أرض مصر أيضًا، فلما كان غير الَّذي أرادت زعمت أنها "حملة سباب". ومن الَّذي يسبُّ؟ أمصر المسكينة التي احتملت وقاحة جيوشها وقوّادها منذ سنة 1882، وصفاقة رجالها الذين جاءوا ليحكموا هذا الشعب بالقوة والبطش من أمثال كرومر وكتشنر واللنبى ولويد ومايلز لامبسن؟ أهي مصر المسكينة التي تسب اليوم بريطانيا وقد سمعت سفاهة الصحافة البريطانية على شعبها وهو يوصف بالرعاع، وسباب الصحف البريطانية للطلبة المصريين الذين كانوا يخرجون من مدارسهم للجهاد في سبيل وطنهم وبلادهم. إن مِصر حين تصف أعمال بريطانيا بالسفاهة والوقاحةِ والصفاقة -لا تسب بل تقرر حقائق وتسميها بأسمائها التي خلقت لها، ولم تخرج في ذلك عما وصفها الرجال المحايدون الذين وقفوا ينظرون إلى أعمال بريطانيا في مصر والسودان. فالشعب المصري لا يسب بريطانيا وإنما تسبُها أفعالها وأفعالُ رِجالها. وإذا أرادت بريطانيا أن لا تسمعَ المسبّة من الشعب المصري ومن سواه في أقطار الأرضِ، فلتقلع عن سياستها التي توجب لها هذه الصفات، والتي تدفع

أممًا كثيرة غير مصر والسودان إلى أن تصفها بأشد مما وصفتها به مصر والسودان. والعداوة التي بيننا وبين بريطانيا قائمة ما بقى في أرض مصر من منبع النيل إلى مصبه جندي بريطاني واحد، ولن نكفّ عن عداوتها وعن ذكر سيئاتها إلا إذا جلت جلاءً تامًّا عن كل مكان انتزعته من بلاد مصر والسودان بالكذب والمكر والخديعة والتدليس، ولن تكفّ ألسنة مصر عن وصف أعمالِ بريطانيا بأسمائها التي خلقت لها إلا إذا كفّت هي عن عُدوانها وأعطت كل ذي حق حقه. إنها عداوة باقيةٌ بيننا وبينها حتَّى تدعَ لنا أرضنا، وتدع للعراق أرضه، وتدعَ لفلسطين العربية أرضها، وتقاوم معنا كل باغٍ أعانته هي فيما مضى على بغيه وعدوانه، كالذي كان من أمرها في مسألة تونس ومراكش والجزائر وليبية وبلاد إفريقية التي أطلقت فيها يَدَ فرنسا وإيطاليا ليطلقوا لها يدَها في مصر وفي سوى مِصر. بل إن جلاء الجنود البريطانية لن يكفي وحده أن يكون مَدعاة لنسيان تاريخ بريطانيا وأفعالها، لقد دخلت بريطانيا بلادنا وبلاد سوانا، فاستعانت بشذاذ الأمم الَّذي لا يجدون في بلادهم ما يأكلون، وجاءت بهم إلى مصر والسودان وكل أرض كتب الله عليها أن تبتلى ببريطانيا وسياستها الاستعمارية، وحمت هؤلاء الشذاذ وشدت أَزرهم وملكتهم الأموال والأرزاق، ونفخت في قلوبهم كبرياءَ الحقيرِ الَّذي علا بعد ضعةٍ، ومدت لهم مدًّا طويلا حتَّى صاروا سادة علينا وهم يأخذون ما في أيدينا -أي يسرقون ما في أيدينا. أتت بالشذاذ من كل أمة وجعلتهم جاليات وأقليات وفرضت على نفسها حمايتهم فيما تزعم، واستنكفت لهم أن يتقاضوا في محاكم البلاد التي آوتهم بعد تشرد، وميزتهم عن أبناءِ البلاد في كل شيء حتَّى في معاملاتها التجارية، حتَّى صارت لهم قوة المال وفجور المال وطغيان المال، فعاثوا في الأرض فسادًا، يفسدون بيوتنا، ويتعالَوْن عنا، ويحتقرون أبناءنا ورجالنا، ويسخرون من آدابنا وعقائدنا، ويطعنون في أخلاقنا، ويشتموننا في الطرقات وهم في حمى بريطانيا ذات المجد والشرف! ! وأكبر من ذلك أنها حَمت هؤلاء الشذاذ حماية أخرى ليكونوا لها جنودًا في

ثياب مدنية، فأقطعتهم المدارس ينشئونها حيث يشاؤون، وجاءت بدنلوب ليضرب التعليم المصري ضربات قاضية لا تزال إلى اليوم باقية لا تدري وزارة المعارف كيف تخلص منها. وإذا هذه المدارس تأخذ أبناءنا من بيوتنا، فتضعهم بين جدرانها، وتنفث فيهم سمَّها، وتحقِّر لهؤلاء الصغار بلادهم وأهلهم، وتمتهن لغتهم حتَّى كانت تمنع طلبتها عن أن يتكلموا بالعربية بتة، ولا في أوقات الفسحة ما بين الدروس، فإذا فعل ذلك طفل منهم عوقب أشد العقاب، وداروا به على الفصول كأنه مجرم قد ارتكب أشنع جريمة يعاقب عليها القانون. وبقيت بريطانيا الممثلة في دنلوب ونظام دنلوب ورجال دنلوب تحمي الوباء وهذا البلاء حتَّى استفحل، وخرج جيل من أبناء مصر نفسها ينظر إلى بلاده كأنها أرض غريبة يحتقرها كما رأى أن الأجنبي يحتقرها، وكما رأى زميله الأجنبي يزدريها. وأكبر من ذلك أيضًا أنها أخذت هؤلاء المساكين الذين أضلَّتهم مدارسهم الأجنبية فآوتهم ونصرتهم ثم مكَنت لهُمْ وصاروا لها أشياعًا يثنون عليها ويفضلونها على سائر أهل الأرض وعلى أهل بلادهم. واتخذوا لذلك كل أسلوب يدل اتخاذه على أن بريطانيا لا تتورع عن أن تجعل أخسَّ الطبائع البشرية والشهوات الإنسانية سلاحًا تقاتل به الشعب الَّذي اعتدت عليه واستبدت به. فصار الشعب المصري يسمع مصريًّا مثله يبسط لسانه في تاريخ شعبه وفي أخلاق شعبه غافلا عن السبب الأول الَّذي كان داعيًّا إلى انهيار هذا الشعب، ألا وهو بريطانيا وشُذّاذها. فكل هذا وكثير سواه كان احتلالًا أدبيًّا ضرب على مصر والسودان كما ضرب عليها الاحتلال العسكري، فنحن لن نكتفي بأن يزول الاحتلال العسكري بجلاء الجنود؛ بل لابد من إجلاء ما ورَّثناه الاحتلال العسكري من نُظم ومن شيع ومن عادات ومن أخلاق؛ حتَّى لا يكون المصري والسوداني غريبًا في بلاد، مُمْتَهَنا في أرضه، مضروبًا بالفقر والجهل والهزيمة في دياره. ذلك هو يوم الجلاء الأعظم: يوم يعود إلينا أخونا المصري السوداني المقيم في بريطانيا "يعقوب عثمان" ليقول لبلاده إني أخطأت فاغفري لي زلتي

وتجاوزي عن خطيئتي، ويوم يخلع الشباب المصري السوداني من فتيان وفتيات كل الزينة التي أضفتها عليهم مدارس الليسيه الفرنسية، وفكتوريا الإنجليزية، والمدارس الأمريكية، ويخرجوا إلى أهليهم خاشعين خاضعين نادمين يعتذرون من الآثام التي ألموا بها أو قارفوها في حق بلادهم وفي حق آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم وأسلافهم وأعقابهم. بل يوم يخرج المهدي عن أمواله لمصر والسودان، ويعفر وجهه في ثرى النيل الأعظم، ويستغفر الله مما كسب من الإثم في حق مصر والسودان، أرض آبائه وأجداده، بل في حق أبيه الَّذي لم تتورع بريطانيا عن إهانة عظامه وهو ميت لا يملك دفعًا عن نفسه. إنه يوم الجلاء الأعظم -يوم يقف كل مصري سوداني أيامه وساعاته للتكفير عما فرط منه، ويوم يعمل جاهدًا في إزالة كل أثر للاحتلال في نفسه، ويوم يخرج إلى الطريق ليميط الأذى عنه استعدادًا لمقدمِ الأجيال الحرة التي ترث أرضًا طاهرة لم تلوثها غفلة القرون الماضية أو ضعفها أو استكانتها أو رضاها بالذل والمهانة طمعًا في مال زائل ومجد حائل. إنه يوم الجلاء الأعظم، يوم لا يسمع ثرَى مصر لسانًا أعجميًا من أهله أو من غير أهله ينطق بغير اللغة التي ينطقها الشعب المصري السوداني، ويوم لا يخرج المصري السوداني فتتحداه تلك الطوائف من شذّاذ الأمم ناطقة بغير لسانه وساخرة من لسانه. إنه يوم الجلاء الأعظم، يوم يستطيع المصري السوداني أن يقف على ثرى أرضه مطمئنًّا لأنه حرٌّ من أحرار، وينظر حوله متلفتًا يمنة ويسرة فلا يرى إلا وجوهًا عربية وبلادًا عربية تضم الأحرار أبناء الأحرار.

نحن العرب. . .

نحن العرب. . . إني لأسألُ نفسي، كما يسألُ كل عربي نفسه: "إلى أين يسار بنا تحت لواء هذه الحضارة البربرية الحديثة؟ " وجواب هذا السؤال يقتضي العربي منا أن يلمح لمحًا في طوايا النفوس وخبايا السياسات، ويقدمَ الحذر بين يديه، ليكون على بينة من رأيه ومن مصيره أيضًا. ولعل القارئ قد فوجئ لإقحام هذا الوصف للحضارة الحديثة بأنها حضارة بربرية، ولكن لا يعجل بالعجب مما لا عجب فيه فإنه حق بيّن لا تخطئه العين البصيرة. نعم! إنها حضارة لم يوجد لها مثيل بعدُ في التاريخ كله منذ كان آدم إلى يومنا هذا. حضارة قد نفذت إلى أسرار المادة فكشفت عنها كشفا يسَّر للبشرية أن تقبضَ على زمام الحياة وتصرِّفها في حيث شاءت وإلى حيث تريد، وجعلت الإنسان يشعر شعورًا لا خفاءَ فيه بأنه قادر على أن ينشيء التاريخ إنشاءً، ويبني الوجود بناء جديدًا، ويملأ ظلام الليل وضياء النهار حياة وقوة وجلالا، وينفث في الأشباح روحًا ويكسوها لحمًا ويعطيها من مقدرته ما يجعلها كائنًا متصرفًا بشيء أشبه بالعقل والإرادة. ونعم! إنها حضارة قد قامت أركانها على علم جم يعجز المتأمل عن إدراكه وبلوغ آفاقه، علم تدسس إلى ضمير الأرض والسموات فاسترق السمع إلى نجواه وإلى خواطره فقبس منها قبسًا مضيئًا أنار ظلمات هذا الوجود الَّذي لا يعلم ما انطوى عليه إلا الله الَّذي يعلم الخبءَ في السموات والأرض. ونعم! إنها حضارة أزرت بالحضارات كلها وجعلتنا نشعر بالقوة التي طواها الله في هذا "العالم الأصغر" حتَّى مكن له أن يكون سيد "العالم الأكبر" غير منازع. نعم: إنها حضارة مجيدة عاتية، أحيت الإنسانية ورفعت شأنها، ولكنها على ذلك كله حضارة بربرية طاغية قد امتلأت فسادًا وجورًا وحماقة وفجورًا، ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 720)، إبريل 1947، ص: 439 - 441

حضارة بربرية رفعت الإنسانية من ناحية العقل، ولكنها قتلت ضميرها ومزقت شرفها، وجعلتها تشعر بقوة غير شريفة ولا صالحة ولا أمينة في أداء حق الإنسانية عليها. والعربي منا إذا نظر اليوم فينبغي أن ينظر أولا إلى هذه "البربرية" من الناحية التي لها مساس به وبحياته وبتاريخه على هذه الأرض، ليعلم إلى أين تريد هذه الحضارة أن تسوقه؟ وأي بلاء تريد أن تبتليه به؟ إن تلك الدول التي صارت دولا في تاريخ هذه الحضارة البربرية وبمعونتها تريدنا على أشياء وتريد بنا أشياء لابد لكل عربي أن يراها بعين لا تغفل. هذه الدول التي ادعت ولا تزال تدعي أنها خاضت غمار الحرب المبيدة الثانية دفاعًا عن حرية البشر في الحياة، وعن رفع مستوى المعيشة في هذه الأرض، ترتكب كل يوم من ضروب الخيانات والغدر والنذالة ما لم يشهد التاريخ مثله، كما لم يشهد مثل حضارتها هذه البربرية. هذه أمريكا وبريطانيا وروسيا وفرنسا جميعًا ولا نستثني تزعم كل يوم أنها تغضب للحق، حق الناس في الحرية، وتثور استنكارًا للمظالم التي تفرض على الشعوب العاجزة عن دفع الظلم، وأنها تحوط الإنسانية من أن يدنسها باغ أو طاغ بجبروته وبطشه، وهي جميعًا لا تزال تملأ جنبات الأرض عجيجًا وضجيجًا إذا رأت ضيما أصاب شعبًا من الشعوب، وتتنبل كل منها بالدفاع عنه وبالذياد عن حقه المهتضم، ونرى أمريكا خاصة ومن دونها جميعًا تذيع بين الناس وتشيع أنها حامية الحضارة، وأنها حامية الناس من البغي، وأنها لم تخض غمار الحرب إلا لهذا وحده: أن تحمى الحضارة من الدمار، وأن تحمى الناس على اختلافهم من البغي. وكذلك تفعل بريطانيا أيضًا، وهكذا تزعم روسيا، وهكذا تتبجح فرنسا. ولكن -هذه فلسطين فلذة أكباد العرب قد شهدت أنذال الأمم يطأون ديارها منذ سكنت الحرب العالمية الأولى، ثم أخذوا يسيلون عليها سيلا منذ ذلك اليوم يريدون أن يجلوا العرب عن بلادها ليحتلوها وينشئوا في ربوعها دولة يهودية، فإذا بنا نرى أمريكا تعينها بالمال واللسان والقلب، ونرى بريطانيا تغريهم

بما يريدون وتصبرُ على إذلالهم لها صبرًا لم يعرفه قط تاريخ بريطانيا التي كانت تسمى رجال العرب المجاهدين "رجال العصابات"، ونرى روسيا وفرنسا تلوذان بالصمت المطبق لا تقول ولا تنبس ولا تتحرك دفاعًا عن الحضارة، ولا دفاعًا عن الهضيمة التي تراد بالإنسانية، كما تحركت من قبل. وهذه تونس والجزائر ومراكش تجرى فيها المذابح الوحشية التي لم يعرف التاريخ مثلها. فتسيل دماء أربعين ألف عربي ما بين عشية وضحاها، بين سمع سفراء الدول وبصرها، فلا نرى أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا تثور أو تغضب أو تقول، وتمضي فرنسا الباغية تنفذ سياستها في تدمير شعوب برمتها. تدمر حضارتها وماضيها وقواها وتستل الأرواح من أبدانها بالسلاح غدرًا وغيلة، وتمتهن الرجال وتسب الأديان وتفتك بالأحرار، ويرى ذلك ويسمعه سفراء أمريكا وبريطانيا وروسيا المدافعات عن الحرية وعن الحضارة وعن الإنسانية. نعم، وهذه فرنسا أيضًا تقيم الولائم للسباع والوحوش في جزيرة مدغشقر، فتفتك بأهل الجزورة فتكا لا رحمة فيه ولا هوادة والعالم كله يسمع، والإشاعات تتناقل خبر المجازر وتسميها "إخماد ثورة" وتقف بريطانيا صامتة عليها الوقار، وتدير أمريكا ظهرها قد شغلتها هيئة الأمم المتحدة التي تنظمها للدفاع عن حريات البشر ورد البغي عنهم! وتنكب روسيا على إصلاح معايش خلق الله ورفع الضَّيْم عنهم بالمساواة بينهم في حقوق الحياة! وهذه بريطانيا ترتكب شر الأفاعيل في السودان وفي إفريقية، وتقول لأمريكا وفرنسا وروسيا إني أريد أن أكفل لهؤلاء الناس استقلالهم، أريد أن أرد عنهم اعتداءَ بني جلدتهم الطامعين في استعمارهم، وأريد أن أترفق بهم حتَّى أرفعهم من حضيض الجهالات لكي يصبحوا شيئًا في تاريخ هذه الإنسانية، فهي تقتل منهم كما تقتل السائمة، وتدعهم عراة بل تجبرهم على أن يظلوا عراة ليخرجوا لها من ثمرات الأرض ما يرفع مستوى معيشتهم. وتعرف ذلك أمريكا وفرنسا وروسيا فيقولون لها أن نعم، ولك الشكر، ونعم ما تفعلين!

وهذه أمريكا تنطلق من معزلها مرة واحدة لتقول للعالم إني أحمي الضعفاء وأجبر كسر المحتاجين، وأعين على نوائب الحق، وأدفع الظلم عن الناس، وأرفع الضيم عن المضيم، وترى كل هذا ويراه سفراؤها ورجال جامعاتها في الشرق، فلا تكون نصرتها لنا إلا بأن تذهب إلى جزيرة العرب وإلى إيران وإلى بلاد كثيرة من بلادنا لتأخذ البترول، وتقول لنا سأعطيكم من المال مبلغًا ضخمًا ترفعون به مستوى معيشتكم، فلا تحملوا المصالح الأجنبية في بلادكم على محمل سيء أيها الرجال العقلاء. أما مسألة مصر والسودان، وأما مسألة مراكش وتونس والجزائر وهذه المذابح والمجازر، وأما مسألة فلسطين وما فيها من الجور والبغي والعدوان والنذالة، وأما مسألة العراق وسائر البلاد العربية، فذلك كله أمور تتم على وجه آخر إذا جاء حينها، وأنا لا أستطيع أن أتدخل في شئون الدول، بل الأمر كله متروك لهيئة الأمم المتحدة إن شاء الله، فاطمئنوا. هكذا يرى العربي فعل هذه الدول القائمة على الحضارة والمدافعة عن تاريخ الإنسانية وعن شرفها وعن حريتها: فإذا رأتنا نقول لها الحق، غضبت وزعمت أننا قوم نتعصب على الأجانب بجهلنا وغباوتنا وحماقاتنا الموروثة، وصدقوا، فنحن جهلاء أغبياء، لأننا صدقنا يوما أن روسيا هبت لتدفع الظلم عن الطبقات المهضومة الحقوق، وأن بريطانيا ثارت لتدفع الشر عن الإنسانية المهددة بالجبروت والطغيان، وصدقنا فرنسا أنها هي الداعية إلى العدل والمساواة والإخاء، وصدقنا أمريكا أنها البريئة المدافعة عن حقوق البشر وتساويهم في هذه الحياة لا فرق بين صغير الأمم وكبيرها، أو ضعيفها وقويها، إننا جهلاء وأغبياء، لأننا أبحنا بلادنا للأجانب ليرفعوا لنا مستوى العلم والثقافة، ومستوى العيش والحياة، فأكرمناهم وآويناهم وخدعنا بهم، وحرصنا على أن نجعلهم لا يشعرون بأننا نريد أن نكون حربًا عليهم، فأنشأوا ما أنشأوا من مدارس ومتاجر وأوغلوا في بيوتنا وأراضينا فسرقوا منا قلوب أبنائنا وأموال أغنيائنا وفقرائنا، واستبدوا بالأمر دوننا، وتركونا لا نستطيع أن ننفذ في بلادنا ما تنفذه كل دولة من القوانين والأحكام. فإذا أردنا نحن أن نفعل شيئًا قليلا مما تفعله الدول لحماية أرضها وأموالها، ثاروا علينا من الشرق والغرب ومن يمين وشمال يرموننا بالتعصب،

ويمنون علينا أنهم هم الذين رفعوا مستوى معيشتنا، وهم الذين علمونا كيف نلبس وكيف نأكل وكيف نشرب. فهل يحل منذ اليوم لعربي أن يصدق أكاذيب هذه الأمم الباغية في دعواها ومزاعمها؟ هل يحل لعربي أن يثق بأن أهل هذه الحضارة التي اشتملت على روائع الفن والعلم والفلسفة، قد صاروا حقًّا أهل حضارة تستحق أن تسمى حضارة لأنها قربت المسافات بالطائرة التي تخطف في جو السماء خطفًا، ومست موات الأرض فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وألقت السحر في بنان الإنسان فإذا هو طبيب يدفع عوادي الموت عن رجل في النزع ليس بينه وبين الموت حجاب؟ هل يحل لعربي أن يصدق شيئًا من هذا كله وهم يكذبون على خلق الله العرب ويغررون بهم ويخدعونهم ويقتلونهم ويذبحونهم بلا رحمة ولا شفقة ولا ضمير يفزع من كل هذه الجرائم البشعة في تاريخ الإنسانية! تعس العلم وتعس الفن وتعست الفلسفة، وتعست هذه الحضارة البربرية، إذا كان هذا خلقها وهذا ضميرها! وما نفع العلم والفن والفلسفة إذا هي خلطت لنا نحن العرب بالكذب والوحشية حتَّى في الأعمال التي يصفونها بأنها علمية خالصة (¬1). إننا على ضعفنا وجهلنا وفقرنا أكرم نفوسًا، وأعلى أخلاقًا، وأنبل قلوبًا من أهل هذه الحضارة البربرية التي لا يثور أهلها إلا لحاجة في نفوسهم، والذين لا يفزعون مما ترتكب أيديهم من الوحشية في بلادهم وفي بلاد غيرهم من البشر. ليعلم أهل هذه الحضارة في أوربة وأمريكا، وينبغي أن نعلمهم نحن في بلادهم وبين ظهرانينا أننا لن نهاب بعد اليوم أن نكاشفهم بعداوة عربية، لا كعداوتهم هم. تلك العداوة الممزوجة بالرقة والخداع والكذب والتغرير، إنها عداوة طالب الحق الَّذي ينتصف لعدوه من نفسه، وينتصف لنفسه من عدوه، والذي لا يغمط حقًّا ولا ينكر معروفًا، ولكنه لا ينسى أن عدوَّه هو عدوه! ¬

_ (¬1) يحسن بالقارئ أن يقرأ مقالة في مجلة الكاتب المصري شهر إبريل سنة 1947 بعنوان "بين السياسة والعلم" للدكتور سليمان حزين، فهي تكشف عن استخدام العلم أحيانًا في أحط الأساليب السياسية (شاكر).

ولقد سمع أحد رجالنا، هو ابن شبرمة، يومًا عروة بن المغيرة وهو ينشد هذه الأبيات: لا أتقى حسَك الضغائن بالرُّقى ... فعْل الذليل، ولو بقيت وحيدا (¬1) لكن أعد لها ضغائن مثلها ... حتَّى أداوى بالحقود حقودا كالخمر خير دوائها منها بها ... تشفي السقيم وتبرئ المنجودا (¬2) فقال: لله در عروة! هذه أنفس العرب. فهذه نفوسنا، لن تهادن من يعادينا عداوة طويت على الضغائن الصغيرة المحتقرة، فإذا أنابوا وانتصفوا لنا من أنفسهم، وعرفوا قبح ما أَتَوْا وشناعة ما ارتكبوا، فيومئذ نصافحهم مصافحة العربي الَّذي لا يضمر الغدر ولا الغيلة ولا الفتك، ولا يعرف الكذب ولا المخاتلة. ¬

_ (¬1) الحسك: نَبْتَة تضرب إلى الصُّفْرة ولها شوك يُسَمَّى الحَسَك أيضًا، لا يكاد أحد يمشي عليه إذا يبس إلا مَنْ في رجليه خُفّ أو نَعْل، هذا هو أصل استعماله، ثم استعمل في الضغن والعداوة والبغضاء. (¬2) المَنْجُود: الَّذي أخذه الكَرْب حتَّى أشرف على الهلاك.

الحكم العدل

الحكم العدل يسمع كل عربي ويقرأ أن بلاده في حاجة إلى "الدعاية" لها في بلاد الأجانب، وبخاصة في أمريكا التي صارت اليوم ملتقى الأمم التي يسمونها الأمم المتحدة. وصارت هذه الكلمة حلوة على ألسنة رجال الصحافة العربية وعلى ألسنة رجال السياسة العربية، فكلهم يقول لك أو يكتب لك إننا تعوزنا "الدعاية" لبلادنا في الخارج. ولا بأس في أن يستحلى رجال الصحافة ورجال السياسة كلمة يديرونها على ألسنتهم، ويجدون في طعمها وفي نبرتها وفي جرسها لذة تحملهم على ترديدها واللجاج بها، ولكن البأس كل البأس أن يفضى استحلاء هذه الكلمة إلى استحلاء صب الملامة والتأنيب على أنفسنا، ونحت أَثلْاتنا (¬1) بالتعنيف على ما نرتكب من تقصير في حق أوطاننا. ولو كان ذلك التقصير حقًّا محضًا لا يعتوره رأي ينقضه، لكان كثرة اللجاج فيه عملا لا خير فيه البتة. ومع ذلك فلنفرض أنَّه حق محض، فما وراء ذلك؟ نعم إنه لحسن أن نظهر الناس على وجه الحق في مطالبنا، وعلى بشاعة الظلم المضروب علينا، وحسن أن ندعو الناس إلى سماع حجتنا؛ وحسن أن نزيل من أوهام أولئك الخلق ما علق بعقولهم عنا؛ وحسن أن نبدي لهم حقيقة أنكروها أو أنكرتها علينا السياسات فصدقوا السياسات وكذبوا أعينهم وأسماعهم. كل ذلك حسن، ولكن ليس بالحسن أن نأخذ الأمور من أقفائها لا من وجوهها، وأن ندع الرأي البين إلى الرأي الخفي، وأن نغفل الحقيقة الواقعة ونبصر الرجاء الَّذي لا يدري المرء أيتحقق له أم لا يتحقق. فمسألة "الدعاية" تكاد اليوم تكون منصبة كلها على الدعاية في "أمريكا"، إذ لا سبيل إلى الدعاية في روسيا بحال من الأحوال، وبريطانيا هي طرف النزاع ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 722)، مايو 1947، ص: 496 - 498 (¬1) أثلاتنا: جمع أثلة، وهي أصل كل شيء.

في مسألة مصر والسودان ومسألة فلسطين وفي سائر المسائل الشائكة التي يعاني العرب منها ما يعانون؛ وكذلك شأن فرنسا في مسألة بلاد تونس ومراكش والجزائر، فلم يبق إلا أمريكا، وهي التي يدور حديث رجال الصحافة ورجال السياسة في وجوب الدعاية لقضايانا في أرجائها. فلننظر إذن إلى جدوى هذه الدعاية علينا هناك، وفي إمكانها قبل جدواها، وفي حقيقتها قبل جدواها وإمكانها. فأمريكا لم تزل تزعم منذ الحرب الماضية أنها نصير العدل والحق، وأنها عدو البغي والعدوان، وأنها صديق الأمم المستضعفة، وأنها تبغض أشد البغض كل الاستعمار، أي أنها الحكم العدل الَّذي لا يرى بغيًا ولا عدوانًا ولا مظلمة إلا نبض قلبه إشفاقًا، وتحركت دماؤه اشمئزازًا وأنفة، وأبى إلا أن يكون كما أراده الله أن يكون حكما عدلا لا يرده عن إقرار الحق والعدل جهد يبذله، ولا دم يريقه، ولا مال ينفقه في سبيل الحق والعدل والحرية. وهي لا تزال تحقق ذلك -فيما ترى بكل ما آتاها الله من قوة وحيلة ومعرفة، فهي تتدسس إلى قلب روسيا لتكشف الغطاء عن هذا الوحش الباغي المستقر بين جنبيها، والذي يخشى أن يكون أشد بغيًا وعدوانا من الفريق الأول الهالك "ألمانيا". وهي تتسلل إلى خفايا السياسات في أرجاء أوربة لتظهر العالم على أساليب روسيا في العمل لإدخال كل أوربة في حوزتها وتحت سلطانها، وهي ترسل جيوشًا لا تحصى من الخبراء والمخبرين ليستطلعوا طلع الحقائق التي تسترها روسيا في كل حنية من حنايا هذه الأرض، وهي تؤوي إليها كل شريد أو طريد ناله عسف الروس وبطشهم وتفسح له صدرها، وتفسح له الصحف أيضًا حتَّى يقول للناس ماذا تحاول روسيا أن تخبأ عن الناس، وكيف تفعل روسيا بالناس، إلى آخر هذا كله. بل أعظم من ذلك أنها لم تتردد لحظة واحدة في أن تبذل -كل البذل لتركيا واليونان حتَّى يتاح لهما أن يصدا عن نفسهما بلاء الروس وبطشهم واضطهادهم، وأن تكونا جبهة مزودة بالقوة التي تعينهما على الجرأة فلا يروعهما تهديد الروس

ولا تخويفهم. ولم تتوان صحف أمريكا عامة عن أن تجعل مسألة تركيا ومسألة اليونان من أعظم المسائل التي تشغل الرأي العام حتَّى يتهيأ للكونجرس أن يؤازر حكومته في سياستها التي أرادتها لدرء خطر الروس عن هذين البلدين. كان هذا كله ليس يشك فيه أحد، ورأت أمريكا أنها إنما تؤدى بذلك حق الإنسانية عليها، وتؤدى حق المكانة التي تبوأتها عند الناس، وتؤدى ما يجب على الحكم العدل الَّذي لا يبغي إلا إقرار الحق والعدل، وإزهاق الظلم والجور. ولكن ما الَّذي فعله هذا الحكم العدل في شأننا نحن العرب؟ كان أول ما فعله أنَّه طلب باسم الحق والعدل أن تبيح فلسطين أرضها لصعاليك الأمم فتؤويهم وتمهد لهم أن يقيموا في قلب بلاد العرب دولة يهودية تفعل بهذه العرب ما تشاء، وسكتت باسم الحق والعدل عن المحرضين من يهود بلادها على انتزاع الأرض عامرها وخرابها من يد العرب لتكون في يد صعاليك اليهود، وغفلت باسم الحق والعدل عن شعب يسكن هذه الأرض منذ آلاف السنين تريد اليهودية أن تفقره وتذله وتنتزع منه أرض آبائه وأجداده بالجور والعدوان والنذالة الحديثة التي تسمى قوة المال. ثم أرسل الحكم العدل رسلا من عنده ليدرسوا القضية مع طائفة أخرى من البريطانيين، فخرجت رسل الحكم العدل وهي ترى أن العرب أمة متأخرة، وأنه لابد لليهود من أن يستعمروا هذه الأرض ليرفعوا عن هذه الأمة المتأخرة أساطير الجهل وغشاوة البؤس - ولو أفضى ذلك إلى أن يخوضوا في الباطل خوضًا حتَّى يبلغوا الحق! ثم جاءت مسألة مصر والسودان، فإذا نحن نموج ونضطرب ونفزع من هول الغدر البريطاني وهذه المظالم الاستعمارية، وإذا الحكم العدل يصم آذانه ويستغشى ثيابه باسم الحق والعدل حتَّى لا تروعه صرخات المظلومين والبائسين، وإذا صحافته تضن بكلمة واحدة أن تقولها في إنصاف هذا الشعب من الظالمين والباغين عليه، بل لعل أكثرها ذهب إلى خلاف هذا وألح فيه. وليس يقول أحد وهو يَجِدُّ إن هذا الحكم العدل يجهل قضية فلسطين؛ ولو هو كان يجهلها حقًا لكان أول ما تفرضه عليه هذه الحكومة التي تبوأها في

العالم أن يرسل إلى فلسطين رجالا من أهل سياسته، ورجالا من أهل صحافته ليدرسوا وينبشوا وينقبوا ويكشفوا خفايا الدسائس اليهودية والبريطانية كما يفعلون في روسيا وفي أوربة وفي سواهما من بلاد الله. وليس يقول أحد وهو يَجِدُّ إن هذا الحكم العدل يجهل قضية مصر والسودان، فلو كان حقا يجهلها لفعل مثل ذلك حتَّى يتاح له أن يقف على أسرار هذه القضايا ليحكم بين الناس بالعدل والقسطاس مادام مصرًّا على أنَّه حكم عدل لا يبغي من وراء عدله إلا إقرار الحق وإزهاق الباطل. ولو فعل لرأينا الصحف في بلاده تملأ الدنيا عجيجًا وضجيجًا وبحثًا وتنقيبًا وكشفًا عن خفايا السياسات كما تفعل في مسائل روسيا وأوربة. لا، بل أكثر من ذلك أن لهذا الحكم العدل رجالا طالت إقامتهم في مصر والسودان، وفي فلسطين والشام، منهم رجال الصحافة ومنهم رجال الجامعتين الأمريكيتين ورجال المدارس الأمريكية، ومنهم رجال الشركات ومنهم غير هؤلاء ممن يُذْكَرون بأسمائهم ومن لا يُذْكَرون. فماذا يفعل هؤلاء جميعًا؟ أي معروف يسدونه إلى البلاد التي طالت إقامتهم بين أهلها فعرفوهم وخبروهم؟ أليس فيهم إنسان واحد فيه قدرة على أن يعرف خفايا الدسائس اليهودية والبريطانية في بلاد مصر وبلاد الشام وفلسطين؟ أليس لأحد منهم لسان ينطق بالحق دفاعًا عن أمم يكتم الاستعمار حقها ويبطش بها بطشًا وحشيًّا لا رحمة فيه؟ كلا بل فيه، ولكنهم حرب علينا ولايريدون أن يقولوا لبلادهم، وكأن بلادهم لا تريدهم أن يقولوا -وإلا ففيم صمتهم، وفيم ممالأتهم لبريطانيا ويهودها وأفاقيها جميعًا من حثالات الأمم؟ أم ترانا لا نستحق عدل الحكم العدل؟ أم نحن لسنا بأهل لأن تقال في حقوقنا كلمة تجعل الحكم العدل يتنبه إلى أن في الدنيا شعبًا تبلغ عدته أكثر من مائة مليون وعشرين مليونًا من الأنفس البشرية قد ضربه الاستعمار اليهودي والبريطاني والفرنسي ضربات مبيرة مبيدة بغير شرف ولا ورع ولا إنسانية. أيقال إن رجال الجامعات والمدارس، وهم أهل العلم والثقافة والأدب، ليسوا سوى جماعة يعيشون في سراديب العلم والفلسفة لا يعرفون ما يجري على

أديم هذه الأرض؟ وأنهم لا يخالطون أحدًا ولا يخالطهم أحد؟ وأنهم رجال مقنعون بالأثواب الجامعية من فرع الرأس إلى أَخمص القدم، فهم عمى لا يبصرون إلا نور العلم، وصم لا يسمعون إلا نداء الحقائق الخالدة في الفلسفة؟ كلا كلا! إنهم يسمعون ويبصرون، ولكنهم لا يريدون أن يبينوا عما يسمعون وعما يبصرون، فإذا أبانوا فلن يبينوا عن الحق، بل يبينون عن خلافه مما سمعوه من أعوان بريطانيا وأشياع يهود، ويطعنون فينا كل طعن، ولا يرون بأسًا من تعظيم أخطائنا وإخفاء صوابنا أو حقنا. بل يمنون علينا أن فعلوا لنا وفعلوا، وهم يعلمون علم اليقين أننا لو قد كنا أحرارًا في بلادنا لفعلنا لأنفسنا ما لا يستطيعون هم ولا سواهم أن يفعلوه لنا. ثم فليخبرونا: أنحن الذين يجب علينا أن نتولى الدعاية لبلادنا في بلادهم؟ أيجب علينا أن نذهب إلى الحكم العدل الَّذي يرسل إلى بلاد الله سوانا من يعرف خبايا أسرارها، فنقول له بألسنتنا إن حجتنا كذا وكذا، وفضائلنا كذا وكذا، ونعدد له مناقبنا ووجوه حقنا ومظالم عدونا، فإذا به يسمع لنا ويقنع بما نقول نحن، وينسى كل ما تقول بريطانيا واليهود، وإذا الرأي العام الأمريكي قد أصبح معنا! ! كلا ليس هذا بمنطق ولا حق، بل الحق هو أن الحكم العدل هو الَّذي يجب عليه أن يتتبع حقائق القضايا ويرسل رجاله ورجال صحافته ليعرفوا ويسألوا، ويجب عليه أن يطالب المقيمين من أهله في بلادنا أن يقولوا الحق غير متجانفين ولا باغين ولا تابعين للأهواء والعصبيات، وأن يتولى هو وصحافته بيان الحق في ذلك كله حتَّى يستطيع أن يحكم بالعدل، وإلا كان حَكَمًا لا يصلح للحُكْم. أما دعاتنا الذين يحرضوننا على "الدعاية" لأنفسنا في بلاد الحكم العدل، فليعرفوا أن الصحافة هنا لن تقبل منا أن ننشر ما نشاء إلا أن ندفع عليه مالا كثيرًا، وهم ينشرون لنا على أنَّه "إعلان" لا أكثر ولا أقل، وأن القارئ سوف يقرؤه على أنَّه إعلان لا أكثر ولا أقل. فإذا كان لنا أن نرجو خيرًا من الحكم العدل، فهو يوم يلين قلبه ويرق ويشعر أننا أهل لأن ترفع عنا المظالم، ويومئذ يرسل إلينا من يسألنا

ويستخبرنا ويعود لقومه قضاة الحق أن أنصفوا مظلومًا طال ظلمه، وأما قبل ذلك فلا. وإن كان هذا لا يمنع أن نبذل من الجهد ما نرجو أن يوقظ الحكم العدل من سباته الَّذي طال كما طال ظلمنا. وقبل ذلك فلنحذر أن نلوم أنفسنا على تقصير لم يكن، لأنه ليس تقصيرًا بل هو معرفة للحقيقة الظاهرة وهي أن الحكم العدل لا يريد أن يكون معنا نحن العرب دون الناس جميعًا - حكما عدلًا.

هي الحرية

هي الحرية قالوا في قديم الأمثال: "ليس المتعلق كالمتأنق"، فالرجز الذي أنعم الله عليه بسعة العيش، وأرخَى باله من هموم الحياة، مطيق أن يتأنى فيما يختار لنفسه متذوقًا ومتخففًا حتَّى يرضى، أما الَّذي قَدَر الله عليه رزقه فهو كالسهم في الوتر المشدود ترمي به يد الحاجة إلى هدف يتخايل له أو يتحقق، وهو لو أراد لما أطاق إلا الَّذي فعل لأنه مدفوع بالاضطرار. ورب سارق لم يجد من السرقة بُدًّا لأنه دفع إليها بحاجة طبيعية لا يطيق أحد خلافها، وهو التعلق بالحياة والإبقاء على النفس، فهو يريد أن يطعم الغريزة التي تلهب أحشاءه بالجوع المهلك. ومهما تكن روادع نفسه، ومهما تكن قوتها، فهو منتهٍ إلى ساعة لا يجد عندها إلا أن يمد يده ليأخذ شيئًا يمسك عليه رمقًا يوشك أن يتبدد. وما مد الرجل يده، ولكن الحياة هي التي مدتها، فهو خليق أن لا يكون عندئذ مسئولا عما فعل. وكذلك الشأن في أحداث كثيرة تكون في هذه الحياة الدنيا وفي هذا الناس، فإن المجتمع الإنساني يعنف بأبنائه أحيانًا ويعتسف بهم أضل المجاهل، لأنه لا يبالي بأن يكفل لأبنائه جميعًا حاجتهم التي لا غنى لأحد منهم عنها، ولأنه يغفل في فورانه عن الطبائع الأولى التي تتطلب زادها من الحياة، والتي إذا فقدت هذا الزاد لم تبق على شيء، ولم تَرْعَ شيئًا، ولم تَرْعَوِ عن شيء. وهذا ضلال قديم في نظام المجتمع الإنساني، أراده الأنبياء بالإصلاح، وأراده عقلاء المفكرين بالتغيير، فأدركوا شيئًا ووقف بهم العجز عن كثير، لا من عجز في هدايتهم أو آرائهم، بل من عجز المجتمع عن أن يدرك سمو الأغراض التي رمى إليها الأنبياء والمفكرون. وفي عصرنا هذا أمثال كثيرة على تغلغل الفساد والجهل والعسف وقلة المبالاة ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 724)، مايو 1947، ص: 552 - 554

في قلب المجتمع الإنساني. أمثال يكون فيها الأفراد هدفًا منصوبًا لاضطهاد جماعة الأمة أو الشعب، وأمثال تكون فيها الأمة هدفًا لاضطهاد جماعة الدول أو الشعوب. فليس في الأمم اليوم أمة لا تتداعى وشادى باسم الحرية: حرية الفرد، وحرية الفكر، وحرية العقيدة، وحرية التجارة إلى آخر هذا الحشد من الحريات، فهي بذلك تقرر جميعًا أن الحرية أكبر أغراضها، وهذا طبيعي، لأن الحرية هي إحدى الطبائع المستقرة في الإنسان الفرد، وهو يطلبها طلبًا حثيثًا ملحًّا، حتَّى ولو اضطر أن يستعبد نفسه لعمل يكدح في سبيله طول حياته، ولكن غايته من هذا الكدح هي أن يتحرر من الكدح وهذا إحدى عجائب الطبيعة البشرية. نعم إن الحرية غاية الفرد التي يسعى إليها وهو وحيد في مشاعره وفي بعض وجوده، ولكنه إذا صار فردًا من جماعة كان للجماعة سلطان على هذه الحرية وتصرفها، وهو شيء من حقها أيضًا. ولكنها إذا أرادت أن تتعسف وتحرمه حريته فقد أساءت من حيث أرادت الإحسان، ولا تكون الجماعة رشيدة حتَّى تعرف أن الحرية حاجة طبيعية لابد للفرد من الاستمتاع بها على وجه من الوجوه، فلابد إذن من أن تتيح أوسع ما يمكن من مجال تتصرف فيه الحرية على الأسلوب الَّذي يجعلها وافية بحاجته الطبيعية. ومن هنا يأتي الفرق بين نظام ونظام، فيكون هذا بغيضًا مملولا، وذاك محببًا مألوفًا. والأمم اليوم في جماعة الدول بمنزلة الأفراد في الجماعة، فلابد للنظام الَّذي يريد أن يكون محببًا مألوفًا من أن يتيح للأمم جميعًا أوفر قسط من الحرية يتيح لها أن تتصرف على الأسلوب الَّذي يجعل الحرية وافية بحاجتها الطبيعية، فإذا لم تفعل ذلك جماعة الدول انتقضت الأمم المسلوبة حريتها ورأت ذلك النظام بغيضًا مملولا، وكرهته وكرهت أهله، وصارت حربًا على الجور والعسف حتَّى تنال حريتها وتستمتع بها طبقا لحاجتها الطبيعية. ومن أجل ذلك فيما زعموا، أنشأوا هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية. ولكن ماذا نرى من فعل جماعة الدول اليوم؟ إنها جميعًا قد أنكرت بأسلوب

يجمع بين الخسة والمكر والنفاق، أن تكون فلسطين المضطهدة أمة عربية مستقلة حرة كما تشاء الفطرة الإنسانية، وأرادوها أن تكون يهودية تفتح أبوابها لأنذال أمم الأرض، فهم يتدسسون إليها من كل حدب ومن كل فج، وهم يزمعون أن يغزوها بأجساد يهودية تتساقط من الطائرات على أرضها، وأرادوها أن تظل ساكنة هادئة مطيعة حتَّى تمتلئ جنباتها بالأنذال الذين يريدون أن يحولوها عن عربيتها إلى يهوديتهم. وهذه الأمم التي كانت، ولا تزال تتداعى وتتنادى باسم الحرية، تسمع وتبصر، فيسكت بعضها ويمالئ بعضها، ويعاضد بعضها، وتأذن جميعها للصهيونية الخبيثة أن تزرع بذورها الخبيثة في الأرض الطيبة. فإذا قامت العرب تناديهم باسم الحرية حاوروها وداوروها وتنذلوا معها بكل أساليب الخسة والخداع والنفاق، لأنهم يريدون أن لا تكون الحرية حقًا لهؤلاء العرب، ويريدون أن تكون يهود عونًا لهم على سلب هذه الحرية من العرب، ولن يبلغوا بإذن الله ما يريدون. ثم هذه مصر والسودان ظلت أكثر من خمس وستين سنة وهي تتفزع من ثقل النير المضروب عليها، فلما جاءت الساعة التي لا تطيق معها صبرًا على ضروب الذل والهوان التي لقيتها من احتلال جيوش بريطانيا، ومن احتلال شذاذ الآفاق الذين نزلوا أرضها فرتعوا في نواحيها كما يرتع السوس في الصوف في الصيف، كما يقولون، ولما جاءت الساعة وطلبت الفطرة الإنسانية في مصر حاجتها من الحرية التامة التي تتنادى بها تلك الأمم، لاذت تلك الأمم بالصمت ولجأت إلى الخداع وتلفعت بالنفاق، ويوشك أن تنكر على مصر والسودان حقوقهما في هذه الحرية العامة التي ينبغي أن تستمتع بها البشرية كلها أممًا وأفرادًا. بل أعجب من ذلك أنها لجأت إلى أدنأ الأساليب يوم أرادت تفريق كلمة المصريين بأن يوقعوا الشقاق بين أهل دينين ظلا أجيالا يتعاشر أهلهما بالمعروف. فلما سقط في أيديهم وأخفق سعيهم وحبطت أعمالهم، انحازوا إلى أسلوب آخر هو تسليط جماعة من المرتزقة يقال لهم المراسلون الصحفيون، يذيعون عنا كل خبيث بكل لسان لا يرعون حرمة ولا ذمه ولا عهدًا. وحرضوا أيضًا أعوانهم من

الأجانب الذين عاشوا في مصر طويلا أو قليلا، ليجلسوا في المجالس ويذيعوا أن بلادنا وبلاد العرب جميعًا تسيء اليوم إلى الأجانب. ويعنون بذلك أنَّه منذ جلا الإنجليز عن جزء من مصر، صار المصريون وحوشًا مفترسة تعتدى على الأجانب وتهينهم وتزدريهم قولا وفعلا. وكل ذلك يتناقله المراسلون الصحفيون من المرتزقة، ويرسلونه ليذاع في الصحف في جنبات الأرض. ونحن نعلم علم اليقين أن هذا ليس من فعل المرتزقة أنفسهم، بل هو من حث بعض الدول وإغرائها لهم بأن يقولوا هذا ويذيعوه ويتناقلوه بينهم وبين من يلقون. هذا، والأجانب أنفسهم قد عاشوا في مصر مع بريطانيا خمسًا وستين سنة، وهم يمتهنون المصريين ويسيئون إليهم في أنفسهم وأموالهم وأرضهم وعقائدهم، حتَّى ألفوا هذا النوع من الغطرسة، فلما جئنا اليوم نأباها عليهم كما تأباها بريطانيا وأمريكا وكل بلد قل شأنه أو ارتفع، تصاخبوا علينا، وراحوا يبسطون ألسنتهم وأفعالهم فينا وفي أخلاقنا وعاداتنا، فإذا أراد أحدنا أن يكفكف من شر أحدهم، انطلق يزداد صخبًا وجلبة يستصرخ الدنيا كلها على هؤلاء المتوحشين الذين يسمون المصريين. ومع ذلك فمصر منذ عشر سنوات هي مصر اليوم لم يزد ما كان يلقاه الأجانب أمس فيها من رد وقاحتهم وجرأتهم علينا، على الَّذي يلقونه اليوم من ذلك، ولكنهم سمعوا ألسنة هؤلاء المرتزقة تذيع عنا الأباطيل، فانطلقوا يتصايحون علينا كأننا صادرنا أموالهم وأجليناهم عن بيوتهم، ونصبنا لهم المشانق، وأعملنا فيهم استئصال الشأفة كما كان يفعل طاغية ألمانيا باليهود! ! ثم تأتي المرتزقة من المراسلين فتزعم أن بلادنا قد أصبحت متطرفة في الحماسة للحرية، وأن كلمة "مصر للمصريين" قد أصبحت أهم كلمة في مصر، ويقوم صعلوك منهم يقول: "ولذلك لا يعجب المرء كثيرًا حينما يراهم (يعني المصريين) قد ضلوا الطريق! ولكننا نعجب حينما نتساءل: إلى متى سوف يستمرون في اندفاعهم الَّذي لا يكبح جماحه من أجل الحرية؟ ". ونحن نأسف لأن الشعب المصري لا يزال هادئًا صابرًا على كل هذه الوقاحة

التي يصبهَا علينا مرتزق بين ظهرانينا، ونأسف لأن حكومتنا المصرية لا تزال هادئة صابرة، بل مجاملة أشد المجاملة لهذا النوع من المرتزقة. وكان خليقًا بأية حكومة في الدنيا -لا حكومة مصر- أن تعرف أولئك الذين أذاعوا أنباء غير صحيحة في طائفة من المسائل التي تتعلق بمصر، وأن تقول لهم إنكم كذبتم، فإما أن تكفوا عن إذاعة هذه الأكاذيب، وإما أن تغادروا بلادي. ثم ترفع كل الأدلة التي تفضح كذب هؤلاء الكذابين من المرتزقة إلى حكوماتهم، وأن تبرئ ذمتها من دخيل لا يرعى أدبًا ولا خلقًا، ولا يعرف قدره ولا أقدار الناس! إننا نطلب الحرية وسننالها، وسنكون أحرارًا في بلادنا نسوسها بالسياسة التي نرتضيها لأنفسنا. ونحن لن نرضى لأنفسنا إلا الإنصاف، ننصف أنفسنا، وننصف من يعاشرنا من الأجانب. ولكن إذا ظن الأجانب أن هذا الإنصاف الَّذي لهم ينبغي أن يكون على ما تعودوه منذ خمس وستين سنة، من امتهان المصريين ومن الغطرسة عليهم، ومن بقائهم طبقة واحدة ترى أنها أنبل منا، وأشرف منا، وأحسن عقلا منا، وأولى بثروتنا منا، وأحرى بالامتياز من كل مصري يعيش على أرض مصر -فيومئذ سوف ننصفهم أيضًا، ولكن بما نرضى به نحن غضبوا أو رضوا، وضجوا أو سكتوا. أما الدول التي تتنادى باسم الحرية، والتي تنكر على مصر والسودان، وعلى فلسطين، وعلى العراق، وعلى بلاد المغرب كلها -أن تكون أممًا حرة، فلتفعل ما تشاء، لأن هذه العرب لن تهادن إلَّا مَن يهادنها ولن تجامل إلا من يجاملها، ولن تعاون إلا من يعاونها، ولن تمد يدها إلا إلى من يمد لها يدًا نقية من الغدر والفتك والنفاق. الحرية حق طبيعي، فنحن بالغوه ومدركوه شاءت الأمم أم أبت. والقوة الدافعة إلى طلب الحرية غريزة فطرية، فنحن خاضعون لها حتَّى تحقق غايتها شاءت هذه الأمم أم أبت. والإنصاف طبيعة فينا، فنحن سننصف أنفسنا وننصف من يعاشرنا، رضى بذلك من رضى وكرهه من كره. وهذا كله شيء ليس لنا فيه خيار، لأننا كدنا نموت ونريد أن نحيا. ونحن نتعلق في حياتنا هذه كالجائع

المشرف على الهلاك حين يتعلق بكسرة خبز ورشفة ماء، هي الحرية، وأما هم فيريدون أن يتأنقوا ويتنبلوا ويتفاصحوا باسم الحرية التي يريدون بها حريتهم هم مقرونة بالاعتداء على سواهم من الشعوب المتعلقة بالحرية أمثالنا نحن. وسوف يأتي على الناس يوم وتظهر العرب، وتعلم هذه الأمم كيف تكون الحرية، ثم تقودها إلى هذه الحرية مرغمة كما يُقاد الجمل.

قضى الأمر. . .

قضى الأمر. . . قضى الأمر، وانتهت الحكومة القائمة عن ترددها، وألفت الوفد الَّذي سيذهب إلى مجلس الأمن ليعرض موضوع الخلاف الَّذي بيننا وبين بريطانيا. وعن قليل سيسمع العالم كله لقضية مصر والسودان، ويصغى إلى حجتنا التي ستلقى إليه، وإلى حجج بريطانيا في دفاعها عن الَّذي تدعيه. ولو كان الأمر أمر عدل وإنصاف وبعد عن التحيز وأنفة من الظلم، لما بالينا أن ندعو حكومتنا أو شعبنا إلى خطة سوى عرض القضية كما هي، بلا حاجة إلى تتبع سوءات بريطانيا وعورات أفعالها. ولكن لا عدل ولا إنصاف، بل هو التحيز والظلم. هذا ما ينبغي أن نتوقعه بعد الَّذي كان من موقف الأمم الغربية والأمة الروسية من أعظم قضايا الشرق وأوضحها برهانا وأبينها حجة، أعنى قضية فلسطين. ولسنا نقول هذا تثبيطًا لوفدنا أو لشعبنا؛ كلا فإن القضية المصرية السودانية قضية للجهاد لا للسياسة. فلنفرض أن الأمم ظلمتنا وتحيزت لبريطانيا فجارت علينا وضلعت (¬1) معها فلن يضيرنا ذلك، بل هو الداعي الأعظم إلى الاستماتة في الجهاد إلى أن ننال حقنا غير منقوص ولا مهتضم. ولكن هذا الأمر المخوف أو المتوقع يوجب علينا أشياء لا مناص لنا من المحافظة عليها والحرص على أدائها. فقد كان من سياسة بريطانيا قديمًا أن تمزق وحدة هذا الشعب وتوقع بين أبنائه العداوة والبغضاء وقد فعلت، فصارت أحزابنا أحزابًا تسيِّرها شهوات رجال يتطلعون إلى مناصب الحكم كما يتطلع الظمآن إلى الماء أو سراب الماء وكان من سياستها أن تلاين وتساير حتَّى يصبح السودان شيئًا قائمًا بذاته أو كالقائم بذاته، ففعلت. وكان من سياستها أن تغرى شهوات قوم من أهل السودان بالحكم ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 726)، يونيو 1947، ص: 608 - 609 (¬1) ضلعت معها: مالأتها وساندتها.

أو السلطان، ففعلت، وانقسمت فئة من أبنائه مضللين بوعود كاذبة لن تتحقق، وخرجت عن بقية الشعب مؤزرة بالمال ففجرت ومردت، وبريطانيا من ورائهم تنفخ في نيرانهم حتَّى يأتي اليوم الَّذي يجعلونهم فيه حربًا على بلادهم وهم يظنون أنهم يعملون لخيرها وفلاحها. تم ذلك كله لبريطانيا، ولكننا مع ذلك لا نبالي به قليلا ولا كثيرًا، لأننا نعلم أن هذا الشعب المصري السوداني شعب كريم ذكي الفؤاد، تجتمع قلوبه عند المحنة يدًا واحدة على عدوه الباغي إليه الغوائل. بيد أننا الآن في ساعة غير التي كانت بالأمس، فالقضية المصرية السودانية سترفع عن قليل إلى مجلس الأمن، أي مجموعة من الدول لبريطانيا عليها فضل، أو لها عليها تأثير. والزمن الَّذي ستعرض فيه لن يطول كما كانت تطول سياسة بريطانيا. وإذن فقد أصبح واجبنا نحن أن نتآزر ونتداعى ولا ندع هذه الفرصة تفلت منا ونحن عنها غافلون. ليكن الوفد الذاهب إلى مجلس الأمن وفدًا لم تجتمع له الصفات التي تنبغي أن تجتمع لوفد مصر، وليكن رئيس الحكومة الَّذي سيرأس الوفد رجلا غير الَّذي كانت ترجوه بعض الأحزاب، وليكن أعضاء الوفد رجالا غير الذين كنا نتوقع أن يكونوا -ليكن كل ذلك، ولكن أليسوا مصريين سودانيين يجاهدون ما استطاعوا في سبيل حق مصر والسودان في الحياة الحرة التي تنبغي أن تكفل لكل حي ولكل أمة؟ أليسوا رجالا منا قد انبروا للمحاماة عنا في مجلس يخشى أن يكون أقرب إلى عداوتنا منه إلى صداقتنا؟ أليس مطلبهم هو مطلب مخالفيهم من سائر الأحزاب فيما يخص قضية مصر والسودان؟ بلى، وما أظن أحدًا من مخالفيهم يستطيع أن يقول خلاف هذا أو يدعي نقيضه. وهذا المجلس الَّذي هو أقرب إلى العداوة منه إلى الصداقة لن يفرق بين مصري نختلف عليه أو مصري نتفق عليه. وبريطانيا لن تكون أقل عنفًا ولجاجة إذا كان الَّذي يرتفع بالقضية إلى مجلس الأمن إنسانًا اتفق المصريون والسودانيون عليه، لأنها تريد بكل ما تبذله أن تأكل حق هذا الوادي وتحيف على مستقبله، لا تبالى بما يسمى أقلية أو بما يسمى أكثرية. وإذن فالعقل قاض علينا بأن نلقاها

ونلقى مجلس الأمن يدًا واحدة وعلى قلب رجل واحد أيًّا كان هذا الرجل. ونحن نعلم أن هذه دعوة قد كثر الداعوان إليها فباءوا بالخيبة مرة بعد مرة، ولكن كان العذر عندئذ قائمًا، فإن الحكومة لم تكن قد ارتفعت إلى مجلس الأمن بعد، وكان هناك مجال لشهوات الأحزاب أن ينال أحدها فضل التقدم للدفاع عن حقوق مصر والسودان. أما الآن فقد قضى الأمر، فمصر والسودان تطالب أحزابها بحقها عليها، فإذا أحجم أحدها، أو أحد رجالها، عن الَّذي تقضيه عليه حقوق الوطن، فذلك "خائن"، خائن بالمعنى الصريح التام الشامل الَّذي تنطوى عليه هذه الكلمة. وكلمة الخيانة كلمة عظيمة نأنف أن يتصف بمعناها مصري سوداني لأنها تصم صاحبها بأنذل ما يكون في طبيعة البشر، وهي جريمة لا تغتفر، وجزاؤها جزاء لا يحد. ولا نظن أحدًا أحب أن يعرض نفسه لها راضيًا عامدًا قط، بل الظن أنَّه إنما يخطئ وجه الصواب فيقع في أقبح العيب ويخوض في أشنع العار. وقد جاءت الساعة التي توجب على كل مصري سوداني أن يقف ساعة ساكنًا هادئا مفكرًا متورعًا خشية أن يقع في هذه الخطيئة أو يلم بهذا الإثم، وأن يحرر نفسه لحظة من شهواتها الجامحة، وينفض عن قلبه غبار أعوام من الأحقاد الحزبية والسخائم الوزارية، ليتطهر لوطنه ولبلاده، وليستهدى بهدى الوطن في ساعة المحنة. إنها أعظم خطيئة يقارفها مصري سوداني منذ اليوم، لأنها خذلان لوطنه في ساعة يرى فيها الأعداء يتناهشونه من كل مكان، ويريدونه بالشر من كل ناحية، ويكيدون له أخبث الكيد في كل أرض. ولن يضير أحدًا أن يكون له رأي يخالف هؤلاء الرجال الذاهبين إلى مجلس الأمن في شئون لا علاقة لها بمجلس الأمن، فيدع عناد الرأي إلى مناصرة الحق -بل إلى مناصرة وادي النيل في حقه الطبيعي الَّذي لا يعرف الرجال وآراءهم وسياساتهم، بل يعرف حقه على أبنائه من أي رأي كانوا، وفي أي زمن ولدوا، وعلى أي دين نشأوا. أقول هذا وأنا غير يائس من أن تجتمع كلمة هؤلاء المختلفين على هذا الحق البيِّن الَّذي لا ينازع فيه عاقل.

وأنا أدعو "الكتَّاب" الذين أنتسب إليهم بهذا القلم، أن يجتمعوا على رأي واحد، ويقوموا مرة واحدة لدعوة الشعب إلى الطريق الحق، وأن يبرئوا أقلامهم من الأحقاد الصغيرة التي أنشأتها بينها بريطانيا يوم مزقتنا أحزابًا، ليملأوها بالحقد الأعظم على العدو الأعظم الَّذي لم يدع لنا عرضًا إلا هتكه، ولا فضيلة إلا لوَّثها، ولا كرامة إلا تهجم عليها بالتحقير والتشنيع. وإنما أوجه دعوتي إلى الكتَّاب، لأنهم هم أصحاب الرأي الأول، وهم بناة الأمم، وهم حياة الشعب، وهم القوة التي تؤازر الضعيف حتَّى ينال حقه، وتلطم الجبار حتَّى يدع الحق لأهله. إن التبعة الملقاة على كواهل الكتَّاب، هي أعظم تبعة ألقيت على مصري سوداني في هذه الساعة، فهي أعظم من تبعة الوفد الذاهب إلى مجلس الأمن، لأنه بدونها لا يستطيع أن يواجه هذه الأمم مواجهة النِّد للنِّد، ومواجهة صاحب الحق لظالمه، ومواجهة المؤمن بقضيته للكافر بهذه القضية. ولو فعل الكتَّاب ما يوجبه عليهم حق مصر، فلن يستطيع مخالف أيَا كان أن يفتَّ في عضُد الذاهبين بقضيتنا إلى مجلس الأمن، وليس اليوم يوم لهو ولا لعب ولا شهوات، بل هو يوم الجد والصبر والزهد، وظنّي بالكتَّاب أنهم أسرع الناس إلى معرفة مفصل الصواب في كل أمر، فلن يخطئوا أن يعرفوا ذلك وثرى مصر والسودان يهمس لهم داعيًّا مؤلبًا حافزًا على العمل لتحرير بلادهم من نير العبودية. وأنا مؤمن بأننا سننال حقوقنا كلها كاملة، شاء مجلس الأمن أم أبى، وبأننا صائرون إلى ساعة تجتمع فيها القلوب المصرية السودانية على كلمة واحدة، شاء رؤساء أحزابنا أم أبوا، وبأن المستقبل قد بانت لنا معالمه، فإن عميت عنه عيون قد تقادم عليها الزمن فخبأ ضوؤها، ففي الوادي عيون ناظرة مبصرة لم تطمس نورها حزازات الماضي ولا شهوات الحكم، وأنهم هم الذين سيحكمون على الرجال حكما لن يرد، إنهم مصر والسودان أيها الساسة، فاحذروا مصر والسودان وأحكامها عليكم، فمن وضعته فهو الموضوع إلى يوم الفصل، ومن رفعته فهو المرفوع إلى آخر الدهر!

أسد إفريقية

أسد إفريقية إلى أسد إفريقية الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي. السلام عيك أيها الأمير ورحمة الله وبعد: ملأت فضائلك البلاد، ونقبت ... في الأرض، يقذفها الخبير إلى العَمِى فكأن مجدك بارق في مزنة ... قِبَل العيون، وغرة في أدهم (¬1) واليوم مُقْذٍ للعيون بنقْعِه (¬2) ... لا يهتدى فيه البنان إلى الفم لم يبق غير شفافة من شمسه ... كمضيق وجه الفارس المتلثم فأنت، أبقاك الله ومتعك بالعافية، قد كنت في تاريخ العرب الحديث نفحة علوية من مجد آبائنا الغر الميامين، وكنت في ضمير كل عربي صدى للأمانى البعيدة التي لا تزال ترددها دماؤنا في أبداننا العربية الحية، وكنت قبسًا من فضائل أسلافنا يحدث عن نفسه بلسان عربي مبين، وكنت برهانًا جديدًا لأهل البغي على أن العربي لا يذل أبدًا ولا ينام على الضيم يراد به. ثم كتب الله لك بعد عشرين سنة من الأسر أن تعود كما كنت عربيا حرًّا حَمِىَّ الأنف ذكى الفؤاد، تأنف لأمتك وعشيرتك أن يروا ميسم ذلهم وهوانهم على جبين أكرمه الله بالنصر مرة، وامتحنه بالأسر تارة أخرى. فعش في حمى مصر أيها الرجل أميرًا على ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 728)، يوليو 1947، ص: 663 - 665 (¬1) المُزْنَة: السحابة البيضاء المحملة بالماء. الغُرَّة: بياض في جبهة الفَرَس. الأدهم: الأسود. (¬2) النَّقع: الغبار، وأكثر ما يستعمل في الغبار الَّذي يُثار في المعارك.

قلوب مليون نسمة من العرب وأربعمئة مليون من المسلمين، وجزاك الله عما قدمت للعرب أكرم جزاء وأوفاه. كُنْتُ يومئذ في العقد الثاني من عمري شابًا ينبض بين جنبيه قلب يتلفت إلى مجد آبائه ويحن إلى تاريخهم حنينًا طويلا كأنه لوعة ثكلى على وحيدها، وكانت مصر كلها لا تزال ترسل الصرخة إثر الصرخة طالبة أن تنال في الحياة حريتها التي استلبها البغاة الطغاة شياطين الأرض، وكانت الدماء في أبداننا تريد أن تطفي ظمأ الأرض المصرية بما يجرى على ظهرها من دماء الشهداء حتَّى تمحوا عار الاحتلال عن هذه الأرض المطهرة، ولكن زعماءنا أبوا إلا السلم وطمعوا أن ننال حقنا بالمفاوضة، أي بخديعة الغاصب حتَّى ينخدع لنا فيترك لنا ما سلب. ثم أصبحنا يومًا فإذا بنا نسمع عن "أسد الريف" الَّذي هب من غابه ونفض نواحيه وزمجر واجتمع للوثبة، وإذا هو يضرب يمينًا وشمالا لا يدع للأسبان متنفسًا حتَّى اضطرهم إلى أقبح مواطن الذل تحت قدميه، وأوردهم شرائع العار شَلًّا (¬1) وطردًا حتَّى سجدت له تلك الجباه المتغطرسة في حمأة من الضراعة والذل. كانوا يريدون أن يسوموا أهل مراكش أن يسجدوا لهم في مثلها، فأبيت إلا أن تعرفهم أقدارهم تحت هاتين القدمين الطاهرتين النبيلتين، فأتم لك الله النصر عليهم كما شاء. ثم أراد الله أن يعرفنا ويعرفك أن أنذل من النذل ناصره على نذالته، فهبت إليك تلك الدولة الأخرى المعروفة باسم فرنسا، وهي يومئذ ثانية أمم الأرض فألبت عليك جيوشها وجحافلها "وبيتانها" (¬2)؛ وفزعوا إلى نصرة الأسبان المهزومين، وظلوا يستجيشون عليك، أنت الضعيف الفرد، كل ما آتاهم الله من بسطة في العلم وقوة في البأس، حتَّى غلبوك على أمرك، ثم خدعوك، ثم غدروا بك، ثم نفوك على عادتهم من فساد الطوية وحقارة الفعل. فأصبح كل عربي ¬

_ (¬1) الشَّلّ: السَّوْق العنيف الشديد. (¬2) بيتان: مرشال فرنسي مشهور، كان قائد جيوش فرنسا، ثم استسلم لجيوش المحور، وكوَّن حكومة فيشي.

على ظهر الأرض يحس أنَّه الأسير المنفي المغدور به، وانطوت قلوبنا على بغض لا ينام لهذه الأمم التي لا شرف لها ولا ذمة ولا عهد. ثم تقضت الأعوام وشارفتُ الأربعين، وإذا أنت حر طليق في أرضي وبلادي، فما كدت أسمع ذلك حتَّى انطوت أيامى وعدت كما كنت في نحو العشرين، شابًّا يحس دماءه تغلي لهذا النبأ كأنني انطلقت من الأسْر وخرجت من المنفي لأعيش حرًّا طليقًا كما تعيش أنت اليوم في مصر. ومصر هي أم المروءات، فإن ساء ذلك فرنسا أمَّ الغدر والخيانة، فإننا لن نفارق أخلاقنا وأخلاق آبائنا لكي نعينها على آثامها ومساوئها، بل سنرد عليها بغيها مهما لقينا في ذلك من سوء أخلاقها وقبح فعالها. ونحن لا نعلم علمًا يقينا ماذا فعلت بك هذه الأمة الحريصة على ابتذال عرضها بين الأمم، أيام كنت في مَنْفاها، ولكن كفانا طول الاستقصاء أن نعلم أنها حرمت على تلك الألسنة العربية الصغيرة في أبنائك أن تعرف منطق آبائها وأسلافها، فقد اضطرتها بجبروتها وقسوتها أن تتجافي عن الكلمة العربية التي تمثل للعربي أمجاد أمته في ألفاظ من نور هذه اللغة الشريفة. وسيقولون إنك أنت الَّذي أردت لأبنائك أن ينشأوا على ذلك اللسان الفرنسي، ولكن كذبوا فما من عربي يطيق أن يدع أبناءه الأحرار في أسر لغة أخرى غير اللغة الحرة التي عاش عليها آباؤهم وأجدادهم. ولست أشك في أنهم قد اتخذوا لذلك كل وسيلة حتَّى لم يدعوا لك حيلة تدفع بها عن قلبك حسرة الأب العربي وهو يرى أبناءه ينشأون غرباء عن لسان أمهاتهم اللائى أرضعنهم بدَرّ عربي حر آبٍ للضيم طالب للعزة والشرف والنبل. وقد أراد الله غير ما أرادوا، فها أنت اليوم بين أهلك وعشيرتك من أهل مصر، وهؤلاء أبناؤك هم أهلنا وإخوتنا، وهذه مصر بلادهم لهم فيها ما لنا، فعن قليل يهدم اللسان العربي ذلك اللسان الفرنسي، ويرتد العربي عربيًّا كما أراد الله له أن يكون، كما ردك الله حرًّا كما أراد لك أن تكون. وأما فرنسا فقد رد الله غيظها في صدرها حتَّى يأكل منها ما بقي مما تستطيل به على الناس. لا تأس أيها الرجل على ما فات، فإن في الَّذي لقيه الناس من بعدك لعزاء لك

عما لقيت في منفاك، وإن الَّذي أنت فيه اليوم لهو نعمة مَنَّ الله بها عليك لتحمل مرة أخرى سيف الجهاد في سبيل أمته التي أنزلت بها فرنسا من بطشها ومظالمها ما لا قبل لأحد بالصبر على مثله. وقد ردك الله إليها لترى رأي العين ماذا فعل بعدك هؤلاء القوم بقومك، ولتشهد مصارع الأحرار من أنصارك، ولتملأ قلبك من القوة التي تفل الحديد وتنسف الجبال وتجتاح الجيوش - قوة الإيمان بالله الَّذي لا يخذل من نصره ونصر أولياءه بالحق في يوم الجهاد. إن فرنسا لم تدع في تونس والجزائر ومراكش مكانًا إلا نفثت فيه من سمها، أو ضربت فيه بإبرتها (¬1)، أو تدسست إليه بغدرها وجهالتها. إنها أمة لم ترع ذمة للإنسانية ولا للمروءة ولا للشرف ولا لشيء مما يصير به الإنسان حيًّا متميزًا من سائر الوحوش والضوارى -أمة تفتري على الناس افتراء مقيتًا ثم تتبجح على الناس باسم الحرية والإخاء والمساواة، أمة من الأذلاء لم يكد الغازى يغزو بلادها في الحرب الماضية حتَّى ألقت سلاحها وسجدت على مواطئ قدميه تمسح عنهما غبار الغزو ضارعة متذللة، أمة لم تأنف آلاف مؤلفة من أبنائها أن تطلب التجنس بالجنسية الألمانية يوم أصابتها هزيمة واحدة في أول حرب تهزم فيها، ولم تستنكف نساؤها أن تفتح الأغلاق للغزاة غير متورعات ولا كريمات. إننا أيها الأمير نبغض هذه الأمة كأشد ما يبغضها دمك الَّذي يجرى في عروقك، لأننا إخوة جمعتنا رحم واحدة هي العروبة؛ ونحن لا نخصها وحدها بهذا البغض، بل نبغض كل أمة على غرارها قد استحلت مرعى البطش واستطابت ثمار البغي والعدوان. فنحن العرب لم نولد لنعيش، بل ولدنا لنعيش أحرارًا في الدنيا، ولنعلم أهل الدنيا معنى الحرية، وكيف تكون الحرية. ولئن قعد بنا اليوم عجز عن تعليم هذه الناس، فعن قريب سوف يأذن الله لنا بأن نأخذ بالأسباب التي تتيح لنا أن نعلمهم ما خلقنا من أجله، وعن قريب تنقشع عن عيون كثيرة ضلالات كثيرة أوهمتها أن العرب أمة متخلفة قد نفض الزمن منها يديه فصارت كَلًّا وعالة على أهل الأرض. ¬

_ (¬1) وكذلك تفعل العقارب، فسُمّها في إبرتها.

إِن العربي من أمثالك هو الَّذي سيشهد تراب هذه الأرض في يوم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا أن فضائل البشرية كلها لم تزل حية على فطرتها الأولى في هذه القلوب الزكية المطهرة، قلوب العرب، وأن العالم سيكون أسرع تقبلا للمعاني العربية في الحرية والإخاء والمساواة من تقبله لتلك المعاني الفرنسية التي تلفعت بالجشع واللؤم والغدر والخداع، وأن العربي هو وحده الَّذي يستطيع أن يحقق على هذه الأرض معنى الحرية والإخاء والمساواة لأنه حر بالفطرة لم يألف ذلًا قط، ولأنه أخ لمن آخاه لأنه لا يعرف الغدر، ولأن الناس عنده سواء لأنه لا يفتات على أحد ولا يفترى على سواه من الناس. وأنت أيها الأمير سيف من سيوف الله، ونحن جند من جنود الله فعش بيننا سيفا مصلتًا مسلولا على أعناق البغاة والطغاة والظلمة، حتَّى يأتي اليوم الَّذي كتب الله لك أن تكون فيه ذبحًا لعدونا وعدوك ونصرًا لأمتنا وأمتك، ومخرجًا لبلادنا وبلادك من ظلمات الأسر إلى نور الحرية. والسلام عليك ورحمة الله

شعب واحد، وقضية واحدة!

شعب واحد، وقضية واحدة! يقول العربي الأول: وحولي من هذا الأنام عصابة ... توددها يخفي، وأضغانها تبدو فما العيش إلا أن تصاحب فتية ... طواعن، لا يعنيهم النحس والسعد إذا عربي لم يكن مثل سيفه ... مضاء على الأعداء أنكره الجد يضارب حتَّى ما لصارمه قوى ... ويطعن حتَّى ما لذابله جهد (¬1) فهذا العربي الَّذي اكتنفته عصابة شر أخرجت له أضغانها، قد كاد يمثل لنا أمر العرب كلهم في أيام الناس هذه. فما من أمة من الأمم الغربية وأشباهها إلا أحاطت بنا عداوتها من كل جانب، تسر ذلك حينًا وتستعلن به أحيانًا كثيرة. وليتها رأت ذلك حسبها من وغر الصدور، بل جاوزت ذلك إلى الاستخفاف بمئة مليون من الناس خلق الله، تنظر إليهم كما ينظر السيد إلى عبده ورقيقه، وتعاملهم كما تعامل المرأة الطاغية أمَة جعلها الله تحت يدها، فهي تسومها الخسف كأشد ما يبغي الضعيف حين يستمكن له سلطان وبطش وقد مضت العبر بأن هؤلاء القوم لا يكادون يفهمون إلا اضطرارًا، وبالقهر والغلبة، كما لم يفهم السادة يوم استبدوا أن الرقيق لن يصبروا طويلا على الذل، حتَّى جاء اليوم الَّذي حمل الرقيق على المركب الوعر فثاروا واستنقذوا حريتهم قوة واقتدارًا. وكذلك نحن لن نبلغ شيئًا في إفهام أولئك القوم أن عملهم سئ العاقبة، مهما توصلنا إلى إفهامهم بالدعاية والمناشدة، بل لن نبلغ شيئًا إلا يوم يستوي لدينا بحق معنى الموت ومعنى الحياة الحرة، فضلا عن معنى الموت ومعنى الحياة الذليلة. فمن العبث إذن أن ندعو هؤلاء القوم إلى سواء بيننا وبينهم، لأن القوة قد ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 730)، يونيو 1947، ص: 722 - 724 (¬1) الذابل: الرمح الأسمر الصلب.

أسكرتهم فأطاشت حلومهم، وتركتهم لا يدركون إلّا ذلك المعنى الخسيس للحياة، معنى الفائدة العاجلة بغير نظر إلى عدل وَلا نصفة. وهم قوم تقوم حضارتهم على تزييف الشرور حتى تبدو في صورة الخير، وتدليس شريعة الوحش حتى ترى شريعة إنسان أنعم الله عليه بالعقل والعاطفة ليوازن بينهما موازنة تجلب عليه السعادة في الدارين. ومن العبث أن تحتال عليهم بما يسمونه "السياسة"، فالقوى وحده هو الذي يعرف كيف يستفيد من "السياسة" أما الضعيف فاعتماده على السياسة وبال مستطير الشر، يهدمه ويصرعه، ويمكن لعدوه أن يفترس منه حيث شاء وكيف شاء. فلا مجاز لنا نحن العرب إلا أن نعرف أنفسنا، وأن ندرك حقيقة حياتنا؛ وأن نؤمن بأن القوى لا ينال بقوته بل باستسلامنا، وأنه لا يحيف علينا ببطشه بل بتهاوننا واستصغارنا لشأن أنفسنا؛ وأن أجهل الجهل أن يظن ظان أن مئة مليون من خلق الله يمكن أن يفنوا على بكرة أبيهم بسطوة ساط أو بغي باغ، وأنهم هباء لا يزن في ميزان القوة جناح بعوضة، وأنهم غنم مسيرون يُهاهِى (¬1) بهم راع عنيف تسوقهم عصاه إلى حيث أراد. نعم لا معدى اليوم لكل عربي من أن يحس في قلبه مؤمنًا بما يحس، أنه خُلِقَ لعصيان أمر الرعاة الطغاة، وأنه مأمور من عند مَن خَلَقَه أن يثبت في مكانه لا يطيع عصا الراعى ولا زمجرته ولا زئيره ولا إرهابه، وأنه مكلف يحمل أمانة من لدن دبت على الأرض قدم عربية، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من عجم ومن عرب. فالعربي اليوم هو أعظم الناس حملا للتكليف، لأنه يحمل وزر ما هو فيه من ضعف ينبغي أن ينفض عن نفسه آصاره (¬2)، ويحمل حق أجيال مقبلة توجب عليه أن يعمل ويمهد لها في هذه الأرض، ويحمل أيضًا أمانة آباء وأجداد وأسلاف مهدوا له هذه الدنيا التي يسكنها من أطراف الهند إلى أقصى مراكش، ومن حدود تركيا إلى أقصى السودان. هذا، وهو يعيش في عالم عدوّ له قد قبض ¬

_ (¬1) يُهاهِى: يَزْجُر. (¬2) الآصار: جمع إِصْر، وهو الثَّقَل الذي يُعْجز الإنسان فلا يستطيع حِراكا.

على زمام الكون، واستولى على عناصر القوة، ونال أسباب السماء وأطاعته نواحي الأرض، فأي تكليف أشق من التكليف الذي يحمله هذا النبيل المسكين الذي يعيش في الدنيا مشردًا مضطهدًا مجهولا مهضوم الحق يوميًا بملفقات العيوب؟ وأول ما يجب على هذا العربي منذ اليوم أن يضع بين يديه صورة أرضه التي توارثها عن آبائه بالحق الذي لا ينازعه فيه منازع إلا مستطيلا أو متهجمًا: أرض تبلغ مساحتها مساحة قارتين من قارات الدنيا، ثم يقول لنفسه: هل يستطيع أحد أن يبيدني ويبيد أهلى وعشيرتى ويستأثر بهذه الأرض يفلحها أو يعمرها أو يقيم فيها للإنسانية حضارة أو دولة؟ وهل يستطيع أحد أن يقسرنى قسرًا على ما لا أريد أن أفعله مما يحب هو أن يتم له؟ وهل يستطيع أحد أن يأخذ قلبي من بين جنبى ليصرفه في هواه كما يشتهي أو يريد؟ وجواب ذلك كله "كلا! " ولا ريب. ففيم إذن أخدم نفسي لمن لا يريد إلا إذلالي، والفتَّ في عضدى، وأكل أرضى وما أنبتت من نبات وحيوان وإنسان؟ فهذا شأن الفرد الواحد، فما ظنك إذن بمئة مليون يكونون على قلب هذا الفرد الواحد، يدًا واحدة، ورأيًا واحدًا، وعملا واحدًا، وإصرارًا على أن لا ينازعنا أحد في حق نحن أصحابه وحماته والمكلفون بحياطته ورد العادية عنه؟ فإذا آمن العربي بهذه العقيدة التي لا مناص له عن الإيمان بها، فهل يدور في وهمك أن أحدًا يجرؤ على غصب العرب على ما لا يريدون، أو حملهم على شيء يصرون إصرارًا على أن لا يقبلوه؟ إن قضية العرب قضية واضحة بينة المعالم: هي أننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعًا مستقلة حرة، لا يحتل عراقها جندي واحد، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطاني أو غير بريطانى، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب، ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي خبيث القول والفعل مجنون الإرادة. وهذا كله شيء لا يملك كائن من كان أن يجبرنا على خلافه أو على الرضى به. ونحن العرب قد أصبحنا دولا لكل دولة منا سياسة يخشى أن تكون ناظرة إلى

استجلاب منفعة خاصة ببلد دون بلد، ويخشى أن تكون كلمتنا في قضية العرب لا تزال محصورة في دائرة أصحاب الأقلام دون أصحاب الحكم والسلطان، ويخشى أن تكون أعمالنا مفرقة لا تجتمع إلى نهاية واحدة في وقت واحد. وإذن فلابد منذ اليوم أن نسن لأنفسنا سياسة جديدة في كل شأن من شئون العرب، تجتمع بها كلمتنا وأهدافنا وأعمالنا حتى تبلغ الغاية جملة واحدة، ويدًا واحدة وفي وقت واحد. وينبغي أن لا نرضى منذ اليوم أن تفرق قضية العرب وتجعلها قضايا ممزقة: هذه قضية مصر والسودان، وتلك قضية فلسطين، والأخرى قضية طرابلس وبرقة، والرابعة قضية تونس، والخامسة قضية الجزائر، والسادسة قضية مراكش، والسابعة قضية العراق .. بل إن هذه القضايا كلها قضية واحدة لا تنفك منها واحدة عن أختها أبدًا. والعمل لهذه القضية الواحدة ينتظم أفراد العرب، من ملوك إلى وزراء إلى ساسة إلى أصحاب الأعمال إلى جماعات المثقفين إلى عامة الناس، ويحمل عبئها كتاب العربية لأنهم هم اللسان الناطق بما يعتلج في صدور هذه الفئات كلها، وهم المسددون لخطوات الشعب، وهم بناة المبادئ، والمدافعون عنها والداعون إليها، وهم الذين يحملون الحكومات العربية على انتهاج خطة واحدة، وعلى الإيمان بمبدأ واحد، وعلى الوقوف في ساعة العسرة موقفًا لا ترتد عنه قيد أنملة لإيمانها بأن العرب قوة لا تلين لغامز (¬1)، وبأنهم أهل أرض تقع في قلب العالم لا يطيق معتد أن ينال منها نيلا، إذا ثبتت له كعادة آبائهم وأجدادهم في الدفاع عن الحوزة والحمى. ونحن العرب نجهل اليوم أننا قوة كأقوى ما في هذه الأرض، يجهل ذلك أفرادنا متفرقين. وتجهله حكوماتنا موزعة الأهواء والأهداف، ويجهله ساستنا بما كتب الله عليهم من محنة هذه السياسة. فنحن اليوم أحوج ما كنا وما نكون إلى معرفة حقيقة هذه القوة، وإلى إدراك ما تقتضيه هذه القوة أيضًا. ¬

_ (¬1) الغامز: غَمَز العُود: جَسَّه، لكي ينظر أين يلينه ويقيمه.

فالرجل الذي يعرف أنه قوى ينبغي أن يجعل قوته عملا ظاهرًا لا يرتد مخافة إرهاب أو نكبة أو شر يلاقيه. فإذا شاء رجال العرب وأماثلهم أن يصبحوا في تاريخ العرب مجدًا لا ينكسف ضوؤه أبد الآبدين، فليستلهموا تاريخ أسلافهم الذين خرجوا من أرضهم وديارهم شعثًا غبرًا جياعًا، ولكنهم خرجوا أيضًا مؤمنين بأن كلمة الله هي العليا، وأن حقهم، وإن قل ناصره، أقوى من باطل سواهم وإن كثر أعوانه والعاملون له. وعليهم أن يزأروا زئير الأسد في غابه، حتى يستيقظ النائم، ويتأهب الأعزل، ويجتمع المتفرق، وعليهم أن يحاصروا عدوهم بالمدافعة عن حقهم، قبل أن يحاصرهم بالتهجم على حقوقهم، وعليهم أن يعلموا علم اليقين أن العربي حين يمد يده إلى سيفه، فهو يمدها إلى قوة زاخرة لا تزال تنحدر إليه منذ آلاف السنين بمدد لا ينضب من العزة والشرف والمجد الذي تناله يد المتطاول. إننا قوة لن يتجاهلها أحد مهما بلغت قوته إلا كنا شجى في حلقه، لا مجازًا وبلاغة، بل هي الحقيقة المجردة عن كل مبالغة. * * * إننا قوة سوف تجبر بريطانيا وروسيا وأمريكا وسائر أمم الغرب على أن تعرف أن العرب، قد أفاقوا في العصر، وأنهم قد عزموا على أن ينالوا حقهم أو أن ينتزعوه انتزاعًا من كل من تسول له نفسه أن يهتضم حقوق الناس ويأكل أموالهم ويعيث في بلادهم فسادَا وطغيانا وشرًّا. إننا نحن العرب أمة واحدة في دول متعددة، وسنكون أمة واحدة تحمى حقوق الضعفاء من أي الناس كانوا. إننا نحن العرب أمة قوية وإن ظن الناس بنا الضعف، ونحن أصحاب هذه الرقعة من الأرض، سوف تكون خالصة لنا دون الناس لا تشاركنا فيها دولة بريطانية؛ أو دولة صهيونية أو دولة فرنسية. وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضى بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلعب بها هذا ويلهو بها ذاك، إنها قضية واحدة، يرفعها شعب واحد، مطالبًا بحق واحد، هو أننا أحرار في بلادنا.

هذه بلادنا

هذه بلادنا هذه بلادنا: العراق، وسورية، ولبنان، وفلسطن، وشرق الأردن، وجزيرة العرب، واليمن، ومصر والسودان، وبرقة، وطرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش -هذه بلاد العرب التي ينطق أهلها اللسان العربي ويدين أكثرهم بالإسلام، فهما من أجل ذلك جبهة واحدة ممتدة من الشرق إلى الغرب، وتملأ رحابها أكبر قارة على وجه هذه الأرض. وهي جميعًا أرض بكر لم ينبش العلم ذخائرها المدفونة تحت ثراها الغني، ولم تنل يده إلا قليلا مما تقله أرضها من حيوان ونبات، ولم تنفطر روحها بعد عن الإنسان الجديد الذي انساح فيها من قبل يوما ما، فملأها عدلا وكانت ملء جنباتها ظلمًا وعدوانًا وبغيًا وكفرًا بالله، ثم بالطبيعة البشرية المطهرة من أدران الحقد والأثرة والجشع وقلة الإنصاف. فلنلق نظرة عليها جميعًا بلدًا بلدًا، لنر ماذا فعل الله بأهلها، وماذا كتب عليهم، وماذا قدر لهم. فالعراق أغنى مشارف الجزيرة العربية وأكرمها تربة، وقد نزلت عليه بريطانيا محتلة وسامته الخسف سنين حتى عقدوا معه معاهدة لم تمنع بريطانيا من التدسس بسلطانها إلى جميع مرافقه، فهو لا يستطيع أن يؤدي حق أرضه عليه كما يجب، وسلطان بريطانيا هناك سلطان جائر عنيف لا يزال كما كان على أول عهد الاحتلال، ويخشى أن يزداد فيه سلطانها وسلطان شريكتها ووارثتها أمريكا، بما جد من شئون النفط والبترول وما إليهما. وأما سورية ولبنان، فقد جلت عنهما فرنسا جلاءً تامًا على أثر الأحداث العالمية التي جاءت مع الحرب الماضية، فاستردتا استقلالهما بغير قيد ولا شرط. ولكن يخاف عليهما ما يخاف على سائر البلاد العربية من تسرب السلطان ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 732)، يوليو 1947، ص: 777 - 779

البريطاني والسلطان الأمريكي، وطغيان هذا السلطان بالضرورة الملحة الملزمة، إذا قدر لهما أن تظلا محاطتين من جميع النواحي بالمواقع التي فيها لهذا السلطان أثر قوي. وأما فلسطين، فهي الأرض المظلومة المضطهدة التي أراد بغي بريطانيا وأمريكا أن يجعلاها وطنًا لأعوانهم من نسل إسرائيل، ومعنى ذلك أن تصبح فلسطن كهف الجشع البريطاني الأمريكى، يعمل له وفيه جيل من خلق الله الذين عرفوا بالخسة وقلة المبالاة وعدم الورع فيما يأتون وما يذرون، وهم ولا ريب يؤيدون سياسة بريطانيا وأمريكا في فرض سلطان القوة وسلطان المال على هذه البقعة من الأرض المقدسة، وعلى كل مكان آخر يحيط بها من قريب أو بعيد. وأما شرق الأردن، فقد كفتنا المعاهدة التي عقدت بينه وبين بريطانيا أن نقول فيه قولا يصفه بأفضل مما وصفته هذه المعاهدة، وهو أنه أرض بريطانية في قلب البلاد العربية. وأما جزيرة العرب، فقد تدفق عليها سلطان بريطانيا وأمريكا من كل مكان، لأنه فرض أن آبار البترول تكاد تكون حقًّا خالصًا لهما، يدفعان في سبيل أخذه مالا قليلا زهيدًا، ثم ينقلانه إلى بلادهما ليكون ذخيرة من ذخائر القوة التي تحرك الآلات، وتنتج المصنوعات وتمد أمريكا وبريطانيا بكل أسباب القوة والغلبة في هذه الدنيا الجديدة التي لا حظَّ فيها إلا للقوى الغاصب. واستقلال جزيرة العرب أصبح اليوم مهددًا بتغلغل نفوذ ملوك البترول الذين يخدمون ولا شك سياسة بلادهم على أي وجه كانت هذه السياسة. وأما اليمن فلبريطانيا هناك بعض السلطان، ويخشى بعد قليل أن يتدسس إليه سلطان أمريكا أيضًا وتصبح اليمن مضطرة إلى الخضوع لما خضعت له جاراتها العربية من سلطان هؤلاء الأقوياء. وأما مصر والسودان، فمن الذي يجهل سلطان بريطانيا في أحد شقيه، وهو مصر، إنه سلطان قد ظلت السياسة البريطانية تمهد له منذ ستين عامًا بكل أسلوب

من أساليبها في اتخاذ الصنائع، وإضعاف الأخلاق، وابتزاز الأموال، وفتح أبواب الهجرة لصعاليك الأمم، وقذف الأرض بكل سخافة من سخافات المدنية، وحجبها عن كل جد وكل عمل يراد به خير هذه البلاد. وأما السودان، فلم يزالوا به حتى كادوا ينتزعونه جملة واحدة، وحتى قسموه إلى جنوب وشمال، وحتى حرموا على أهل الشمال أن يخالطوا أهل الجنوب، وحتى حرموا على أبنائه أن ينالوا قسطهم من العلم والحرية والتجربة في هذه الدنيا المملوءة بالعلم والحرية والتجربة. وأما برقة وطرابلس فقد انتهت بهما الحرب إلى أن صارتا تحت سلطان بريطانيا المباشر، ولا يدري أحد ماذا يجري فيهما هناك الآن على وجه التحقيق، ولكنهما على كل حال تحت سلطان بريطانيا وشريكتها أمريكا. وأما تونس والجزائر ومراكش فهي أسوأ بلاد العربية كلها حالا بوقوعها تحت سلطان فرنسا. وفرنسا هذه أمة أهل جبروت وحماقة وجهل، فهي تتخذ العسف وتصطنع القسوة في كل عمل تعمله في تلك البلاد. ولكن ليس يدرى على وجه التحقيق ما الذي تضمره بريطانيا وأمريكا لفرنسا وحكمها في تلك البلاد. أَتريد حقًّا أن تؤازر (¬1) فرنسا مرة أخرى على استعادة بعض مجدها وسلطانها في هذه الدنيا، وبذلك يزداد طغيانها وبغيها على أهل تونس ومراكش والجزائر؟ أم تراهما يريدان أن يحتالا حتى يزيلا فرنسا عن تلك البلاد ليفرضا معًا عليها سلطانًا بريطانيًّا أمريكيًّا - إما متعاونتين وإما منفصلتين؟ ومهما يكن من شيء فالذي فيه هذه البلاد اليوم، أو الذي يخشى أن يقع عليها غدًا هو أن السلطان الأجنبى هو السائد فيها قوة واقتدارًا. فأنت ترى غير مرتاب أن هذه الأمة العربية التي تعيش في كل هذه البلاد العربية، قد أصبحت هدفًا لأطماع دولتين متحدتين في أغراضهما وأهدافهما: هما بريطانيا وأمريكا. فهل يشك في هذه الحقيقة أحد؟ كلا ولا ريب، وإذن ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، وحق الكلام التثنية، أي: أتريدان حقًّا أن تؤازرا، ألا تراه قال بعد: "أم تُراهما يريدان أن يحتالا. . . .".

فنحن أمة واحدة مقسمة اليوم إلى أمم متعددة تواجه في الميدان جبهة واحدة لها أغراض لا تختلف ولا تفترق. وهذه الجبهة الواحدة لم تزل تتعاون بأسلوب بعد أسلوب في تنفيذ أغراضهما في كل بلد من بلادنا، وتتآزران على فرض سلطانهما مجتمعًا أو مفترفًا، وتتوسلان إلى ذلك بالوسائل التي تتاح لكل منهما في كل بلد من هذه البلاد. فالآن وقد تبين أننا أمة واحدة مقسمة إلى أمم، وأننا نلقى عدوًّا واحدًّا هو بريطانيا وأمريكا مجتمعتين يضربان بسلاحهما غدرًا هنا وهناك وثمة بلا رحمة ولا شفقة ولا إنسانية، فقد أصبح لزامًا علينا وفرضًا لا مخلص لنا منه أن ننظر إلى الحقيقة الواحدة التي لا يختلف عليها إلا من نزع الله من قلبه البصيرة الهادية إلى سُبل الرشاد، ألا وهي الاتحاد التام في لقاء هذا العدو. ومنذ سنوات أجمعت طائفة من أمم العرب على تكوين الجامعة العربية، واشترطوا في الأمة التي تصير عضوًا في هذه الجامعة أن تكون مستقلة. ومعنى ذلك هو الاستقلال المعترف به دوليًّا، لا الاستقلال الحقيقي، فإنهم لو طلبوا ذلك لما كان في الجامعة العربية عضو واحد من هذه الأمم التي ذكرنا. فالجامعة العربية كما هي الآن لا تفي البتة بحاجة العرب، ولا تقوم على الأساس الصحيح الذي ينبغي أن تقوم عليه. نعم إن الجامعة العربية لم تقصر في الدفاع عن حق العرب جميعًا تقصيرًا تُلام عليه، وهي تبذل غاية جهدها في صد عدوان المعتدين عليها، وتبذل أقصى جهدها في أم المشاكل العربية، وهي مشكلة فلسطين التي سوف تكون يومًا ما، أول شرارة تنطلق في تاريخ العرب الحديث لتنير لنا الطريق السوى الذي ينبغي للعرب أن يسلكوه. ولكن لابد منذ الآن أن تعمل الجامعة العربية على ضم سائر البلاد العربية الأرض واللسان، لتكون شعوب هذه البلاد كلها جبهة واحدة، ذات سياسة واحدة، وأهداف واحدة، وقيادة واحدة، حتى نلقى في الميدان ذلك العدو الواحد المتآزر على هلكة العرب، وهو بريطانيا وأمريكا. وإنه لا معنى لأن تبقى فلسطين وتونس ومراكش والجزائر وبرقة وطرابلس غير ممثلة في جامعة الدول

العربية تمثيلًا صحيحًا كسائر الدول العربية، فإن مهمة الجامعة هي أن تعمل على أن تجعل هدفها الأول أن تتخذ كل وسيلة لضم شتات العرب في هذه الدنيا، كما فعل اليهود من أهل الأجناس المختلفة في توحيد قيادتهم وجعل قضيتهم قضية واحدة، وهم معتدون على أرض ليست لهم، ونحن أهل أرض واحدة نملكها نحن العرب ملكا لن ينازعنا فيه أحد. وليس من الرأي ولا من الحكمة أن نترك هذا العدو الواحد يلقانا في أكثر من جهة واحدة وهو صاحب القوى الطاغية الباغية، وأن نظل نحن متفرقين ليس يجمعنا نظام واحد تحت قيادة واحدة تعمل لهدف واحد هو تحرير البلاد العربية كلها جملة واحدة من هذا النير المضروب عليها. وكما قلت من قبل إننا شعب واحد، وقضيتنا قضية واحدة، فلا معنى لأن نجعل هؤلاء يتلعبون بنا، ويقسموننا ويفرقون بين قلوبنا، ويشغلوننا حينًا بهذه القضية، ثم يعملون فينا حتى نيأس، فإذا بقضية أخرى تستنفد جهودنا، ثم أخرى ثم رابعة. كلا! هذا فساد في الرأي وضلال قديم قد جربناه فألفيناه وبالا علينا ونقضًا لقوانا وتمكينًا للعدو من أنفسنا. إنه لابد من تجديد النظر في شأن الجامعة العربية، فإن العرب قد هبوا بعد هذه الحرب من رقدة طالت عليهم، وهم مقبلون على العالم شُعثًا غُبرًا كما أقبل آباؤهم من قبل، وهم ينظرون إلى مدنية عظيمة قد بلغت غايتها وهي اليوم في سبيل الانحدار إلى الهوة العميقة التي طمرت فيها مدنيات سالفة لم تكن أقل منها شأنًا ولا أضعف خطرًا. وينبغي أن تعلم جامعة الدول العربية، أو الجامعة العربية، أن عملها ليس سياسة محضًا بل هو أيضًا حض وتحريض وبعث لهذا الجيل من الناس المعروف باسم العرب، حتى تتم يقظته وحتى يعرف أي شيء يستقبل وأي شيء يستدبر، ليرث هذه المدنية التي أوشكت أن تزول عن وجه هذه الأرض. إنه قول جرئ، ولكنه حق ملء السمع والبصر، حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلنأخذ أهبتنا قبل أن تأتي الساعة التي نضطر فيها إلى العجلة التي كان لنا عنها مندوحة، إن كل عربي قد فرض عليه واجب هو أقدس الواجبات في هذه الدنيا -ألا وهو الأمانة التي يرث بها الأرض ويكون فيها

خليفة يصلح فيها ولا يفسد ولا يسفك الدماء ولا يأكل حقوق الناس بالبغي والعدوان. والجامعة العربية إذا بُنيت على هذا الأصل وقامت على هذه الفكرة، فقد أدت للبشرية أكبر خير أُدي إليها على وجه الدهر، وقد استنقذت حضارة الإنسان من الهلاك المحقق على يد الجنس الأوربي، بل لعلها لم توجد في هذا الوقت من هذ العصر إلا لتؤدى هذه المهمة وحدها بعد أن تجمع شمل العرب وتقف بهم صفًّا واحدًا يقاتل طغيان عدوها المستبد الذي يلقاها بسلطانه الجائر، ويقاتل أيضًا ذلك السلطان الذي انفجر من ملتقى القارتين، أوربة وآسية، لكي يكون دمارًا لنفسه وللحضارة الأوربية الفاسدة الضحلة. ونحن العرب -فيما أرجو- لن نباع منذ اليوم في سوق الرقيق التي يسمونها "هيئة الأمم المتحدة"، فقد عرفنا بالتجربة كيف فعلت هذه الهيئة في مسألة فلسطين وسواها من عربدة القوِي الذي أطارت صوابه نشوة السلطان المُسكر.

شهر النصر

شهر النصر كان محمد - صلى الله عليه وسلم -، قبل أن ينبأ (¬1) رجلًا من العرب، ثم كان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث (¬2) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود مثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. ومن يومئذ صار هذا الرجل من العرب رسول الله الذي وجبت على الناس كافة طاعته والامتثال لأمره فيما نهى عنه وما أمر. وذلك أول الإسلام الذي نفض العرب من بواديهم حتى ملأوا الأرض عدلا وإيمانًا وتكبيرًا باسم الله العلي الأعلى. وقد فجئه الحق وهو بغار حراء في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فيومئذ نزل أول القرآن إذ قال له الملك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي! " فقالت خديجة: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لَتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". فكان كما قالت -رضي الله عنها-، فلم يخزه ربه الذي أرسله بالحق ليهدى الناس إلى صراط مستقيم. وذلك أول الإسلام. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 734)، يوليو 1947، ص: 835 - 837 (¬1) ينبأ: أي قبل أن يحمل إلى الناس نبأ ربه. (¬2) تحنَّث: تَعَبَّد واعتزل الأصنام.

ثم كانت سنة ثنتين من الهجرة، ففي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى، وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، وأعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله، وكانت فيصلا في تاريخ الإسلام. ويومئذ حقق الله للمؤمنين ما وعدهم إذ يقول: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ثم قال الله تعالى يمن على المؤمنين ما أكرمهم به: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. فكانت بدر الكبرى هي المنة العظمى على البشر جميعًا، إذ أتاح الله يومئذ للمسلمين أن يسيحوا في الأرض، وأن ينصروا الله وأن يجعلوا كلمته هي العليا، وأن يردوا العرب إلى شريعة أبيهم إبراهيم -عليه السلام- وهي الحنيفية السمحة، فانكشفت خلائق العرب بنبلها وكرمها وعدلها وصفائها حتى لم يبقَ على ظهر الأرض من بلغته الدعوة، أو من رأي هؤلاء الأحرار المؤمنين حتى تبع قبلتهم وآثرهم بالحب، فمكن الله للعرب أن يفتحوا الأرض ويثلوا العروش ويملكوا ما أظل ملك كسرى وقيصر في ثمانين عامًا، وأقاموا حضارة قامت على العدل والمساواة والإنصاف والتسامح، وعلى رعاية أهل الأديان وحياطتهم، وعلى رد بغي الباغين وعدوان المعتدين من أي مِلة كانوا. كان الإسلام فيصلًا حقًا في تاريخ الأديان، وكان أول أمره في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وكانت غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها أهل الإسلام من العرب في يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. ثم شاء الله أن يدور الزمن دورته على مجد العرب وحضارة العرب، وأن تكون مصر والسودان مناط آمال العرب في هذا العصر، وشاء ربك أن ينعقد إجماع مجلس

الأمن على أن تعرض قضية مصر والسودان في يوم الثلاثاء بعد أن تخلو من رمضان ثماني عشرة ليلة من سنة 1366 من الهجرة، وهو اليوم الموافق للخامس من أغسطس سنة 1947 من ميلاد المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام. إنها إن شاء الله بشرى الحق بأن الله قد كتب لقضية مصر والسودان أن تخرج من معمعة مجلس الأمن مؤيدة بنصر الله {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}. فهذا شهر مبارك قد عوّد الله فيه العرب والمسلمين أن ينصرهم على عدوهم، وأن يمكن لهم في الأرض، وأن يؤيدهم بالنصر في ساعة العسرة حيث هم قليل مستضعفون يخافون أن يتخطفهم الناس. . . ولا يستهينن أحد بخطر هذه القضية، فإن مصر والسودان هي قلب إفريقية أولا، ثم هي قلب العالم العربي، ثم هي قلب العالم الإسلامي كله. فالنصر الذي سوف تناله إن شاء الله على بريطانيا هو نصر لهذه الثلاثة واجتماع لكلمتها، وتاريخ جديد لحياة إفريقية وحياة العرب وحياة الإسلام. إنها ساعة فاصلة في تاريخنا، فعلى كل مصري سوداني أن يعد عدة الجهاد، وأن يملأ منذ اليوم كنانته، وأن ينصر هذا الوفد الذي سافر إلى أمريكا بيده وقلبه ولسانه، وهذا فرض واجب لا يكاد يسقط عن أحد منا من ذكر أو أنثى. فإننا في ساعة يصنع فيها التاريخ، ولن يخطئ المخطئ المتعمد، أو يولى المقاتل المتهيب إلا كان ذلك فَتًّا في أعضاد المجاهدين الذين رموا بأنفسهم في وطيس المعركة. ونحن نناشد زعماء الأحزاب الذين تعوّدوا الخلاف والنزاع أن يكفوا غرب ألسنتهم عن إخوانهم الذين سبقوهم اليوم إلى جهاد عدوهم، وأن يوجهوا قدرتهم على الطعان إلى نحور القوم الذين اغتصبوا حقنا وآذونا وضربونا بالذل والهوان أكثر من ستين عامًا، ولم يرعوا فينا شيئا من إنسانية أو شرف. وكل كلمة تنال من وفدنا إلى أمريكا هي ضرب من التخذيل يسوء مصر والسودان، ويسر بريطانيا التي تحاول اليوم أن تملأ الدنيا علينا كذبًا، فلا نكونن إذن حربًا على أنفسنا، وعونًا على اهتضام حقها، ونصرًا لأعدائنا على أنفسنا.

وحقيق بمصر والسودان في هذه الساعة الفاصلة التي شاء الله أن يوافق تاريخها الساعات الفاصلة في تاريخ العرب والإسلام -حقيق بها أن تتوجه إلى الرجل العربي الشريف الأصل الكريم المحتد الطاهر النسب، والذي إن شاء كان النصر الأعظم الحاسم لقضية مصر والسودان، وكانت كلمته القضاء الفصل والحجة الدامغة لأباطيل بريطانيا ودعواها، الرجل الذي هو ثانى اثنين (¬1) في السودان، فشق الإنجليز ما بينهما بالدسيسة والوقيعة والتخذيل حتى فرقوا بين الأخوين. فإلى الرجل الذي مثلت بريطانيا بجثمان أبيه الطاهر، وإلى الرجل العربي المسلم الذي يؤدي حق ربه وحق عباده خاشعًا متخشعًا لله، وإلى المصري السوداني الذي أراد الله أن يمتحنه بأعظم المحن في هذه الساعة الفاصلة في تاريخنا، وفي هذا الشهر المبارك من شهور الإسلام -إلى السيد المهدي: إنك أيها الشريف رجل من العرب ثم رجل من المسلمين قد أكرمك الله وأيدك وبارك لك وأعانك، والرجل العربي المسلم لا يتخلف عن نصرة الحق بل هو كما قال له ربه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. والرجل العربي المسلم لا يلدغ من جحر مرتين، وبريطانيا قد لدغتنا جميعًا مرارًا كثيرة. أليس زعمها أنها حريصة على استقلال السودان وكفالة حرية أهله في تقرير مصيرهم، هو نفسه ما كان يوم دخلت مصر زاعمة أنها لا تريد إستعمارا ولا اعتداء، وأنها إنما تريد تثبيت العرش صدقة وتبرعًا، فإن استتب عادت إلى بلادها وجلت عن بلادنا؟ فهل فعلت أيها السيد الشريف العربي المسلم؟ إني لأنزهك عن أن تخدع بكذب بريطانيا فهي أكذب من هذه الحياة الدنيا وأغدر: وخلائق الدنيا خلائق مومس ... للمنع آونة وللإعطاء طورًا تبادلك الصفاء، وتارة ... تلقاك تنكرها من البَغْضاء فهذه بريطانيا العدو المحتال الذي من شيمته أن يوقع بين المتحابين ليحطم ¬

_ (¬1) يعني بالآخر: السيد الميرغني.

بأسهما جميعًا. وهذه مصر التي ربطها الله بالسودان منذ أقدم الأزل والتي هي قطعة من السودان يراد بترها منه، فإلى أيهما أنت أقرب، وفي هوى أيهما أنت أرغب؟ إننا ندعو الله الذي هدانا وهداك إلى الإسلام أن يهديك إلى الحق ويسددك وينصرك، وأن يوفقك إلى ما يتمناه قلب كل مصري وسوداني: أن تكون ناصر الإسلام وقاهر الأعداء ومُحِقّ الحق ومبطل الباطل، فتضع يدك في يد أخيك السيد الميرغني وتخرجا على بريطانيا مرة أخرى واحدة تعلنان أن مصر والسودان أمة واحدة وأن بريطانيا كاذبة فيما ادعت علينا وعليكم، وأن لا حياة لأحدنا إذا اقتطع عن صاحبه. افعل هذا أيها السيد الشريف العربي، تكن أعظم مجاهد في تاريخ إفريقية وتاريخ العرب وتاريخ الإسلام. افعل هذا في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، والذي نصر الله عباده ببدر وكانوا يومئذ مستضعفين في الأرض يخافون أن يَتَخَطَّفهم الناس. افعل هذا أيها الشريف العربي تنل بكلمة واحدة مجد الأبطال ومجد الملوك، ويصبح اسمك هدى ومنارًا لكل عربي وكل مسلم ما بقى على الأرض عربي أو مسلم. إنني أدعوك باسمي وباسم الصداقة التي كانت بينك وبين أبي رحمة الله عليه. أدعوك دعوة رجل صائم لله وأدعو الله أن يهديك ويؤيدك بنصره ويمكّن لك، وفي هذا الشهر الطاهر المبارك يرجو المسلم أن تستجاب دعوته: فاللهم أعنا وانصرنا بالهدى. اللهم خَذِّل عنا أعداءنا. اللهم أنقذنا وارحمنا وكن عونًا لنا ولإخواننا في الدين والعروبة. أيها الشريف العربي، إننا وقوف نترقب، ونتوق، ونتلهف. وظني فيك أنك فاعل ما أراد الله من نصرك لأهله، وأنت أهل الخير ومعدن الكرم وابن الصناديد الأماجد من بني قحطان. السلام عليك أيها الرجل سلام أخ وابن أخ.

في الماضي

في الماضي كنت أتمنى أن يكون لي مكان هذا القلم الأصم قلم حي نابض يصحبني حيثما سرت، ويلهمه الله من دقة الحس ما يجعله يتلقف كل خاطرة تومض في أعماق نفسي، ويشعر بكل هاجس يعتلج في سر ضميري، وإلا فإن الكاتب ذا القلم أعجز من أن يطيق لمّ هذا الشعث المنثال المتتابع من الخواطر والهواجس التي تنتابه وتعتريه وهو يرى أو يسمع أو يفكر. وفي هذا اليوم بعينه كنت أشد الناس ضراعة في التمني أن لو أتاح الله لي مثل هذا القلم النابض الحي حتى يأخذ عني وعما يحيط بي، ويسجله قبل أن تمسحه عن قلبي يد الدقائق والساعات التي جعلها الزمن رصدًا على الأفكار تمحوها بالنسيان، أو تطمسها بالفتور، أو تعفيها بتراب الحوادث التي تجد في كل لحظة من لحظات العمر. * * * خرجت أنا وصديقان لي، هما الأستاذ علَّال الفاسي الزعيم المراكشى الصابر على لأواء (¬1) الجهاد في سبيل بلاده، والأستاذ يحيى حقى القصاص المبدع في زمن ليس للإبداع فيه قيمة ولا قدر، وكان الذي دعانا إلى هذا الخروج فنان كهل قد ودع الصبا ولكنه تشبث بعطره ونفحاته وتوهجه، فلا تزال تشم من فنه حين يتحدث عنه شذًا لطيفًا من عنفوان الصبا والشباب، وذلك الفنان هو الصديق الأستاذ حسن فتحي المهندس الذي أبى أن يتعبد للهندسة، بل أرادها أن تكون عبدًا له يخدم فنه الذي يعيش فيه ويعيش به. كان يوم الأحد السادس عشر من رمضان سنة 1366 يومًا قائظًا ومدًّا (¬2) ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 736)، أغسطس 1947، ص: 860 - 862 (¬1) اللأواء: الشدة والبأس. (¬2) المد: الماء، يعني رطوبة الجو.

يجعل العرق ثقيلا كثيفًا يضجر النفس ويأخذ بالأنفاس، فلما ركبنا السيارة، وتخففنا من بعض ثيابنا، واستقبلتنا لفحات الهواء الساخن، انتعشت القلوب ودبت فيها الحركة، على سكونها وفتورها من شدة الصيام وحاجة الأبدان إلى الماء في مثل هذا اليوم، وعندئذ بدأ الفنان يتحدث عن الوجه الذي يقودنا إليه فطاف علينا من حديثه مثل الظل حتى نسينا أننا في رمضان في يوم قائظ تحت الشمس. إنه ماض بنا إلى أثر عربي قديم في ناحية "بيت القاضي" يقال له "قاعة محب الدين الشافعي" وتعرف أيضًا بقاعة "كتخدا". فلما أوشكنا على دخول القاهرة القديمة شممت روائح مصر الإسلامية، وتمثلت لعيني خوالى أيامها، ورأيت كأن هذه الجموع التي تسير في الطرقات كأنما انبعثت من الماضي البعيد بلباسها وشمائلها وآدابها رائحة غادية تحت عيني، وكان حديث الفنان يُحْيى هذه الصور في نفسي حياة جديدة، حتى كدت إخالنى أحدثها وأسمع رجع حديثها، وأرى الثياب الفضفاضة، والعمائم البيض، واللحى المرسلة، والسمت الوقور، والمشية الهادئة، وكأن كل شيء قد انقلب فجأة فصار ماضيًا لم تمسخه يد الحضارة الغربية الحديثة، ولم تمح من بهائه وروائه ذلك الجمال الوديع اللطيف المطمئن القانع بالحياة كما شاء الله أن تكون. ثم نزلنا من السيارة، وفتح لنا باب القاعة التي صارت في عداد الآثار، فما كادت قدمي تطأ بلاطها الضخم حتى أحسست كأن قلبي ينتفض من فجاءة الذكرى، وكأنى دخلت دارى التي ألفتها وعشت فيها، وسمعت في أرجائها غمغمة الحديث وقهقهة الضحكات، والتي سعيت في نواحيها طفلا وشابا وكهلا حتى نشأت لها في قلبي مودة لا تبليها الغربة، ولا تطمس آثارها الرحلة في أرجاء الدنيا، وتطارح الزمن المشِت المفرق بين الأحباب والأحباب. ففي هذا المكان عهدتني أجلس على أريكة موشاة بالثياب المطرزة، وأستقبل هذه "الفسقية" الجميلة التي أراها في وسط القاعة، مزينة أرضها بالرخام الملون المرسوم على أشكال تستريح إليها العين راحة لا يعدلها شيء من متاع هذه الأرض. ومن هذا المكان عهدتنى أرى تلك الحلية الهائلة التي كأنها محراب

الدهر، مصنوعة منمقة، قد أجلَّها وأدقها الصَّنَع الماهر الذي لم يعبأ بالزمن كيف يمضي ويتصرم، بل كان كل همه أن يتقن الفن الجميل الثابت الذي يريك الإبداع في صورة حية باقية تشعرك بأن الحياة هي الاستمتاع بفن الحياة لا بأشياء الحياة. ومن هذا المكان كنت أرسل طرفي إلى القبة العالية التي تتوسط السقف كأنها هامة مفكرة كل أفكارها أحلام جميلة سامية لم تتدنس بالمطامع الدنية التي يكدح في سبيلها الإنسان على أديم هذه البسيطة. وجعل صديقنا الفنان يحدثنا وهو يتدفق من نواحيه عن روعة هذا الذي نرى وعن جلاله وعظمته، وعن هذه الضخامة الهائلة في البناء، وكيف استطاع بانيها الفنان أن يحفظ النسب بين ضخامتها وبين سائر ما في القاعة كالأبواب وغيرها حتى لا يشعر الإنسان بالرهبة والمخافة والارتياع، بل يشعره بأنه مالك هذا كله والمستولى عليه والمستمتع به، فهو يروض الفخامة والضخامة حتى تكون أليفة مستأنسة محبة إلى رائيها وصاحبها، فجعل الأبواب بين بين لا تطول قامة الرجل إلا قليلا، ولم يجعلها هي أيضًا عالية ضخمة فخمة، فيحس المرء عندئذ بالقلة والذلة والغربة والوحشة في البيت الذي هو سكن النفس ومكان ارتياحها؛ وكنت أسمع هذا ونحوًا منه؛ ولكن لم يأخذني منه شيء، فإني كنت أسمع همسات من هنا وهنا ومن ثم، هي همسات الآباء والأجداد تذكرني بما أضعناه من فن نحن أنشأناه وتعهدناه وقمنا عليه وأتقنا دقيقه وجليله، ثم رحنا نستعير أشياء الناس نتشبع بها ونتصنع، على غير هدى ولا بصيرة ولا فن، وأكاد أقول ولا حياة، فنحن أحياء ولا أحياء، لأننا نستعير حياتنا ولا ننشئها إنشاء، ونتزين بزينة مسلوبة نحن فيها كالصعلوك الأشعث الأغبر في ثياب ملك. كنت أسمع حديث الأسلاف، وأسمع في صوت صديقنا الفنان وهو يشرح ويبين بكاء وحسرات وتنهدات وآلامًا كأنه وقف يؤبن أعزّ أحبابه متجلدًا خاشعًا بين أقوام لا يحسون ما يحس ولا يشعرون بما يشعر به. إنه خليق أن ييأس، ولكنه يجاهد حتى ينتزع الأمل من بين دواعي اليأس، يريد أن يستنقذ الدرة المضيئة قبل أن تلفها الأمواج الطاغية العاتية وتذهب بها إلى حيث لا رجعة.

كنت كالمأخوذ لا أريد أن أفارق هذا الملك الذي أعيش في رحابه. إنها قاعة صغيرة، ولكنها قد اتسعت حتى رأيتها تشمل كل هذه الأرض المصرية لأن كل شيء فيها منتزع من طبيعة الأرض وجوّها وسمائها وأيامها ولياليها واختلاف فصولها، ومن طبائع أهلها وشمائلهم ونوازع قلوبهم ومن كل شيء يقول أنا مصري عربي. وأخيرًا فارقتها على رغم، ولم أدر حتى انتهينا أو انتهت بنا السيارة إلى قاعة أخرى أو أثر آخر بني بعد جيل من زمان هذه القاعة، فكان الفرق بينًا. فقد أخذ الضعف يغزو القوة، ولكن القوة أبت إلا أن تتبدى كما هي برغم هذه الطوارئ التي تنتابها أو تعمل فيها. فههنا أثر الضعف الإنساني إذا بدأ الإنسان يشعر بأنه غير حر وغير مريد للحرية، وأنه مروع في حياته بشيء لا يملك له دفعًا ولا ردًّا، فهو يتخاذل وكذلك يتخاذل فنه ويتخاذل بناؤه. وهو حائر لا يدرى ما يأتي وما يذر، فإذا فنه حائر لا يدرى ما يأتي وما يذر، وهو مختلط الإرادة، وإذا فنه مختلط يأخذ بأسبابها الأولى ولكنه لا يلبث أن يحيد عنها إلى شيء ليس منه ولا من خاص طبائعه. ومع كل ذلك فإن النفحة الخالدة لا تزال عالقة به تجعله قوة صريحة مصممة مريدة للبقاء. ثم خرجنا إلى آخر أثر زرناه وهو "بيت السحيمي"، وهو بيت كامل -لا قاعة ولا جزء من بيت- وأخذنا نطوف في أرجائه ونواحيه، فهذه غرفة الضيوف، وهذا مصلى الرجال، وهذا مكان الطعام، وهذه غرفة استقبال النساء، وهذه غرف النوم، وهذا مصلى النساء، وكلها موزعة على مساحة الأرض في الطابق الأسفل والأعلى على نظام هندسي فيه شيء من التحرّر من أسر الهندسة الدقيقة، فتكاد تشعر بأن بانيه لم يكن يبالي أن يتقيد بشيء، بل يريد أن يكون حرًّا طليقا يفضى من مكان إلى مكان كما يشاء له هواه. وكنت كلما دخلت منها مكانًا أحسست بشيء فيه ينادينى، فلما دخلنا القاعة الأولى هتف بي الهاتف إلى الصلاة، فقمنا نصلى، فكأنى ما صليت في دار قط سوى هذه الدار. إن في البناء روح إسلامية عجيبة، فيه ورع وصدق ومحبة وتخفف من ثقل هذه التكاليف الداعية إلى الكدح والطمع والعدوان، وفيه ألفة لم أحس بمثلها قط، ولم أشعر إلا يومئذ أن أصدقائي الذين معي هم أصدقائي لا معارفي، ألقاهم بوجه

وأستدبرهم بوجه، ولم أجد إلا يومئذ تلك اللذة المنعشة بالأخوة تجمع بين الرجلين على اختلاف الدار والنشأة، وخفق قلبي خفقة كأنه يقول لعلال الفاسي: مرحبًا بك من أخ جمعت بيني وبينه أخوة هذا الدين النبيل الذي جعل أهله أمة واحدة فكانت خير أمة أخرجت للناس. ومضينا نطوف بالدار العجيبة، فكأني كنت أسمع حس أهلها وهم يتنادون، وأراهم وهم يسعون وأشهد إماءهم وعبيدهم وهم يطوفون عليهم، وأرى الضيوف وهم يتسامرون. فلما دخلت غرفة استقبال النساء، ورأيت الذوق اللطيف والنوافذ عليها المشربيات الدقيقة الصنع، والخزانات القائمة في الجدران بنقشها البديع، ورأيت "الصفَّة" التي يلمع رخامها وتتحلى بزينة من رسومها الدقيقة وأعمدتها القائمة كأنها ساق غانية راقصة، ورأيت ذلك الزجاج الملون بالألوان الهادئة الناعمة، وهذا الجو الساطع بالغنى والنعمة، الساكن بالوقار والطمأنينة، الناعم بالرقة والجمال؛ عندئذ أخذنى مثل الحلم فرأيت ربة الدار في حليها الأنيق وثيابها الموشاة، وضفائرها المرسلة، ووجه ينير في جنبات هذه القاعة بالنبل والكرم والحفاوة بضيوفه من الأصحاب والأحباب، وسمعت حديثهن المتخافت باللفظ المرقق والصوت الناعم المنغم، وانتهت إلى ضحكاتهن الحيية التي كأنها ابتسامة مشرقة من وراء نقاب. رأيت الماضي ينبعث كله بفضائله ورذائله، ورأيتنى أعيش ساعة أتنسم نسمات من حياة أجدها في دمى، كما يجدها كل مصري وعربي في دمه، ولكننا كدنا ننساها بطول الترك وقلة العمل على استحيائها واستنقاذها واستعادتها، حتى نتعلم منها كيف نكون أحرارًا في التعبير عن سر طبائعنا الكامنة في أعماق قلوبنا وضمائرنا. إن هذا الفن الذي أوحت به حضارة لها أصول لا تزال قائمة في نفوسنا، وفي تربة أرضنا، وفي جو سمائنا -ينبغي أن ينبعث جديرًا مرة أخرى بما يلائم حاجتنا، وبما يعنينا على تمييز أنفسنا بين الناس فلا ندخل في غمار حضارات الأمم التي لا يجمع بيننا وبينها وطن ولا خُلق ولا دين ولا أدب ولا جنس ولا دم ولا شيء مما يتقارب به الناس أو يختلفون، وتمنيت عندئذ أن أفيق من أحلامى فأجدنى قد رجعت إلى داري فإذا هي تنفحني

بهذه النفحات التي تحيي النفس لأن فيها شيئًا من سر هذه النفس. فلما خرجنا من بيت السحيمى حقّق الله طرفًا من هذه الأمنية. لقد حملنا صديقنا الفنان إلى داره، وهي في عمارة كسائر عمارات القاهرة في ظاهرها، وهو يسكن منها شقة كسائر الشقق التي يسكنها سائر المصريين، بيد أن المصريين يعيشون عبيدًا لهذه الهندسة الغربية الغريبة عن بلادهم، ويسكنون فيها إلى أنماط من الحياة ليست لهم وليسوا منها في شيء. أما هو فما كاد يفتح لي الباب حتى هبت تلك النفحة المسكرة من الماضي المنبعث حيًّا نابضًا كأحسن ما تنبض الحياة. لقد رفعت هذه الأبواب الحديثة الثقيلة ووضعت مكانها الستائر من النسيج العربي الشرقي بألوانه وتقاسيمه وفنه، ووضع مكان بعضها أبواب مشبكة، وأقيمت هنا وهنا المشربيات الدقيقة، وبسطت الأرض بالبُسُط العربية الرسم المصرية الصنع، وهذه الأرائك والمناضد والقناديل وكل شيء يجعل البيت عربيًا هادئًا مطمئنًّا في وسط هذه المعمعة الطاحنة الفوارة التي تسحق طبائعنا، وتمسخ قلوبنا، وتحيل أذواقنا، وتجعلنا عالة على الأمم، نأخذ منها عارية (¬1) لا تزيدنا حضارة بل تزيد بؤسًا وشقاء وحيرة ونفورًا وقلقًا في هذه الحياة وفي هذه الأرض، وفي هذه الطبيعة التي تكتنفنا من حولنا، وفي هذه الطبائع التي تستولي على دخائلنا وضمائرنا. هذا بيتى! هكذا قال لي قلبي، فاطمأننت وكان الصوم والتعب قد بلغا منا جميعًا، فآوينا إلى مضاجعنا، فلما قمنا إلى إفطارنا، وأضيئت القناديل (بالكهرباء) ورأيت ظلال المشبك على الجدران وطالعتنى المشربية من ناحية البيت، رأيتنى أحيا في هذا الغموض الهادئ بقلب جديد نابض مؤمل في الحياة، مستبشر راض عنها غير يائس منها. وتمنيت لكل مصري أن يقضى في الماضي يومًا من كل أسبوع حتى يجدد حياته، وحتى يتاح لنا بذلك أن نجدد لأنفسنا فنًّا وعيشة وسيرة وحضارة ليست مسلوبة ولا منتزعة ولا مستعارة من أحد من خلق ¬

_ (¬1) العارية: الشيء المستعار.

الله، بل هي فننا نحن وعيشتنا نحن وحضارتنا نحن، تألفها نفوسنا وقلوبنا، ويعرفنا الناس بها وتكون علمًا علينا، وتدل على أننا نصنع الفن فنجيد، ونبنى الحضارة فنبدع كما أبدع آباؤنا رضي الله عنهم. يوم واحد تعيشه في الماضي وتحس أنك قد عشته وتملَّيت بالعيش فيه، لهو ذخيرة لا تنفد تعينك على فهم طبيعة الأرض التي تسكنها، وعلى الوصول إلى كنه ما تنطوى عليه نفسك، وهو بعث للهمة الراقدة وإحياء للقوة الكامنة، وتحرير لنا من أسر التعبد للمدنية الغربية على غير هدى وفي غير طائل. يوم في الماضي يحرر المرء من أسْر الحاضر، فإذا نالت النفس حريتها فهي خليقة أن تعرف طريقها إلى تحرير أمة من استعباد أمة أخرى، أرادت أن تفرض عليها إرادتها وحضارتها معًا. ونحن مقبلون على اليوم الذي ينبغي أن تملأ قلوبنا حرية مستمدة من أصولنا البعيدة، لا حرية مستعارة من الأمم المعاصرة، فلنرجع إذن إلى الماضي قليلًا، ففيه المدد الذي لا ينفد والمَعِين الذي لا يغيض.

عبر لمن يعتبر

عبر لمن يعتبر في اليوم الخامس من أغسطس 1947 ارتفعت مصر والسودان بقضيتها إلى مجلس الأمن تطلب النصفة من بريطانيا التي اعتدت على استقلالها واحتلت أرضها من منبع النيل إلى مصبه، ووقف رئيس وفد مصر والسودان "محمود فهمي النقراشي باشا" يميط اللثام عن السياسة البريطانية منذ سنة 1882، وكان لابد له من أن يكشف طرفًا من سوءات هذه الدولة التي قام كيانها على استعباد الشعوب وإذلالها واهتضام حقوقها. وكان الذي كشفه شيئًا ضئيلًا إذا قيس بما كان يمكن أن يقال أو يكشف من الأساليب الخبيثة التي دأبت بريطانيا على التذرع بها إلى عدوانها الوحشى على الأمم في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر الميلادى. وكان رئيس وفد مصر والسودان يذكر الماضي ويروى عن التاريخ أصدق رواية في أعف لفظ، فأبى له أدبه أن يصف أفعال بريطانيا باللفظ الذي ينبغي أن توصف به، والذي سوف يصفها به التاريخ بعد أن تسقط هذه الدولة من عداد الدول التي يكون لها في هذه الأرض سلطان يقوم على القوة الغاشمة، والدعاية الكاذبة، وعلى التضليل والافتراء والعبث بعقول الناس. ولم يكد النقراشى يفرغ من عرض قضية بلاده على أعضاء مجلس الأمن، حتى هبَّ مندوب بريطانيا السير "ألكسندر كادوجان" يروى لمندوبي مجلس الأمن تاريخ هذا العدوان البريطاني رواية ملفقة مبتورة حشوها العبث بالتاريخ، والاستهانة بالجنس البشرى، والاستخفاف بعقول الذين يسمعون روايته المدلسة عن تاريخ حقبة من الدهر يستطيع كل مندوب ممن يسمعونه أن يفتح بعدها أي كتاب من كتب التاريخ الصحيحة، فيعرف مقدار السخرية التي سخر بها هذا الرجل من سامعيه وكان يسوق هذه الرواية المزيفة بأسلوب الواثق المطمئن بل ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 738)، أغسطس 1947، ص: 915 - 918

بأسلوب الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولا ريب في أن السير "ألكسندر كادوجان" هو أول من يعلم أن الذي يقوله باطل كله، ولكنه رجل من ساسة بريطانيا -أي رجل من أعظم الممثلين الذين يجعلونك تحس أن المسرح قد انقلب تحت عينيك حقيقة واقعة. ونحن لن نعلق على ما قاله "النقراشي باشا" ولا على ما قاله "السير كادوجان"، فالحق أبين من أن يحتاج إلى إيضاح لمن أراد الحق والتمسه وحرص [على] (¬1) التثبت منه، ولست أظن أن أحدًا من مندوبي أمم مجلس الأمن يخفي عليه وجه الحق في الذي سمع من الرجلين. فإن كان بناء مجلس الأمن قائمًا على العدل والإنصاف وإيتاء كل ذي حق حقه، فقد نالت مصر إذن حقها من غاصبها كاملا غير منقوص ولا مشروط بشرط. وإن كان مجلس الأمن هو سوق الرقيق الحديثة التي أنشأتها الأمم الغالبة لكي تبيع خلق الله وتشتريهم على الهوى، فإن مصر والسودان سوف تعلّم هذا المجلس علمًا جديدًا لم يكن يتوقعه من أمة ضعيفة أضعفها الاستبداد البريطاني على مدِّ خمسٍ وستين سنة -لأنها أمة قوية قد علمها هذا الاستبداد أن الحقوق تنال بالجهاد المر، وبالدم المهراق، وبالإيمان الذي لا يتضعضع. ولقد كان فيما قاله "النقراشى" وفيما قاله "كادوجان" عِبَرٌ لمن أراد أن يعتبر، ونحن العرب أحوج الناس اليوم إلى الاستفادة من العبر المواضى، فإن جهاد مصر والسودان حلقة من حلقات الجهاد الذي كُتِبَ علينا منذ احتلت بلادنا بريطانيا وفرنسا وسواهما من الأمم التي استعانت على ضعفنا وغفلتنا بقوتها ويقظتها وجشعها الذي لا يشبع ولا ينطفئ. فأول هذه العبر أنه ينبغي للمجاهدين في سبيل بلادهم أن يحذروا كل الحذر من الخوف، فإن الخوف آفة الجهاد، وما ساور الخوف قلبًا إلا انتزع منه البصيرة التي هي رائد كل مجاهد. وما نفي الخوف امرؤ من قلبه إلا زلزل بجرأته قلب ¬

_ (¬1) يتعدى هذا الفعل بـ"على"، فزدتها.

خصمه وجعله يضطرب بين يديه وإن كان أقوى منه بأسًا وأشد صولة. وقد نفي "النقراشى" الخوف من قلبه، فوقف "كادوجان" بين يديه مضطرب الحجة حتى لم يجد لنفسه مناصًا من أن يلجأ إلى الأكاذيب القديمة التي ألفتها بريطانيا وبرعت في تزويقها وتزويرها تريد بذلك أن تسحر عقول الناس. ولو كان الساسة العرب قد حرصوا على أن يكون هذا موقفهم في كل أمر وفي كل عهد وفي كل ساعة، لما أتيح للاستعمار البريطاني والفرنسي أن يبقي ضاربًا بجذوره في بلادنا إلى هذا اليوم من أيام الناس. فهذه جرأة اللسان، فعلى ساستنا منذ اليوم أن يتبعوا ذلك بجرأة أخرى هي جرأة العمل، ولو فعل الساسة أفعالهم بجرأة وشمم وإباء على الضيم، لما رأينا اليوم بلدًا كمصر والسودان يعج بالمستهترين من الأجانب والمشردين وصعاليك الأمم، يستولون على أمواله وأراضيه وأخلاق بنيه باسم حرية المهاجرة وحرية التجارة وحرية العمل. لقد أظلهم الاستعمار البريطاني بظله وحماهم حتى بات المصري والسوداني غريبًا في بلاده، يأكله كل طارئ، ويدعه جوعان عريان منبوذًا في بلاده وتحت سمائه. وعبرة أخرى هي أن التساهل مخافة العواقب شر كله. فقد رأى بعض ساستنا أنهم إنما يفعلون خيرًا كثيرًا لبلادهم إذا تساهلوا لبريطانيا في بعض الحقوق، ظنًّا منهم أن ينالوا من وراء ذلك حقوقًا أخرى هي أولى بالتقديم والنظر والاهتمام، فكانت العاقبة أن دخلنا مع بريطانيا في الدائرة المغلقة التي يسمونها "المفاوضة". فإذا نحن نضيع حقوقنا كلها جملة واحدة، وإذا بريطانيا تريد أن تحتج علينا اليوم بما تساهل به أولئك الساسة في حقوق بلادهم، فتأكل علينا حقنا كله حين تريد أن تمنعنا من أعظم الحقوق البشرية وهي الحرية. وتريد أن يقطع قلب مصر بقطع السودان عنها، لأن قومًا من الساسة غفلوا زمنًا طويلا عن رفض كل اتفاق لا يشمل السودان كما شمل الجزء الشمالى من وادي النيل وهو مصر، فارتضوا أن يعلقوا مسألة السودان ويأخذوا من عبث بريطانيا ما زورته لهم وخدعتهم به ثم هي اليوم تمن علينا أنها أعطتنا تلك الفضلات التي لا يعبأ بها إلا الذليل الخانع المقيم على الضيم.

وعبرة ثالثة هي أن زعماء الثورة على العدو ينبغي أن يظلوا أبدًا زعماء الثورة، لا رؤساء حكومات تحت ظل حماية مقنعة تسمى استقلالًا كذبًا وتضليلًا في العرف الدولى. فكان ينبغي لهؤلاء الزعماء أن يظلوا بمنجاة من إثم الحكم تحت ظل الاستعباد البغيض وأن يكونوا دائمًا أيقاظًا لا تنيمهم شهوة الحكم، وبذلك يضمنون لبلادهم أن تظل يدًا واحدة على العدو، وأن تظل يقظة متنبهة لا يخدعها لفظ "الاستقلال" عن الخبث الذي انطوى عليه وأن يصارحوا الشعب دائمًا بالحقيقة التي لا تستر، وهي أنه صار "مستقلا" في العرف الدولى، وأن يكشفوا له ما استطاعوا عن خدع الاستعمار الذي يعبث بهم. وإلا فأي خديعة كانت أكبر على هذا الشعب من خديعة الناشئة في المدارس والبيوت، وهم يقرأون ويسمعون أن مصر دولة مستقلة، وهي اليوم تقف لتقول للناس على رؤوس الأشهاد في مجلس الأمن إن الاستقلال الذي ضمنته بريطانيا! ! كان استقلالا مزيفًا، لأن الجنود البريطانية كانت لا تزال تحتل بلادنا ولأن السفير البريطاني كان ينصب الحكومات المصرية ويقيلها كما يشاء وتشاء دولته المستعمرة لبلادنا. لقد ظن أولئك الرجال أن هذه سياسة وكياسة وحسن تدبير، فإذا هي غفلة وحماقة وسوء تقدير. ولولا يقظة هذا الشعب الأبي الكريم، لما استيقظ هؤلاء الزعماء البتة، ولمضوا إلى الغاية في التنازع على الحكم وشهوات الحكم وفتن الحكم، فالشعب هو الذي انتهى بنا إلى مجلس الأمن لا الزعماء ولا أولئك الساسة. وعبرة رابعة هي أنه ينبغي لزعماء الثورة أن لا يقبلوا البتة مفاوضة الغاصب على حق من حقوق البلاد، فإن حقوق الحرية مترابطة لا ينفك بعضها من بعض، ففيم يفاوض الإنسان إنسانًا قد سلبه حقوقه؟ إنها كلمة واحدة: "هات حقى"، ولا تدع المطالبة بالحق كاملا حتى يتركه لك أو تموت دونه. ومادام الغاصب لا يستطيع أن يفني شعبًا بأسره، فالشعب هو الظافر المنصور في النهاية، مهما لقى من عذاب وتنكيل واضطهاد وبؤس ولو كان هذا من فعل مصر والسودان منذ سنة 1882 لما انقضت سنوات بعد سنة 1919 سنة الثورة، حتى كان الغاصب قد أسلم إلينا حقوقنا كاملة بلا معاهدة ولا مفاوضة. ولكن زعماء الثورة رموا بأنفسهم في المفاوضات، فكانت العاقبة أننا بقينا نفاوض بريطانيا سبعة عشر

عامًا، فإذا هي تعطينا معاهدة سنة 1936 تحت الضغط والقهر والتهديد، وإذا هذه المعاهدة احتلال تام، ولكنه سمى في العرف الدولي "استقلالا". وعبرة خامسة هي أن الذين يدخلون المفاوضات ويعقدون المعاهدات تحت ظلال السيوف، وبضرورة التهديد والقهر، كان ينبغي عليهم أن يكونوا ناسًا غير زعماء الثورة، أما زعماء الثورة حين يفعلون ذلك، فهم بين رجلين: إما مدلس كذاب يخدع الناس ويقول للناس هذه معاهدة الشرف والاستقلال، وهي ليست سوى معاهدة للاحتلال الدائم، وإما رجل ضعيف الرأي منخوب الفؤاد يوقع على المعاهدة ثم لا يجرؤ أن يقول لشعبه إن هذا الذي وقعت عليه احتلال لبلادكم فاحذروه وارفضوه وثوروا في وجهي ووجه من رضيه معى. وهذا الثاني لن يستطيع أن يقول ذلك، فهو مضطر إذن إلى التلفف والتلفيق والسكوت وادعاء الشجاعة حين يقول: "هذه معاهدة لولا القهر والتهديد لما وقعتها"، ويقولها في غمرة تلك الأمواج الهائلة من الخداع والأكاذيب التي اصطلح على نشرها بين الشعب الغافل المنكوب زعماء من أنفسنا، وساسة من أخبث ساسة بريطانيا في هذا القرن. يا له من عبث أيها الساسة المخادعون! وتبت أيديكم يوم وقعتم وثيقة أراد بها الغاصب إذلالكم وإذلال بلادكم فقبلتموها، وهو اليوم مُصِرّ على أخذ بلادكم بما جنت أيديكم من شرور تلك المعاهدة الخبيثة التي زعمتم أنها فرضت عليكم فرضًا. وقد كانت لكم مندوحة عن قبولها لولا الضعف والخور والجبن وشهوة الحكم التي استولت على قلوبكم. وعبرة سادسة هي أن بريطانيا وكل دولة مستعمرة من هذه الدول الأوربية لا تتورع عن اتخاذ كل وسيلة تبلغ بها غايتها، فمن أجل ذلك ينبغي للشعب أن يعرف منذ الساعة الأولى رجاله ورجال عدوه، وأن يَسِمَ الخونة بسِمَة لا تزول، وأن يتناقل هذا التاريخ عامًا بعد عام وجيلا بعد جيل في البيت والمسجد والمدوسة والمجالس، فهذا وحده هو الكفيل بأن يعرف الشعب حقيقة كل زعيم تسول له نفسه أن يستغل غفلة الناس أو ذعرهم أو لهفتهم فيغرر بهم في مزالق السياسة الاستعمارية، فإن مصر والسودان ظلت أعوامًا تأبى أن تعترف باتفاقية سنة

1899 التي فرضتها بريطانيا على مصر والسودان على يد رئيس وزراء كان خليقًا أن يخون بلاده، ثم جاء الموقعون على معاهدة سنة 1936 فقبلوا أن يكون لهذه الاتفاقية الباطلة التي لم تعترف بها مصر قط -ذكر في معاهدتهم الوبيلة الخبيثة. فلو كان الشعب يومئذ على ذكر لما كان من شئون الخونة السابقين وما فعلوه، لما جازت عليه الكلمة الملعونة في معاهدة سنة 1936، ولثار يومئذ على هؤلاء الزعماء لأنهم أهدروا كل جهاده الماضي، وكل ما أراق من دماء وأضاع من جهود، وأنفق من سنين بنص موبوء في معاهدة موبوءة. ولن نفرغ من ذكر العبر الكثيرة التي توحي بها هذه الساعات في المعركة الفاصلة بيننا وبين بريطانيا في مجلس الأمن وفي كل عبرة من هذه العبر خير كثير يرجى أن لا يفوت العرب إذا حذروا وانتبهوا وآثروا السلامة مما وقعنا نحن فيه. ومن حسن الحظ أن أكثر زعماء العرب اليوم من مراكش وتونس والجزائر وليبية وفلسطين والعراق هم اليوم أشد إحساسًا من أسلافهم بالتبعة الملقاة على كواهلهم، وأقوى إيمانًا بالحقوق الإنسانية من بعض زعمائنا في الماضي، ولكن ينبغي لهم أن يجتنبوا كل الاجتناب أن يقبلوا مفاوضة الغاصبين أو معاهدتهم أو الدخول معهم في حديث السياسة والكياسة واللباقة، فإن هذا وإن أفاد قليلا، فإنه شر مستطير على مستقبل الشعب في الشئون السياسية، وفي النواحي الأخلاقية. وحسب هؤلاء الزعماء العرب ما جربته مصر من مطاولتها والمد لها أكثر من تسع وعشرين سنة باسم المفاوضات والمعاهدات، حتى فقد الشعب كثيرًا من إيمانه بحقوقه، ولولا أن الله أتاح لنا هذه الحرب الأخيرة لتنفض عن عيوننا النوم والتخدير الذي أصابها باسم المفاوضة لظللنا إلى اليوم نيامًا تجرنا بريطانيا وراءها طمعًا منا في أن ننال شيئًا من حقوقنا بمفاوضتها ومعاهدتها. أيها الزعماء العرب لا تخونوا بلادكم: أي لا تفاوضوا بريطانيا أو سواها من الدول المستعمرة ولا تعاهدوها ولها في بلادكم ظل من سلطان، ولا تخافوها ولا تخشوا لها بأسًا ولا قوة واحرصوا على أن تبقى شعوبكم عالمة بحقيقة ما يحيط بها بكل أسلوب تستطيعونه، وإياكم والحكم فإنه الفتنة المبيدة والآفة

الحالقة (¬1) والبلاء المبين. لقد كان لكم فينا عبرة فاعتبروا، وقفوا منذ اليوم أيقاظًا لا تغفلون، فربَّ ساعة سوف تأتي علينا وعليكم فنناديكم للجهاد، فهبوا معنا واحذروا أن يكون بينكم زعيم يسول لكم أن الخير في الرضى والتراضي والتساهل، فإن ذلك هو الوبال، وهو آخرة العرب إن فعلتم، إن مصر والسودان قد بدأت أول الجهاد؛ فاستعدوا أيها العرب! ¬

_ (¬1) الحالِقة: المُهْلِكة.

اتقوا غضبة الشعب!

اتقوا غضبة الشعب! أجلت قضية مصر والسودان في مجلس الأمن إلى يوم الثلاثاء التاسع من سبتمبر سنة 1947، بعد أن تمتعت بريطانيا بالخذلان الذي كان مثله أبعد شيء عن بالها منذ عشرات سنوات وحسب. فقد تعودت بريطانيا أن تأمر أو تدسَّ فيطاع أمرها أو دسُّها، وتخرج ظافرة من كل معركة تدور بينها وبين أمة من الأمم التي ابتليت بشرها الذي لم تنطفئ له جمرة منذ نجمت قرون هذه الدولة في تاريخ العالم الحديث. ونحن نسأل الله أن يتمَّ الخيبة على هذه الدولة الطاغية بانهيار نظامها الاقتصادى، ليخلص العالم من الأخطبوط الفاجر الذي ضم في أحشائه وبين جوارحه دولا برمّتها من الهند إلى العراق إلى مصر والسودان إلى جنوب أفريقية -إلى عالم كان يتمدّحُ شعراؤها بأن الشمس لا تغيب عن ملكه، وأنها هي التي حملت أمانة الجنس الأبيض و (عبءَ الرجل الأبيض) في تحضير الأجناس الملونة، أي استعبادها وظلمها، وإغراء فرنسا وبلجيكا وهولندة وسواها من أقزام الدول باستعباد جزء من هذه الشعوب، تسومها الخسف بكل نذالة تدخل في طوق هذه الأمم. إن مجلس الأمن هو اليوم بين اثنين: إما أن يُشهد العالم كله على أنه أقيم على حق، وأنه حافظٌ وازعٌ ينهي الطغاة عن الإيغال في طغيانهم، وإما أن يشهد العالم كله على أنه سوق حديثة للرقيق والنخاسة أقيمت لتتاجر بعباد الله بلا حياء ولا ورع. فكان تأجيل قضية مصر في هذه المرة، بعد المناقشات التي دارت فيه دليلا على أن مصر والسودان قد استطاعت شيئًا ما أن توقظ طرفًا من ضمير هذا المجلس، ومن ضمير الأمم التي اشتركت فيه، واستطاعت أيضًا أن تجعل بريطانيا مغمورة في ركام الفضائح والفظائع التي ارتكبتها في مصر والسودان، والتي تصر على المضي في ارتكابها بكل جرأة لا تستحى. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 740)، سبتمبر 1947، ص: 972 - 974

ونحن نحب أن نثنى ثناء خالصًا من قلوبنا على الرجل المصري السوداني، الذي لم يزعزعه تهديد بريطانيا وترويعها، ولم ينل من قلبه الخوف، ولم تثنه عن الهدف الأعظم حِيَل ولا أشراك ولا جدال ولا تغرير، فانطلق يبين عن أهداف مصر والسودان وعن حقوقها وعن البلاء الذي نزل بها بيانًا شفى صدور المصريين والسودانيين جميعًا. إننى لم أعجب بهذا الرجل لأنه سياسي بارع، ولا لأنه قانوني ضليع، ولا لأنه خطيب مفوّه، ولا لأنه رئيس حكومة -كلا بل لأنه أول رجل بعد أن ذهب مصطفى كامل- وقف وحده في عرين الأسد البريطاني ليسمع الدنيا كلها أن هذا الأسد البريطاني قد اعتدى عليه وبغي وطغى وظلم وتجبر، وفعل الأفاعيل الخسيسة التي أراد بها استعباد مصر والسودان. إنه الرجل المسئول الوحيد الذي قام في مجلس دولى يطعن بريطانيا العظمى طعنا متداركا غير راحم ولا مشفق ولا هياب، وهو يعلم أنه يطعن بهذا الطعن دولا كثيرة من أعضاء هذا المجلس. لقد كان محمود فهمي النقراشى رجل مصر، لأنه كان وطنيًا يتكلم بلسان الجروح التي مزقت جسد أمته، لا بلسان السياسي المحتال الذي يريد أن يرضى هذا ويتجنب غضب ذاك. وهذا وحده هو السّرّ الأعظم الذي جعل قضية مصر والسودان أعظم قضية عُرِضَت على مجلس الأمن وأخطرها، وهذا وحده هو الذي أوقع التخاذل في الصفوف التي جمعتها بريطانيا، وظنت أنها سوف تنصرها في باطلها نصرًا مبينًا ترجع بعده مصر والسودان خاشعة خاضعة تحت ظلال الخذلان الذي أمّلت بريطانيا أننا سوف نمنى به. لقد ضرب النقراشي مثلا خالدًا في تاريخ مصر الحديث فدل بذلك على أنه رجل يركن إليه في ملمّات الأحداث. مرت على مصر والسودان حقبة كان الذي يقول فيها بمثل قالة النقراشى في مجلس الأمن يُعد رجلا مخبولا خياليًّا تسخر منه الصحف والمجالات، وتزدريه جماهير من المخدوعين، ويتخذ هدفًا لكل دعابة تجري بها ألسنة الهازلين من أحلاس (¬1) النوادي والقهوات. إن هذا الرجل جدير ¬

_ (¬1) الأحلاس: الملازمون. جمع حِلْس، وأصل الحِلْس: كل شيء وَلِيَ ظهر البعير والدابة تحت الرَّحْل والقَتَب والسرج، ومن ثم قيل للمقاتل الذي لا يبرح الحرب، والفارس الذي يلزم ظهر الفرس: حِلْس، فيقال: هم أحلاس الخيل.

بأن يرفع اسمه منذ اليوم حيث لا تنال مكانه أسماء الدجالين والمنافقين الذين ظهروا في تاريخ السياسة المصرية منذ سنة 1919 إلى يوم الناس هذا. فحسبه فخرًا ومكانة أن يكون هو الذي استطاع أن يجمع إرادته وعزمه وحزمه، فلم يصرفه خوف أو إغراء عن تحقيق كَلِمَة مصر والسودان الخالدة، وعن إعلان هذه الكلمة في أرجاء الدنيا، وهي: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء". * * * ويقابل هذا الرجل الصادق رجال آخرون من صنائع بريطانيا -كانوا من صنائعها القدماء منذ تحركت مصر والسودان في سنة 1919 تطالب الدولة الباغية باستقلالها، وتريق دماءها وتبذل مهجها، ويأتي أحدهم فيكون سيفًا مسلولا على أعناق إخوانه المصريين يتعسف بهم عسف الجبار المارد، وإن كان هو في نفسه ليس بجبار ولا مارد إلا كما كان أبو حية يسمى قضيب الخشب الذي يحمله سيفًا هندوانيًا (¬1) -وإنما كان جبروته وتمرده يومئذ من جبروت بريطانيا وتمردها- فهو دمية تلعب بها لا أكثر ولا أقل. لقد قام النقراشى يعلن ملأ الأمم في نواحي الأرض، أن هذه ساعة فاصلة في تاريخ مصر والسودان، وأنه قد عزم على طرد الإنجليز من بلاده، وأنه لن يقبل مهادنة، ولا مفاوضة ولا مراوغة بعد اليوم، وأن بلاده توشك أن تنفجر، وأن البلاء على الأبواب لن يمنعه ضغط الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وأن مصر والسودان قد أبت إلا طرد بريطانيا من بلادها كلها بلا مهلة ولا تريث ولا مواعيد، ووقف مندوب بريطانيا يصر إصرار البغاة الطغاة على أن المعاهدة تخول له احتلال أرضنا، ويستدل مرة بعد أخرى بالذي كان في مفاوضات صدقي - بيفن وكأنه يريد أن يقول إن صدقى قد قبل ما يأتي هذا الرجل -يعني النقراشي- فينكره ويرفضه، ويكذب على مصر والسودان فيدعى أنها تريد طرد بريطانيا وجلاءها جلاءً تامًّا ناجزًا عن أرض وادي النيل كله، على غير ما تدل عليه مفاوضات صدقي - بيفن. ¬

_ (¬1) هو الهيثم بن ربيع، من شعراء الدولتين. وكان أهوج بخيلا جبانا كذابا. وكان له سيف ليس بينه وبين الخشبة فَرْق، يسميه "لُعاب المنية".

وفي خلال ذلك يقف صدقي باشا الذي اتخذته اليوم بريطانيا حجة على مصر، ليقول إن خير الوسائل لنيل حقوق مصر والسودان من بريطانيا هي المفاوضة، كأن هذا الرجل لم يعلم بعد أنه ظل روح ويغدو ويتلاعب هو وتتلاعب بريطانيا، وكانت العاقبة أن أفضى الأمر به إلى الاستقالة، بعد التكذيب الخبيث الذي كذبت به بريطانيا كل شيء قاله في تفسير بروتوكول السودان. لقد كان العذر متسعًا لامرئ سواه إن قال بمثل الذي يقول به. ومتى يقول هذا الرجل هذا الكلام؟ يقوله في ساعة الحرب التي شنتها مصر والسودان على بريطانيا! إننا لا نبالي كثيرًا ولا قليلا بما يقوله هذا الرجل وأمثاله، وليس من همنا أن نقف عنده لنفنّده، بل همنا أن نبين أن وراء كلامه معنى آخر، هو أن بريطانيا لما أحست بتباشير الخذلان الذي سوف تناله في مجلس الأمن، وعرفت أنها لن تستطيع أن تواجه العالم بالأباطيل التي كانت تواجه بها المفاوضين فيرهبونها ويخشون بأسها، فلجأت عندئذ إلى قدماء صنائعها في وادي النيل ليخذلوا قلوب الناس ويخوفوهم ويوقعوا بينهم يبغونهم الفتنة، ويكون ذلك فَتًّا في عضد النقراشى، وتمهيدًا لانقلاب يحدثونه مرة أخرى بالقهر والتهديد، وبخيانة من يستحلى موارد الخيانة لبلاده -لمال يناله، أو جاه يحرزه، أو أبهة يختال فيها، أو أمل يمنى بإدراكه على يد بريطانيا صاحبة النعم الجزيلة والآلاء التي لا تنفد! إن بريطانيا تبذل الآن كل جهدها في ردّ مصر والسودان عن الطريق الذي لا طريق غيره لمن أراد أن ينال حقه، وأن يجعل هذا الحق ذِكْرًا مذكورًا في قلوب الأبناء والأحفاد حتى لا تنطمس معالمه، وحتى لا ينخدع الناس عنه بقليل مدلس عليهم كما حدث في تاريخ مصر والسودان منذ سنة 1924 إلى هذا اليوم، حتى بلغ البلاء أن صار الناشئة يقولون: "مصر والسودان دولة مستقلة"، وكلهم يعلم ويرى ويشهد بعينيه الغزاة في ثيابهم يروحون ويغدون في الشوارع والطرقات، ويغشون دور الملاهي ويقيمون المدارس المعادية لروح مصر والسودان في قلب بلادنا، ويحمون لصوص الأجانب، وينصرونهم على أبناء البلاد بكل ما استطاعوا.

ومصر والسودان لن ترتد مرة أخرى إلى طريق "المفاوضة بين مصر وبريطانيا" ولن ترتد إلى تعليق مسألة السودان وجعلها مسألة قائمة على حيالها، ولن ترتد إلى الاعتراف بالورقة الباطلة التي كتبت في سنة 1899 لتشرك بريطانيا مصر في حكم السودان. فإذا كان صدقي باشا قد علم من الثقة الذي أوعز إليه أن هذه الخطة هي الباقية، وأنها هي التي سنصير إليها بعد انهزامنا في مجلس الأمن، وأنه لا محيص لمصر والسودان من المفاوضة قبل الجلاء عن وادي النيل كله -فقد كذب الذي أوعز إليه بذلك. وليعلم صدقي باشا أن الرائد لا يكذب أهله (¬1)، وأننا نحن أصدق حديثًا من الذين يعتمد هو على حديثهم، فمصر والسودان قد علمت اليوم علمًا ليس بالظن أن مفاوضات صدقي - بيفن، كانت زلة وقى الله شرها، وأن الله سخر النقراشى ليقيل مصر والسودان من تلك العثرة المردية، وأن مصر والسودان قد عزمت أمرها على أن لا تضع يدها في يد بريطانيا مادام لها على أرض وادي النيل ظل تستظل به أفاعيها، وثعالبها، ووحوشها وصنائعها أيضًا. وخير لصدقي باشا ومن كان على شاكلته أن يعلم أشياء كثيرة، فلا يغرر بنفسه في مهالك بريطانيا التي تطأ بأقدامها كل من يخدمها إذا رأت في ذلك خيرًا ينفعها. خير له أن يعلم أن الزمن الذي كان هو فيه أحد أبطال السياسة، قد انقلب كله وذهب وعفَّى عليه الذي عفي على مآرب كثيرة. وخير له أن يعلم أن الجيل الذي يعيش في هذه الأيام غير الجيل الذي كان يرهب سوط الجلاد ويخاف وسْمَ السياط على أبدانه، وخير له أن يعلم أن العِلْمَ القليل الذي كان يناله الرجل فيتبجَّح به ويخيل إليه أنه صار عقلا وحده، قد حل محله عقل كثير لا قبل لأحد بدفعه بعد اليوم. وخير له أن يعلم أن الدُّرة التي تتوهج اليوم بالإخلاص لمصر والسودان، خير من كل الدُرّ القديم الذي زيفته بريطانيا وملأت قلبه نعمة وجاهًا وسلطانًا، وخير له أن يعلم أن دَمَ أي صعلوك مصري سوداني مخلص ¬

_ (¬1) هذا مَثَلٌ، يضرب للذي لا يكذب إذا حَدَّث. وأصل الرائد هو الذي يُرسَل في البحث عن الكلأ والمرعى، فإذا لم يَصْدُق قومه فقد غرَّر بهم وأهلكهم.

لبلاده، قد صار أكرم على مصر والسودان من دماء السادة الذين سادوا بالخيانة والنفاق والخداع. وخير له أن يعلم في أول ذلك كله وآخره أن احتقار مصر والسودان، وازدراء هذا الشعب النبيل ووصمه بأنه لم يبلغ بعد المرتبة التي تخوّله أن يتبوأ مكانه في العزة والكرامة -لن ينفع بعد اليوم صاحبه والمتحدِّث به، والعامل على تثبيته في أذهان من يحدثهم. وخير له أن يعلم أنه لا يزيد على أن يكون فردًا من أفراد هذا الشعب لا أكثر. ليس من همّي مرة أخرى أن أتناول قول صدقي بالنقد أو التفنيد، ولكن كل همي أن أدُلّ ناسًا من خلق الله الذي نبتت لحومهم، وجرت دماؤهم، وامتلأت بيوتهم خيرًا من ماء النيل الذي يجمع مصر والسودان، على أن شعب مصر والسودان قد حزم أمره على أن يستأصل شأفة الماضي كله ويقطع دابر المنافقين المختالين بغير سلطان أتاهم، وأنه قد أجمع عزمه على أن يحطم سلاسل الاستعباد كلها، وأنه لن يقف دون غايته لرهبة أو رغبة، وأنه عرف أن الساسة قد خدعوه زمنًا طويلا فأيما سياسي من القدماء، ممن كان من صنائع بريطانيا أو من المخدوعين بشرف بريطانيا، تسول له شياطين نفسه بعد اليوم أن يظن أنه أهدى من النقراشى وأعظم وأقدر، وأنه بالغ ما لم يبلغه النقراشي بالمفاوضة والمساومة على حقوق مصر والسودان فمصيره أن ينال من بأس هذه الأمة الناهضة المتدفقة العارمة شرًّا كثيرًا كان أحوط له أن يلوذ منه بملاذ كريم، هو يستظل بظل الأمة التي ولدته وأنشأته وكرمته بالانتساب إليها. فإذا أبى أحدهم إلا أن يطلب لنفسه مجدًا بدعوة بلاده إلى المفاوضة أو خيانة بلاده بقبول عون بريطانيا له حتى يبلغ الوزارة كما بلغها بعضهم من قبل على أسنة الحراب البريطانية، فإنه سيعلم يومئذ أن الشعب المصري السوداني أشد منه ومن بريطانيا بأسًا وظلما ومصابرة على الجلاد، وسيعلم أنه قد قدر فخاب فامتحن امتحانًا شديدًا كانت له عنه مندوحة. أيها الساسة القدماء! احذروا غضبة الشعب، فلكل شعب غضبة كالنار المشعلة تأكل الأخضر واليابس، وهذا أوان غضبة مصر والسودان بعد أن يبس الثرى بيننا وبين بريطانيا.

مؤتمر المستضعفين

مؤتمر المستضعفين كانت جلسة مجلس الأمن في يوم الأربعاء 10 سبتمبر 1947 هي الحكم الفاصل في قدر هذا المجلس وفي بيان قدرته على فض النزاع الذي ينشب بين الدول صغيرها وكبيرها. وكان ظن الذين دعوا إليه وأنشأوه -أو كانت دعواهم- أن هذا المجلس قد أنشيء ليكون فيصلا في الخصومات التي يخشى أن تفضى إلى حرب، وأنه هو المهيمن على السلام وحفظه في هذا العالم المائج المتدافع. فجاءته قضية مصر والسودان، وليس في قضايا الدنيا كلها ما هو أوضح منها وأبين، ووجه العدل فيها ظاهر لكل ذي عينين عمشاوين فضلا عن عينين بصيرتين، ومع ذلك كانت كل جهود هذا المجلس العجيب أن يقول للمتخاصمين: اذهبا فاطلبا شيئًا تصطلحان عليه! وليس في الدنيا ما هو أعجب من هذا، متخاصمين أعجزهما أن يجدا للصلح مكانًا بينهما، فيقول لهما الحاكم الوازع: اذهبا فاطلبا صلحًا! ! ونحن لا نريد أن نطعن في هذا المجلس، ولا أن نقول إنه شيء لا قيمة له ولا غناء فيه، ولا أنه أوشك أن يصبح سببًا في فساد العالم ودافعًا جديدًا لتقريب ساعة الحرب، ولا أنه كشف عن قدر من العجز يحل للناس معه أن يطلبوا حله ويسرِّحوا وفود الأمم المشتركة فيه إلى بلادهم، لا نريد شيئًا من هذا، بل نرى أنه مجلس لابد من بقائه على ما هو عليه، ولابد من ذهاب كل دولتين متخاصمتين إليه، فإنه يتيح للمظلوم أن يفضح ظالمه ويكشف عن آثامه التي يسترها عن العالم بالأكاذيب والتمويه. ولكن كل ما نريده هو أن يتفضل هذا المجلس بأن ينفي عن نفسه نقيصة الغش والخداع، فإنه أنبل وأعظم من أن يرتضيهما لنفسه، فقد زوّر عليه الذين أنشأوه فوضعوا له اسمًا لا يناسب جلالة قدره ولا حقيقة معناه، وألصقوا به شيئًا ليس من الإنصاف أن يلصق به، وهو المحافظة على الأمن ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشر (العدد 742)، سبتمبر 1947. ص: 1028 - 1030

العالمى الذي يقتضي أول ما يقتضي أن تتساوى الدول المشتركة فيه في السيادة على الأرض التي يشملها اسم الدولة، حتى لا يقع التنازع بين سيادة وسيادة، فيختل التوازن ويصير الأمن العالمى مهددًا بالزوال. ونحن نقترح أن يسمى هذا المجلس "مجلس الأجاويد"، وقد اخترت هذه التسمية لقصة سمعتها: ففي الشطر الجنوبى من وادي النيل المعروف عندنا باسم "السودان"، والمعروف عند بريطانيا وأشياعها باسم السودان المصري الإنجليزي، ألف الناس إذا تخاصموا أن يلجأوا إلى جماعة من أصحاب الرأي يسمونهم "مجلس الأجاويد"، فيأتي المتخاصمون فيذكرون أسباب خصامهم، وتنظر الجماعة في أمر هذا الخصام، ثم ترى رأيها فتقول لأحد المتخاصمين: أكرمنا وانزل عن كذا، وتقول للآخر: وأنت فأكرمنا أيضًا وانزل عن كذا. ولا تزال تأخذ من هذا ومن ذاك، فإن قبل المتخاصمان أن ينزل كل منهما عن شيء وينزل خصمه عن مثله، فذاك، وإلا رفعت الجماعة يدها عن الأمر كله وقالت للمتخاصمين: لقد نفضت يدي، فاذهبا فاصنعا ما تشاءان! فمجلس "الأجاويد" هذا أشبه شيء بمجلس "الأمن" لولا أن الأول طابق اسمه مسماه، وأن الآخر كذب اسمه على مسماه. فمن الحسن كل الحسن أن يغير هذا المجلس اسمه ويبقى هو، لأنه مكان يتاح للدول فيه أن يعرف بعضها بعضًا على حقيقته بغير تدليس ولا تجمل ولا مواربة. وهذا في نفسه غاية مطلوبة ومنفعة لا مراء في أنها خير ينبغي الحرص على إدراكه وتحصيله، بل نقول أكبر من ذلك: إن تسريح وفود الدول المشتركة في [هذا] المجلس شر ينبغي اتقاؤه، لأنه يحول بين الدول وبين إدراك هذه الغاية المطلوبة والمنفعة العظيمة. وندع مجلس "الأجاويد" وما وحل فيه من عجز وضعف واحتيال على تفادى الحزم، ومن فراره عن وجه الحق فيما يعرض عليه من الخصومة، فإنه لم يخلق لمثل ما نطالبه به حين نذكر حقوق مصر والسودان أو سواهما من أمم الأرض. ندعه لننظر في خاصة أمرنا نحن دون أن نعبأ شيئًا بما فعل هذا المجلس، أو سوف يفعله.

وملخص تاريخ القضية المصرية السودانية، كما يعرفه كل أحد، هو أن مصر والسودان كانت فيما قبل سبتمبر سنة 1882 دولة واحدة لها حدود معروفة معترف بها في المحافل الدولية كلها لا ينازعها فيه منازع. وفي سبتمبر سنة 1882 اتخذت بريطانيا ما كان من أمر الثورة العرابية التي قام رجالها للمطالبة بحقوق الشعب الدستورية، ذريعة للتدخل في شئون مصر الداخلية، وكانت نيتها مبيتة على العدوان على استقلال مصر والسودان، وإخضاع هذه الدولة للسيطرة البريطانية الاستعمارية التي كانت يومئذ في عنفوان شدتها. فتم لبريطانيا ما أرادت، وانتهكت حرمة الشرائع الدولية، وادعت أنها أرادت تثبيت عرش خديوي مصر في ذلك الوقت محمد توفيق. ولما رأت أن الدول الأوربية المستعمرة قد بدأت تناوئها، زعمت أنها لن تلبث إلا قليلا حتى تجلو عن أرض مصر والسودان مرة واحدة في أقرب وقت مستطاع، حددته أحيانًا وتجاهلت تحديده أحيانًا أخرى. وظلت تماطل وتتعسف وتؤوّل، وتكذب وتفترى على مصر والسودان أخس افتراء، وهي في خلال ذلك تهدم كيان هذه الدولة المصرية هدمًا تامًا بحجة الإصلاح حينًا، وبحجة المحافظة على "حقوق" الأجانب في مصر وعلى مصالحهم. فلما جاءت الحرب العالمية الأولى، انتهزت بريطانيا هذه الفرصة وأعلنت الحماية على مصر والسودان دون أن تعبأ شيئًا بحقوق شعب مصر والسودان، وهي مطمئنة إلى سكوت الدول الحلفاء على فعلها في هذه الساعة الحاسمة من تاريخ العالم. ثم انتهت الحرب وهب الشعب المصري السوداني يطالب بريطانيا باستقلاله، ولكن بريطانيا لم تلبث أن وجدت منفذًا لتفريق كلمة هذا الشعب، فلوحت للزعماء بأنها تريد إنصاف مصر والسودان، وظلت تستدرجهم حتى قبلوا مبدأ مفاوضة بريطانيا في حقوق مصر الطبيعية، فأقبل هؤلاء الزعماء على مفاوضة بريطانيا منذ ذلك الوقت، فكانت زلة وخيمة العواقب في تاريخ مصر والسودان، ولو لم يكن لها من الشر إلا أنها أفضت إلى تعليق مسألة السودان من كل المفاوضات إلى سنة 1936، لكان ذلك حسبها من البلاء الذي ليس بعده بلاء.

ولما حدثت مفاوضات سنة 1936 الخبيثة، وانتهت بمعاهدة الاحتلال التي فرضت على مصر فرضًا تحت ظل الاستبداد والتهديد والتخويف، وقعت زلة أخرى أكبر من زلة المفاوضات نفسها، وهي ذكر الورقة الباطلة المعروفة باسم اتفاقية سنة 1899 - فكان ذكرها كأنه اعتراف بشرعيتها، واجتماع كل هذه الأخطاء واحتشادها منذ سنة 1921 إلى هذا اليوم، هو الذي مكّن لبريطانيا أن تقف في مجلس الأمن لتتكلم بالكلام الذي لا معنى له إلا أنه تزوير للحقائق، ولكنه تزوير اعتمد على هذه الأخطاء نفسها. فلولاها لما كان لبريطانيا كلام يقبله عقل عاقل، ولشق عليها أن تدلس في الحقيقة البينة، وهي أنها دولة معتدية حكمها كحكم سائر الدول المعتدية في الدنيا. ومع ذلك، فإن شيئًا من هذا لم ينفع بريطانيا، فالدول قد علمت ولا ريب أن بريطانيا معتدية بعد أن كشف النقراشى القناع عن الفضائح التي كانت مكتومة عن الناس وعن الدول، وبعد أن أبان فارس الخوري عن أساليب بريطانيا في قهر الدول الضعيفة وابتزاز حقوقها. فلما أحجم مجلس الأجاويد عن أن يقطع برأي في مسألة مصر والسودان، وخاف أن يمس كرامة بريطانيا الدولة الشريفة النبيلة إذا هو حكم لمصر والسودان بالحق، وتنزه عن وصف بريطانيا العفيفة الطاهرة بأنها دولة معتدية على حقوق الدول المسالمة -رجعنا من حيث بدأنا في سنة 1882، أي أننا وقفنا وحدنا لنقول للعالم مرة أخرى، هذه دولة معتدية، فلابد من رد اعتدائها ودفع عدوانها وبغيها بأي وسيلة تتاح لنا. فينبغي إذن أن ننذر بريطانيا إنذارًا لا رجعة فيه، بأن تسحب جنودها من كل بقعة كان يرفرف عليها علم مصر والسودان في سنة 1882 دون نظر إلى معاهدات سابقة أو عرف جار، أو اتفاقات باطلة. فإذا فعلنا فقد نبذنا إليه على سواء (¬1)، وأعذرنا أنفسنا أمام هذا العالم الجشع من الدول المستعمرة. ¬

_ (¬1) هذا بعض من كلام الله تعالى، جاء في سورة الأنفال، آية: 58: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، أي ناجِزهم بالحرب، وأَعْلِمهم قبل حربكِ إياهم أنك قد فَسَخْتَ العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمارة الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سَواء في العلم أنك محارب لهم.

ونحن شعب لا طاقة له بحرب بريطانيا بالسلاح، لأنها ظلت خمسًا وستين سنة تنزع من أيدينا كل سلاح، وتضعف جيشنا بكل أسلوب، وتحيط بنا من كل مكان، حتى لا نجد لأنفسنا منفذًا نستطيع أن نستجلب منه السلاح الحديث الذي يعيننا على حربها. هذا حق، ولكنه على وضوحه ليس بشيء، فإن الأمة التي تريد استقلالها وتحرص عليه لن تمنعها قلة السلاح من أن تفعل شيئًا كثيرًا تستطيع به أن تنال ما تريد. وبريطانيا لن تستطيع أن تفني هذا الشعب المصري السوداني إذا هب لقتالها مجردًا من كل سلاح إلا سلاح العزيمة والتضحية وبذل المهج وإرخاص النفوس والدماء في سبيل الوطن. وبريطانيا ترى أن من مصلحتها أن يستقر السلام في هذا الشرق الأدنى، وهي تتخذ هذا حجة لبقائها في مصر والسودان وفلسطين والعراق، فينبغي أن نبحث عن الأسلوب الذي يفسد عليها هذا السلام الكاذب الذي تنتهك هي حرمته باحتلال أرض هذه الشعوب، والعالم العربي كله يعلم أن مصر والسودان هي قلب بلاده فإذا ظل هذا القلب ضعيفًا مأسورًا في قيود الاستعمار فالعالم العربي عاجز عن أن يفعل شيئًا في سبيل النهضة التي تجيش بها صدور أبنائه، وهو أيضًا عرضة للبقاء الطويل تحت نير الاستعباد الأوربي الفاجر المتعصب، وهو أيضًا لحم على وضم (¬1) ينال منه كل طارئ وأفاق ما يشاء، ويصب عليه من ازدرائه واحتقاره ما تسول له نفسه الخبيثة، لأنه يعلم أنه قوى في حماية هذه الدول الطاغية المستعمرة جميعًا. فلزام إذن على هذا العالم العربي كله أن يهب هبة واحدة للجهاد -من أقصى مراكش إلى حدود العراق بغير استثناء- متخذًا كل وسيلة من المقاطعة إلى المحاربة الظاهرة والخفية جميعًا. وهذا الغرض السامي يتطلب منا أن نجمع شملنا، لا في مصر والسودان وحدهما، بل في كل مكان من هذا العالم العربي، وفي كل ناحية من نواحي ¬

_ (¬1) لَحْمٌ على وَضَم. هذا مَثَلْ. الوَضَم: كل ما وُضِع عليه اللحمُ من خشب أو غيره لتقطيعه، ويضرب مثلا للذلة والضعف. وفي حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "إنما النساءُ لحمٌ على وَضَم إلا ما ذُبَّ عنه".

العالم الإسلامي. وينبغي أن يتجرد منا جميعًا رجال يجوبون هذه الدنيا لتأليب الشعوب العربية والإسلامية على عدوان هؤلاء المعتدين، ولعقد المودة بيننا وبين الشعوب التي أظهرت مودتها لنا ودفاعها عنا. وينبغي ألا يفزعنا شيء فإننا مأكولون، والمأكول لا يبالي أن يأكله هذا أو ذاك، وجرأته هي وحدها الكفيلة بأن تضمن له ضربًا من الحرية في الاختيار. ومع ذلك فعسى أن يحدث شيء لم يكن أحد يتوقعه، فننال حقنا كاملا دون أن نطوق أعناقنا بمنة يمتنها علينا شعب أو دولة. وحسبنا أن بريطانيا تريد أن يستقر هذا الشرق وهذا العالم الإسلامي حتى توغل هي في عدوانها، فلنمنعها هي وأشياعها مما يريدون. هذا العمل الجليل لا يغني غناءه إلا إذا تعاونت الحكومات العربية والإسلامية معًا، وتعاونت شعوبها أيضًا مع هذه الحكومات تعاونًا شاملا كاملا لا ثغرة فيه، فأول ما ينبغي أن تقوم مصر والسودان فتدعو إلى عقد مؤتمر عام لكل الشعوب الصغيرة المجاهدة في سبيل الحرية والاستقلال، وأن يتولى هذا المؤتمر العام تحديد الخطط التي ينبغي أن نسير عليها حتى نبلغ هذه الغاية التي تُقِضّ مضجع بريطانيا ورأس أشياعها أمريكا لنسارع إلى دعوة هذا المؤتمر العام إلى عقد أول اجتماع في أقرب فرصة مستطاعة، فإن الإرجاء مفسدة للجهود وإضعاف للقوى وإضاعة للوقت، والإسراع لا يضر بل هو أنفع شيء مادام الهدف الأسمى هو أن نزعج بريطانيا وأمريكا أولا، وأن نتفق على الخطط العامة التي تكفل لنا نيل حقنا من هذه الشعوب المستعمرة العادية على استقلالنا وحريتنا. وهذا المؤتمر لا يتعارض قط مع عمل الجامعة العربية، لأنه محدد الهدف، ولأنه يقوم على أساس واحد هو الاتفاق على أساليب الجهاد كلها، وعلى حشد القوى التي تعين عليه، وعلى اختيار الفئة الصالحة للتجول في أرجاء العالم لإثارة الشعوب العربية والإسلامية ودعوتها إلى أخذ حقها دون مساومة أو مفاوضة وعلى تحديد أعمال القائمين بالدعوة في كل مكان، وعلى التمهيد لعقد الصلات بيننا وبين الشعوب التي تناصرنا على نزع ربقة الاستعمار عن أعناق الأمم المستضعفة في كل مكان، مهما اختلفت ألوانها أو أجناسها أو أديانها.

إن هذا المؤتمر ضرورة لازمة ألجأتنا إليها بريطانيا وأمريكا وأشياعهما من الدول الشريفة النبيلة التي قامت لنصرة الحق والعدل والمساواة! وبريطانيا وأمريكا وأشياعهما لا يريدون أن يدركوا أن هذه ساعة حاسمة في تاريخ العالم العربي والإسلامي ومن يعيش معهما من الأمم التي وقعت تحت سيطرة الاستعمار، وهم يماطلون ويراوغون ويتملصون من الفروض التي كتبوها على أنفسهم في ميثاق الأمم المتحدة، وهم يأبون أن يعترفوا بأننا شعوب تريد أن تعيش حرة لأن هذا هو حقها في الحياة، فينبغي إذن أن نجيّش كل قوانا وأن نعد العدة لإقناع هاتين الدولتين ومن يلوذ بهما بأننا قوم نأبى أن نعيش عبيدًا في دنيا لم يخلقها خالقها إلا لتكون أرضًا للأحرار، وأننا أمم لها من الحقوق مثل ما لبريطانيا وأمريكا وأشياعهما، وأن الله لم يخلق هؤلاء الناس ليسودوا العالم ويستعبدوا أهله بالظلم والعدوان والكذب والتغرير. إننا لا نريد عدوانا على أحد، ولكننا قد أبينا أن نقبل العدوان من أحد كائنًا من كان، وبالغًا من القوة والبطش والجبروت ما بلغ. وقد أعذر من أنذر.

لا هوادة بعد اليوم

لا هَوَادة بعد اليوم لا يحل لعربي منذ اليوم أن يرفع يده عن سلاح يعده لقتال عدو قد أحاطت به جيوشه من كل ناحية. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يدع ثغرة من ثغور العدى إلا سدها بنفسه أو ولده أو صديقه. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يضع عن عاتقه عبء الكد والكدح التماسًا للراحة أو الدعة. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يتواكل ويقول لنفسه: لقد تعبت، وما يضرنى أن أترك هذا لفلان فهو كافيه. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقول: غدًا أفعل ما حقه أن يفعل اليوم. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يخدع نفسه عن حرب دائرة الرحى بيننا وبين اليهود وأشياعهم من أمم الأرض. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يكتم الحق عن أهله أو عن عدوه، ويقول هذه سياسة وكياسة وترفق. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يمالئ قومًا يكاشفونه بالعداوة والبغضاء ونذالة الأخلاق. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقبل من رجال السياسة تأجيل شيء من قضايا العرب، فهي كل مترابط لا ينفك منها شيء عن شئ. لقد عرف كل عربي وكل مسلم على ظهر هذه الأرض ما آلت إليه القضية المصرية السودانية في مجلس الأمن، وعرف كل عربي وكل مسلم ما صارت إليه قضية فلسطين في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، فهل بقي بعد هذا مجال لناظر حتى يقول: سوف أحتال بالسياسة حتى أنال ما هو حق لي؟ ! إن بريطانيا وأمريكا وسائر الدول التي تدير لهما الساقية، قد كشفت عن طواياها بما لا يدع لأحد علة يتعلل بها أو يتشبث، فقد قالوا الكلمة الصريحة الواضحة بأنهم عدوٌّ لنا وحرب علينا، وأنهم يبغون أن يحطموا هذا الجيل العربي، وأن يسلطوا على رقابه أنذال اليهود وأوباش الاستعمار، وأنهم يعتقدون أننا قوم لا نصلح لأن نحكم أنفسنا بأنفسنا، أو أننا أمم قُصَّر لم نبلغ رشدنا ولا يظن بنا ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 744)، أكتوبر 1947، ص: 1084 - 1086

بلوغ الرشد. فهذا ترجمة موقف الدول المعادية حيال قضية مصر والسودان وحيال قضية فلسطين. وسر هذه العداوة -ولا نكتم الحق- هو أن أوربة وأمريكا جميعًا لا يزالون يعيشون في أنفسهم إذا ذكر العرب في أحقاد صليبية لم تستطع المدنية ولا استطاع العلم، ولا استطاعت سهولة المواصلات، ولا استطاعت كثرة الهجرة والرحلة، أن تنفيها عن قلوبهم، بل لعلها زادتهم أضغانًا على أضغان، ولا تزال أوربة وأمريكا تقول: خطر الإسلام وخطر العرب، كما كانوا يقولون الخطر الأصفر والخطر الأسيوي. وإذا كان بعض ساستنا الذين لقوا ساسة الأوربيين والأمريكيين قد انخدعوا بظاهر من القول حين سمعوا أحاديث أولئك المرائين المنافقين من ساسة أوربة وأمريكا، وظنوا أن لين القول دليل على صدق العقيدة، حتى أجروا في أحاديثهم ذكر "عطف أمريكا على العرب" و"عطف بريطانيا على العرب"، فقد ضلوا ضلالا مبينًا. إن أوربة وأمريكا لا تعرف العطف على العرب، بل هي العدو، وهي البلاء المصبوب علينا، وإلا فكيف تعطف بريطانيا على العرب وهي التي لا تزال تفعل الأفاعيل في مصر والسودان؟ وكيف تعطف أمريكا على العرب وهي التي خذلت مصر والسودان في مجلس الأمن؟ وكيف تعطف بريطانيا وهي التي ورّطت الدنيا كلها في مشكلة فلسطين، ثم تجئ فتطلب من هذه الدنيا أن تحل لها المشكلة؟ وكيف تعطف أمريكا وهي التي تمد اليهود بالمال والقوة والسلاح والدعاية؟ وكيف وهي التي تبيح لشركات النشر والإذاعة والصحافة أن تدلس وتكذب وتخدع في شأن العرب، ولا تجد منكرًا ينكر، ولا لسانًا يدافع، ولا قلمًا يشمئز من هذه الوسائل التي تطفح بالغدر والبغي والنذالة؟ ! إنهم جميعًا يظاهرون علينا اليهود ويظاهرون علينا الاستعمار، ويفعلون ذلك علانية لا يستخفون، ففيم نحتال نحن بالمداورة أحيانًا خشية أن نثير علينا هؤلاء المظاهرين ومخافة أن نُرْمى بالتعصب؟ فيم نخاف ونحن في معمعة هذه الحرب التي تشنها علينا بريطانيا وأمريكا بالاستعمار وباليهود؟ ولم نخاف أن نتعصب

لحريتنا واليهود يتعصبون لعدوانهم جهارًا؟ إن العرب قد عاشوا على ظهر هذه الأرض أكثر من ثلاثة عشر قرنًا فكانوا أمةً وسطا لم تظلم ولم تضطهد، بل نصرت المظلوم وآوت المضطهد، ورفعت النير عن رقاب الأمم مجوسها ونصاراها ويهودها، حتى جاء أمر الله وذهبت ريحهم وغلبت عليهم الأمم. فتاريخ العرب كله دليل على أن هذا الجيل من الخلق يأنف أن يظلم وأن يضطهد، ولكنه يأنف أيضًا أن يقبل الظلم والاضطهاد، فإذا رد الظلم عن نفسه ودفع الاضطهاد عن حماه، وحمى حوزته دون عدو باغ، أو توقى شرًا يوشك أن يتوغل في قلب حياته، فما يفعل ذلك عن تعصب أو حقد أو جهالة، بل هو الحق ووسائل الحق! وإذا كان فيما نفعله، أو فيما يحب أن نفعله، شيء يؤخذ على أنه صرامة وشدة وحنبلية متزمتة، فبما اضطررنا إليه فعلناه. وإليك مثلا هذه الدول العربية التي بدأت تضج ضجيج البعير آذاه العبء الفادح من غول الاستعمار الأدبي والسياسي والاقتصادي، والتي بدأت تعرف أن كل باب من أبواب الحياة قد وقف عليه ديدبان من اليهود أو من الأجانب الطارئين، ليذودوا العربي عن الانتفاع ببلاده التي هي له ملك متوارث منذ أقدم عصور التاريخ -يذودونه عن الانتفاع بتجارة بلاده، لأن شياطين التجارة ومردتها فئة من هذه اليهود وهذه الأجانب، ويذودونه عن الانتفاع بمعادن أرضه، لأن أبالسة الحديد والنار هم أصحاب المناجم في أرضه وبلاده، ويذودونه عن الانتفاع بقوى شعبه، لأن خزان المال من اليهود والأجانب يضربون العمال بالفقر والذل والبؤس، ولا يدعون لهم متنفسًا، ولا طريقًا إلى بلوغ المستوى الذي يحق لهم بجهودهم التي يجودون بها، فتكون لليهودي والأجنبي غنى ومالا وثروة وعجرفة وتغطرسًا على هذه الأمة العربية، ونكبة وبلاءً واستعمارًا كأنه جوامع (¬1) من غليظ الحديد مضروبة في أوتادها الراسخة في جوف الأرض العربية. هكذا هو، فماذا تفعل هذه الدول؟ ¬

_ (¬1) الجوامِع: جمع جامِعَة، وهي القَيْد، سُمِّيت بذلك لأنها تجمع اليَدَيْن إلى العُنُق.

أليس من الحق لكل بلد عربي أن يسن قانونًا لأهله أو قانونًا لحكومته إذا استطاع- أن يحرم على كل يهودي وأجنبى أن ينشيء شركة إلا إذا كان كل عامل فيها وكل موظف من أهل البلد، وأن تكون أرباح الشركة لا تزيد على قدر معلوم، وأن يكون الدخل وقفًا على البلاد التي يستثمر فيها جهوده، فلا يخرج مالا ولا يختزنه في مصارف بلاد أخرى غير البلاد التي استوطنها، وزعم أنه جاء ليسدى إليها خيرًا بعلمه أو فنه أو صناعته أو تجارته؟ أليس من الحق لكل بلد عربي إذا هو رأي هذه الأجانب وهذه اليهود تملأ عليه الجو، وتأتيه مهاجرة من كل مكان هجرة حرة غير مقيدة أن ينظر لنفسه ومصالحه، ويعرف أن هؤلاء خطر ينبغي درؤه واتقاؤه بكل وسيلة؟ فإذا منعنا الهجرة أو قيدناها فأي تعصب في هذا؟ وإذا كنا نعلم علم اليقين أن هؤلاء الطارئين هم من حثالة اليهود وحثالة الأجانب، وأنهم أرذل خلق الله أخلاقًا وأقلهم علمًا وأخسهم نفوسًا، فأي تعصب في أن نقول للعالم كله إننا نأبى أن نؤوى هذه الحثالة القذرة في بلادنا وبين أهليها، وأن تمنعهم أن يتدسسوا إلى حمى أعراضنا بنذالاتهم وفجورهم وعهرهم وبالخبث التي انطوت عليه دخائلهم؟ وإذا كنا نعلم علم اليقين أن هذه الحثالة الخبيثة، وهذه الرمم الإنسانية تفعل في شوارعنا وطرقاتنا ما لا تستطيع أن تفعل مثله في بلاد غير بلادنا التي وقعت تحت بطش الاستعمار قرنًا أو بعض قرن، فأي تعصب في أن نسن قانونًا يوجب ترحيل هؤلاء الطارئين، أو يوجب نزع الجنسية المصرية أو العربية أو السورية عن هذه الفئة التي جاءت دخيلة على بيوتنا وديارنا وأخلاقنا؟ إن من حق البلاد العربية أن تفعل ذلك ولا تبالي بنقد منتقد ولا هجوم متهجم، ولا إقذاع مبطل ولا سفاهة مدخول السريرة خبيث الطوية. كلا إنه ليس حقًّا لها وحسب، بل هو فرض لا مناص من أدائه والقيام عليه وحياطته كل الحياطة، إن هذه اليهود وهذه الأجانب هي ذرائع الاستعمار، وهي أداة البطش التي سلطها الاستعمار على رقابنا، وهي الخبيثة المردية التي تفشَّى داؤها حتى أَوْهَى القوى وأوهن العزائم، وأكلنا لحمًا طريًا وتركنا عظامًا نخرة.

وها نحن الآن مقبلون على حرب بيننا وبين اليهود، وحرب بيننا وبين الاستعمار، وكلاهما حرب لا هوادة فيها ولا مفر منها، فكيف يجوز في العقول أن ندع العدو بين ظهرانينا يعيث فسادًا وخيانة وتجسسًا، بل يأخذ من أموالنا ويرد على أموال عدونا، فيضعفنا ويقويه، وينهكنا وينميه، ويوهننا ويضريه؟ إن من القوانين الدولية في زمن الحرب أن تضع الدولة يدها على أموال أعدائها جملة واحدة، فتستثمرها في حقها وبحقها لتكون لها قوة وعتادًا، ومن القوانين الدولية أن تقبض الدولة على أبناء الدولة المعادية فتأسرهم في المعتقلات حتى تضع الحرب أوزارها، خشية أن يفجروا في الأرض ويكونوا عيونًا عليها، وبلاء في داخلها، و"طابورًا خامسا" في شعبها، فهل شك أحد في ذلك أو استنكره أو بغض إلى دولته فعل ذلك؟ كلا! وإذن فكيف يجوز للعرب منذ اليوم، وقد شرعوا في الجهاد وعزموا على أن يحطموا أغلال الاستعمار، وأن يقوضوا عرش اليهودية الباغية، أن يتهاونوا في الضرب على يد هذه التجارة اليهودية في قلب بلادهم، أو أن يهادنوا هذه الشرذمة الوبيئة التي تعيش بين ظهرانيهم، أو أن يبيحوا لأعوان الاستعمار من شذاذ الأمم والأفاقين أن يسرحوا حيث شاءوا من بلادهم، وأن يستولوا على ما يشاؤون من أموالهم وأرزاقهم، وأن يدخلوا فينا ليكونوا عيونًا علينا في هذه الحرب التي تدور بيننا وبين يهود، وبيننا وبين الاستعمار والمستعمرين. ومن الذي حمل اليهود على الهجرة إلى مصر مثلا؟ أليست هي الفكرة الصهيونية؟ ومن الذي حمل الأجانب على الهجرة أيضًا إلى بلادنا؟ أليس هو الاستعمار؟ فكيف ندع الصهيونية والاستعمار يجوسان خلال الديار ونحن في مَعْمَعان (¬1) القتال؟ وأنا أضرب مثلا لم أزل أتتبعه منذ قامت اللجنة التي وكل إليها كتابة تقرير عن فلسطين، ومنذ رفعت قضية مصر والسودان إلى مجلس الأمن. ¬

_ (¬1) المَعْمَعان والمَعْمعَة بمعنى.

فمنذ ذلك الحين وأنا أنظر وأتسمع، وأتفرس الوجوه، وأتوسم الشمائل، فإذا هذه اليهود وهذه الأجانب قد خفتت أصواتها، ولانت أخلاقها، وهذبت غطرستها، وحلت لنا ألسنتها، وابتسمت لنا وجوهها. ولم أكن أجهل أن ذلك كله نفاق ورياء وخديعة يظنون أنها تخدعنا عن طوايا قلوبهم. فلما كان من أمر القضية المصرية السودانية ما كان، وظهر من مستور اللجنة المزورة ما ظهر، إذا هذه الأصوات الخافتة قد صارت نعيقًا، وإذا الأخلاق اللينة قد صارت عرامًا، وإذا الغطرسة المهذبة قد انقلبت فجورًا متمردًا، وإذا الألسنة الحلوة قد صارت مرًّا زعاقا (¬1)، وإذا الوجوه المبتسمة قد شاهت بالتجهم وإذا الشمائل المؤدبة قد صارت عجرفة وطغيانًا، وإذا هذه الخلائق الفاجرة تمشي على أرضنا تيهًا وخيلاء كأنها جنس وحده ونحن عبيده وأذلاؤه، وإذا نظرات الازدراء وكلمات التحقير تقال على مسمع منا ومنظر بلا حياء ولا أدب ولا خلق، وإذا كلمة "عربي" تتردد مرة أخرى على ألسنة هؤلاء الأنذال الجبناء في كل مكان بعد سكوتهم عن النطق بها خوفًا وفزعًا أن يكون قد دنا موعد نصر العرب في قضية فلسطين وقضية مصر والسودان. هذا كله شيء تتبعته أنا ومن أعرف، بلا زيادة ولا دعوى كما تفعل هذه الخبائث من يهود وشذاذ الآفاق. إنها الحرب المبيرة أيها العرب، فلا تكن يهود التي ضرب الله عليها الذل والمسكنة والتشرد في جنبات الأرض، أحمى منكم أنوفًا وأشد منكم حفاظًا، وأقوى منكم حمية، وأجرأ منكم قلوبًا ولا تكن يهود أيها العرب أشد محافظة على باطلهم منكم على حقكم. واعلموا أيها العرب أن الذي بيننا وبين يهود والذي بيننا وبين الاستعمار دم لا تطير رغوته ولا ينام ثائره، وقد جدت الحرب بكم فجدوا يا أبناء إسماعيل ويا بقية الحنيف إبراهيم، ولا يهولنكم مال اليهود، ولا بطش بريطانيا، ولا مخرقة أمريكا، فإن الحق لله، وكلمة الله هي العليا. ¬

_ (¬1) زُعاق: يقال ماء زُعاق، إذا كان مُرًّا غليظا لا يُطاق شربه من أُجوجته.

حديث الدولتين

حديث الدولتين الآن حَصْحَصَ الحق، ولم تبق في نفس ريبة تحجبها عن رؤية الحقيقة سافرة بينة واضحة تكاد تنطق وتقول هأنذا فاعرفوني؛ فهذه بريطانيا أمّ المكر والدسائس قد دخلت أرض فلسطين العربية ليقول قائد جيشها يومئذ حين وطئت قدماه المدنستان هذه الأرض المطهرة: "هذه آخر حرب صليبية"، فكان ذلك إعلانًا عما اعتمل في نفوس أولئك الغزاة من سخائم الحقد والضغينة والعصبية الجاهلية الموروثة، ثم لم تلبث هذه الدولة أن نكثت عهودها للعرب، وكانت قد قطعت هذه العهود على نفسها لتستجر معونة العرب لها في الحرب العالمية الأولى. ولم يكن ذلك فحسب، بل إنها كانت تكيد للعرب من وراء حجاب فقطعت عهدًا آخر يناقض عهودها للعرب، وكان هذا العهد لرجل غير مسئول من الأفاقين الصهيونيين المتعصبين. فلما دخلت فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى أظهرت أنها دولة لا تستطيع أن تنقض عهدها فإن العهد هو شرفها الشامخ الباذخ النقى الطاهر، فمن أجل ذلك أصرت على أن تحمى اليهود الذين جاءوا من أرجاء بلاد الله ليحتلوا أرض فلسطين. وظلت وكالات الأنباء تطمس حق العرب فيما تنشره الصحافة، وتجلو باطل اليهود جلاء منيرًا حتى انخدعت الدنيا كلها بالترهات التي تحوكها هذه الشركات الصهيونية. وثار العرب يطلبون حقهم ويريدون طرد هؤلاء الدخلاء من أرض الآباء والأجداد، فوقفت بريطانيا تذود عن باطل اليهود فتفتك بالعرب فتكا وحشيًّا، تعذب طلاب الحق وتهينهم وتشردهم لا ترعى حرمة لطفل ولا شيخ ولا امرأة، وضربت الغرامة على القرى والدساكر والبلاد لأهون سبب، وهي في أثناء ذلك ترخى للأفاقين من اليهود وتغريهم بالعرب وتمهد لهم في الحكومة حتى يستولوا ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 746)، أكتوبر 1947، ص: 1140 - 1141

على السلطان، وتحميهم من شر العرب وبأسهم، وتسلطهم على رقاب المسلمين والنصارى أهل فلسطين. وجعلت صحفها وشركات أنبائها تذيع على العالم الأكاذيب، وتصور العرب في صورة المعتدين الباغين، وتسمى الأحرار من أبناء إبراهيم وإسماعيل عصابات ولصوصًا وفتاكا، وترميهم بالبهتان والكذب، وتستر عن العالم كله فظائع ما ترتكبه في حق الأحرار المجاهدين. وظلت بريطانيا على ذلك الطغيان الفاجر تعمل بالدسيسة والوقيعة والكذب والتغرير، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، فقام الأبالسة من رجال السياسة البريطانية يفتلون في الذروة والغارب (¬1) من هذه العرب حتى لانوا وانخدعوا بأن بريطانيا سوف تنصفهم وتعطيهم حقهم يوم تضع الحرب أوزارها، وهي في خلال ذلك تجند اليهود في جيوشها وتزودهم بالسلاح وتدخلهم فلسطين وتظهر الكراهة لما تفعل، وتبطن الغدر فيما تريد، فاحتشدت من اليهود جيوش جرارة في فلسطين باسم الديمقراطية والدفاع عنها، وباسم الاضطهاد الذي أنزله النازيون بهم في أوربة، وبغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي تعلقت بها السياسة البريطانية. ووضعت الحرب أوزارها، واشتد ساعد اليهود، وهم أهل المال وحُرّاسه، فأعانوا بريطانيا، ثم لم يلبثوا أن كشفوا القناع في أمريكا وهم فيها القوة الظاهرة في انتخاب رئاسة الجمهورية وأصحاب الشركات والأموال في نواحي الاقتصاد الأمريكي، وهم شياطين الصحافة والمستولون على إعلاناتها وشركات أنبائها ورجال تحريرها، فإذا أمريكا تندفع في طريق الصهيونية غير عابئة بالحق الظاهر، ولا بمصالحها في بلاد العرب، ولا بكرامتها بين الأمم ولا بسمعتها في دواوين التاريخ. وإذا هي أشد بغيًا على العرب من بريطانيا، وإذا صحافتها أشد جلافة من الهمجي الذي لم يهذبه تأديب ولا تثقيف. ¬

_ (¬1) فَتَل في الذروة والغارب: مَثَلٌ. والذَّرْوة: أعلى السنام، والغارِب: ما بين السنام والعنق. وأصله أن يكون البعير مُصْعَبا، فيحك صاحبه سنامه وغاربه، ويفتل الوَبَر بينهما بأصابعه حتى يؤنسه بذلك فيلين وينقاد فيستمكن منه فيخطمه.

هكذا كان أمر بريطانيا وأمر أمريكا، وإذا هيئة الأمم المتحدة ترسل لجنة إلى فلسطين لتضع تقريرًا، وإذا هذا التقرير فجور ليس بعده فجور، ولا عجب فإنها لجنة كانت أول أمرها ضالعة مع اليهود، فقسمت أو أشارت بأن تقسم فلسطين قسمة جائرة بين العرب واليهود. أما العجب العجاب فهو أن نرى بريطانيا العظمى ذات السلطان والبأس والبطش، تذل لعدوان اليهود على جنودها وعلى جلد ضباطها وشنقهم واختطافهم وتعذيبهم، ثم يأتي قرار التقسيم الذي اقترحته اللجنة، فإذا بريطانيا تزعم أنها سوف تجلو عن فلسطين وتدع العرب واليهود لكي يحلوا هذه المشكلة المستعصية على ساسة بريطانيا العظمى أيضًا! ! . . . فماذا تريد بريطانيا بهذا الانسحاب المفاجئ بعد أن كانت هي سر النكبة التي نزلت بساحة العرب مسلمهم ونصرانيهم في فلسطين وفي سائر بلاد العربية؟ لا جرم أنها تريد أن يقع القتال بين العرب واليهود، وتخرج هي سالمة من هذا الصراع، وهي في خلال ذلك سوف تعطي اليهود من المعونة والسلاح، ويجهد أسطولها خفية في تهريب الأفاقين إلى فلسطين. أما أمريكا فهي تضحك الثكالى بسياستها في هذه المشكلة، فهي تلجأ إلى هيئة الأمم المتحدة ويقوم مندوبها في اجتماع اللجنة الخاصة ببحث مشكلة فلسطين، ويكشف القناع عن سياسة هذه الدولة المحدثة في السياسة ويقول إن حكومته تؤيد مشروع تقسيم فلسطين، وتؤيد سياسة الهجرة التي اقترحتها لجنة التحقيق في تقريرها، وليس هذا فحسب، بل تتبرع هذه السياسة الأمريكية فتقترح تجنيد قوة دولية من المتطوعين بواسطة هيئة الأمم المتحدة، لكي تتولى الإشراف على تنفيذ قرارات الجمعية العمومية. فماذا تريد أمريكا بهذا التدخل المفاجئ، بعد أن كانت بمعزل عن الغلو في السياسة الاستعمارية، ولها مصالح كثيرة في بلاد العرب تعمل جاهدة على تثبيتها وتوطيدها؟ لا ريب في أنها تريد أن تحل محل بريطانيا في حمل خبائث الاستعمار بعد أن شاخت أمُّ الخبائث، ولا ريب في أن نفسها تسول لها أن اليهود أهل جد

وعمل وإتقان وأصحاب مال وافر وأنهم إذا تم لهم إقامة دولة يهودية في قلب البلاد العربية، فذلك إيذان باستيلائهم على الميادين الاقتصادية كلها، وأن يهود إذا فعلت ذلك ضمنت لأمريكا الحق الأول في السياسة الاقتصادية في الشرق الأوسط كله. وإذن فأمريكا تريد أن تلتمس أسبابًا للتدخل في مسألة فلسطين، فهي تؤيد اليهود مستهينة بمصالحها في بلاد العرب، لكي يقع القتال بين العرب واليهود، وتنتهز هي الفرصة فتعين اليهود بالمال والسلاح والرجال، ثم تلعب هي وبريطانيا لعبًا خبيثًا في هيئة الأمم المتحدة لكي يجندوا جيشًا دوليًا لتنفيذ مشروع التقسيم بالقوة، ويكون قوام هذا الجيش من أهل العصبية الصهيونية الذين استشرى أمرهم في بلاد أمريكا. ويومئذ تدخل أمريكا الشرق الأوسط كله بصك توقعه لها هيئة الأمم المتحدة - أي سوق الرقيق الدولية. وإذن فالأمر كما ترى بَيّن كإسفار الصباح، وهو أن هاتين الدولتين الاستعماريتين تتخذان أسلوبين مختلفين في الظاهر متفقين في الباطن، يفضى إلى حمل العرب على قتال يهود. ونِعم ما أرادا. ونحن العرب نقبل منهما هذا التحريض الخبيث، لأننا نريد أن نقاتل اليهود قتالا لا هوادة فيه، فإن دماءنا ليست أغلى من حريتنا وشرفنا وديننا. ولعل أمريكا قد سمعت لأولئك الأفاقين اليهود الذين يزعمون لها أننا نهدد على غير طائل وإنما هي جعجعة ولا طِحْنَ لها (¬1)، فآثرت أن تكشف سوءتها وقبيح نيتها للعرب وتصالح اليهود وتتملقهم وتحطب في حبالهم. فلتعلم أمريكا ولتعلم بريطانيا أنا لسنا كاليهود ولسنا كسواهم من الذين يجرؤون لأنهم يحملون أسباب الغدر والخيانة والإبادة، فلو لقوا أعداءهم وجهًا لوجه لفروا واندحروا صاغرين. إن العرب ليريقون دماءهم في سبيل الحرية والشرف والنبل وإن كانت كثرة السلاح مما يعوزهم، وفرق بين النذل الجبان والشريف الشجاع، فهذا يكون أقل السلاح حصنًا له وحافزًا ومحرضًا، وذلك إذا رأى حملة صدق انتثرت نفسه وطار قلبه ¬

_ (¬1) الطَّحْن: المطحون، وأصله مثل هو: أسمع جَعْجَعَةْ ولا أرى طِحْنا.

وألقى عدته وسلاحه وأغمض في الأرض هاربًا. فهذه يهود وهذا نحن أيها المخدوعون. . . إن بريطانيا وأمريكا وصحافتها قد استعلنت لنا بأحقادها فلنعلن نحن أحقادنا. وإن يهود قد استغرت بقوتها وبمعونة بريطانيا وأمريكا ومظاهرتها لعدوانها علينا، فلا تأخذنا بعد اليوم رحمة بيهود، فقد رحمناهم يوم اضطهدوا، وآويناهم أيام شردوا، وأفسحنا لهم بلادنا وقد طردتهم الأمم المسيحية القديمة طرد الكلاب الجربى، ولكنهم أنكروا ذلك ونسوه، وعضّوا اليد التي مسحت آلامهم وجروحهم على مر العصور. ونعم ما فعلت يهود، فإنها قد أيقظتنا من غفلتنا، ويسرت لنا أن ننقذ العالم عاجلا أو آجلا من عربدة هذا الجيل الذي طهر الله أسلافه، وصب لعنته على الأخلاف لعنة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها. . .

بلبلة

بَلْبَلَة لستُ امرءًا قانطًا ولا متشائمًا ولا يائسًا من خير هذه الأمة العربية، بل لعلني أشد إيمانًا بحقيقة جوهرها وطيب عنصرها وكرم غرائزها، بل لعلني أشد إيغالا في الإيمان بأنها صائرة إلى السؤدد الأعظم والشرف السري والغلبة الظاهرة إن شاء الله، وأنها هي الأمة التي أرصدها بارئ النسم لرد العقل على هذه الإنسانية المجنونة في هذه الحضارة الهوجاء. فالعرب مذ كانوا هم الجوهرة التي أطبقت عليها صحراء الجزيرة، فما زالت تكتمهم في ضميرها وتحنو عليهم وتمنعهم من كل فساد داخل حتى صفا ماؤهم ورق شبابهم وأضاؤوا من جميع نواحيهم. فلما جاءهم محمد بن عبد الله بشيرًا ونذيرًا وهاديًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صار كل رجل من صحابته نجمًا يهتدى به الضال ويأتم به المسدَّد. ويومئذ تمت المعجزة الكبرى في تاريخ العالم، فانطلقت هذه الفئة الصالحة من عباد الله كأنها السيل المتدفع، وكأنها الرياح العاصفة، وكأنها الأشعة المتلألئة، وكأنها قدر الله، فدكّت حصون الروم، وثلّت عروش الفرس، ودوّخت جبابرة الأمم، حتى ورثوا أرض الله وأقاموا فيها الحق والعدل بالميزان والقِسط، وجاءت سلالتهم فجددت حضارة الدنيا، وإذا الذين كانوا بالأمس بداة جفاة غلاظًا فيما يرى الناس من أهل الحضارات السالفة، هم الناس وهم العلم وهم أصحاب الإمرة في كل فن وعلم وسياسة وتدبير ملك. إنها لمعجزة لم يوفها مؤرخ حقها من المجد والقوة والظهور. فهذا الجيل من عباد الله مطوي على صلاح كثير وخير عميم وقوة خارقة، لا أظن أن الزمن قد ذهب بها ومحقها، فلذلك أراني وملء قلبي الإيمان بأنه سوف ينتهي إلى الغاية التي كتبت له في تاريخ هذه الإنسانية. وعسى أن يكون ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 748)، نوفمبر 1947، ص: 1199 - 1201

زمن ذلك كله قد أتى وأظل، فإني أسمع نشيش الحياة وهي تتخلق في مرجل الوجود وقد أحاطت به النيران المجنونة المتضرمة من كل مكان. ولكن لابد لتحقيق ذلك كله من عمل يتولّاه رجال من هذه الأمة، فينفخون في الضرم حتى تستعر النار الخالدة لتنفي عن هذا الجيل كل خَبث ألمَّ به من أدران الحضارة التي يعيش فيها عالمنا اليوم. غير أني أخشى أن يكون الإهمال والعجلة وقلة المبالاة وأخذ الأمور بالإستخفاف، مما يفضى إلى فوات الفرصة التي أمكنت، ويقضي على هذا الأمل الذي يضئ لنا من بعيد ينادينا إلى ما فيه خيرنا وخير هذا الناس. ويخيل إليّ أننا نعيش اليوم في عصر بلبلة واختلاط، وهذا شيء قد أصاب أممًا كثيرة من قبلنا، فلم يعقها ذلك عن إدراك الغايات التي حرصت على السعي إليها وعلى بلوغها. بَيْدَ أنه لابد لأمة أرادت أن تخلص من هذه البلبلة أن يتجرد من رجالها ونسائها فئة لا ترهب في الحق سطوة ولا بطشًا ولا اضطهادًا ولا تدخر دون مطلبها جهدًا ولا عزيمة، ولا يثنيها إخفاق، ولا تلفتها فتنة، ولا يصرفها الفرح بقليل تناله عن الكدح في سبيل ما ينبغي أن تناله. وقد أراد الله لمصر أن تكون في هذا العصر قدوة العرب ومجتمع أمرهم وكعبة قصادهم، وهذه البلبلة في مصر أشد ظهورًا وغلبة منها في غيرها من بلاد العرب، فأخوف ما نخافه أن تظل مصر غافلة عن شر هذه البلبلة فتعدى سائر العرب بالأسوة والقدوة، فينتشر الأمر انتشارًا يعجز المخلصين أن يلموه. فبين ظهرانينا اليوم ألوف من الطلاب العرب قد جاءوا من كل قطر لينهلوا من علم مصر، ويعودوا إلى بلادهم ليجاهدوا في سبيلها، فإذا أعدتهم هذه البلبلة فسوف يحملونها معهم إلى بلادهم فيفرقوا المجتمع من كلمة أممهم، ويرتكس الأمر حتى يصبح ولا علاج له. هذا، وأنت لا تعدم صدى البلبلة في الصحف والكتب والمجلات المصرية التي أخذت تزداد انتشارًا واتساعًا، فكيف لا يخشى أن يعم هذا البلاء كل بلاد العرب ويتغلغل في نواحيها؟ ويومئذ نصبح طعمة للأمم الضارية التي تحيط بنا من كل مكان، وتحد لنا أنيابًا عصلا تنهشنا بها يوم يتاح لها أن تنقض على هذه الفريسة التي لا تدفع عن نفسها.

فمن شر هذه البلبلة، ما ترى من سوء تدبير الأحزاب السياسية المصرية، فهي قائمة على نزاع دائم في سبيل الحكم، يكيد بعضها لبعض، ويأكل بعضها بعضًا، ولا يرعى أحد لأحد حرمة. وتنشيء هذه الأحزاب صحافة يكون هم محرريها للتشهير بمن يخالفهم في الرأي والمذهب، فيدلسون الحقائق، ويكتمون الحق، ويفترون على الناس الكذب، ويلوون ألسنتهم بالحديث ويحرفون أعمال من يعادونهم تحريفًا لئيما مستهجنًا، كل ذلك ابتغاء مرضاة رؤساء الأحزاب وأصحاب الأمر فيها. هذا، على أن هذه الأحزاب قد نشأت أو أنشئت بغير أهداف مُبَيَّنة للناس تعاهدهم على أن تسعى إليها، وبغير برنامج لإصلاح هذه الأمة التي لم تجد لها نصيرًا من أبنائها، وبغير نظام ينفي عن الحزب الدخلاء والملوثين وذوي الأغراض الخبيثة. ثم يأتي بعد ذلك نوع من الصحافة يتلبس بالورع، ويتظاهر بالتقوى، ويتخشع بالبراءة من التعصب، ويبدي للناس أنه طالب خير للناس، وأنه مريد لنفع هذه الأمة وعامل على ترقيتها وتهذيبها وهو في خلال ذلك يدس لها سمًّا زعافًا ومنية قاتلة، شيئًا فشيئًا ورويدًا رويدًا وساعة بعد ساعة، حتى لا تمجه الألسنة لأول مذاق، ثم إذا بان طعمه شيئًا لم تستنكره، ثم يستمر حتى إذا دام قليلا ألفته وربت عليه، ثم إذا زادته شيئًا لم يكن إلا طيبا مستساغًا، ثم إذا الناس يطلبونه أو يخيل إليهم أنهم يطلبونه لأنه مما يتصل بأدنأ الغرائز الحيوانية والشهوات البهيمية، ويجند لكل هذا الخبث جمع من الكُتاب الذين ضلوا عن حقيقة أنفسهم، وطائفة من الشباب الذين أفسدتهم المدارس الأجنبية والجامعات الغريبة عن هذه الأمة، وهذا الضرب من الصحافة الخبيثة هو البلاء المستطير الذي لم يجد إلى اليوم من يكشف عن طواياه الخبيثة وأساليبه القاتلة، وعن دبيبه في رأي هذه الأمة العربية دبيب الضلالة في قلب الغرير المفتون. ثم يأتي بعد ذلك كتاب وعلماء ورجال من أصحاب الرأي ليس في قلب أحد منهم تقوى لله ولا خشية للإثم ولا محبة للحق، فيرى أحدهم الرأي الفطير (¬1) ¬

_ (¬1) الفطير: كل شيء أُعْجِل عن إدراكه واستحكامه فهو فطير.

فلا يلبث أن يمسك القلم فيجري السواد على بياض الورق، فإذا هي مقالة أو كتاب أو رأي أخبث منه صاحبه والناطق به، فيأخذه المبتدئ المتطلع، فيعتقده كأنه لقطة نفيسة بغير تحقيق ولا تمحيص، فإذا سمع رأيًا يخالف ما قرأ لهذا الكاتب البليغ أو الأستاذ الكبير أو الفيلسوف القدير، أنكره وأدبر عنه، فيزيده هذا الإنكار لجاجة، وتزيد اللجاجة عنادًا، ويملأه العناد كبرًا، فيعمى عن الحق وهو بين، ولا يزال يهوى في العناد حتى يصير ذلك عادة في مسألة بعد مسألة ورأي بعد رأي، وإذا هو عند نفسه أكبر من أن يأخذ عن فلان لأنه يخالفه في الرأي. وتزيد الدولة هذا الأمر ضراوة واستعارًا، فتولى الأمور غير أهلها، وتضع الناس في غير منازلهم، وتكرم فلانًا بإلحاقه بوظيفة كذا لأنه من أشياع الحزب الذي يتولى الحكم، فإذا خافت عليه أن ينتزع من مكانه إذا جاءت وزارة أخرى، ألحقته بعمل لا يقبل العزل. فإذا جاء وزير للمعارف مثلا وله أصحاب مِن شيعته ممن عرفوا بشيء من الأدب ألحقه بالمجمع اللغوي مثلًا تكريمًا له، فيريد هذا الرجل أن يحقق معنى هذا التكريم على ما خيلت، فينبري لإبداء الرأي فيما لا يحسن، ويكشف عن عورة من الجهل لا تستر. وليتها كانت رأيًا بدا له فكان صاحبه الأول، كلا، بل هو يعمد إلى آراء أماتها الذي أمات الخرافات والأساطير فيخيل إليه أنه -وهو الأديب المؤلف الكاتب- مستطيع أن يحيي هذه الرمم البالية برأيه وحجته وحسن معرضه، فكيف تكون مغبة هذا الجهل على شاب ناشيء يقرأ ملفقات السخف المدلس، وليس عنده قدرة على تمحيصه. ويأتي آخر يلقيه وزير صديق مثلا على كرسي الجامعة ليدرس العلم لطلاب العلم، فإذا هو عازم على أن ينشيء علمًا جديدًا لطلابه، فيبحث في تجاريب عقله عن أشياء يخيل إليه أنها فن جديد وبلاغة جديدة وعلم لم يصل إلى إدراكه سابق ولن يناله لاحق إلا بالتلقي عنه والوقوف بين يديه. ويخرج هذا الأستاذ جيلا من مساكين الطلاب لا يحسنون شيئًا إلا التعصب له والتسمي باسمه والتشبه به في فساد الرأي وقلة العلم وضعف الملكة. ويجتمع منهم ومن شيخهم فئة تتهجم على العلم بغير علم، فإذا أراد أحد أن يقف في سبيلها تناعقت باسم حرية الرأي

وحرمة الجامعة. فكيف تكون العاقبة إذا خرج مثل هؤلاء على الشباب الناشئين بأمثال آرائهم المقيتة الجاهلة، وعلى رأس كل منهم تاج مكتوب عليه "دكتور في الآداب" أو "دكتور في الفلسفة" أو "دكتور في التاريخ"؟ وكيف يسلط هؤلاء على عقول ناشئة العرب، يفتنونهم بالألقاب والأسماء، وبتعاون هذه الفئة المضللة على نصرة بعضهم لبعض؟ فإذا بقى الأمر على ما ترى في أمر زعمائنا، وفي أمر سياستنا، وفي أمر اجتماعنا، وفي أمر أدبنا، وفي أمر صحافتنا، وفي أمر مدارسنا وجامعاتنا: فكيف نرجو أن نصل إلى غايتنا؟ وكيف يتاح لهذه الشعوب العربية الكريمة أن تتأهب للمعركة الفاصلة في تاريخ العرب؟ وكيف تجتمع كلمة العرب على بلوغ الهدف الأعظم، وهو هدف يرمي إلى إنقاذ الإنسانية كلها من ردغة الخبال (¬1) التي ألقت بها فيها حضارة ضخمة، ولكنها قد حشيت شرًّا كثيرًا وخبثًا؟ ولو شئنا أن نتقصى ظواهر هذه البلبلة في أشياء كثيرة مما يتعرض لها الشعب مرغمًا أو مريدًا أو مخدوعًا لأطلنا، فما من شيء إلا وقد اختلط فيه الأمر على غير هدى. وإذا شئت أن تقدر سوء ما جنينا من شرها، فجالس من شئت من طوائف الشباب وجاذبهم الحديث، واستدرجهم إلى المناقشة في رأي أو علم أو فن، تسمع العجب العاجب من الخلل في موازين الأشياء، والحيرة المطبقة في تقدير ما يقع تحت أبصارهم وأسماعهم، والعجز المضطرب عن ضبط الرأي، والضعف المطلق عن القيام بحق العقل والإدراك. وأكبر من ذلك كله أنهم أصبحوا لا يرون صاحب رأي إلا وهو دونهم، فلا يسلم من انتقاصهم ونقدهم، فإذا صححت لهم وأردت أن تقيمهم على الطريق استكبروا وأعرضوا، فكيف تأتي أنت فتعلم حامل شهادة الحقوق أو الطب أو الأدب أو الفلسفة شيئًا يستيقن هو في نفسه أنه قد فرغ منه وعلمه علمًا ليس بعده إلا العروج إلى سماء الخلود. وكذلك الأمر في طبقات أخرى من العلماء إلى الأدباء إلى رجال القلم إلى ¬

_ (¬1) ردغة الخبال: مضى تفسيرها. وأصل الردغة: الطين.

أصحاب الصناعات إلى عامة الناس. وهذا شيء مخوف مدمر للجهود التي بذلتها طائفة من السلف القريب في تسديد خطى هذا الشعب وترقيته وتهذيبه وتطهيره من الجهل والبلادة والغفلة. وإذا طال ذلك ولم نعالجه في مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا، وفي دور التسلية، وفي أندية المجتمع، فالعاقبة الوخيمة بالمرصاد لمن أهمل وأضاع وترك الأشياء تمضي في غير عنان وعلى غير هدى. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى صحافة جديدة حرة لا تخاف شيئًا ولا تخشى، تدل على مواضع العيب لا للطعن والتشهير وسب هذه الأمة، بل لعلاجها والدفاع عنها ونصرتها على نفسها. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى شباب من الكُتاب وشيوخ من المحنكين يخلصون الرأي لهذه الأمة، فلا يدعون الفرصة تفوت ويحملون الشعلة الجديدة إلى الجيل الجديد الذي لم يلوثه العناد والكبرياء واللجاجة والمراء. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى طائفة ممن خبروا الحياة وعرفوها ليكونوا شهداء على مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا، تستعين بهم الدولة على نهج جديد يمنع عن جماهير الشباب وطوائف الأمة كل ما نريد هذه البلبلة إيغالا وضراوة. إن الزمن يمضي مضاء حثيثًا كالنار في الهشيم، فإن شئنا أن نحيي وأن نستعد للذي أعدنا الله له من الظهور في الأرض، وإصلاح ما اختل من شئونها، فعلى كل قادر أن يجمع أمره، وأن يدعو أصحابه، وأن يلم الشعث المتفرق ممن يظن فيهم خيرًا، لكي يتعاونوا جميعًا على رد هذا البلاء بالرفق في مواضع الرفق، وبالبأس في مواضع البأس، وبالبتر حيث لا يجدى شيء إلا البتر بلا هوادة ولا رحمة. . .

لسان السياسة البريطانية

لسان السياسة البريطانية دعت السفارة المصرية في لندن إلى مأدبة عشاء تكريمًا لأعضاء الغرفة التجارية المصرية الإنجليزية، في يوم الخميس 6 نوفمبر سنة 1947، وكان من المدعوين السير ستافورد كريبس وزير التجارة البريطانية، فقام السير ستافورد وألقى على الحاضرين خطبة من أخطر الخطب التي تناولت شئون مصر السياسية والتجارية، وقد نشرت الصحف البريطانية هذه الخطبة في الصدر، وترجمتها أكثر الصحف العربية، ومع ذلك فلم أجد أحدًا علق عليها بما ينبغي أن يقال في تفسيرها وتأويل مراميها. كان من أول مرامى السير ستافورد أن يبين بأجلى بيان أن "التعاون الثقافي" و"التعاون التجاري" بين مصر وبريطانيا كفيلان بأن ينتهيا على مر الأيام إلى حل النزاع السياسي الناشب بين الدولتين، وهو يرجو أن ينسأ الله في أجله حتى يرى هذا الحل الموفق بين المتنازعين. وقال إن هذا النزاع بين مصر وبريطانيا ليس سوى "خلاف" يسير في تاريخ طويل حافل بعلاقات المودة، وبالذكريات الجميلة بين البلدين فيما يعتقد. وزعم أنه على يقين من أن الصلات التجارية والروابط الثقافية إذا هي سارت على نهج موافق ينفي عنها كل ما يزعج أو يثير الخواطر، فإنه سوف يعيش بإذن الله حتى يرى حلا موفقًا مرضيًا يفض ذلك الخلاف السياسي اليسير، ويومئذ تخرج الدولتان منه وقد أصبحت الصلات التي بينهما أقوى، وأصبحت المودة أصدق، وأصبحت النفوس أسلم. وزعم أيضًا أن هذا الضرب من الصلات والروابط سيظل هو الغالب بين الأمتين على كل خلاف سياسي. ثم امتلأت جوانب هذه الخطبة بإشارات خفية إلى أسلوب بريطانيا في الاستبداد التجاري الذي اعتصرت به الحياة من أمم كثيرة غير مصر والسودان، ¬

_ (*) السياسة، السنة الخامسة عشرة (العدد 750)، نوفمبر 1947، ص: 1258 - 1260

وإلى التهديد الملثم بأن بريطانيا مضطرة إلى تحطيم هذا التعاون إذا أصرت مصر على إنفاذ قانون الشركات الذي أصدرته منذ عهد قريب، ثم لم ينس السير ستافورد كريبس الوزير البريطاني عادة قومه في المن الخبيث البغيض المتلفع بالعواطف الإنسانية النبيلة، فزعم أن عطف بريطانيا على مصر في محنة الكوليرا كان مبعثه العطف الإنساني البالغ والرثاء العميق، لا الدافع السياسي أو الحافز التجاري. وفي الخطبة كثير من أمثال هذه التلفيقات العجيبة. زعم السير ستافورد أن الروابط الثقافية والتجارية كفيلة بحل ما سماه "خلافًا" سياسيًّا، وهو يرمي بهذا إلى تحقير هذا "الخلاف السياسي" الطارئ، لأن تاريخ العلاقات البريطانية المصرية فيما يدعى حافل بعلاقات المودة وبالذكريات الجميلة! ! فهل سمعت أذن بأغرب من هذه الدعوى؟ إن أجمل الذكريات بيننا وبين بريطانيا هو احتلالها أرض مصر والسودان أكثر من خمس وستين سنة، وسعيها الحثيث في فصم عُرَى مصر والسودان فصما لا مجاملة فيه ولا هوادة. إن هذا الخطيب السياسي يعلم أنه يلقى خطبته في دار السفارة المصرية التي دعت لتكريم أعضاء الغرفة التجارية المصرية الإنجليزية، ولكنه يتجاهل هذا ويستهين بالمنزلة السياسية التي ينبغي أن تكفل لدار السفارة المصرية، فيقف ليحط من قدر النزاع السياسي بين مصر والسودان وبريطانيا، ويسميه "خلافًا يسيرًا"، كأن حرية شعب واستقلال أمة ليس شيئًا يقام له وزن بإزاء ما يسميه العلاقات التجارية والروابط الثقافية؟ ونحن نعجب لِمَ سكت رجَال السفارة عن رد هذا التحقير للهدف الأعظم الذي أراقت مصر والسودان في سبيله ما أراقت من دماء، وجادت في سبيله بالأموال والأرواح والأبناء، وصبرت في الجهاد من أجله على مُرّ الحياة وبَأْسائها صبرًا طويلا كله آلام وتباريح؟ إن كل حرف في خطبة السير ستافورد كان كأنه يقهقه ساخرًا من هذا الشعب الذي يريد أن يعيش حرًّا في بلاده، فكيف فات من سمع هذه الخطبة من المصريين أن يقف ليعلم السير ستافورد أن النزاع السياسي بيننا وبين بريطانيا هو الحياة وهو الحرية، وهو الهدف الذي لن تلفتنا عنه مودة نشأت من رابطة ثقافية أو علاقة تجارية؟

ثم ماذا يعني السير ستافورد بقوله إن العلاقات التجارية والروابط الثقافية كفيلة بحل هذا النزاع السياسي؟ إنها كلمة يلقيها وهو يقدّر كل ما وراءها من سياسة بريطانيا في إذلال شعوب الأرض التي وقعت تحت سلطانها الجائر. فعلاقة بريطانيا التجارية بالبلاد الضعيفة هي أن تجعل رؤوس الأموال مستثمرة في البلاد في يد فئة من الخونة أو فئة من الأجانب، وبذلك تضمن لتجارتها ميدانًا هي صاحبة الكلمة الأولى فيه وتضمن أن يكون لهذه الفئة من الخونة أو الأجانب السيادة التامة على الشعب المستذل البائس الفقير الجاهل، وتضمن أن لا تقوم لهذا الشعب قائمة ما دامت هذه الفئة هي صاحبة القوة المدمرة في الحياة، وهي قوة المال، وتضمن أيضًا ناسًا من هؤلاء الخونة وهؤلاء الأجانب يقولون للبلد الفقير الجاهل البائس الذي سُلب قوة المال: لم لا تفعل أنت مثل الذي نفعل؟ وهم يعلمون أنه غير مطيق أن يفعل، لأن قيادة أخطبوط القوة المالية في أيديهم هم لا في يد الشعب المسكين. وليس في الدنيا شيء هو أوضح من هذه السياسة اللئيمة، فإن مصر والسودان كادت في بحر سنوات معدودة أن تكون أقوى دولة على شاطئ البحرين الأبيض والأحمر، وأعظم دولة في إفريقية، وذلك في عهد محمد علي، وأدخلت من ضروب الإصلاح والتدبير في مجتمعها وفي سياستها وفي صناعتها وزراعتها، ما لا غناء في ترديده الآن، فأبت بريطانيا أن ترى دولة قوية تنازعها سيادة الشرق الأوسط، كله، فألبت عليها الدول حتى حطمت أسطولها في نفارين، ثم تخونتها من أطرافها حتى انكمشت في أضيق رقعة، ثم انتهت إلى احتلال مصر والسودان مرة واحدة في سنة 1882. ومنذ ذلك اليوم وبريطانيا تدعي أنها جاءت لإصلاح أمرنا، فإذا هذا الإصلاح قاصر على أن تطلق يد الخونة والأجانب في مال مصر وثرواتها، وأن تحرم الشعب المصري من كل خير، وتضطهده وتقاتله بأخبث الأسلحة، ثم تتركه جائعًا عاريًا جاهلا لا يطيق أن يدفع عن نفسه. فأي خير جنيناه من هذه العلاقات التجارية بيننا وبين بريطانيا إلا الذل القاتل والإذلال المهين؟ وما الذي فعلته بريطانيا منذ سنة 1882 لهذا اليوم؟ إنها لم تأل جهدًا في

فتح باب الهجرة للأفاقين واللصوص والمجرمين من كل جنس وملة، وأطلقتهم على هذا البلد الأمين يعيثون في أرجائه فسادًا، وحمتهم بامتيازاتها وامتيازات الدول، ويسرت لهم أن يعيشوا عيشة البذخ والرفاهية إلى يوم الناس هذا. وقد ذكر السير ستافورد أن مصر كانت في زمن هذه الحرب الأخيرة "تستمتع برخاء غير طبيعي في عدة وجوه، على حين كانت بريطانيا على النقيض تمامًا، فقد كانت مجبرة على الإتفاق عن سعة في الخارج خلال فترة الحرب، لحماية نفسها وحماية الديمقراطية في العالم"، وهو يعلم أحسن العلم أن هذا الرخاء لم تعرفه مصر ولا المصريون، ولا السودان ولا السودانيون، بل عرفته الجاليات من الأجانب الذين عاشوا في مصر أو الذين وفدوا على مصر. وهو يعلم أحسن العلم أن الذين تسميهم بعض الصحف تندرًا بأغنياء الحرب، وترمز إليهم برجل مصري يلبس لباسًا محدثًا عليه، ليسوا سوى فئة قليلة إذا قيست بالآلاف المؤلفة من الأجانب الذين عقدوا الأموال وجمعوها وصاروا شيئًا بعد أن لم يكونوا إلا حضيضًا موطوءًا، وأنا أعرف مئات من هؤلاء الأجانب كانوا يعيشون قبل الحرب عيشة الكفاف بل عيشة الصعاليك، فإذا كلهم قد أصبحوا من الثروة والعزة بحيث إذا رأيت أحدهم ظننت أنه قوة إلهية تمشي على الأرض المصرية لتستذل هذا الشعب المصري، وكأنها لم توجد ولم تخلق إلا لهذا وحده. وبقى الشعب المصري أسوأ حالا مما كان فيما قبل سنة 1882، فما الذي فعلته بريطانيا؟ وما دعواها في إصلاح هذه البلاد؟ وهذا كله بين لكل مصري، وهو أشد بيانًا ووضوحًا في عيني السير ستافورد كريس، ومغالطته قى الحقائق التي يعلمها لا هدف لها إلا أن تدل على أنه سياسي بريطاني حقًّا؟ ! ثم ما هذه الروابط الثقافية التي يرجو أو يزعم أو يحقق السير ستافورد أنها كفيلة بأن تغطي هذا النزاع بين الدولتين: بين الدولة المتغطرسة المستبدة التي تحتل بلادنا، وبين الشعب المسكين الذي ظل خمسًا وستين سنة يجاهد في نيل استقلاله والتمتع بحرية الدولة المستقلة؟ لقد أغنانا السير ستافورد عن طلب الدليل

بأن ذكر عدد الطلاب الذين أكرمت بريطانيا وفادتهم في هذه السنة ففتحت لهم أبواب جامعاتها. ولسنا ندري كيف يرجو السير ستافورد أن يكون هؤلاء الطلبة الذين درسوا في بريطانيا عاملا في حل النزاع السياسي بين مصر وبريطانيا؟ ولكنا نعلم يقينًا أنه ما من شاب نعرفه ذهب إلى بريطانيا وعاد إلى مصر وهو مصري القلب واللسان إلا وهو مظلوم مضطهد في هوة من هوى النسيان، وأنه ما من شاب نعرفه منهم عاد إلى مصر وهو يبرأ منها بلسانه وقلبه وجوارحه إلا كفلته بريطانيا ومهدت له حتى يتبوأ المنزلة التي تنبغى لمثله. ونحن لا نحب أن نسمى أحدًا باسمه، ولكني أعرف أن آلافًا غيري يعرفون أحسن مما أعرف، وعندهم من خبر ذلك أوثق مما عندي. أفهذا هو التعاون الثقافي الذي رمى إليه السير ستافورد؟ لا ريب في أن هذا هو التعاون الثقافي الذي يعنيه، وهو لا يلقى بالا كثيرًا إلى شيء غيره من ضروب التعاون الثقافي لنشر العلم والمعرفة. بل إن بريطانيا نفسها لم تعن منذ دخلت مصر والسودان إلا بهذا الضرب وحده، وما أظن أحدًا يجهل ما كان من أمر البريطانيين يوم دخلوا مصر فمزقوا مدارسها، وعملوا عمل الحريص على نزع كل شيء يفضي إلى تعليم الشعب المصري من يد المصريين، وأصروا على أن يأتوا بداهية من دهاتهم هو دنلوب، ليضع برامج التعليم المصري. فكانت العاقبة أننا بقينا إلى هذا اليوم نرتطم في الأوحال التي قذفنا بها دنلوب، ونعيى عن إصلاح التعليم بعد الذي ابتلى به، وبعد تلك الفئة من الرجال الذين أنشأتهم الثقافة البريطانية وأنشأهم دنلوب على ما يريد وأعطتهم بريطانيا مقاليد التحكم في وزارة المعارف المصرية. ولم يقف الأمر عند شأن التعليم بعدئذ، بل سار على هذا النهج في كل عمل في الوزارات المصرية، منذ كان وزير الاحتلال مصطفى فهمي باشا إلى هذا اليوم إلا من عصم الله. ومع ذلك فالفساد الذي لحق الإدارة المصرية كلها من جراء هذا الضرب من التعاون الثقافي، قد تغلغل وضرب بجذوره في كل شيء حتى في الاجتماع المصري. وكل هذا بين لا خفاء فيه. ولنا عودة إليه إن شاء الله.

ثم إن تعجب فاعجب لهذا الغضب الرقيق والعقاب الحلو الذي جرى على لسان السير ستافورد كريبس من جراء "تهور" الحكومة المصرية في سن قانون الشركات. إن هذا القانون لا يكاد يعد شيئًا إذا قيس بقوانين الشركات وغير الشركات في بريطانيا نفسها ثم في سائر بلاد العالم، ولكن السير ستافورد يغضب هذا الغضب الرقيق ويعاتبنا هذا العتاب الحلو، لأن هذا القانون ينال شيئًا قليلا من الأجانب الذين يعيشون في مصر. وكيف لا يعاتب ولا يغضب علينا، والأجانب هم الناس، وهم مصر، وهم أصحاب المصالح الحقيقية كما كانت تقول بريطانيا قديمًا. إن الذي يريده السير ستافورد، أو الذي تريده بريطانيا، شيء واضح هو أنه لا يحل للشعب المصري أن يفكر ساعة واحدة في أن يسن في بلاده قانونًا يقيد حرية الأجانب أو يحد من ضراوتهم وفجورهم، وإلا فعلى هذا الشعب المصري أن يحتمل تبعة هذه الجرأة وهذه الوقاحة التي تدفعه إلى الحد من سلطان سادته وأصحاب الكلمة العليا في بلاده. ولذلك رأينا الصحف البريطانية تغمز وتلمز أيضًا حين صدر قانون إقامة الأجانب في مصر، مع أن مثل هذا القانون في بريطانيا نفسها يجعل الأجنبي يعيش في أرضها وعليه مَلَكانِ يكتبان كل شيء حتى ما توسوس به نفسه. ولكننا لا نستطيع أن نسن في بلادنا قانونًا كقانونهم وإلا فإننا متعصبون يضطهدون الأجانب، وهذا التعصب كفيل بأن يقضى على كل نهضة في بلادنا، وكفيل بأن يزعزع ثقة الأمم فينا، وكفيل بأن يمنع عنا مدد بريطانيا الصالحة التقية الورعة! ! إن هذه الخطبة التي ألقاها السير ستافورد كريبس هي خلاصة موجزة لأسلوب بريطانيا في إذلال الشعوب، وإذلال شعب مصر خاصة، فعسى أن لا يفوت الحكومة المصرية أن توغل في شرحها وتتحسس سائر مراميها، لكي تعرف أن ساعة الجد قد دنت، وأنه ليس بيننا وبين بريطانيا إلا العداوة المكشوفة، وأن علينا أن نعمل رضيت بريطانيا أو أبت، وعلينا أن نصابرها وأن نحتمل الضنك والبأساء في سبيل إنقاذ مصر والسودان من براثن هذا الوحش الضاري.

لبيك يا فلسطين!

لبيك يا فلسطين! لقد عزمت الأمة العفيفة النبيلة الورعة، وهي بريطانيا العظمى بلا مراء، أن ترفع يدها عن فلسطين، وأن تجلو بجنودها عن هذه الأرض المطهرة، وأن تترك الأمر لأصحاب البلاد، هكذا، يصرفونه على ما توجبه مصالحهم! ! وفي هذا الوقت نفسه قامت روسيا السوفيتية الغامضة تؤازر أمريكا الصريحة في صهيونيتها على تقسيم فلسطين تقسيما لا يدري المرء كيف يصفه، أهو حماقة، أم جور، أم صفاقة، أم نذالة مركبة في طبائع الأمم الجشعة؟ ثم رأينا بريطانيا هبت تستنكر هذا الذي تبيته روسيا وأمريكا لفلسطين. هذا ملخص ما يدور في أمر فلسطين دون تزويق أو تدليس. ونحن لا نريد أن نبخس بريطانيا حقها في هذا الموقف الذي تقفه من مسألة فلسطين، ولكنا أيضًا لا نريد أن نلغى تصرف العقل فنصدق أن هذه الأمة البريطانية تفعل هذا حُبًّا للعرب، وحفاظًا على حريتهم، ورغبة في معونتهم ونصرتهم. فإنها هي التي نفثت في هذه الصهيونية الخبيثة من روحها منذ دخل الرجل الصليبي "ألنبى" أرض الآباء المطهرة، وهي التي ضمنت لهؤلاء الصعاليك إنشاء وطن قومي في فلسطين، وهي التي أغضت عن تسلل هؤلاء اللصوص إلى بلاد ليست لهم، وهم الذين نكَّلوا بالعرب تنكيلا لم يشهد التاريخ أفجر منه ولا ألأمَ أيام ثورة العرب عليهم وعلى جلائهم من اليهود، وهي التي استعانت باليهود في الحرب العالمية الثانية ودربتهم وجندتهم وفتحت لهم أبواب الأرض المقدسة، وهي التي أعانت تهريب اليهود وحمتهم ووقفت تعبث في مراقبة الهجرة اليهودية، وهي التي صبرت على إذلال اليهود لها وعلى جلدهم جنودها وضباطها واغتيالهم وخطفهم واتخاذهم رهائن، هذه بعض فضائل بريطانيا وشيء من نبيل مواقفها في مسألة فلسطين! ! ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 752)، ديسمبر 1947، ص: 1313 - 1315

وبعد أن فعلت كل هذا طلبًا للأجر والحسبة من الله خالقهم وخالق الصهيونيين، زعمت أنها ولا شك نافضة يدها من هذا الأمر، وجالية بجنودها عن هذه الأرض، وتاركة الناس أحرارًا يدبرون شئونهم بأيديهم! فكيف يفهم العقل من كل هذا أن بريطانيا تعترض على مسألة التقسيم لأنها تريد خيرًا للعرب، وتحافظ على وعودها لهم، وتعمل على رد شر اليهود ومن يعاونهم عن هذه الأمة المسكينة؟ ! كيف يا شياطين السياسة؟ ! إن لها من وراء كل هذا التنكر للتقسيم أربًا آخر لا ندري ما هو على التحقيق، ولكنا إذا عرضناه على أفاعيل بريطانيا منذ كانت بريطانيا، فلن نعدم الشك في نيتها، ولا الاهتداء إلى موضع الدَّخَل (¬1) في تصرفها، ولا آيات الكذب في دعواها. وقبل هذا وذاك، لا يستطيع قلب عربي أن يطمئن إلى أن بريطانيا وأمريكا، وهما الدولتان المتعاونتان على الخير والشر، تختلفان في هذه المسألة بعينها، إلا أن يكون اختلافهما تعمية وتدليسًا لشيء هو أجدى عليهما وعلى الصهيونيين اليهود من اتفاقهما! وليكن الأرب المكنون بعد ذلك ما يكون! ونحن العرب لا نحب أن نلقى إثم هذه الصهيونية الجائرة على أمريكا وروسيا للذي نراه اليوم من موقفهما وتشددهما وحرصهما على تقسيم فلسطين، لا لأنهما أمتان بريئتان، بل لأن الدوافع التي تحملهما على هذا الحرص وهذا التشدد إنما جاءت بعد أن فعلت بريطانيا فعلتها، وأصَّلت لهذه الخبائث أصلا قويًا في الأرض المطهرة، ونزعت من يد العرب كل حول وطَوْل في تصريف شأن بلادهم، وبعد أن تكرمت بريطانيا علي العالم كله بإحداث مشكلة لا حل لها إلا الحل الذي تفصم به كل عقدة خبيثة تستعصي على المحاول. إننا لا نريد أن نخدع مرة أخرى بنفاق بريطانيا وأكاذيبها وتصنعها لأعين الناس بالبراءة وحب الخير والحرص على الوفاء بالعهود وإنجاز المواعيد، وبريطانيا تريد أن تذهب في أمر فلسطين مذهبًا جديدًا لتكون شهيدًا جديدًا يستنزل العطف ¬

_ (¬1) الدَّخل: الخداع والفساد.

والمحبة من قلوب العرب، وتريد أن تقف هذا الموقف لأنها تريد أن تخدع مصر والسودان، وتخدع سورية ولبنان، وتخدع العراق والباكستان، وتخدع كل ناطق باللسان العربي في مشارق الأرض ومغاربها. ولكننا لن ننخدع مرة أخرى أيها الشهيد الذي استحل دم الأحرار في مشارق الأرض ومغاربها. هذه بريطانيا، وأما أمريكا، فقد طالما ذهبت فى الدفاع عن الحرية مذهبًا كريمًا، ولكن ذلك شئ كان ثم انقضى، فأمريكا اليوم دولة تصرفها الأحقاد الكثيرة، وعلى رأس هذه الأحقاد إصرارها على التعصب البغيض إصرارًا لا هوادة فيه، حتى فى قلب بلادها. ثم يلي ذلك تحكم اليهود وتسلطهم على رؤوس أموالها، وعلى شركاتها، وعلى مجتمعها، وعلى رجال سياستها. فالشعب الأمريكى اليوم أُلعوبة تلهو بها الصهيونية اليهودية وترفعها وتخفضها كما تشاء، ولسنا نحن الذين نقول هذا، بل هذا ما تقوله فئات من الأحرار الأمريكيين أنفسهم، ولكن هؤلاء الأحرار لا حول لهم ولا طَوْل، لأن كل شيء هناك فى قبضة اليهود، ولأن رئيس الولايات المتحدة، أيًّا كان هذا الرئيس، لا يكاد يصل إلى كرسي الرئاسة إذا خذلته اليهود وأعرضت عنه في الانتخابات، فهو بالاضطرار يدور حيثما داروا به حتى يصير رئيسًا للولايات المتحدة، فإذا صار رئيسًا، فهو في قبضة اليهود أيضا طمعًا وخوفا واضطرارا. وتظن أمريكا، أو يظن ساستها، أنهم إذا ناصروا إنشاء الوطن اليهودي، أو الدولة اليهودية، فهم بذلك سوف يخلصون من قبضة هذا الوحش اليهودي، وأنهم يومئذ قادرون على أن يطردوه من بلادهم ويقولون له: هذه بلادك فاذهب إليها. وهذا تسويل من شياطين اليهود، وباطل من أباطيلهم يدندنون به في آذان هؤلاء الساسة، فاليهود يريدون أن ينشئوا الدولة اليهودية، لا ليسكنوها ويتركوا البلاد التي أكرمتهم وأضافتهم وخلطتهم بأنفسها، كلا بل يريدون بهذه الدولة أن يسيطروا على قلب العالم، وهو الشرق الأوسط، وأن يحتفظوا بسيطرتهم في سائر بلاد الله كما هي، ليكون لهم السلطان في الأرض، والغلبة على الأمم جميعًا مسلمها ونصرانيها، فكلاهما عدو لها، وهي تحمل لهما جميعًا عداوة لا تفتر ولا تموت. والذين يستنكرون

أن يكون هذا هدف اليهود، لم يقرأوا شيئًا من كلام الصهيونيين، ولم يعرفوا أن هؤلاء اليهود يطمعون طمعًا لا يشكون فيه، وهو أن الخلافة في الأرض ستكون لهم، وأن هذا الشعب المختار، هو الذي اختاره الله لسيادة الدنيا واستعباد البشر غير اليهود! فأمريكا مخدوعة هي وساستها، إذا ظنت أنها بمناصرتها لهؤلاء السفاحين اليهود، سوف تكسب شيئًا إلا ذل الحيرة والاضطراب. وأما روسيا الغامضة، فسلطان اليهود فيها ليس أقل منه في أمريكا، وهم الذين يسولون للروس أنه إذا أنشئت في فلسطين دولة يهودية، وإذا ناصرها الروس حتى تكون، فمعنى ذلك أن روسيا سوف تجد منفذًا لها إلى قلب العالم، أي إلى الشرق الأوسط وأن اليهود لن يخذلوا المذهب الشيوعي، بل سيفسحون لدعاته المكان، ويجعلون فلسطين مأوى لهم وملاذًا وكهفًا، وأن تعاون الروس واليهود سوف يخلص روسيا من سلطان بريطانيا وأمريكا في هذه الرقعة من الأرض، وأن اليهود في حاجة إلى معونة إحدى الدول الكبرى، فإلا تعنهم روسيا وهي أقرب إليهم من أمريكا وبريطانيا، فباضطرار ما يبسطون أيديهم إلى أمريكا وبريطانيا ويعاهدونهما على الخير والشر في التسلط على هذا الشرق الأوسط. وروسيا دولة تصرفها فكرة غالبة كفكرة اليهود هي الاستيلاء على أغنى بقاع الأرض، لتستطيع أن تنشر مذهبها، وأن تتوسل بهذا المذهب إلى هدم الكيان الاجتماعي في الأمم، فإذا تم لها ذلك استطاعت أن تحكم هذه الأمم وتصرفها على ما يشاء لها هواها. فهي يومئذ صاحبة السلطان الأعلى، وهي القوة المدمرة وهي الظافرة في الميدان الاجتماعي والسياسي، وهي يومئذ قد أمنت أن تخشى لبريطانيا العظمى والولايات المتحدة بأسًا أو قوة. هذا تفسير هذه المشكلة المعقدة التي تريدنا بريطانيا، وتريدنا أمريكا، وتريدنا روسيا، على أن نكون فيها كالشاة المذبوحة لا نألم السلخ. فتبًّا لهم جميعًا، والله المستعان. بقى شيء آخر لا يخطئه أحد إذا فكر فيه، وهو أن هذه الدول جميعًا تعلم علم اليقين أنها ترتكب جريمة من أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية، جريمة لم

ترتكب مثلها أمة من الأمم المتوحشة فضلا عن الأمم الجاهلة، فضلا عن الأمم المثقفة التي تدعي أنها حارسة الحضارة الإنسانية والقائمة عليها -تلك هي إقحام شعب على شعب آخر ليجليه عن بلاده، وليستذله، وليستعبده. إن هذه الدول جميعًا تعلم أن هؤلاء اليهود هم أبشع خلق الله استبدادًا إذا حكموا، وهي تعلم أنهم خلق قد خلت نفوسهم من كل الشرف والنبل والمروءة، وأنهم خلق تملأ قلبه العداوة والبغضاء والحقد على البشر جميعًا، وأنهم خلق لا يتورع عن شيء قط يرده عن اقتراف أحط الآثام في سبيل ما يريد- إنها تعلم هذا وأكبر منه وأشنع، ومع ذلك فهي تريد أن تطلق هذه الوحوش الضارية من غابات الجهل والعصبية والحقد، لتعيث في هذا الشرق الأوسط كله بفجورها وبغيها وضراوتها، فتهدم ما تهدم، وترتكب ما ترتكب، باسم الحضارة والمدنية والثقافة. . . فيا لها من جريمة! يا لها من جريمة أيتها الأمم الحارسة لتراث الحضارة الإنسانية! ! ثم بقى شيء وراء ذلك كله، ينبغي لكل عربي أن يعلمه، ولاسيما أولئك الذين يتعرضون اليوم لسياسة هذا الشرق العربي، وهذا الشرق الإسلامي كله -هو أن أقدام هذه الدول الثلاث على مناصرة المجرمين الصهيونيين تنطوي على معنى قد استقر في أنفسهم وغلب عليها، وهو احتقارهم للعرب وازدراؤهم لهم ولمدنيتهم ودينهم وحضارتهم واجتماعهم ودولهم وملوكهم، وقديمهم وحديثهم، وأن هذا لبان ارتضعوه منذ كانت الحروب الصليبية، وأن الثقافة والعلم وسهولة اتصال الأمم بعضها ببعض، كل ذلك لم يغير شيئًا من عقائد الصليبية الأولى في هذا الشرق العربي، وكل ذلك لم ينفع شيئًا في نزع السم الذي اختلط بالدماء وجرى في العروق مع نسمات الهواء ومضغات الغذاء. وأنه لولا هذا الداء القديم، وهذه العلة المستعصية، لما ارتضت هذه الدول أن تبدى كل هذه الجرأة على الحق في مشكلة فلسطين، بل لوقفت كما وقفت من قبل في مسألة دانزيج وغيرها مناصرة لحق الناس في الحرية كما تزعم. هذا معنى لا يفوت عربيًا مسلمًا كان أو نصرانيًّا، لأن هذه الدول تتصرف بأحقاد جاهلة عمياء، لا ببصر وتمييز وعدل.

وغاب عن هذه الدول جميعًا شيء واحد، هو أن هذه الأمم التي يصبُّون عليها أحقادهم المرذولة وسَخائمَهم العتيقة، قد لقيت من قبل أشد مما تلقى اليوم، ومع ذلك فقد استطاعت أن تخرج على الدنيا طاهرة نبيلة لا تحمل حقدًا ولا ضغنًا، فانتشلت الحضارة الإنسانية من أوحال الجهل العميق الذي كانت تعيش فيه أوربة وأمريكا وروسيا، ورفعت النار لكل مهتد حتى اهتدى. إن هذه العرب لا تنام على ذل أبدًا، فلتعلم هذا روسيا، ولتعلمه بريطانيا، ولتعلمه أمريكا، وليعلمه الأفاقون من اليهود. لقد نادت فلسطين غير نيام، نادت أيقاظًا يحملون بين ضلوعهم تلك الشعلة الخالدة في تاريخ الإنسانية، والتي نحن القوَّام عليها والقائمون بها، والتي نحن لحاملوها حيثما سرنا في الأرض -شعلة الإيمان بالله الواحد القهار- إن كل سلاحٍ سلاحٌ مفلولٌ إذا لقى سلاحنا، لأننا لا نقاتل بالتدمير والخراب، بل بالتعمير والإنشاء ورد الحقوق على أهلها وإن كانوا قد ظلمونا ونكلوا بنا من قبل. ولتعلم هذه الأمم العدو لنا جميعًا أن المعجزة التي كانت يومًا ما، سوف تكون مرة أخرى يوم ننبعث من ظلماء هذه الحوادث سراعًا إلى نجدة أمنا فلسطين، فتنبثق الأرض عن جنود الله القدماء: عن كل أروَعَ ترتاعُ المنونُ له ... إذا تجرد، لا نِكسٌ ولا جحِدُ (¬1) يكاد حين يلاقى القِرْن من حنق ... قبل السِّنان على حوْبائه يرِدُ قلوا، ولكنهم طابوا، وأنجدهم ... جيش من الصبر لا يفنى له عدد إذا رأوْا للمنايا عارضًا لبسوا ... من اليقين دُروعًا ما لها زَرَدُ (¬2) هذه ليست خطابة ولا حماسة أيتها الأمم، بل هي الحق، وهي عادتنا وعادة الله فينا، والله غالب على أمركم وأمرنا، ونحن جند الله في الأرض على رغمكم، وإن سخرتم أو كذَّبتم! ¬

_ (¬1) النِّكْس: الضعيف الجبان. (¬2) الزَّرَدُ: خلَقُ الدِّرْع.

فلسطين: ثلاثة رجال

فلسطين: ثلاثة رجال أحب أن أقدم بين يدي كلامي هذا كلمة أو كلمتين لابد منهما: الأولى، أن أبتهل إلى الله أن يبرئ قلوبنا من الجبن والخور والبخل، وأن يؤيدنا بالصبر والقوة، وأن يرفع عنا غضبه ومقته، فقد كتب علينا الجهاد في سبيله بما استطعنا. وأحب لكل كاتب وقارئ أن يتوب إلى الله مما اكتسب من إثم يده أو قلبه أو لسانه، ليتجرد إلى الجهاد وهو طاهر مصمم لا تلفته الدنيا عن الدفاع عن الحق. والثانية: أني كنت كتبت عن قضايا العرب وعن فلسطين، فكنت لا أزال أذكر الإسلام وأشفعه بذكر نصارى الشرق، لأني أعدهم منا ومن أنفسنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وكنت أرى أن نصارى الشام والعراق قد بذلوا من الجهود في قضايا العرب ما صرح عن مكنون أنفسهم وعن إخلاصهم الذي لا يدفع، وأنهم جزء لا يتجزأ من العالم العربي ومن العالم الإسلامي، وكنت أتخوف أن يقف قبط مصر مترددين عن المشاركة الصريحة في جهاد العرب والمسلمين في مسألة فلسطين، ولكني أشهد الله اليوم أن قبط مصر قد ملأوا قلوب العرب والمسلمين غبطة بهم وإكبارًا لهم، وحرصًا على مودتهم حرصًا لن يعمل فيه بعد اليوم دس ولا كيد ولا وقيعة. إنه لا يحل لامرئ مسلم أو عربي بعد اليوم أن يرتاب أو يتشكك في نبل هؤلاء الإخوان الذين نصرونا في ساعة العسرة لا تدفعهم إلى هذه النصرة رغبة ولا رهبة. وسأسجل في هذه الكلمة مآثر لرجلين من أجل النصارى شأنًا، لأنهما وقَفَا في الجهاد موقفًا يوجب علينا أن نخلد ذكرهما في تاريخ العرب وتاريخ ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 754)، ديسمبر 1947، ص: 1368 - 1371

المسلمين، ولا سبيل إلى جزاء هذين الرجلين إلا بأن نرفع ذكرهما في هذه الساعة وإلى أبد الدهر، لأنهما قطعا السبيل على كل خبيث من شياطين السياسة القذرة التي انبعثت في أوربة وأمريكا، وعلى شياطين اللؤم الصهيوني الدنئ. أما الأول فهو الشيخ الجليل الصادق غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا يوساب، فقد اجتمع المسلمون والعرب في المسجد الجامع الأزهر في يوم الجمعة 22 المحرم سنة 1367، فإذا الناس يفاجأون بمقدم القمص متياس الأنطوني سكرتير غبطته مندوبًا من قبله، ومعه إخوانه من رؤساء الأقباط في مصر، القمص جرجس إبراهيم رئيس الكنيسة القبطية الكبرى، والقمص عبد المسيح سعد، والقمص مرقص غالي. ودخول هؤلاء الأربعة الكرام إلى المسجد الجامع في ساعة الجمعة، ونيابتهم عن غبطة البطريق الأعظم في شهود هذا اليوم المشهود وخطبتهم الناس في هذا المسجد، ومشاركتهم في أكبر مؤتمر إسلامي في مصر، قد دل دلالة صريحة على أن الأنبا يوساب البطريق الأعظم، هو رجل قد نور الله قلبه بالحق، وآتاه من الفطنة والصدق والأمانة في دينه وخلقه ما يجعل عمله هذا أمانة في عنق كل مسلم وعربي، يحميها ويدفع عنها ويعتز بها ويكرم أصحابها في عامة أمورنا وخاصتها. وقد فعل ذلك من تلقاء نفسه غير متردد، فدل ذلك على أنه رجل سياسي مخلص، وعلى أنه يدرك تمام الإدراك كل ما يحيط بهذا الفجور الصهيوني من الخبائث، وعلى أنه يأبى أن يدخل بين أقباط مصر ومسلميها مفسد يبغى الوقيعة. ومن قبل ما وقف هذا البطريق الأعظم موقفًا رد كيد البريطانيين في نحورهم، وذلك في حادثة الزقازيق التي دبرتها بريطانيا لإفساد ما بين المسلمين والأقباط، فلولا حكمة هذا الرجل النبيل، لكان هذا الحادث البغيض سببًا في اشتعال نار الفتنة التي أشعلت بريطانيا مثلها من قبل لتفرق كلمة الأمة تفريقًا يجعل بعضها لبعض عدوًّا. ونحن نحمد الله إذ جعل في إخواننا القبط رجلًا كهذا الرجل الجليل، يقف حارسًا يقظًا على أمته وأمتنا، يرد عنها كل مكيدة. ومادام في الأقباط هذا الرجل وأمثاله، فالمسلمون والعرب جميعًا لا يبالون بعد اليوم أن

يبذلوا مهجهم في الذود عن إخوانهم، وفي حمايتهم، وفي الدفع عن كل شيء يسوءهم، ما بقى على ظهر هذه الأرض مسلم يؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر. إنه دَين في أعناقنا للقبط، نسأل الله أن يهبنا القدرة على أدائه وإن أَبَوْا هم أن يقبلوا عن هذه المأثرة جزاء. وأما الرجل الآخر فهو كصاحبه يتلألأ قلبه بنور الإخلاص والإيمان، تكلم فأبان عن نفس حرة أفزعت "اليهود المسئولين في مدينة الإسكندرية" أي يهود مصر، فأقبلت طائفة منهم تريد أن تثني هذا الرجل الجليل عن إذاعة حديثه، فأجابهم بأنه ما قال ما قال إلا وهو يعتقد أنه قول صريح سليم، وليس إقحامًا للدين في السياسة، وأنه يقصد حماية التراث المقدس للمسيحية، وأنه إنما يتكلم عن عقيدة وإيمان بما يقول. ذلكم هو الرجل النبيل غبطة البابا كريستوفورس الثاني بطريرك الإسكندرية وإفريقية للروم الأرثوذكس. وقد جاء في هذا الحديث أن غبطة البطريق الأعظم للروم قد دهش لإنشاء دولتين في فلسطين، ودهش أيضًا من أن تكون أمريكا والاتحاد السوفيتي هما الداعيتين إلى هذا التقسيم. ثم قال: "إنه لتزداد دهشتنا أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى هذه المحاولة الجريئة رغم أحداث التاريخ الدالة على فساد هذه الفكرة وخطرها. ولهم العبرة فيما حاوله الإمبراطور جوليان الروماني. لا ندري كيف فكرتا في وضع الأراضي المسيحية المقدسة في حماية أولئك الذين رغبوا دائمًا، جماعات وأفرادًا، في أن يعيشوا حتى يروا اليوم الذي لا يسمع فيه ذكر للمسيح. وهل يستطيع إنسان أن يتصور اليهود حرسًا وحماة للأمكنة المقدسة. وهم الذين سيعمدون إلى تدنيسها بمجرد السيادة فيها؟ "ونحن نرى أيضًا أنه لا يمكن أن يسمح للفاتيكان أن تكون له السيادة في فلسطين، فإن الحروب الصليبية قد برهنت على فساد هذه الفكرة. ولهذا فإننا نحن الروم الأرثوذكس نرى في حالة إلغاء الانتداب الدولي على الأراضي المقدسة، أو عدم وجود دولة عربية مكان هذا الانتداب، أن تعطي للمسلمين

حماية هذه الأراضي، لأنهم منذ مارسوا حكمها في هذه القرون الطويلة، برهنوا على أنهم جديرون بثقتنا". وهذا كلام أقل ما يقال عنه إنه كلام رجل مؤرخ عالم بصير لا يدفعه إلى ما يقول هوًى لشيء ولا رهبة لمكروه. فإن غبطة البابا كريستوفورس قد قضى طفولته وشبابه في فلسطين، قد عرف بنفسه شعور اليهود ضد العرب وضد الأرض المقدسة، كما قال متكلم بلسان البطريركية الرومية. وقد أثبتُّ حديث البطريق الأعظم بتمامه لأنه سوف يصبح وقائله جزءا لا يتجزأ من تاريخ الإسلام، ولأننا نحن المسلمين نحب أن نحمل المنن في أعناقنا فنحافظ عليها ونرعاها وندافع عنها ونجزيها أحسن الجزاء، إن حديث هذا الشيخ الأجل سوف يصير من تاريخنا يرويه أربعمائة مليون عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وهو حديث يفسر كل ما كنا نقول به من مشايعة الدول الأوربية والأمريكية للصهيونية الفاجرة، قائمة على الصليبية الحمقاء. فهم يحاربوننا حربًا صليبية لا يستثنون فيها مسلمًا ولا نصرانيًّا في الأرض الإسلامية والعربية وقد كان بعض الناس يعيب علينا هذا الرأي، ولكن حديث البطريق الأعظم قد كشف الغطاء عن كل ذلك، ومهد للتاريخ أرضًا جديدة يدرس فيها هذا الصراع بين أهل الشرق العربي الإسلامي من مسلمين ونصارى، وبين الغرب الصليبي من نصارى ويهود. ولكن نصارى الشرق غير نصارى الغرب، فهؤلاء قوم ملئت قلوبهم أحقادًا صليبية مظلمة لا عقل فيها ولا ضمير لها، أما نصارى الشرق فهم يعرفون تمام المعرفة أن نصارى الغرب قوم مفترون جاهلون متعصبون يريدون أن يدنسوا هذه الأرض المقدسة باليهود عداوة للمسلمين غير ناظرين إلا بالعين الصليبية البغيضة، لا بعين الإنصاف والحق كما ينظر نصارى المشرق. وحسبنا هذا البيان من البطريق الأعظم، فإنه حسنة لن ينساها له مسلم إلى أن تقوم الساعة. وقبل أن أنتهي إلى ذكر الرجل الثالث أحب أن أنبه القارئ، وأنبه قومي العرب في كل مكان، وفي مصر خاصة، إلى أنه ما كاد "يهود مصر" يعلمون

نبأ إذاعة هذا الحديث في الصحف حتى تبادروا إلى غبطته يريدون أن يثنوه عن نشره وإذاعته. فما معنى هذا الذي يفعله اليهود الذين خلعنا نحن عليهم الجنسية المصرية؟ وماذا تقول حكومتنا في هؤلاء القوم الذين يريدون أن يكونوا أعوانًا للصهيونية في قلب بلادنا في هذه الساعة؟ أو يحدث هذا في مصر في الأسبوع الماضي، وإذا بنا نقرأ اليوم (8 ديسمبر سنة 1947) أن الشرطة العراقية ألقت القبض عند الحدود العراقية السورية على ثلاثة يهود عراقيين من موظفي شركة الزيت العراقية ومعهم جهاز إرسال لاسلكي. فما معنى هذا؟ ليعلم اليهود أن العرب لن يقبلوا أن يكون للطابور الخامس عمل في بلادهم. وننتهي من هذا التعليق لنضم إليه خبر الرجل الثالث الذي ينبغي أن يعرفه العرب والمسلمون، فقد أفضى سيادة حاييم ناحوم أفندي الحاخام الأكبر للطائفة الإسرائيلية في مصر بالتصريح الآتي: "إني أرى أن مركزي بوصف كوني رئيسًا دينيًّا وروحيَّا لأبناء الطائفة الإسرائيلية، يحول بيني وبين الخوض على صفحات الصحف في أي مناقشات مهما كان نوعها أو الغرض منها. ولكن إزاء كثرة ما وجه إلينا من أسئلة واستفهامات أرى أن واجبي يحتم على أن أتوجه إلى السائلين وإلى جموع الأمة المصرية الكريمة بكلمة أرجو أن تكون حدًّا فاصلا لهذا الموضوع: فأبناء الطائفة الإسرائيلية التي أتشرف برياستهم الدينية هم جزء لا يتجزأ من الأمة المصرية، يشعرون بشعورها ويتألمون لألمها. فكيف إذن يحاول البعض التشكيك في عواطفهم نحو أبناء بلدتهم المصريين. إن دستور البلاد يكفل لنا جميع الحقوق الممنوحة لأبناء مصر الكريمة سواء بسواء، ولذلك فإن واجبنا نحو بلادنا يجعلنا نعمل بشعورنا كمصريين. وقد أصدرت أمري إلى رجال الكنائس الإسرائيلية بإقامة الطقوس الدينية ليعظوا فيها أبناء الطائفة على أن يتضافروا مع إخوانهم المصريين في هذا الظرف العصيب". ونحن نشكر الحاخام الأكبر، ولكن ليعلم سيادته أنه قبل أن يتوجه إلينا بكلام يكون "حدًّا فاصلا" ينبغي أن يعمل هو وأبناء طائفته عملا يكون "حدًّا

فاصلا"، وهذا مع الأسف لم يحدث قط، وأخشى أن أقول إنه لن يحدث قط. ثم ليأذن لنا سيادته أن نوجه نظره الكريم إلى الذي ذكرناه وذكرته الصحف ولم يستنكره أحد من يهود مصر، وهو ذهاب بعض المسئولين من اليهود في ثغر الإسكندرية كي يثنوا البطريق الأعظم للروم الأرثوذكس عن إذاعة حديثه. أهذا أيضًا إقحام للدين في السياسة. وليأذن لنا سيادته أن نقول له إننا نعيش في أرض مصر، واليهود يعيشون معنا فيها لا في المريخ، وأننا نعلم علمًا يقينًا أن جمهورًا كبيرًا من شباب اليهود في مصر، يجري بينهم الحديث وبين المصريين، فلا نجد أحدًا منهم يكتم مشايعته لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، بل يفرح بها ويصر على التصريح بأنها خير لبلادنا، وأنه ينبغي علينا نحن العرب أن نعاون على إنشاء هذه الدولة، وأن نعيش معًا في سعادة وأمن ورخاء! ! ! وليأذن لنا سيادته أيضًا أن ننبهه إلى أن هذه الساعة التي جاش فيها العالم الإسلامي والعربي، ليدفع عن فلسطين الجور الذي أرادت هيئة "الأمم المتحدة" التي تصرفها روسيا وأمريكا وبريطانيا، هي ساعة فاصلة في تاريخ العرب والمسلمين ونصارى الشرق جميعًا، وليأذن لنا أن ننبهه أيضًا أن النار المشتعلة الآن تفصح كل الإفصاح عن المعنى الذي ينطوى عليه تقسيم فلسطين، فكيف ذهب عن فطنة سيادته أن يذكر كلمة واحدة صريحة تفصح أيضًا كل الإفصاح عن استنكاره واستنكار طائفته لهذا التقسيم الجائر الذي أرادت أن تفرضه على العرب هيئة الأمم المتحدة؟ وليأذن لنا سيادته أيضا أن ننبهه إلى أن الصهيونية تدعي أنها تتكلم باسم يهود العالم جميعًا، وأن جميع الدلائل إلى اليوم تدل على أن كثرة يهود العالم منضمة إليهم، فما هو الضمان الذي يقدمه لنا سيادته حتى تطمئن قلوبنا إلى أن يهود مصر ليسوا كيهود سائر العالم؟ وليأذن لنا سيادته أيضًا أن ننبهه إلى أن الصهيونية قد أذاعت منذ القديم أنها تريد أن تستولي على أرض إسرائيل كلها من الفرات إلى النيل، وأن هذا مطبوع منشور في كتبهم، وأنه حين ذاع نبأ التقسيم وقف مفلوك صهيوني يستنكر

التقسيم ثم يرضى به على مضض، لأنه الخطوة الأولى التي تفضي إلى استيلائهم على أرض بني إسرائيل كلها من الفرات إلى النيل، وأنا لا أظن أن مثل هذا مما يغيب عن الرجل الفاضل العالم أحد أعضاء المجمع اللغوي العربي (¬1). وليأذن لنا سيادته أن نذكره بوصية الله لنا في محكم تنزيله إذ يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، فالمسلمون والعرب جميعًا سوف يقاتلون من يقاتلهم من الصهيونيين، أما سائر اليهود فلن يعتدى عليهم مسلم ولا عربي ماداموا في ذمتنا ولا يؤلبون علينا. فهل يأذن سيادته بأن يعلم أن المسألة ليست مسألة سياسية نريد أن نقحم الدين فيها، بل هي مصير العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل يأذن لنا أن نسأله أن يدفع عن يهود مصر كل شك وريبة بأن يصدر ييانًا صريحًا عن موقف يهود مصر في مسألة التقسيم؟ وهل يأذن لنا سيادته أن نطالبه ونطالب أبناء ملته من يهود مصر بأن يفعلوا فعلا صريحًا واضحًا يدل على أن عواطفهم هي عواطف الأمة المصرية تشعر بشعورها وتتألم بألمها؟ وهل يأذن لنا سيادته أن نقول له إن هذا الذي يجرى الآن ليس "ظرفًا عصبيًا" كما جاء في كلامه، بل هو أوضح من ذلك، هو حرب بيننا وبين يهود العالم وكل من يناصرهم من الأمم، وأنها حرب سوف تستمر إلى أن يستقر الحق في قراره ولو طالت مئة عام؟ أفليس من الحكمة إذن أن يتخلى الحاخام الأعظم عن العزلة التي يريدها لنفسه ويدخل هو وأبناء طائفته في الجهاد الذي كتب علينا نحن العرب من مسلمين ونصارى ويهود لكي ندفع عن بيت المقدس أدناس الصهيونية؟ هذه كلمة مجاهد عربي يتقدم بها إلى الحاخام الأعظم تعليقًا على حديثه الذي سوف يبقى مذكورًا في تاريخ الإسلام والعرب، لم أعمد فيها إلى شرح أشياء أعرفها حق المعرفة، إنتظارا لما يكون من عمل سيادة الحاخام الأكبر. وليعلم سيادته أن الأحداث أسرع من لمحات البرق في السحاب المتراكب، ¬

_ (¬1) يشير الأستاذ شاكر -رحمه الله- إلى الحاخام حاييم ناحوم.

فليبادر إلى الخير مبادرة من عرف وجه الحق فلم يحجم به عن الجهاد خوف ولا فزع ولا إرهاب. إن عمل الحاخام الأكبر هو "الحد الفاصل" الذي ينتظره اليوم أربعمائة مليون مسلم قد استيقظوا وأدركوا أن يهود العالم قد أعلنوا عليهم الحرب، فلن يخدعهم بعد اليوم شيء عن الطريق الذي سار فيه آباؤهم من قبل، فنصرهم الله وأيدهم وهزم أعداءهم وأعلى كلمتهم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.

إياكم والمهادنة "ما هكذا تورد يا سعد الإبل! "

إياكم والمهادنة "ما هكذا تُورَدُ يا سَعْدُ الإبْل! " (¬1) إنما حملت أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جهارًا في غير جَمْجَمَة ولا إدهان. ولو عرفت أني أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقها لقذفت به إلى حيث يذل العزيز ويمتهن الكريم. وقد قصرت نفسي إلى هذا اليوم على مجلة "الرسالة" لأنها ملاذ الأقلام الحرة التي لا تثنيها عن الحق رهبة، ولا تصدها عن البيان مخافة. وقد جاء اليوم الذي لم يعد يحل فيه لامرئ حر أن يكتم قومه شيئًا يعلم أنه الهدى، فمن كتمه في قلبه فقد طوى جوانحه على جذوة من نار جهنم، تعذبه في الدنيا ويلقى بها في الآخرة أشد العذاب. وأنا جندي من جنود هذه العربية، لو عرفت أني سوف أحمل سيفًا أو سلاحًا أمضى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نذرت على هذا القلم أن لا يكف عن القتال في سبيل العرب ما استطعت أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانًا أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينهي الناس أو يخدعهم أو يغرر بهم أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة. والأمر بيننا وبين يهود سافر كإشراق الصباح لا يغطيه شيء، ولا تعمى عن جلائه عين، فهو الحرب الضارية التي لا ترحم. فمن شك في هذا فإنما يشك عن دَخَل (¬2) وفساد لا عن يقين خطأ يلتمس فيه العذر. والحرب معنى معروف ¬

_ (*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 756)، ديسمبر 1947، ص: 1423 - 1426 (¬1) هذا مَثَلٌ، يُضْرَب لمَن قَصَّر في ما أسند إليه. وهو يُقْرَن غالبا بشطره الأول وهو: * أَوْرَدَها سَعْدٌ، وسَعْدٌ مُشْتَمِلْ (¬2) الدَّخَل والفساد بمعنى.

للبشر منذ كانوا على هذه الأرض، ولها أساليب لا يجهلها خبير بها ولا غير خبير، ومَن جهل هذه الأساليب أو تجاهلها أو دعا قومه إلى إطراحها والإغماض عنها فإنما يدعوهم إلى الهلكة والفناء والخزي وذل العصور والآباد. فكل كلمة تقال منذ اليوم في أمر هذه الحرب فهي إما تحريض على القتال، أو تثبيط عنه. وكل امرئ منا محاسب بما يقول علا شأنه أو سفل، فإن الحرب لا تعرف شريفًا ليس لسانه بشريف، ولا تتنكر لمغمور يضئ عنه بيانه أو عمله. وقد قرأت في هذه الأيام الأخيرة وسمعت كلمات لا يرفعها أو يشفع لها أن يكون قائلها فلان أو فلان. فإن قيادة هذه الحرب لن تكون لمن يهادن في الحق الأبلج (¬1)، أو يجامل في المحنة المهلكة. فمن ذلك أني سمعت الأئمة على منابر المسلمين تذكر الناس بأمر فلسطين وما حل بها وما يراد فيها، ثم تعقب على ذلك بتذكير الناس بأن في بلادهم مواطنين من يهود -هم كما يقولون- أهل ذمة، لهم ما لأهل الذمة والمعاهدين من الأحكام في ديننا ودين نبينا. وقرأت أيضًا بيانًا من "هيئة وادي النيل" أذاعه رئيسها سعادة محمد على علوبة باشا يقول لنا فيه: "إن لكم مواطنين من اليهود في مصر، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقد شاعت حولهم شائعات السوء فقيل إنهم يمدون الصهيونية بالمال، وإنهم يضنون بمالهم فلا يساهمون معكم في رد عدوان الباغين. ونحن على يقين من أن إخواننا اليهود في مصر -وهم أصحاب الملايين- سيبذلون من مالهم للعروبة في محنتها كما تبذلون، وسيسارعون إلى تكذيب هذه الشائعات ببذلهم وعطائهم لا بأقوالهم وتصريحاتهم". ولست أدري ما الذي يحمل هؤلاء القوم على ركوب هذا المركب في تغطية عيون الناس عن أفاعيل يهود منذ كان لهم على هذه الأرض مكان يسرحون فيه؟ فإذا كانوا يريدون أن لا تقع الفتنة بين يهود مصر وبيننا، فكفاهم أن يذكروا أن العرب والمسلمين منذ كانوا لم يضطهدوا هذا الجنس من خلق الله إلا عقابًا ¬

_ (¬1) الأَبْلَج: الواضح، وأصله الأبيض.

لشيء جنته أيديهم، ثم يتركونهم وادعين لا يمسهم شر ولا عنت تحت ظل هذه الدول العربية والإسلامية. وإذا كانوا يريدون أن يفتوا الناس بأن يهود هم أهل ذمة لهم ما لأهل الذمة في أحكام الإسلام، فقد أخطأوا. ولا يستطيع متأول أن يتأول على دين الله أن هؤلاء اليهود أهل ذمة أو معاهدون كما توجب أحكام الإسلام لمن يوصف بهذه الصفة. وكان حسب هؤلاء أن يأمروا الناس بالتطوع للقتال والتبرع بالمال، وأن يصفوا لهم هذه الحرب الملعونة التي تشنها علينا العصبية الصليبية من أوربة وأمريكا، وأن ينفضوا قلوب الناس حتى يبتدروا مراكزهم في صفوف المقاتلين، فإن الحرب كما يقولون جدها جد وهزلها جد. فإذا كان هذا العبث مقبولا يومًا ما، فإنه اليوم فت في عضد الأمة المسكينة التي أحاطت بها الأمم لتأكلها "أكل الضروس حلت له أكلاؤه" (¬1). فليقلع هؤلاء الواعظون عن عظة فيها الهلاك لأقوامهم، والذل لأبنائهم، والعبودية لبلادهم. أما النداء الذي أذاعه علوبة باشا فقد أفزع كل حريص على خير أمته وبلاده. وكيف لا يفزع امرؤ يقرأ نداء موجهًا إلى عامة الشعوب العربية ثم شعب مصر خاصة وفيه هذه الثقة المطلقة بأن اليهود برآء من كل قادحة تقدح في إخلاصهم للقضية العربية! ! وفيه هذا اليقين الذي لا يتزلزل بأنهم سوف يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل فلسطين العربية! ! ويأتي هذا البيان من رجل معروف الاسم، مشتغل بالقضايا السياسية والوطنية والعربية، ينظر إليه الشباب نظرة التوقير والإجلال لما يقول. ونحن لا ندري هل وقف على شيء غاب عن الناس جميعًا وعرفه هو، فاستيقن أن ظاهر أمر يهود مصر غير باطنهم، وأنهم إنما يرسلون الأموال إلى الصهيونية ذرًّا للرماد في عيون الناس، وأنهم يتولون تهريب الأسلحة إلى الصهيونية رحمة بالعرب ودفاعًا عن قضيتهم، وأنهم يجمعون الشبان اليهود ليبثوا فيهم الدعوة إلى الهجرة إلى أرض الميعاد، ليدخلوا فلسطين ويكونوا عونا للعرب على إخوانهم من اليهود الصهيونيين! ! ¬

_ (¬1) الضَّرُوس: الأكُول. الأكلاء: جمع كلَأ، وهو العُشْب.

حسبكم أيها الساسة القدماء! لئن ظننتم أنكم بأمثال هذا الكلام تستطيعون أن تلينوا الصخر من قلوب يهود مصر حتى ينحازوا إليكم، ويكونوا لكم أعوانًا على أبناء جلدتهم، فقد خاب ظنكم وخاض بكم الأباطيل المركومة. إنه ما من يهودي على ظهر هذه البسيطة إلا وهو صهيوني متعصب يخفي تحت ذلته ومسكنته غوائل الغدر والفتك. إن يهود العالم على قلب رجل واحد: يريدون أن يلتهموا هذا الشرق العربي كله، ويكونوا سادته وكبراءه والحاكمين بأمرهم في كل ثنية من ثنايا أرضه. لا نقول لكم اقرأوا كتب الصهيونية لتعلموا، بل اقرأوا كتابهم الذي يدينون به، واسترقوا السمع فيما يجرى على ألسنتهم وهم يتخافتون بينهم، وادخلوا بِيَعَهم، وانظروا في وجوههم، وتفرسوا في سمتهم وشمائلهم وحركاتهم، فيومئذ تعلمون أن تحت هذه الصفحة البريئة المتلألئة أخطبوطًا سفاحًا قد قتله الظمأ إلى دمائكم ولوَّعه الشوق إلى فرائس أموالكم وبلادكم. وليس بسياسي من لم يعرف عدوه معرفته بنفسه التي بين جنبيه. وليس بسياسي من كتم هذه المعرفة عن قومه في ساعة القتال والحرب. ولا تظنوا أن يهود تنخدع لكم عن أنفسها حتى تنالوا منها شيئًا تعلم أنه خذلان لدينها وعقائدها وأهوائها ومطامعها منذ كان لهم في هذه الأرض مجال يتحركون فيه. إن الذين نشروا هذا النداء إنما يخادعون أنفسهم وأهليهم عن حقائق ما يجرى على أعينهم وبمنظر منهم ومسمع؛ وهذه صحف تنشر كل يوم من خبائث يهود في أرض مصر ما يفزع، وتضع أيديكم على الجريمة وهي تنشأ في قلب بلادكم، فكيف يتاح لكم أن توفقوا بين ثقتكم بغيب مكنون في قلب اليهود، وظاهر يأتيكم من أفعالهم علانية غير مستور أو محجوب؟ نحن لا نريدكم أن تحرضوا الناس على الفتك باليهود، فالعربي أنبل نفسًا من أن يفتك ويغدر. بل نريدكم أن تدعوا هذه العظات والسياسات المتعفنة جانبًا، وأن تلقوا إلى قومكم بالحقائق مجردة من كل مهادنة أو مراوغة، حتى يعلم شباب العرب أن في قلب بلادهم قوي يخشى أن تغلب عليهم وتنتزع منهم أمرهم، وتفت في محصدات (¬1) ¬

(¬1) المُحْصَدات: القوية الشديدة، وأصله في الجبال أذا أُحْكِم فَتْلُها.

عزائمهم، ولتستولى على الأمد (¬1) قبل أن نطيق نحن صدقًا أو عدلا فيما كتب علينا من هذا القتال المر. أيريد أن يعلم من كتب هذا النداء أشياء قد غابت عنه؟ فليعلم أن يهود مصر يبذلون اليوم آلافًا مؤلفة من الأموال لشراء قطع متجاورات من الأرض في مشارف مصر، يدفعون فيها من المال ثلاثة أضعاف ثمنها أو أكثر. وليعلم هؤلاء أن يهود مصر قد فرغوا منذ عشر سنوات من الاستيلاء على تجارة الجملة كلها في أرض مصر. وليعلم هؤلاء أن هذه الفئة القليلة من يهود قد استطاعت في زمن الحرب أن تتغلغل في نواح كثيرة من أعمال لم يكن ليهود مصر بها عهد. وما من شيء من هذا كله إلا وهم يأتونه على هدى وبصيرة وتدبير محكم، ناظرين إلى شيء واحد، هو أن الدولة اليهودية سوف تكون في فلسطين، وأنهم يومئذ مطالبون بأشياء يؤدونها لدولتهم، وهي أشياء مفهومة معروفة، الغرض منها أن تخفق راية يهود على هذه البقعة من الأرض ممتدة من شاطئ الفرات إلى ضفاف النيل. أيها الناس لا تستهينوا بأمر يهود! انظروا ماذا كان من أمرهم منذ عشرين سنة، ثم انظروا إلى خبرهم اليوم، من كان يظن أن لليهود شأنًا أو خطرًا في هذه الدنيا منذ عشرين سنة، إلا من هدى الله؟ ثم انظروا اليوم إلى هذه الفئة القليلة من سكان هذه الأرض كيف استطاعت أن تغلب على عقول الأمم والساسة، وأن تغطى على الحق وهو مشرق كعين الشمس، وأن تدفع أكبر دولة في الأرض وهي أمريكا إلى ارتكاب أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية، وأن تدلس على الرأي العالمى كله حقائق هذه الجريمة، وأن تشترى بأموالها القلوب والأمم والناس والأفراد. انظروا إلى هذا كله قبل أن تتكلموا، واتقوا غضب الله قبل أن تزل ألسنتكم بالوعظ المهلك لأنفسكم وأهليكم. ألا تخافون أن تكون هذه القوة المدمرة التي ذكرتموها في ندائكم -قوة أصحاب الملايين- وسيلة لتسلط يهود يومًا ما على ساستكم ورجالكم وحكوماتكم، وأن تكون تهديدًا لكم ولأممكم بالمجاعات والاضطرابات ¬

_ (¬1) الأَمَد: الغايَة والمقصد.

الاقتصادية والسياسية، وأن تكون أسلوبًا من أساليب تأليب الأمم عليكم في هذه المحنة حتى تعطوا المقادة ليهود وأنتم صاغرون؟ أيها الساسة لا تستهينوا، فمن استهان بعدوه فقد فرط، ومن استهان بعدوه فقد مكنه من مقاتله، ومن استهان بعدوه فقد منحه فرصة للفتك به. واعلموا أنها الحرب بيننا وبين يهود. والحرب لا تلهو. وهذه الفئات التي تقيم في أوطان العرب من اليهود سوف تكون يومًا ما "طابورًا خامسًا"، بل هي اليوم كذلك. واعلموا أن اليهود قد مرنوا على أساليب التجسس وتحسس الأخبار في هذه الحرب، وأنهم كانوا أعوانا للأمم المقاتلة في حرب الأعصاب، وأنهم قوم مردوا على النفاق منذ قديم الآزال، فكيف تأمنون جانبهم، وتطالبون قومكم أن يأمنوا جانبهم؟ ثم أراكم تدعون يهود للتبرع بأموالها في سبيل قضية العرب، بل أن يبذلوا أموالهم لتقاتلوا بها أهلهم وعشيرتهم، فبئس الشيء تطلبون. إن أول ما في هذا الجهل بالطبيعة البشرية، ثم غاية الجهل بطيعة هذه الفئة من يهود التي ظلت أكثر من ألفي سنة تنطوى على نفسها، وتحافظ على روابطها، وتجعل دينها هو قوميتها ووطنها، لا وطن لها ولا قومية إلا اليهودية صرفًا خالصة لا تشوبها شائبة من محبة وطن له أرض وسماء، إلا أرض الميعاد -إلا فلسطين- إلا أرض إسرائيل من شاطئ الفرات إلى ضفاف النيل. ثم ألا تخافون أن يتبرع لكم هؤلاء اليهود بآلاف من أموالهم أو أموالنا على الأصح، يخادعونكم بها ثم يهربون إلى قومهم الملايين، يعينون بها عليكم، ويكسبون بها غفلتكم عنهم وعن حركاتهم وأعمالهم ودسائسهم في قلب بلادكم؟ أيها الساسة اطلبوا سياسة أخرى غير هذه تكفيكم شر يهود. إننا لا نريد منهم مالا، ولا نريد منهم حبًّا للأوطان التي أظلتهم وحمتهم، ولا نريد منهم رجالا يقاتلون في صفوفنا، وإن ديننا لينهانا عن أن نقبل منهم شيئًا، اطلبوا أيها الناس سياسة أخرى تضمن لكم أن تعرفوا خبء يهود، وأن تصطنعوا من الأسباب ما يكفل لكم قطع أيديهم وألسنتهم عن التدسس والتجسس والمكيدة والغدر. لا تأمروا الناس بالفتك بهم، بل نحن العرب نحمى الذمار حتى عدونا نحمى ذماره، ولكن دبروا

أمركم وسنوا من القوانين ما ينهي يهود الأوطان العربية عن الغدر بهذه الأوطان التي حمتهم وهم مشردون مضطهدون قد مزقهم الناس كل ممزق. إن العالم العربي اليوم قد استيقظ من غفوة طالت، وهو اليوم لا يسمع للساسة القدماء إلا كما يستمع المقاتل البطل إلى صيحات الجبان المذعور، فليعلم هؤلاء أنه أولى بهم أن يمنحوا الشباب من حكمتهم وتجاريبهم وعقلهم ما يهديهم ويقويهم، لا أن يعظوهم بالمواعظ التي تحفر تحت أقدامهم هوة مظلمة بعيدة القعر ليس يسمع في أرجائها إلا هماهم الموت وهو يدب والغًا في دم أو منشبًا مخالبه في فريسة. ارحموا الناس وارحموا أنفسكم أيها الرجال.

ويحكم هبوا!

ويحكم هبُّوا! أيتها العرب! أيها المسلمون! إنكم لا تُغْلَبون اليوم عن قلة، ولئن كتب الله عليكم أن تُغْلَبوا فإنما تغلبون بإثم ما اقترفت نفوسكم، وما اجترحت أيديكم، وما فرطت عقولكم، وما نسيت قلوبكم، وما أضعتم من حق تؤدونه لأنفسكم وأسلافكم وذريتكم، ووالله ما أراكم تغلبون عن جهالة، فقد وهبكم الله عقولا راجحة، ونفوسًا حرة، وعزائم قد أذلت لكم أعناق الأمم منذ كان لكم في الأرض شأن يذكر. وإن الله مبتليكم بمحنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة، بل هي محنة لعامتكم وخاصتكم في نواحي الأرض، فإن أحكمتم الرأي وصدقتم العزم، وعرفتم عدوكم من صديقكم -ولا أرى لكم في هذه الدنيا صديقًا- فقد آن لكم أن تنهجوا للبشرية منهجًا مستقيما وصراطًا سويًّا. فلا تقولوا إنما نحن ضعفاء، فالضعيف من ظن في نفسه الضعف وان كان أقوى الأقوياء، ولا تقولوا إنما نحن جهلاء، فالجاهل من استهزأ بالعلم وتهاون في طلبه وإن كان أعلم العلماء، ولا تقولوا إنما نحن فقراء، فالفقير من جهل أن الله قد آتاه العزم والجلد والعقل، وإن كان أغنى الأغنياء. فاصدقوا أنفسكم وثقوا بالله الذي امتحنكم بهذه المحنة، فإنه ناصركم على عدوكم، ومخرج لكم من خبء أنفسكم خيرًا كثيرًا قد غاب عنكم وعن الناس دهرًا طويلا. وإياكم والخوف، فإنه الآفَةُ الملتهمة، وما استشعر الخوف عزيز إلا ذَلَّ، ولا قَوِىٌّ إلا خار، ولا أَبِىٌّ إلا تضرع لكل خسف يراد به. انظروا! فهذه فلسطين قد اجتمعت الأمم على أن تمكن فيها لأنذال يهود مكانًا يتبوأه طغاة المال وطواغيت الفجور وأبالسة الشر، وقد أخذوا يمدونهم بالمال والسلاح ليقهروكم وتكون لهم الكبرياء في هذه الأرض. ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 757)، يناير 1948، ص: 21 - 23

وانظروا! فهذه دولة الباكستان قد اجتمعت فيها كلمة المسلمين على أن يكونوا أمة عدتها مئة مليون، فإذا عباد البُدِّ (¬1) (بوذا) قد دمروا عليهم من كل مكان يذبحونهم ويقتلونهم ويفتكون بالنساء والأطفال، ويهتكون أعراض الحرائر، ويدخلون على المصلين في مساجدهم فيضعون السيوف في رقابهم والخناجر في ظهورهم، ويغتالون الآلاف من الآمنين، والدنيا كلها تسمع وتبصر، فلا تجد فيهم منكرًا ولا مستبشعًا ولا معترضًا على ضراوة عباد البُدّ. وانظروا! فهذه أندونيسيا تُجْمِع هيئة الأمم المتحدة على تركها فريسة للطغاة البغاة من شرذمة الخلق الذين يسمون بالهولنديين. ويزعمون لكم أن مجلس الأمن قد أمر بوقف القتال، فإذا هولندة تضرب صفحًا عن حكم هذا المجلس، وتوغل في تقتيل هؤلاء المساكين بالنذالة المعهودة في المستعمرين الذين لا يفرقون شيئًا بين هؤلاء البشر وحيوان الغاب، بل لعلهم بحيوان الغاب أرحم، وعليه أحرص، إبقاء على جلده أو فروه مما يرتفقون (¬2) به في صناعة أو تجارة. وانظروا! هذه بلاد المغرب من حدود مصر إلى أطراف المغرب الأقصى قد ضربت عليها فرنسا بالأسداد، وحمت عنها كل بارقة من خير، وسامت أهلها عذاب التقتيل والاضطهاد، وسلبتهم كل قوة تتيح لهؤلاء الأبطال الصناديد أن يعيشوا في بلادهم عيشة الكفاف، وشردت كل من دعا قومه إلى المطالبة بالحق المغصوب، وأراغت (¬3) أن تجعل هذه البلاد الشريفة ذيلا ملحقًا بالجمهورية الفرنسية. وانظروا فهذه مصر والسودان قد فغر لها الوحش البريطاني فاهُ يريد أن يقضم السودان قضمة واحدة ليجعله قطعة من أوغندة وجنوب إفريقية، ويدع مصر ترعة إن شاء منع عنها الماء حتى يقتل أهلها جوعًا وظمأ، وقد قضى في ديارنا أكثر من خمس وستين سنة حتى هدم كيانها. وسلط عليها لصوص الأجانب واليهود، ¬

_ (¬1) البُدُّ: الصَّنَم. (¬2) يَرْتفِقُون: يَنْتَفِعُون. (¬3) أراغت: طلبت.

حتى ما تكاد تجد مصر حيلة في سن القوانين التي تحمي بلادها من استبداد اللص الطارئ بصاحب البلد المقيم. انظروا لكل بلد تنطق فيه العربية، أو يذكر فيها اسم الله مقرونًا باسم محمد - صلى الله عليه وسلم -، تروا حربًا تشن على أهل العربية والإسلام بلا هوادة، وبأوقح الأساليب وأخفاها: أيتها العرب! أيها المسلمون! إنها الحرب. إنها المذابح! إنها الحالقة (¬1) التي أجمعت أمم أوربة وأمريكا أن تستأصل بها قوتكم وتجعلكم عبيدًا أذلاء في أرض الله. إنها الفتن المظلمة التي أطبقت عليكم من كل مكان، فجعلت فيكم رجالا ونساء وخلقًا كثيرًا صاروا عدوًّا لأنفسهم وبلادهم وإخوانهم، جهلا وعنادًا وتقليدًا وسوء رأي. إنه لم يبتل قوم في تاريخ هذه الدنيا بمثل ما ابتليتم به، فقد مضت القرون وأنتم في غفلة عن عدو قد استفحل أمره واستوت قوته واستمر مريره (¬2)، فدخل عليكم بلادكم فاستعبدكم فيها وحاربكم بعلمه وجهلكم، وقوته وضعفكم، واجتماع كلمته وتخاذلكم، فلما أفقتم من الغفوات الطويلة لم تجدوا في أيديكم مالًا ولا سلاحًا ولا علمًا، فليس لكم منذ اليوم إلا الشيء الذي هو أقوى من المال والسلاح والعلم: الإيمان بحقكم، والصبر على لأواء هذه الحرب الضروس. فآمنوا واصبروا، فإن قوة الإيمان وحدها تدمر حصون البغى، وتدفعكم إلى طلب المال والسلاح والعلم، وتطهر قلوبكم من كل ضعف، ولا تأسوا على قتيل في هذه الحرب، فإن كل دم يراق من دمائكم إنما هو غيث تغاثون به يغسل عنكم أدرانكم، ويسقى ثرى جف، فينبت لكم أبطال الوغى وصناديد القتال في كل ميدان من ميادين هذه الحرب. أيتها العرب! أيها المسلمون! اطلبوا المال من وجوهه، ودبروا أمركم في حياتكم، فإن المال قوة غاشمة ¬

_ (¬1) الحالقة: المُهْلِكة. (¬2) استمر مريره: استحكمت قوته، وأصله من إمرار الحَبْل، وهو فَتْلُه فتلا محكما.

تضارع أقوى قوي الطبيعة التي لا يقف دونها شيء. واطلبوا السلاح من حيث استطعتم، فإن السلاح ناصر من لا ناصر له إلّا قوته فأنشئوا المصانع والمعامل وأخفوا أمركم حتى لا يطلع عليه العدو الذي يعيش بين ظهرانيكم من الأجانب واليهود. واطلبوا العلم حيث استطعتم، فالعلم حياة ابن آدم، لا حياة له بدونه، وهو عون المال والسلاح والحافظ عليهما والقائم بأمرهما. وكل طالب علم فهو مجاهد في سبيل الله وفي سبيل أهله وبلاده، فلا تفتروا عن طلبه. وليعلم كل طالب عِلْم أو مال أو سلاح أنه إنما يفعل ذلك لأمرين: أولهما تحقيق معني الكرامة الإنسانية، والآخر تحقيق الحرية لبلاده وأمته. أيتها العرب! أيها المسلمون! لست أكتب لكم لتقرأوا، ولكني أنذر قومى في ساعة لا ينبغي للمرء فيها إلا أن يصدق أهله. أنذركم بعداوة الأمم لكم ولمجدكم وتاريخكم، فرببوا لهم أضغانكم وغذوها وحوطوها ونشئوا صغاركم على بغض هذه الأمم التي حشدت لكم عصبية الجاهلية، وعصبية الصليبية، وعصبية الاستعمار، وعصبية الألوان. أرضعوا كل مولود لبان الأضغان والأحقاد على هؤلاء الطغاة، وأمروهم أن يعيشوا في هذه الأرض لشيء واحد هو أن يقاتلوا أهل البغى والعصبية حتى تستأصلوا هذه الشأفة الخبيثة من أرض الله التي أورثهم إياها قائمين بالقسط والعدل والرحمة وإيتاء كل ذي حق حقه. وإنه لا ينجيكم من هذه البلية إلا أن تتمرسوا بصدق العداوة، فهي التي توقظ فيكم كل عزيمة غافلة، وتهديكم إلى مواطن الضعف في نفوسكم، وإلى مكامن الغدر في نفوس أعدائكم، ومن جهل مواطن الضعف في نفسه كان خليقًا أن يصاب منها، ومن عمى عن مكامن الغدر في نفس عدوه كان قمينًا أن يرتكس (¬1) في مهاويها. لقد فضح الصبح أعداءكم وأضاء لكم عن خبايا قلوبهم، فلا يكن أمركم عليكم غمة، فأنتم بيبن اثنتين: إما المكاشفة بالعداوة السافرة في غير مداورة أو سياسة، وإما أنْ ترضوا لأنفسكم أن تصيروا ¬

_ (¬1) يرتكس: يَرْتَدّ.

طعمة لهذه الأمم الباغية على الشرذمة اللئيمة من إسرائيل. وما أظنكم ترتضون الثانية فليس لكم إلا الأولى. أيتها العرب! أيها المسلمون! لقد انقضت دهور وأنتم تساقون إلى قدر لا يعلم غيبه إلا الله، فاستبد بكم قوم أولى ضرار وبأس شديد، فأفسدوا قلوب جمهرة من أبنائكم وذراريكم، فنشأت تحت ظلال هؤلاء الطغاة ناشئة من أنفسكم تعاظم أمرها، وصار لها فيكم مكانة تتبوأها. وكل ذي مكانة أو سلطان أو ثروة فهو ملئ بأن يخدع الجماهير وهم أسرع إلى طاعته ومتابعته فيما يخدعهم به، فاحرصوا على ألَّا تتبعوا الرجال على أسمائها بل اتبعوا الهدى وإن جاءكم على يد المحتاج الراغب، وتبينوا المدلس عليكم من الناصح لكم. ولا تقولوا هؤلاء سادتنا وكبراؤنا، فما أضل البشر إلا سادتهم وكبراؤهم. ولا تترددوا إن رأيتم معوجًّا أن تقوموه مهما بلغ من الشأن، فإن تقويمكم إياه أبقى له وأجدى عليه. ولا تخروا على آراء السادة والكبراء صُما وعميانًا، بل اسمعوا نبضات القلوب، فرب لسان ينطق بالخير وهو ينبض بما فيه فسادكم وفساد أمر بلادكم. وأبصروا وتبصروا، فإنه لا يعطى المقادة إلا السائمة التي تقودها عصا الراعي لا العقل والإدراك. احملوا سادتكم وكبراءكم على وضح الصراط، فكل ضال منهم سوف يضل خلقًا منكم كثيرًا ويورده موارد الهلاك. أيتها العرب! أيها المسلمون! إنها ساعة في تاريخكم ليس بعدها إلا النصر أو الهزيمة، وكل امرئ منكم يحمل تبعة لا يسقطها عنه عذر، ولا يعذره في أداء حقها شيء. وأنتم أربعمائة مليون نسمة لا عصابة قليلة في الأرض، فإن كنتم صفًّا واحدًا وبنيانًا مرصوصًا، فاعلموا أنه لن يغلبكم شيء، ولن تهد هذا البنيان قوة مهما بلغت على ظهر هذه الأرض، فتماسكوا وتقاربوا وتعاونوا، ولا تدعوا ثغرة يدخل منها عليكم عدوكم لينقض هذا البنيان الذي بناه آباؤكم وأسلافكم في آلاف السنين، وأنتم الأعلون إن شاء الله، وليهود الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أيتها العرب! أيها المسلمون! لا تهابوا أهل العصبية الصليبية في أمريكا وأوربة، ولا تثقوا بأحد منهم، ولا تهادنوهم في حقكم، ولا تناصروهم كما ناصرتموهم من قبل فغدروا بكم وتألبوا عليكم وامتهنوكم وقابلوا حقكم بالازدراء، والتحقير في هيئة الأمم المتحدة، وأنكروا كل يد أسديتموها إليهم، ومزقوا أوطانكم، وسلطوا عليكم فواجر أممهم، وأرادوا أن يدمروا أوطانكم، وأن ينشئوا لجراثيم اليهود وكرًا خبيثًا في الأرض المقدسة في سرارة (¬1) بلادكم. فإن فعلتم فيومئذ يعلم هؤلاء الأخباث والأشرار أن العرب وأهل الإسلام وأهل دين المسيح في الشرق، كلهم على قلب رجل واحد يريدون أن يقيموا في هذه الأرض شريعة الإنسان العادل لا شريعة الوحش الضاري في ظلمات الأدغال والغابات. يا ساسة العرب! إياكم وخداع الناس، ولا تخادعوا ربكم الرقيب عليكم، فيوشك أن يحل عليكم غضب من ربكم ثم غضب الناس عليكم، ولا تبيعوا تاريخكم وتاريخ آبائكم وذريتكم بعرض زائل ومجد مزيف، واعلموا أن قومكم قد ثاروا من مضاجعهم ليطلبوا حقهم بحد السيف، فلا تكونوا مخذلين ولا واعظين ولا متهاونين. واعلموا أنها الحرب! شذاذ الأمم وصعاليك اليهود بين ظهرانيكم، والبغاة الطغاة عن أيمانكم وعن شمائلكم يلتمسون الفرصة ليمحقوا العرب والمسلمين ويطحنوهم طحنًا. فهبوا جميعًا إلى الجهاد فمن نجا فقد فاز بالنصر وبرضوان الله عليه، ومن قتل فقد فاز بالشهادة وجنة الخلد والذكر الذي لا يفنى. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. ¬

_ (¬1) سَرارَة الشيء: أكرمه وخياره.

لا تملوا

لا تَمَلُّوا شدَّ ما فزعتُ حين قرأتُ في صدر الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) نبأ تلك المحاولة الجديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب (أي مراكش). وقد آثر الموحي بهذا المقال أن يسمى هذا الأمر "محاولة جديدة" ولكني أعلم أنها ليست سوى "حيلة" أخشى أن تغرر بكثير من قراء العربية، لقلة اطلاعهم على أنباء هذا الشعب الأبي السجين الذي ضربت عليه فرنسا نطاقًا من الكتمان والصمت، لم يضرب على شعب قط في هذه الدنيا، ولا في بلاد السوفيت. وأنا أحب أن أكشف الغطاء عن هذه "الحيلة" التي يُرادُ بها تضليل الناس عن حقائق كالشمس ظاهرة لكل من متعه الله بنعمة البصر. وأحب أن أصفي (¬1) هذا الكلام لقرَّاء "الرسالة" لأنهم همُ الفئة الحية التي تقرأ لتعلم وتعمل بما تعلم. فهذا الشيء الذي سماهُ بعضهم "محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب"، ليس شيئًا سوى محاولة من فرد واحد يعاونه قليلٌ من الناس على إحداث خرق في إجماع أمة كاملة، وصدع بنيان مرصوص لم أعلم فيه إلا خيرًا وتماسكا وبقاء على كلمة الحق التي لا تزول، وهي "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال" إن كان ثمة حاجة إلى مفاوضة أو معاهدة. وبلاد المغرب ثلاثة: تونس، والجزائر، ومراكش، وفي كل قطر من هذه الأقطار الثلاثة حزبٌ له الكثرة الساحقة، بل لا يكادُ يوجد فيه أقلية حتى نقول إن لهذا الحزب كثرة ساحقة، بل الحزبُ هو الأمة، وهو التعبير الصادق عنها. وهذه الأحزابُ لا يمكن أن تسمى أحزابًا بالمعنى المعروف في مصر والذي كان وليد الاحتلال البريطاني الذي فرَّق الكلمة وباغض بين القلوب. ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 758)، يناير 1948، ص: 45 - 48 (¬1) أصفيْتُهُ الودَّ: أخلصته مما يكدره ويهجنه.

ففي تونس الحزبُ الدستورى، ورئيسه الحبيب بورقيبة. وفي الجزائر حزبُ الشعب، ورئيسه أحمد مصالى الحاج، ومندوبه في مصر والسودان هو الشاذلي المكى. وفي مراكش حزبُ الاستقلال ورئيسه محمد علال الفاسي. وفي المنطقة الخليفية عن مراكش حزبُ الإصلاح ورئيسه عبد الخالق الطريس. وهذه الأحزابُ هي المعبره عن بلاد المغرب كلها، ورؤساؤها جميعًا مقيمون الآن في مصر، وجميعهم على رأي واحد قد أذاعوه في كل وقت وفي كل بلد، وهو "لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال" وهم جميعًا لايزالون إلى هذه الساعة على هذا الرأي لم يتحوَّل عنه أحدٌ منهم، ولن يتحوَّل بإذن الله. وإجماعُ هؤلاء الرجال هو إجماع أمم المغرب كلها، شعوبًا وأفرادًا. وهؤلاء الرجال هم الذين شرَّدتهم فرنسا أو إسبانيا وَسجنتهم ونفتهمْ واضطهدتهم، وباعدَت بينهم وبين أهليهم وحلائلهم وأبنائهم، وأرادت أن تقصم أعوادهم فلم تجد إلا بأسًا ومضاءً ومصابرة وجهادًا في سبيل الحق الأول لكل شعب وهو الحرية والاستقلال. وهؤلاء الرجال هم الذين بقوا إلى اليوم لا ينخدعون بما انخدعت به أمم من قبلهم من مفاوضات ومعاهدات ومحادثات، وسياسات خربة خراب ذمم اليهود. ومن هؤلاء الرجال وحدهم يؤخذ حديث ما بين فرنسا والمغرب، وعلى هؤلاء الرجال وحدهم يعتمد، وإلى هؤلاء الرجال وحدهم تُلْقِى شعوب تونس والجزائر ومراكش بالمقادة، بعد أن جرَّبتهم وعرَفتهم واطمأن قلبها إليهم وإلى ما يأتون وما يذرون. وهم قوم لا يفتات عليهم، ولا يقضى على شعوبهم وهم غُيَّب. وهم رجال يعملون ولا يدَّعون ولا يتظاهرون، ولا يخادعون الناس بشيء لم يكن، أو بسلطان لهم لم ترضه بلادهم وشعوبهم، وهم قائمون على الدعوة إلى تحرير بلادهم، ولهم مكاتب في مصر والشام، وفي فرنسا وإنجلترا وأمريكا، لم تزل تتكلم بالكلمة الواحدة التي لا حِوَلَ عنها وهي: "لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال". فما هو إذن "حزبُ الشورى والاستقلال" الذي اتخذ لنفسه رئاسته محمد ابن الحسن الوزاني هداه الله، واحتمل ثقل النيابة عنه محمد العلمي العربي سدَّد الله خطاه، إنه حزب كما تسمى الأحزاب، ولكني أعلم ويعلم كل من وقف

على حقيقة النبأ في بلاد المغرب، أنه حزب لا يتبعه من شعب مرَّاكش أحد إلا من شذ عن إجماع أمة قد جاهدت منذ سنة 1912 وظلت تقاتل فرنسا وإسبانيا إلى سنة 1933، لم تضع السلاح إلا بعد أن فنيت صفوة المجاهدين، وقلَّ الزاد وعزَّ السلاح وحوصروا حصارًا شديدًا أكثر من إحدى وعشرين سنة كاملة. وما أظن أحدًا نسى جهاد البطل الذي أذلَّ هامات الإسبان والفرنسيس حتى خدعوه وأمّنوه ثم غدروا به، وهو الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابى. إن هذا الحزب الذي قدَّم إلى المقيم الفرنسى الباغى الجنرال جوان "مذكرة ضافية لتعمل حكومة باريس على تحقيق ما ورد فيها بما يحفظ حسن العلاقات مع فرنسا" لا يعبر البتة عن عزيمة شعب مراكش، بل يعبر عن رأي رئيس الحزب ونائبه وحدهما. فنحنُ نعلم علم اليقين أن حزب الاستقلال، وحزب الإصلاح في مراكش، هما صاحبا الرأي الأول والأخير في هذا الأمر الذي يتعلق بإجماع الشعب المراكشي، وأن الأمة المراكشية كلها من وراء كلمتها: "لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال"، ونحن نعلم أن جلالة محمد الخامس ملك مراكش يعلم أن الشعب جمع على أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال، وأنه هو نفسه الذي يتولى قيادة الدعوة إلى أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال. وقد استطاع نائب حزب الشورى هذا، أعني الأستاذ العلمى أن يوجه نظر الصحافة المصرية إلى هذه البدعة التي مضت عليها شهور منذ قام محمد بن الحسن الوزاني داعيًا إلى الاتفاق مع فرنسا أو على الأصح مظهرًا رغبته في الاتفاق مع فرنسا، بعد ابتعاده عن حزبه الذي نشأ فيه، وهو حزبُ الاستقلال الذي يرأسه محمد علال الفاسى. وقد نجح الأستاذ العلمى مرتين، ولكن هذه الأخيرة هي أشدهما خطرًا. ولو علمت الصحافة المصرية أن شأن حزب الشورى الذي ذكرناه، لا يكاد يكون شيئًا في بلاد مراكش، لطوت هذه الصحيفة مرة واحدة، ولرجعت حديثها عن شأن مراكش إلى رؤساء حزب الاستقلال وحزب الإصلاح وسائر الأحزاب المغربية في تونس والجزائر، ولو فعلت لعلمت أن هذه "المحاولة الجديدة" ليست سوى محاولة برجل زعيم حزب، نعم، ولكن بغير شعب.

وكان حقًّا على هذه الصحف المصرية أن ترجع إلى مكتب المغرب العربي لتقف منه على حقيقة ما تقول. وكان حقًّا عليها أن تعتبر هذا الحزب بأشباهه عندنا من الأحزاب التي لا شعب لها إلا رئيسها، وكان حقًّا على هذه الصحف أن تعرف أن سائر رؤساء أحزاب المغرب مقيمون في مصر منفيون عن بلادهم فكان لزامًا أن ترجع إليهم قبل أن تنشر أشياء تمزق أصحاب الحق على أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال. وكان حقًّا عليها أيضًا، إذ نسيت أن تفعل هذا، أن تفكر في شأن حزب الشورى المفاوض الجديد، فهو مقيم تحت ظل السلطان الفرنسى هناك في مراكش، وهؤلاء سائر رؤساء الأحزاب المغربية مشردون منفيون مهاجرون إلى مصر، لكي يخدموا بلادهم ويجاهدوا في سبيلها وهم بنجوة من سلطان فرنسا فأي هذين أولى بأن يكون هو المطالب بحق بلاده؟ وأيهما أولى بأن يؤذن له ويُستمع؟ وأيهما أصدق تعبيرًا عن رغبة الشعب الذي ظل إحدى وعشرين سنة يقاتل في كل بقعة من بقاع المغرب وحيدًا مجهولا حتى تفانى شيوخه وهلك كهوله وذُبِحوا ذَبْحَ فتيانه، وورَّثوا أبناءهم أحقادًا لا تموت على فرنسا وعلى الطغاة من أشباهها. وهؤلاء الزعماء الذين ذكرناهم آنفًا هم بقية السيف، وهم المشردون المعذبون، وهم العاملون الصادقون الذين آثروا الجهاد على أموالهم وأنفسهم وأهليهم وذراريهم، وخرجوا يطوفون في الدنيا ليؤلبوا العالم كله على بغى فرنسا وطغيانها وعدوانها وظلمها، وقد تركوا وراءهم شعوبًا تدين لهم بالطاعة، ولا ترضى أن تدين لأحد سواهم، لأنهم إنما يعبرون عن سر عزائمها ونياتها، أي عن الجهاد في سبيل بلادهم بلا هوادة، وإلى أن ينالوا حقهم كاملا لم تتخوَّنه (¬1) مكايد الاستعمار وخُدعه. وقد اتعظ هؤلاء الأبطال الصناديد بما لقى بعض إخوانهم من أمم الشرق، حين زلِقَت أقدامهم فزلوا في المهاوى المظلمة المتشعبة التي تسل القوي من نفس سالكها، ألا وهي هوّة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات، التي ابتدعتها شياطين الاستعمار الذين يعرفون باسم ساسة بريطانيا، ففرقوا بين الأخوين، وباعدوا بين العشيرتين، ومدوا المطامع لخائنة الأعين، (¬2) ¬

_ (¬1) تخوّنه: تنقُّصه. (¬2) خائنة الأَعْيُنِ: ما تُسارِق من النظر إلى ما لا يَحِلَ.

فهب فريق من هنا يقاتل فريقًا من أهله هناك، ووقفت بريطانيا بينهما تنظر وتضحك وتسخر، وتحرك هذه الدمى إلى أن تنقطع الحبال فتهوى في الهوة السحيقة الملعونة، هوَّة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات. لقد عرفوا ذلك فأبوا أن يكونوا طعامًا لمستعمر جبّار يريد أن يتلعَّب بهم، فاختاروا ما هو أهدى لأممهم وأبقى في وحدتها، وأشد لقوتها، وأنأى بها عن العداوات بين بعض الشعب وبعض. لقد عرفوا أن قيادة الثُّوار، تقضى عليهم أن ينظروا إلى خير هؤلاء الثُّوّار قبل أن ينظروا إلى خير أنفسهم، وعرفوا أن الذي هم مقدمون عليه هو الجهاد الذي لا ينتهي حتى ينتهي هذا الاستعمار البغيض، وأن الأمم المجاهدة في سبيل حقها ينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها، وأنه ينبغي أن ينشأ الجيل من شباب الأمة بعد الجيل، وهو يرى أمامه مجاهدين لا يفترون ولا يضعون السلاح، فذلك أحرى أن يملأ قلب الجيل حميّة وأنفة ورغبة في بلوغ الكمال في العلم والمال والسلاح، حتى يجاهدوا كما جاهد آباؤهم وإخوانهم من قبل. وعرفوا أن المهادنة في مثل هذا إنما هي مهادنة تورث الشعب ضعفًا، وتمكن للدساسين والخبثاء أن يتخافتوا بينهم في الدعوة إلى ما يفت القوي ويضعضع العزائم، فلا يلبث أن ينفض عن المجاهدين من تخاذل وآثر الراحة على لأواء الجهاد. وعرفوا أيضا أن الشعب الثائر غير الشعب الذي يتبحبح في مسارح السلم، فأولهما ينبغي أن يظل ثائرًا لا يعرف اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بالأخرى. وفيم يلين أو يسلم أو يأخذ بيد ويعطى بأخرى؟ أفي الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية؟ أنبئوني أي شيء من هذه الثلاثة يتجزَّأ حتى يقبل اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بأخرى، وهو جوهر المفاوضات والمعاهدات والمحادثات. لقد عرف هؤلاء النفر الذين رضي الله عنهم ورضيت عنهم أممهم، أن الذي بينهم وبين فرنسا هو الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، فعلى فرنسا أن تسلم وأن تلين وأن تعطي بيد ولا تأخذ شيئًا، لأنها لن تأخذ إذا أخذت إلا ذلك الذي أعطت. وهذا بداهة العقل، وبداهة النفس الطيبة، وبداهة الفطرة الإنسانية التي لا تنخدع بزيف الكلام ومزوَّقه. إما الحرية والاستقلال، وإما الصراع في سبيل الحرية والاستقلال، ولا مفاوضة على شيء ينبغي أن يتم جميعًا أو لا يتم البتة على

نقصان وتخوُّن وتمزيق، ولا معاهدة لحرّ على ترك شيء من حريته لغاصبه وسالبه والمهيمن عليه بالطغيان والجبروت، فهو إن شاء منع وإن شاء أعطى. كلا، إنه الحق فلا معاهدة ولا مفاوضة ولا محادثة إلا بعد الاستقلال وجلاء آخر جندي فرنسي وإسباني عن أرض المغرب كله: تونس والجزائر ومراكش. وإن في البلاء الذي ابتليت به مصر والسودان والعراق وشرق الأردن وسواها من البلاد، لعظة لكل امرئ أضاء في قلبه الإيمان بالحرية والكرامة الإنسانية. وما الذي يريده حزب الشورى الجديد في مراكش؟ أيريد أن تلقى بلاد المغرب على يده ما لقينا من بلبلة وضياع وهلاك وضعف؟ أيريد أن يرى الشعب المراكشي أحزابًا يأكل بعضها بعضا، ويتشاحن ضعيفها وقويها على مناصب الحكم؟ أيريد أن يرى كل أسرة في بلاد المغرب قد مزقتها الأهواء وعصفت بها عواصف الشهوات الخفية إلى متاع قليل من متاع هذه الدنيا من مال أو سلطان؟ أيريد أن يرى الشعب يتلهف تلهف البائس المسكين على فتات ما تجود به عليه فرنسا في معاهدة يقال له اليوم إنها "معاهدة الشرف والاستقلال" ثم يقال له بعد غد إن هذه المعاهدة نفسها "حماية بالثلث"؟ أيريد أن يرى بعد قليل شباب بلاده وهم يتطاحنون على أسماء رجال لو انكشف الغطاء عنهم لكانوا سوأة في كيان الشعب لو عقل لسترها كما كان يئد أهل الجاهلية بناتهم خشية الخزي والعار؟ أم يريد أن يرى هؤلاء الشباب وهم لا يثقون بأحد من رجالهم بعد كشف الغطاء عن فضائحهم، فيكونون حربًا على بلادهم يطعنون أنفسهم كل طعنة نجلاء بقولهم: "إننا شعب لا يصلح للاستقلال"؟ أيريد هذا الشعب الذي لقيته أمم من قبلهم فاوضت وحادثت وعاهدت، فخرجت من ذلك كله منهوكة مجرحة معذبة تمتهن أشرف شرفها بأخس قول وأرذله؟ .. حاشا لله أن يريد حزب الشورى لبلاده مثل هذا. وأنا أعرف الوزّانى منذ أكثر من عشرين سنة، فأنا أسأله بالعهد الوثيق أن يفيء إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشرِّ النظرين (¬1)، لا يقربها إلا ¬

_ (¬1) بشر النَّظَرَيْن: أي بشر الأمرين في الاختيار. وفي الحديث "مَن ابتاع مُصَرَّاة فهو بخير النَّظَرَيْن"، أي خير الأمرين له، إما إمساك المبيع أو ردُّه، أيهما كان خيرا له واختاره فَعَله.

مقاتلا مجاهدًا رافعًّا باسم بلاده وحريتها واستقلالها وكرامتها. وما خُلق الإنسان إلا للجهاد في هذه الحياة حرًّا كريمًا، فإذا سلب الحرية وذيد عن الكرامة، فعليه أن يجاهد في سبيلهما جهادًا متطاولًا هو وأبناؤه وذراريه لا تداخلهم سآمة ولا ضجر ولا ملل مستعينًا بالله الذي ينصر المستضعفين في الأرض وينصر الذين لم يملوا الجهاد فيلجأوا الى المهادنة أو المفاوضة. أيها الإخوان الصناديد! جاهدوا وصابروا ورابطوا ولا تملوا حتى يأتيكم نصر الله، ولا تعجلوا على ربكم فإن الله لا يمل حتى تملوا، فإذا مللتم فيومئذ يحيق بكم ما حاق بكل من هادن في حقوق بلاده.

كلمة أخرى

كلمة أخرى قرأت كلمة الأستاذ محمد العربي العلمى في عدد الرسالة (759) يردّ على ما كتبته في قضية الاستقلال الذي تطالب به بلاد المغرب، ومن حق الأستاذ أن يردَّ، ومن حقه أن يعلمني ما أجهل، ومن حقه أن يرشدني إلى وجه الصواب فيما زعمت أو رأيت، كلّ هذا من حقه، ولكن ليس من حقه أن يخرج الكلام عن جادّته، أو أن يستنبط منه أشياء ليست فيه كقوله إني عرضت للوطنيين من أهل المغرب "فاتهمت زعماءهم وأهل الرأي فيهم بالسفه والغفلة والتخاذل والتهاون في حقوق البلاد أو ما يشبه ذلك من أنواع التهم". فهذا شيء مردُّه إلى ما كتبتُ لا إلى ما يقول به الأستاذ العلمى. والسفه والغفلة وما يشبه ذلك من أنواع التهم! ! كلمات كبيرة لا يحلّ للأستاذ أن يدّعى أنى أردتها بغير برهان من نص كلامي الذي كتبته. ثم كرر الأستاذ العلمى أن الذي جاء في كلمتى إنما هي أشياء أُلقيت إليّ فحكيتها بلا تحقيق ولا روية، أو ألقيت إليّ فاعتقدتها كل الحقّ وأغفلت ما وراءها. وأظن أيضًا أن هذا شيء غير لائق به أن يقوله، فضلا عن أن يكتبه. ولم أكن أظن أن الأستاذ العلمى يجترئ على أن يصفني بأنى أُذُن تصرفه عن الحق صداقة صديق أو عداوة عدو، ولكنه فعل، فلا أقل من أن أجزيه بالصفح عنه إكرامًا لصديقي الأستاذ محمد بن الحسن الوَزّانى، فهو رسوله وسفيره والنائب عنه. ثم رأيت الأستاذ أكرمه الله يزعم أنى بما كتبت إنما كنت أحاول أن أحدث في الائتلاف الوطنى المغربى "ثلمة" وأن ألقى حوله "بذرة من بذور الشقاق". وهذا شيء كثير، ولكني أعود فأصفح عن الأستاذ، لا لشيء إلا لأنى أترك الحكم في هذا الأمر لمن يقرأ فيفهم، وما أظن أحدًا ممن يطلع على ما كتبت يستطيع أن يقول إني "حاولت" هذا الذي زعمه الأستاذ. ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 760)، يناير 1948، ص: 103 - 105

ثم رأيت الأستاذ يقول: "ولعلي لا أكون فضوليًا إن زعمت أن الذين ذكرهم الأستاذ شاكر من زعماء تونس والجزائر ليسوا معه على الرأي الذي نسب إليهم"، وأنا لم أنسب إليهم شيئًا قالوه إلا قولهم "لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال"، وليس يهمنى أن يكون الأستاذ العلمى فضوليًا أو غير فضولى، ولكن الذي يهمنى ويهمّ قراء الرسالة وسائر العرب والمسلمين هو أن الذي حكيت عن زعماء تونس والجزائر صحيح قد اتفقوا عليه وقيدوه بالكتابة كما جاء في بيان سُمُوّ الأمير الجليل محمد بن عبد الكريم الخطابى الذي نشره في صحيفة الأهرام. وقد جاء فيه أن الأمير أعزّه الله خابر جميع "رؤساء الأحزاب المغربية ومندوبيها" فاتفق رأيهم على تكوين "لجنة تحرير المغرب العربي" من كافة الأحزاب الاستقلالية في كل من تونس والجزائر ومراكش على أساس مبادئ الميثاق التالى: ثم جاء في نص هذا الميثاق "د- لا غاية يسعى لها قبل الاستقلال -هـ- لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر -و- لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال". وقد وقع هذا الميثاق جميع من ذكرتهم في كلمتى ومن لم أذكرهم من رجال الأحزاب المغربية في تونس والجزائر ومراكش، ومن بينهم الأستاذ محمد العربي العلمى، والأستاذ الناصر الكتانى نيابة عن حزب الشورى والاستقلال. والعجيب الذي لا يقضى منه عجب هو أمر الأستاذ العلمى، فقد كتبت كلمتى للرسالة بعد أن قرأت في الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) تحت عنوان "محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب"، وقد جاء في هذا النبأ ما نصه: "ويقول الحزب في مذكرته إنه يعتزم تحقيق المطالب الوطنية وهي استقلال البلاد -في نطاق وحدته الجغرافية والسياسية، وفي دائرة ملكية دستورية- من طريق المفاوضات، والاتجاه بالمغرب في مرحلة انتقال تسمح له بأن ينظم شئونه تنظيمًا حرًّا وبأسرع الطرق إلى تحقيق سيادته التامة واستقلاله المضمونين بمعاهدة تحالف وصداقة تبرم في ظل الحرية والمساواة بين المتحالفين. ويمكن تهيئة الجو السياسي الملائم لتحقيق ما تقدم، بأن يعلن رسميًا باسم فرنسا حق الشعب المغربي في تدبير شئونه في وقت قريب، وبأن تعتبر مصالح المغاربة ذات أسبقية في بلادهم، مع الصيانة التامة لسيادة البلاد واستقلالها الوطني".

هذا ما جاء في المذكرة التي قدمها حزب الشورى والاستقلال إلى الجنرال جوان المقيم الفرنسى، وهو صريح في النص على تحقيق "استقلال البلاد من طريق المفاوضات"، وهذا هو الذي دفعني إلى كتابة ما كتبت عن حزب الشورى والاستقلال، وهو الذي دفعني إلى أن أتوسل إلى الصديق محمد بن الحسن الوزاني "أن يفئ إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشرّ النظرين، لا يقربها إلا مقاتلا مجاهدًا رافعًا باسم بلاده وحريتها وكرامتها واستقلالها"، كما جاء في آخر كلامي. وقد تحدث الأستاذ العلمي إلى مندوب الأهرام بما يطابق هذا المبدأ، بيد أنى رأيته في اليوم الثاني يوقع على ميثاق لجنة التحرير الذي ينص نصًّا صريحًا على أنه لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال. فهذا تناقض بين لا ينقضى منه العجب، كما لا ينقضى عجب القارئ حين يقرأ كلمته في الرد عليَّ فيراه يقول إني أزعم "أن زعماء تونس والجزائر في القاهرة يرون رأي علال الفاسى في القعود وعدم المفاوضة"، ثم قوله إنه يؤكد لي "أن فكرة لا مفاوضة هذه إنما نشأت منذ قريب لا أجد داعيًا لاشتغال قراء الرسالة بها"، ومعنى ذلك أنه يرى أن عدم المفاوضة قعود عن الجهاد، وأن كلمة "لا مفاوضة" كلمة مستحدثة لا عهد لحزب الاستقلال ولا لحزب الشورى والاستقلال بها، ثم يختم مقاله بأن يؤكد لي بأنه "لن يدخل في أية مفاوضات إلا بعد إعلان الاستقلال"! ! فهذا تناقض مُرٌّ شديد المرارة. وأنا لا أكتب هذا لأرد على الأستاذ العلمي، فإن هذا التناقض العجيب المر الشديد المرارة، جعلني أرى أن لا فائدة من الرد، ولكني آثرت أن أعرض على القراء شيئًا كنت أخشى أن يفوتهم الاطلاع عليه، وهم في حاجة إلى الاطلاع على مثله. وأما ما جاء في كلامه من ذكر فلان وفلان من رجال المغرب، فلست أنبرى، ولا يحق لي أن أنبرى، للدفاع عنه، لأنى كما قال الأستاذ: "غير متفطن إلى أنى أتحدث عن بلاد لم أرها، وليس لي من أسباب العلم بها وبأهلها إلا القليل أو ما دون القليل! ".

بقى شيء واحد يشق على مثلي أن يرضى عنه، وهو إقحام الأستاذ لأسد الريف الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابى في معرض هذا التناقض المر الشديد المرارة. فهذا البطل الذي نشأنا منذ الصغر ونحن نمجد اسمه، ونسمو بأبصارنا إليه، ونحوطه بقلوبنا وإيماننا، ونجعله المثل الأعلى للعربي الأبى الذي لا يقبل ضيمًا ولا يقيم على هوان، هو نفسه الذي علمنا بفعله لا بلسانه أنه "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال". فقد هبّ أسد الريف وانطلق يجاهد بالسيف، وأبى أن يسلم للفرنسيس والإسبان شيئًا إلا سيفه بعد أن تقطعت أسباب الجهاد بالسيف، وأعرض عن كل مهادنة بينه ويين الفرنسيس والإسبان، واحتمل بلاء النفي والتعذيب صابرًا راضيًا مستعينًا بالله على أعدائه. أفلم يكن مما يرضى الفرنسيس والإسبان أن يهادنهم هذا الأسد ويفاوضهم ويأخذ منهم شيئًا ويسكت عن أشياء؟ بلى، لقد كان يرضيهم ولا شك، ولكنه لم يفعل، فمعنى ذلك كما فهمناه وكما فهمه الناس هو أن أسد الريف يرى رأيًا واحدًا هو أن "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال"، ولذلك احتمل ما احتمل، وصبر صبر المؤمنين الذين لا يفتنهم عن الحق عذاب ولا نفي ولا تشريد. وإذا لم يكن الأستاذ العلمي قد فهم هذا من بطولة أسد الريف، فليحدثنا إذن ماذا فهم؟ وفيم كان صبر أسد الريف وبطل العرب على البلاء الغليظ عمرًا طويلا تحيا فيه رجال وتموت رجال؟ وفيم كان جهاده وقتاله واحتماله رؤية أبنائه وهم يسقطون في ميدان الوغى بين يديه؟ أفعل كل ذلك ليفاوض، فيأخذ شيئًا ويغضى عن أشياء؟ حاشا لله. أما الأستاذ محمد بن الحسن الوزانى، فأنا لم أرده بإساءة كما أراد الأستاذ العلمي أن يقول، بل كان كل كلامي منصبًا على المبدأ الذي جاء في المذكرة المرفوعة إلى المقيم الفرنسى الجنرال جوان، وهو مبدأ المفاوضة في الاستقلال، وهو مبدأ فاسد لن يسكت قلمي عن هدمه وتقويضه، ولو قال به أعز الناس علي وأكرمهم في قلبي، وهو عندي مذهب أقلية، ولو قالت به أمة بأسرها. وسأبقى ما حييت أدعو الأمم التي ابتليت بالاستعمار إلى مبدأ واحد هو أن "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال"، فهو عندي مذهب أكثرية، ولو لم يقل به إلا فرد واحد طريد شريد لا يجد في الأرض مكانًا يؤويه، أو عشيرة تنصره، أو أذنا تسمعه. وكل حزب يدعو إِلى المفاوضة، فهو عندي حزب بغير شعب ولو تبعته الجماهير

المضللة، وكل زعيم يدعو إليها فهو زعيم بغير شعب، وإن استطاع أن يجمع الألوف تصرخ من ورائه مؤيدة وناصرة، وقد كتبت هذا مرات في قضية مصر والسودان، وفي قضية العراق، وفي قضية الهند. فكل ما جاء في كلامي عن حزب الشورى والاستقلال، فهو مبني على هذا الأصل، وأظن أن الأستاذ الوَزَّانى يعرف هذا مما قرأه من كلامي منذ قديم، وأظن أنه فهم من كلامي عنه غير الذي فهم الأستاذ العلمي، وأظن أنه لم يغضب حين قرأ ما كتبت مثل الغضب الذي احتمل الأستاذ العلمي حتى كتب ما كتب، مما كان ينبغي أن ينزه عنه قلمه البليغ الجرئ. وأنا أختم هذه الكلمة بأن أدعو صديقي محمد بن الحسن الوَزَّانى إلى صراط الحق، إلى أن "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال"، وأتوسل إليه مرة أخرى أن ينسى نفسه، وأن يملأ قلبه إيمانًا بالحق الأعظم، وهو حق شعبه وبلاده في الاستقلال والحرية والكرامة، ذلك الحق الذي لا يتجزأ ولا يقبل مفاوضة ولا مهادنة، وأدعوه إلى الجهاد الشديد في سبيل هذا الحق الذي لا تستطيع فرنسا ولا إسبانيا ولا بريطانيا ولا الدنيا كلها مجتمعة أن تمحو منه شيئًا أو تغير منه قليلا أو كثيرًا. أيها الزعماء كونوا يدًا واحدة، ولتكن دعوتكم واحدة، واصبروا في جهادكم، ولا تفاوضوا عدوكم في حق شعوبكم، ولا تخاذلوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا فتذهب ريحكم، واعلموا أن المفاوضة ليست سوى ملل من طول الجهاد ومشقته، وأن الملل من كواذب الأخلاق، وأن الزعيم لا يكون زعيما إلا بأخلاقه، وقوام أخلاقه الصدق في كل شيء -في العداوة والصداقة، وفي الحب والبغض، وفي الرضى والغضب. سدد الله خطاكم، ومهد لكم سبيل الهدى، وطهر قلوبكم من كل كذب لا خير فيه.

الفتنة الكبرى 1

1 - الفتنة الكبرى بادرت إلى قراءة كتاب "الفتنة الكبرى" الذي صنفه الدكتور طه حسين، لأنه أول كتاب له عن رجل من رجال الصدر الأول من الإسلام، وهو "عثمان بن عفان" أمير المؤمنين وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أعرف للدكتور مكانه من العلم والتحقيق، وحسن تأتيه في تخريج الكلام؛ فمن أجل ذلك أيقنت أنه سيملأ هذا الكتاب علمًا يضارع قدر هذا الرجل، ويوازن خطر الفتنة التي اضطرم سعيرها في آخر خلافته، وانتهى باغتيال خليفة رسول الله اغتيالا لم يعرف تاريخ الإسلام أبشع منه ولا أفظع. وقلت لنفسي قبل أن أتجاوز الكلمة الأولى من الكتاب: إن طه خير من يصور للناس هذه الأحداث المختلطة المضطربة، وخير من يهديهم في شعابها إلى مفصل الرأي ومقطع البيان. وقديمًا ما ضل الناس في بيداء هذه الفتنة المظلمة، وقديمًا ما أخطأ الكتاب فهم هذا الحادث الجلل، وقديمًا ما حار الناس في أمر المسلمين الذين ذبحوا خليفتهم كما تذبح الشاة المظلومة، وقديمًا وحديثًا ما خاض الناس، فما خاضوا إلا مضلة لا يهتدى فيها سار إلى علم يفضى إلى جادة واضحة أو إلى غاية معروفة. رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب، وأنا على مثل هذه الثقة التي وصفت، وبمثل هذا الأمل الذي أملت، فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي. ولست أحب أن يعرف القارئ لم اختلج الكتاب. فهذا حديث طويل لو بدأت أقصه لما عرفت أين أنتهي، فأنا طاويه عنه؛ لأنى أوثر أن أدع قلبه حيث هو من الاستقرار والأمن والرضى، وأنا أفعل هذا وإن شاء هو أن أنشر هذا الذي طويت، وأفعله وإن كره لنفسه هذا الاستقرار والأمن والرضى. وحسب القارئ أن ينظر معي إلى موضعين في هذا الكتاب، لم ينقض عجبى منهما ولن ينقضى عجبه حين يقف على خبرهما. ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 761)، فبراير 1948، ص: 134 - 138

وأسبق القلم فأزعم أنى أسلم جدلا، كما يقولون، بأن كل الذي أتى به الدكتور طه صحيح في جملته وتفصيله، وأن الصورة التي أراد أن يصور بها تاريخ عثمان - رضي الله عنه - وتاريخ أصحابه ومعاصريه صحيحة أيضًا في جملتها وتفصيلها، وأزعم فوق ذلك أنى لا أخالفه في شيء منها خلافًا ما، وأنى لو كتبت تاريخ عثمان، وتاريخ الفتنة، لم أقل إلا بما قال إذ ذكر هذه الفتنة الخبيثة فقال ص 109 "فالفتنة إذن إنما كانت عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء". وأنت خليق أن تنظر في هذا التكرار لهذه الصفة "فتنة عربية" و"عامة عربية" لتعلم ماذا يريد بهذا التكرار، وما الذي يريد أن ينفيه من شركة أحد غير العرب في دم عثمان، وأنت خليق وحرى وجدور بأن تفعل هذا وأن تتأمل فتطيل التأمل؛ لأنك سوف تلقى بعد قليل شيئا جديدًا كل الجدة، وحسنًا كل الحسن؛ فما تكاد تمضي صفحات حتى ترى بابًا في ص 131 يبدأ هكذا: "وهناك قصة أكبر الرواة (المتأخرون) من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرًا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة المسلمين لم تمح آثارها بعد، وهي قصة عبد الله ابن سبأ الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبد الله بن سبأ يهوديًّا من أهل صنعاء، حبشي الأم، فأسلم في أيام عثمان، ثم جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغرى به ويحرض عليه، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعًا". ثم يقول: "وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلى أنه أحكم كيده إحكامًا، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد، وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور، وثبت على الخليفة فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام". فأنت ترى من هذا لماذا أصر الدكتور منذ قليل على أن يصف الفتنة بأنها "عربية"، وبأن العامة الذين كانوا شرار هذه الفتنة كانوا "عامة عربية" أي أنه

ليس لهذا اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ يد فيها، وأن ليس لليهود عمل في تأريث نارها. وهذا تخريج بين جدًا، لا يخالفنا فيه أحد ولا الدكتور طه نفسه فيما نعلم. ثم يمضي الدكتور في حديثه ليقول بعقب ذلك: "ويخيل إليّ أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافًا شديدًا. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرًا في (المصادر المهمة) التي قصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه. ولم يذكره البلاذرى في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى (أهم المصادر) لهذه القصة وأكثرها تفصيلا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر". وأُراني مضطرا أن أنقل لك أيضًا ما قاله الدكتور بعد ذلك في ترجيح رأيه وبيان حجته قال: "ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن؟ ولكني أقطع بأن خطره، إن كان له خطر، ليس ذا شأن. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان. . . ولو قد أخذ عبد الله بن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديًّا فلم يسلم إلا كائدًا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به أحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين (محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة) لولا خوفه من عثمان. . . ولم يكن أيسر من أن يتتبع الولاة هذا الطارئ، ومن أن يأخذوه ويعاقبوه" ثم يقول في ص 134: "فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط. ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهوديًّا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديًّا ثم أسلم لا رغبًا ولا رهبًا ولكن مكرًا وكيدًا وخداعًا، ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه". ثم يقول: "هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ". هكذا يقطع الدكتور الرأي جملة واحدة! !

هذا هو الموضع الأول، أما الموضع الثاني فهو أشد الأشياء علاقة بهذا، ولكن الدكتور قطعه عنه قطعًا كريمًا فترك صفحة 134 ومضى على وجهه في هذا البحث الجليل إلى أن بلغ ص 209 لكي يقول: "وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة إن المصريين قد أخذوه أثناء عودتهم إلى مصر، فكروا راجعين. فهذه القصة فيما أرى ملفقة من أصلها"، ثم اختصر قصة الكتاب اختصارًا وقال: "كل هذا أشبه بأن يكون ملهاة سخيفة منه بأن يكون شيئًا قد وقع. والأمر أيسر من هذا. تلقى أهل الأمصار وعدًا من إمامهم فاطمئنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده! فأقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذا الأمر وأن لا يعودوا إليه حتى يفرغوا". ثم تبين للدكتور أن إلغاء هذا الكتاب الذي أرسل إلى والي مصر يأمره بقتل رؤوس الوفد الذي جاء من مصر، ليس يحل الإشكال في عودة الوفد بعد أن فصل عن المدينة راجعًا إلى مصر، وتبين له أيضًا أن الغرض الذي ذهب إليه من أنّ أهل الأمصار تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، أي أنه كذب عليهم باللفظ الصريح، شيء غير مستساغ، فإنه سأل نفسه كيف تبينوا أنه كذب عليهم فلم يعرف كيف يجيب، فألقى الغرض كما هو وزاد عليه أنهم أقبلوا ثائرين، "فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيأوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد ألقوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال". ولكن رَأَى الدكتور طه، وهو خير من يرى الآراء، أن هذا الغرض مدخول كله إذا لم يعزز بغرض آخر، ففكر وقدر، ثم نظر ثم قال: "وأكاد أقطع بأن قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان دعوهم وشجعوهم، ثم أعلموهم بما عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان". وهذه كلها كما ترى فروض وتخيل، وإقرار أيضًا بما أنكره في أمر عبد الله بن سبأ من تنظيم (الجماعات الخفية) التي تتستر بالكيد، فهو ينكر هذا المبدأ هناك ويقره هنا! ! ثم يمضي الدكتور في فروض، فرضًا من بعد فرض، حتى يريك كيف تعقدت الأمور فجأة إلى أن كان مقتل عثمان، ولكنه يختصر

ذلك اختصارًا غريبًا عجيبًا لم أعرف له مثيلا في كل ما كتب الدكتور وفرض وادعى ثم جزم الرأي وقطع به، مما يعرفه أكثر قراء العربية الذين قرأوا للدكتور منذ أول نشأته في الكتابة. ولست أحب أن أقف بك عند شيء إلا عند هذين الموضعين فأنا أكره الإطالة في تفلية كلام الدكتور، خشية أن لا أنتهي، فإن تحت كل حرف مما كتب علمًا كثيرًا لابد من تفليته وغربلته ورده إلى وجوه الحق التي زال عنها إلى سواها، وأنت ترى أننا اضطررنا اضطرارًا إلى الإطالة بالنقل، لئلا يفوت عليك شيء من لب حديث الدكتور وعلمه. وقد بدأ الدكتور حديثه في إسقاط قصة اليهودي ابن السوداء عبد الله بن سبأ فذكر أن "الرواة المتأخرين" أكبروا من شأنها وأسرفوا فيها، وأنها لم ترد في (المصادر المهمة)، وأن (ابن سعد) لم يذكرها وأن البلاذري لم يذكرها في أنساب الأشراف (وهو فيما يرى الدكتور أهم المصادر)، وأن الذي ذكرها هو الطبري "وأخذه عنه المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر" كما يقول الدكتور. 1 - وبدء الدكتور بقوله: "الرواة المتأخرين" فيه إيهام شديد، متعمد فيما يظهر! ! فإن الطبري ليس من الرواة المتأخرين، فهو قد ولد سنة 225 ومات سنة 310، فهو معاصر (البلاذرى) وفي طبقة تلاميذ (ابن سعد) صاحب الطبقات. 2 - أن سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري هذا الخبر هو من كبار المؤرخين القدماء، فهو شيخ شيوخ الطبري والبلاذري، وهو في مرتبة شيوخ (ابن سعد)، فقد مات في زمن الرشيد، أي فيما قبل سنة 190 من الهجرة. فلا يقال عنه ولا عن الطبري أنهما من "الرواة المتأخرين" كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه. 3 - أن ذكر الدكتور (المصادر المهمة) فيه إيهام شديد وإجحاف جارف، فإذا لم يكن. كتاب الطبري من (المصادر المهمة)، فليت شعري ما هي المصادر المهمة التي بين أيدينا؟

4 - أن الدكتور طه يعلم أن كتاب ابن سعد الذي بين أيدينا كتاب ناقص، وأنه ملفق من نسخ مختلفة بعضها تام وبعضها ناقص وبعضها مختصر. والدليل على ذلك مما نحن بسبيله أنه ترجم لعمر في 84 صفحة، ولأبي بكر في 33 صفحة فلما جاء إلى عثمان، والأحداث في خلافته هي ما يعلم الدكتور طه ويعلم الناس، لم يكتب سوى 22 صفحة، فلما ذكر علي بن أبي طالب والأمر في زمنه أفدح لم يكتب عنه سوى 16 صفحة. هذا على أن في الكلام على طريق ابن سعد في تراجم الرجال شيء آخر غير كتابة التاريخ، فإنه لم يذكر في هذا الفصل إلا قليلا جدًّا مما ينبغي أن يكتب لو أنه ألف كتابه في التاريخ العام لا في الترجمة للرجال. وهذا شيء يعلمه الدكتور طه حق العلم ولا ريب. 5 - أنه كان من حجة الدكتور في نفي خبر عبد الله بن سبأ اليهودي اللعين أن البلاذرى لم يذكره، وهو فيما يرى (أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا): ثم عاد فنفى أيضًا خبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل وفد مصر، مع أن البلاذرى ذكره وأطال وأتى فيه بما لم يأت في كتاب غيره. ولا ندري كيف يستقيم أن يجعل عدم ذكره خبرًا ما حجة في نفيه، ثم ينفي أيضًا خبرًا آخر قد ذكره ولج فيه؟ وهذه الخمسة أشياء كنت أستحي أن أحدث الدكتور بها أو أناقشه فيها؛ لأنها من الوضوح والجلاء بحيث لا تخفى على رجل مثله خراج ولاج بصير بالعلم أحسن البصر. ولكن بقى شيء واحد أحب أيضًا أن يتاح لي يومًا ما أن أعرفه، وهو: هل كان في نص البلاذرى قديمًا ذكر عبد الله بن سبأ اليهودي ثم سقط أو أسقط من الكتاب؟ وهذا لا يتاح لي إلا إذا وقفت على نسخة قديمة وثيقة من كتاب أنساب الأشراف، فإن هذه النسخة التي بين أيدينا إنما طبعت في أورشليم، وطبعها رجل من طغاة الصهيونية، وقدم لها مقدمة لم تكتب لا بالعربية ولا بالإنجليزية بل باللغة العبرية! وليأذن لنا الدكتور أن نشك أكبر الشك في ذمة هذا اليهودي الصهيوني الذي طبع الكتاب في مطابع الصهيونية في أورشليم. فقد رأينا من قبل رجلا آخر حاطه الدكتور طه يومًا ما برعايته وعنايته واستقدمه إلى الجامعة المصرية، وكان يسمي نفسه "أبا ذؤيب" إسرائيل ولفسون، (وهو الآن في فلسطين يجاهد في سبيل الصهيونية)، فألف كتابًا في تاريخ اليهود في بلاد

العرب، وطبع في مصر، وقدم له الدكتور طه مقدمة أثنى فيها عليه ثناء بالغًا، ومع ذلك فقد وجدنا في الذي نقله من الأخبار والأحاديث تحريفًا وبترًا وانقطاعًا من نصوص محفوظة معروفة. أفلا يجوز لنا على الأقل أن نشك في أن اليهودي الآخر طابع كتاب البلاذرى، يفعل مثل هذا؟ إننا على الأقل نشك ونتوقف. هذا إلى أن طريقة التأليف القديمة وبخاصة ما كان على غرار تأليف البلاذرى، قد يترك المؤلف فيها شيئًا في مكان، ثم يذكره في مكان آخر، وكان أولى أن يذكر في المكان الأول، وهذا شيء يعرفه الدكتور كما نعرفه وأحسن مما نعرفه، أفلا يجوز أن يكون البلاذرى قد ذكره مثلا في ترجمة (عمار بن ياسر) أو (محمد ابن أبي بكر) أو (محمد بن أبي حذيفة) أو رجل ممن اشترك في هذه الفتنة؟ وهو يعلم أن الذي وجد من كتاب البلاذرى قسم ضئيل جدًّا طبع منه جزء في ألمانيا سنة 1883، ثم تولى اليهودي الصهيوني طبع جزء آخر هو الذي فيه ترجمة عثمان في سنة 1936، ثم طبع جزء آخر في سنة 1938 قال الناشر في مقدمته المكتوبة بالعربية إن هناك حوادث جرت في عهد يزيد بن معاوية، هي وقعة كربلاء وموت الحسين "ولم تذكر في ترجمة يزيد، بل ذكرهما في تراجم بني أبي طالب، وذلك حسب ما اقتضاه نظام الكتاب وفقًا لتسلسل الأنساب" كما قال بنص كلامه. أفلا يجوز إذن أن يكون البلاذرى قد أدمج أمر عبد الله بن سبأ في مكان آخر كما فعل فيما لاحظه وذكره هذا اليهودي؟ كل هذا جائز، ولكن الدكتور حين يريد أن ينفي شيئًا لا يبالي أن يجتاز كل هذا ويغضى عنه، ليقول فيه بالرأي الذي يشتهيه ويؤثره غير متلجلج ولا متوقف. ثم كيف نسى الدكتور أن من لم يرو خبرًا ما ليس حجة على من روى هذا الخبر، وبخاصة إذا كان الرجلان من طبقة واحدة كالبلاذرى والطبري؟ بل لعل الطبري أقوى الرجلين وأعلمهما وأكثرهما دراية بالتاريخ وتحصيلا له، وهو الذي روى عنه أنه قال لأصحابه: "أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه. فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله! ! ماتت الهمم! ".

ومن قرأ كتاب الطبري في تاريخه أو تفسيره علم أن هذا حق، وأن الرجل كان فارغًا للعلم لا يلفته عنه شيء قط، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا تقصاها وحققها ورأى فيها الرأي الذي لا يكاد ينقض. والفرق بينه وبين البلاذرى لا يخطئه بصير بهذا العلم فليس من الحجة في شيء أن يقال (في عصرنا هذا): إن البلاذرى لم يذكر هذا، فيكون ذلك كافيًا في الرد على ما ذكره الطبري. وهذا شيء بين لا يحتاج إلى جدال كثير. وإذن فالدكتور قد اشتط وركب مركبًا لا يليق بمثله حين نفى خبر عبد الله ابن سبأ، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل المصريين بعد الذي قد رأيت من تهافت أسلوبه في البحث العلمي؛ وإذن فالدكتور قد خالف سنة العلم والعلماء في نفي الأخبار وتكذيبها بلا حجة من طريقة أهل التمحيص، بل تحكم تحكما بلا دليل يسوقه عن فضيلة البلاذرى وتقديمه على الطبري، وبلا مراجعة للصورة التي طبعت عليها الكتب، وبلا دراسة لنفس الكتب التي ينقل عنها كما هو القول في ابن سعد والبلاذرى معًا. وإذن فيحق لنا أن ننقل هنا كلمة للدكتور طه نفسه قالها عندما ذكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الخلاف الذي كان بينهم، وذكر أو زعم أنهم تراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضًا، وزعم أنه لا ينبغي لنا أن يكون رأينا فيهم أحسن من رأيهم هم في أنفسهم، فقال في ص 172 من كتابه: "ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون أكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من (فتنة) واختلاف. فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي، لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن، هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء. فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا، وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر، لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا". وهذا حق، ولكن الدكتور يحتج به في معرض الطعن في الصحابة ومعرض القول في نسبة الأخطاء الماحقة إلى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يعود فيسقط هذا

الرأي، ولا يبالي به، ويخالفه أشد المخالفة في معرض رد الرواة الذين رووا لنا خبر الفتنة الخبيثة التي تولى كبرها عبد الله بن سبأ اليهودي. ولماذا يفعل ذلك لا ندري، بل الحق أننا ندري ولكننا نأبى أن نتعجل القارئ بحكم لم نأت فيه بالبينة التي تدفع كل أقوال الدكتور في قضية هذا اللعين ابن السوداء، فللقارئ علينا حق لا يحل لنا أن نخونه فيه، وحقه هو أن يرى حجج الدكتور كلها أولا، ثم حججنا متابعة ثانيًا، ثم نعطيه الحكم ليأخذه أو يدعه على هدى وبصيرة. وموعدنا المقال الآتي بإذن الله.

الفتنة الكبرى 2

2 - الفتنة الكبرى وإذن، فقد أراد الدكتور طه أن يقول إن الفتنة الكبرى التي أفضت إلى قتل عثمان إنما كانت "فتنة عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء" في ص 109 فمن أجل تحقيق هذه الكلمة الكبيرة ركب كل مركب في تصوير الحياة الإسلامية الأولى بعد الفتوح بالصورة التي تنتهي به إلى هذا الغرض وحده دون سواه، وهو الغنى والمال والسلطان، وتزاحُم الأغنياء على الغنى والمال والسلطان، وحسد العامة العربية لأصحاب الغنى والمال والسلطان. وأنا -كما قلت آنفًا- لن أحاول أن أنقض هذه الصورة، ولن أعمل عملا في الرد عليها إلا بمقدار ما ينبغي في سياق التحقيق التاريخي لناحية من نواحي هذه الفتنة. ولكن الدكتور كشف عن هدف آخر حين جاء معرض هذه الفتنة، فنفى خبر عبد الله بن سبأ اليهودي، وخبر الكتاب الذي كتب فيه الأمر بقتل رؤوس وفد مصر. وهذا الهدف هو أن ينفي عن اليهود الشركة في دم عثمان، والتحريض على قتل الإمام، فركب مركبًا وعرًا خالف فيه أسلوب العلماء في جرح الأخبار، وكذب الرواة في شيء بغير برهان، وصدقهم في شيء آخر بغير برهان أيضًا، وهو نفسه ينعى في كتابه على "الذين يكذبون الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بين الناس من فتنة واختلاف"، فقال في ص 172: "فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي، لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن، هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء. فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر، لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا". بيد ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 763)، فبراير 1948، ص: 193 - 196

أن الدكتور طه نفسه، قائل هذا الكلام، قد فعل ذلك فكذبهم حين روى الرواة ما لا يعجبه، وحين رووا ما يؤذيه، وفعل ذلك أيضًا فصدقهم حين رووا ما يروقه، وحين رووا ما يرضيه. فإن الذين رووا أخبار الغنى والمال والسلطان، هم الذين رووا أخبار عبد الله بن سبأ اليهودي وأخبار الكتاب الآمر بقتل وفد مصر، فلم أخذ شيئًا بغير برهان، ونفى أخاه بغير برهان؟ والشيء البيِّن هو أن الدكتور الجليل أراد كما قال في ص 134 أن يكبر المسلمين في صدر الإسلام "عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديًّا، وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديًّا ثم أسلم لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن مكرًا وكيدًا وخداعًا". وهذا قصد حسن ونية جميلة، ولكن الحق أحسن منهما وأجمل. وليس يجمل بنا ولا بالدكتور طه أن يغالط في الحق لشيء يراه هو أو نراه نحن حسنًا جميلا. والتاريخ لا يكتب بالتحكم، وإنما يكتب بالرواية، ثم بالاستدلال، ثم ببذل الجهد في سد الفجوات، وسبيل ذلك أن تأخذ من الماضي أسبابًا وعللا وحوادث ذات خطر، فإن استقامت أن تمتد معك إلى الحاضر الذي تؤرخه، فهي حقيقة بأن تكون شيئًا من التاريخ يوشك أن يكون حقًّا كله أو بعضه. ولست أحب أن أعلم الدكتور طه، ولكني سأضع بين يديه حقائق لا يدخلها الريب أبدًا، ثم أسأله أن ينظر فيها، وأن يحكم هو بيني وبينه. وسأختصر القول اختصارًا، فإن أكثر مادة هذا الحديث مما لا أظن بالدكتور أن يجهله أو يغفل عنه. فلنعد إلى حديث قديم كان قبل البعثة بقليل، وكان شديد الخطر في تاريخ العرب، وكان يوشك أن ينتهي إلى حدث جليل في تاريخ مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد كان يسكن هذه البلدة الكريمة بنو أم واحدة وأب واحد من قبائل الأزد بن الغوث: أمهما قيلة، وأبوهما حارثة بن ثعلبة، وهؤلاء هم الأوس والخزرج، وكان يعيش بينهم هذا الجيل من اليهود الذي سكن جزيرة العرب، أو سكن المدينة، فكان من خبر ذلك شيء لم يكن مثله مثلا بين بني هاشم وبني أمية،

وهو الحرب المتطاولة بين هذين الحيين اللذين ولدتهما أم واحدة وأب واحد، ويسكنان معًا بلدة واحدة. وظل هذا القتال بين الحيين متجدد النيران إلى أن كان "يوم بُعاث"، وهو كما قال ابن سعد ج 3 قسم 2 ص 135: "آخر وقعة كانت بين الأوس والخزرج في الحروب التي كانت بينهم. . . وكانت هذه الوقعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قد تنبأ ودعا إلى الإسلام، ثم هاجر بعدها بست سنين إلى المدينة". ونشأة هذه العداوة العجيبة بين الأخوين: الأوس والخزرج، واقتتالهما هذا القتال المر العنيف حقبًا متطاولة، ودخول اليهود في الحلف، بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج، لا يصيبهم من أذى القتال بين هذين الحيين الأخوين إلا القليل، وتداعيهم باسم اليهودية إذا حزب الأمر، فيكونون يدًا واحدة على هذه العرب، ليس له معني إلا أن تكون هذه اليهود هي التي أرَّثت الحرب والعداوة بينهما لتؤثِّل في هذه الأرض أموالا وآطامًا وحصونًا تكون لها عدة وقوة، وتظهرها على أهل البلاد المالكين لها، وتصرف وجه هؤلاء القوم عن الزراعة والتجارة وتثمير الأموال، وتبقى يهود هي صاحبة الزراعة والتجارة وتثمير الأموال بالربا ومآكل السحت (¬1). وهذا عمل يهود في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل زمان إلى يوم الناس هذا. ثم لا يلبث أن يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطًا من الخزرج عند العقبة، وكانت يهود كما قال ابن إسحاق، قد عَزُّوهم ببلادهم، أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، فلما دعاهم رسول الله إلى الإسلام قالوا له: "إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك". فيؤلف الله قلوب الأوس والخزرج، وهم الأخوان، على الإسلام فيفشو فيهما فُشوًّا ظاهرًا. ولا يلبث رسول الله أن يهاجر إلى المدينة، فلا يبقى حي من الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام وظهر فيه. فيمر ¬

_ (¬1) السُّحْت: كل حرام خبيث، وما خَبُث من المكاسب وحَرُم فلَزِمَ عنه العار وقبيح الذِّكْر.

شأس بن قيس ين يهود بني قينقاع -وكان شيخًا عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، فيغيظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فيقول: "قد اجتمع ملأ بني قيلة (يعني الأوس والخزرج) بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار. فيأمر فتى شابًّا من يهود أن يجلس إليهم فيذكر "يوم بعاث" وما كان قبله، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فيفعل هذا اليهودي، فإذا الجماعة المؤتلفة على الإسلام تتنازع وتتفاخر، فيتواثب رجلان من الأوس والخزرج، فيقول أحدهما لصاحبه: "إن شئتم رددناها الآنَ جذَعة" (¬1)، ويغضب الفريقان جميعًا ويقولون: "قد فعلنا، موعدكم الظاهرة (يعنون مكانًا بعينه) ويتداعون: "السلاحَ السلاحَ". ويخرجون إلى موعدهم، فيبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر، فيخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى إذا جاءهم قال: "يا معشر المسلمين! الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم؟ " فيعرف الأنصار، أوسهم وخزرجهم، أنها نزعة من الشيطان (¬2) وكيد من "عدوهم"، فيبكون ويتعانقون، ثم ينصرفون مع رسول الله سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس اليهودي. (عن ابن إسحاق وغيره). وأنا لست أروى لك هذا إلا لتقف على كيد يهود كيف كان؟ ولتعرف كيف كان ترفقهم إلى إثارة العداوة بين هذين الحيَّين منذ قديم؟ ولتنظر لم كانوا يحبون أن تظل هذه العداوة حية متوقدة ليأكلوا من ثمراتها مالا وغلبة وسلطانًا على العرب؟ ولتقارن هذا كله بما لا يزال يجرى إلى أيامنا هذه على يد هذه الشرذمة الخبيثة من بني إسرائيل! ¬

_ (¬1) جَذَعَة: أي كما كانت وكما بدأت، أي الحرب. (¬2) كذا في الأصول بالعين المهملة، والصواب بالمعجمة. نزغ بينهم بنَزْغ: أَغْرَى وَأَفْسَد، وفي محكم التنزيل {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}.

ثم ينزل الله جلت أسماؤه في أمر هذه الفتنة يخاطب المسلمين الذين كان رسول الله بين أظهرهم، لم يمت بعدُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وإذن، فنحن لا نستطيع أن نكبر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج عن أن يطيعوا فريقًا من اليهود حتى كادوا يردونهم بعد إيمانهم كافرين، ولا أن ننزههم عن ذلك وهم تُتلى عليهم آيات الله وفيهم رسوله! كما فعل الدكتور طه حين أراد أن ينزه أهل الصدر الأول من الإسلام في سنة 35 من الهجرة بعد أن قبض الله إليه نبيه بأكثر من عشرين سنة، وبعد أن نشأت ناشئة من الشباب لا يدَّعى أحد أنهم جميعًا كانوا أحرص على إيمانهم من أصحاب محمد وأنصاره الأولين. وهذا خبر واحد رويته، فإن شئت أن أروي الأخبار كلها لما وسعني كتاب أشرح فيه أمر هذه الفتن التي أرَّثتها اليهود في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسعني أن أنص على كل آيات كتاب الله التي نزلت في أخبار هذه الفتن. وحسبى أن أذكر من نسى أن أخبار المنافقين والآيات التي نزلت فيهم، كانت كلها في المدينة لا في مكة، وأن ذلك دليل على أن النفاق كان حيث تكون يهود، وأن "الأعراب" لم يذكروا إلا في السور المدنية مقرونًا بالنفاق والمنافقين، وأن قول الله تعالى في سورة براءة {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} نزلت في بني أسد وغطفان، وهم كانوا حلفاء يهود في الجاهلية وفي زمان الإسلام، وهذا شيء أرجو أن يتذكره الدكتور حتى نعود إليه. ولم يكن كل هذا المكر والكيد والإيقاع عملا جاء عفو الخاطر من يهود، ولا كان مأتاه من إساءة لحقتهم من حلفائهم الأوس والخزرج من المؤمنين غير المنافقين، بل هو شر انطوت عليه يهود لا يزايلهم ولو أحسن المسلمون إليهم، وهو حقد وضغينة وكفر وعدوان على أهل هذا الدين، وهم كما وصفهم الله أشد الناس عداوة للذين آمنوا بمحمد صلوات الله عليه. ودليل ذلك أن رجالا كثيرًا

من الأوس والخزرج كانوا يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فكانوا يصافونهم المودة بهذه الأسباب، ويستنصحونهم في أمورهم دون أن يشكوا فيهم أو يتوجسوا منهم خيفة. فأنزل الله في محكم كتابه ينهاهم عن فعل ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. وهؤلاء "الذين قالوا آمنا" هم الذين نزلت فيهم الآية السابقة قبل هذه في سورة آل عمران: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. وهذه الآية وسبب نزولها يدل دلالة صريحة على أن أهل الإسلام الأول، كانوا لا يزالون يعدون الحلف بينهم وبين يهود حلفًا صادقًا لا غش فيه، وأن يهود كانت تظهر المودة وتخفي أشد العداوة وأشد الغيظ على هؤلاء الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم كانوا يتخافتون بهذه العداوة، وأنهم كانوا يخدعون هؤلاء المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، حتى إذا صدَّقهم بعض المؤمنين عادوا فأظهروا الكفر ليفتنوهم ويخدعوهم عن دينهم. فإذا صح هذا، وهو صحيح، ورسول الله بين أظهرهم، فهو أحق بالصحة في سنة 35 من الهجرة، لا نكبر أهل الصدر الأول من الإسلام عن أن يقعوا في مثله وفي أشد منه. ويستطيع الدكتور طه، ويستطيع كل من أطاق القراءة، أن يقرأ كتب السير والمغازى منذ هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، إلى يوم دعاه ربه إلى الرفيق الأعلى، فسيجد أنه لا تكاد تنتهي وقعة بدر الكبرى بالنصر الأعظم لجند الله حتى يسلم رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول وجماعته من المنافقين، وكانوا أعوان يهود، ومن يومئذ ينفجر النفاق ويستشرى خطره، حتى تنزل فيه الآيات الكثيرة، وحتى يطلع الله رسوله على خبايا نفوسهم وعلى أعيانهم. ومن يومئذ

يجاهر بعض اليهود بنقض العهد الذي كتبه رسول الله بينه وبينهم عند مقدمه المدينة، فيكون مقتل اليهودي أبي عَفَك، ثم تكون غزوة يهود بني قينقاع، ثم استعانة أبي سفيان بن حرب بيهود بني النضير ينقلون إليه أخبار نبى الله. ثم يكون ما كان في يوم أحد من خروج عبد الله بن أبي بن سلول المنافق مع رسول الله حتى إذا بلغ رسول الله أُحُدًا انخزل ابن أبي في كتيبة أشياعه وهو يقول: "أيعصيني ويطيع الولدان؟ "، ثم يهزم المسلمون، فإذا عادوا إلى المدينة شمت بهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقون، وأظهرت اليهود القول السئ، يقولون: ما محمد إلا طالب ملك! ما أصيب هكذا نبى قط! أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه. ثم لا تمضي خمسة أشهر حتى يحاول يهود بني النضير قتل رسول الله غدرًا حين جاء منازلهم، فأتمروا أن يطرحوا عليه صخرة من فوق البيت الذي هو تحته، فجاءه الوحي بما هموا به. ثم يخرج أبو رافع سلام ابن أبي الحقيق اليهودي بعد أشهر إلى "غطفان" ومن حولهم من مشركى العرب، يغريهم بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم. . . ولا تزال تمضي من حدث إلى حدث، ومن غدر إلى غدر، ومن نفاق إلى نفاق، واليهود رأس ذلك كله، والعاملون عليه، والموغلون فيه، إلى أن تنتهي إلى خبر اليهودية التي وضعت السم في الشاة ودعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر، فأكل من شاتها ثم نبئ أنها مسمومة فلفظها. فما معنى هذا كله؟ معناه أن اليهود لم يفتر لهم لسان ولا يد ولا غش ولا غدر ولا خديعة ولا ضغن منذ ظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن هذه الشحناء لم تكن عن إساءة لحقتهم من الذين آمنوا بل كانت عصبية يهودية محضًا، وخليقة مركبة في طباع هذا الجنس من البشر، وأن النفاق كان طرفا من دسائسهم ومتنفسًا لأضغانهم على أهل هذا الدين، وأن الله قد وصفهم وصف الحق إذ يقول تباركت أسماؤه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا

مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. وهذه الصفة التي وصفهم الله تعالى بها، لم تنقطع ولن تنقطع ما بقى على الأرض مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وسترى في الكلمة الآتية كيف استطاع اليهود أن يفسدوا على المسلمين أمورًا كثيرة، وأن يثيروا فتنة كادت تذهب بالإسلام كله لولا أن الله قد وعد عباده أن يظهر هذا الدين كله ولو كره الكافرون.

الفتنة الكبرى 3

3 - الفتنة الكبرى كان من البيّن -كما رأيت قبلُ- أن يهود الحجاز قد شبوا في الجاهلية نار العداوة بين بني أم واحدة وأب واحد، يسكنون بلدة واحدة، وهم الأوس والخزرج، فتمادت الحرب بين الأخوين أحقابًا من زمن الجاهلية حتى كادوا يتفانون في يوم "بُعاث" الذي كان قبل هجرة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بست سنين. وكان الذي كان بين هذين الأخوين أمرًا جللًا شديدًا على بعض عقلاء الأوس والخزرج، إذ صاروا إلى ما وصفهم به أصحاب بيعة العقبة الأولى من الأنصار إذ قالوا لنبي الله: "إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بيننا"، ويهود يومئذ "قد عَزُّوهم ببلادهم" أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، كما قال رجال من الصحابة وكما قال أكثر رواة التاريخ القديم. وكان بعض اليهود يحالف الأوس، وبعضهم يحالف الخزرج، ولكنهم كانوا يدًا واحدة إذا جد الجد، فيخرجون من معارك هذين الأخوين لا يصيبهم شرٌّ كثير أو قليل، بل كانوا يقولون لهم: "إن نبيًّا مبعوث الآن قد أظل بزمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم" وشغلت الحرب والعداوة هذنى الحيين، فانصرفوا عن الزراعة واستولت عليها يهود، وشغلتهم عن التجارة فاستبدت بها يهود، وشغلتهم عن حماية أرضهم فعاثت فيها يهود. وأخذت يهود تبنى في المدينة وما جاورها آطامًا وحصونًا كثيرة متفرقة، وتجمع في هذه الحصون ما استطاعت من السلاح والحلقة (¬1) وعُدة الحرب، وهي شيء كثير جدًّا كما ظهر ذلك بعد فتح هذه الحصون والآطام على يد رسول الله وأصحابه من المهاجرين والأنصار. ولم يكن ذلك من فعلهم في المدينة وما جاورها وحسب، بل كان مثله أيضًا في جنوب الجزيرة، في اليمن وتلك البقعة من نجران وصنعاء إلى ناحية البحرين، كانوا ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 765)، مارس 1948، ص: 354 - 257 (¬1) الحَلْقَة من الناس: الجماعة، يعني تعد الرجال للحرب، أو أراد بالحلقة مطلق السلاح.

يقيمون الحصون والآطام ويجمعون فيها السلاح فيكثرون الجمع، وينشئون لأنفسهم مدنًا أو شبه مدن في هذه النواحي كلها، هي لهم خالصة لا يساكنهم فيها أحد. نعم، ينشئون المدن والحصون والآطام ويجمعون السلاح، ويحالفون من جاورهم من الأعراب والبدو، ويوقعون بين حلفائهم العداوة والشر، في المدينة وفي غير المدينة من جزيرة العرب. فماذا كانت تريد يهود بإعداد كل هذه العدة من البناء والسلاح وإيقاد البغضاء، وصرف وجوه الناس عن أسباب الحياة إلى معترك الحرب؟ كانت تريد في المدينة مثلا أن تسقط البلاد في أيديهم خالصة لهم، بعد أن يتفانى الأوس والخزرج في حروبهم التي يؤرّثونها بينهم، كما رأيت ذلك من فعلهم يوم رأى شأس بن قيس اليهودي، ما رأى من صلاح ذات البين بين الأوس والخزرج بالإسلام، فيرسل إليهم فتى من يهود يناشدهم ما تقاولوا من الشعر في حروبهم، فتكاد الحرب تقع بين الأوس المسلمين والخزرج المسلمين، لولا أن أدركهم رسول الله فردهم إلى عقولهم وأطفأ كيد اليهودي شأس بن قيس. ومن قارن بين فعل يهود قديمًا وفعلهم حديثًا في فلسطين، ومن إقامتهم الحصون والآطام والمدن في المدينة وغيرها من الجزيرة، وما فعلوا من إنشاء المدن والحصون والمستعمرات حديثًا في فلسطين، عرف أن هذه شيمة يهود منذ قديم، وهذا هو أسلوبهم قديمًا وحديثًا حذوك النعل بالنعل. وإذن فقد كانت تريد يهود أن تنشيء دولة في المدينة شمالا وفي اليمن جنوبًا كما تريد اليوم أن تنشيء دولة لليهود في فلسطين، وفي غير فلسطين أيضًا. هكذا كان أمرهم في الجاهلية، ثم يرسل الله رسوله ويهاجر إلى المدينة فلا يكاد يفعل حتى يمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم بأخبار اليهود وفتنتهم وتأريثهم العداوة بين العرب المشركين والعرب المؤمنين، وبسعايتهم في تأليب الأحزاب على رسول الله، وبغدرهم ونكثهم ودسائسهم، لم يكفوا ساعة عن التماس غرة المؤمنين والمؤمنات، وعن ابتغاء الوقيعة بين المؤمنين أنفسهم، ويمتلئ تاريخ الإسلام عنذ ذلك اليوم أيضًا بأخبار المنافقين، وقد أجاد الله لنا

صفتهم في كتابه، وبين لنا أحسن البيان صلتهم باليهود وإيواء اليهود لهم، ويكثر ما نزل من الآيات في شأن اليهود والمنافقين جميعًا، مقرون ذكرهما معًا. وتكون أول سورة نزلت من القرآن في المدينة هي السورة التي تذكر فيها (البقرة)، يقول الطبري في تفسيره ج 1 ص 84 بإسناده عن ابن عباس: "إن صدر سورة البقرة إلى المئة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم". ثم ماذا؟ ثم تكون آخر سورة نزلت بالمدينة، أو آخر سورة نزلت من القرآن، هي سورة "براءة" أو سورة "التوبة"، تلك السورة التي فضحت اليهود والمنافقين وهتكت عن سرائرهم، وكشفت عما كانوا يبيتون من القول ومن الكيد، والتي يقول الله فيها: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}، والتي سماها بعضهم "الفاضحة" و"المُخْزِية" و"المُنَكِّلَة" و"المُشَرِّدّة" و"المُدَمْدِمة" دلالة على ما جلبت على اليهود والمنافقين من الفضيحة والخزى والتنكيل والتشريد والدمدمة. ثم تكون هي السورة التي يذكر فيها "الأعراب" الذين حول المدينة من حلفاء يهود، ست مرات. تنزل أول سورة من القرآن (¬1)، فإذا هي في اليهود والمنافقين، وتنزل آخر سورة من القرآن فإذا هي في اليهود والمنافقين ومَن حول المدينة مِن الأعراب حلفاء يهود، وينزل ما بينهما من القرآن في عشر سنوات متواليات يصف ما كان من أمر هؤلاء، وينذرهم، ويكشف عن دسائسهم وكيدهم، فإذا بك ترى تاريخ الإسلام في هذه الحقبة -منذ هاجر رسول الله إلى أن توفاه الله- حافلا بالغدر والكيد والتأليب ونكث العهود ونقض المواثيق. ويكون أول ذلك أن تسلم طائفة من أحبار يهود سماهم أصحاب السير والتاريخ، يسلمون نفاقًا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كما فعل كعب الأحبار وعبد الله بن سبأ وغيرهما في عهد عمر وعثمان)، فكانوا يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ¬

_ (¬1) يعني أستاذنا أول سورة نزلت بالمدينة.

ويستهزئون بدينهم، ويحدثنا ابن هشام عنهم فيقول: "فاجتمع يومًا في المسجد ناس منهم، فرآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثون بينهم خافضى أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفًا"، فهل تجد أوضح ولا أبين من هذا في صفة المتآمرين حين يجلسون يتخافتون بينهم أمرًا يكيدون به ويبيّتونه؟ ويظل هذا حال المنافقين وحال اليهود معًا إلى أن يدعو الله إليه رسوله. يأوى المنافقون إلى أشياخ من اليهود يتآمرون يومًا بعد يوم عشر سنوات متواليات، ويكون على رأس هؤلاء المتآمرين رجال كأمثال رفاعة بن زيد ابن التابوت اليهودي الذي أظهر الإسلام وأبطن النفاق، فيسميه المسلمون "كهف المنافقين"، لأنهم كانوا يخلون إليه، ويتآمرون فيه بليل، ويستودعون ظلام هذا الكهف السميع البصير سرَّ تآمرهم وخفي كيدهم. ورسول الله في خلال ذلك كله يجاهدهم ويرجو هدايتهم، ويظل يفعل ذلك ثمانى سنوات غير قانط ولا يائس، يصلى على من مات من المنافقين ويستغفر لهم، فإذا طال ذلك أنزل عليه ربه في سورة "براءة" آخر سورة نزلت، أشد آية في القرآن خاطب الله بها عبده ونبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ثم ينهاه أشد النهي فيقول: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}. كلمات قاطعة وأوامر حاسمة كحد السيف! ! عشر سنوات والقرآن ينزل على رسول الله في المنافقين واليهود مقرون ذكرهما معًا! ! عشر سنوات تقرأ تاريخها في كتب السيرة فلا تمضي صفحة واحدة إلا وفيها ذكر لليهود والمنافقين معًا، عشر سنوات واليهود والمنافقون معًا يؤلبون على رسول الله القبائل ويفتنون المسلمين، ويدبرون الكيد للمؤمنين والمؤمنات ولرسول الله، حتى كان ما كان من اليهودية التي دست له ولأصحابه السم في الشاة فينبأ - صلى الله عليه وسلم - بما فعلت، فيلفظ بضعة اللحم من فمه - صلى الله عليه وسلم -. ثم ماذا؟ ثم يحدثنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحدثنا منهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - فيقول: "كان آخر ما تكلم به - صلى الله عليه وسلم - أن قال:

"أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب". آخر كلمة ينطق بها - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة! آخر كلمة تجرى على لسانه وهو يلبى دعوة ربه إلى الرفيق الأعلى! ويروى الرواة هذه الكلمة، ويأتي علماؤنا أحسن الله جزاءهم فيقفون عند هذا الحديث ينظرون ما سر هذا الأمر الحازم القاطع؟ إنهم لا يهتدون إلى سر، ولا يقفون على خبر، إلا أن يقولوا جميعًا كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص 99: "وإنما نُرَاه قال ذلك - صلى الله عليه وسلم - لنكث كان منهم، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح". رويدكم أيها العلماء! إنه تأويل متهافت، ولا تجعلوا الظن أصلا في التأويل. لقد كان أولى بكم أن تسألوا أنفسكم: أي نكث ذلك الذي كان من يهود الحجاز ومن أهل نجران؟ وكيف ذهب خبره فلم يرو لنا؟ وأي أمر ذلك الذي أحدثوه بعد الصلح؟ وكيف غاب عنا خبره؟ ولكن غفر الله لكم وجزاكم خيرًا إذ لم تقطعوا برأي تدلسونه على الناس كما يفعل أدعياء العلم وكذبة العلماء في عصرنا هذا، بل قلتم جميعًا كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "إنما نراه" (بضم النون) أي إنما نظنَّه ظنا. ولكن ما قيمة الظن في أمر كهذا الأمر؟ وكيف تريدون أن تفسروا حديثًا بظن من الظنون لم تأت به رواية، ولم يعرف له خبر يؤيده من حوادث التاريخ؟ كلا أيها العلماء! إنها آخر كلمة تكلم بها رسول الله وهو معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، آخر كلمة ينطق بها لسان نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى. كلَّا، فالأمر أعظم وأجل وأخطر مما تظنون. إنها كلمة من كلمات النبوة! إنها تنبيه من الله على لسان نبيه إلى أحداث ستكون، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسى كافرًا. لقد كشف الغطاء ويتجلى لرسول الله غيب ما سيكون، فرآه وهو على فراش الموت كما رآه المؤمنون عيانًا من بعد: فتنة ماحقة في الحجاز وما جاورها، وفي نجران وما أَطاف بها. نار مشعلة فيما حول المدينة من الحجاز، وأخرى مستعرة فيما حول نجران من اليمن. إنه يقولها - صلى الله عليه وسلم - لا لشيء كان بل لشيء سيكون، يراه هو ولا يراه أصحابه -رضي الله عنهم-. ولقد نزل الموت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأشد ما ينزل حتى دعا بقدح من ماء،

يدخل يده فيه ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: "اللهم أعني على سكرات الموت. اللهم أعني على كرب الموت. ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل" وعنده - صلى الله عليه وسلم - خميصة (ثوب من خز) يأخذها فيلقيها على وجهه، حتى إذا اغتمّ بها وضاق ألقاها عن وجهه وهو يقول "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ويقول أيضًا: "لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين"، وتكون آخر كلمة يتكلم بها وهو في مثل ما ترى من كرب الموت: "أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب": أي أدركوا النار قبل أن تشتعل، أنقذوا العرب من فتن لا تبقى ولا تذر! احذروا يهود الحجاز، واحذروا أهل نجران خذوا عليهم طريق الفتنة وأخرجوهم قبل أن يخرجوكم ويسفكوا دماءكم أيتها العصابة القليلة المؤمنة! ويقبض الله إليه نبيّه قبل أن يقول لهم في هذا الأمر قولا لا يضلون بعده، وتبقى هذه الكلمة بغير تفسير حتى يقول العلماء في سرها ما قالوا رجمًا بالغيب. ثم ماذا؟ ثم لا تكاد تتم بيعة أبي بكر حتى تنفجر الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب، فتقول عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين قولا يروى لنا، لم يلق إليه أحد بالا إلى يوم الناس هذا: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها! اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب وصار أصحاب محمد كأنهم معزى مطرة، في حُش، في ليلة مطيرة، بأرض مَسْبَعَة (¬1). فوالله، ما اختلفوا في واحدة إلا طار أبي بحظّها وغنائها عن الإسلام". ويحدثنا أيضًا عروة بن الزبير بن العوام: "وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وقلتهم وكثرة عدوهم". وخليق بي وبك، أن نقف قليلا عند هذا. نقف حيث وقف بنا أمر رسول الله أن: "أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب"، ¬

_ (¬1) الحُش (وبفتح الحاء أيضا): البستان، أو مجتمع النخيل. المَسْبَعَة: الأرض الكثيرة السباع.

نقف حيث وقفت بنا آخر كلمات تكلم بها - صلى الله عليه وسلم -، وحيث وقف بنا قوله وهو في كرب الموت "لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين"، وحيث وقف بنا قول أم المؤمنين عائشة: "اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب"، وحيث وقف بنا حديث عروة: "ارتدت العرب. . . ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى". ثم نأخذ جميعًا نقرأ تاريخ حروب الردة في كتب القدماء من المؤرخين، وماذا قالوا في أسبابها، ونقرأ تاريخها أيضًا في كتب المحدثين من المؤلفين والمؤرخين، ونقرأ أيضًا كتب المستشرقين الذين يجلّهم الدكتور طه ويرفع بذكرهم رفعًا شديدًا فماذا نجد؟ نجد غموضًا شديدًا كأننا نسير في ليلة مظلمة في بطن واد عميق، عن يمينه جبل شامخ وعن يساره جبل شامخ قد أطبقا عليه جميعًا. وإذا الردة في كتب القدماء أخبار مجموعة كما اتفق لهم أن يجمعوها، لم ينظر أحد في أسبابها، ولا في الحوافز التي أغرت العرب بها، ولا في أمر المرتدين وصفتهم وعلاقة بعضهم ببعض، ولا في وجه الشبه الذي يجمع بينهم قبل أن يرتدوا. وإذا الردة في كتب المحدثين أخبار أيضًا حاول أصحابها أن يرتبوها ما استطاعوا، فلما نظروا في أسبابها، وفي حوافزها، وفي صفة أهلها وفي علاقة بعضهم ببعض، وفي وجه الشبه الجامع بينهم قبل أن يرتدوا -إذا بهم يخلطون خلطًا شديدًا كأنهم يبحثون عن درة في بحر من الوحل. وإذا المستشرقون يملأون كتبهم كعادتهم بالجهل الذي يضرب بعضه في وجوه بعض. نعم، نقرأ تاريخ الردة في كل هذه الكتب جميعًا، فإذا هي خالية جميعًا من ذكر اليهود ومن ذكر المنافقين إلا كلمة شاردة ككلمة عائشة وكلمة عروة بن الزبير بن العوام تعرض في كتب القدماء، وإذا المحدثون من المستشرقين الخائضين فيما ليسوا له بأهل، لا يكادون يذكرون اليهود والمنافقين في حرب الردة، وإذا هذا عجب من أعجب أمرهم، فهم أشد ولعًا بالبحث عن الأسباب واستقصائها ونبشها من أن تخفي عليهم هذه الحقيقة البينة التي بين أيديهم، حقيقة اليهود والمنافقين وما كاد لهم من خطر في تاريخ الإسلام منذ هاجر رسول الله إلى أن قبضه الله إليه! ! وإذا بك ترى المؤلفين من رجالنا قد ضلوا إلى حيث

أضلهم أساتذتهمِ من المستشرقين، فغفلوا عن تعليل الردة كيف كانت؟ وكيف بدأت؟ ومن بدأ بها؟ وكيف تم أمرها؟ ولم يسأل واحد منهم نفسه. أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن يقضِي نبي الله عشر سنوات منذ هاجر إلى المدينة حتى قبضه الله إليه، فلا يمضي يوم واحد لا يلقى فيه أشد البلاء من كيد يهود، ومن كيد أشياعهم وصنائعهم من المنافقين، ثم يظل رسول الله هذه السنوات العشر وهو يقاتل اليهود ويقاتل مكايدهم في الأوس والخزرج، وفي القبائل، وفي الأعراب حول المدينة، ثم يظل رسول الله يتلقى الوحي عن ربه هذه السنوات العشر، فإذا أول سورة تنزل عليه وهي البقرة، أكثرها في ذكر اليهود والمنافقين وبيان حالهم وصلة بعضهم ببعض وائتمارهم جميعًا بالمؤمنين الذين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله. وإذا آخر سورة تنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وهي براءة كلها في صفة اليهود والمنافقين، وفي الكشف عن أقوالهم ودسائسهم وكذبهم وخداعهم حتى فضحتهم ونبأتهم بما تخفي صدورهم من الكيد والغيظ والنفاق، ثم يكون آخر ما يتكلم به - صلى الله عليه وسلم - وهو في كرب الموت: "لئن بقيت لا أدع في جزيرة العرب دينين"، وأمره لصحابته: "أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب"، ثم يقبض الله إليه رسوله ويبايَع أبو بكر، وما هي إلا أيام قلائل حتى تشتعل نيران الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب شمالا وجنوبًا وشرقًا وغربًا -أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن لا نجد بعد هذا كله شيئًا في كتب القدماء أو المحدثين -أو المستشرقين إن شئت- ذكرًا لليهود والمنافقين في أمر الردة؟ أهكذا ينتهي فجأة من تاريخ العرب ذكر اليهود والمنافقين بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أيجوز في العقول أن تظل يهود وأشياعُها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله وللمؤمنين والمؤمنات عشر سنوات كاملة متتابعة يومًا بعد يوم، فإذا لحق رسول الله بالرفيق الأعلى (في سنة 11 من الهجرة) نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من كل حَدَث كان بعد ذلك في تاريخ الإسلام- برئوا من الردة (في سنة 11 من الهجرة)، وبرئوا من مقتل عمر (في سنة 23)، وبرئوا من الفتك بعثمان بن عفان - رضي الله عنه - (في سنة 35).

ولكن كيف غاب عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنى قوله: "أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب"؟ وكيف غفل قدماء علمائنا عن معنى هذا الحديث وفيم قيل؟ وكيف ذهل المؤرخون القدماء عن أن يربطوا بين تاريخ الردة وبين تاريخ اليهود والمنافقين؟ وأخيرًا كيف كانت الردة في الإسلام؟ وما آثارها التي تخلفت عنها؟ هذا حديث أحدثك به إن أنسَأ الله في أجلي حتى ألقاك في مكاني من هذه الصفحات.

الفتنة الكبرى

الفتنة الكبرى اطلعت على الكلمة التي نشرت في هذا العدد تعليقًا على مقال لي عن كتاب الدكتور طه حسين عن الفتنة "الكبرى" فلما قرأته آثرت أن لا أضيع على قراء الرسالة صفحات في نقد كلام الدكتور شوقى ضيف، فعجلت بكتابة هذه الكلمة. وليأذن لي الدكتور طه حسين أن أوجه الكلام إلى الدكتور شوقى ضيف، في بعض ما جاء في رده عليَّ. فأول ذلك أن الدكتور شوقى قد أطال في كلام أكثره موجود في كتاب الدكتور طه. كأنه أراد أن يشرحه، وكان وكنا في غنى عن مثل هذا الشرح. والثانية أنه أطال أيضًا في الأسباب الموجبة لنفي قصة عبد الله بن سبأ، ونحن لم نقل أننا نثبتها برواية الطبري وحسب، بل قلنا إن الدكتور طه زيف القصة بأسباب لا تستقيم، وهذه الأسباب مذكورة في مقالى ولم يتنبه الدكتور شوقى إلى ضعفها وتهافتها. أما إثباتنا لها فسيأتي فيما بعد بطريق آخر غير الذي ظنه الدكتور ضيف. والثالثة أنه ذكر عن ياقوت شيئًا في شأن تفسير الطبري وتاريخه، وهو أن الطبري روى في تاريخه أشياء عن رجال ليسوا بثقات، وأنه لم يرو عنهم مثل ذلك في تفسيره لمكانهم من التهمة في رأيه، وشرح ذلك أن للطبري رأيًا في قوم ليسوا بثقات، فنزه التفسير عنهم لأنه أمر دين تجب فيه الحيطة الشديدة؛ أما التاريخ فليس لمثل هذه الحيطة فيه مكان. وموازين المحدثين والمفسرين في رد الرجال وتجريحهم لا يمكن أن تطبق على أهل التاريخ وسواهم من أُدباء ورواة. ولو صح ذلك لأسقطنا رواية التاريخ كله، ورواية الأدب كله، ورواية اللغة كلها، وأظن أن ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 763)، فبراير 1948، ص: 211

الدكتور ضيف لم يعط هذا الأمر حقه من النظر والتدبر. ولست فيما أظن أيضًا مكلفًا بشرح أصول هذه الفنون لكل امرئ لم يطلع عليها أو لم يعرفها حق المعرفة، إلا أن يسأل سؤالًا منزهًا عن مواضع اللجاجة في الانتصار لفلان أو فلان. والرابعة أنه تسرَّع في ذكر أشياء نعفيه من نقدها، لأنها تطول وشرحها يطول أيضًا. ولكني على ثقة من أن الدكتور طه يعرفها كما أعرفها، وتبين موضع الغمز فيها. ومهما يكن من شيء، فإني كتبت ما كتبت عن "الفتنة الكبرى" ولم أتممه بعد، ولعل الأستاذ لو صبر قليلا لرأي ما يرضيه أو يقنعه. أما العجلة فلا تأتيه بشيء إلا تراكب الخطأ على الخطأ، ونحن إنما نكتب لنزيل الأخطاء لا لنراكمها بعضها على بعض. وليعذرني الأستاذ إذا رأى أني لم أبين له البيان الشافي في مسألة الرواية في التاريخ والحديث والتفسير، وكيف تكون وما شروطها، وما ينبغي أن ينظر إليه الباحث مرة، ويتجاوز عنه أخرى في هذه الأشياء، فإن شاء أن يتحرَّاه على وجهه، فليسأل الدكتور طه نفسه، فهو يدله على المصادر التي تعينه على بيانها إن شاء الله. . .

هذا زماننا

هذا زماننا أراد جماعة من الذين كتب الله عليهم أن يرتزقوا باصطناع السياسة، أن يعقدوا معاهدة بينهم وبين بريطانيا يقضون بها في أمر العراق على ما خيلت لهم أنفسهم وأنفس البريطانيين، ووقف بيفن يتعجبُ ممن زعم أنه يضع توقيعه الكريم على معاهدة فيها بخسٌ لحقوق العراق! وليس هذا بعجيب من ساسة بريطانيا، فقوام السياسة البريطانية هو الخداعُ، والإصرار على الخداع، وتسويغ الخداع، حتى يبلغُ الأمر مبلغ الصَّفاقة المهذّبة في عرف الساسة البريطانيين. ولسنا نلوم بريطانيا ولا ساستها على هذا المذهب القبيح، فهم إنما يترفقون إلى غاياتهم بما وسعهم من الدهاء والمكر، ولكنّا نلوم أولئك المتبجحين ممن راموا أن يكونوا أهل سياسة في هذا الشرق العربي أو الإسلامي، إذ يخادعون أنفسهم ويخادعون أهليهم عن فساد بين في أمر هذه المعاهدات، وهم بذلك إنما يدمّرون شعوبهم بما في أنفسهم من العجز واللجاجة وقلة المعرفة بسياسة الشعوب التي انبعثت من رقدتها مطالبةً بالحياة الحُرة الكريمة. ومصداق هذا ما وقع في العراق، فلم يكد يظهر طرفٌ من سر تلك المعاهدة الخبيثة التي أرادت بريطانيا أن تكبل بها العراق، حتى هبَّ الشعب الأبى هبة واحدة فقوض أركان تلك المعاهدة على رؤوس "بناة الإمبراطورية"، وعلى رؤوس أذنابهم من الساسة المرتزقة، فدل ذلك دلالة بينةً على عجزهم ولجاجتهم وقلة معرفتهم بسياسة الشعوب الناهضة المريدة للحياة والحرية. وما الذي كانت تريده بريطانيا من تلك المعاهدة الباغية؟ كانت تريد أن تجعلها مثالا يحتذى في معاهدات تعقد بينها وبين مصر والسودان، ولبنان وسورية وجزيرة العرب واليمن وسائر بلاد هذا الشرق فجاءت ثورةُ العراق فزلزلت ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 762). فبراير 1948، ص: 160 - 162

قواعد هذا الوهم المنتشر الذي سوَّلت لبريطانيا نفسُها أنه بناء جديد تقوم على أساسه سياسة الإمبراطورية البريطانية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية. جاءت هذه الثورة فكانت سُنّةً جديدةً في توجيه سياسة العرب توجيهًا غفل عنه المرتزقة من السياسيين القدماء في هذا الشرق، وجاءت فكانت برهانًا جديدًا على أن الشرق العربي والإسلامي لن ينام مرة أُخرى على خُدَع البريطانيين وخيانة المرتزقة من السياسيين، وعلى أن الحياة التي دبَّت في العرب لن تتسكع مرة أخرى في أوصال هذا الكيان القوي العميق المتراحب، بل سوف تتدفّق في نواحيه كلها إلى أن يستوى عوده على الهيئة التي تجعله كيانًا صحيحًا في هذا الكون الذي يغلى من حوله بالثورات السياسية والإجتماعية والاقتصادية والعلمية. ليس هذا فحسب، بل علينا منذ اليوم أن ننظر ماذا كانت تريد بريطانيا بعقد هذه المعاهدات؟ كانت تريد أن تجمع دول العرب على معاهدات يكون لها فيها الغنم وعلينا الغرم، أي أن بريطانيا كانت تريد أن تستعبد العرب جملة واحدة وتسيرهم في أغراضها على نظام متفق لا تشذ عنه دولة عربية واحدة، سواء أكانت مستقلة استقلالا صحيحًا أم كانت مستقلة استقلالا مشوبًا بالعبودية للإمبراطورية البريطانية، ومعنى ذلك أيضًا أنها تعلم أن العرب سوف ينتهي بهم الأمر إلى أن يكونوأ أمة واحدة، فهي تريد أن تسبق الزمن وتجمع هذه الكتلة الواحدة في قبضة يديها حتى لا ينتشر عليها الأمر. وهذا غرض بين جدًّا، ودوافعه أشد وضوحًا واستبانة. فهل آن لنا أن نتنبه إلى الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه مطالب العرب فيما هم بسبيله من إحراز حقوقهم كلها جملة واحدة؟ لقد كتبت منذ سبعة أشهر كلمة في هذه المجلة بعنوان "شعب واحد، وقضية واحدة"، وذلك في العدد 730 بتاريخ 30 يونية سنة 1947 قلت فيها: "إن قضية العرب قضية واحدة بينة المعالم: هي أننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعًا مستقلة حرة لا يحتل عراقها جنديٌّ واحدٌ، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطانى أو غير بريطانى، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي

خبيث القول والفعل مجنون الإرادة" ثم قلت في آخرها: "وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضى، بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلعب بها هذا ويلهو بها ذاك. إنها قضية واحدة، يرفعها شعب واحد، مطالبًا بحق واحد، هو أننا أحرار في بلادنا". وأنا لا أنقل هذا لأعرض على الناس شيئًا مما كنت توقعت، بل لأقول إن السياسة البريطانية قد علمت علم هذا كله، فهي تريد أن تسبق الزمن لتضعنا في الإِصْر (¬1) الشديد الذي يسمى بالمعاهدات، ولتستعبدنا في أغراضها، ولتنتقم منا ومن تاريخنا، ومن قديمنا وحديثنا. وأقول إن ساسة الشرق وساسة العرب لا يزالون يعيشون في غفلة الخيانات القديمة التي تولى كبرها رجال ظنوا أنهم زعماء هذه الشعوب، أي أنهم قد ملكوا رقابها فهم يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، وذهبوا يفاوضون بريطانيا فيأخذون منها شيئًا وينزلون لها عن أشياء كثيرة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فتبت أيديهم ولعنوا بما قالوا، فقد جروا الشرق كله إلى مضلة لا يهتدى فيها سارٍ إلى علم. ولكن الشعوب العربية كانت أشد منهم قوة، وأهدى إلى مواطن الحق، فما كادت تشب الثورة في العراق حتى نادى أهل العراق بالجلاء الناجز "عن جميع البلاد العربية"، وهذه الكلمة الشاردة هي كلمة الحق التي سوف ينتهي أمرنا إليها، أبى السياسيون القدماء أم رضوا. فالبلاد العربية من العراق إلى الجزيرة إلى الشام إلى لبنان إلى فلسطين إلى مصر والسودان، إلى تونس والجزائر ومراكش، أمة واحدة، والاستعمار فيها واحد، ومطالبها واحدة. فينبغي إذن أن تصاغ قضية العرب على هيئة واحدة، لا في السياسة الخارجية وحسب، بل في موقفنا جملة واحدة في وجه الطغيان الاستعماري كله، سواء جاء بهذا الاستعمار بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا أو روسيا أو هولندة أو أية دولة على ظهر الأرض. وينبغي أن تعدل سياسة الدول العربية جملة واحدة، فتطالب بمطلب واحد ¬

_ (¬1) الإصْر: القَيْد.

لا تقبل فيه هوادة ولا تخضيعًا ولا مساومة، هو جلاء الاستعمار عن بلاد العرب كلها. ولقد سبق الشعب العراقي حكومته إلى هذا الرأي، فنحن نرجو أن يحمل الشعب العراقي حكومته على أن تصرح بهذا المطب تصريحًا رسميًا في بيان تصدره بطلب الجلاء الناجز عن جميع البلاد العربية، وتتعهد بأن لا تقبل مفاوضة ولا محادثة ولا مخابرة ولا مهادنة في هذا المطلب أبدًا. فإذا فعلت العراق ذلك، فعلى سائر الحكومات العربية أن تصدر مثل هذا البيان الشامل الذي لا يفرق شيئًا بين الوطن العربي كله ولا بين المستعمرين أيا كانوا. إني أدعو الجامعة العربية ورجال السياسة الأحرار أن لا يفرقوا في الدعوة إلى الحرية، أدعوهم أن لا يفرقوا قضية العرب أجزاء كل جزء منها يخضع لسياسة تضعف أو تقوي في يد من يتولاها. فقد فهمت بريطانيا هذا، فأرادت أن تنشيء مثالا يحتذى في المعاهدات التي تعقد بينها وبين العرب، وأرادت أن تحمل فرنسا وأسبانيا على الاتفاق على أسلوب جديد يصطلحان عليه في الاتفاق مع بلاد المغرب العربي، يسير على أساس السياسة التي تريدها بريطانيا في اعتبار العالم العربي جملة واحدة تسخَّر في ركاب الاستعمار البريطاني والفرنسي والإسباني. فواجب الجامعة العربية وواجب الحكومات العربية أن تسبق هذه السياسة اللئيمة سبقًا يكفل للشعوب العربية أن تعرف الوجه الذي تسير فيه. فلا مناص إذن من أن تتفق كلمة الدول العربية على أن لا تعقد إحداها معاهدة قط مع إحدى الدول المستعمرة، وعلى أن لا تقبل تقسيم القضية العربية إلى أجزاء، وعلى أن تكون دعوتها ودعوة شعوبها صرخة واحدة مجتمعة في وجه الاستعمار على اختلاف ألوانه وأسبابه والقائمين به، وهي الجلاء الناجز عن بلاد العرب جميعًا، ثم عن بلاد الإسلام كلها في نواحي الأرض. فإذا توانت حكومات العرب، وإذا تلجلجت الجامعة العربية؛ فمغبة ذلك أن تفوت على هذه الشعوب زمنًا يطول أو يقصر، كانت خليقة أن تبلغ فيه ما تريد من نيل الحرية الكاملة، والاستقلال الناجز التام. إن ضعف القائمين بالسياسة العربية، لا ينتهي إلا إلى ضياع الوقت وضياع

الحقوق. ونحن لا نطالب المستعمرين بشيء، لأنهم لا يملكون شيئًا هم قادرون على أدائه. إنهم مغتصبون، ونحن ثوار على هذا الغصب، وهم طغاة ونحن لا نقبل هذا الطغيان، وهم يملكون أسباب القوة المادية ونحن نملك أسباب القوة الروحية، وهم ظُلَّام ونحن لا نرضى بهذا الظلم، وهم يتحكمون بالاستعمار والاستعباد، ونحن نتعالى عن الاستعمار والاستعباد. فهذه القوة التي انطوى عليها حقنا، يقابلها ضعف ينطوى عليه افتياتهم علينا. ومصير ذلك كله إلى الغلبة والنصر إذا أحسن رجالنا الاستعداد لهذه الموقعة الفاصلة في تاريخ البشر. لم يبق شيء في تاريخ البشر يحمل طابع الفساد والبوار والدمار، إلا هذا الجشع الذي يحمل أمم الغرب على أن يضعوا أيديهم على كنوز العالم؛ ليقاتل بعضهم بعضًا في حرب مبيدة مدمرة. وقد عرف هذا الغرب أن الشرق كنوز كله؛ فهو يجاهد أن يستولى عليها بما استطاع من الحيلة ومن اللؤم، ومن إهدار الكرامة الإنسانية، ومن قلة المبالاة بإفساد هذا الشرق وإفساد أهله حتى ينال منه منالًا يكفل له حرية التصرف في كنوزه. فعلينا أن نقف حُراسًا على كنوزنا لا نبيحها بعد اليوم لأحد. وعلى رجال السياسة منا أن يغيروا مناهجهم السياسية تغييرًا تامًّا يقوم على أساس واحد، هو أننا لن نعاون هذا الغرب على الفجور في الأرض، وأننا نمنع عنه مادة الفساد التي يريدها لتدمير حضارات العالم، وأننا قد عزمنا أن ننشيء مدنيّة جديدة وحضارة جديدة لا تقوم على الجشع ولا على الاستبداد. وأننا أحرار في بلادنا كل الحرية وإن اجتمعت دول العالم كله على إنكار هذه الحرية. ولا يصل العرب والمسلمون إلى هذا إلا بشيء واحد هو أن تجتمع الكلمة في الأرض العربية والأرض الإسلامية على هذا الشيء الواحد، وهو أن لا مفاوضة ولا معاهدة ولا مخابرة ولا مهادنة، وأن الشرق لن يستقر على قرار حتى تجلو الجنود المستعمرة عن أراضيه كلها، وأن كل عون للاستعمار في هذا الشرق من الأجانب واليهود الصهيونيين قد كتب عليهم أن يخرجوا من بلادنا إلى حيث شاءوا، وأننا لن نقبل دون هذا شيئًا يصرفنا عن الغرض الأعظم، وهو تجديد حضارة العالم على أسس من العدل والحق والمساواة والحرية. هذا هو المطلب الأعظم الذي ينبغي أن توجه إليه سياستنا كلها، لا تخدعنا عنه خطرفة

السياسيين المتهالكين الذي يقولون للشرق: أنت عاجز، فمن لك ببلوغ هذا المطلب البعيد المغرق في الخيال! كلا، ليس الشرق عاجزًا بل هو أهل لما حُمِّل، وإن تراءى للناس على غير الحقيقة المستكنة وراء هذا الطوفان من الفقر والجهل والفساد. فإذا عزم العرب وعزم رجاله وقواده أن يفعلوا، فلن يحول بينهم وبين ما يبتغون شيء جل أو تفاقم. بيد أننا اليوم في حاجة إلى الأخذ بهذا المبدأ الواحد، وإلى إزالة أولئك السياسيين القدماء عن مكان القيادة في بلادنا، وإلى تقدم الفئة الصالحة إلى هذه التبعة الجليلة لتحملها حملا لا يعجزها ولا يصرفها عنه خوف ولا تردد. ولقد سبق العراق، وسوف تتبعه سائر البلاد العربية والإسلامية، ولن نلبث قليلا حتى نرى في هذا الشرق عجائب القوة العظيمة التي انطوت عليها جوانحه، فلابد من أن تفسح الحكومات الطريق للعمل القوي الماضي الذي لا يرتد عن غايته، ولابد من أن تدفع الشعوب عن نفسها طغيان السياسيين المخادعين المنافقين، ولابد من أن يتولى العرب بأنفسهم حل هذه القضية الواحدة بالصبر والمقاطعة، وبالعزم والجلاد وبالتضحية الكبرى في سبيل إنقاذ البشر من فتن كقطع الليل المظلم، ومن فساد جارف كالسيل المتدفق، ومن طغيان قذر قد ارتطم فيه هذا العالم القديم الذي قام على أسس فاجرة من الجشع. أفيقوا أيها الناس، واستيقظى أيتها الحكومات، وتقدمى أيتها الجامعة العربية باسم العرب الى حمل التبعة العظيمة والزمن أسرع منكم، فبادروه بالعمل والصرامة، وبالصدق والإخلاص، فإن حياتكم وحياة أممكم معقودة بشيء واحد، هو ثباتكم على المبدأ الأعظم، وأخذكم بالقوة التي استودعها الله في قومكم وغفلتم عنها أجيالا طوالا. هبوا فقد أَنَى (¬1) زمنكم وأعدَّكم الله لشيء أنتم بالغوه في الناس وفي أنفسكم. ¬

_ (¬1) أَنَى: حان ودَنا.

الحرية! الحرية!

الحرية! الحرية! أصبحت الجامعة العربية حديث العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، قد ناطوا بها كل آمالهم في بلوغ غاياتهم وإدراك ما تتمناه قلوبهم وضمائرهم، وحسب الجامعة أن تكون قبلة أربعمائة مليون عربي ومسلم في دنيا كلها عدوّ لنا يبغينا الغوائل. ولكن لا حسب، فليس من الحق أن نترك الجامعة تسير وحدها في الطريق دون أن ترتفع أصوات طلاب الحق تؤيدها وتسددها وتشير عليها بالرأي بعد الرأي، فإن رجال الجامعة رجال من أنفسنا، قد رضيت العرب أن تعهد إليهم بقيادة هذه الشعوب المطالبة بالتحرر من قيود الاستعمار التي ضربت علينا ونحن في غفلة عن الدنيا الضارية التي أرسلت علينا وحوشها ترتع في حمانا، وتستأثر بخير بلادنا، وتنال منا نيلا شديدًا. وقد آن أوان تغيير ما كان وما سار عليه العمل في السنوات الماضية. فالجامعة ترى كما هي كل عربي ومسلم منذ وضعت الحرب العالمية الماضية أوزارها، أن أوربة الجائعة التي لا تشبع، قد خرجت من تحت أنقاض الحرب المدمرة وهي أشد ضراوة ووحشية مما كانت قبل الحرب وفي زمان الحرب. وأنها تريد أن تلتهم كل شيء فتشبع ونجوع نحن، وتعبث ونئن نحن، وتستغرق في الترف وناعم العيش وإن أغرقتنا نحن في الضنك وبؤس الحياة. فهذه روسيا تريد أن توغل حيث أطاقت وحيث تيسر لها أن تتوغل. وهذه بريطانيا الكاهنة العتيقة العاتية تريد أن تتلو زمازم (¬1) كهانتها على شعوبنا لتنيمَنا مرة أخرى على الخسف الذي نمنا عليها أجيالا طوالا. ثم هذه ثالثة الثلاثة أمريكا التي لا ينطفئ أُوار ظمئها إلى البترول، تريد أن تستنفد كل شيء ما استطاعت، لتنعم هي به ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 763)، فبراير 1948، ص: 214 - 216 (¬1) الزمازم: جمع زَمْزَمَة، وهو كلام المجوس بصوت خفيّ، لا يستعملون اللسان ولا الشفتين، وإنما يديرونه في خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض.

وبكل ما يطيق العلم أن يحدثه من ترف أو قوة، فتدخل مع بريطانيا في الحلف الاستعماري، لا تبالى أن تناقض تاريخ الأحرار القدماء من رجالها وبناة مجدها. وترى الجامعة كما يرى كل عربي مسلم، أن الشرق العربي والشرق الإسلامي لم يقرَّ له قرار منذ سكنت نار الحرب، فقد انبعثت أندونيسيا تريد الحرية فلم يبال بها أحد، وانبعثت الهند تريد الحرية فأناموها بأن أدخلوها في نظام الدومنيون، وهبت مصر والسودان تجادل عن حقها في مجلس الأمن فأصمت الأمم الداعية إلى الحرية آذانها، وعلقوا القضية في هيكل الوثنية الحديثة التي تعبد إله الشهوات، وثار العراق يريد أن يحطم قيود الذل فأرادت بريطانيا أن تختدعه عن نفسه فأبى إباء الأحرار، وماج المغرب العربي في تونس والجزائر ومراكش، فضربت عليه فرنسا حكم الجبروت وألقت بينه وبين العالم أسدادًا من فولاذ الظلم والطغيان، وسكت العالم الجديد عن هذا البغى اللئيم الذي ليس له رادع من نفسه ولا من الناس. وفارت مدغشقر فأطفأ المستعمرون تلك الأرواح المستعرة بأسنة الحراب. وأخيرا كشفت روسيا وبريطانيا وأمريكا وسائر الدول الصليبية قناع النفاق والرياء، فقضت أن تطلق على فلسطين أنذال البشرية من يهود، ليطردوا العرب من أرض آبائهم وأجدادهم منذ كان للعرب على هذه الأرض تاريخ، فأجمعت الأمم الإسلامية على أن ترد على العدوان وإن اجتمعت الدنيا كلها على تحقيقه ومناصرته. ترى الجامعة العربية كل هذا كما يراه كل مسلم وعربي، ولكنها لا تزال تسير في أمر هذه الثورة الجامحة -التي يريد بها العرب والمسلمون أن يطهروا أنفسهم من الاستعباد، وأن يطهروا أرض الله من البغى والعدوان- سيرةً لم يسرها قبل مطالب بحق يعلم أنه حق لا نزاع فيه. فهي تشغل نفسها مثلًا بقضية فلسطين وحدها -على خطر شأنها- وتنسى ما يجرى في مراكش وتونس والجزائر، وما يحدث في العراق، وما هو كائن في مصر والسودان، وما لا يزال يحدث في أندونيسيا وسائر البلدان والأمم المطالبة بالحرية. ولعلها تقول إنها تنظر في الأهم

ثم المهم، وإنها لا تريد أن تخرج عن الأصل الذي وضعت له والذي يدل عليه اسمها وهو "جامعة الدول العربية"، لا جامعة العرب، ولا جامعة الإسلام، ولا جامعة الشرق. وهذا حق، ولكن ما الذي يحسبها (¬1) على هذا وحده؟ وما معنى أن تقصر أمرها على الدول العربية "المستقلة" في ظاهر الأمر؟ إن هذه الدول العربية "المستقلة" ليست مستقلة في حقيقة الأمر، وإلا ففيم ثورة مصر والسودان؟ وفيم ثورة العراق؟ وفيم غليان شرق الأردن؟ فليس من الرأي أن تظل الجامعة العربية مقيدة بأشياء هي حبر على ورق؛ بل ينبغي أن تضم إليها رجالا من تونس والجزائر ومراكش، وينبغي أن تضم إليها رجالا من سائر الدول الإسلامية والشرقية ممن لهم مع العرب صلات لا يمكن أن تقطعها هذه القواطع المزيفة، وينبغي أن تعلن الجامعة العربية أنها قد أخذت على عاتقها أن تدافع عن حرية العرب وحرية المسلمين، وينبغي أن تكون هي المؤتمر العام الذي ينضم إليه كل ناشد للحرية في هذه الأرض مهما اختلفت الأجناس والأديان. بل ينبغي أن تجمع الجامعة العربية في يدها أمر السياسة العربية والإسلامية جملة واحدة، وأن تضع المبادئ التي يجب على كل أمة تنضم إليها أن تعمل بها، وأن تكون هي المعبرة عن النداء العام الذي تنادى به هذه الأمم والشعوب وهو: الحرية! وينبغي أن تسير في ذلك كله مرة واحدة، فلا تفرق قضية الحرية إلى قضايا كل واحدة منها تعالج على أسلوب يخالف أخاه أو يتخلف عنه. إن روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وسائر الدول المستعمرة، أو أذيال الدول المستعمرة، قد اتفقوا جميعًا على العرب والمسلمين وأهل الشرق، ففيم نتأخر نحن أو نحجم أو نتلجلج؟ ولم لا نعمل جميعًا جملة واحدة، ويدًا واحدة، وفي وقت واحد، وأي عائق يعوق المطالبين بالحرية والناشدين لها عن اجتماع الكلمة على هذا الحق الذي لا يملك أحد أن يمنحه أحدًا، لأنه عطية الله ونعمته، ليس لأحد أن يسلبه؟ وكيف يسلبه وهو قوام هذا البنيان الإلهي؟ فإذا خلا هذا البنيان ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، والأوفق أن تكون: يَحْبِسُها، كما يتضح من الكلام الآتي بعد.

من الحرية، فقد خلا من الحياة وانهدم، وكان أنقاضًا تسعى على أرض تلفظها، وتستظل بسماء تلعنها. إن جامعة الدول العربية، إنما تتكلم اليوم باسم الشعوب العربية لا باسم الحكومات وحدها. فلتعلم الجامعة أن الشعوب قد سئمت هذه السياسة العتيقة البالية، سياسة المداورة والمحاورة، سياسة الظنون الخداعة، سياسة المغررين الذين يحسبون أن سينالون حقوقهم بالمفاوضات والمحادثات والمخابرات والمخادعات. فلتحذر إذن أن تقف دون الغاية التي تسعى إليها شعوبها، ولتخط الخطوة الواسعة التي خطتها الشعوب في سبيل درك الحرية وانتزاعها من يد الجبابرة الظالمين. إنها اليوم أعظم قوة في هذا الشرق العربي والإسلامي، فلزام عليها أن تنطق بإرادة هذه الشعوب مجتمعة، لا بإرادة حكومات تغرَّر بها السياسة، ولا بإرادة أفراد مهما بلغ سلطانهم فهو دون سلطان الشعوب التي يمثلونها، بل ينبغي أن تكون الجامعة هي الرقيب الذي لا ينام على إرادة هذه الحكومات وعلى إرادة هؤلاء الأفراد، طبقًا لإرادة الشعوب وحدها. إني لا أزال أنذر الناس أننا نعيش اليوم في زمن غير الزمن الذي ألفوه منذ خمس سنوات وحسب، فاليقظة التي تدب اليوم في كيان الشعوب العربية والإسلامية أضخم وأعظم وأقوى مما يخطر ببال أحد، إنها القوة التي لا يقف دونها سلطان ولا طغيان ولا بأس. نعم، إن النظر العابر الخاطف لا يكاد يدل على هذه الحقيقة، ولكن النظرة المتأنية المتعمقة تستطيع أن تحس بهذه الحركة الجياشة التي فار فائرها تحت هذا الظاهر الساكن المطمئن. وإنما يغفل من يغفل عن إدراك هذه القوة، لأنه ألف شيئًا مضى، فقاس عليه شيئًا جديدًا يراه وهو متأثر بهذا الماضي، ولأنه مسوق في عنان هذه السرعة الخاطفة التي يجرى بها عالمنا الحاضر إلى الغايات التي لا يعلم غيبها إلا عالم غيب السموات والأرض. ولكن الجامعة العربية قد فرض عليها أن تنظر النظرة المتأنية العميقة لتدرك هذه الحقيقة التي لا تخفى، ثم تقيم سياستها على هذا الأصل وحده دون الأصول الأخرى التي ورثتها عن السياسات العتيقة، سياسة المفاوضات والمخادعات، وسياسة الأخذ والإعطاء، وسياسة تقسيم القضية الواحدة - قضية الحرية.

إني أنذر الحكومات، وأنذر الجامعة العربية بأن هذه اليقظة القوية العنيفة سوف تنكشف عن قريب، وأنها إذا لم تجد الحكومات، ولم تجد الجامعة العربية، قد تهيأوا للسير في خطاها. فهي ستدمرهم جميعًا، ويخشى يومئذ أن تنقلب هذه اليقظة فتنة هوجاء لا قائد لها تعصف بهم جميعًا عصف الرياح بهشيم النبات. فليتق الله كل عامل منا، ولينظر إلى غد، وليعرف حقيقة هذه الشعوب، وليأخذ نصيبه من التبعة التي ألقاها عليه مكانه من الناس ومن الشعوب. إن قضية الشعوب العربية والشرقية والإسلامية "قضية واحدة"، فاكتبوا هذه الكلمة في كل مكان، ورددوها بكل لسان، واهدروا بها هدير الأمواج في هذه البحار المظلمة، فإنها كلمة النجاة لكم ولشعوبكم وللناس جميعًا. إن ساعة الخطر الأعظم قد دنت وتطابقت علينا عقاربها من هنا ومن ثم، وإن بريطانيا أولا ثم أمريكا وروسيا وأذيالهم من أمم الاستعمار الصليبية، تدرك هذه الحقيقة كل الإدراك، فهي تريد أن تمزق شمل هذه القوة قبل أن تجتمع وتبدو جملة واحدة. فبريطانيا تريد أن تشغل كل قبيل منا أو كل دولة بشأن من شئونها التي تثير جماهير رجال السياسة القدماء، أولئك الرجال الذين نشأوا في أحضانها، أو في أحضان استعمارها الخبيث. وأمريكا تريد أن تشغل كل أمة منا باللعنة الماحقة التي تقوم عليها قوتها وهي البترول ومنابع البترول، تشتريه من هذه الأمم الفقيرة بأبخس الأثمان، فتنقله إلى بلادها فيكون أرخص ثمنًا من البترول الذي تستخرجه من نفس أرضها! وتخدع هؤلاء المساكين بالدولار تعطيه، وهو ليس عطية، بل محنة وبلاء واستعبادًا للإنسان الفقير الذي يظن أن المال هو كل شيء في هذه الدنيا. وأما روسيا فهي تعمل جاهدة على أن تأتي هذه الشعوب من طريق فتنتها عن الهدف الأعظم وهي الحرية، وتوجهها إلى الفتنة الخبيثة توقدها بين الغني والفقير، والمالك والمستأجر، والعامل وصاحب المال، حتى إذا صرفت الوجوه عن حقيقة الحياة -أي عن الحرية- دخلت فاستقرت وتحكمت واستبدت، وفعلت بنا ما فعل هؤلاء الديمقراطيون: زعموا أنهم يدافعون عن الحرية ثم سلبونا حريتنا، وتدعى روسيا أنها تريد المساواة بين الناس؛ فإذا دخلت

بيننا حرمتنا هذه المساواة. إن هذه الدول جميعًا على اختلافها واختلاف مصالحها قد اتفقت على مصلحة واحدة هي أن تقتلنا، ثم يأتي بعد ذلك تنازعهم واقتتالهم على أسلاب هذا القتيل. فالجامعة العربية هي التي كتب عليها منذ اليوم أن تقف حيال هذه القوي مجتمعة لتردها عن هذا الهدف اللئيم الذي تسعى إليه، فلتجمع في لسانها ضمير هذه الشعوب المستهدفة للخطر الأعظم، ولتنطق بالكلمة الواحدة التي تعبر عن هذا الضمير، وهي أن قضية العرب والشرق والإسلام قضية واحدة، قضية لا تتجزأ لأن الحرية لا تتجزأ. والجامعة العربية تعلم -أو ينبغي أن تعلم- أنها إذا نطقت بهذه الكلمة وجعلتها أصل سياستها التي لا نقبل فيها مهادنة ولا مفاوضة ولا مجادلة، انبعث من ورائها قوة أربعمائة مليون نسمة تهتف من ورائها هتافًا يهدّ الجبال الراسيات، ويشتت بأس الأمم الطاغية بسلاحها ومدمراتها وجبروتها وبغيها ويهودها أيضا. إنهم أربعمائة مليون يهتفون بلسان واحد في وقت واحد: الحرية الحرية! إنها قضية واحدة أيتها الجامعة! إنها قضية واحدة أيتها الحكومات! إنها قضية واحدة أيها الملوك والأمراء! فأجمعوا أمركم وتنادوا جميعا في مشارق الأرض ومغاربها -من حدود الصين إلى بلاد المغرب الأقصى، ومن أطراف الشام إلى جنوب إفريقية. تنادوا بالكلمة الواحدة التي تزلزل هذه الأرض التي امتلأت جوانبها بغيًا وظلمًا وفسادًا، تنادوا بحرف واحد وبلسان واحد، وفي وقت واحد: الحرية! الحرية! {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

لمن أكتب؟

لمن أكتب؟ بيني وبينها أيام معتقة كأنها خمر في دِنان الزمن، فإذا ما قدّر الله لنا أن نجتمع يومًا، طارت بلبى نشوة ترمى بي إلى عالم ساكن ناضر ناعم النسمات، فأفارق بها عالمًا صاخبًا محترقًا لافح الرياح عاصف الأعاصير. واجتماعنا هو إحدى الأماني التي يقول في مثلها الشاعر: أماني من سعدى رِواءٌ، كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا وإذا اجتمعنا وتنهدت بيننا الأحاديث، فربما فاجأتني بالسؤال لا أتوقعه، فيردنى سؤالها إلى نفسي ردًّا عنيفًا لا أملك معه إلا أن أديم طرفي إلى هذا الوجه الذي يخفي وراءه نفسًا ثائرة، ولكنها ساكنة على ثورتها سكون الجبال الراسيات. ولست أدري أتلك إحدى لطائف الحيل التي تحب أن توقظنى بها من غفوة الأحلام، أم تلك يقظة دائمة في نفس لا تطيق إلا أن تكون متيقظة حين يدعوها الهوى إلى إغفاءة تريحها من ثورة نفسها واضطرابها؟ وأي ذلك كان، فهي قد أخذتنى أخذًا شديدًا حين استوت في جلستها وقالت: حدثني، لمن تكتب هذا الذي تكتبه؟ إنهم جميعًا نيام يغطون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها. فلما أفقت على سؤالها، جعلت أردده في نفسي وأنا أملأ عيني من صفاء هذه الينابيع التي تترقرق في وجهها وفي عينيها. وأخيرًا قلت لها: لن أجيبك إلا حيث تقرأين كلامي، ودعينا لما بنا، فإن لقاءنا ساعةٌ فرت إلينا من هذا الفراق السرمدي. ¬

_ (*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 766)، مارس 1948، ص: 274 - 276.

لمن أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحس الآن من سر قلبي أنى إنما كنت أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو: أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد بعد سوف يقدَّر له أن يقرأنى؟ ولست على يقين من شيء إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يومًا على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها، وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم، تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم، ولم يتورع أهلها عن الجور والبغى في كل شيء، حتى في أنبل الأشياء - وهو العلم. لم يخامر قلبي يأس قط من هذه الفترة التي نعيش فيها من زمننا، ولم يداخلنى الشك في حقيقة هذه الشعوب، وإن كانت لا تزال تعيش في بلبلة جياشة بأخلاط من الغرور والخداع والعبث، وفي أكفان من الفقر والجهل والمخافة، وفي كهوف من الظلم والاستبداد وقلة الرحمة. كل ذلك شيء أراه وأعرفه، ولكني أستشف تحت ذلك كله نقاء وطهرًا وقوة تدب في أوصال هذا العالم الذي أوجه إليه كلامي، وهو خليق أن يتجمع للوثبة في الساعة التي كتب له فيها أن يهب مرة واحدة تذهل الناس كما أذهلتهم من قبل، وهو خليق أن يكون سر الحياة الجديدة التي تضرب عروقها إلى عصور بعيدة في تاريخ البشر. ولعل هذه المحن التي أحاطت به من خارج، والتي استبطنته من داخل، هي حوافز البعث الجديد، وهي نار التمحيص التي تنفي خبثه كما ينفي الكير خَبَث الحديد. أنا أعلم أن رجال السياسة عندنا لا يزالون أَوْزاعًا (¬1) من خلق الله لا ندري كيف نشأوا، وعلى أي شيء قامت شهرتهم ولا إلى أين تمضي أهدافهم، وهم فوق ذلك كله قد لوّثوا ضمائرهم وعقولهم وأخلاقهم وعزائمهم بأشياء لا يمكن أن تؤدى إلى خير وهم قد أشربوا فتنة بأخلاق الساسة الطغاة الذين ابتلى بهم ¬

_ (¬1) أوزاع: الفِرَق والجماعات من الناس، يكون متفرقين غير مجتمعين.

الغرب وامتحنت بهم الحضارة الغربية. ولست أشك ساعة في أنهم لا خير فيها البتة، مهما دل ظاهر تدليسهم أو تدليس الصحافة بأسمائهم على أنهم يفعلون خيرًا أو أنهم سوف ينتهون إلى خير ولست أرتاب البتة في أن الخير كل الخير هو في زوالهم جملةً واحدة من مكانهم، لكي يتسنى لهذه الشعوب العربية والإسلامية أن تهتدي إلى الحق في حياتها وفي جهادها وفي أهدافها. وأنا أعلم أن رجال العلم من أي أقسامه كانوا، لا يزالون يتعبَّدون أنفسهم لكثير مما لا نفع فيه لأممهم، بل لعلهم لا يزالون يترفعون عن هذه الشعوب الفقيرة الجاهلة، والتي هي شعوبهم، ظنًّا منهم أنها شعوب لا تستطيع أن تبلغ ما بلغ الناس في العلم، فضلا عن أن يدركوا سوابق العلماء في هذه الفترة من زماننا، فضلا عن يسبقوا أمم الحضارة الحاضرة في ميدان هذه العلوم. وهم في خلال ذلك -إلا من عصم الله- يبسطون ألسنتهم بسطًا شديدًا في أعراض هذه الشعوب، فيقرفونها بكل مَسَبَّة، ثم يصرفون وجوههم إلى أوربة وأمريكا وغيرهما كأنما هم منها ومن صميمها، لا من هذه الشعوب البائسة التي ظنوا أن الموت كتاب محتوم عليها. وأنا أعلم أن أكثر أهل السلطان في هذا الشرق، لا يزالون يعيشون في عزلة لا يبالون قليلا ولا كثيرًا بما فيه خير بلادهم، وأنهم يحتقرون جماهير الشعوب احتقارًا ينسرب في خاصّ كلامهم كما ينسرب في أكثر أفعالهم. وهم فئة قليلة فتنتها النعمة والترف واللذاذات، حتى ما تبالى أن تصب على أممها ضروبًا من المظالم كان ينبغي أن تترفع عن ارتكابها، لا رحمة بالناس، بل مخافة من الناس، فالشعوب إذا هاجها ما [يهيجها] لم تبق على شيء وإن كان في بقائه خيرها. وأنا أعلم أن أهل الدين -إلا من رحم ربك- قد رَمْوا بدينهم ظِهريًّا، وإن لبسوا لباسه وتشبهوا على الناس وغرَّوهم باسم هذا الدين. وهم يأكلون باسم الدين نارًا حامية، وهم قد فقدوا بفقد آداب هذا الدين كل شيء يجعل لهم عند الناس مكانة ترفعهم عن الشبهات، وبذلك أصبحوا كالعامة التي تحتاج إلى من يقودها ويهديها.

وقصارى ما يقال هو أن الحياة في هذا الشرق على اختلاف نحله ومذاهبه وأديانه وأحزابه، قد صار كأهل سفينة جُنَّ أكثر من فيها، وكلهم يريد أن يقود السفينة كما خيلت له طوائف وساوسه وأوهامه، مستبدًّا بما يرى من الرأي. ولكني مع ذلك لن أيأس ساعة من أهل الخير، لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المحيطة بالجماعة، فيدفعها حب الحياة وحب الخير إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم، ثم تنشط من عقالها إلى قيادة هذه الناس بقوة تنفث في هؤلاء جميعًا رُوحًا مسدِّدة هادية تبرئهم مما أصابهم، وتستنقذ منهم من يصلح للبقاء والعمل في جيل جديد، له هدف معين، وله طريق لا يفارقه، وله همة جياشة تجعله يطوى المسافات المترامية طيًّا حتى يصل إلى غايته لم يلحقه كلل ولا سآمة ولا إعياء. فأنا أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الخلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروى أرضًا صالحة تنبت نباتًا طيبًا. ومهما كان من أمر تلك الطوائف التي ذكرتها، ومهما كان رأيها في هذه الشعوب التي تنتمي إليها، ومهما عدت شعوبها سائمة ترعى أيامًا معدودة حتى تتخطفها أرماح الأجل، فمن هذه (السائمة) سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة. إنه الرجل الذي قد خُلطت طينته التي خلق منها بالحرية، فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض، فهو يشرق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس ترمى بأشعتها هنا وهنا، ولا يملك الناس إلا أن ينصبوا لها وجوههم وأبدانهم ليذهب عنهم هذا البرد الشديد الذي شلهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتسري نفسه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغت قوته أو جبروته.

ألا إن الشرق العربي لينتظر صابرًا كعادته هذا الرجل. وإني لأحس أن كل شرقي قد أصبح اليوم يتلفت لا من حيرة وضلال، بل توقعًا لشيء سوف يأتي قد أَنى (¬1) زمانه، ففي كل نفس منه خاطرة تختلج. وهذا الإحساس فينا هو الذي يحملنى على الإيمان بأن ذلك كائن عن قريب، وأننا قد أشرفنا على زمن قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل، لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد ارتضعنا لبانها منذ الأزل البعيد. وكل ما دخل علينا في القرون الماضية من المظالم والأكاذيب والاستبداد، لم يستطع أن يخفت ذلك الصوت الذي تتجاوب به نفوسنا باسم الحق والحرية والعدل. إن هذه الشعوب التي تُرَى اليوم كأنها على بلادها أسمالٌ بالية ممزقة، قد بدأت تحس أن عليها أن تتجدد أو أن تزول، وطبيعة الحياة تأبى لها أن تزول، فهي لابد أن تتجدد. وهذا الدافع وحده سوف يمهد للرجل المنتظر أن يزأر زئيره فتصغى له آذان الملايين من أبناء الشرق، ثم تنطق من مجاثمها إليه مجيبة لندائه، فإذا انطلقت إليه أرسالًا (¬2)، فيومئذ لن يقف في طريقها أولئك الساسة المنافقون، ولا أولئك العلماء المتبجحون، ولا أولئك الديَّانون المخادعون، بل سوف يصيرون تبعًا، وقد طال ما خيلت لهم نفوسهم أنهم الرؤوس والسادة. فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها (¬3) منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فتر (¬4) منها شريك. ¬

_ (¬1) أنى: حان ودنا. (¬2) أرسالا: جماعات، واحدة بعد الأخرى. (¬3) الصفائح: حجارة عِراض توضع فوق القبور، المفرد صَفِيحة. (¬4) الفِتْر: مسافة ما بين السَّبابة والإبهام.

على حد منكب

على حد منكب قلت قديمًا في الرسالة (¬1) إن الشيخ إبراهيم اليازجى ومن لف لفه كالمعلم الشرتونى، هم أصحاب حشد وتخليط في جمع اللغة. وآفة الحشد والاستكثار ترك التبصر ومجافاة التمحيص. ثم يأتي الناس بعد ذلك فيأخذون هذا الحشد على ثقة وأمن، فتزداد بلبلة الناس في شأن اللغة. فما كل أحد يصبر على تتبع الكلام المبعثر في الشعر والنثر، ثم جمعه وتأليفه، ثم النظر في أصوله ومبانيه، ثم تمحيص المعاني المختلطة ورد كل قرينة منها إلى أختها. وقد قرأت في عدد الرسالة (908) ما نقله الأستاذ محمود أبو رية من كتاب نجعة الرائد لليازجى: (هو منه على حد منكب: أي منحرف عنه دائم الإعراض) وما عقبت به الرسالة من قول أقرب الموارد: (وفلان معى على حد منكب: أي كلما رآنى التوى ولم يتلقنى بوجهه، وهو كقولهم: فلان يلقانى على حرف). وأستطيع أن أوسع لليازجى والشرتونى في هذا الموضع مكان العذر، فقد نقلا، ولكنهما لم يتنخَّلا الكلام ولم يمحصاه. والذي أوقعهما في هذا الوهم، هو حب الاستكثار، ثم اطمئنانهما إلى شيخ قديم كان من أئمة العربية، ولكنه كان أيضًا عريض الدعوى، جريئًا على التوهم، كثير التخليط في اجتهاده، بل كان يدلس فيما يكتب، إذ كان يأتي بالشيء يوهمك أنه مما نقله عن الرواة قبله، وهو في الحقيقة مما اخترعه بسوء رأيه وقلة معرفته بغامض كلام العرب -ولا أعني غريبه، فهو كان قيما بالغريب حفظًا ونقلا. وهذا الشيخ القديم هو الخطيب التبريزى شارح الحماسة. ويدل شرحه للحماسة على ¬

_ (*) الرسالة، السنة الثامنة عشرة (العدد 910)، ديسمبر 1950، ص: 1385 - 1387 (¬1) مضى هذا المقال بعنوان "الهجرة"، الرسالة، السنة الثامنة (العدد 346)، 1940

ما ذكرت من صفته، وعلى شيء آخر، هو ضعفه الشديد في فهم دقائق الشعر العربي. ثم على شيء آخر أيضًا، هو أنه مشغول بالنحو وما إليه وبالإغراب في بيان وجوهه المختلفة. وهذه الكلمة التي نقلها اليازجى والشرتونى عنه، هو صاحبها، وهو مدعى هذا المعنى لها، ولم ترد في شعر قديم، ولا نثر معروف، على الوجه الذي توهمه التبريزي واحتال له. وإنما أتى الشيخ من سوء فهمه لما تولى شرحه من شعر الحماسة. جاءت الكلمة في شعر للبعيث بن حريث بن جابر الحنفي، أحد بني الدُّؤَل ابن حنيفة بن لجيم. . . بن بكر بن وائل، وهي أبيات جياد مختارة، يذكر فيها طروق طيف صاحبته على بُعْد الزيارة، ثم مسيره في البلاد، ثم يفخر بنفسه وبمحاماته دون عشيرته وذبه عن مآثرها ومجدها، يقول في مطلعها: خيال لأُمِّ السَّلْسَبيل ودونها ... مَسيرةُ شهرٍ للبريد المُذَبْذَبِ! (¬1) حتى يفخر بما فعل في نصرة رجلين من قومه هما (يزيد) و (عبس)، كانا استصرخا به في مُلِمَّة من ملمات الحروب، فنصرهما وحامى عنهما، واستنقذهما، وهم يومئذ جميعًا في غربة عن ديار عشيرتهم، قال البعيث في ذلك: وإن مَسِيري في البلاد ومنزلي ... لبالمنزل الأقصى إذا لم أُقَرَّبِ (¬2) ولست، وإن قُرِّبْتُ يومًا ببائع ... خَلاقي ولا ديني ابتغاء التحبُّبِ (¬3) ويَعْتَدُّهُ قوم كثير تجارةً ... ويمنعني من ذاك دينى ومنصبى دعانى يزيد، بعد ما ساء ظنه، ... وعَبْسٌ، وقد كانا على حَدِّ مَنْكَبِ وقد علما أن العشيرة كلَّها، ... سوى مَحْضَرِي، من خاذلين وغيَّبِ فكنتُ أنا الحامى حقيقة وائل ... كما كان يَحْمِي عن حقائقها أبي ¬

_ (¬1) المذبذَب: المُتَعَجِّل. (¬2) أقرَّب: أُكرَّم وأُدْنى. (¬3) الخلاق: الحظ والنصيب من الصَّلاح.

ويظهر لي أن البعيث كان قد خرج هو وصاحباه (يزيد وعبس) إلى خراسان في ولاية أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، ومن أجل ذلك قال: "ومن دونها مسيرة شهر للبريد المذبذب". قال التبريزى في شرح البيت: "أي أشرفا على الهلاك. هذا إذا رويت بفتح الكاف. يقال: أصابه نَكْبٌ من الدهر ومَنْكَب ونَكْبة ونُكُوب كثيرة. ومنه حافر نَكِيب ومَنْكُوب: إذا أثَّر فيه حجر أو غيره. ويروى (على حد منكِب) بكسر الكاف. يعني أنهما كانا مهاجِرَيْن له. يقال: فلان معي على حد منكِب: أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه. وتنكَّب عني: أي اجتنبني. والمنكب من كل شيء جانبه وناحيته. ومثله قولهم: فلان يلقاني على حرف. وفي القرآن {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}. ويجوز أن يريد بقوله: (بعد ما ساء ظنه) بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة" (¬1). والذي حمل التبريزي على التفسير الذي اجتهد فيه، وادعى فيه دعوى ليس عليها بينة من نفس الشعر، ولا من كلام العرب، بعد أن قارب المعنى الصحيح في الشعر بقوله "أي أشرفا على الهلاك" -أنه أتى من سوء فهمه الذي بدر إليه في معنى قوله: "دعانى يزيد بعد ما ساء ظنه وعبس" فتوهم أنه أراد (بعد ما ساء ظنه في)، ثم ازداد في توهمه فزعم مهاجرَة كانت بين البعيث وصاحبيه عبس ويزيد، لكي تتسنى له المداخل إلى دعواه في تأويل الكلام على وجهٍ توهمه واخترعه، ثم أثبته بقوله "يقال: فلان "معى على حد منكب". وهو شيء لم يقله غير التبريزى نفسه، بالمعنى الذي فسره به، وكان من حيرته أن عاد في آخر شرحه يقول: "ويجوز أن يريد بقوله (بعد ما ساء ظنه) أي بعد تسلط اليأس ¬

_ (¬1) كلام أستاذنا عن التبريزي في تهجمه على المعاني وانشغاله بالنحو حق لا مراء فيه. ولكن أستاذنا هنا افتات على التبريزى وظلمه، فهذا الشرح لم يختلقه التبريزى، وإنما نقله عن المرزوقى بنصه (الحماسة بشرح المرزوقى 1: 380 - 381)، وهذا شأن التبريزى دائما، فقد اهتدم شرح المرزوقى حين كتب شرحه على حماسة أبي تمام، وزاد عليه في مسائل النحو والإعراب واشتقاق الأسماء. فالمرزوقى هو الذي اجتهد، وهو عندي عريض الدعوى، جرئ على التوهم، كثير التخليط في اجتهاده.

والقنوط من الحياة"، كأن الأول الذي فهمه هو الصواب وكأن هذا الثاني جائز على تمريض (¬1). وأخطأ التبريزى فيما فهم من قول الشاعر (ساء ظنه)، أخطأ أيضًا في هذا التفسير الذي قال إنه (يجوز) أن يكون من وجوه تأويلها، فالعرب حين تأتي بقولها (ساء ظنه) في مثل هذا الموضع، إنما تريد بالظن: ذميم الخواطر التي تخامر نفس المحارب حين يحمر البأس، إذ يحدث نفسه بالهرب والفرار حبا للحياة وحرصًا على الأموال، فيرتكت أخلاق اللئام والأنذال والجبناء في ترك المحاماة عن الأعراض مخافة الموت المطبق. فمن ذلك قول أشابة بن سفيان البجلى. ومُسْتَلْحَمٍ يدعو، وقد ساء ظنه، ... بمهلكة، والخيلُ تَدْمَى نُحورُها كررت عليه، والجياد كأنها ... قنًا زاعِبىّ، لم تَشِنْها فُطورُها (¬2) فنهنهتُ عنه أولَ الخيل، إننى ... صبور، إذا الأبطال ضجَّ صَبورُها والمستلحم: من قولهم: استلحم (بالبناء للمجهول) أي روهق في القتال واحتوشه العدو من هنا وهنا. فهو يدعو باسم عشيرته، وقد حدث نفسه بالفرار. وهذا البيت هو نفس معنى بيت البعيث. إلا أن هذا قال: "بمهلكة"، والآخر قال: "وقد كانا على حد منكب" بفتح الكاف. وهو أيضًا ما قاله التبريزى أولا، ثم أخذه حب الاجتهاد، فظن ظنًّا خطَأً جعله رواية للبيت، بكسر الكاف، ثم توهم وتصنع الاجتهاد، ثم ادعى ما ادعى. وقول زفر بن الحارث الوالبى (المؤتلف: 130) وإني بذات الرِّمْثِ لم أُلْفَ عاجزًا ... ولا ورَعًا يوم التهايج أعزلا (¬3) منعتُ ابن ورّاد وقد ساء ظنّه ... وأنقذت من تحت الأسنة نوفلا ¬

_ (¬1) تمريض: تَوْهِين وضعف. (¬2) القنا: الرماح، ورمح زاعبىّ: إذا هُزّ تدافع كله كأنه يجرى في مقدمته. الفطور: الشقوق، أي ليس لها شقوق أصلًا فتشينها. (¬3) الوَرَع: الجبان.

بل لقد قال عروة بن الورد يتمدح بنصرته قومه (بنى عوذ) حين اشتد القتال عليهم بماوَان فقال: تدارك عوذًا، بعد ما ساء ظنها، ... بماوَان، عِرْقٌ من أُسامة أزهرُ يعني نفسه حين نصرهم، وقد أوشكوا أن يفروا عن أعدائهم. ويقول موسى ابن جابر الحنفي (عم البعيث صاحب الأبيات المذكورة آنفًا): وَجُدْتُ بنفس لا يُجاد بمثلها ... وقلت: اطمئني، حين ساءت ظنونُها وما خير مال لا يقى الذمَّ رَبَّهُ ... بنفس امرئ في حقها لا يهينها أي حين خطر له أن يفر من حومة القتال هذا أول سوء قصد التبريزى إلى المعاني. أما ثانيهما فما استخفه من الفرح باجتهاده، حتى عجل فلم يقف على كلمة "حد" ولم يحاول أن يفهمها، إلا على الوجه الذي بدر إلى عقله، وهو الحد الفاصل بين شيئين. بيد أن العرب تقول: "حد الظهيرة" و"حد المطر" و"حد الخمر" و"حد الموت" وكثير من مثل ذلك، وتعنى بالحد الشدة والبأس والصلابة والعنفوان. وقد قال موسى ابن جابر في أول كلمته التي ذكرناها آنفًا: ألم تريا أنى حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت، والموت دونها وقد روى هذه الأبيات أبو تمام في حماسته، وشرحها التبريزى نفسه، فشغله الاجتهاد في إعراب "دونها" مرفوعة، عن تمحيص العبارة، وعن الوقوف على معنى "حد الموت"، وفر إلى النحو والعروض يسود الصحف بوجوه تأويلها. ونسى أن يفسر "حد الموت"، وهي سورته وشدته وتلهبه في المعترك وهذا هو المعنى الذي جاء في قول البعيث "حد منكب": أي سورة النكبة وشدتها في القتال، ولم يعن الحد الفاصل بين شيئين.

وأما ثالث الثلاثة، فإنه عجل كعادته ولم يتثبت من معنى "على" في قوله "على حد منكب" فمعنى "على" في مثل هذه العبارة ينظر إلى معنى "في" أو "عند" ومن ذلك قول الحطيئة: وإن قال مولاهم، على جُلِّ حادث ... من الدهر: ردُّوا فضل أحلامكم، رَدُّوا أي عند حادث جليل ينزل بهم. وكذلك قول الفرزدق: على ساعة، لو كان في القوم حاتم ... على جوده، ضنت به نفس حاتم أي: في ساعة شديدة، لو شهدها حاتم لضن بالماء على أصحابه. ورحم الله إمام العربية شيخنا المرصفي، فإنه لم يعرج على سوء فهم التبريزى واستطالته في الدعوى، وقد قرأت عليه أبيات البعيث هذه أيام قراءتى عليه شرحَه لحماسة أبي تمام. وقد جاء في المطبوع من شرحه عند ذكر هذا البيت: "على حد منكب" بفتح الكاف، مصدر ميمى من نكبه الدهر ينكبه بالضم نكبًا: أصابه بنكبة. يريد، وقد أرهقهما العدو فبلغ منهما كل مبلغ". هذا، ومعنى الأبيات الثلاثة الأخيرة أن عبسًا ويزيد حين حمى القتال، حدثتهما نفسهما بالفرار وهما في سورة نكبة كريهة مستأصلة، فدعوا -كعادة العرب في الاستغاثة والتداعى عند القتال- فقالا "يآل بكر بن وائل"، وقد عجلا فظنا أنهما يدعوان عشيرتهما، وبينهما وبين العشيرة "مسيرة شهر للبريد المذبذب"، إذ كانوا في خراسان كما قلت آنفًا، لا في ديار قومهما وكانت هذه الدعوة وسوسة من وساوس النفس الأمارة، فالعشيرة كلها كما يعلمان، علما ليس بالظن، غائبة بعيدة، والقليل الذي حضر منها خاذل لهما مشغول بنفسه، إلا أنا، فإني حاضر لم أغب، وإذا دعيت فلا أخذل من دعاني. فإذا دعوا فقالا "يآل بكر بن وائل" فهما لم يدعوا أحدًا سواى أنا وحدى فكنت أنا الحامي حقيقة وائل ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي

فالبيت الثاني "وقد علما أن العشيرة كلها" بيان واعتذار عن كذبه في قوله: "دعانى يزيد. . . وعبس" وهما لم يدعواه باسمه هو، بل هتفا باسم عشيرتهم "بكر بن وائل" ومن أجل هذا المعنى قال البيت الأخير الذي بلغ به غاية الفخر بنفسه، وحق له. فقد كان سيدًا شريفًا شاعرًا، وكان أبوه حريث سيدًا شريفًا شاعرًا، وكذلك كان سائر أعمامه وبنى أعمامه. وفي البيت رواية أخرى جادلت عنها كتبى في هذين اليومين، فلم أهتد إليها لطول الترك والنسيان. وهي "وقد كانا على حَزِّ منكَب". أي في ساعة نكبة شديدة. والحز والحزة اليسير من الوقت، لأنه من معنى الحز وهو القطع. يقولون: "على أي حزة أتانا فلان! " أي في أي وقت ضيق حرج أتانا! ويقولون: "جئتنا على حزة منكرة" أي في ساعة منكرة شديدة. "وكيف جئت في هذه الحزة؟ ". ويقول أبو ذؤيب، يذكر جفاف الماء في شدة الحر، وانقطاعه حين لا يطاق الصبر عنه حتى إذا جَزَرَتْ مياه رُزُونِه، ... وبأيِّ حَزِّ مُلاوة تتقطَّعُ! ! (¬1) يقول: في أي ساعة منكرة شديدة ينقطع الماء، حين لا يستطاع الصبر عنه! فهذه الرواية تؤيد تفسيرنا، وتنفي عنه تحريف التبريزى وانتحاله واختراعه واجتهاده وأرجو أن يفسح لي القارئ العذر في الإطالة، كما أفسح الناس لتخليط التبريزى والناقلين عنه. ¬

_ (¬1) الرُّزُون: جمع رَزْن، وهي نُقْرَة في الصخر يتجمع فيها الماء.

ذو العقل يشقى. . .

ذو العقل يشقى (¬1). . . لولا أني أكره خلائق السوء، لما حملت هذا القلم لأرد به على هذا الذي تكلف مؤونة الجدال عن صاحبه (¬2)، ولولا أنه كتب ما كتب في الرسالة، وهي مألف قديم يحن إليه هذا القلم، لما غلبني على ما أدبت به نفسي من هجر صغائر الأمور. ومن خلائق السوء عندي أن يجهد كاتب قلمه في نقد ما أكتب، ثم أغفل رده إلى الحق إن أخطأ، أو متابعته على الصواب إذا أصاب. ومهما يكن رأيي فيما كتب الأستاذ، فإني أجد الحق يلزمنى أن أعود إليه بالتذكير والإبانة، غير متلجلج في استنقاذه مما تورط فيه، ولا مستنكف أن يكون في بعض كلامي هذا تكرار لما قلت، مما أرجو أن يكون إنما غفل عنه غير متعمد إن شاء الله. وأنا أقدم بين يدي الأستاذ الفاضل، معذرتى في أن أسامحه فيما وصف به ما كتبت، وما وقر في نفسه وأبان عنه بقوله إني اندفعت في سياق منبرى، أسرد الأدلة الخطابية، وأستثير النوازع العاطفية. وكان خليقًا به قبل أن يقول ما قال، أن يعرف أسلوبي فيما أكتب، ثم ينظر إلى بعيني مبصر متحقق: أصحيح أنى ألجأ إلى الخطب المنبرية، والأدلة الخطابية، والنوازع العاطفية، أم الحق أنى أتحرى أمرًا أنا مسئول عنه بين يدي ربى، أو على الأقل: أعتقد أنا أنى مسئول عنه بين يديه سبحانه؟ ! وإذا كان كثير من الناس قد نسوا أنهم محاسبون يوم القيامة، فإني لم أنس بعد، وأسأل الله أن يعينني على أن لا أنسى، وإن عد الأستاذ الفاضل هذا الكلام أيضًا خطبة منبرية، أو استثارة عاطفية! ولعل قراء الرسالة، لم يقرأوا ما كتبت في مجلة "المسلمون" (¬3) ولست ¬

_ • الرسالة، السنة العشرون (العدد 974)، مارس 1952، ص: 242 - 245 (¬1) بعض من بيت معروف للمتنبى، وهو: ذو العَقْلِ يَشْقَى في النَّعيمِ بعَقْلِهِ ... وأخو الجَهالةِ في الشَّقاوَة يَنْعَمُ (¬2) الذي تكلف مؤونة الجدالَ هو الأستاذ محمد رجب البيومى في مقاله بمجلة الرسالة، العدد 973، السنة العشرون، فبراير 1952، ص: 223 - 245. وأما صاحبه الذي جادل عنه فهو الأستاذ سيد قطب. (¬3) العدد الثالث، 39، السنة الأولى، ص: 247 - 255

أحب أن أعيد عليهم ما كتبت هناك، ولكني أحب أن أبين لهم عن أصل هذا النزاع الذي نازعنيه الأستاذ الفاضل. وذلك أنى رأيت كاتبًا بسط لسانه بسطًا عريضًا في دين جماعة صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هم: معاوية بن أبي سفيان، وأبوه أبو سفيان، وأمه هند بنت عتبة، وعمرو بن العاص. ثم أدخل معهم سائر بني أمية. وزعمت في هذه المقالة أيضًا أنى لن أناقش منهجه التاريخي: "لأن كل مُدَّع يستطيع أن يقول: هذا منهجي، وهذه دراستي" وقلت: "وأيضًا فإني لن أحقق في هذه الكلمة فساد ما بنى عليه الحكم التاريخي العجيب، الذي استحدثه لنا هذا الكاتب، بل أدعه إلى حينه" وقلت: "بل غاية ما أنا فاعل: أن أنظر كيف كان أهل هذا الدين ينظرون إلى هؤلاء الأربعة بأعيانهم، وكيف كانوا -هؤلاء الأربعة- عند من عاصرهم ومن جاء بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم". وأظن أني بهذه الكلمات قد حددت كل التحديد غايتى فيما أكتب. أظن ذلك، وأظن أيضًا أن لكل كاتب بعض الحرية! ! في أن يحدد ما يريد لنفسه في سياق ما يريد أن يكتب. وبخاصة إذا كان يريد أن يعرف الناس بشيء هم قد غفلوا عنه، وبخاصة في زمن أصبح العلم فيه لجاجات تكتب كما تكتب مقالات الصحف اليومية في المنازعات الحزبية! وبخاصة في أمر فيه نذير شديد من الله سبحانه! وبخاصة إذا كان هذا الكاتب يؤمن بأن الإنسان مسئول بين يدي ربه عن كل ما يقول وكل ما يكتب وكل ما يفعل! بيد أن الأستاذ الفاضل ظن أنه كان يجب عليّ أو لا غير هذا. إذ ظن أن صاحبه نقد معاوية نقدًا تاريخيا، فطالبنى أن أبين أن الوقائع التي ذكرها في كتابه غير صحيحة، ثم زاد شيئًا آخر عجل إليه فزعم أنى لا أستطيع أن أفعل شيئًا من ذلك، لأن صاحبه نقلها من كتب التاريخ ولم يخترعها اختراعًا، ولأنها معروفة لدى الصغير والكبير؟ ! فأظن أنا أيضًا أنى بينت عن طريقى في الكلمات التي نقلتها آنفًا، وأنى سوف أترك هذا إلى حينه. فلست أدري لم يعجل الأستاذ الفاضل كل هذه العجلة على امرئ مِثْلى، فيضربه بالعجز عن ذلك قبل أن يبين

عن حجته؟ فهذه العجلة هي هي التي أُنْكِرها على صاحبه، وأنكر أن تكون أدبًا يتأدب به العالم أو المتعلم، ومن الحق على كل عاقل أن ينهي نفسه عنها، وأن ينهي من يرتكبها، لأنها مخالفة لكل أصل من أصول العلم والتعلم، ولأنها تورث مرتكبها نفس الداء الذي أتى منه صاحبه الذي تهجم على ضمائر خلق الله، فكاد يقطع قطعًا جازمًا بنفاق معاوية وأبي سفيان وهند وعمرو بن العاص وسائر بنى أمية! من أين يعلم أنى عجزت أو أني سوف أعجز؟ لا أدري! ومثل هذا في الجراءة ما أتبعه من أسئلة إذ يقول: "من الذي ينكر أن معاوية حين صير الخلافة ملكا عضوضًا لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وحي الجاهلية؟ "ومن الذي ينكر أن بنى أمية بصفة عامة لم يعمر الإيمان قلوبها، وما كان الإسلام لها إلا رداء تلبسه وتخلعه حسب المصالح والملابسات؟ . . . "ومن الذي ينكر أن يزيد بن معاوية قد فرضه أبوه على المسلمين مدفوعًا إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام! "ومن الذي ينكر أن معاوية قد أقصى العنصر الأخلاقي في صراعه مع على، وفي سيرته في الحكم بعد ذلك إقصاء كاملا لأول مرة في تاريخ الإسلام، وقد سار في سياسة المال سيرة غير عادلة، فجعله للرشوة واللهي (¬1) وشراء الضمائر في البيعة ليزيد؟ "هذه وأمثالها أمور مسلمة في التاريخ، لا يستطيع الأستاذ شاكر أن ينكرها بحال. ونحن نعجب كثيرًا حين نجده في مقاله يلبس مسوح الوعظ والإرشاد. . . ." نعم يا سيدي الشيخ! نعم! فإني لمحدثك عمن ينكرها: أنا أنكر هذا كله وينكره المؤمنون من قبلى. وإذا كنت أنت وصاحبك تسلمان بها، فأنا لا أستطيع أن أسلم بها. وتقول: هذه دعوى ليس عليها بينة! فأقول: نعم، هي في هذا ¬

_ (¬1) اللُّهَا: جمع لُهْوَة، وهي أفضل العطايا وأجزلها.

السياق ليس عليها بينة، إلا أن آتيك بالدليل على بطلان ما ذهب إليه صاحبك الذي توليت الدفاع عنه. بيد أنك أسأت حين عجلت إلى شيء لم تعرف ماذا أقول فيه، وكيف أستطيع أن أتناوله بالنقد والتمحيص. ولو أنت صبرت حتى تعرف، لأتاك البيان عما أنكرت وما عرفت من أخبار صاحبك، التي وصفتها بأنها متلقفة من أطراف الكتب، لا أقول بلا تمحيص وحسب، بل أقول أيضًا بالحرص الشديد على تتبع المثالب القبيحة، وبالحرص المتلهف على اجتناب المناقب الفاضلة، وبالغلو الأرعن في سياق المثالب وفي تفسيرها، وفي تحليلها، وفي استخراج النتائج من مقدمات لا تنتجها، كما يقول أصحاب المنطق. وأنا أحب أن أخلع معك مسوح الوعظ والإرشاد خلعا لا رجعة بعده! فتعال أيها الشيخ إلى غير واعظ ولا مرشد! تعال حدثني وأحدثك، ودعنى ودعك من: "قال الله تعالى" و"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فإنهما في زماننا هذا -من مسوح المتدينين بلا دين! دعنا نعرف الكتب التي بين أيدينا لا نرفع بعضًا ونضع بعضًا، لأن هذه كتب تاريخ لا يوثق بها، ولأن هذه كتب أصحاب دين ووعظ وإرشاد يوثق بها! ثم ننظر بعدئذ بالعقل المجرد ماذا يكون؟ ! ودعنى أيها السيد أعيد عليك ما قلت في مقالك: "ونحن نقر أن معاوية كان حسن السيرة على عهد عمر، فولاه أعمال دمشق، ولكنه قلب المِجَنّ للتعاليم الإسلامية بعد مصرع عثمان. . . ." ولا أسألك من أين علمت أنه كان حسن السيرة على عهد عمر؟ ولكني أسألك: ألست تعلم أنه قد نشب الخلاف بينه وبين علي؟ فتقول: نعم ولابد. ثم أسألك: ألست تعلم أنه كان لهذا شيعة ولذاك شيعة؟ فتقول: نعم، ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن كل شيعة قد غلت في صاحبها وتعصبت له؟ فتقول نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن الأمر حين انتهى إلى معاوية واجتمع عليه الناس في عام الجماعة إذ أسلم إليه الحسن أمر الخلافة -لم تزل شيعة على باقية في الناس كشيعة معاوية؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن الخلاف بين الشيعتين ظل مستعرًا مدة بقاء معاوية ومن بعده؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن الحسين بن علي قتل في

عهد يزيد بن معاوية؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن مقتل الحسين وما تبعه من الحوادث في عهد يزيد بن معاوية قد أوقد نار العداوة بين شيعة على وشيعة معاوية؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن شيعة كل منهما قد انتشرت في الناس بما بينهما من العداوة؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن من هاتين الشيعتين العالم والجاهل؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن كل عالم أو جاهل كان يحدث عن خبر شيعته وخبر شيعة عدوه؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك ألست تعلم أن هذه الأخبار ربما كان فيها الصحيح والسقيم والصادق والمكذوب كما يكون في كل شيعتين متنابزتين؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن الأمر سار على ذلك إلى ما بعد انقضاء دولة بني أمية؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أنها استمرت إذن على ذلك منذ سنة 40 من الهجرة إلى وقت تدوين الكتب، أي في أواخر القرن الأول؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أنه ليس في أيدى الناس كتاب مكتوب قبل ذلك العهد؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن طريق القوم كان هو الرواية فحسب؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم عندئذ أن العقل يوجب أن تعرف راوي كل خبر حتى تتبين من أي الشيعتين هو؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أنه ظلم قبيح أن تأخذ الخبر لا تدرى من رواه، فتطعن به في أحد الرجلين، معاوية أو على، وأنت لا تأمن أن يكون كذبا صرفا؟ فتقول: نعم ولابد. فإذا صح كل هذا عندك ولم تشغب عليَّ فيه، فإني أراك رجلا صالحا، فهل تظن، ولا أقول هل تحقق عندك، أن هذا الطَّعَّان في معاوية وأهله، قد ميز هذا كله قبل أن يكتب ما كتب؟ فإن كان قد صح لك، فأنا أحب أن أعلم كيف صح لك، حتى أتبعك على الحق. وإن لم يكن صح عندك، وهو لم يصح عندي بعد، فدعني عند قولي لك: أنا أنكر هذا كله وينكره المؤمنون من قبلى واذكرني دائما بأني لا أعد أمثال هذه الروايات المجردة من رواتها، وفي مثل هذا الموضع المشتبه من العداوات، شيئًا يمكن أن أسلم به. فإني لا أحب أن

أستهلك عقلي في العبث والجهالات. واعلمْ أنى لا أنقاد لما لا بينة عليه، وأن للعقل شرفًا لا يرضى معه بالتدهور في مواطئ الغفلة وسوء الأدب. ولو أنت لم تعجل لكان البيان آتيك بعد قليل عن الذي أستطيعه من ذلك وما لا أستطيعه، غفر الله لك، أقولها خالصة من قلبي، بلا مسوح وعظ أو إرشاد! وأنا أخذتك من أهون المآخذ في طريق العقل، فهناك طرق أخرى أشق وأصعب في تمييز هذا العبث لم أدفعك إليها، وأرجو أن تصبر حتى تعرفها يوما، أو أن تحاول أنت أن تصل إليها بما أوتيت من حسن العقل، فإن المحاولة خليقة أن تفضى بك إليها. ولكن شرطها أن تدع العصبية لآراء الرجال، وبخاصة إذا كان هؤلاء الرجال ممن يبنون أقوالهم على الغلو والتسرع وسوء الفهم، وقبح المقصد، ومعاندة الحق لهوى في النفوس يعلمه الله وحده، ولكن يدل مطلعه على أنه هوى. فإذا فعلت استطعت أن توفر على نفسك مطالبتي بنقد الحوادث التاريخية التي رواها صاحبك "نقدا موضوعيا"! ومع ذلك فسأفعل حيث كتبت كلامي ما يرضيك. ولكن على شرط أن أجد عندك ما أحب لك من حسن الظن فيك: أن تعرف أن النقد الموضوعى الذي زعمت، ينبغي أن يسبقه التحقق من صحة هذه الحوادث تحققًا ينفي كل ظنة. وأستطيع أن أظن أنى قدمت لك في هذه الكلمة ما يجعلك تقف من هذه الروايات التاريخية! موقف المتردد على الأقل، أنفة لعقلك وأدبك أن يزلا حيث زل من دافعت عنه. أما الموضوع الذي نصبت له كلامي في مجلة "المسلمون" فهو سب الصحابة، وأظن أن الأستاذ يوافقني على أن كلام صاحبك خرج أولا عن أن يكون تخطئة لمعاوية، ثم خرج عن أن يكون طعنًا فيه، ثم خرج عن أن يكون سبا. خرج من هذه المراتب الثلاث إلى مرتبة رابعة، هي أن معاوية برئ من الإسلام، والإسلام برئ منه. فأدنى مراتب هذا القول أن يكون منافقًا، وآخرها أن يكون كافرًا بما جاء به الرجل الذي آمن به المسلمون وأمروا أن يسموه "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ومن العسير أن أكتب في هذا الموضوع الآن دون أن أتوشح بذيل من ذيول

"مسوح الوعظ والإرشاد"، فليأذن لي الأستاذ قليلا أن أَرُدَّ فضلة من الثوب الذي خلعت حتى أستطيع أن أوضح له: زعمت يا سيدي أن لي رأيًا، فقلت إني أثرت هذه العاصفة وحجتي الوحيدة: "أن كل صحابى رأى الرسول وسمع عنه قد اكتسب مكانة تحرم على كل إنسان أن ينقد أخطاءه أو يظهر أغلاطه". ويلك! نسبت إلى شيئًا لم أقله قط كما ستعلم بعد. فلا تنس إذن أن مثل هذا جائز أيضًا أن يكون وقع من مثلك قديما، فنسب إلى معاوية شيئا لم يقله كما نسبت أنت إلى شيئا لم أقله. ولكني كنت أحسن حظا من معاوية - رضي الله عنه -، فإن كلامي مكتوب منشور، أما معاوية، فقد روى الناس عنه شيئا ذهب أصله، لأنه لم يكتبه كما كتبت. صدقنى، فلست أدري من أين فهمت هذا الكلام الذي ترجمته؟ ولكن عذرك باد ظاهر، فإن دفاعك عن صاحبك دليل على أنك على الأقل تفكر كما يفكر، وهذه الطريقة هي نفسها طريقته التي أدعوك إلى فراقها حتى لا تهلك عقلك فيما لا يجدى. والذي قلتُه بعد الخطبة المنبرية التي زعمتها، والتي بدأتُها بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تسبوا أصحابي. . . ." هذا نصه: "وليس معنى هذا أن أصحاب محمد رسول الله معصومون عصمة الأنبياء، ولا أنهم لم يخطئوا قط ولم يسيئوا، فهم لم يدعوا هذا، وليس يدعيه أحد لهم. فهم يخطئون ويصيبون، ولكن الله فضلهم بصحبة رسوله، فتأدبوا بما أدبهم به، وحرصوا على أن يأتوا من الحق ما استطاعوا، وذلك حسبهم، وهو الذي أُمِروا به، وكانوا بعد توابين أوابين كما وصفهم في محكم كتابه. فإذا أخطأ أحدهم، فليس يحل لهم، ولا لأحد ممن بعدهم، أن يجعل الخطأ ذريعة إلى سبهم والطعن عليهم. هذا مجمل ما أدبنا به الله ورسوله. بيد أن هذا المجمل أصبح مجهولًا مطروحا عند أكثر من يتصدى لكتابة تاريخ الإسلام من أهل زماننا، فإذا قرأ أحدهم شيئا فيه مطعن على رجل من أصحاب رسول الله سارع إلى التوغل في الطعن والسب بلا تقوى ولا ورع. كلا بل تراهم ينسون ما تقضى به الفطرة من التثبت من الأخبار المروية، على كثرة ما يحيط بها من الريب والشكوك، ومن الأسباب الداعية إلى الكذب في الأخبار،

ومن العلل الدافعة إلى وضع الأحاديث المكذوبة على هؤلاء الصحابة"، (مجلة المسلمون عدد 3 ص 247). وأنا أكره أن أنقل كلاما لي من مكان، ولكنك استكرهتنى على نقله، حتى لا يقع في عقل أحد من قراء الرسالة، أنى مستطع أن أقول هذه القالة المنكرة القبيحة بكل مسلم: إن للصحابة مكانة تحرم على كل إنسان أن ينقد أخطاءهم أو يظهر أغلاطهم. هذه يا سيدي كلمة قبيحة جدا، وأقبح منها أن تجعلها ترجمة لكلام مكتوب باللغة العربية التي تكتب بها وتقرأ فيما أظن، ثم تنسبها إلى امرئ يعرف حق الكلام ويلتزم مقاطعه ومطالعه وحدوده، وما يوجبه اللفظ من المعاني، وما يتناوله من دقيق الاستنباط. وأنا أشهد كل قارئ أنى لم أقل ما قوَّلتنيه، وأدع له حق الحكم بيني وبينك أن يكون في كلامي حرف واحد يدل على أنى أردت بعض هذا المعنى الذي ترجمته كما ترجم صاحبك تاريخ معاوية ومن معه من الصحابة وتاريخ سائر بنى أمية. أفتظن أن قولى إنه لا يحل لأحد أن يجعل "خطأهم" ذريعة إلى سبهم والطعن فيهم معناه أنهم لا يخطئون، أو أن أخطاءهم لا تنقد؟ وأين ذهب عمري إذن، إذا كنت لا أعلم أن الصحابة أخطأوا، وأن علماءنا -رضي الله عنهم-، قد بينوا أخطاءهم حتى فيما هو من أمور دينهم؟ ولكن فرق كبير بين أن تذكر عمل الصحابي أو قوله، وتأتي بالبرهان على أنه مما أخطأ فيه، وبين أن تجاوز ذلك إلى الطعن فيه، ثم إلى سبه، ثم إلى إخراجه عن الدين، كما فعل صاحبك. وهذا فرق ليس بالخفي فيما أظن؛ ولا أظنك إلا تورطت فيه من شدة أثر صاحبك عليك، حتى خدعك عما أنت خليق أن تكون من أهله. هذه واحدة أرجو أن تكون راجعا عنها منتفيا من سوء أثر صاحبك عليك فيها. وأخرى تبين فيها سوء أثر صاحبك عليك: وهي تحديدك، فيما تزعم، لمعنى "الصحابي" واستدلالك بالكلمة التي جاءت في الخبر عن عبد الله بن أبي "معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه". فهذه كلمة ذكرها، يخشى أن تدور على ألسنة المشركين الذين لا يميزون مؤمنًا عن منافق، وكلهم عندهم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا أن رسول الله يسمى المنافقين أصحابًا له! !

وكيف وقد نزل عليه من ربه نفاقهم وكفرهم، ونهاه أن يصلى عليهم، وبينهم له بأعيانهم، فمعاذ الله أن يسمى رسول الله أحدًا من المنافقين الذين يعلمهم "صاحبًا". فمن سوء الأدب أن يقول مسلم: "فعبد الله بن أُبَيّ من أصحاب محمد كما ينطق الحديث"؛ ومن قلة المعرفة بالعربية أن يقولها قائل، ومن التسرع البغيض أن يلجأ إليها باحث، ومن ضعف المنطق والفهم أن يحتج بها محتج. فهي حكاية قول يخشى أن يقولوه، لا تسمية له باسم الصحبة. أعوذ بالله من الخطل! ورحم الله العرب ولسانهم! أما ما حاول الأستاذ أن يجعله تحديدًا لمعنى الصحابي، وهو ثلاثة أرباع مقاله، فأظننى لم أفهمه، ولم أدر ماذا كان يريد أن يقول ثم أخطأه. وأظن أنه أراد أن يقول في كل ما كتب: أن الصحابى هو الذي رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعه وآمن به ولازمه ومات على إيمانه، ولم يرتد. ولم يشهد له رسول الله بنفاق أو لم يُذْكَر فيه حكم خاص من رسول الله. وهذا حق، إلا أن الأستاذ أدخل شرط الملازمة، وهو باطل من وجوه كثيرة، لا أطيل بذكرها. ومع ذلك فإني أؤكد أن معاوية ممن صاحب رسول الله منذ رمضان سنة ثمان من الهجرة إلى أن توفي بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول من السنة الثانية عشرة من مهاجره إلى المدينة. وأما أبوه أبو سفيان فقد ولاه - صلى الله عليه وسلم - نجران وصدقات الطائف، ورسول الله لا يولى منافقًا! ! وأما عمرو بن العاص، فلا أظن الأستاذ يستطيع أن ينكر هجرته ومصاحبته وبلاءه في الإسلام، وأما هند فأسلمت يوم أسلم زوجها أو بعده بيوم في سنة ثمان من الهجرة. وهجران الأستاذ لمعرفة تاريخ هؤلاء الأربعة، عادة اكتسبها من الكتب التي يقرؤها، كتب تُكْتَب بلا بينة ولا حذر ولا معرفة. ولا أظن أني قرأت كلاما لم أفهمه، كالذي قرأته في مسألة الصحابة، وإن كان الأستاذ بالطبع يظن بكلامه غير ما أظن، ولكني أنصحه مرة أخرى أن يلتمس العلم في كتب من يُلْتَمَس عندهم العلم. وإذا كان يخشى على دينه -ومعذرة من ارتداء مسوح الوعظ والإرشاد- فليأخذ أمر دينه عن ثقة في تمييز الصحيح من

الزيف، والحق من الباطل، وليدعْ أصحاب الأهواء حيث رضوا لأنفسهم منازلهم من مزالق الهوى. وليستغفر ربه من الكلمة الكبيرة التي قالها حمية لصاحبه وغضبًا أنه "قد يوجد في القرن العشرين من هم أفضل بكثير من بعض من عاصروا الرسول العظيم". والظاهر أن الأستاذ لا يعيش في هذا القرن العشرين عيشة العارف البصير. والظاهر أيضًا أنه محتاج إلى معرفة كثير مما خفي عليه من شؤون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمر دين الله الذي أكمله للمؤمنين، وأتم عليهم نعمته، ورضيه لهم ولنا دينًا. ونصيحة أخرى إلى الأستاذ أن يضع عن يده عبء القلم، فإنه ثقيل ثقيل. ولولا الحياء من أن أترك كلامه ومنطقه في الكتابة بلا مجيب، لخففت عنه ثقل الكتابة، وثقل الفكر، وثقل القلم جميعا، بالصمت عما جاء به ودهوره (¬1) في أمور قلت معرفته بها، ويعجز فكره عن معاناتها والسلام. ¬

_ (¬1) دَهْوَرَ كلامَه: قَحَّم بعضَه في إثر بعض من غير فكر ولا رويَّة.

أعتذر إليك. .!

أعتذر إليكَ. .! أكتب هذه الكلمة محزون النفس لشيء اجترمته، كان أولى بي أن أصبر حتى لا أزل عليه. وذلك أني قرأت كلمة في بعض المجلات يقول فيها كاتبها: "فإذا مُنِع الفقير حقه، فله أن يقاتل عليه، لأنه الله يأمر بقتال الباغين {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} , ولا شك أَن مانع الحق باغ". فاحتملتنى العجلة وسوء الظن، أن أرى الكاتب قد استدل بالآية في غير مكان الاستدلال بها. فساء قولى في الرجل بين جماعات من الناس، إذ لم يقع لي إلا أن الآية في اقتتال طائفتين من المؤمنين ثم بَغْي إحدى الطائفتين على الأخرى. ولما سكن بى الليل أمس (السبت 12 جمادى الآخرة سنة 1371) حاك في قلبي شيء لم أدر ما هو، وألح على أنى اكتسبت في أيامى هذه إثمًا أخشى أن لا أفلت من عقابه. وارتفعت لعيني هذه الآية بختامها {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، فرأيت من العدل والقسط أن أرجع إلى تفسيرها، وإلى أقوال الأئمة في قتال أهل البغي، فعرفت ما لم أكن أعرف، أن بعضهم قد استدل بها في مثل ما استدل عليه الكاتب الفاضل، وإن كان لطريقة الاستدلال عندهم نهج غير نهجه، وقيد فيما أطلقه. وإذا أنا قد ظلمته ظلما لا ينبغي. فلم أزل منذ تلك الساعة أستغفر الله لما فرط مني وما جرى من لسانى من الكلم السئ، واستغفرت له بما أسأت إليه بظهر الغيب. فلما قرأت الرسالة في صباح ليلتي (الأحد 13 جمادى الآخرة)، كنت أوشك أن لا أحمل القلم مرة أخرى للرد على الكاتب الفاضل في مقاله: "أجل .. ذو العقل يشقى" (¬1). ولكني وجدت السبيل قد تيسر لي أن أعتذر من سيئة اكتسبتها في الإساءة إلى رجل بظهر الغيب، لنفس الداء الذي نهيت الأستاذ عنه، وهو العجلة. وأنا لم أقصد نُهْيَتَه إلا لما فيه خير له ولي إن شاء الله. ¬

_ (*) الرسالة، السنة العشرون (العدد 976)، مارس 1952، ص: 304 - 305 (¬1) مجلة الرسالة، السنة العشرون (العدد 975)، مارس 1952، ص: 273 - 274، والكاتب هو الأستاذ محمد رجب البيومي.

وقد تبين لي بعد قراءة كلمته أنى أخطأت أيضًا في الذي كتبت به إليه، فوقعت بما كتبت في نفس ما نهيته عنه. وما كان أغنانى عن هذه الخصلة السيئة التي تجلب على غضب أستاذ فاضل، لم أسمع به ولم أعرفه، ولا أظنه يعرفني. والأستاذ الفاضل بلا ريب هو عندي أكبر مما ظن في نفسه، وإذا كان هو قادرًا على أن يضن بكرامته، فالواجب علي أنا من قبله أن أضن بكرامته. وإذا كانت كرامته تأبى أن تنزل منزلة يُوَجَّه إليه من أجلها شيء يقدح فيها، فأنا أيضًا أنزهه عما ظن في كلامي من "الشتائم والتنقص والسباب". وإذا كان كلامي الطويل العريض، كما وصف، ليس فيه شيء يقنع المنصفين، وليس هو إلا فقرات مبعثرة مضطربة أسوقها مساقًا مهلهلا لا يعرف الدقة ولا الحدود، وإذا كان كل ما أقوله لا أبغي منه إلا إرسال الكلام في الهواء، وإذا كنت عنده لست مؤرخا، ولم أخط كتابا في التاريخ، وأني أدخلت نفسي في قوم لست منهم، فأظن أن واجبه على الأقل أن يلغى كل ما أقول بمرة، فإن من الشقاء له أن يتعقب كلام كاتب هذا شأنه. وأنا لا أستطيع صادقا أن أُفْهِم الأستاذ الفاضل شيئا مما أقول، فقد عرفت هذا بالتجربة، وإذا كان مما يرضيه أن أقول له إني مخطئ في كل ما قلت قديما، وما أقوله الآن، وما سوف أقوله إلى أن يكف لسانى وقلمى عن اللجاجة وإرسال الكلام، فأنا أقول له: إني أخطأت، وسوف أخطئ، ولن يسمع مني إلا ما أنا مقر على نفسي بأنه خطأ محض. وأزيده أنى عاجز كل العجز عن مقاومة حجته، وعن دفع براهينه، وعن التصدى لما يحسنه من العلم. بيد أنى أعود فأسأله أن يتغمد سوء أدبى بفضله، وإذا كان قد استخرج من كلامي سبابا وشتائم، فأنا أعيذه أن يكون غرضا لها، وأعتذر إليه، وأستغفر الله مما أزلفت إليه من إساءة، وله أحسن الأسوة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن بعض السفهاء لم يتورعوا قط عن سبهم والطعن فيهم، بأقبح اللفظ. فأين يقع مثلي من هؤلاء! فإني مهما ملكت من السباب والشتائم والبذاءة وسوء الأدب، فلن أبلغ بعض ما بلغوا من هؤلاء الصحابة، فلا عليه مني ومن سبابي وشتائمي. وليعلم الأستاذ الفاضل، إن

كان لا يعلم، أن هؤلاء السفهاء في الدنيا كثير، فإذا كان يغضب لكل سفاهة من سفيه، فإن شقاءه سيطول بغضبه، فدع السفهاء وليقولوا ما شاءوا، وكن أنت ضنينا بكرامتك، فإنها أعز وأغلى من أن تبذل على الألسنة. وتقبَّل إن تفضَّلتَ عذري وشكري واحترامي وتقديري، وعجزي عن مخالفتك، وحبى لرضاك، وقد بلغت مني في مقالك ما شئت، وناصيتى بيدك، وفي المثل: "ملكت فأسجح" (¬1). فافعل مؤيدا منصورا، والسلام. ¬

_ (¬1) يُضْرَب في العفو عند المقدرة. والإسجاح: حُسْن العَفْو.

كلمة تقال. . .! !

كلمة تقال. . .! ! أخي الأستاذ علي الطنطاوي سلام عليك. يقال في المثل: "كُرْهًا تَرْكَبُ الإبلُ السَّفَرَ" وقد استطعت أنت أن تُكْرِه القلم إلى ما أردت أن أنزهه عنه. فلولا ما أضمرتُ من قديم المودة لك، ولولا ما عرفت من صدقك، ولولا أننى أجلك عن أن تكون عجولا إلى غير صواب، ولولا أنى أكره أن تأخذ عني شيئًا لم أقله بلسانى، لولا ذلك كله، لكان أبغض شيء إلى أن أستكره نفسي على غير ما رأيتُ أنه أجمل لي وأصون. وإنك لتعلم، أيها الصديق القديم، أنى أكره أن أزداد من الشر، أو أن أتزود من لجاجة الباطل. والكتابة في زماننا هذا شر مستحكم، وباطل لجوج متوقح. وقد اقتحم وَعْرَها من لا يحسن المشى في سهولها، وتشهَّاها من لو أنصف نفسه لحال بينها وبين ما تشتهي، واتخذها صناعة من لو عقل لأعفى نفسه من مزاولتها. ولكن هكذا كان، ورحم الله الطائى إذ يقول لمحمد بن عبد الملك الزيات: أبا جعفر، إن الجهالة أُمُّها ... وَلودٌ، وأمُّ العلم جَدَّاء حائلُ (¬1) أرى الحَشْوَ (¬2) والدهماء أضحوا كأنهم ... شعوب تلاقت دوننا وقبائلُ غَدَوْا، وكأن الجهل يجمعهم به ... أبٌ، وذوو الآداب فيهم نَواقِلُ (¬3) وأنت تعلم أن من أنصب النَّصَب، أن تتصدى لإفهام من لا يفهم عنك، ¬

_ (*) الرسالة، السنة العشرون (العدد 979)، إبريل 1952، ص: 383 - 384 (¬1) الجداء: التي جف لبنها، لكبر سنها. والحائل: التي لا تحمل. (¬2) الحشو: مَن لا خير فيه، ولا عنده عقل يميّز به شيئا عن شيء. (¬3) نواقل: جمع ناقلة، وهي شِبْه الزيادة يلحق بالصميم ولا يحتاج إليه.

فإذا بلغ الأمر أن تراه ينتصب لجدالك، فاذكر قول من قال: إذا أردت أن تفحم عالما فأحْضِرْه جاهلا. وقد لقيت أنا من شر ذلك ما لقيت، فآثرت أن أسلك سبيلى لا يشغلنى عنه متعلق بأذيالى، إرادة أن يصرفني عن الوجه الذي أردت. ولقد قرأت كلمتك في الرسالة، فأسفت أشد الأسف، لأني عرفت منها أنك لم تقرأ ما كتبتُه في مجلة "المسلمون" وفي أربعة أعداد منها. ولو كنتَ قرأتها لما كتبت ما كتبت، لأني لا أشك في ذكائك وحسن فهمك، فأنا لم أتعرض في شيء منها لبنى أمية أو بنى العباس، ولا لحكمهم، ولا لسياستهم؛ فعجبت أشد العجب كيف يمكن أن تكون معى أو على في أمر لم أقل فيه كلمة، ولا يعلم أحد ممن كتب رأيي فيه، ولا كيف أقول إذا أنا تعرضت للبيان عنه؟ فمن أجل ذلك عجبت، لأنك لم تنصف على عادتك من الإنصاف. وأنا محدثك باختصار عن هذا الذي كتبته. أصل ذلك كله أنى رأيت من كتب من المُحْدَثين في شأن تاريخ الماضين من أسلافنا، يكتب أو يتحدث بأسلوب أقل ما يقال فيه أنه مشوب بالحماقة الشديدة، مختلط بالجهالة المتراكبة، في معرفة أصول التاريخ، مغموس في حمأة من الافتراء والتطاول، مستنقع في أهواء سيئة رديئة. وزعمت أن للناس أدبا وأسلوبا في كتابة التاريخ، وأن للمسلمين خاصة أدبًا وأسلوبًا في التاريخ ينبع من أصل دينهم، في العدل، وفي حسن النظر، وفي الأناة في طلب الحق، وفي كف اللسان عن التهجم بالقول السئ على عباد الله بلا بينة، وفي التناهي عن اقتفاء المرء ما ليس له به علم، وفي التثبت من الأخبار قبل تصديقها. وهو أدب كما تعلم كان قديما في كتبنا، ولكن حضارة هذا القرن قد نشرت وباء شديد الفتك، ذهب بأكثر هذا الأدب، وأخذت في طريقى أضرب المثل على هذا بكاتب رأيته لم يتورع عن سلب الناس دينهم، ولم يخش الله في نفي الإسلام عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي تصوير أعمالهم بصورة أعمال المنافقين، وفي أخذ الروايات الباطلة وجعلها دليلا على الغميزة في إيمانهم، وفي رد الروايات الثابتة الصادقة بروايات كاذبة ادعاها مدع من الرافضة، إلى غير ذلك مما سأبينه فيما أكتب في مجلة

"المسلمون" وزعمت أن هذا ليس ديدن هذا الكاتب وحده، بل صار ديدنا لأكثر من يكتب الآن في شيء من تاريخ هذه الأمة المسلمة، حتى صار الطعن في صحابة رسول الله أمرًا مرتكبا بلا حذر. وما دمت لم أزد في كلامي على هذا، فلست أدري بعدُ ما الذي يحملك على أن تخذلني أو تنصرني في أمر لم أنطق بعد فيه بكلمة! نعم! قد يكون رأيي فيما أبديت أنت فيه رأيك، مخالفا لك، ولكني لم أتكلم بعد فتعرف حجتى فيه. بل لعلى إذا كنت لك مخالفا، ثم عرضت عليك خلافي لك، أن تكون أسرع إلى موافقتى شك إلى الخلاف عليّ، حين ترى فيما أقول صوابا يرضيك. أليس هذا جائزا، وممكنا أيضًا؟ فإذا رأيتنى بلغت في سياق مقالاتى في "المسلمون" إلى ذكر دول الإسلام، فعندئذ فقل، فأنا أقبل منك ما تقول. واعلم أنى لا آنف أن أصير إلى الحق إذا عرفته. ولقد عشت على هذه الأرض زمانا طويلا، واعتقدت منذ عقلت آراء كثيرة، ثم تبين لي أن الحق في خلافها، فرجعت عنها جملة، ولم أبال بما كنت أرى. ولعلك أنت خاصة تعلم من ذلك ما لا يعلمه غيرك. وأنا أحب أن ترجع إلى ما كتبته في مجلة "المسلمون" ولا تأخذ كلام أهل اللجاجة، فإنهم أوهموك، فيما أظن، أنى قلت شيئا، والحقيقة أنى لم أقل بعد فيما تناولته أنت شيئا، وأنا أعيذك أن تتورط، في هذا الشر الذي نجاهد جميعا في دفع الناس عنه، وهو أخذ الأقوال بلا بينة، وبلا حجة، وبلا برهان. ولك مني تحية كنت أحب أن تبلغك، على غير هذه الراحلة المكرهة على ارتكاب طريق دنسته الأقدام، والسلام.

فيم أكتب!

فيم أكتب! إلى أخي الأستاذ الزيات السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد، فقد دعوتنى فاستجبت لك، رضى بك وعنك. بيد أنى أجبتك ساخطا على نفسي، والجمرة الموقدة أبرد مسا من سخطة امرئ على نفسه. كنت عزمت أن أدع هذا القلم قارا حيث هو، في سِنَةٍ لا تنقطع، يعلوه صدأ لا ينجلى. وظللت أيامًا أسأل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامى في باطل لا ينقشع؟ * * * بقى ما كتبته لك آنفًا معلقًا يومًا كاملا، حتى خلتنى مخلفًا لك موعدى. والساعة ذكرت أمرًا: ذكرت أنى ختمت مقالاتى المتتابعة في الرسالة، منذ خمس سنوات تقريبا، بسؤال آخر: "لمن أكتب؟ " (¬1). وقلت يومئذ إني لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحس من سر قلبي أنى إنما أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو. أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد بعد سوف يقدر له أن يقرأنى؟ ووصفت يومئذ شراذم الساسة الذين لوثوا تاريخ الحياة الإسلامية والعربية، في حيث كان الإسلام وكانت العرب. ووصفت رجال العلم المتعبدين لسادتهم من أهل الحضارة الفاسدة التي تعيش بالمكر والحقد والفجور. ووصفت أصحاب السلطان في الشرق، وهم حثالة التاريخ الإنساني، ووصفت أهل الدين، إلا من رحم ربك، الذين يأكلون بدينهم نارًا حامية. وزعمت أنى لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المطبقة المحيطة بنا، فيدفعهم حب الحياة وحب الخير، إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم. ¬

_ (*) الرسالة، السنة الحادية والعشرون (العدد 1018)، 5 يناير 1953، ص: 9 - 11 (¬1) عدد الرسالة: 766 في 26 ربيع الآخر سنة 1367، 8 مارس سنة 1948

ثم ذكرت هذا الرجل الذي طواه الغيب إلى ميقاته، فأنا أكتب له حتى يخرج من غمار هذا الخلق، وينفرد من هذه (السائمة)، ليقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي تنبض به ضمائر قلوبها. رجل خلطت طينته التي منها خُلِقَ بالحرية. فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبدًا لأحد من خلق الله. يسير بين الناس فتسرى نفسه في نفوسهم، وتموج الحياة يومئذ بأمواجها، ثم لا يقف دونها شيء مهما بلغ من قوته وجبروته. وزعمت أن الشرق العربي والإسلامي، ينتظر صابرًا كعادته هذا الرجل، وأننا قد أشرفنا على أمر قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل، لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد أرضعنا الدهر بلبانها منذ الأزل البعيد. ثم ختمت كلامي بهذه الفقرة: فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا قليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة، يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة، التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتْر منها شريك" (¬1). كتبت هذا يومئذ، والناس في ظلمة ليل بهيم. ومنذ ذلك اليوم والأحداث في الشرق العربي الإسلامي آخذ بعضها برقاب بعض. وحركت الأحداث المتتابعة نواعس الآمال، فهبت تمسح من عيونها النوم المتقادم. ثم حملقت في أكداس الظلام المركوم، فأوهمتها اليقظة أن الظلام من حولها يومض من بعيد ببصيص من نور. فتنادت الصيحات بانقشاع الظلم: وافرحتاه! وصرخت وأنا في محبسي: واحسرتاه! أعمى رأي الظلام نهارا! كانت الدنيا يومئذ ظلامًا، ونعرفها نحن ظلاما. والمعرفة دائما تفضى إلى خير. ثم أصبحت الدنيا أشد ظلاما. ونتوهمها نحن نورا ينبثق. والتوهم مفض ¬

_ (¬1) الفِتْر: مسافة ما بين السبَّابة والإبهام.

أبدا إلى أفحش الشر. المعرفة بناؤها على الصدق، والتوهم عماده الكذب. ولا فلاح لشيء إلا بالصدق وحده. لقد طرأت على هذا العالم العربي والإسلامي طوارئ، فإذا لم يصدق نفسه فلا نجاة له. واحتوشته (¬1) الأمم المفترسة بأساليبها الظاهرة والخفية، فإذا لم يصدق النظر فلا خلاص له. لست قانطا ولا مقنطا. كما يتوهم من يحب أن يتوهم. ولكني أرى بلاء نازلًا بنا. ونحن نخوضه كأنه رحمة مهداة. وبئس ما نفعل؟ وبئس مطية الأعمال الكذب. من حيث أتلفت أرى وجوها تكذب، ووجوها مكذوبا عليها. وأسمع أصواتا تخدع، وآذانا مخدوعة بما تسمع. وأقرأ كلاما غمس في النفاق وفي التغرير غمسا. وألمح في عيون المساكين ممن قرأوه غفلة تتلألأ بفرحة ولكنها فرحة لا تتم عليها إلا بالعصى المطبق عن الحق والصواب. إن هذا كله إعداد للمجزرة الكبرى. حيث تذبح الآلاف المؤلفة منا بمدى حداد اسْتُخْرِج حديدها من معدن القلوب المضطغنة بالعصبية، المنهومة بالمنفعة. وأَمْهاها (¬2) ماء الحقد الصليبى الوثني، وأرهفت بلذة الفتك الذي لا تطفأ ناره. إن الذي نعيش فيه اليوم حياة قد مهد لها جبابرة الدهاة؛ لا أقول منذ عام أو عامين، بل منذ أكثر من مئتى عام. حطم كل شيء قليلا قليلا حتى خر البناء كله. ثم انبعثت من تحت الأنقاض حيات خبيثة تلبس إهاب البشر. غُذِيَت بالسم الذعاف حتى صارت لحمًا وسما. لا لحمًا ودمًا؛ ولا يعنيك أو يعنينى أن ننظر: أهي تعرف نفسها وتدرك أنها مسخت أفاعى في مِسْلاخ (¬3) إنسان، أم تراها لا تعرف ولا تدرك؟ ليس يعنينى هذا ولا يعنيك؛ بل يعنينا -ويعنيها هي أيضًا- أن نصدق المعرفة أنها حيات تنفث سمها في حياة الناس؛ في حياة الغافلين النائمين. فمن استعصى عليها فتكت به؛ ومن أطاع لسمها مسخ كمثلها ¬

_ (¬1) احتوشته: أحاطت به من كل جانب واجتمعت عليه. (¬2) أمهاها: أَحَدَّها وصقلها. (¬3) المِسلاخ: الجِلْد.

حية تسعى. فإذا قدر لهذه الحيات أن تبلغ الغاية التي مسخت لها؛ فلن يتم ذلك حتى تكون الأرض العربية والإسلامية كلها خرابًا من البشر الأحرار؛ خرابا تعمره العُمَّار من أفاع وحيات وأصلال (¬1). من مخافة هذا اليوم كنت أكتب قديمًا ما استطاع هذا القلم أن يكتب، ثم وجدتني فجأة في موج متلاطم من الضلالات، تتقاذفه ضلالات العلم المكذوب، وضلالات الرأي المدلس، وضلالات السياسة الخداعة. وإذا الأرض من حولي تعج بترتيل مظلم مخبول؛ وإذا السماء من فوقى تهتف بتسبيح كالح مزور؛ وإذا صوتى يضيع في سمعى؛ فهو إذن في أسماع الناس أضيع؛ وتردد في صدري شعر الحكمى؛ فاستمعت له وسكت: مت بداء الصمت خير ... لك عن داء الكلام إنما السالم من ... ألجم فاه بلجام فلما دعوتنى فأجبت، انقلبت أسائل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامى في باطل لا ينقشع؟ إن بيني وبين الأسماع والأبصار والقلوب، حجابا صاخبًا من غماغم الدجاجلة، وهماهم الأفاكين، وثغاء أهل (¬2) الغش، وضغاء (¬3) أخدان النفاق. . . ويذهب قولى باطلا ويضيع صوتى مختنقا، ولم أجن عندئذ من حياتى إلا شقاء يقول فيه القائل: "إن الشقىَّ بكل حبل يُخْنَقُ"، حتى حبل الحق والصدق! حتى حبل الحق والصدق! .. وإنك لتعلم: أن لو أنى عرفت للكتابة ثمرة، لما توقفت ساعة، ولما أبطأت دون ما وجب على. بأي لسان أستطيع أن أفتق للناس أسماعا غير الأسماع التي طمها الكذب المسموع؟ وبأي قلم أستطيع أن أسلخ عن العيون غشاوة صفيقة لبسها بها ¬

_ (¬1) العُمّار: أراد بها أستاذنا الحَيَّات التي تسكن البيوت، وفي حديث قتل الحيات "إن لهذه البيوت عَوامِر"، أي حَيَّات، ثم فصَّل أستاذنا أنواعها من أفاع، وحيات، وأَصْلال، وهذه الأخيرة جمع صِلّ. (¬2) الثُّغاء: صوت الغَنَم والظباء وما شاكلها. (¬3) الضُغاء: صوت الذئب والثعلب والحيات، واستعير للإنسان.

الكذب المكتوب؟ وبأي صوت أستطيع أن أنفذ إلى قلوب ضرب عليها نطاق من الكذب المسموع والمكتوب؟ بأي لسان، وبأي قلم، وبأي صوت؟ ولكنه، على ذلك كله واجب، وإن كان جهدا لا ثمرة له! وهو كذلك، وإذن فليس لي أن أسأل نفسي: فيم أكتب؟ ولم هذا العناء والنصب؟ وعلام أزهق أيامى في باطل لا ينقشع؟ وإذن فقد كُتب على أن أنصب وجهي لهذا الشقاء الصَّيْخود، لا أبالي أن أحترق، ولا أحفل أن أعود سالما، ولا آبه لما يصيبني، مادام حقا عليّ أداؤه. إنها أيام بلاء ومحنة من عدونا حيث بلغ منا كل مبلغ، ومن أنفسنا، حيث صار كل امرئ منا عدو نفسه وعقله، عدو تاريخه وماضيه، عدو مستقبله من حيث يدرى ولا يدرى. إنها أيام ضلال وفتنة، تدع الحليم الركين حيران بلا حلم ولا ركانة، تدع البصير المهتدي أعمى بلا بصر ولا هداية، تدع الصادق الحازم غفلا بلا صدق ولا حزامة. ولكنها على ذلك كله، كُتِبت على الحليم الركين، وعلى البصير المهتدى، وعلى الصادق الحازم -أن يعيش في شقائها بلا ملل، وأن يكون فيها كما قال شاعر الخوارج، عمران بن حطان، في أهل الدنيا: أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ... على أنهم فيها عراة وجُوَّعُ فمنذ حملت إليك هذا القلم، استجابة لدعوة لم أجد ردها من الأدب ولا من الوفاء في شيء، عرفت أنى سوف أكتب كما كتبت قديما، لأتعجل انبعاث رجل من غمار أربعمائة مليون من العرب والمسلمين، تسمع يومئذ لحكمته الأجنة في بطون أمهاتها، وتهتدى بهديه الذرارى في أصلاب الآباء والأمهات. ولكنك بعد، قد أنزلتني بحيث يقول القائل: حيث طابت شرائع الموت، والمو ... تُ مرارا يكون عذب الحِياضِ فأنا إن شاء الله بحيث أحببت لي أن أنزل، والسلام

أبصر طريقك

أبصر طريقك (¬1) منذ ظهر دين الله في الأرض، وتدافعت أمواجه شمالا وجنوبا وشرقًا وغربًا، وضرب تياره أسوار العالم المحيط به، وطهر بلادًا كثيرة وغسلها مما فيها من الشرك والكفر والإهلال لغير الله سبحانه، أخذت تتجمع في أطرافه عداوة لا تنام، وبقيت هذه العداوة تنازل جنود الله عامًا بعد عام في ثغور الإسلام. ثم احتشدت هذه العداوات المتفرقة في الثغور حشدا واحدا، بدأت به الغزوات المتلاحقة التي عرفت في التاريخ باسم الحرب الصليبية. وظلت هذه الحروب مشبوبة قرونا طويلة، وأداتها السلاح والجيوش والمواقع. ثم انتهت حرب السلاح والجيوش، إذ وضع العالم الإسلامي سلاحه، بل أصح من ذلك، أن العالم الإسلامي يومئذ لم يكن معه سلاح يضعه أو يرفعه. وإذا كان فيه سلاح، فهو سلاح لا يغني عنه في لقاء هذه الأسلحة الجديدة التي جاءت مع الغزاة. ومن يومئذ انتقلت الحرب الصليبية من ميادين القتال إلى ميدان آخر: هو الحياة نفسها! كانت خطة الحرب الصليبية الجديدة، هو دك الحياة الإسلامية كلها: تدك بناء هذه الحياة، وتدك علمها، وتدك آدابها، وتدك أخلاقها، وتدك تاريخها، وتدك لغتها، وتدك ماضيها. وفي خلال ذلك ينشأ بناء جديد لهذه الحياة، بعلم غير العلم الأول، وأدب غير الأدب، وأخلاق غير الأخلاق، وتاريخ غير التاريخ، ولغة غير اللغة، وماض غير الماضي. ويأتي يوم فإذا الهزيمة واقعة كما وقعت في الميادين. ويصبح العالم الإسلامي وليس معه من الحياة التي كان بها عالما ¬

_ (*) الرسالة، السنة الحادية والعشرون (العدد 1020)، 19 يناير 1953، ص: 89 - 91 (¬1) جاءت هذه العبارة في عجز بيت لمُضَرَّس بن رِبْعِىّ: * أَبْصِرْ طَرِيقَكَ لا يَشْخَصْ بكَ البَصَرُ *

صحيحا، إلا بقايا لا تغني عنه، كما أصبح يوما في ميدان الحرب، ومعه بقايا أسلحة لا تغني عنه شيئا. جاءت الغزوات الصليبية الجديدة متلاحقة سريعة نفاذة تنشر طلائعها الأولى في كل مكان، مزودة بالفهم والإدراك والمعرفة، بطبيعة هذا الميدان الجديد، فتلقى قوما قد سلبوا الفهم والإدراك والمعرفة لطبيعة هذا الميدان. ولكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أن هذه الطلائع عدو لهم، فقاومهم من قاومهم بما تستثيره الفطرة من بغض العدو والشك فيه، وإن جاء في ثوب المسالم والناصح. وتهاوى آخرون، فوقعوا في حوزة العدو، إذ غرتهم مسالمته وخدعهم نصحه، وظلت هذه الحروب دائرة بيننا وبينهم أكثر من مئة وخمسين عاما، في سكون وصمت، ولجاجة وحرص، وقوة وحذر، ومعرفة وبصر، حتى بلغ العدو منا مبلغا لم يكن في أول الأمر يظن أنه يبلغه. فقد تهاوى البناء كله فجأة. وأصبحت الحياة الإسلامية أطلالا يناديها الفناء فتجيب بلا مقاومة ولا عناد. ذهب كل شيء يكون للحياة البشرية قواما وعمادا: ذهب العلم والأدب والأخلاق واللغة والتاريخ، وجاءه الغزاة بما يحل مكانه من علم وأدب وأخلاق ولغة وتاريخ. ذهب الذي كان ينبع نبعه من كتاب الله، ومن حياة الأمة المسلمة، وسنة رسوله، وجاء الذي ينبع نبعه من الحياة الوثنية القديمة، ومن المسيحية المحدثة، ذهب الذي كان يتحدر إلينا كما تتحدر الوارثات من أصلاب الآباء إلى أصلاب الأبناء، وجاء الذي يتحدر إلينا كما يتحدر السيل الجارف لا يبقى ولا يذر. ذهب شيء وجاء شيء، فتغير نظرنا وفكرنا، وتغير إدراكنا ومعرفتنا، وتغير شعورنا وإحساسنا، وتغير لساننا وبياننا. فعدنا ننظر في الكتاب الذي هو كتابنا، وأخبار النبي الذي هو نبينا، وآثار الماضين الذين هم آباؤنا، فأنكرنا ما وجدنا في ذلك كله، فطرحه منا من طرحه وراء ظهره ولم يبال به، وتهيب منا من تهيب فوقف لا يدرى ماذا يفعل، وبقيت طائفة لا تطرح ولا تتهيب، فطلبت مخرجا من هذا الشيء الذي تنكره إنكارًا خفيفا، وهو في هذه الصورة التي جاء عليها من التراث الماضي. فرأت المخرج في تجديد التراث

الماضي تجديدا مقاربا، يطابق الحياة الجديدة من وجوه، وينكر الحياة القديمة من وجوه أخرى. ومن يومئذ انقسم العالم العربي والإسلامي إلى طائفتين: طائفة منكرة لا تعبأ شيئا بالحياة الماضية كلها، وطائفة لم يبلغ بها الإنكار أن لا تعبأ، فالتمست تجديد الحياة الماضية على أسس جديدة. وإذا هذه الأسس التي تريد أن تؤسس عليها، هي في جوهرها مستمدة كلها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بين ظهرانينا. * * * هذه صورة مصغرة للحياة في العالم الإسلامي الحاضر. لا يدركها المرء حتى يعلم أن العالم الإسلامي مقبل على خطر أبشع من خطر الغزو الصليبى الأول بالسلاح، مقبل على هزيمة منكرة تكون عاقبتها تبديل الإسلام تبديلا كاملا حتى لا يبقى له من ظل الحق إلا ما بقي من ظل المسيحية الحقة في العالم المسيحي الحاضر. ودعاة هذا التبديل، علموا أو لم يعلموا، قد تعاووا في كل مكان باسم الدفاع عن الإسلام، وباسم إحياء الإسلام، وباسم تجديد الإسلام. وهم يعملون جاهدين على أن ينشروا دينهم الجديد -كما ينبغي أن يسمى- بجميع الوسائل التي يظنون أنها تفضى بهم إلى الدفاع عن الإسلام أو إحيائه أو تجديده. وهم على مر الزمن، سوف يتركون آثارا عميقة في حياة العالم الإسلامي الحاضر، وسيتبعهم تابعون يقتفون آثارهم، مبعدين عن النهج الأول الذي بنى عليه هذا الإسلام الذي يدافعون عنه أو يحيونه أو يجددونه! بل إن هؤلاء أنفسهم قد كانوا خلفاء لجيل سبق من قبلهم، أعمته الحياة التي بهرت عينيه وزلزلت عقائده، فطلب كما يطلبون، الدفاع عن الإسلام وإحياءه وتجديده، على أسس لم يستمد أصلها من الحق الذي في دينه، بل من أصل بعيد هو الحياة التي يحياها العالم الصليبي الذي غلب وقهر وظهر مجده في هذه الأرض. إن هذا الوباء الذي يجتاح العقل الإسلامي والحياة الإسلامية، قد نفذ إلى

كل ركن في هذا العالم، وسارت حُمَيَّاه سَوْرَة مستبدة بكثير من رؤوس الدعاة. وانطلقت الألسنة مسرعة تريد أن تبني بناء عقليا جديدا لهذا الإسلام الذي تهدم بناؤه القديم، فما تجد لسانا إلا وهو يرسل طوفانا من الكلام بلا حذر ولا توقف، وكل لسان يرى في الذي يرسله مادة صحيحة لبناء هذا العالم المتهدم. وأصبح كل داعية إمامًا يقتدى به. والمقتدون به لا يعلمون شيئا إلا أن هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلا صحيحا من أصول هذا الإسلام الذي يدعوهم إليه. وكل داعية يظن نفسه ينبوعا يروى الظامئين، يسألونه فيجيب، فيطوفون به طواف الوثني بالصنم. مادة علمهم أن يستمدوا منه ما يجود عليهم به. ولا يجد أحدهم متسعا أن يلتمس علمه إلا من فيض لسان هذا الإمام الداعى. والإمام مشغول بالتماس المعاني التي يفيضها عليهم، وهم لا يسألونه من أين يأتي بها. وكل داعية مشغول بإعداد المادة لمن يتبعه، لا يحذر ولا يخاف ولا يتحرى. وكل داعية مشغول عن الداعية الآخر، لا ينظر في أمره ولا يتعقبه ولا يقول له من أين جئت بهذا. بل لعله يغفل عن أفسد الفساد في قوله وفعله، وأقبح القبح الذي يبثه في أتباعه، لأنه يقول لنفسه إننا مشغولون جميعا برم هذا البناء الذي تهدم، بل ببناء شيء هو خير من الذي تهدم. وكل داعية منهم هو في الحقيقة منكر للحياة الأولى للإسلام، ولكنه يريد أن يقاوم الفناء بأن يستخرج من نواحي هذه الحياة ما يقنع هو به، ويقنع بعض الناس به: إن في ماضي الإسلام ما يمكن أن يكون مماثلا للحياة الحاضرة، أو تصحيحا لبعض أخطاء الحياة الحاضرة. بيد أنه لا يصل إلى ذلك إلا بنظره هو، وتفكيره هو، بصورة يرتضها هو، ولا يبالى أن يكون استدلاله في غير موضعه، ولا أن يكون فكره قد فسر الأشياء على غير ما ينبغي أن تكون عليه، أو على غير ما كانت عليه. فأعمال هؤلاء الدعاة، ليست في الحقيقة إلا ضربا من هذيان هذا الوباء المقرون بالحمى، ليس له أصل إلا فورة الدم في المحموم. فإذا استمر أمر الإسلام على هذا الذي نراه، فقد انتهى كل شيء. وإذا قدر لهذا العالم الإسلامي أن تعتزل طائفة منه هذا الخبل الخابل، لتعيد النظر في الأصول الصحيحة لدينها،

والتي لقى بها هذا الدين عالم الشرك والكفر فدكه ومزقه، وأقام فيه بناءً قاوم الفناء ثلاثة عشر قرنا، فيومئذ تبدأ المرحلة الأولى لجهاد طويل شاق، يتحدى طواغيت الكفر بإيمان صحيح، لا تشوبه شائبة من هوى أصحاب الأهواء، بل هو طاعة الله ورسوله، لا يغني غيرها شيء يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وأعود فأقول: من ظن هذا تشاؤما وتثبيطا فليظن ما شاء له الظن! وليس يغني عن الأعمى شيئا أن تقول له أنت مبصر بعينين لماحتين، ولا عن المغروس في حومة الهلاك أن تقنعه بأنه خالد ليس للموت عليه سلطان.

باطل مشرق

باطل مشرق لم أكد أفرغ لنفسي، وأنفض عن فكري مثاقل الهم الفادح الذي أتحمله إذا كتبت في شأن هذه الأمم المسلمة -حتى دخلتْ في خلوتى أيام وليالٍ، تعلمنى أن الباطل المشرق، صنو الباطل المظلم البهيم. بل إن الباطل المشرق أضرى وأفتك بالبشر من صنوه وأخيه المظلم. للباطل المظلم ردة، كَرَدَّة الوجه القبيح (¬1)، يزوى لها الناظر ما بين عينيه، ويرد بصره معرضا عما يرى فيه من قبح. أما الباطل المشرق المضئ، فله فتنة تنادى، كفتنة وجه الحسناء الخبيثة المنبت، تأخذ بعين الناظر، فيقبل عليها ملقيا بنفسه في مهالك هذا الجمال الآسر، وإذا المنبت الخبيث درة مستهلكة في هذا التيار المترقرق من فتن الحسن والهوى. وهذه الرقعة المتراحبة من حدود الصين إلى المغرب الأقصى -والتي تسكنها أمم ورثت اسم الإسلام، فنسبت إليه؛ ووصفت به- تعيش اليوم في بريق متلالئ من هذا الباطل المشرق. فمنذ أكثر من مئتى سنة، ضربها الغازى الصليبى المستعمر ضربة رابية (¬2)، حتى خرت عاجزة، ثم ظل يضربها حتى همدت أو كادت. وفي خلال ذلك كان الغازى يستحييها بحياة غريبة عنها حتى يأتي يوم تتبدل فيه من حياة كانت إلى حياة سوف تكون. وكذلك يقضى قضاء ساحقا على أسباب الحياة الأولى، الحياة التي كانت تعرف بالحياة الإسلامية. ثم جاء اليوم الذي ظن فيه هذا العالم أنه ارتد إلى الحياة مرة أخرى. ونعم، إنه ارتد إلى حياة مرة أخرى، ولكن أي حياة! ما على الآلاف المؤلفة التي تدب في أرجاء هذا العالم من مثل هذا السؤال؟ ¬

_ (*) الرسالة، السنة الحادية والعشرون (العدد 1022)، 2 فبراير 1953، ص: 164 - 166 (¬1) الرَّدَّة: يقال في فلان رَدَّة، أي يرتدّ البصر عنه من قبحه، وأصل الرَّدَّة تَقَاعُس في الذقن. (¬2) رابية: شديدة.

إن حب البقاء في الحي الفرد، أقوى من العقل، أقوى من حب المعرفة، أقوى من حب المال. فإذا ظفر بالبقاء على أمه الأرض، فقلما يبالى بشيء غير هذا البقاء. ولكن الحياة الإنسانية مجتمعة لا تستقيم بحب البقاء وحده. فالاجتماع الذي يضم هؤلاء الأحياء المتشبثين بالبقاء، يحدث لهم ضروبا جديدة من الأماني والآمال والمطامح، تغلب هذا الحب الخفي للبقاء المجرد في الفرد، وتنشيء فيهم حبًّا لبقاء آخر: هو بقاء حياة الجماعة، من حياة أنشأها الإلف والتعود، وحياة تنشئها الأماني في حياة أتم وأكمل وأمجد. والنزاع بين حياة الإلف والتعود، وحياة الأماني في الكمال والمجد، نزاع عنيف، وهو على عنفه أمر غامض في نفوس عامة أفراد المجتمع، لأنه يقوم على أماني مبهمة دائما في أول أمرها. ولا تستبين هذه الأماني إلا في فئة قليلة، تملك من القدرة على النظر، وعلى التأمل، وعلى البيان عن نظرها وتأملها، قسطا يتيح لها أن تحاول التعبير عن هذه الأماني، تعبيرا يخرجها من حيز الأمر المبهم إلى حيز الأمر البين. فمن هذا المدخل يدخل على الجماهير أحد رجلين: إما رجل عاقل صادق يحسن النظر والتأمل والبيان، وإما رجل ذكى قادر يموه عليهم بالنظر والتأمل والبيان. أحدهما عارف يصدق الناس ولا يبالى، والآخر دجال يلعب بالناس ولا يبالى. أحدهما لا يأخذهم إلا بالوسائل التي تقوم على الصدق والعدل والحق، والآخر يأخذهم بكل وسيلة لا يعبأ بصدق ولا عدل ولا حق. أحدهما يعلم الناس معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، كما ينبغي لكل تَعَلُّم، من جهد ومشقة وحذر وبصر. والآخر يعلمهم معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، بما يستثيره فيهم، وما يستغله من نزوعهم وتلهفهم، لا يأبه لشيء إلا لما يستخفهم إلى اتباعه وطاعته وتمجيده. فالحرية مثلا سوق تهوى إليه نفوس المستعبدين. كلمة مبهمة تعيش في سر نفوسهم كالقبس المكفوف، لو كشف غطاؤه لأضاء. فالرجل الصادق يعلم النفوس معنى الحرية، ويكسبها من وسائل تعلُّمها ما لابد لها منه من صدق وعزيمة وجد ومشقة وبصر، حتى تتهاوى الجدران التي تحول بينها وبين

الانطلاق، وتنفض الأغلال الثقيلة الغليظة التي تعوق الحي عن إدراك حريته. أما الدجال، فهو لا يزال يصرخ فيهم باسم الحرية، ثم لا يمنح الناس من وسائلها إلا كل وسيلة لا تغني شيئًا في كفاح الجدران والأغلال، بل ربما زادت الجدران صفاقة وقوة، والأغلال ثقلا وغلظا وفداحة. فهذا هو الباطل المشرق، لأنه يأتي الناس من حيث تهوى أفئدتهم معنى مبهما غامضًا كريما، فيموه هذا المعنى بما شاء من تمويه، ليسير الناس وراءه كما هم عميًا صمًّا، لا ليعلِّم الناس حقا يطلبونه ويحرصون عليه ويزدادون معه على الأيام بصرًا وإدراكا. وهذا العالم الإسلامي الذي يموج اليوم موجه، ينبح في نواحيه هذا الباطل المشرق ينبح في السياسة، وفي العلم، وفي الأدب، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي جماع ذلك كله: في الدين. هو عالم مستغل، يستخفه الدعاة والدجاجلة، يهتبلون غفلته في هذه الحياة التي ظن أنه ارتد إليها بعد همود، ويختلسون نفضة هذا الشوق المضطرم إلى أمان مبهمة غامضة. ويتولى قيادته في كل شأنه ألسنة لا تبالي، تستفزه إلى المغامرة في سبيل الحياة الماجدة الطيبة التي تجيش فيه. تستفزه بالنداء الصارخ باسم هذه المعاني المبهمة في ضميره، وتعطيه وسائل وأساليب يظنها معينة له على إدراك ما يشتاق إليه، وهي في الحقيقة مفضية به إلى التمرغ في حمأة الجهالة والعبودية والغرور الكاذب، إلى أن يقضى الله في الناس بأمره وقضائه. وأخطر هذه الألسنة التي تستفز هذا العالم، هي الألسنة التي اتخذت كلمة الإسلام لغوًا على عَذَباتها (¬1) -لا لأنها أعظم شأنًا وأعز سلطانا من الألسنة الأخرى، ألسنة المموهين باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق، بل لأنها تعمد إلى كتاب أنزله الله بلاغا للناس، وحكمة أوحيت إلى رسوله لتكون نبراسا للمهتدين، فتحيلهما إلى معان من أهواء النفوس التي لا تعرف الحق إلا في إطار من ضلالاتها وأوهامها. ثم يتبعهم التابعون الجاهلون اتباعا، هو ¬

_ (¬1) العذبات هنا: أطراف الألسنة، وأصل العَذَبَة: طرف السَّوْط.

سَمْعٌ وطاعة، لكن لغير الله ورسوله، بل للزور المدلس على كتاب الله وسنة رسوله. وإذا هؤلاء المتبعون يعدون هذه الضلالة دينا، ويظنون هذا الدين الجديد إحياء للإسلام. وإذا هم يأخذون دينهم من حيث نهوا أن يأخذوا. يأخذونه عن مبتدع في الدين برأيه، محيل لنصوصه بفساد نشأته، مبدل لكلماته بهوى في نفسه، محرف للكلم عن مواضعه بما يشتهي وما يحب، مختلس لعواطف الناس بما فيه من حب اتباعهم له، خادع لعقولهم برفعة الإسلام ومجد الإسلام، وهو لا يبغي الرفعة والمجد إلا لنفسه. ولقد أنبأنا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بصفة ما نحن فيه إذ قال يوما لأصحابه: "إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعونى وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعى حتى أبتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة. وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم. وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال له يزيد بن عميرة أحد أصحابه: ما يدرينى رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال معاذ: بلى! اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينَّك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع. وتَلَقَّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا". وقد فُتِح القرآن، فأخذته الألسنة كلها من مؤمن ومنافق، ومن صغير وكبير، وكل يقول برأيه لا يختشى ولا يرهب ولا يتقى. وظهر في كل أرض من يقول لنفسه: ما للناس لا يتبعونى وقد قرأت القرآن؟ ثم يعود من نحسه وشؤمه، يجمع كل خسيسة من البدع التي تميل إليها نفوس الجاهلين الغافلين، وتهوى إليها أفئدة الذاهلين المفتونين بالحب لكل جديد مبتدع. وهو في كل ذلك يعلم أن المبتدع في كل شيء له لذة الجدة، ويعلم أن الناس يشتاقون إلى أمر مبهم في نفوسهم، هو استعادة مجد دينهم، ونشر كلمته في الأرض، فلا يبالى أن يشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فيؤتيهم ما يطابق ما يراه من أشواقهم، ويزين لهم أن بلاغ ما يشتاقون إليه قريب، إذا هم اتبعوه إلى الغاية. وأن شرط بلاغه أن يعطوه

السمع والطاعة له ولمن يصطفيهم من شيعته ودعاته. فإذا تم أن تجتمع عليه طائفة من الناس، وظهر بهم أمره، وظنوا أنهم بلغوا بعض ما مناهم لسانه ولسان شيعته ودعاته، قالوا إن الإسلام هو هذا الذي ندعو إليه، وإن طريق الحق طريقنا وحده، وإن الإسلام في غير الإطار الجديد الذي وضعناه فيه ليس من الحق في شيء، وإن هذا الفهم الجديد للإسلام هو خلاص المسلمين من هذه الذلة التي ضربها عليهم الغازي الصليبي. ثم تنشق رَدَغَة هذا الخَبال (¬1)، عن صنوف مختلفة من الفساد المهلك، تجعل تاريخ الماضي كله ضربًا من الحياة الفاسدة، لا ينبغي لأحد من الناس أن يتلفت إليه إلا تلفت المزدرى المستنكف. وعندئذ يصبح الدين في أذهان الجماهير المتبعة، رسالة جديدة لها رسولها وحواريوها ودعاتها وشهداؤها. وإلى بيان هذه الرسالة تعود الجماهير، لا إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسوله، نعم، بل إلى تفسير هذا الكتاب وهذه السنة كما يراها لهم طواغيتهم من كهوف التبديل والتحريف والتأويل بالهوى والضلالة. وعندئذ يتم تبديل معنى الإسلام في الناس، ويتم للدجال أن يبتدع بهواه إلى طب في أهوائهم كتابًا غير كتاب الله. ولولا أن الله قد ضمن لنا حفظ نص كتابه، وحفظ نص البيان عنه في سنة رسوله لفعل هذا وأشياعه ما فعل أسلافهم ممن بدلوا كتب الله وحرفوها، ومحوا منها وأثبتوا، ونقصوا فيها وزادوا. لولا هذا الذي نخافه، بل هذا الذي كان مما نخافه، لما عددت هؤلاء أشد خطرا من الألسنة التي تموه على الجماهير الجاهلة الغافلة باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق. فطريقهما في الحقيقة واحد، ومنشؤهما واحد، ونتائجهما واحدة، في التغرير بالناس، والعبث بعقولهم، والإفساد لفطرتهم، واللعب بعواطفهم، وإيهامهم أن نجاتهم من عبودية الغزاة أمر قريب لا يكلفهم إلا أن يسمعوا لمن يقول لهم: كونوا أحرارا، فإذا هم سادة أحرار كما ولدتهم أمهاتهم! ¬

_ (¬1) رَدَغَة الخبال: جاء في الحديث "مَن قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في رَدَغَة الخبال"، أي عُصارَة أهل النار، كما قيل في تفسيره، وأصل الرَّدَغة: الطِّين.

اللهم إني أبرأ إليك مما نحن فيه. اللهم إني أخوف الناس مما خوفهم منه عبدك ورسولك إذ يقول: "أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان". اللهم إني أقول كما قال صاحب رسولك معاذ بن جبل: "الله حكم قسط، هلك المرتابون! ".

غرارة ملقاة

غرارة ملقاة إليك عني، أيتها النفس، فأنا وأنت كما قال عبيد بن الأبرص: إذا أنت حَمَّلتَ الخَؤون أمانةً ... فإنك قد أَسْندتها شَرَّ مُسْنَدِ وقد أبيتِ عليَّ أن أكتب ما كنت أريد، لأنك أردتِ أن تكوني لي على غير عهدى بك منذ ساعات قلائل. فدعيني أحدث عنك بما أسررت من مضمر أو مكنون. ما كدت أجلس إلى مكتبى حتى تبعثرت خواطرى، وتهاربت مني أفكارى، وانتشرت على عزيمتى، وتفرقت عني إرادتى، وتطايرت في الآفاق سواكن نفسي، وغادرتنى همتى، وكأنى غرارة ملقاة على مدب الحياة. وربما هجس في نفسي الهاجس، فما أكاد أقول: هذا هو! حتى أجدني على جناح أمر آخر، وإذا بينهما مسيرة ما بين مشرق الشمس ومغربها. فأين المفر! وكيف القرار! لا أين ولا كيف! بل ألتمس مذهبا لا غاية له، لعلى واجد فيه بعض ما أسرى به حيرتى: أن أقيد ما يعن لي -أم ينبغي أن أقول: أن أقيد ما أعن أنا له- على عجل، وبلا ترتيب، وكما يتفق. ولكن ما نفع هذا لك أنت أيها القارئ؟ هل يعنيك شيئا أن تطلع على حيرة نفس في ساعة من حياتها؛ أم هل يجدى عليك أن تطلع؟ بل مالى ولك! أترانى أكتب لأنفعك؟ ما أسخف هذا! وماذا عندي مما تنتفع به؟ كيف أستطيع أن أدعى أنى أنفع بالذي أكتب آلافا من القراء مثلك؟ وأنى لي علم هذا السحر: أن أجمع في أسطر معدودات حاجة كل نفس؟ أو ليس من السخف، ومن الغرور أيضًا، أن يزعم امرؤ أنه يملك القدرة على نفع أحد، فضلا عن آلاف؟ وما أملك إلا أن أصارحك بأنى ما كتبت قط إلا لنفسي وحدها، ثم لا ألبث أن أعرض عليك ما أكتب -لا لأعلمك أو أنفعك، بل لتعرف كيف يفكر إنسان مثلك! ¬

_ (*) الرسالة، السنة الحادية والعشرون (العدد 1025)، 23 فبراير 1953، ص: 289 - 292

وكيف يخطئ وكيف يصيب! وكيف يصدق وكيف يخون؟ فإذا كان ذلك كذلك فلا بأس عليك إذن، إذا تصفحتنى في ساعة من شتاتى وحيرتى، كما تتصفحنى في ساعة هدأتي وسكينتي. * * * كيف! هل يمكن هذا؟ هل يمكن أن يصبح الإنسان غرارة ملقاة على مدب الحياة، ثم هي إنسان يحس بالحياة وأحيائها يمرون عليه غادين أو رائحين. هذا واطئ يطؤه، وهذا مقتحم يقتحمه، وهذا ذاهل عنه وفي عينيه نظرة المتأمل، وهذا متلفت إليه ورمقه كالمتعجب! وكلهم لا يبالى. وهو أيضًا لا يبالى أن يكون ما كان: غرارة ملقاة على مدب الحياة والأحياء. ومادامت الغرارة الملقاة تحس بالحياة وأحيائها يمرون عليها غادين أو رائحين، أفليس هذا حسبها من الحياة وأحيائها؟ وما الحياة؟ هل الحياة إلا إحساس محض؟ إحساس بالألم، وإحساس باللذة. إحساس بالرضى، وإحساس بالسخط. إحساس بالجمال، وإحساس بالقبح. إحساس بالنور، وإحساس بالظلام. إحساس بالشبع، وإحساس بالجوع. إحساس بالحلو، وإحساس بالمر. إحساس بالشذا الطيب، وإحساس باللخن (¬1) الكريه. إحساس مجرد مرهف نافذ لا يعوق نفاذه شيء. إحساس حر كشعاع الشمس. أو هؤلاء الغادون والرائحون أعرق في حس الحياة من الغرارة الملقاة على مدبها؟ وما الحركة التي تسير بهم غادين أو رائحين؟ أهي تزيد الإحساس وتضاعفه، أم هي تنقص منه وتتحيفه؟ أو ليست الحركة شاغلا يشغل عن تجريد الإحساس وإمحاض للمحسوس؟ وأيهما أنفذ: غرارة ملقاة يستغرق حسها نابض الحركات حتى تظل حية هامدة، أم غاد ورائح، تتخوَّن (¬2) الحركة من حسه حتى يأكلّ مرهفه ويفل مضاؤه؟ ¬

_ (¬1) اللَّخَن: نَتْنُ الريح عامة. (¬2) تتخوَّن: تنقص.

بل كيف يستغرق الحس الحركة؟ يا عجبا كل العجب! إنه أمر لا يكاد يدركه إلا من مارسه في سريرة نفسه. لذة لا توصف، ولكنها تعقب أحيانا ألما لا يستقر. لذة تتملَّى بها وحدك، وإذا هي تنسرب بك إلى جنة مونقة تدلت عليك بأثمارها. أما الألم، هو الذي يلذعك إذا روعك عن استغراق حسك طارق لم تكن تتوقعه. أجدني أحيانا في أمر والناس معى، ثم يستغرقنى عنهم حس أنفرد به، وإذا أنا معهم ولست معهم. ثم ينبرى سائل فيسألنى عن شيء غير الذي أنا فيه، فأنتبه كالمذعور، ويختلط على ما أنا فيه بما سئلت عنه. وعندئذ أرى كل شيء يفر مني كأنى ما عرفته من قبل، ويأخذنى ما قدم وما حدث، ويخرجنى التنبه قسرا من استغراق الحس إلى حركة لم أتهيأ لها، وتتضارب على لسانى كلمات لم أردها، وأقول ذاهلا، ما لو تأنيت قليلا حتى أستقر لما قلته. إنه قول منزعج عن حقيقته، لو اطمأن لاستقام على وجهه. فمن لي بمن يحس بما أحس به، حتى يتفق حسى وحسه، ثم يقظتى ويقظته! * * * أمن الممكن حقا أن تجعل إنسانًا يحس بما تحس به؟ باطل محض. الحس عمل متصل لا ينقطع، بعضه يأتي في أعقاب بعض. أجل، ليس من الممكن أن تفرغ نفس إنسان من ماضي إحساسها، وتفرغ نفسك من سالف إحساسها، كى تبتدئا معا، وتسيرا معًا إلى النهاية. هذا مستحيل. وإذا استحال، فيستحيل معه أيضًا أن تجعل إنسانًا يحس بما تحس به. نعم قد يستقيم في بعض الكلام أن تقول لأخيك: "إني أحس بما تحس به"، ولكنك تعني عندئذ أنك توجهت بإحساسك إلى شيء كان إحساسه قد توجه إليه. أما لو ظننت أن إحساسك به مثل إحساسه، فهذا باطل. وألفاظ اللغة تضلل من لا يتوقى مجاهلها. * * * كل امرئ منا عالَم وحده، لأنه يحس إحساسا واحدا لا يشركه فيه أحد من بني جلدته، وكل امرئ منا هو في أصل طبيعته يعيش في خلوة تامة -في غرفة

مغلقة الأبواب. وإذا فسدت عليه هذه الخلوة، فسد إحساسه بالحياة وأحيائها. وإذن، فمن الإثم والعدوان، أن تحتال على أحد، متوهما أنك قادر على أن تجعل إحساسه بالأشياء كإحساسك. إنك آثم لا محالة. إنك تفسده وتفسد عليه حياته. إنك تعنف به حتى يخرج من خلوة الفطرة من حرية الحس. نعم، بل أنت تتلذذ باستلحاقه في إحساسك، تتلذذ بخضوع سر حريته لسطرتك، تتلذذ تلذذا بشعا باستعباده! * * * باطل الأباطيل أن يحس جماعة من البشر بإحساس واحد. إنه خلط قبيح. إنه إذلال كل فرد لطاغوت مكذوب يقال له الجماعة. كل امرئ منا له حس منفرد، يجرد للإحساس لشيء واحد، هو ما انطوت عليه هذه الحياة الدنيا، كما فطرها فاطر السموات والأرض ومن فيهن. والذي يجمع البشر في هذه الحياة، هو هذه القضية المركبة: حس ينفرد به كل امرئ منهم، يتجرد للإحساس بعالم واحد يتعايشون فيه. العالم الواحد هو الذي يربطهم، لا تطابق إحساسهم تطابقا تاما أو غير تام. والإنسان ليس مدنيا بالطبع، كما يزعم الزاعمون، بل هو مدنى بالضرورة. والضرورة هي هذا العالم الواحد الذي نعيش فيه، والذي لا فكاك منه إلّا جسام المنية. هذا العالم الذي يأسرنا، هو وحده الذي يربط بيننا، وهو وحده الذي يؤلف بين هذه الأحياء المُحِسَّة به، وكل حي منها منفرد بإحساسه، مستقل به وحده. لا يتطابق حِسَّان بإحساس واحد أبدا، بل يتطابق حسان على الإحساس بشيء واحد ولا مفر. وهما قضيتان مختلفتان في أصلهما، مختلفتان في نتيجتهما. * * * أنبل جهدك أن توقظ إنسانا حتى يحس، وسبيلك أن تفطن إلى شيء واحد: هو أنك أحسست بهذا الشيء أو ذاك. فإذا فطن له وتهيأ أن يحس به، فذلك

حسبك وناهيك. غايات الغايات: أن توقظ حسه لكي يحس. والذي لا ريب فيه، أنه سيحس بغير الذي أحسست. هذا غاية جهد أعلم العلماء وأبلغ الأبيناء، وهو الأمانة التي كتب عليه أن يؤديها بما آتاه الله من علم وبيان، فإذا جاوز هذا إلى أن يحتال عليك ويختلك ويماسحك، ثم يتلصص إلى خلوتك ليضع فيك إحساسه، لكي تبلغا "اتحاد الإحساس" فاعلم أنه لم يزد أن أفسدك وشوهك. فاحذره. إنه يستعبدك! إنه يميت إحساسك! إنه يتركك تقلد الحس وأنت لا تحس، كالببغاء تقلد الكلام وهي لا تتكلم! هذا إثم يرتكبه كثير من الجماعات ومن أصحاب المذاهب. يزعمون إصلاح الناس، وحقيقة فعلهم تخريب الناس، وإماتة الإحساس الحي، واستعباد الحس الحر المنفرد في كل نفس. إنه تدمير الفطرة في سبيل الجماعة، أو في سبيل المذهب، أو في سبيل الدولة! حذار من فتك هؤلاء الفتاك، إن جاؤوك في ثياب النساك. * * * صورة الإنسان واحدة، منذ كان الناس على الأرض. الآلاف بعد الآلاف منذ أقدم الدهر. بنية واحدة بها يعرف الجنس أنه "إنسان"، ولكنهم متباينون، فلا يتشابه إنسانان أبدا. وكذلك الحس أصل واحد في كل إنسان، ولكن يتباين الحس، فلا يتشابه حسان أبدا، ولا يتطابق إحساسان ألبتة. لا حيلة لأحد حتى يستطيع أن يدمج إنسانا في إنسان ولو رام ذلك أحد لدمرهما جميعا. أما الحس، فبالختل يتطابق، وبالخداع يندمج، ختل هو القسر، وخداع هو الاعتساف. ولا يتم ذلك إلا بتشويه الحس وتدميره. والذي هون على الناس أمر هذا التشويه والتدمير، هو أن من الممكن أن يعيش المرء حياته بحس مدمَّر خَرِبٍ، وإن كان مستحيلا أن يعيش بصورة مدمرة خربة. ومن هوانه على الناس، أن يفعله غير متحرج أكثر الآباء والأمهات، وأكثر المعاهد والمدارس، وأكثر الجماعات والمذاهب والدول. يدمرون حس الإنسان بالختل والخديعة، حين يزعمون إصلاح الناس بتطابق إحساسهم واندماجه. يدمرون الحس لأنه باطن، ولأنه لا قوام له يحول بينهم وبينه، كما يحول قوام صورة الإنسان الظاهرة بينهم وبين ما فعلوه في شقيقها وقرينها.

الحياة إحساس محض، والحس حر مطلق، فأيما مذهب أو جماعة أو دولة، حاولت أن تدمج بالختل حسا في حس، وأن تطابق بالخديعة إحساسا في إحساس، فلا غاية لها إلا استعباد أحرار الحياة، وتدمير سر النشأة، وتخريب بنيان الله بأخس الأسلحة: بالكذب والمكر والتغرير والختل والخديعة والعبث. إنهم يريدون أن يجعلوا المذهب أو الجماعة أو الدولة، طاغوتًا يعبده المضللون داعين متضرعين {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}. أليس هذا بحسبك بعد الذي أفضت فيه. وقد عرضت لك جانبا من خواطر نفس حائرة تتصفحها، فتفكر وتدبر، واحذر ما يقول القائل: فبينما الأمر تُزْجِيه أصاغِرُه ... إذ شمَّرت فَحْمة شَهْباء تَسْتعِرُ تَعْيَى على من يداويها مكايدُها ... عمياءُ، ليس لها شمس ولا قمرُ

الناسخون الماسخون

الناسخون الماسخون كانت صناعة النَّسْخ في العصور الإسلامية الأولى يُعهد بها إلى رجال من أهل العلم والأدب يسمَّون "الورَّاقين"، وكان يشترط فيهم التضلُّع بالعلم الذي ينقلون كتبه وينشرونها، كما يشترط في الراوية أن يكون من أهل البصَر بالشعر. ولذلك كان لكل عالم "ورّاقٌ" كما كان لكل شاعر "راوية". فلما جاءت عصور الانحطاط طمع بهذه الصناعة غير أهلها ففسدت الكتب وكثر خطأها. ومن هذا القبيل الأغلاط الواقعة في نسخة كتاب (التيجان في ملوكِ حمْير) لابن هشام. فقد شكا العلّامة الشيخ عبد العزيز الراجكوتى الميمنى (في الزهراء 3: 300) من كثرة تصحيفها. ولما أراد أن ينقل منها لقراء الزهراء أشعار الرُبَيْع ابن ضُبَع استطاع بمراجعة كثير من الكتب أن يصحح بعض تلك الأخطاء وبقى بعضها. وقد اقترحتُ على صديقي السيد محمود شاكر أن يبحث عن شعر الربيع في كتب الأدب واللغة ليصحح ما بقى من الأغلاط، فلما أعياه الأمر (¬1) بعد سهر طويل بعث إليَّ ببطاقة هذا نصها: سيدى محب الدين (¬2)، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: ¬

_ (*) الزهراء، الجزء الرابع، سنة 1346 هـ/ 1927، ص: 245. (¬1) لا يعني محب الدين -رحمه الله- أن الأستاذ شاكر لم يجد شعر الرُّبيع عامة، وإنما شعرا معينا أعيى الميمنى -رحمه الله- إقامته. فالأستاذ أجلّ من أن يجهل الرُّبَيْع وشعره. وللربيع ترجمة في المعمرون: 8 - 9، سمط اللآلى 2: 802 - 803، أمالى المرتضى 1: 253 - 256، الإصابة 2: 219، التيجان 118 - 123، الخزانة 3: 308 - 309. (¬2) محب الدين بن أبي الفتح محمد عبد القادر صالح الخطيب، ولد بدمشق وتعلم بالآستانة. حضر إلى القاهرة 1909 وعمل في جريدة المؤيد، ثم قصد العراق فاعتقله الإنجليز سبعة أشهر، ثم ذهب إلى مكة المكرمة عند إعلان الثورة العربية 1916 فحكم عليه الأتراك بالإعدام غيابيا. ثم استقر في مصر سنة 1920 وعمل محررا في الأهرام، وأنشأ مجلتي الزهراء والفتح، وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها، ونشر كتبا كثيرة من تأليفه. توفي 1969.

فلو أنَّ (ذا القَرْنيْن) طَالَتْ حياتُهُ ... وأبْصر ما قد جمَّعَ ابنُ هِشامِ وأبْصَر أقوال الرُّبَيع وشعرَهُ ... سَوَادًا مُجَنًّا في دُجى وظلَام لَحَيَّرَهُ ما حَبَّر (ابنَ مُحَمَّدٍ) ... فباتَ على شَوْكٍ ضجيعَ سَقام وهَلْ سَقمٌ إلا (مَصادِرُ) لم تُنِلْ ... مُرادًا ولم تُطْلبْ بأيّ مرَام ففي الهند أعْيَتُه، فهلُ أنا قادرٌ؟ ... فلستُ إذا ما لم أُصِبْ بِمُلام وآخرُ عَجزِ المرءِ بَعْدُ تَنَصُّلٌ ... وآخرُ ما أهدى إليك سَلامي

إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه طلب إليّ منشئ هذه المجلة أن أجرّد من (اللآلي شرح أمالى القالى) أوهامَ أبي عليٍّ التي سقطت من نسخة (التنبيه) المطوعة أخيرًا مع (الأمالى) في مطبعة دار الكتب العربيّة ففعلت ذلك، وقد اتبعتُ في الإشارة إلى مكان التنبيه ما اتبعتْه دار الكتب في ذلك. إن السقط الذي نبّه إليه الأب أنطون صالحانى اليسوعى في مقدمته كان في مكانٍ واحد وذلك في الوجه 67 من الأصل المخطوط أي في 129 من التنبيه المطبوع. وقد انتبه رجال دار الكتب إلى مكان آخر وذلك في الوجه 127 من التنبيه، وانتبهنا نحن إلى نقص ثالث وذلك في الوجه 130 بين التنبيه الواقع في الوجه 310 والواقع في 326 - 1 - فأما الذي انتبه اليه رجال دار الكتب فتكملته: قال أبو النجم: طار عن المهر نَسيلٌ يَنْسُلُهْ ... عن مُفْرَعِ الكتفين حُلْوٌ عَطلُهْ (¬1) أي عنقه. يقال فرد حسنُ العَطَل أي العنق ولا أعلم هذين الشطرين في رجز رؤبة. - 2 - وهذا ما سقط من (التنبية) ونبه إليه الأب صالحانى: قال وأنشد أبو على (ص 268 س 16): ¬

_ (*) مجلة الزهراء، السنة 1346 هـ، 1928 م، ص: 362 - 367. وكل الشروح الواردة في الهوامش للأستاذ شاكر. وما راجعته ذكرته مقرونا باسمى. (¬1) في رواية اللسان "حر عطله".

أبرَّ على الخصوم، فليس خَصْمٌ ... ولا خَصْمان يغلبُه جدالا ولبَّس بين أقوام، فكلٌّ ... أعدّ له الشَّغازِب والمِحَالا (ع) هما لذى الرمة يمدح بلالا. وصلتهما: وكلهم ألدّ أخو كِظاظٍ ... أعدّ لكل حال الناس حالا أبرّ على الخصوم .. إلخ قضيت بمدّة (¬1) فأصبت منه ... فُصوصَ الحق فانفصل انفصالا (¬2) وحُقَّ لمَنْ أبو موسى أبوه ... يوفّقه الذي نَصَب الجبالا هكذا صواب إنشاده واتصال أبياته. وقوله "ولبّس" إنما هو ولبْسٍ وهو معطوف على قوله: ومُعْتَمِدٍ جعلتَ له ربيعًا ... وطاغيةٍ جعلتَ له نَكالا أي رجل اعتمدك لِخَلَّة كنت له حيًا بمنزلة الربيع (ص 275 س 16) وأنشد أبو على: فَخْرَ البَغِيّ بحِدْجِ ربَّـ ... ــــتِها إذا ما الناس شلُّوا (ع) إنما هو "إذا الناس استقلوا" يريد استقلالهم وارتحالهم للنُجْعة، فأما الشَّل والطرد فإنما يكون عند الفزع والخوف، ولات حين إعجاب ولا فخر. قال الراجز: عاينَ حيًّا كالحِرَاجِ نَعَمُهْ ... يكون أَقْصَى شَلِّه مُحْرَنْجمُهْ يقول إذا شلّ الناس وطردوا نَعَمَهُمْ ناجين هاربين يكون أقصى شلّ هذا بروكه في مواضعه لعزة أصحابه ومنعتهم. وهو لدحْسوس بنت لقيظ -وقد تقدمت من ¬

_ (¬1) ويروى قضيت بِمِرّة أي بأحكام. (¬2) فصوص الحق مفاصله.

هذا الشعر أبيات- تقوله للنعمان بن فَهْوس (¬1) لما فرّ يوم جبلة. وقبل البيت: إنَّكَ مِنَ تَيْمٍ فَدَعْ ... غَطَفانَ إنْ سارُوا وحَلُّوا لا مِنكَ عِزُّهُم ولا ... إيَّاكَ إنْ هَلَكُوا وذَلُّوا (¬2) فَخْرَ البَغِىِّ بحِدْج رَبَّـ ... ـــتِها إذا الناسُ استقلُّوا هكذا رواه أبو عبيدة: تقول فخرك بعزّ غطفان ومآثرهم كفخر هذه الأمة بحدج ربتها إذا استقل الناس، تريد أنك لست منهم وليسوا منك. (ص 279 س 23) قال أبو على: "قال أبو زيد: قلت لأعرابية [بالعيون] (¬3): ما لك لا تصيرين إلى الرفقة؟ قالت: إني أخزَى أن أمشى في الرفاق! " (ع) قال أبو زيد في نوادره "قلت لأعرابية (¬4) بنت مائة سنة: ما لك لا تصيرين إلى الرفقة؟ (¬5) فقالت: (¬6) أخزَى أن أمشى في الرفاق! " وبهذه الزيادة تكمل فائدة الحديث. (ص 282 س 16) قال أبو على: "الحِسْىُ: صلابة تمسك الماء وعليها رمل فلا تَنْشِفه (¬7) الشمس" هكذا روى عن أبي على "تنشِفه" بكسر الشين. والمعروف عن أبي زيد وغيره نَشِفَت الأرضُ الماءَ تنشَفُه بكسر الشين في الماضي وفتحها في المستقبل. (ص 283 س 3) وقال أبو علي: "وفد رجُل من بنى ضِنّة على عبد الملك ابن مروان" وذكر الخبر. قال: وفي العرب ضِنتّان: ضِنّة بن سعد هُذيم، وضنة ¬

_ (¬1) في الأصول بالفاء، والتصحيح من النقائص 2: 656 (عادل جمال) (¬2) في النقائض: عدُّهم .. أباك، وأراها أوفق (عادل جمال). (¬3) لم تذكر الكلمة في الشرح وقد ذكرت في الأصل ونوادر أبي زيد. (¬4) الذي في النوادر بزيادة "بالعيون". (¬5) في النوادر "ما لك لا تأتين أهل الرفقة؟ ". (¬6) في النوادر "إني". (¬7) راجع المطبوعة الجزء الثاني ص 282 فقد شكلت "تنشفه" بضم التاء وفتح النون وتشديد الشين المكسورة، وهو خطأ في الضبط على ما يبين من كلام البكرى.

ابن عبد الله بن نمير (ع) هو ضنة بن سعد بن هُذيم بن زيد بن ليث بن سُود بن أسْلُم (¬1) بن الحاف بن قضاعة. وفي العرب ثلاثة ضنّات غير الذي ذكر وهي: ضِنّة بن الحَلّاف بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد، وضنة بن العاصى بن عامر ابن مازن بن الأزْد، وضنة بن ثعلبة بن عُكابة بن صَعْب بن علي بن بكر بن وائل. (ص 290 س 3) وذكر أبو علي خبر النفر من طئ مع سواد بن قارب الخبر بطوله وتفسيره وفيه "لقد خبأت دِمّة، في رمّة، تحت مَشِيط (¬2) لمةً". (ع) اختلفت الرواية عن أبي على في هذه اللفظة فرواه بعضهم (دِمّة في رمّة) بالدال في الأول ورواه آخرون "رمّة في رمّة" بالراء بلفظ واحد فيهما، وفي تفسير أبي على: الدِمّة: القملة. فهذا يصحح رواية من رواه بالدال. قال اللغويون: الدِمّة: القملة، وقيل النملة الصغيرة، ومن ذلك الدميم والدمامة. وأما الرمة بالراء فلا أعلم أحدًا قال إنها القملة، وإنما الرمة في بعض اللغات الأرَضة، وقال أبو حاتم: الرمة النملة التي لها جناحان. (ص 291 س 22) وأنشد أبو على: "ما إن رأيْنا مَلِكًا أغارا ... أكثرَ منه قِرَةً وقارا" (ع) هما للأغلب العِجلي وبعدهما: "وفارسًا يستلب الهجارا" وهذا الذي نقل أبو على في القرة هو قول أبي عبيدة وقال: الوقير والقرة: الغنم، والقارُ: الإبل. وقال غيره في قول العجلى "القرة من الأثقال" يجعله من الوِقْر. يقول: ما إن رأيت ملكًا أكبر جيشًا منه وأكئر أثقالًا. قال: وأي مدخل للغنم في جيوش الملوك. وأنشد في ذلك للعجاج: ¬

_ (¬1) كل من في العرب "أسلم" بفتح الألف واللام إلا هذا فإنه بفتح الألف وضم اللام. (¬2) ضبط في المطبوعة "مشيط" على التصغير، وهو خطأ وصوابه على زنة كبير كما ورد في اللآلى أيضًا.

"لما رأتْ حليلَ عينَيَّهْ ... ولِمَّتى كأنها حَلِيّهْ قالت: أراه قرَةٌ عَلَيَّهْ" أي ثقلا (ص 296 س 18) وأنشد أبو عليّ للأعشى: "تروح على آل المهلَّب جَفْنةٌ ... كجابِيَة الشَّيخ العراقي تَفْهَقُ" قال: وكان أبو محرز خلف يروى "كجابية السَّيْح العراقيّ، ويقول: الشيخ تصحيف. (ع) قد تقدم القول في هذا البيت ووصلناه وذكرنا المذهبين في كلا الروايتين، وليس هو كما أنشده أبو على وإنما هو: "نَفَى الذمَّ عن آلِ المحلّق جفنَةٌ ... كجابِية الشَّيخ العراقيّ تَفْهَقُ" - 3 - (وهذا ما نحسبه ساقطًا من آخر الكتاب) (ص 316 س 10) وفيها (أي قصيدة قيس بن ذريح): "يظل نهارُ الوالهين نهارَه ... وتَهْدِنُه في النائمين المضاجعُ سواىَ، فَلَيْلى من نهارى، وإنما ... تُقَسَّمُ بينَ الهالكين المصارعُ" ورواهما غير أبي على: "نهارى نهار الوالهين صبابَةً ... ولَيْلِىَ تَنْبو فيه عني المَضاجِعُ وقد كنتُ قبل اليوم خِلْوًا وإنما ... تُقَسَّمُ بين الهالكين المصارع" وهذه الرواية أحسن وأجود اتساقَ لفظٍ ومعنى، لأَن البيت الأول في رواية أبي على مضمن واللفظ مستكره ومتكلف. (ص 321 س 9) وأنشد أبو عليّ: أَيُغْسَلُ رأسى أو تَطيبُ مَشاربي ... ووجهُكَ مَعْفورٌ وأنَت سَلِيبُ

سيبكيكَ مَن أمسى يُناجيكَ طرفُه ... وليس لمَنْ وارى الترابُ نسيبُ وأنى لأستحيى أخي وهو ميِّتٌ ... كما كنتُ أستحييه وهو قريبُ (ع) أنشد ابن أبي الطاهر هذه الأبيات لبنت على بن الربيع الحارثى ترثى أباها، والبيت إنما هو: وأنى لأستحي أبي وهو ميتٌ ... كما كنت أستحييه وهو قريبُ لا "أخي" كما أنشده أبو علي، وبعده: إذا ما دعا الداعى عليًّا وجَدتُنى ... أُراعُ كما راع العَجُولَ مُهيبُ وكم مِن سَمِىّ ليس مِثل سَمِيّه ... وإن كان يُدْعَى باسْمِه فيُجِيبُ (ص 324 س 1) وأنشد أبو علي قصيدة أولها: يا عين بكّى لمسعود بن شدّادِ ... بكاءَ ذي عَبَراتٍ شَجْوُه بادِى وقال: إنها تنسب إلى عمرو بن مالك وإلى أبي الطمَحان وإلى رفاعة بنت شداد ترثى أخاها مسعود بن شداد. (ع) هو عمرو بن مالك بن يثربى النخعى ثم الكعبى جاهلي، وأبو الطمَحان قد تقدم ذكره ونسبه وهو مخضرم. وقد خلّط أبو علي في هذا الشعر كل التخليط فأدخل فيه بضعة عشر بيتًا من شعر أنشده ابن الأعرابي في نوادره لجَبَلَة بن الحارث يرثى مسعودًا العدوى لم ينسب منها أحد بيتًا واحدًا إلى الشعراء الذين ذكرهم أبو علي. وأول شعر جبلة ابن الحارث: "يا مَنْ رأى عارِضًا قد بت أرقُبه ... يَسْرِى على الحَرَّة السَّوداء والوادي" الخمسة الأبيات على الاتصال كما أنشده أبو علي ثم الباقية تسعة مفترقة من تضاعيف الشعر قبل هذا.

من خط البغدادي

من خط البغدادي * اطلعت على الكلمة التي نشرها العلامة السيد محمد راغب الطباخ وذكر فيها ما كتبه البغدادي بخطّه، واطلعتُ على ما كتب عن مخطوطات البغدادي في الخزانة، الطبعة الحديثة التي صدرت من المطبعة السلفية، فذكرنى ذلك بكتابين كتبهما البغدادي بخطّه وهما موجودان الآن في دار الكتب المصرية: الأول سفر السعادة للسخاوى في اللغة. والثاني فُرْحَة الأديب لأبي محمد الأعرابي الأسود الغُنْدُجانى في نقد السيرافي في شرحه على كتاب سيبويه. وهما في مجلد واحد (تحت الرقم 78 مجاميع م) بدار الكتب وقد ذكر البغداديّ الكتابين في مقدمته. ذكر الأول في ص 34: س 14 وذكر الثاني في ص 31 س 4. ¬

_ (*) مجلة الزهراء، السنة الخامسة، 1347 هـ / 1928 م.

مقاليد الكتب

مقاليد الكتب أدب الجاحظ تأليف حسن السندوبي -طبع بالمطبعة الرحمانية- صفحاته 247 نال الجاحظ من عناية الكتاب في هذا العهد ما لم ينلْهُ أديب أو عالم آخر من علماءِ العرب وأدبائهم. ولا غرو فقد ميل أن الفيلسوف ثابت بن قرّة الصابئ الحرّانى قال "ما أحسدُ الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفسٍ أولهم عمر بن الخطاب والثاني الحسن بن الحسن البصري (وهو من شيوخ المعتزلة) والثالث أبو عثمان الجاحظ". وقال ابن العميد: كُتُب الجاحظ تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا"، وقال كذلك "ثلاثة علوم الناس كلهم عيال فيها على ثلاثة أنفس أما الفقه. . . وأما الكلام. . . وأما البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة فعلى أبي عثمان الجاحظ". وقال ياقوت -بعد ما ذكر أن ابن الأخشيد أقام بعرفات ينادى: يرحم الله من دلنا على كتاب الفرق بين النبي والمتنبى لأبي عثمان الجاحظ على أي وجه كان- "وحسبك بها فضيلة لأبي عثمان أن يكون مثل ابن الأخشيد، وهو هو في معرفة علوم الحكمة وهو رأس عظيم من رؤوس المعتزلة يستهام بكتب الجاحظ حتى ينادى عليها بعرفات والبيت حرام. . ." وقال أبو القاسم الإسكافي "استظهارى على البلاغة بثلاثة: القرآن وكلام الجاحظ، وشعر البحترى". وجعل ابن دريد "كتب الجاحظ من متنزهات القلوب" لما ذكرت أمامهُ متنزهات الدنيا أو متنزهات العيون كما دعاها. وقد اطلعنا في خلال الشهرين الماضيين على كتابين من الكتب الحديثة في الجاحظ الأول كتاب شفيق جبرى -وقد ذكرناه في مقتطف أكتوبر الماضي- والثاني الكتاب الذي بين أيدينا الآن. وعلمنا أن خليل مردم بك وضع كتابًا في الجاحظ كذلك ولكننا لم نره. وعندنا بعد مطالعة كتابي السندوبي وجبرى أن الأول عنى بإيراد سيرة ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 81، نوفمبر 1932، ص 491 - 493

الجاحظ وآرائهِ فأنت تخرج منهُ بصورة واضحة (انظر الصورة) لشكلِه وتعليمهِ ورزقي وبسطة جاههِ ومقامهِ الأدبي ورأيه في المعتزلة والكتب التي صنفها والمؤلفات التي نسبت إليه. وعنى الثاني عناية بدرس أدب الجاحظ وطريقتهِ في البحث والتحقيق والنقد وتحليل شعوره الدينى ونواحي أدبهِ من الضحك إلى التهكم إلى الصنعة إلى الفن وغير ذلك. فإذا استعملنا التعبير الغربي قلنا أن الأول تاريخ خارجى للجاحظ والثاني تاريخ داخلي. وكل منهما مكمّل للآخر. * * * وقد حقق المؤلف مولد الجاحظ فرأى أن يعتمد النص الذي جاءَ به الجاحظ قال (صفحة 20) نقله إلينا ياقوت في معجمهِ فقد روى أنهُ قال: أنا أسنُّ من أبي نواس بسنة ولدت في أول سنة 150 هـ (767 م) ووُلِد في آخرها" وليس بعد هذا -في رأي المؤلف- نصٌّ يعتدُّ بهِ. ثم أظهرنا في الفصل الثالث على صورة من أساليب التعليم في ذلك العصر قال: "فقد كان الرجل يبعث بولده إلى كتاب الحي فيتعلم فيهِ مبادئ القراءة والكتابة، ويشدو شيئًا من قواعد النحو والصرف، ويتناول طرفًا من أصول الحساب، ثم يستظهر كتاب الله الكريم استظهارًا تامًّا مجوّدًا مرتلًا، وهو في خلال ذلك يتردد مع أترابه على القاص فيسمع منهُ أحداث الفتوح، وأنباء المعارك، وأخبار الأبطال، ومقاتل الفرسان، ومفاخرات الشجعان، وسير الغزاة والفاتحين، ممزوجًا ذلك بالمواعظ والعبر وإيراد أحوال الصالحين وأطوار الزهاد والنساك والمتقين. وبعد أن يأخذ من كل طرف من هذه المعلومات نصيبهُ الكافي يولى وجهه شطر حلقات الدرس بالمساجد العامة، والمعاهد الجامعة، والمدارس الخاصة فيقوم من حلقة الفقيه إلى حلقة المحدِّث، ومن مجلس اللغوى إلى سارية النسَّابة، ومن حضرة الأخبارى إلى دارة المتكلِّم، ومن معهد المنطقى إلى مجمع الفلسفي، ومن محفل الأديب إلى قاعة المهندس، ومن بين يدي المفسِّر إلى حظيرة الأصولى، ومن غرفة الراوية إلى بيت الشاعر، ومن ديوان

الكاتب إلى صاحب النجوم، ومن الأسطرلابي إلى الجغرافي، ومن مشهد الموسيقار إلى مقعد المغني، ومن عند المزمار إلى دكانة الوتار. الصبيان والبنات في ذلك سواء، وإن كانت الغالبية في الصبيان دون أخواتهم. حتى السجون، فقد كان لأهلها حظ من التعليم وكان لهم معلمون يدخلون إليهم في أوقات معينة". * * * وقد تلقى الجاحظ علومهُ على شيوخ البصرة والكوفة وممن أخذ عنهم علومهُ الأصمعيُّ وأبو زيد الأنصارى وأبو الحسن الأخفش وممن تلقَّى عليه العلم المبرد صاحب الكامل. ويقال إنهُ كان وهو في دور الطلب يعانى الاتجار في الخبز والسمك بسيْحان (نهر بالبصرة) وسواءٌ صحّ هذا الخبر أم لم يصحّ فقد درج الجاحظ في بحبوبة من اليسر والرخاء واتسعت موارد رزقه. . . فلا عجب أن يعلو على أمثاله فضلًا وفهمًا، وأن يقدم للغة العربية هذه المصنفات التي وضعها في كل ضربٍ من ضروب العلم وفنٍّ من فنون الآداب على كثرتها وجليل شأنها. فإن العطايا واللُّهى (¬1) تفتح اللَّها، على شريطة الاستعداد الفطرى والكفاية الظاهرة (ملخصًا من الفصل الرابع) وقد أشار مصطفى صادق الرافعي إلى ذلك في مقالته عن شوقى في هذا الجزء). * * * ومما عرض لهُ المؤلف ولم يدعمهُ بإسناد قولهُ إن الجاحظ أتى مصر قال (صفحة 71) ووقعتُ في كتاب الحيوان على أنهُ وفد مصر وأقام بها زمنًا وأجرى بها اختبارات فيما عثر عليهِ من حيوانها". وحبذا الحال لو أشار إلى الفقرة التي نُصَّ فيها على ذلك أو يُحَصَّل ذلك من معناها. ولكنهُ كان شديد الحذر لما ذكر أن الجاحظ كان يلمُّ بالفارسية -قال أجل ليس هناك نصٌّ صريح يملأُ يد الباحث ¬

_ (¬1) العطايا واللُّهَى بمعنى.

في هذا الشأن ولكن هناك من العبارات والألفاظ ما يدفع إلى استنباط هذا الرأي. . . وقال كذلك بعد ما ذكر شاهدًا على قولهِ. . . فمسألة عرفان الجاحظ باللغة الفارسية تستنبط بالقوة من خلال سطور كتبهِ ولا تؤخذ بالنصّ. وترى أنهُ كان شديد القسوة لما بيَّن أن كتاب "التاج" ليس من مؤلفات الجاحظ (145 - 152) فبعد ما أورد نص تقدمة صدَّر بها الجاحظ كتابًا لهُ ونص تقدمة "التاج" وهما موجهتان إلى رجل واحد قال: "فأيُّ امرئ لهُ مسكة من عقل أو أثارة من الذوق أو بقية من أدب أو لبابة من فضل، يستطيع أن يقول أن كاتب ذلك التقدمة هو كاتب هذه؟ ". ولعل بلاغة العبارة ساقتهُ في تيار وقعها فانساق. وفي الكتاب فصل مسهب أُحْصِيَت فيه كل مؤلفات الجاحظ والمؤلفات التي نسبت إليه وفَصْلان بسط فيهما مذهب المعتزلة ورأى الجاحظ فيهِ، وفصول أخرى تحتوى على نوادره ومختارات من نثرهِ وشعرهِ. وفي حواشى الصفحات ترجمات موجزة للأعلام الذين ورد ذكرهم في المتن. * * * نقول وياليت المؤلف توسع في بعض الفصول توسعًا ينقع الغلة كالفصلين اللذين أفردهما لمعارف الجاحظ وإحاطتهِ وتحقيقهِ للعلم فإنهما شديدا الإيجاز، ولكنهُ قد يفعل ذلك لدى نشره كتاب "الحيوان" وكتاب "البيان والتبيين".

الصاحب بن عباد

الصاحب بن عباد ورثة هذا اللسان العربي هم الآن أقل خَلَفٍ شوقًا إلى نشر التاريخ المطويّ لمن سلف من آبائهم، وأبعدهم عن معاناة المشقة في استقصاء أخبار من غبر من علمائهم وأئمتهم وهداتهم ومن فتح ومن قاد ومن حكم ومن استوزر من أسلافهم، فلذلك نكرِوا التاريخ العربي إذ لم يعرفوه، وركَّتْ أساليبهم إذ كان الأدب العربي على جانبى التاريخ العربي وفي طريقهِ ومن بين يديه ومن خلفه. ولا عَجب فقد كانت البلاغة لعهدهم هي ميزان الرجال، ومقياس العقل، وقسطاس الحكمة. وما عق هذا الخلف أبوّة من غبر من أسلافهِ إلّا لأسباب أخذت عليه طريقهُ، ولو أن جلها ليس مما يبرر هذا العقوق أو يُعذر منه. ولقد انْتُدِب لمداواة هذا العقوق رجالٌ من الأدباء والشعراء فبذلوا ولم يضنوا، وأخرجوا في رجال الأدب والتاريخ كاتبًا تعرّف الناسَ بهم وبأدبهم وأخلاقهم وفضائلهم وما سوَّغوا من الحكمة. وما رزقوا من الفضل. فمن ذلك ما كتب الأديب الجليل "خليل مردم بك" عن "الجاحظ" و"ابن المقفع" و"ابن العميد" و"الصاحب بن عباد". والثلاثة الأولى من كتبه قد نشرت من أشهر وتداولها الناس. ونشر حديثًا كتابه عن "الصاحب بن عباد" فاستوفى ترجمته ما استطاع، وجمع شتات ما وصل إلينا من أخباره، ثم أبدى في ذلك من صواب الرأي والدقة والتوثق قبل الحكم ما يشهد بأمانته وعدله. وفي الكتاب من رسائل "الصاحب" ومن شعره ما لم ينشر مستقلًّا بعد. وأسلوب كتابه هذا، هو الأسلوب الجيد في عرض التراجم التي يقصد من كتابتها تعريف الناشئين بمن مضى من أسلافهم، حتى لا يقفوا منهم موقف الجهل إذا ما عرض ذكرهم في حديث أو كتاب. على أنهُ لا يمكن أن يقال إن هذا الكتاب هو أوسع ما يكتب عن الصاحب، فإن أكثر ما كتب هو وما ألَّف، أو ما كتب عنه أو قيل فيه، قد استبد به الضياع. ولا يبعد أن يطلعنا القدر يومًا ¬

_ (*) المقتطف، المجلد: 81، نوفمبر 1932، ص: 493 - 494

ما على أثر من آثار الصاحب أو آثار من عرض لذكره والكلام عنه يبدل الحكم عليه أو ينقص منه أو يزيد فيه. وأهم أبواب كتاب "الصاحب بن عباد" هو القول في "أسلوبه وخصائصه" من ص 129 - 157 قد وفق المؤلف في الكلام عن الأسلوب ولم يستوف خصائص الأسلوب حقها حتى تستطيع بعد أن تقرأه أن تعرف ما يميز أسلوب "الصاحب" من أسلوب أستاذه "ابن العميد" على أن للمؤلف عذرًا بينًا في هذا فإن آثار "الصاحب" و"ابن العميد" قد ضاعت ولم يبق إلّا أقلها مما لا يعين على التحديد والحصر والإبانة عن مواضع التمييز. والكلام على خصائص أساليب الكتاب من أمثال الصاحب وابن العميد هو أهم ما يكتب عنهم وأجداه على العربية وطلابها إلَّا أنه فيما نرى أشقها وأبعدها مطلبًا، ولن يوفق إليه إلّا من استكمل العُدَّة وتهيأ له الطبع الرقيق والبصر النافذ وواتته الأسباب بظهور جزء من الكتب الضائعة والمغمورة وأعانه العلم المستفيض بأخبار الكتَّاب وأخبار عصورهم ومن سبقهم ممن أخذوا عنه أو نهلوا منه. وأما بعد، فإن كتاب خليل مردم بك عن الصاحب هو من أحسن ما يعرِّف الناس بلسان من الألسنة البليغة ووزير من الوزراء النابهين في القرن الرابع للهجرة.

أبو نواس

أبو نواس تأليف الأستاذ "عمر فروخ" أستاذ الأدب العربي في كلية المقاصد الإسلامية ببيروت رأت "مكتبة الكشاف" وصاحبها الأخ "مصطفى فتح الله" ببيروت أن تصدر سلسلة متتابعة من كتب في الأدب العربي، وبدأ لها الأستاذ الأديب "عمر فروخ" بالقول في "أبي نواس: الحسن بن هانئ" شاعر الخمر والمجون. ويقول المؤلف: "هذه دراسة شبه مفصلة في شعر أبي نواس، تتناول ترجمته، ثم البيئة التي نشأ فيها، والعناصر التي ساعدت على توجيه شعره إلى مستقره، ثم نقد لأبواب شعره. . . .". ونقول: قد تعجل المؤلف الأديب في دراستهِ شعر أبي نواس، وكان يجدر بهِ أن يقف طويلًا قبل أن يتقدم، ليأخذ عدته وأداته وما يصلح من أمره. أو ما تراه كتب عن موت أبي نواس والمرض الذي مات به أكثر من صفحة وكتب عن (فلسفة أبي نواس ومذهبه في الحياة) أربعة أسطر لم يزد فيها على أن جعل فلسفة الرجل فلسفة حيوان مستكلب قَطِم (¬1) تتَسَعَّر شهوته. ولقد طوى المؤلف القول في ترجمة هذا الشاعر العظيم ليظهر لنا نواحي شاعريته ومآتى هذه الشاعرية، وآفاق نبوغهِ ومطلع هذا النبوغ، فكان حقيقًا -ولم يفعل- بأن يكشف لنا عن العصر الذي كان فيه أبو نواس، ذلك العصر الذهبي في تاريخ العرب حين كان الرشيد "هارون" يقول للسحابة المُخْلِفَة "أمطرى حيث شئت" (¬2)، وحين كان الرجل من الناس يتنقل من مجلس الوقار يدرس فيهِ الكتاب الكريم، إلى مجلس الأدب والظرف ينشد فيهِ الشعر، ومن مجلس الحكمة والطب تدرس فيهِ الفلسفة بأنواعها، إلى مجلس أبي العِبَر وأمثاله يؤتى فيهِ بالكلام الملفق من رطانة العجم ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، فبراير 1933، ص: 240 - 241 (¬1) القَطِم: الذي يتشهي النِّكاح هنا. (¬2) تتمة القول: "فسوف يأتيني عطاؤك".

وحماقات المغفلين، ومن دار الجد والجدل في علوم الأوائل والأخذ والرد في مذاهب القوم من المعتزلة وأهل الرأي وأهل السنة وغيرهم، إلى دار الخلاعة والمجون وشرب الخمر وأنواع الشرور الإنسانية. وحين كانت بغداد تموج بالقادمين إليها من كل فج، فيهم الفارسى والهندى والشامى والمصري والأندلسى والترك والديلم والقيان الجميلات، والإماء المستطرفات اللبقات، والمغنيات والأديبات، وحين كانت الفتنة والوقار والهدى والضلال، وبغداد تغلي كغَلْي المرجل، وأبو نواس الشاعر الماجن اللسن الخبيث في مثل هذا الموج يروح ويغدو. هذا هو مَحَكّ كل مؤلف يكتب عن أهل ذلك العصر على الطريقة المستحدثة في الأدب العربي. وفي هذا يتبين القارئ كيف درس الأديب وكيف فهم وكيف تأثر بشعر الشاعر واهتز له وأقبل عليهِ وأعجب به واستوضح نبوغه فشهد له وفضله واستخرج محاسن شعره ثم كتب عنه. وبغير هذا يكون كل كتاب قد استوعب ترجمة الرجل منهم على طريقة التأليف الأولى أجدى وأقوم. على أن الأستاذ الأديب "عمر" قد ألم بحياة أبي نواس إلمامًا لا بأس به فيهِ الفائدة للناشئة، ينبه كل غافل منهم إلى الأديب العربي وما فيهِ من درر القول وكرائم الشعر ويدعوهم إلى وصل ماضيهم بالحاضر الذي يعملون على تشييده وبنائهِ. وقد رد الأستاذ القول الذي لج فيهِ بعض المحدثين بأن أمثال أبي نواس من الشعراء أهل المجون والخلاعة والتهتك يمثلون العصر العباسى عصر الرشيد الذي كان يموج بأئمة الدين كأبي يوسف صاحب أبي حنيفة وكبار الفقراء من أعلام الصوفية أصحاب النسك والورع. أما لغة الكتاب وأسلوب المؤلف ففيهما ضعف نرجو أن تبرأ منهُ بقية مؤلفاته إن شاء الله، وفي الكتاب سهو كثير ونخص بالذكر والتنبيه قوله "إن أبا الفرج صاحب الأغاني افتتح الجزء السادس عشر من كتابه "بأخبار أبي نواس وجنان خاصة" والصواب أنهُ الجزء الثامن عشر. وأيضا، فقد ذهب المؤلف إلى القول بضياع ترجمة أبي نواس من كتاب الأغانى كما ذهب إلى ذلك ابن منظور

الأنصاري صاحب "لسان العرب" في كتابه "أخبار أبي نواس". وأرجح الرأي عندنا أن قول أبي الفرج في مفتتح الجزء الثامن عشر من الأغانى "أخبار أبي نواس وجنان خاصة، إذ كانت أخباره قد أفردت خاصة" إنما عني به "جمع ديوان أبي نواس" الذي ذكروه في مؤلفات أبي الفرج.

ضحى الإسلام

ضحى الإسلام تأليف "أحمد أمين" الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية - أخرجته لجنة الترجمة والتأليف والنشر بمصر من أجلّ الكتب العربية التي أخرجت للناس في هذا العام كتاب "ضحى الإسلام"، وصل بهِ صاحبه الأستاذ "أحمد أمين" ما كان بدأ في كتابه "فجر الإسلام"، وبه نقع المؤلّف غُلّة شقىَ بها أدباءُ هذا العصر زمنًا طويلّا، ويخيَّلُ إليَّ أن الأستاذ "أحمد أمين" رجل قد أوتى من الصبر والجَلَد والمثابرة وقوة العزم ونشاط الفكرة نصيبًا وافيًا سابق به المجتهدينَ من أهل عصره حتى سبقهم وأربى عليهم. وعامة الناس لا يعرفون ماذا يلقى الباحث في التاريخ العربي والأدب العربيّ من عناءٍ وعنتٍ يبلغان منهُ الجُهْد. فالباحث إن لم يؤتَ مثل ما أوتى هذا الرجل انقلب إلى نفسه بأخسّ النصيبين وأوكس الحاجتين. ذلك بأن التاريخ العربيّ خاصة قد انفرد دون ما دوّن من تواريخ الأمم الخالية بالنقص في ناحيتين: أولاهما، انطمار آثار جاهلية الجزيرة العربية في اليمن والعراق والحجاز والشام وخُفُوتُ أخبارها وقلّةُ ما دُوِّن منها على تشتتهِ في كتب الأدب وكتب التاريخ، والأخرى، اعتماد المؤرخ العربي على الرواية فلم يعنَ بالتعليق عليها وتوضيح ما غمض من أسرارها. ونعتقد أنهم كانوا يستطيعون ذلك لو تعمدوه، وقد تبيَّن هذا لنا مما نراه لهم من القول في ترجيح رواية على رواية إذا التبس الأمر. وثالثة لا ذنب للتاريخ ولا للمؤرخ فيها، تلك هي ضياع أكثر الكتب العربية التي ألفت في عصر الرشيد والمأمون أو عصر تدوين العلم. وابتلينا نحن من بعد ذلك ببليتين: أولاهما أنْ لم يُنْتَدَبْ أحد من أهل هذه اللغة إلى التنقيب عن آثار هذه الأمة العربية التي طويت في أرضها بين يَمِنها وشامها وحجازها وعراقها ومصرها ومغربها وما سوى ذلك، والأخرى، أن لم يخفَّ أحدٌ إلى دراسة كتب العرب ولمّ شتاتها واستخراج ما خفي من أساليب العرب وأحوالها وعاداتها في الاجتماع ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، مارس 1933، ص: 360 - 365

والأدب واللغة حتى جاءَ في هذا العصر أصحاب الألسنة الأعجمية من دول أوربا بأقوالهم في تاريخنا وأدبنا وديننا بالكلام الجيد تارة، والفهم الملتوى والتعليل الفاسد تارة أخرى. فأنت حين ترى "أحمد أمين" يبتدر صادقًا إلى هذا التاريخ فيتقلّب فيما بقي من دارسات طلوله وفيما وصلنا من كتبه ما شاءَ الله أن يتقلّب ثم يخرج فيقصُّ عليك من أخباره وقد نَفَضَ عنها غبار القرون وأحداثها، وما إن ترى من أهل هذه اللغة إلا نائمًا أو متيقظًا كنائم أو صاحب مكيدة مخدوعًا عن رأيه وقلبه، وإلّا أعجمي اللسان والقلب يلتوى فهمه ولا يستقيم غرضهُ يتعرّض لتاريخ هذه الأمة فيصيب ويخطئُ، ويظهر فضلا ويدس مكيدة. . . أنت حين ترى هذا وترى ما في دراسة التاريخ العربي والأدب من عناءٍ وعنتٍ لا يتأتى لك بعدُ إلا أن تحْمَدَهُ وتشكر له ما أسدى إلى أمته من جميل. هذا وقد وضع المؤلف كتابهُ في أربعة أبواب في كل باب فصول، وفي الجزء الذي بين أيدينا الباب الأول منهُ: في الحياة الاجتماعية في العصر العباسيّ من (سنة 132 - 232 هـ) واجتزأ منها بما له أثر قوىٌّ في العلم والفنّ. والباب الثاني: في الثقافات المختلفة دينية وغير دينية. وأرصد باب "الحركات العلمية" وباب "المذاهب الدينية" ليجعلهما من نصيب الجزء الثاني الذي وعد بتقديمه إلى القراء قبل أن يفرغوا من قراءَة هذا الجزء. فوفاءً بحقّ هذا الكتاب الجيد نبذل جهدنا في الكلام عنهُ والتعرض لما فيهِ موجزين إن شاءَ الله وبالله التوفيق. تحرير القول في الأحوال الاجتماعية والعلم والفنّ وأثر أحدها في الآخر من أعسر ما يتعرض له الكتَّاب فإن الجليل من أحدها له من التأثير مثل الذي لحقيره، وإن من صغير أحوال المجتمع لما يزيد في العلم والفن أو ينقص منهما، وإن من حقير العلم والفن لمَا يزيد في أحوال المجتمع أو ينقص منها إذ تترافد هذه الثلاثة. حتى إذا ما أردت أن تعرف أيها الذي أثّر تأثيرًا قويًّا أو ضعيفًا وأيها الذي تأثّر التوى عليك المسلك ووقعت في الحيرة واضطربت اضطراب من ضلّ بهِ دليلُهُ. فمن أجل ذلك ما ينكُصُ كثير من المؤلفين عن تناول هذا إلا في الندرة. وغاية ما

يمكن المؤلف فيعمل ليتلافي هذا النقص وخاصة في التاريخ العربي أن يتسقّط أخبار الحياة الاجتماعية من قصيدة لشاعر أو كلمة لخطيب أو وصف أو قصة فيؤلف بينها ثم يمنحها من خياله وفكره ما يتمم به النقص الذي وقع فيها ويضع عليها من زينتها ما يظنُّ أنها كانت تتجمل بهِ ثم يعرضها لك بعد عرضًا خلابًا رائعًا حتى لتحسَّ وأنت تقرأ ما كتب أنك قد انتقلت من عصرك الذي أنت فيهِ إلى عصرِ مثل هذا العصر العباسيّ الذي تناوله "ضحى الإسلام"، وأنك تعيش في جوّ من الحياة العباسية فيها سحرها وجمالها ولها روعتها وجلالها ويترقى إليك المؤلف خلال ذلك بما يحقق من علاقة هذا الاجتماع بالعلم والفن وأين أثر كلِّ في صاحبه غير تاركك فتنسى أنك تعيش في ديار الدولة العباسية. فإذا أراد أن يحقق القول في موضوع بعينه كالرقيق مثلًا أفرد له خاصة ما يخرج فيهِ رأيه بأدلته وبراهينه وحججه وما ينتهي إليه من أخباره زَيْفها وصحيحها. ونحن نعتقد أن المؤلف قد قصّر في هذا الباب على جلالة ما كتب فيهِ. وإن القيد الذي وضعهُ من الاجتزاء بما لهُ أثر قويٌّ. . . في العلم والفن من الحياة الاجتماعية قد أضاع بهجة هذا الباب. وقد كان يستطيع أن يحتفظ بشرطهِ هذا مع شيء من التوسع في صفة بعض بلاد الدولة العباسية وأهمها بغداد حتى يحس القارئ وكأنهُ ارتحل فوافى بغداد يرى من أطرافها الأسوار والقباب العالية على أبوابها، بينها الأبراج عليها حراسها وحجابها في أزيائهم وملابسهم، والتماثيل على رؤوسها تلوح وتلمع. حتى إذا دخل بغداد رأى القصور بين البساتين والأنهار فإذا دخلها رأى الدهاليز والممرات والمخترقات والصحون فيها الصور الفاتنة على أعمدة الرخام، والمجالس فيها الفرش الجميلة والأبسطة المطرزة بالألوان الغريبة، والشعْرَ المنقوش على أطرافها وأوساطها. ورأى صور الفيلة والخيل والجمال والسباع والطير على ستور الديباج المذهبة. ورأى الخليفة في أبهته وجلاله ومن يحيط بهِ من حاشيته من أجناس الأمم في اللباس العجيب. ورأي العلماء والشعراء والحجاب تروح وتغدو، ورأى زيّ القضاء وزي الشرطة وزيّ الكتابِ وزيّ الوزراء وزي الأعراب من الشعراء وهم ينشدون مديحه في صوت البدويّ الجافي

مع حلاوة المخرج وحسن الأداء. ورأي شعراء الحضر يمدحون بالشعر فيه الغزل وفيه الحكمة وفيه السياسة والتحريض والدعوة إلى التوفيق أو التنبيه إلى الدسيسة. ورأي الجدَلَ في مجلس الخلافة بين العلماء من فقهاء ونحويين ولغويين، ورأي أولياء العهد في ملاعبهم ومجالس علمهم، والندماء في لباس الشراب والمغنين في الأقبية الخراسانية بأيديهم المزاهر والأعواد ومن كل آلات الطرب، بينهم القيان الجميلات والإماء الأديبات، والشراب يدور بهِ الولدان والفتيات بزينتهنّ وحسنهنّ. فإذا خرج إلى البساتين رأي الأفراس المطهمة عليها الذهب والفضة في أيدي الشاكريين (السوَّاس) عليهم البزَّة الجميلة ثم رأى حيرَ الوحش (حديقة الحيوان) تخرج الوحوش منها تقرب الناس وتأكل من أيديهم، والفيلة المزينة بالديباج والوشى مع أصحابها من فيالة السند، والسباع بأيدى السباعين في رؤوسها وأعناقها السلاسل والأغلال، ورأي البرك من الماء فيها مجالس للخليفة بألوانها وصورها وجمالها وأخرى من الرَّصاص القلعيّ تتوهج في شعاع الشمس كالفضة المجلوة والنخيل من حولها ملبَّسًا بالشبه المذهب وأشجار الأترجّ عليها الزينة تنفح عطرها وشذاها. والأشجار المصنوعة من الذهب عليها عصافير الفضة تحركها الريح فيخيل إليك من حسنها أنها أشجار حية. وتخرج إلى أسواق بغداد يفوح طيبها ومسكها ومندلها وبخورها وصندلها ويتلألأ الذهب والفضة في نواحيها وأرجائها والنساء والقيان والمغنيات والشباب والشيوخ والفقر والغني وأهل التصوف ومن كل أمة وجنس من رومها وعربها وفُرسها وسودانها وحبشها وظرف أهل بغداد وأحاديث مُجانها وخُلعائها وتنادر ظرفائها، والأعرابي في صوفهِ والحضري في خزهِ وحريرهِ، والنعال السبتية بأصواتها وألوانها ويسمع من وراء الجدران ألحان الجوارى وهن يتغنينَ في بيوتهن ويضربنَ بالدف والعود والمزهر والناي، وليل بغداد والسمر والغناء والموسيقى والمساجد والأذان وأصوات التكبير ودويُّ قرَّاء القرآن في جوانبها ومواعظ الوعاظ وبكاء الناس من هول يوم القيامة وأهل الحديث والمعتزلة والفقهاء والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. . . إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولا يفرغُ منهُ. والذي ذكرنا هو من أحوال الإجتماع

في بلاد الدولة العباسية وقد أثّرت في العلم والفن وأثر فيها العلم والفنُّ فلو أن المؤلف عرضهُ عرضًا خلابًا فاتنًا لما ترك من بعده مقالًا لقائلٍ. ومثل هذا العرض لابدّ فيه من تضافر أمرين. الأول: كثرة المادة التي يريد أن ينبني عليها المؤلف كتابه، وتهيئتها قبل البدء، ومعرفة المواضع التي يجب أن يكون فيها التحقيق العلمي وما هو بسبيله من إثبات أثر الاجتماع في العلم والفن أو أثرهما فيه بحيث لا يفسد جفاءُ التحقيق جمال الوضع وحسن الوصف. والثاني: قلمٌ سيالٌ عنيفٌ متزن يمده خيال واسع محيط وفكر متوقد لا يخبو كالشعلة من النار كلما احتطب لها ازدادت توهجًا واشتعالًا حتى ترسل الكلمات في تيار جارف من القوة والرهبة ليحطم بذلك ما بين القارئ وبين العصر الذي يدرسه من أسوار وحوائل. وقد تهيأ الأمر الأول للأستاذ "أحمد أمين" كما دلنا على ذلك كتابه، أما الآخر فكأني به شيخ محنك قد حطمتهُ السن يضع الكلمة بعدها الكلمة في هدوء ووقار. لأنهُ لا يخرجها إلّا بعد أن يزنها في الميزان المهيأ من تجاربه وما لقى من أحداث دهره فمن أجل ذلك ما تجده كثير الاستعانة بما ليس للقارئ بهِ حاجة كقوله في المواضع الكثيرة "في عصرنا الذي نؤرخه" فكأنهُ يخشى أن يكون قارئه قد نسى أنهُ يقول ما يقول عن العصر العباسيّ. وبعدُ فهذا أهم ما نقوله عن الكتاب من جهة وضعه وعرضه وبقيت أشياء قد عرضت لنا حين القراءة على ضيق الوقت والتباسنا بالعجلة وهذا حين نحقق ما عرض لنا من ذلك. 1 - نقل المؤلف من رسائل الجاحظ في ص 11 قوله "من ذلك: أن أهل البصرة أشهى النساء عندهم الهندياتُ وبناتُ الهندياتِ، والأغوارُ. واليمن أشهى النساءِ عندهم الحبشياتُ وبناتُ الحبشياتِ" ووضع نقطة الفصل بعد "الأغوار" ممَّا يدلُ على أنها معطوفة على "الهندياتُ وبنات الهندياتِ" وعلقَ على الأغوار بقوله "الغُورَة بالضم: بلدةٌ عند باب هراة، وبلا هاء، ناحية بالعجم. "والصواب" والأغوارَ واليمنَ أشهى النساء عندهم. . . إلخ، يعني أهلَ تهامةَ والحجاز واليمن "قال الأزهري: الغَوْرُ: تهامة وما يلى اليمن. وقال الباهليّ: كل

ما انحدرَ سَيلُه مُغرّبًا عن تهامَة فهو غورٌ" وأهلُ الأغوار واليمنِ أشهى النساء عندهم الحبشيَّاثُ لكثرة ورودهنّ عليهم لقرب الحبشة منهم. وقد ورد في الخبَرِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحد أصحابه في تفضيلهنَّ على غيرهن أنّ "هُنّ أنقى أرحَامًا" أو كما قيل. 2 - ذكر المؤلف في معرض الكلام عن خطأ الأعراب وكذبهم في اللغة ص 300 "أكاذيب الأعراب" وعنى بها ما يختلقونهُ في اللغة وذكر أن أبا العباس المبرّد عقد بابًا في كتابه الكامل سمَّاهُ "أكاذيب الأعراب" والصوابُ أن البابَ الذي عقدهُ أبو العباس في الكامل هو "تكاذيبُ الأعراب" ج 1 ص 356 وعنى به ما يتزيَّدُون فيه من الكلامِ وما يختلقونهُ من الأوهام كالذي قال أبو عبيدة في قول الراجز: "أهدَّموا بيتك لا أبا لكا ... وأنا أمشى الدأَلى حوالكا" هذا يقوله الضب للحِسْل (وهو ولد الضبّ حين يخرج من بيضته) أيامَ كانت الأشياءُ تتكلَّم. .! وكالذي نقله صاحب "ضحى الإسلام" في ص 37 عن كتاب الكامل نفسه من قوله "تكاذبَ أعرابيّان. . . الخ". 3 - قال المؤلف في ص 301 "وألف ابن خالويه كتابًا سمّاهُ "ليس في كلام العرب" بيَّن فيه ألفاظًا تستعمل ولم يصحَّ سماعُها من العرب. وليس الأمر كذلك فالكتابُ لكان أيدينا وقد طبع سنة 1327 هـ بمطبعة السعادة. ذكر فيه ابن خالويه ما شذّ عن القاعدة من كلام العرب وابتدأ كل فقرةٍ بقوله "ليس في كلام العرب" وبها سمى الكتاب. وذلك كقوله مثلًا في ص 5 "ليس في كلام العرب، أفْعَل فهو فاعل إلّا أعشبت الأرض فهي عاشب، وأورس الرمثُ فهو وارس، وأيفع الغلام فهو يافع، وأبقلت الأرض فهي باقل، وأغضى الرجل فهو غاضٍ، وأمحل البلدُ فهو ماحل". ولدار الكتب في فهرستها خطأ أكبر من هذا فقد وصفوا هذا الكتاب بقولهم "هو كتابٌ في الكلماتِ التي دخلت على العربية من الفارسية وغيرها وليست منها". . . .! ! وليس في الكتاب كلمة فارسية ولا (ملطية).

4 - في ص 395 تحريف في آيةٍ من كتاب الله وقعت هكذا: ألم تر إلى الإبل كيف خلقت. والآية من سورة الغاشية {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}. 5 - قال المؤلف في ص 83 "وقد كانت المملكة البيزنظية تحرّمُ على من ليس نصرانيًّا أن يتملك رقيقًا نصرانيًّا، ولكن المسلمين أباحوا. . .! ! لليهود والنصارى أن يتملكوا الأرقاء ولو كانوا مسلمين". ولا ندرى كيف كان ذلك وكيف يكون؟ وأي دليل وقع للمؤلف على هذا القول؟ والله تعالى يقول في سورة المائدة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وكيف يبيح المسلمون ذلك، ومن الذي أباحَهُ؟ ؟ 6 - من أهم ما ترك المؤلف مِمَّا له أكبر الأثر في العلم والفن والاجتماع أيضًا كَثْرةُ الورق في بغدادِ حين أتوا به من الصين وغيرها وكانت له تجارة واسعة جدًّا في العصر العباسي، فقد انتشر الورَّاقون في بغداد وكثرت عندهم الكتب وكثر النُسّاخُ والكتّاب وسهل على الناس أن يقرأوا الكتب بالكراءِ من دكاكين الوراقين. ولقد أحدث ذلك من النهضة في العلوم والفنون أكثر مما أحدث الرقيق وغيرهم في بلاد الدولة العباسية. ولعلّ المؤلف أخره إلى حين القول في الحركات العلمية "فهو به أشبه" أو كما يقول. هذا، والكتاب لا يزال بموضع العناية فإن اتسع الوقت لنا في تحقيق ما رأينا فيه عدنا إليه والله المستعان؟

الشريف الكتانى

الشريف الكتانى جائتنا هذه الرسالة البليغة في وصف الشريف الكتانى الذي زار مصر في طريقه إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج من حيث هو عالم من أكبر علماء الفقه الإسلامى وأديب واسع الاطلاع عميق الفهم جمع خزانة من أنفس المخطوطات العربية وأثمنها في داره بفاس. فنشرناها شاكرين هما رجلان ألان الله لهما من صخرتى أوّلَ ما رأيتهما: السيد الجليل "محمد نصيف" كبير جُدّة وعماد الحجاز والأملُ الممتدُّ في جزيرة العرب، وهذا السيّد المباركُ محقّق العلم الإسلاميّ وعمدة التاريخ العربيّ "محمد عبد الحيّ بن عبد الكبير الكتانيّ الإدريسيّ" واحد فاس، وكبير مراكش، والعلمُ الشامخُ بين أعلام الأمّة الإسلامية في هذا العصر ما بينَ الصينِ إلى رباط الفتح من المغرب الأقصى. وما عَسَاىَ أقولُ في رَجُل. . . كلما أمسكتُ القَلم لأكتبَ عنه تهيَّبْتُهُ من غير خوفٍ كما يتهيَّبُ المؤمنُ قَالةَ الحقِّ تحيكُ في قلبه، خشيةَ أن يجورُ فيها لسانُه، أو أن يعدل بها سامعها عن وجهٍ قصد إليه. وأنا حين أكتبُ هذه الكلمة -بعد أن لازمت الرجل أيامهُ ولياليه في القاهرة، وأخذت عنهُ، وقبست من نوره وعلمهِ وخُلُقِه الغضّ، واستنشيت ريَّا شمائله- أجدني كالذي انتقل بروحه من عالم كثيفٍ فيهِ من ثِقَل المادة ما يهيض جناح الطائر، إلى عالم من الرُّوحانية المصفَّاةِ التي ألقت أوزار المادة إلى مَثَارها ومعدنها من الأرض، وحلَّقت في جوّ السماء بين نسمات النفْحة الإلهية وفتنة الجمال العلوي. . . الجمال الذي ينتظم الكون كله بأفلاكه وكواكبه ودقة تدبيره وحكمة أمره. رجلٌ منضَّر الوجه كالوردة الزاهية فيها سرُّ الجمال الإلهيّ الذي لا يذبُل، مشرق الجبين كنور الفجر الصادق الذي لا يتكذَّب، وضّاح الثنايا كالأُقحوانة (¬1) ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، إبريل 1933، ص: 483 - 486 (¬1) الأقحوانة: نَبْت له نَوْر، حواليه ورق أبيض.

المبتسمة في ربيعها من الطلّ والندى، صافي العينين كالماء النمير في مجرى من البلور، كثّ اللحية محفوف الشارب أهدب الأشفار أبلج الحاجبين في شعرهما وَطَفٌ (¬1)، ضخم الهامة سابق الهيبة بادى الحنان، في جسمهِ بسطة تذكرك بما تقرأ في صفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. هذا هو السيد الشريف "الكتانى" عالم الشريعة الإسلامية وهذه صفتهُ أول ما تكتحل عيناك بطلعته. هو في الثامنة والأربعين من عمره، ولكن تطالعك هذه السنوات القلائل من عينيه بالكَبْرة الملطفه بشباب القلب، المخففة بحياة النفس العزيزة المتألمة المثخنة بالجراح من أحداث الدهر وعواديه. ينظر إليك حينًا نظرة العالم المتمكن الأمين المتثبت الذي شغله العلم عن الحياة المادية الغليظة، فتحملك نظرته هذه من مجلس بسيط وديع إلى بحر من العلم يفتنك هدوءه كما يروعك وعلى اصطخابه إذا ازدحمت فيه أسباب الحركة العلمية. وينظر إليك حينًا وهو يستمع هادئًا نظرة المشفق الحريص الذي يودُّ أن يراك مصيبًا لم تخطئ. وأنت لا تزال في مجلسه بين أنواع من النظرات لها معانيها، ولهذه المعاني أسبابها، ولهذه الأسباب بواعثها، ولهذه البواعث محركاتها، وهذه المحركات خفايا من وراء النفس، منقمعة مكتومة لا تنفذ إليها إلّا نظرات أروع وقّاد قد ابتلى دقائق النفس الإنسانية بالممارسة والذهن المتوقد الذي يرى من آيات الله آيات من البلاغة الإلهية التي تمس الروح مسة تيار كهربائى ترعَش به أعصاب الإنسانية وتنتفض. أنت من مجلسه في مجلس الحافظ لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والفقيه الذي قلب آيات الفقه الإسلامي بالبصر والبصيرة، والمؤرخ الذي انفتق له السور (¬2) عن تاريخ العرب والأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، والألمعي ذي الدهاء الذي ركَّبت الأحداث في نفسه آلة إحساس دقيقة تحس بالبعيد إحساسها بالقريب ولا تكاد تخطئ إلا بمقدار ما في النفس الإنسانية من أسباب الخطأ الذي لا تنفيه إلّا ¬

_ (¬1) الوَطَفُ: كثرة شعر الحاجبين. (¬2) يريد الأستاذ بذلك -فيما أظن- أن الحائط الذي أقامه الزمن قد انشق أمام بصيرة الرجل، فأزال ما تراكم عليه من غبار الأمد، فبدا تاريخا مشرقا واضحا.

العصمة التي لم يقضِ الله لأحد من الناس أن يبلغها. وهو وراء ذلك أحد المتصوفة الذين عرفوا حقيقة التصوف لا أوهامه التي ملأ بها الدخلاء ساحة التصوف، وأحد الذين يَزِنون العلم الحديث وما نشأ عنه من أحوال الاجتماع بميزان يفرق بين الخير والشر والحق والباطل، فهو يطلع عليهِ اطلاع المتبصر الذي لا يرضى لنفسه أن يكون من الغوغاء أتباع كل نظرية هوجاء لا قرار لها على حال. ولهذا الرجل إحساس علميٌّ عجيب، فهو لا يكادُ يسمعُ بأديب أو فقيه أو عالم أو فيلسوف إلَّا حنَّ إليهِ وقلقَ إلى رؤيتهِ، ورغب في التحدث إليه وسبر غوره، فلا تصرفهُ شواغله وهو في دار الغربة عن أن يقدم أهل العلم -أيًّا كانوا- بالزيارة بل تراه يبدؤهم بها. ويرحل من بلد إلى بلد لأن فيهِ عالمًا جليلًا قد قرأ آثاره أو سمع بهِ. وأنت فظُنَّ كيف تقدّرُ رجلًا من أقصى المغرب بفاس، لا يذكر أمامهُ اسم عالم أو غيره في مصر أو الشام أو الجزيرة العربية أو العراق أو الهند أو الأفغان أو الترك إلّا عرفهُ وقصَّ لك من أخباره وعدّدَ لك من كتبه. ومن هؤلاء الناشيء والمغمور الذي لا يعرفهُ أهل بلده على حين أنهُ منهم بمنزلة البنان من راحته. بل. . . يسمع اسم الرجل يراهُ أمامه فيطمئنُ قليلًا ثمّ يسأله من أي بلدة هو فما يجيبُ حتى يسأله عن علماءِ هذه البلدة من مات منهم ومن حيّ وعن كتبهم كيف كان مصيرها، ثم يعدّدُ لهُ بعضَ ما أَلَّفُوا. . . ويذكر له روايته عنهم إن كان رَوَى عنهم شيئًا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك. فمن أجل هذا الإحساس العلميّ المركّب فيهِ أتيح له أن يجمع مكتبة في داره بفاس تُعَدُّ من أغنى المكاتب الخاصة وأنفسِها في العالم العربي كلّهِ، فيها من النفائس والنوادر والغرائب ما لا يوجد في غيرها. وهو لا يكاد يسمع بكتابٍ نادرٍ حتى يسارع إلى استنساخهِ أو تصويره بالفوتوغراف. وها هو قد نزل مصر فجمع من شوارد المخطوطات ونوادرها أشياء كانت بين سمع دور كتبنا وبصرها ثم غفلت عنها. ويجلس هذا الرجل في نُزُله فيأتيهِ الوراقون بالمخطوطات حديثها وعتيقها فما يفتح أحدها حتى يعرف ما الكتابُ ومن صاحبهُ ويفرح بالكتاب النادر فرح الذي ضنَّ عليهِ الزمن طويلا ثم جاد. وبالله أشهد صادقًا لكأنى أرى الكتاب

بين يديهِ يكاد يحنُّ إليهِ حنين القلب الممزق المفطور إلى سبب من أسباب سلوته وراحته، ولكأني أراهُ يمسك الكتاب براحته كما يمسك أحدنا الشيء فيهِ من آثار قلبهِ وحبهِ وآماله ورغباتهِ ما فِيه، ويلقي عليهِ نظرةً عاطفة تكاد تحييهِ من عطفها وحنانها وحدَبها وأشواقها. هذا هو الرجل العالم المتيم بالكتب، الذي يطّلع جاهدًا على آثار الناس وما ينشرون في الكتب والصحف والمجلات ويعي أسماءَهم ويسأل عنهم ويرغب في رؤيتهم ويرحل إليهم بادئًا بالزيارة. وفي هذا الرجل رجل آخر قد جعلت من عينيَّ جاسوسًا مقتدرًا نفاذًا يتتبع نظراته وحركاته وما يبدو على وجههِ وجبينهِ من آيات التغيُّر والتبدل حتى عرفتهُ أو كدت. حدثتا عنهُ فقالتا: هذا رجل في عِظَم هامتهِ واتساع جبينهِ والتماع عينيهِ دليل على قوة مستحكمة شديدة. وهذه القوة -مع ما فيها من شدة- هادئة وادعة مسالمة، تتريث مفكرةً، فلا تظهر ولا تستعلن إلَّا ساعة الجد حين تعلم أن قد دنا أوانها، وأن موضع الفصل قد استبان، وأنها لن تخطئ. وهو رجل في أسالة خدّه ورقّة نظرته شاهد على طيب الخُلق، ودماثة الكنف، وحسن العشرة، وكمال الحنان والعطف، وهو رجل في تفاجّ (¬1) ثناياه وانطباق شفتيهِ وطول صمته -إذا لم يدعَ إلى كلام- وعمق نظراته في هذا الصمت برهان على الصبر في كل ملمة ومع كل أحد. قالتا: ثم هو رجل حلْوُ النفسِ صادق مخلص أمين على ما يؤتمن عليه رضيُّ الشمائل في كل حين. . . أما تراه يبتسم ابتسامةً رقيقةً لا تكاد تخلص إلا عن قلوب الأطفال المبرَّئين أو الكرام الصالحين فإذا ضحك اهتزَّ جميعه لأن ضحكته تصدر عن قلبه الطيع الكريم الذي يتحكم في كل عضو من أعضائه. وهو بعد رجل كتوم يحمل الآلام بين جنبيه وهي تمزق قلبه وتفتك فيه. ينظرُ النظْرة المترامية في مفاوز الماضي البعيد فيرجع بالذكرى الأليمة، وعلى نظراته معنى البكاء الذي لا يجد في الدمع ترجمانًا أو معينًا. وهذه وحدها نظرة ¬

_ (¬1) التفاج: التباعد، وهو في الثنايا مدح.

لو ألقيت على جبل أصم لا يألم لوجد لها مسَّا كمسّ الرحمة في القلب الرقيق. ويخيل اليك وهو يغضُّ من طرفه ويرخى جفنيه أن الصبر والجلد والرجولة الصادقة أرادت بذلك أن تخفي عنك نظرات هي أحاديث أيام، أشفق على نفسك أن تسمعها أو تلمُّ بها. وتراهُ حين يتكلم حتى في العلم يفيض حنانًا ورقة وكرمًا ووفاءً ثم يشتدُّ بعد تمهل حتى يأخذ عليك نفسك هيبة ووقارًا من ورعه وتقاهُ، ثم تتعرَّف فيه إذا خالطته ذهنًا قد اجتمعت له أسباب الإحاطة بأحوال الناس في كل أمة وجيل ثم يدق يكاد يغمض عليك إذا لم تلق إليه بسمعك وبصرك وقلبك جاهدًا متفهمًا. وإن تعجب فعجب لهذا الرجل الذي اتسع أفقه حتى ألّف ما أناف على مائتى كتاب فيها موضوعات عجيبة لم يسبق إليه بمثل تحقيقه ودقته على الأسلوب الذي يفهمه عن أهله ومن عرف مذاهب القوم في كتبهم ومؤلفاتهم. كلمة مقتضبة في رجل بحر كريم الأصل والمنصب سليل جدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفوة من هذه الأمة العربية التي تدفقت في الأرض تدفق السيل من رؤوس الجبال فأنبتت في كل أرض نباتًا حسنًا زكا مغرسهُ وطاب ثمرهُ. كلمةٌ نصلُ بها أرحامًا تقطعت أو كادت في زمن توالت علينا أحداثه واستمرَّتْ علينا عواديه وتركنا لُطماءَ. يأشَرُ الفارغُ الخليُّ، ويأسى ... مُتْرَعُ الصَّدْرِ منْ جوَى ملآنُهْ

نابغة بني شيبان

نابغة بني شيبان إن العربية لتُزْهى بما تخرجه دار الكتب من المطبوعات كما تزهى الحسناء بجمال وحيدها بعد أن استفتحت الله على عقمها فجاءها بأسباب راحتها وفزعها في وجهٍ معًا. فنحن بنا لدار الكتب مثل الذي بالحسناء لوحيدها من الحب والعطف والرعاية لأنها واحدة جادت لنا بها أيام كزَّة بخيلة. وبنا أيضًا مثل الذي بها من الخوف والفزع أن يستفزَّها الحدَبُ إلى الغرور، وإن يستخفها التغاضى إلى الإهمال والتعالى وترك الواجب الذي لا يستحلُّ خلافهُ. وقوة ما استقر في قلوبنا من الحدب عليها والتوجه إليها وما يعتلج في صدورنا من الخوف والفزع تدفع بنا إلى العناية بما تنشره، ومؤاخذتها على الكبائر والصغائر تنزيهًا لها وتبرئةً. وهذا "ديوان نابغة بنى شيبان" -آخر ما طلعت علينا به- نقول فيه كلمة تنفعها إن شاء الله. (تحقيق نسب النابغة ودينه) نقلت دار الكتب في تصدير هذا الديوان كلمة أبي الفرج الأصبهاني في أغانيه "ج 6 ص 146 مطبوعة الساسي" التي يقول فيها أن النابغة من شعراء الدولة الأموية "وكان فيما أرى نصرانيًّا لأني وجدتهُ في شعرِه يحلف بالإنجيل وبالرهبان وبالأيمان التي يحلف بها النصارى" اهـ. ولم تعلق دار الكتب على هذا بكلمة، فكأن الديوان لم يطبع فيها، ولم يهتم بشرحه القائمون بأعمال التصحيح فيها. ذلك، لأن هذا الديوان الذي بين أيدينا ليس فيهِ قَسَمٌ واحد بإنجيل أو رهبان أو يمين من الأيمان التي يحلف بها النصارى، بل فيهِ ما يدل على أن صاحبه مسلم عريق لم يضرب إلى نصرانية ولا يهودية، كما سنبين بعد. وتقول دار الكتب في التعليق على نسب النابغة إنها نقلته من الأغاني "بعد تصويب الأسماء الخاصة (كذا) بنسبه" ومعنى ذلك أنها رجعت إلى ترجمة أبيه "مخارق" ثم جده "سليم" إلى آخر ذلك فصححت التحريف الذي كان واقعًا ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، إبريل 1933، ص: 496 - 498

في نسبه. وهذا النابغة هو عبد الله بن مخارق بن سليم. . . الشيباني" من بنى ذهل بن شيبان ولد ربيعة بن نزار. فلو كانت قد رجعت إلى ترجمة أبيه -كما يفهم من كلامها- لعلمت أن "مخارق بن سليم. . . الشيبانى" صحابي ترجم له شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانى في كتابه "التهذيب" ج 10 ص 67 وفي "الإصابة" ج 6 ص 68 وابن الأثير في "أسد الغابة" ج 4 ص 335 وأفرد له إمامنا الجليل أحمد بن حنبل مسندًا في كتابه "المسند" ج 5 ص 294 - 295 وروى من حديثه النسائى في سننه ج 7 ص 113. قال ابن حجر في التهذيب "مخارق بن سليم الشيبانى أبو قابوس، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . وروى عنهُ ابناهُ قابوس و"عبد الله". وقد ترجم أصحاب كتب التراجم -التي بين أيدينا- لابن (¬1) قابوس لأن اسمه ورد في بعض الكتب الصحاح الستة، ولم يترجموا لعبد الله لأن اسمه لم يرد في أحدها ولعلهم لم يعنوا بروايته لانصرافه إلى قول الشعر ومدح الخلفاء فقلت روايته للحديث وقام بها أخوه قابوس. وما نظن إلا أن أبا الفرج قد وهم في قوله بنصرانيته -ولأبي الفرج أوهامٌ مثل هذه كثيرة- ولعل الذاكرة طوحت بهِ إلى نصرانية نابغة بنى الديان الحارثى من أرض نجران. وإلا فكيف يكون نصرانيًّا مَن يقول "الديوان ص 17". ويزْجُرُنى الإسلامُ والشيبُ والتُّقى، ... وفي الشيبِ والإسلامِ للمرءِ زاجرُ" وهذا نصٌّ لا نحتاج معهُ إلى الاستشهاد، بكثير مما ورد في شعره من خُلُق الإسلام وأيمانه وتجانفه عن الشرك والخبائث كبيرها وصغيرها. (شرح الديوان) علقت دار الكتب على غريب هذا الديوان ونشكُرُ لها عنايتها بذلك، ولكنْ ما كان أشد أسفنا حين رأينا هذا الشرح محشوًّا بالأغلاط الواضحة التي نودُّ أن ننزّهها عنها فمن أمثال ذلك قولهم ص 3 في شرح الكلمة ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، والصواب: لابنه.

تَعرُقُ: "تَعْرُق: تأكلُ ما على اللحم من عَظْمٍ وتأخذه "كله" ولا ندري كيفَ يكون هذا اللحمُ المكسُوّ بالعظامِ وكيف يؤكل. وقالت في شرح قوله. "وما الناسُ في الأعمال إلَّا كبالغٍ ... يُبَنّى ومُنْبَتُّ النياط حسيرُ" "فمُستَلَبٌ منهُ رياشٌ، ومكتسٍ، ... وعارٍ، ومِنْهُمْ مُتْرِبٌ وفقير" المتربُ: القليل المال. فيكون معنى البيت الأخير أن الناس منهم مكتسٍ وعارٍ وفقير، لأن قليل المال هو الفقير لا شك. ونصُّ اللُّغَةِ "تَرِبَ تَربًا ومَتْرَبة: حَسِر وافتقر فلزق بالتراب، وأَتْرَب: اسْتغنى وكثُرَ ماله فصار كالتُّرَاب -كثرةً- هذا هو الأعرف وقيل -وهذه لفظة التضعيف عندهم- قَلَّ ماله. والمُتْرِب الغنِيُّ إمّا على السَّلْب وإمَّا أن ماله مثل التُّرَابِ". فالمعنى (منهم غني وفقير). وقالت في شرح قوله يصف شعور النساء: "وفروع كالمَثَانى ... زانها حسنُ جَمِيرِ" الجمير: الطيبُ. ونحن لا نعرف للبيت معنًى بهذا الشرح. وكلمةُ اللغة أن الجمير: هو الشّعُر ما جُمّر منهُ وجمرت المرأةُ شعرها جمعته وعقدته في قفاها ولم ترسله، والجمائر الضفائر واحدتها جَميرة. والجميرُ من الزينة ولا شكَّ عند النساء. ونكتفي بهذه الأمثلة من الخطأ وقلة العناية والإهمال والاستهانة بأمر القراءِ والأدباءِ. الشعر العربي: وقبل أن أفرغَ من كلمتى هذه أُبدى تألمى من أحد الكتَّاب المشهورين في زرايته على دار الكتب بطبعها الكتب القديمة من مثل "ديوان جران العود" و"نابغة بنى شيبان". ونقول لهذا الكاتب الفاضل أنهُ ما حَمَلهُ على الزراية بالشعر العربيّ إلا تباطؤه عن الجد في فهم أساليب لغته التي يكتب بها، وأنهُ إذا وجد ثقلًا على نفسه الرقيقة في قراءَة شعر العرب المتقدمين فليس ذلك من ذنب الشاعر ولكن من ذنبه هو وذنب الذين وضعوا برنامج تدريس العربية في مدارسنا المصرية. ونرغب إليهِ إذا كان هذا رأيهُ هو أن يكتمهُ عن الناس لئلا

يصدهم عن الاهتمام بآثار أجدادهم التي لا يبنى الأدب العربيُّ الحديث إلّا على أساسها. ونقول أن الذي يفهمُ الشعرَ ويفهم أنهُ هو صورة النفس إنْ صافية فصافٍ وإن غليظةً فغليظٌ لا يقول بمثل هذه المقالة أبدًا، فمما لا شك فيهِ أن النفوس من آدم إلى اليوم هي النفوس البشرية التي لا تتغير أبدًا، وأن الأدب في كل العصور هو صورة هذه النفوس على اختلافها. وليس أدب اليوم هو الأدب الذي لا يُرْغَبُ في غيره حتى يكون ما سبق مما نعدهُ أدبًا وشعرًا كلامًا من مَنْطِقٍ لا نفهمهُ ولا نرغب فيهِ. ونعدُ بأنْ نظهر في هذه المجلّة روائعَ من الشعر القديم الذي انطلقت ألسنة هؤلاء الكتاب المشهورين بانتقاصه والنيل منهُ والله الموفق.

مقاليد الكتب

مقاليد الكتب 1 - كتاب "حافظ وشوقي" تأليف الدكتور "طه حسين" مطبعة الاعتماد سنة 1933 الدكتور طه حسين رجل غير مجهولٍ حتى نعنّي أنفسنا ونعنّي القراءَ معنا بالقول في آثاره الأدبية الكثيرة والتي استفاضت في هذه المدة الأخيرة أكثر من ذي قبل. وكتابهُ هذا فيهِ آراءٌ لهُ كثيرة مشهورة لأنهُ مجموعة مقالات نشرت قديمًا وحديثًا أحبّ الدكتور طه أن يذيعها بين الناس في كتاب يسهل تناوُلهُ إذ كانت مشتّتةً في الجرائد والمجلات التي نشرت فيها. وليس هذا الكتاب كما يُفهم من عنوانِه -كتابًا في حافظ وشوقى ليس فيه غيرهما. لا. . . بل كما سمّيت مختارات أبي تمام بالحماسة لأن الباب الأول من أبوابها الكثيرة هو باب الحماسة فكذلك سمى الدكتور كتابه هذا باسم "حافظ وشوقي" بالمقالات الأخيرة فيهِ عن حافظ وشوقي، ولأنهُ صدر بعد الحدَثِ الذي اشتغل بهِ العالَم العربيُّ بموت هذين العَلَمين في الأدب. ومقالات الدكتور طه التي في هذا الكتاب لا تحتاجُ إلى كلامنا فإنما هي مقالاتُه التي أحبهُ كثيرون من أجل آرائه فيها وتحامل عليهِ آخرون من أجل هذه الآراء. فليس من الرأي أن نتناول هذا الكتاب في باب المكتبة لأن ما فيهِ من الآراء يحتاجُ في نقده إلى إطالة وتوسُّع تضيقُ بهما هذه الصفحات القلائل. ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، مايو 1933، ص: 627

2 - كتاب الرثاء

2 - كتاب الرثاء في شعر أبي تمام، والبحتري، والمتنبي -تأليف أديبة فارس- مطبعة الاعتدال بدمشق الشام هذا الكتاب -رسالة اجتازت مؤلفتها امتحان شهادة الآداب العليا بالجامعة السورية سنة 1932. وقد أجادت الآنسة الأديبة "أديبة فارس" فهم الشعر الذي تعرضت لهُ فاختارت من شعر أبي تمام قصيدته في رثاء ولده التي أولها: كان الذي خفت أن يكونا ... إنَّا إلى الله راجعونا ومن شعر أبي عبادة البحترى قصيدة في رثاء خليله جعفر المتوكل الخليفة العباسى المقتول وأولها: محلٌّ على القاطُولِ أخلَقَ داثِرُهْ ... وعادت صُروف الدهر جيشًا تُغاورهْ ومن شعر أبي الطيب المتنبى رثاءَه لجدتهِ الذي أوله: ألا لا أُرى الأحداث مدحًا ولا ذَمًّا ... فما بطشها جهلًا ولا كفُّها حلما وقد وضعت المؤلفة الموفقة القصائد تامة في أول رسالتها مع ترجمة مختصرة لكل شاعر من هؤلاء الثلاثة ثم اتبعت ذلك بكلامها وفهمها وبحثها في الرثاء ما هو وقد أجادت. ثم أخذت كل قصيدة بمفردها فنظرت فيها وفي بلاغة الرثاء فيها نظرًا جيدًا وتكلمت على أبيات كلٍّ منها وموضع الإحساس في أبياتها وعارضت بين الشعراء الثلاثة معارضة صادقة. والذي يفرحنا من هذه الرسالة أن مؤلفتها امرأة، ثم امرأة متعلمة، ثم أديبة، ثم ناقدة. وقلَّ أن تجدَ في النساء الأديبات اللواتى يفرغنَ للأدب ولذاتِه وهمِّه أيضًا. وللآنسة أديبة فارس، أسوة بجدَّتها سُكيْنة بنت الحسين -رضي الله عنها- التي استخذَى لنقدها وبصرها بالأدب فحول الشعراء من الأولين كعمر بن أبي ربيعة ونُصَيْب الأسود وجميل العذرى وكثيّر عزَّة الخزاعي وغيرهم من شياطين الشعر. وللآنسة "أديبة" فكرٌ جيد في فهم الألفاظ ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، مايو 1933، ص: 627 - 628

3 - كتاب الخط الكوفي*

العربية ومواقعها من الكلام وأين هي من معانيهِ المقصودة التي توافقها. وهذا أول أثر نراه لها فنسألها أن لا يستغرَّها ثناؤنا على كتابها هذا أن تطلب الاستزادة لتصحيح الرأي وتقويم الفكر واللسان والقلم. فإن هذه اللغة الدقيقة العجيبة التي اختارها الله من لغات الناس لكتابهِ المُحكَمِ صعبةٌ شرود لا يصبر على معارفها ومجاهلها إلاَّ من أُوتىَ جَلَدًا لا يستضعف، ورزق من دقة الإحساس نصيبًا وافرًا لا ينفد. وهذه الكتب العربية التي انقطعت بيننا وبينها الأسباب فاستعجمت على كثير منا تحتاج إلى اجتهادٍ وجدٍّ حتى يعرف طالبها أسلوبها وما تنطوى عليهِ من معاني الجمال والفن كما يقولون الآن. ولنا أكبر الأمل في هذه الأديبة الناشئة أن تكون من اللواتى يذكرهن تاريخ العربية من النساء بأجمل الذكر. * * * 3 - كتاب الخط الكوفي * تأليف الأستاذ يوسف أحمد مدرس الخط الكوفي بمدرسة تحسين الخطوط الملكية بالقاهرة لقد أتى على الخط الكوفي القديم زمنٌ والناس لا يعرفون منهُ إلا اسمهُ، ويرونهُ في المساجد ولا يحسن أحدهم أن يعرف ألفهُ من يائِه. ومن المِخزيات أن لا تعرف الأمة آثار آبائها وأسلافها، فانظر أي شيء هو حين لا تعرف الخط الذي بهِ تعرف ما هي آثار آبائها وأسلافها. وكان من فضل بعض الناس علينا أن نشروا آثار أسلافنا، وكان من فضل الأستاذ يوسف أحمد على العربية ثم علينا أن رمى بنفسهِ في ظلمة الآثار البالية حتى استنارت بعلمهِ في معرفة أصول الكتابة الكوفية القديمة وتولى قراءة ما بقي لدينا من آثار آبائنا العرب. وها هو قد أخرج للناس الكتاب الصغير الجِرْم العظيم الفائدة جعلهُ موجزًا وذكر فيهِ رأي مؤرخي العرب في أصل الكتابة العربية ثم اشتقاقها من المخطوط سابقتها وما حدث من التغير والتبدل والتدرُّج في الخط الكوفي وما تلاهُ من أنواع الخطوط العربية وأردف ذلك بأمثلة ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، مايو 1933، ص: 628

4 - صلاح الدين وشوقي *

وصورٍ كثيرة للخط الكوفي. ونأمل أن يخرج المؤلف كتابًا مفصلًا في هذا وما ذلك على مثله بعزيز. * * * 4 - صلاح الدين وشوقي * تأليف، محمد إسعاف التشاشيبى، مطبعة بيت المقدس بالقدس سنة 1932 الكلمة الأولى فيهِ عن شوقي رحمه الله وقد قيلت في تأبينه ببيت المقدس والأخرى عن صلاح الدين فخر الإمارة الإسلامية والحكم الإسلامي ورجل العدل والأمانة وقيلت في مدينة حيفا من فلسطين يوم 25 ربيع الثاني سنة 1351 وذلك في ذكرى موقعة حطّين في الحرب الصليبية. والكلام يتوجه فيهما -كما قال صاحب الكلمة- إلى نصارى الغرب الذين يسومون الشرق سوء المعاملة لا إلى مواطنينا من أهل الكتاب من نصارى العرب. وفي الكلمتين المذكورتين روح إسعاف النشاشيبي بعروبتها وإخلاصها للعرب والشرق، واللغة العربية الصحيحة التي توفر على دراستها فأجادها وصار من بلغائها وخطبائها. * * * 5 - كتاب الشخصية * تأليف السيدة "للي ألن" ترجمة الآنسة "دلال صفدي" مطبعة العرفان بصيدا سنة 1932 يعنون بكلمة "الشخصية" ما كانت تعني العرب قديمًا بكلمة "السؤدد" و"السيادة" وذلك أن يكون في خلق الرجل من المروءَة وبعد الهمة والتواضع والإخلاص والورع عن دنيات الأمور والحلْم والتغابي لا عن غباء والصمت لا عن عِيّ ما يسود بهِ في بيتهِ ثم عشيرته الأقربين ثم الذين يلونهم حتى يكون سيدًا مطاعًا في أمة أو أمم أو عقلًا محترمًا في جيل أو أجيال. وكانوا قديمًا يطلبون الأخلاق التي هي طريق السؤدد لأنها من المروءَة، وقد ألفوا قديمًا كتبًا كثيرة في ذلك. ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، مايو 1933، ص: 628 - 629

6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

واليوم تهتم أمم الأعاجم من أوربا وأميركا بالبحث عن أصول تكوين الشخصيهّ وكيف يتيسر للرجل من الناس أن يكوّن لنفسهِ شخصية وقد ألفوا في هذا كتبًا كثيرة خلتْ من مثلها العربية في هذا العصر. ولم أقف إلاَّ على كتابين بالعربية في موضوع الشخصية وثالثهم هذا الكتاب الذي ألفتهُ امرأة وترجمتهُ امرأة. وعلى صغر هذا الكتاب فإن لهُ فائدة كبيرة. وقد ترك في نفسي أثرًا قويًّا لا أقول لأنهُ جيد جدًّا ولكن لأنهُ أثار في نفسي الرغبة في الاستزادة من هذا البحث. ولولا ضيق المقام وأن أبواب نقد الكتب في مجلاتنا لا تحتمل الإطالة والتوسع لاتّسع لي مجال القول قى تفصيل الرأي في معنى الشخصية حديثًا ومعنى السؤدد قديمًا والفرق بين الطريقين وأيّ السبيلين أهدى وأقوم ولاستطعنا أن نبين الرأي في تأثير المدنية الأوربية الطاغية في العلوم والآداب والأخلاق. . . إلى آخر ما يقال في هذا الشأن. ونقول في هذا الكتاب أن ترجمتُه لا بأس بعربيتها من آنسة، ونودُّ أن نرى لها آثارًا قوية خيرًا من هذا الأثر وبخاصة في مثل هذا الموضوع "الشخصية" الذي يرجع أكثره إلى المرأة فإنها هي مربية العالم من المهْدِ إلى اللحْدِ وهي المدرسة التي يتخرج عليها عظماءُ الرجال وقد قيل لأُم معاوية بن أبي سفيان حين رزقت بولدها معاوية "ليسودنَّ قومه" ققالت: "ثكلْتُهُ إن لم يسدْ إلَّا قومه" فما هدأت فتنة دم عثمان - رضي الله عنه - حتى وضع معاوية يده سيدًا مطاعًا على أعظم أمة في ذلك العصر. . . وذلك بفضل أُمِّه وما أخذتهُ بهِ من أدب حتى ضرب بهِ المثل في المروءَة والحلم. * * * 6 - كتاب أمير الشعراء شوقي * جمع وترتيب "محمد خورشيد" أستاذ الأدب العربي بمدرسة النجاح بنابلس مطبعة بيت المقدس كان شوقي وقد (ملأ الدنيا وشَغَل الناس) كما قالوا في المتنبى، فلما ذُهب ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 82، مايو 1933، ص: 630

بهِ وانطفأ السراج وأظلم البيت، امتلأت الدنيا بهِ مرة أخرى وقد خلت من شخصهِ وشغل الناس بذكره فاضطربوا وخاضوا بالقول فيهِ ونُشِر ما قيل فيهِ في جرائد العربية ومجلاتها في أنحاء العالم وصارت شتاتًا لا يجمعهُ الحصر قام كثير من الناس يجمع شتات ما قيل في شوقى، فأول ما وصل إلينا من ذلك هذا الكتاب وقد جَمَعَ فيهِ جامعه ما اختار ممّا نشِرَ عن شوقي ونسبَ ما اختارهُ إلى الجرائد والمجلات التي اختاره منها فكانت همة مشكورة لهُ وقدَّمهُ بمقدمة جيدة في شوقي وحياتهِ.

مقاليد الكتب

مقاليد الكتب حاضر العالم الإسلامي تأليف "لوثروب ستودارد الأميركي" ترجمة الأستاد "عجاج نويهض" وعليه حواشي أمير البيان شكيب أرسلان. مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1352 أوكس الأمم اليوم حظًّا في التعارف والتآلف، الأمة الإسلامية التي ألَّف الله بين قلوبها وألسنتها بالقرآن حين أنزله على رسوله وأيده ونصره، وجمع للمؤمنين من بعده أطراف الأرض تجبى إليهم ثمراتها وأرزاقها، وجعلهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يحكمون. وأنت إذا نظرت إلى العالم الإسلامي اليوم ورجعت إلى تاريخ هذا العالم فيما تصرَّم من أيامه لوجدت تَخَلُّفًا عظيمًا بيننا وبين أولئك السلف الذين هداهم الله إلى أسباب السعادة فاستمسكوا بها واعتصموا بحبلها فجمعهم الله على قلب رجل واحد. فكان الرجل في أقصى الصين تمتد أخوّته إلى أخيه المسلم فيما تَطَوَّح عنه من بلاد المغرب الأقصى، فكان الصينيّ المسلم ينزل أي أمة من الأمم التي تدين بالإسلام فلا يجد الجنسية تفصل بينه وبين العربي أو المصري أو الشامى أو المغربي بل كانوا جميعًا إخوانًا في الله وكانت الدولة في أي أمة من أمم الإسلام تتلقى هؤلاء الناس وتقوم عليهم وتفسح لهم كما تفسح للذين تربوْا في ظلها ونشأوا في أرضها، فكان المسلم من أهل الشام يتولى في بلاد مثل المغرب التدريس والوزارة وكثيرًا من مرافق الدولة أو يقوم عليها. ولا يفرق بينه وبينهم هذه الفتنة السوداء التي ظهرت حديثًا -فتنة الجنسيات. وكانت أخبار كلّ أمة من الأمم الإسلامية معروفة عند جاراتها وغير جاراتها فيما تقاذف من الأرض، هذا مع بطء المواصلات في ذلك العصر، وقلة أسباب الاتصال والتعارف، إذا قيست بما في هذا العصر من بريد وطباعة وطائرات وبرقيات سلكية ولاسلكية وغير ذلك من أسباب الاتصال التي جعلت العالم كله كأنه أمة واحدة. أما اليوم فإن الكثير من شباب العالم الإسلامي لا يكاد يعرف عن أقرب جاراته إليه إلَّا نتفا من الأخبار لا تفي بفائدة، ولا يجتمع من مجموعها ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 83، أكتوبر 1933، ص 359

ما يمكن أن يسمى علمًا أو معرفة، وليس ذلك من شيء إلّا هذه النزعات الفردية التي مزقت العالم الإسلامي، وهذه الجنسيات البغيضة التي قضت على الحياة السعيدة بين أمم الشرق الإسلامي. وإنك لترى كثيرًا من شباب الشرق يعرف أخبار فرنسا وانجلترا وألمانيا وأميركا وغيرها من بلاد لا يربطُه بها دم ولا لغة ولا دين، فإذا ذكرت الأمم التي تربطُه بها الدم وتجذبُه إليها اللغة ويميل بهِ إليها الدين والعقيدة وَقَف مِنْ ذكرها موقف الغريب الذي أخذته الدهشة وأذهلتهُ الحيرة. والسبب في هذا التدابر العجيب -بعد الاتصال والإخاء- هو ما أشرنا إليهِ من ظهور فتنة الجنسيات، ثم انصراف الشباب منا عن تتبع أخبار الأمم الشرقية عامة والإسلامية خاصة، ثم قلة عناية الصحف بأخبار هذه الأمم، ثم هذا الكسل الذي اعترى أهل الشرق فصرفهم عن التزاور والتعارف، هذا مع أن الرحلة هي أهم أسباب المحبة بين الناس وأحسن طرق المعرفة وأجل الأعمال خطرًا في بسط النفس والفكر والامتداد بهما إلى طلب السعادة والخير والمنفعة التي تعمُّ ولا تقف عند الحدود الضيقة التي نصبتها الشهوات المدنية. * * * ظهر كتاب "حاضر العالم الإسلامي" للمرة الأولى سنة 1343 من الهجرة، وكان الشباب يغلى في دمى غليان المرجل، وكنت أحب أن أتسقط أخبار الأمم الإسلامية ما استطعت، وكنت أؤمل آمالًا كثيرة يُمِدُّها خيالى وتزينها أحلامى، وكان يقوم على تهذيب نفسي وتشذيب آمالى وأحلامى رجل أحب أن أعترف بفضله عليَّ، وهو الأستاذ "محب الدين الخطيب" الذي طبع كتاب "حاضر العالم الإسلامي" بمطبعتهِ للمرة الأولى. فكان هذا الأستاذ الجليل أول من هدانى إلى قراءة هذا الكتاب، وما عليهِ من تعليقات شيخ الكتَّاب الأمير شكيب أرسلان، واستفدت من تعليقاته عليهِ أكثر مما استفدت من كلّ كتاب قرأتُه إلى هذا اليوم، فلما ظهرت هذه المطبوعة الثانية ورجعت إلى قراءتِه مرة أخرى انفسح لي مجال الفكر فيهِ أكثر من ذي قبل وكأنى ما قرأت منه حرفًا قبل هذه المرة وذلك لأن الأمير شكيب استوفى أبوابه وحشد لها علمًا كثيرًا لا يقوم بهِ غيره، ولا غرو، فإن هذا الرجل قد سلخ من عمره خمسين عامًا أو تزيد في تتبع

الحركات السياسية والدينية والعلمية والأدبية والتجارية التي نشأت وترعرعت في العالم الإسلامي وبثَّ فيها قلمه روحًا عظيمة تركت آثارًا في كل بلد إسلامي. وهذا الكتاب الذي بين يدي هو -فيما أعتقد- أجل ما عمل الأمير وما ترك من أثر، ولا نزال في حاجة إلى قراءته وتدبره والرجوع إليه إذ هو الكتاب الوحيد في العربية الذي يجمع بين دفتيه أخبار العالم الإسلامي وما ألمَّ به وعمل السياسة في إرهاقه وتحطيمه وتمزيقه. وليس أحوج إلى قراءة هذا الكتاب من شباب العالم الإسلامي الذين انصرفوا عن دراسة شؤون الدول الإسلامية والشرقية، ولم توافهم الصحف بأخبار وافية صحيحة عن هذا العالم. وأنا في كلمتى هذه لا أميز بين مسلم ومسيحي، فإن الإسلام قد أظلَّ النصرانية واليهودية في الشرق بظله الرطب زمنًا طويلًا وكانوا جميعًا في أمنٍ وعزّة لا يلحقهم حيف ولا تمسهم الذلة وكان أمن الإسلام أمنهم وعزّه عزّهم، ولم يكن هناك استعمار يجعل الأقليات في بلاد الإسلام زناد بندقيته التي يرمي بها الجامعة العربية الإسلامية. إن التاريخ لا ينسى أن الجيوش الإسلامية التي قاتلت الصليبيين من أهل الغرب كانت تجمع تحت لوائها المقاتلة من النصارى واليهود وغيرهم، وأن التاريخ لا يستطيع أن يذكرنا بشكوى كانت لنصارى الشرق من المسلمين وأحكامهم، ألا وإنَّ موقف الأقلية المسيحية في سوريا لخير مثل مضروب لذلك العهد المضئ بالعدل والمساواة والحق. ليس للعالم الإسلامي معلمة (دائرة معارف) يوثق بها في هذا العصر إلَّا هذا الكتاب. ولم نأخذ على هذه المطبوعة شيئًا من النقص إلَّا أشياء قليلة، فالمطبوعة الأولى من الكتاب كان التخالف فيها بين حروف الأصل المترجم وتعليقات الأمير بيّنًا. أما في هذه المطبوعة فالأصل والتعليقات كلها من حرف واحد. وأيضًا، كان في المطبوعة الأولى فهرس دقيق للأعلام والمواضيع خلت منهُ هذه المطبوعة. وكان صواب الرأي أن يكون الفهرس في هذه أوفى منه في الأولى وأوسع، على أن هذا لا يقلل من قدر هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه شرقي يريد أن يشعر يومًا بالعزة والكرامة والعلو في ظلال الحرية والاستقلال.

ذكرى الشاعرين

ذكرى الشاعرين جمعها ورتبها "أحمد عبيد" صاحب المكتبة العربية بدمشق - مطبعة الترقي بدمشق سنة 1352 كان في عصور الحكومة العربية التي أقامها الإسلام في الشرق وأظلَّ بها ما ترامى بين مشرق الشمس ومغربها من أمم ألَّف بين قلوبها وألسنتها وثقافتها وعلمها، قومٌ قد اتخذوا الورق والكتب تجارة درَّت عليهم رزقًا مباركًا، وسمى الناس هؤلاء القوم "الورَّاقين". فكانت دكاكين هؤلاءِ الورَّاقين مجامع تضمُّ صفوةً من العلماء والشعراء والمحدثين والفقهاء والنساخين والأدباء لا يزالون يردون عليها ويصدرون منها ما بين طرفي النهار في طلب الكتب أو بيعها أو نسخها. وكانت مجالس هؤلاءِ المثقفين في هذه الدكاكين لا تخلو من مناظرة أو مطارحةٍ أو جدلٍ، أو ذكر خبر، أو رواية حديث، أو إظهار حكمة. فنشأ من بين هؤلاءِ الورَّاقين رجال من أهل العلم ألّفوا وقعدوا للدرس وقالوا الجيد وبذُّوا كثيرًا من أهل العلوم التي فرّغوا قلوبهم لها مع تجارتهم. والأديب "أحمد عبيد" هو خلف من أولئك السلف الذين جمعوا إلى التجارة بالكتب علم ما في هذه الكتب، وله آثار جيدة وشعر طيب ولا يزال يطالعنا كل عام أو عامين بكتاب مما ألَّف أو جمع أو اختار. وآخر كتبه "ذكرى الشاعرين" حافظ وشوقي، جمع فيه أكثر ما كتب الأدباءُ في مصر والشام والعراق والمغرب عن هذين الشاعرين قبل وفاتهما وبعدها. وجمع أكثر المراثي التي قيلت فيهما، وأضاف إلى بابي الكتاب مختارًا من شعر حافظ وشوقى أكثره لم ينشر. وفي هذا الكتاب ترى كيف اهتزَّ العالم العربي لموت هذين العلمين، وكيف أفاض الكتاب والشعراءُ في ذكر آثارهما ومناقبهما وكيف أنطقت الفجيعة كل صامت وأوهت كل بليغ. ولا يشك أحد في أنه لم يُكِنَّ الوفاءَ للشاعرين في جمع ما كتب عنهما وحسب، بل الوفاءُ في تتبع ما أحدثا في الشعر العربي من جديد، وأقاما من بنيان كان قد تهدَّم في عصور اللكنة والنبطية المريضة التي كانت لسان الشعراء في القرون الأربعة قبلهم، غير أن

ماضي الحجاز وحاضره

هذا العالم العربيَّ قد ابتلى بالتقصير في تاريخ دولهِ وآدابهِ، وبالنكول عن الأغراض السامية التي كان آباؤُهم يتبادرون إليها تبادر الجياد الكريمة في حلبة السباق. ومع هذا فشكرنا للأخ "عبيد" -الذي جمع ما كتب عن هذين الفحلين العظيمين- لا يقدَّرُ إذا قيس بأسفنا لهذا الصمت الذي أعقب وفاتهما. وعمل الأخ "عبيد" قد جعلنا نشعر بأن الأمة العربية التي مزَّق الاستعمار أوصالها بدسيسة العصبيات من فرعونية وآشورية وبربرية وفينيقية قد بقي فيها ذلك الوفاءُ الذي امتازت بهِ على تطاول العصور، وأملنا أن يكون عمله هذا فاتحة لدراسة هذين الشاعرين دراسةً وافية يقوم بها من يجد في نفسه القدرة على تتبع بيانهما وسحرهما وفنهما وإظهار ما كان لهما من الفضل على البيان والفكر والفنّ. ماضي الحجاز وحاضره الجزء الأول: تأليف "حسين بن محمد نصيف" بجدة الحجاز مطبعة خضير كان غيري أحقُّ بالكتابة عن هذا الكتاب، فإن للأخ "حسين" ووالده عندي نعمًا مشكورة ما بقيت. وأنَّ الصداقة التي بيني وبينه لتجعل بعض أخطائِهِ في نفسي بمنزلة من الصواب. وكان كتابهُ هذا تامًّا أيام أن كنت في الحجاز وقد عرضهُ عليَّ وحال بيني وبين تمام قراءَتِهِ أو التثبت عند النظر فيهِ حوائل جمَّة. وهذا الجزء من الكتاب وثيقة تاريخية عظيمة القدر في تاريخ الحجاز من ولاية الحسين بن على بن محمد بن عون الرفيق في شوال سنة 1326 إلى دخول عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل السعود (ملك الحجاز ونجد) جدة في صباح الخميس 8 جمادى الآخرة سنة 1344، ويزيد قدر هذا الكتاب حين يصل إلى تاريخ المعركة التي كانت قائمة بين الأسدين العربيين، والتي انتهت بانهزام الحسين وخروجهِ من بلاده إلى حيث عاجلته منيته -رحمه الله- وعفى عنهُ. ولولا هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم لكان من الصعب على أحد من أهل البلاد العربية النائية أن يصل إلى أخبار صحيحة عن الحرب الحجازية الأخيرة، أو أن يصل بين تاريخ الحجاز قبل عهد الحسين وتاريخه بعد حكم ابن سعود. وقد اتّبع

الوحي المحمدي

صاحب الكتاب طريقة جمع الوثائق التاريخية كلها. إلَّا قليلًا مما لم تصل إليهِ اليد أو ما طوتهُ الضرورة. ولعل الطبعة الثانية لهذا الكتاب ستكون إن شاء الله أوفى وأتمّ وأوسعَ، فإن نقص القليل من وثائق التاريخ يلدُ خطأً كثيرًا في التاريخ، وبخاصة قى تاريخ الحجاز الذي لم نجد أحدًا من أهله دوّن عن عصوره القريبة شيئًا يعتمد عليهِ أو يرجع إليهِ مع أنهُ مناط آمال كثير من دعاة الجامعة العربية، وموئل من موائل الحرية، ومشعر من مشاعر الله التي تضم أشتات الأمم وأخياف الناس فتؤلف بين أبدانهم كما ألَّف الله بين قلوبهم بالإيمان. ونحن نقدّر جمع الوثائق التاريخية تقديرًا أكبر من غيره مما يكتب في التاريخ، وذلك لأن تصرُّف المعاصرين لعهد من العهود يوجّه التاريخ إلى وجوه ملتوية إذ يكون العامل المؤثر فيها هو الهوى والعصبية والميل إلى فئة من الفئات، وهذا عمل غير صالح يضع الخلف قى مضطرب واسع لا يستطيعون فيه تحقيق التاريخ على وجه الصواب. ولذلك كان التاريخ العربي القديم على كثرة الرواية فيه واضطرابها أحفل التواريخ بالمادة التي تهدى إلى الحقيقة في تاريخ عصر من عصوره. وليس يعتمد التاريخ على فصاحة المؤرخ وبلاغتهِ وحسن أدائهِ، بل العمدة فيه المادة التي يحشدها المؤرخ في بيانِه عن عصر يؤرخُه، ثم قدرة هذا المؤرخ على حسن الأداء، ودقة الوضع التي يؤلف بها بين الروايات بعد تصحيح ما صحّ منها وتزييف ما زُيف. و"ماضي الحجاز وحاضره" سيكون مادة عظيمة للمؤرخ الذي ينزع الهمة يومًا ما لتاريخ الجزيرة العربية في عصر النزاع بين الحسين وابن سعود، ذلك العصر الذي كان فاصلًا بين شكلين من الحياة والفكر، لا يزال الناس في شكٍّ من ترجيح أحدهما على الآخر. الوحي المحمدي تأليف الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد صاحب المنار - مطبعة المنار سنة 1352 من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الإنسان نعمة العقل، وأجل ما ينعم بهِ على هذا العقل بساطة التفكير والرجوع فيه إلى الحرية والإنصاف والاعتدال

والسماحة، وأسوأ ما يعترى هذا العقل من الأدواءِ التي تزيد في شقاء الإنسان، هذا التعقيد الذي يسمونهُ فلسفةً تدليسًا على العقل نفسه. والحقيقة التي يجب على كل إنسان أن يعتقدها في نفسه وقلبه أن التفكير البسيط الواضح الهادئ الجرئ المتثبّت هو أعلى درجات الفلسفة وأشرف منازل الحكمة. وكانت حكمة الأولين وفلسفتهم تعتمد في مجموعها على هذه البساطة، وذلك لصفاء القلوب وتفرُّغها لطب الحقيقة من ناحية، ثم قلة العلوم وانضمامها من ناحية أخرى. فلما اتسع العالم في الحضارة ونهض العلم واستبحر حتى وصل إلى الحالة التي نراها اليوم، اتسعت الشهوات وغلبت على القلوب وشغلتها عن طلب الحقيقة والتفرُّغ لها والتوت بها في مسالك الضلال والغيّ، وصعب على عامة الناس الإحاطة بالعلوم كلها. ثم لما ظهرت أشباه المعجزات في العلم الحديث استكبر الإنسان وأخطأ الرأي في نسبة هذه العجائب إلى قدرة العقل وحده دون توفيق الله ومشيئته، فزاغ كثير من الناس وضلوا واستفتحوا أبوابًا عن الزندقة والجحود والشبهات قلَّ أن يجدى في أغلاقها جدال أو خصومة. وإذا نظرت إلى الأرض وجدت الاضطراب والتقلقل والحيرة مقرونة بالتهتك والفجور والبغي ووجدت سيلًا من الفتن يزأر ويخور في كل مكان، ووجدت الناس من ههنا وههنا يجرون ويدبّون ويتلفّتون كأن ليس منهم إلَّا لصٌّ أو مسلوب أو مجنون. ونعوذ بالله، فإنَّ هذا بلاءٌ عظيم لا يدرى معهُ كيف المخرج ولا أين المفرُّ. ألا وإن الأيدي موضوعة على مفاتيح العلوم، وكلما أدير مفتاح في بابهِ ثم فتح الباب وبدت العجائب لعيون الناس جدَّدت هذه العجائب فينا رغبات وشهوات تمنع القلوب من الاطمئنان والاستقرار. وكيف يطمئنُّ امرؤٌ لا يزال قلبهُ معلقًا في مدرجة الرياح الهوج ولا يزال تتناوحهُ تلك الرياح بالقوة الطاغية التي تعصف بالعالم فما تفتأ تدوى القنابل والرصاص والرعود والبروق في كل زاوية من هذه الأرض التي يقولون عنها متمدنة حرة. إن العالم ليغلي بشروره وحسناتِه على كثرة الشرور وقلة الحسنات، أفينكر هذا حيٌّ على ظهر الأرض في أيامنا هذه؟ أينكر أحد أننا على حافة ميدان قد حشدت له الأمم والعقول من كل مكان؟

أو ينكر أحد أن هذا الميدان لا يحدَّ بحدود سياسية أو حربية؟ ألا وإن القتال قد وقع في كل مكان حتى البيوت التي هي موضع الأمن في عرف الإنسانية، أو ينكر أحد أن العلم الحديث على جلالة قدره وعظم ما آتى من النعم لم يستطع أن يؤتى قلبًا واحدًا نعمة الراحة والاطمئنان؟ أخذت الأرض زخرفها وازَّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فلم يبق بعد الآن إلاَّ أن يعرف الإنسان أنهُ -مع قدرته على الأرض وتصريف قواها واستخراج كنوزها- غير قادر على أن يستجلب لقلبهِ ساعة من الأمن يرضى فيها عن نفسه وترضى نفسُه عنهُ. ألا وإن أهل الأرض جميعًا في هذه الحيرة لينظرون إلى الغيب نظرة اليائس الذي كان لهُ أمل ثم قطع به، ولماذا قطع بهذا الأمل؟ ذلك لأن الناس حكّموا في قلوبهم كل شهوة من شهوات المال والنساء والغلبة والفوز ولم يضبطوها بشيءٍ من ضوابط الحياة، فأصبحت الحياة كلها عدوان وتقاتل وتنابذ وشهوة. وليس للحق وحدوده بين الناس قدر تقف كل هذه الشهوات دونه، ثم ها نحن نفقد الإمام الذي يقود العالم إلى الخير والسعادة والراحة، ولا يستطاع أن يكون في كل عصر إمام يقود الناس، فكان العقل أن يكون كل امرئ على نفسه إمامًا يهديها إلى الخيرات، وليس يوجد هذا في امرئٍ إلا أن يكون عنده كتاب يهديهِ، يستجيب لأمره، ويقف مع نواهيه، ويمشي مع أوامره، ويكون هذا الكتاب هو الحق المبين الذي ميّز للإنسانية خيرها وشرها وصرَّفها على قدر من الحكمة والصواب يؤول بها إلى المحبة والرضا والحرية والسعادة والاطمئنان. وهنا يختلف الناس بين الكتاب الوضعى الذي لا يعرف أول الرأي فيه من آخره، وذلك هو كتاب العقول الإنسانية بفلسفتها وحكمتها وضعفها واختلافها، وبين الكتاب الذي يقول عنه من يؤمن به أنه وَحْى من رب العالمين يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. وليس يقع هذا الخلاف إلا من غموض أمر هذا الوحي إلى بشر من الناس تلقى إليه من ربه كلمات يبلغها للناس حتى يكونوا مؤمنين. ولا يفضُّ هذا الخلاف بين الناس إلَّا أن يستقرَّ في القلوب صدق الوحي وصدق وقوعه لمن اختير من بين البشر ليكون نبيًّا أو رسولًا يهدى

إلى الحق ويدعو إلى صراط مستقيم، ولمثل هذا قام الأستاذ الجليل الشيخ محمد رشيد رضا فأخرج للناس كتابه هذا الذي بين أيدينا عن الوحي، وعن الوحي الذي نزل على "محمد" رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة ليثبت أن الوحي صدق لا يُشَكُّ فيه وأن القرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأحبُّ أن ألقى القَلَم من يدي لأن الاسترسال في نقد هذا الكتاب وإظهار حسناته وتعقب بعض كلماته التي سبق بها قلم المؤلف تغري بالإفاضة حتى يبلغ ما نكتب عنهُ مثل الكتاب الذي أمامنا، وأنه لَمِنَ الخير لكل من يطلب الحقيقة أن يدرس الوحي في هذا الكتاب فلعله يجد الحق فيقنع به ويتعلق بآياتِهِ.

مقاليد الكتب

مقاليد الكتب 1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم تأليف أمين محمد سعيد مطبعة عيسى البابي الحلبى وشركاه بالقاهرة سنة 1352 "ملوك المسلمين". . . .! ! لا أكاد أسمع هذه الكلمة حتى تتطوح بي الذكر إلى الأيام السوالف من عصور المجد والقوة والحضارة والعلم والأدب، وانتقل بين درجات التاريخ حتى أصل إلى عهد السعادة والرحمة والأخوة والعدل بين الناس، يوم كان المسلمون أمة واحدة تسير بها كلمة الحق في كل وجه -ظافرة ظاهرة- إلى سبيل الهدى والرشاد، ثم أرتد على عقبى إلى ما آله إليه الأمر من فرقة في الجماعة وانقسام في الرأي واختلاف في الحق حتى وضعت فينا وحوش الاستعمار أنيابها ومخالبها ممزقة ما بقي من جسم قد أكلته العلة وذهب بهِ الداء ونخر في عظمه السوس، حتى لم يبق من أعضاء هذا الجسم ما يقول هاأنذا سليم فانظرونى. . . دع هذا، وعد إلى ما نحن فيه. يغطى المسلمون الآن رقعة رحبةً من الأرض بعيدة الأطراف مقسمة في أمم كثيرة ولكل شعب مسلم من هذه الأمم ملكٌ أو إمام أو سلطان أو والٍ تعود إليه أمورها، ومما يؤسف له أن أكثر هذه الشعوب يجهل بعضها بعضًا على أن الأصل الذي وضع عليه دينها هو التعارف والمودة والأخوة والنصرة والتعاون، أجل، إن بين ملوك هذه الشعوب وولاتها من المعاهدات والصلات ما تثبته الوثائق إلَّا أن هذا لا ينفي أن جهل هذه الشعوب بأحوال جاراتها كائن لا سبيل إلى المراء فيه، فمن من شباب هذه الأمم يلم بأخبار ما ترامى من بلاد الإسلام أو ما دنا ويتبع ما يقع فيها من الأحداث العظيمة ويكون على بينة من أمرها حافظًا لأخبارها متصلًا بثقافتها في أدبها وعلمها شاعرًا بشعورها في آلامها وأحزانها. إن الحوادث تثبت لنا كل يوم أن الأمم الإسلامية متدابرة متقاطعة إلَّا قليلًا منهم. فمن ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 83، نوفمبر 1933، ص: 484 - 485

الإحسان إلى أنفسنا وأوطاننا وتاريخنا ومجدنا أن يقوم بعض أهل الخبرة والمعرفة بتقريب ما تباعد بين هذه الأمم بنشر الكتب التي تضع أمام قارئها صورة من هذه الأمم جميعها ليلم قارئو كل أمة بما عليه أحوالها وما هي فيه. وبالأمس القريب ظهر كتاب "حاضر العالم الإسلامي" (¬1) للأمير شكيب أرسلان، فقام بفرض من أعظم الفروض، واليوم يظهر هذا الكتاب فيتمم كتاب الأمير في ناحية من نواحيه. ونحن نشكر للمؤلف ما تفضل بهِ على قراء الأمم الإسلامية، وما بذل من جهد في الترجمة لملوك هذه الأمم في هذا العصر وما عانى في جمع المعاهدات والوثائق التي تربط بعضها ببعض والتي تربطها بملوك الأعاجم من دول أوربا وغيرها. وقد سلك المؤلف مسلكًا حسنًا في ترجمة هؤلاء الملوك فهو يقدم لكل أمة بلمحة موجزة في موقعها الجغرافي وحكمها السياسي وتعداد سكانها على اختلاف أجناسهم ومللهم ثم يبدأ في ترجمة الملك من الملوك أو الأمير من الأمراء فيذكر مولده ونشأته وعهده وتاريخ السياسة فيه ونظام حكمه وما عقد من المعاهدات ذاكرًا نصوصها، وكان في عمله هذا سابقًا مشكورًا. هذا، ولا مندوحة لي من أن أنظر في الكتاب نظرة العربي الذي لا يحب أن يخدع نفسه وقومه، ألا وإن خداع النفس من أباطيل الحياة وأدوائها التي تنهك البدن وتذهب بالشباب والقوة والحذر. قسم المؤلف كتابه إلى قسمين أولهما "الدول الإسلامية المستقلة" وذكر مصر والعراق وبلاد العرب واليمن وتركيا وإيران وأفغانستان، والثاني: "الدول الإسلامية المحمية" وذكر سوريا وشرق الأردن وحيدر آباد وأسبانيا والمغرب الأقصى وتونس ولحج وحضرموت ومسقط والكويت والبحرين. وأنا لا أدري لماذا يخدع المرءُ نفسهُ فيعمد إلى بلاد يأكل الاستعمار مالها وأبناءَها ويقتل أنفسها ويريق دماءها ويفتك فيها بما ملكت يداه من أساليب السياسة فيعدها في جريدة البلاد المستقلة وهي لا تبلغ أن تكون دولة قد رفعت على منازلها أعلام "الحماية" إن البلاد التي وقعت فريسة للحماية ¬

_ (¬1) هذا الكتاب من تأليف لو ثروب ستودارد، ترجمه إلى العربية الأستاذ عجاج نويهض، وعليه حواشي شكيب أرسلان. وقد عرضه الأستاذ شاكر -رحمه الله- ص 645 - 647.

تشعر دائمًا أنها فريسة فتسعى إلى الخلاص جهدها وتوجه كل قوة فيها إلى ذلك فإذا خشى الاستعمار تمام يقظتها واستفحال قوتها خدعها عن نفسها بالاستقلال المقيد بقيود ثقيلة من الذهب فيشغلها بقيودها الذهبية عن آمالها وأمانيها. ثم نأتى نحن فنخدع أنفسنا بأن نعدها مستقلة. . . اللهم إن هذه الأمم مخدوعة من ناحيتين من ناحية العدوّ ومن ناحية أنفسها. أو كان المؤلف يعدم حيلة للخلاص من هذا؟ أكان يضيرهُ شيئًا أن يترك الكتاب على نظامه هذا غير مقسم ذاكرًا تلك الحقيقة بأي أسلوب شاءَ، وإن كنا نؤثر التصريح، ولا نرى غيره رأيًا.

2 - ابن عبد ربه وعقده

2 - ابن عبد ربه وعقده تأليف: جبرائيل سليمان جبور أحد مدرسي الأدب العربي بجامعة بيروت الأميريكية المطبعة الكاثوليكية ببيروت سنة 1933 كان شيخنا سيد بن على المرصفي -رحمه الله- يستجيد كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه ويعده في أجل كتب الأدب العربي، ولا أدري كيف مضى بي الزمن ولم أسأله عن هذا الكتاب سؤال الطالب الذي يريد أن يوقفه شيخه على عيون الكتب، ويدله على أسرارها، إلّا أني سمعته مرة -وقد ذكر هذا الكتاب- يشكو من كثرة الخطأ والتحريف والخلط الذي وقع فيه من النساخ. ورحلت عن مصر إلى الحجاز في أول سنة 1347 وعقدت النية على قراءَة هذا الكتاب لتصحيحه وضبطهِ ولم أوفَّق إلَّا لقراءته للمرة الثانية دون أن أصححه أو أضبطه ولكننى كنت أجد المشقة في قراءته لكثرة الخطأ الواقع في نصوصه، وأظن أن كل من قرأ هذا الكتاب وجد منه مثل الذي وجدت. فلما ظهر هذا الكتاب "ابن عبد ربه وعقده" عدت إلى قراءة ما تيسر منهُ لأكون على بينة مما يكتب المؤلف فوجدت فيهِ كثيرًا من الخطأ مما فاتنى في القراءة السابقة فتمنيت كما تمنى الأستاذ في كتابه هذا أن تقوم جماعة من الأدباء بجمع أصول هذا الكتاب ومقابلة بعضها ببعض لتصحيح العقد الذي يوضع بين أيدى الأدباء بعد طبعه طبعًا متقنًا جيّد التصحيح. وابن عبد ربه لم يعرف إلَّا بعقده هذا حتى أصبح هذا الكتاب مما لا يستغنى عنهُ أديب عربيٌّ لإيجازه وحسن ترتيبه وجمال اختياره، ومع هذا فإنك لا تجد لابن عبد ربه ترجمة في كتاب من الكتب التي بين أيدينا قد استوفت حياة هذا الرجل حتى ابتدر الأستاذ "جبور" وأخذ يجمع تراجم ابن عبد ربه من كتب التراجم ما طبع منها وما لم يطبع، وطفق يتسقط أخباره في سطور من الكتب ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 83، نوفمبر 1933، ص: 485 - 487

حتى اجتمعت لديه مادة عظيمة، ثم أرسل فيها رسلًا من ذكائه حتى ضمَّ أشتاتها وألّف بينها على أسلوب جيد في ترجمة أمثال ابن عبد ربه فقسّم كتابه إلى خمسة أقسام: الأول: في المصادر التي أخذ منها، والثاني: في ترجمه حياته، والثالث: وهو أكبرها: في الكلام عن العقد، والرابع: في نثره، والخامس: في شعره. ويدور هذا الكتاب على التعريف بالعقْدِ أكثر مما يدور على ترجمة ابن عبد ربه فقد نقل فيه طائفة من العقد في أكثر أبوابه مما يعرف القاريء به ويصوره له. وقد بثّ في خلالها آراءً جيدةً، وأخرى مما يعترى كلّ مؤلف من التطوح أو الخطإ، وكان العهد بيني وبين رئيس التحرير أنْ استوفي هذا الكتاب نقدًا وتمحيصًا إلَّا أنى رأيت بعد ذلك أن أنقض هذا العهد لما فيهِ عن المشقة وما يستنفد من الجهد وما يتطاول بالكتابة. هذا ولأنّ الكتاب في مجموعه جيد متقن، ولعل مؤلفهُ سوف يستدرك فيهِ بعدُ ما فاته الآن فقد قال في مقدمته أنهُ لم يستقص "البحث في درس ابن عبد ربه كما يريد أو كما يجب أن يكون" وقال "وكل ما في درسي هذا أنهُ محاولة، أن لم أكن قد وفقت في كل نتائجها، فإني أرجو أن أكون قد وفقت في الطريق أو المنهج الذي سلكته فيها". وليس ما وقع فيهِ الأستاذ مما يشق على مثله أن يتداركه إذا تبين لهُ وجه الصواب وأهم ما يلزمنا أن ننبه إليه هو حشده الشواهد التي لا خطر لها فيما يستشهد لهُ مثال ذلك أنهُ حين تكلم عن تشيع ابن عبد ربه لآل البيت رضوان الله عليهم قال ص 61 ولم تكن هذه النزعة (يعني التشيع) عند ابن عبد ربه من القوة أو الشدة بحيث تظهر لأول وهلة في عقده، إذ قد تقرأ الفصول الطوال من العقد دون أن تشعر بها -إلى أن قال- غير أنا إذا قرأنا العقد وأنعمنا النظر في هذه المواقف التي يذكر فيها عليًّا وأولاده وآله نرى أثر هذه النزعة عنده -وندر أن يذكر عليًّا دون أن يلحق الاسم "يرضى الله عنهُ". وهذا استدلال ضعيف، فما من مسلم يذكر عليًّا أو غير عليٍّ من صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلّا قال "- رضي الله عنه -" إلا طائفة قليلة ممن خرجوا على إجماع الأمة الإسلامية في تقديم الصحابة وخاصة النفر الأربعة

من ولاة الحق وهم الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم. وبما أن ابن عبد ربه ليس من هذه الطائفة فلا وجه للاستدلال على تشيعه بهذه الحجة الواهية. ونرجو أن يرجع الأستاذ إلى حُجَجه التي أوردها في هذا الباب فإن أكثرها مما لا يصحُّ أن يتخذه مثله حجة على تشيع ابن عبد ربه. والحق في الفصل الذي عقده لتشيع ابن عبد ربه وسماه في آخره "التشيع الحسن" أن ابن عبد ربه كان كسائر المسلمين الذين يحبون رسولهم - صلى الله عليه وسلم - ومن تبع سبيل الحق من أهل بيته ويوقرون الخلفاء الأربعة الراشدين ويبجلونهم ويحبونهم ويترضون عنهم. بقي بعد هذا أن نسأل الأستاذ ألا يحمل في نفسه علينا إذا قلنا -مع تقديرنا لكتابه هذا- إنه تعجل فلم يعن باختيار الألفاظ والتركيب الفصيح العبارة، ولا نحب أن نوقفه على شيءٍ منها فما نظن أن صواب الرأي فيها بعيد عنه "ومن زينة الحسناء لباسها".

3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود تأليف مصطفى فروخ والصور بريشته مطبعة الكشاف ببيروت سنة 1352 الأندلس. . . كلمة واحدة توقظ في دم كل عربي تاريخًا من المجد والجمال والعلم والأدب وتوقد فيه نيرانًا من الألم والغيظ والغضب والحسرة، كلمة واحدة تراها ضاحكة في التاريخ، كلمة واحدة تراها حاملة راية النصر والدماء تسيل على جوانبها وتحت أقدامها، كلمة واحدة تحمل أسباب الحياة إلى العالم فتحمل فيه ألوانًا من العذاب والظلم والفتك والاعتداء، كلمة واحدة مرَّت على التاريخ كما يمرّ الحلم اللذيذ الفرح المحفوف بالجمال والشباب وروائع الخيال ثم توقظ التاريخ من حلمه تلك الجلافة البربرية الضارية التي أتت بها دواوين التحقيق في أبشع الصور وأقبح المطالع وأفظع الوجوه. . . لك الله أيتها الأرض العزيزة التي ضمت درر التاج العربي ونفائس الإرث الإسلامي وروائع الجمال الإنساني، لك الله يا أرض الأمجاد من بنى مروان. هكذا تدول الدول ويتحطم المجد ويخبو الشعاع لتقوم في كل قلب دولة من الذكرى ويُبنى في كل فؤاد بنيان من الحسرة وتشتعل في كل مهجة نار من الألم، ويرحل الراحلون ليقفوا على بقايا الأطلال ودارسات الرسوم ليبعثوا في القلوب الذكرى ويجددوا في الأفئدة بنيان الحسرة ويورثوا المهج نيران الألم. أجلت قراءة "الرحلة إلى بلاد المجد المفقود" ظنًّا مني بأنها كالكتب التي تصدر عن الرحلات في ضعفها وفتورها وجمودها وقلة روائها وذهاب مائها، فلما قرأتها عدت على نفسي بالملامة أن لم أكن بادرت إلى قراءتها من أول يوم، فقد اجتمع للأستاذ "فروخ" في هذا الكتاب من دقة الوصف وبراعة البكاء على أطلال المجد العربي وصحة النظر الاجتماعي والإحاطة بكثير من تاريخ البلاد التي رحل إليها -الأندلس- ولطافة الملاحظة، ما عدمته كثير من الرحلات التي قرأناها ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 83، نوفمبر 1933، ص: 487 - 488

وكانت أشبه بجريدة الإحصاء أو سجلّ الوفيات والمواليد. ولولا ما يشوب بعض جملها من ضعف التركيب لكانت من أغلى الدرر في كتب الرحلات التي يراد بها إيقاظ الإحساس النبيل في نفوس أصحاب المجد الغابر وإرهاف الشعور السامي في قلوب طُلّاب المجد ومجدّدي حضارة العرب من أبناء هذه الأمة العربية. بقى أن نلوم الأستاذ "فروخ" على استهانته بتأريخ ما يذكره من الحوادث بالتاريخ العربي الهجرى ذلك لأننا إذا تابعنا أصحاب الفتنة على ما يفتنوننا به من زخرف القول في الاقتصار على التاريخ الميلادى في تاريخنا لاختلط على شبابنا التاريخ، وما ظنك بألف وثلاثمائة سنة كتبت كل كتب التاريخ العربي فيها بالتاريخ الهجرى، أيسهل أن نقلب التاريخ الهجرى في الكتب العربية إلى تاريخ ميلادى؟ على شبابنا أن يعود سمعه وبصره وذاكرته على التاريخ العربي ولا يضعه بمنزلة أدنى مما تنزل الذكر الجميلة من قلبه، وعلى شبابنا أن يحترم رمزًا للمجد العربي يكاد يكون هو الباقى في حياتنا من الحياة العربية. هذا ولو أن الأستاذ فروخ اتخذ تاريخه التاريخ الميلادى لكان ذلك هيّنًا، ولكنه خلط في الكلمة الواحدة بين التاريخ الميلادى والتاريخ الهجريّ وفي ذلك من وضع العثرات في طريق القارئ ما فيه. أما ما في الكتاب من الخطأ التاريخى الذي تنبه له بعض الكُتَّاب فذلك ما نرجو الأستاذ أن يبرّئ كتابه منه في الطبعات التالية. ثم لعلَّ الأستاذ "فروخ" سيواصل رحلاته إلى أطلال المجد العربي ويخرج لنا الدرر التي طغى عليها تراب النسيان، وستر جمالها كيد الكائدين وعنتُ المعنتين فالأمم العربية الآن تحتاج إلى من يذكّرها بمجد أسلافها وعزّ آبائها وحضارة أجدادها لتجد في نفسها مضض الحسرة وفي الحسرة الألم وفي الألم الشعور وفي الشعور الحياة والطموح والشوق إلى الفوز والغلبة.

4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها " الدكتور سليم شمعون" و"جبران النحاس" مطبعة صلاح الدين باسكندرية سنة 1933 كان الشيخ إبراهيم اليازجي علمًا من أعلام الأدب العربي، ولا تزال آثاره وكتبه من أدق الكتب وأحسنها ترتيبًا وتحقيقًا، ويظهر من كثير من كتبه أنهُ كان من أكابر أذكياء عصره وبلغائهم ومحققيهم في اللغة والأدب حتى أصبح في مقدمة الذين أحيوا الأدب العربي وجددوا روائعه وأمدوه بأسباب النهضة والحياة. وقد كان جيد الاستدراك على أخطاء معاصريه حتى عدّ من ثقات نقّاد اللغة. إلا أن أكثر ما استدركه على كتب اللغة التي ألفت في العصر الأخير لم يظهر منها إلا القليل، ولعل ذلك يرجع إلى أنهُ لم يقيده بالكتابة كما بين الأستاذ "جبران نحاس" في مقدمة هذا الكتاب قال "ولكنهُ كان أثناء مطالعته إذا استوقف نظره لفظٌ أشار إليهِ بنقطة على الهامش وهو في الغالب يرسم خطًّا تحت ذلك اللفظ، وربما عنّ له شيءٌ مما فات المصنف (يعني البستانى صاحب محيط المحيط) فاستدركه، ولكنهُ لم يتكلف مثل هذا الاستدراك إلَّا في ما ندر". وكنا نودّ أن نقول رأينا في "محيط المحيط" الذي جمعت تنبيهات اليازجيّ عليهِ في هذا الكتاب، إلا أن هذا المجال يضيق عما نتكلف له، وفي تنبيهات اليازجي كفاية للمطلع والمراجع. عمد الأستاذ جبران النحاس والدكتور شمعون في كتابهما إلى الإشارات التي وضعها اليازجى على نسخة من "محيط المحيط" فحاولا أن يتبصَّرا موضع النقد أو الاستدراك الذي أراده اليازجي وقد وُفقا إلى كثير من الصواب لولا الإطالة فيما لا تجدى الإطالة فيهِ وتشتت البحث في بعض المواضع، ولعلهما سيستدركان ذلك في بقية الأجزاء التي ستصدر تتمة لهذا الجزء -وقد استوفيا فيهِ حرف الألف وحسب. ونرجو أن يصحبهما التوفيق في عمل يجدان في كل خطوة منهُ عقبات يزلُّ لها الجلدُ القوي. ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 83, نوفمبر 1933، ص: 488 - 489

مقاليد الكتب

مقاليد الكتب 1 - أنتم الشعراء تأليف أمين الريحانى -مكتبة الكشاف ومطبعتها- ببيروت سنة 1933 يقول الشاعر المجيد بشارة الخورى: الهوَى والشبابُ والأملُ المنـ ... ـشود توحي فتبعث الشّعْرَ حيَّا والهوَى والشبابُ والأملُ المنـ ... ـشودُ ضاعتْ جميعُها من يديَّا يشرَبُ الكأس ذُو الحجا ويبقَى ... لِغَدٍ في قَرارة الكأسِ شيَّا لم يَكُنْ لي غدٌ فأفرغتُ كأسى ... ثَم حطَّمْتها على شَفَتيَّا أيها الخافقُ المعذَّبُ يا قلْـ ... ـبى نزحتَ الدُّموعَ من مقلَتيَّا أفحتمٌ عليَّ إرسال دَمعى ... كلما لاح بارقٌ في مُحيَّا يا حبيبى لأجْل عينيك ما ألْـ ... ـقى وما أوَّلَ الوشاةُ عليَّا أأنا العاشق الوحيدُ لتُلقَى ... تبعاتُ الهوَى على كَتفيَّا فتكون هذه الأبيات الرقيقة سببًا في إثارة الريحانى على الشعراءِ المعاصرين الذين يحبسون شعرهم على البكاءِ والنحيب والحسرة والألم وإظهار الضعف عن تحمل الهوى. ويكثر الجدلُ بين الأدباءِ عن هذا الشعر الباكى الضعيف ويتقسمون الرأي بين راض ومستنكر. ويسخر الريحانىّ في كتابه هذا من الشعر الذي يحبسهُ أهله على الضعف والتخنث والبكاء والتقليد ويهيب بالشعراء إلى القوة والفتوة والرجولة والتجديد. ونحن من قبلنا لا نحبُّ أن نجادل فيما لا يلدُ الجدل فيه إلَّا العناد والكبرياءَ والتعصب للرأي أو للهوى ولا نبالي أن يقول الناس أصبنا أو أخطأنا إلا أن يكون ميزان الصواب والخطأ العدل والحق والإخلاص والقسط الذي لا يرجح بالناقص ولا يَشيل (¬1) بالوافي. ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 83، ديسمبر 1933 , ص: 613 - 614 (¬1) شال الميزان: ارتفعت إحدى كَفَّتيه.

الشعراء الخُلَّص الذين لا يطلبون بشعرهم شهرة ولا صيتًا ولا دعوى مستطيلة هم ناسٌ من البشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم إلَّا أنهم من الأمم بمنزلة مقياس الحرارة (الترمومتر) الذي يؤثر فيهِ تقلُّب الجوّ تأثيرًا ظاهرًا بيّنًا يثبته العدد فلا موضع فيه للجدل إلَّا أن يكون هذا المقياس في ذاتِه مختلًّا فاسدًا لا يدلّ على حقيقة الجوّ الذي يحيط به وبذلك يصبح مقياسًا لنفسه لا للناس. والحقيقة لا تعرَف إلَّا من المقياس الصحيح الذي لا خللَ فيه فالناس جميعًا مفتقرون إليه، أما المقياس الفاسد فلا يرجى له خير إلَّا أن يحطَّم أو يهمل وما بأحدٍ إليه حاجة. وهذا مثل الشعراءِ في كل أمة من الأمم. ونحن من قبلنا أيضًا لا نستنكر على شاعر أن يرقّ حتى يضعف ويبكى ويئن ويتوجع من آلام الهوى وتباريح الصبابة ما كان ذلك الشاعر صادقًا لا يتباكى، محبًّا لا يتصنع لأن الشاعر -كما سلف- رجل من الناس ربما كان له من أسباب الهوى ما يدنفه ويبكيه، وهذه الأسباب تكون له جوًّا يحيط بهِ خاصةً فهو يتأثر به على كل حال. إلَّا أن هذا الشاعر نفسه رجل من أُمَّة يكون لها من أسباب القوة والسيطرة والعزة ما يكون لها، أو رجل من أمة بها من الضعف والفتور والذلّ والاستعباد والمهانة ما تضرب به الضربات الشداد بمعاول الظلم والجَبرية والعدوان والشر الاستعمارى القبيح الدنئ. فلابدَّ للشاعر من هذه الأمة أن يكون لسان الأمة الذي يتكلم بأوجاعها وآلامها وأن يكون من جهة أخرى قائدًا من القوَّاد يقف في قلب الجموع المسكينة خطيبًا تنفذ كلماته إلى القلوب لتحركها وتنعشها وترمى فيها بالحياة والشباب والنشاط وبذل النفس وغلبة الرأي على الشهواتِ والأهواء. وأن لا يكل ساعة عن الجهاد والدعوة إلى الطريق السوىّ. فإذا خلا الشاعر قليلًا قليلًا إلى نفسه وغلبتهُ الحياة الفردية والأهواءُ الخاصة فليقل ما شاءَ بمقدار لا يُلين منهُ ولا يضعف من قوى جنده، وليستجم لنفسه بما يجعله أقدر على الجهاد حين يعود إلى الميدان بين المتألمين والمحطَّمين والباكين مما يصيبهم من وحوش الاستعمار والعدوان التي توسعهم نهشًا وتمزيقًا وافتراسًا. هذه سبيل الشعر لأمتنا العربية في أمرنا هذا من أيامنا هذه. أما أن يأخذ أحدنا

شعر الشاعر العربي فلا يجد فيه إلَّا الضعف والتخنث والبكاء والذلة والضراعة والحبَّ المريض فذلك أمر لا تقبله النفوس العزيزة التي تستشعر العزة والنخوة والمروءة، وأما الفتنة التي فتن بها الناس من قولهم الشعر العالمي والشعر الإنساني والشعر. . . اللهم إني أعوذ بك من سوء المنقلب. . . فهذا الكلام لا معنى لهُ في حياة الأمم الضعيفة المظلومة التي لا قائد لها ولا إمام .. أيغنّى العصفور الضعيف للثعبان الفاتك ليسحره بألحانه وتغريده. ألا إن لحم العصفور أشهي إلى الثعبان من لحنهِ. . . وما في ذلك إلا سوءُ التقدير وأفن الرأي (¬1) وقلة الحيلة. إن الأرض العربية تطالب شعراءَها وأدباءها وكتَّابها وأصحاب الرأي فيها أن يتخذوا ألفاظهم في شعرهم وأدبهم وكتابتهم وآرائهم من النار والحديد والبراكين والدوىّ والرُّعود المجلجلة فعسى أن يهبَّ هؤلاء النوَّام من سباتهم وأن يرجعوا عن غفلتهم ويعلموا أن الأمر جدٌّ وأن الحياة صراعٌ وأن عدة هذا الصراع هو الإيمان والصبر وبذل النفس وكبح الشهوات واطِّراح الجبن والخور. فإذا خرجنا من الميدان بالنصر والظفر فلنطلب نفع الإنسانية في كل بقعة من بقاع الأرض ولنمحُ آثار المظالم والعدوان والفجور والبغى ولنغن ما وسعتنا الألحان وما واتتنا الأغاريد. وسنعود قريبًا إلى التوسع في هذا القول حين نبتدئ -بعون الله- كلامنا عن الشعر الوطنى في هذه المجلة يوم نجد من شعرائنا إقبالًا على إرسال شعرهم الوطنى كما أمَّلنا ذلك في النشرة التي كتبناها في أول مقتطف نوفمبر الماضي والله المستعان. ¬

_ (¬1) أَفَنُ الرأي: فساده وَضَعْفه.

2 - تاريخ مصر الإسلامية

2 - تاريخ مصر الإسلامية تأليف إلياس الأيوبي - مطبعة الرغائب بالقاهرة سنة 1352 ظهر هذا الكتاب، وكثر الحديث عنهُ فثارت الهمة لقراءته والنظر فيه وبخاصة لأنّهُ تاريخ أغمض العصور التي مرّت بمصر وذلك لضياع أكثر الكتب المؤلفة في هذا التاريخ الواقع ما بين سنة 20 من الهجرة إلى سنة 254 منها. وأخالف ما درجتُ عليه في الكتابة وأقول إني أخذت هذا الكتاب فقرأته أحسبهُ شيئًا فإذا هو ليس بشيء، وأقول هذه الكلمة وأنا أحمل أوزارها وأثقالها وما يشاءُ القارئ من أوزار وأثقال. فأنا -يا سيدي القارئ- لم أقرأ هذا الكتاب إلَّا وقد عقدت النية على أنهُ تاريخ مصر من أيام الفتح العربي إلى أول عهد الدولة الطولونية لا على أنه أوهام في تاريخ مصر من الفتح العربي إلى عهد الدولة الطولونية. وقبل أن نبدأ ينبغي لنا أن نعرف ما هو التاريخ وكيف يكتب. يعتمد مؤرخ كل أمة من الأمم على دعامتين، فإِحدى الدعامتين هي دعامة الرواية والأخرى دعامة العقل. والرواية هي مادة التاريخ الذي لا يمكن أن يسمى تاريخًا إلا باجتماعها وحشدها. والعقل هو المصنع الذي تنقى فيهِ هذه المادة وتجلى ويؤلَّف بين المتقارب ويفرَّق بين المتباين من أجزائها وعناصرها. فإذا اعتمد المؤرخ على الرواية دون العقل كان ما يكتبهُ تاريخًا إلا أنّهُ تاريخ أعرج، فإذا اعتمد على العقل دون الرواية لم يكن ما يكتبهُ تاريخًا، فإن اعتمد على العقل وقليل من الرواية كان ما يكتبهُ نوعًا من الكلام لا يسمى تاريخًا بل يسمى أوهامًا في التاريخ. ولا يخرج التاريخ الصحيح إلَّا من مصانع العقل القوي المشرق الذي اجتمعت له المادة التاريخية المحشودة المصححة. ولا أظن أن مؤرخًا مهما بلغ من قوة العقل وإشراقه يستطيع أن يولِّدَ لك من بعض الروايات المنسوبة إلى التاريخ تاريخ أمة قد ملأت الأرض علمًا وحضارة وأدبًا. هذا. . . فإذا اعتمد المؤرخ على الهوى دون العقل مع قلة الرواية وضعفها وتهالكها فكيف يكون تاريخه؟ إذا ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 83، ديسمبر 1933، ص: 615 - 618

أردت أن تعرف ذلك فاقرأ هذا الكتاب المسمى "تاريخ مصر الإسلامية" وتأويل ذلك. تقول مقدّمة الكتاب "وكنت كلما أتصور تمكُّني (كذا) من إنجاز فكرتي، وأتخيل عملي أمامي تامًّا: فأرانى أصبحت أول مؤرخ مصري جدير بهذا الاسم (كذا) وأراني قد أنشأت، حقيقة، في أحضان قومى روحًا مصريةً بحتةً -لا عربية ولا تركية، ولا مسيحية ولا يهودية ولا إسلامية- روحًا مصرية متشبعة بالمبادئ القومية العصرية، ومثقفة بالثقافة العصرية الحقة التي تستمد منها الحضارة العصرية قوتها وجمالها. . . إلخ" وذكر كلامًا رمى فيهِ مؤرخى العرب جميعًا بالجهل والتدليس وغلبة الهوى حين كتبوا سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: ". . . جعلوا فيما كتبوه من سير للنبيّ الغلبة للخرافة على الحقيقة، مقلدين في ذلك المتقدمين من مؤلفي المصريين والكلدانيين واليونان والرومان (تأمل) الذين رووا حوادث تأسيس الدولة المصرية والكلدانية واليونانية والرومانية. . . إلخ" وأستعتب القارئ في نقل هذه الجملة أيضًا: "وإني إذا كنت -على عكس ذلك- رأيت نفسي مضطرًا أحيانا إلى حرق ما قد قدستُهُ زمنًا طويلًا فيما مضى، فذلك لأنى إنما رميت بكتابي إلى إحياء الشعور القومى المصري البحت في نفوس قرائى، كما قدمت. . . لا لأنى أرغب في جرح شعور أحد أو إحساس أحد أو فكر أحد". ولعله قد سقط من الأصل "بل أريد أن أجرح شعور التاريخ وإحساس التاريخ وفكر التاريخ". لا يدري القارئ ماذا أقاسى من الألم المبرح في نقد هذا الكتاب وما ذلك إلَّا لأنى إذا كتبت عنهُ فإنما أكتب عن مؤلفه وقد أصبح من مادة التاريخ فآنف أن أنازل من لا يدافع عن نفسه، ولأن الكتاب في أكثره إفسادٌ للتاريخ وتدليس عليه ولأن مواضع النقد فيه كثيرة لا أدري ماذا آخذ منها أو أدع في هذه الورقات. ولكني أستعين الله على ما ألاقى من الألم في الكتابة عن هذا المؤلَّف. لم يعتمد كاتبنا في تاريخه إلَّا على كتب قلائل ليست شيئا في المكتبة العربية الزاخرة بكتب التاريخ، وهي كتاب المقريزي وابن إياس وابن وصيف شاه وتاريخ

التمدن الإسلامي لزيدان والكندى وابن الشحنة في روضة المناظر وقليل غير ذلك من كتب الأدب. هذا فلو نظرت إلى كتاب (فتح العرب لمصر) الذي ألّفه الأعجميّ الدكتور (بتلَرْ) الإنكليزي لوجدته يعتمد في تاريخ حِقْبَة من الزمن لا تبلغ خمس سنوات على عشرين ومائة كتاب في التاريخ ثلثها من كتب التاريخ العربي والبقية من كتب الأمم في التاريخ. فلو أن (بتلر) أراد أن يكتب تاريخ مصر الإسلامية من سنة 20 لسنة 254 لاعتمد على أضعاف هذا من كتب التاريخ. وذلك لأن التاريخ لا يكون شيئًا إلا إذا حشدت له المادة العظيمة ونظرت فيها بالنظر الصائب، وربَّ كلمة شاردة في ذيل ورقة تفتحُ للمؤرخ بابًا من الفهم يجعل الغامض واضحًا بيّنًا والمتباعد قريبًا دانيًا وتصل بين حافتى هوَّة في التاريخ فتمكن المؤرخ من اجتيازها. هذا أمر المادة التاريخية نفسها، فلننظر ماذا فعل المؤرخ بالمادة التاريخية القليلة التي اجتمعت له حين ألف كتابه. عَمِدَ المؤلف إلى هذه المادة القليلة التي لا يستقيم بها تاريخ فقرأها وأراد أن يتفهمها فأخطأ في كثير وأصاب في قليل وقرَّ ذلك في نفسه، ثم أوّل بعض هذه المادة تأويلا لا يقبله عقل ولا تاريخ حتى يستطيع -كما يقول- "أن ينشيء -حقيقة- في أحضان قومه روحا مصرية بحتة -لا عربية ولا تركية، لا يهودية ولا مسيحية ولا إسلامية-"، فلذلك سَخِرَ بالعرب وساق الرواية العربية القوية في أسلوب من السَّخَر بالعرب والإزراء عليهم والغض منهم ومن أفذاذ رجال الفتح. وأنت إذا قرأت الفصل الذي سماه "كيف فتح العرب مصر" لم تجد فيه حقيقة غير هذه حين يذكر "عبادة بن الصامت" - رضي الله عنه - حين بعثه عمرو على رأس النفر العشرة إلى المقوقس فتقدم عبادة وكان عبادة أسود ضخما من الرجال فهابه المقوقس لسواده "وقال: نحُّوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمنى، فقالوا جميعًا، إنهُ أفضلنا رأيًا وعلمًا وخيرنا والمقدَّم علينا وإنما نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه". فيقول المؤلف تعقيبًا على هذا. "ولسنا ندري من أين أتى عبادة بن الصامت العلم! ! ". . . ونحن والله

لا ندري أيضا، ولا نعلم إلّا ممن شهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له من الرأي ما أجلَّه به قومه، بلى وأنه رجل من أفذاذ الأمة التي أشرقت بنورها على الأرض فأخرجت الناس من الظلمات إلى النور. ولسنا ندري لماذا ينكر صاحبنا العلم على عبادة، وهم لم يقولوا أنه أعلم العالمين بل قالوا هو أفضلنا رأيًا وعلمًا وهم أدري بأنفسهم منا بها. وقد كانوا رحمهم الله يقدّرون أنفسهم قدرها فيقدّم الرجل الشريف العبدَ الحبشى العالِمَ على نفسه وأهله، وما كان فيهم من يتصدر ليقول عن نفسه أنهُ أكبر عالِم أو أتقى رجل أو أفضل مخلوق أو أوّل مؤرخ لمصر جدير بهذا الاسم. وقد أطلت ليعلم القارئ كيف يطمس الهوى على قلوب الناس إذا حرفوا العلم أو التاريخ بأعنته، والهوى -كما قال ابن عباس - رضي الله عنه - - إله معبود. . . والكتاب كله على هذا النمط من الإزراء على العرب والعبث بالإسلام، وما يريد المؤلف من كل هذا إلَّا إنشاء روح مصرية لا عربية ولا إسلامية كما يزعم، لا تقرير الحقيقة التي يجب على كلِّ إنسان أن يطلبها أنَّى كانت، والمؤلف نفسه في حيرة من العرب والإسلام وتغلغل كل منهما في مصر فتراه أحيانًا يدور حول نفسه يريد المخرج ولا مخرج حتى أنهُ لم يستطع أن يمحو ذكر الإسلام -والعرب- فيما سمّى بهِ كتابه فألقى عليه هذا العنوان الذي يتبرأ مما تحته. . . . "تاريخ مصر الإسلامية". ولنفتح في الكتاب أي صفحة يكون من نصيبها التمزيق، بسم الله، فهذه ص 180 يقول المؤلف في رأسها أن ابن عباس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنَّما ضلَّ من كان قبلكم بالكتابة"، وأطال الكلام بعد ذلك على هذا الحديث الذي لا نشك في وضعه حتى قال "وأهملوا -يعني العرب- تدوين كل ما جادت به قرائحهم في بابي الشعر والخطابة ذاتها لتفضيلهم الحفظ على التدوين، بل أهملوا تدوين العلم الإنساني البحت عينه -على قلته- (كذا وتأمل) وقضوا قرنهم الأول وبعض الثاني (كذا قال المؤلف) وهم يتناقلونه بالتلقين، ولم يدوّنوا القرآن نفسه بعد أن أحجم أبو بكر مدة عن ذلك قائلا "كيف أفعل أمرا لم يفعله رسول الله، ولم يعهد إلينا فيه عهدًا". . . إلَّا لما خافوا أن تذهب الحروب والفتوحات بحفَّاظه فيضيع" انتهى.

ولا ندري هل يعلم المؤلف أن من الصحابة ناسًا يسمون "كتَّاب الوحي" كانوا يكتبون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يوحى من القرآن لرسول قد فادى أسري يوم بدر، فكان شرط مَن لا مال عندهُ أن يعلّم عشرة من الغلمان الكتابة. قالوا فيومئذٍ تعلَّم الكتابة زيد بن ثابت كاتب الوحي وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر عبد الله بن سعيد بن العاص أن يعلّم الناس الكتابة بالمدينة، وأنهُ قد ورد في الاستيعاب لابن عبد البر والإصابة لابن حجر أن الشَفَّاء أم سليمان بن أبي حثمة علمت حفصة (وهي زوجه) الكتابة وقال لها "علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة". وإن القرآن كان مكتوبًا جميعهُ على عهد الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - كتبه له كتّاب الوحي وكتبه لنفسه من كان يحسن يكتب من الصحابة وهم كثير، وإن قول أبي بكر "أفعل أمرًا لم يفعله رسول الله" إنما هو عن جمعه بين دفتين أعني في كتاب أو مجلة كما يقولون وليس ذلك لأن أبا بكر كان يعاف الكتابة والتدوين. وتأويل ذلك أن أبا بكر لما عافت نفسه ما قال بهِ من جمع القرآن دعا زيد بن ثابت وقال له (نرويه من حديث زيد بن ثابت) "إن هذا -يعني عمر- قد دعانى إلى أمر فأبيت عليهِ وأنت كاتب الوحي فإن تكن معهُ اتَّبَعْتكما وأن توافقنى لا أفعل. فاقتصَّ أبو بكر قول عمر وعمر ساكت، فنفرتُ من ذلك وقلت يفعل ما لم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ فذهبنا ننظر فقلنا لا شيء والله ما علينا في ذلك شيء. قال زيد فأمر أبو بكر فكتبته من قطع الآدم وكسر الأكتاف والعُسُب". وهل يعلم المؤلف أن هناك مصاحف تنسب إلى أصحابها من الصحابة كابن مسعود ومصحف أُبي ومصحف زيد كانت مكتوبة على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعرضها أصحابها العرضة الأخيرة عليه قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى - صلى الله عليه وسلم -. هذه صفحة لم نعمد إليها من الكتاب وها أنت تراها كيف مزّقت شرَّ ممزّق وذريت قطعها في الهواء. وهذه المجلة لا تتسع في هذا الباب لأكثر من هذا ولكن ليكن القارئ على يقين من أن كلَّ ورقةٍ من هذا الكتاب هي هذه الورقة الممزّقة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن تأليف محمد جواد البلاغى النجفي الجزء الأول -مطبعة العرفان بصيدا- سنة 1352 كان القرآن الكريم ولا يزال مادة البلاغة العربية بل مادة العقل العربي بل مادة الحياة الإنسانية العالية بآدابها وعلمها وفقهها وأحكامها ودولتها. نزل بهِ الوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم - فجمع الأمة بعد شتاتها وافتراقها على كلمة واحدةٍ في قلب رجل واحدٍ أينما سارت سجدت لها العروش ودانت لها الملوك وخضعت لها الرقاب واستقبلتها القلوب وانقادت لها النفوس وعلا بها الحقُّ وأضاء بها الوجود حتى إذا تمت لها المعجزة في إخضاع العالم للحق وإخراجه من ظلمات الباطل إلى نهار الحق بدأت طبيعة الحياة تفعل فعلها وتفتن فتنتها فمدَّت الشبهات أعناقها، وظهر الخلاف بين الناس إلا أن الشبهات كانت لأول عهدها خفية قليلة وكان الخلاف ضعيفًا متقاربًا ثم بدأ الجدل واللجاج والعناد الإنساني البغيض حتى استحكمت الشبهة وكثر الخلاف واتسع ما بين أصحاب الرأيين وتعصب هذا وتنطع ذاك فخرجت الفِرَق المتعادية والنِّحل المتخاصمة وبقى كل فريق يطلب النصر لرأيه لا للحق وبذلك اضطرب الحبل وفسدت الأمور واستحلَّ القتال وضعفت الدولة. وهذه صورة يتكرر ظهورها في التاريخ. ومن يتتبع أحوال الفِرَق وأسباب نشأتها وأطوار نموّها وضعفها يعلم أن الخلاف أو الشبهة التي يُبْنَى عليها المذهب ليست إلَّا كبوة عقلٍ واحدٍ في رجل من أصحاب الرأي انساق في آثارها وجرَّ وراءَه أمة من الناس تعصبوا، فأكبُّوا معهُ. ولا بأس أن ننقل هنا كلمة للجاحظ عن إبراهيم النظام رأس الفرقة المشهورة من المعتزلة بالنظامية. قال في كتابه الحيوان ج 2 ص 83 "وكان إبراهيم مأمون اللسان قليل الزلل والزيغ في كاب الصدق والكذب. . . وإنما كان عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسهِ على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاص، ولكنه كان ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 83، ديسمبر 1933، ص: 618 - 620

يظنُ الظنَّ ثم يقيس عليه، وينسى أن بدء أمره ظنًّا، فإذا أتقن ذلك وأيقن جزم عليه وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه، ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت" اهـ. وهذه صفة رؤوس الفرق جميعًا في كل ملةٍ وفي كل علم. قدمنا هذه الكلمة بين يدي هذا الكتاب، لأن مؤلفه من علماء الإمامية، وهم فرقة من أهل الإسلام افترقت فيما بعد إلى فرق كثيرة وأصل عقيدتها إمامة عليّ - رضي الله عنه - وبقاؤها في عقبه، وللكلام على الإمامية وتفصيل مذهبها ذيول طويلة ليس هذا موضع ذكرها والذي يهمنا أن هذه الفرقة كان لها في الإسلام شأن عظيم وألّف في الردّ على مذاهب أهلها من الكتب شيء كثير. وقد قرأنا عنها مذاهب عجيبة لا يقرها عقل. ولم يصل إلى أيدينا من كتبهم إلَّا ما قرأناه من النصوص المنقولة عن كتبهم في الرد عليهم فسرّنى كثيرًا أن أرى بين يدىَّ تفسيرًا لعالم من علماء هذه الفرقة، وإن أجد هذا التفسير قد قرّب مسافة الخلف بين ما قرأتهُ عن الإمامية وبين عقيدتى وعقيدة أكثر المسلمين. وهنا لا نجد بدًّا من الإشارة إلى أن أهل الفرق والمذاهب لا يزالون في غفلةٍ عن الحياة. فهم يتقسمون أمرهم بينهم والعدوّ من ورائهم وأمامهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم يعد العدَّة ويتوثب للفريسة الغافلة ولا مخرج للعرب بعد اليوم إلّا أن يرجعوا إلى حكم الله إذ يقول {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. ولابدَّ أيضًا من أن يرجعوا إلى كتابهم وسنة رسولهم مخلصين لا يؤولون ولا يحرفون الكلم من بعد مواضعه وأن يتركوا وراءهم ظهريًّا أقوال رؤوس الفرق وأئمتها فإنهم أصل البلاءِ ومادة الشر، ولا حياة لأمة على الأمر الذي لا يحوى الخلاف فيه إلَّا الفرقة والخصومة والشنآن (¬1) والعداوة المتوارثة ونسأل الله أن يجعل آخر أمر المسلمين والناس جميعًا كأوله ألفةً وارتباطا وصفاءً وعملًا خالصًا لله لا للشهوات والأهواء. ¬

_ (¬1) الشنآن: البُغْض.

مقاليد الكتب

مقاليد الكتب 1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى (تأليف محمد عبد الله عنان -مطبعة دار الكتب العربية- سنة 1352 وسنة 1933) نشأ ابن خلدون في بيت من بيوت المجد قد نزح من الأندلس الجميل إلى تونس الفيحاء، ونما في بيت من العلم والرياسة، والشرف والسياسة، وصبغ بصبغة الجيل الذي عاش فيه، فلما استوى على سوقه وجد ما بين يديهِ من دول الأندلس والمغرب كالنساء الضرائر، لا تفتر واحدة عن الكيد لصواحباتها. وكان صدر هذا الشاب (ابن خلدون) يغلى بأمانيهِ وأوهامِهِ ومطامعهِ، فرأى فيه أهلهُ ومن يحيط بهم من أهل الشرف والرياسة، وهو في سن العشرين، بارقة من النبوغ والعبقرية والسيادة، وتداول الناس أمره حتى سمع بهِ أبو محمد بن تافراكين فاستدعاه لكتابة (العلامة) (¬1) عن السلطان أبي إسحاق فكان ذلك أول اتصاله بالحياة السياسية في دول المغرب والأندلس، والتي خاض (ابن خلدون) فيما بعد غمرتها وتلظى بها وأصلى فيها أو شبَّ نيرانها، وكان لها في تاريخ حياته أثر بيّن، حبيبٌ حينا وبغيض أحيانًا. ومكث ابن خلدون في عمله هذا حتى نزعت به همته إلى الرحلة من تونس سنة 753 إلى (قَفْصَة) ثم إلى (بسكرة) فنزل ضيفًا على صاحبها (يوسف بن مزنى) ومن هناك قصد الرحلة إلى (أبي عنان) بتلمسان ولكنهُ لم يمض في طريقه حتى لقيه (ابن أبي عمرو) صاحب (بجاية) فصرفه عن أبي عنان وحمله معهُ مكرّما إلى (بجاية) فكان فيها حديث الناس حتى بلغ ذكره (أبا عنانٍ) وكان لهُ مجلس من العلماء فرأى أن يستدعي (ابن خلدون) لما بلغه عنه فحمله على خير محمل سنة 755 وأتمَّ بهِ مجلس العلماء واختصه بالكتابة ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 84، يناير 1934، ص: 109 - 111 (¬1) ذكر (العَلَامَةَ) الأستاذ عنان في كتابه ولم يفسّرها. وكان الأَوْلَى تفسيرها، لأنها شيء قد دَرَس، قلّما يفهم أحد ما يُعنى بها. والعَلامَةُ عندهم في ذلك العصر هي "الحمد لله والشكر لله" تُكتب في كتاب السلطان أو مرسومه بالقلم الغليظ بين البسملة وما بعدها من الكلام (شاكر).

والتوقيع بين يديه. وكان أصحاب (أبي عنان) من أكثر أهل البلاد حسدًا وغيرة، فكادوا لهُ كيدًا عظيمًا لما رأوا من حظوتِه عن السلطان، فلم يجد صاحبنا بدًّا من التقحم في غمرات الدسائس والمكايد، ولعلها وافقت هوى من نفسه، فبرع في الدس والكيد والتلوُّن وإثارة الفِتن حتى اضطرمت في عهده البلاد نارًا من الفتنة كان هو مثيرها حينا ومطفئها أحيانًا. واستمر أمره على ذلك فيما تقلب فيه من أمر الدول المغربية والأندلسية. وليس سبيلنا هنا أن نترجم لابن خلدون ولكنَّا قدَّمنا هذه الكلمة لما كان للدسائس من الخطر في حياة هذا الرجل، وقد استقصى ذلك الأستاذ عنان في كتابه بإيجاز وعرضه على القارئ عرضًا جميلًا. كان هذا الرجل ذكيًّا قادرًا بليغًا دقيق العبارة جيد الإفصاح عن ضمير نفسه، مشرق الفهم رحب الإدراك، يقع لهُ الأمر من الأمور فيفصّله ويبيّنه ويوضحهُ ويجمع إليه القرائن ويجيد القياسَ بين شيءٍ وشيءٍ مما يحدثُ لهُ أو لغيره من الناس فوضَعَ من ذلك في ذهنهِ شيئًا كثيرًا، هو الذي اجتمع لهُ حين ألّف مقدمته المشهورة في الشرق والغرب، فأخرج فيها من الحقائق، والنظريات والأسس في حياة الدولة ما لم يجمعهُ كتاب عربيٌّ قبلهُ. وما ذلك إلا لأنهُ كان -كما أسلفنا- (بليغًا، دقيق العبارة، جيّد الإفصاح عن ضميره نفسهِ). وأكثر الناس على أن ابن خلدون هو أولُ من اهتدى -من العرب- إلى هذه الحقائق العظيمة التي أثبتها في مقدمته، فهذا صحيح من ناحية، هي أنهُ أول من دوَّنها جميعها بين دفّتى كتاب، ولكنّي لا أشكُّ أن أهل السياسة والرياسة في الدول العربية في الشرق والغرب كانوا يجيدون ما أجاد ابن خلدون من هذا العلْم، وكانوا يعرفون ذلك حقَّ المعرفة، وهناك أدلة كثيرة على ذلك ليس هذا موضعُ إيضاحها وتفصيلها. وأنا لا أظنُّ أن رجلًا مثل (لسان الدين بن الخطيب) الوزير الأندلسيُّ البارع في السياسة والأدب كان يجهل من هذا ما علمهُ ابن خلدون، بل أرجح الظن عندي أن (لسان الدين) كان على شرف من هذا العلم يكاد يفوق به صديقه ابن خلدون إلا أن ما تهيأ لابن خلدون -من البلاغة التي لا صنعة فيها ومن دقة العبارة ومن جودة القياس، ومن براعة الإفصاح عمَّا يترجرج في نفسه وضميره- لم يتهيأ للسان الدين بن الخطيب فقد كان هذا شاعرًا كاتبًا

بليغًا على أسلوب غير هذا الذي كان لابن خلدون، ولم يكن لسان الدين بأقل من ابن خلدون في إشراق الفهم ورحب الإدراك، ولكنه كان أقلَّ منهُ في القياس بين النظائر التي كانت تحدث لهُ وهو وزير الدولة أو التي كانت تجدُّ في الجوّ السياسي المتلبّد بغيوم من الدسائس والفتن والأهوال الرائحة الغادية على الدولة وأهلها. نقل الأستاذ عنان، قول جمبلوفتش "لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجست كونت، بل قبل فيكو الذي أراد الإيطاليون أن يجعلوا منهُ أول اجتماعىّ أوربىّ، جاءَ مسلم تقىٍّ فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة وما كتبه هو ما نسميه اليوم علم الاجتماع". واستوقفتنى هذه الكلمات زمنا طويلًا ترامى فيه الفكر، واستيقظ في القلب ذلك الإحساس بالظلم والغبن والتجاهل الذي لقيه الفكر العربي في هذه الأزمان وما قبلها. إن القرآن نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحيًا لا شكَّ فيهِ، بآيات بيناتٍ فيها حاجة الإنسان المدني العامل الظافر بالسعادتين في الدنيا والآخرة، وكان هذا القرآن مادّة العلم العربي على القرون ومنهُ استقى ابن خلدون وغير ابن خلدون من علماء هذه الأمة الإسلامية ومنه خرج التشريع العظيم الذي ملأ الأرض عدلًا وكان منهُ ما نسميه علمُ الفقه. ففي هذا العلم تجد علم الاجتماع مفرَّقًا في مسائله وأحكامه، ومن رجع إلى كتب الأئمة (المتقدمين خاصة) وجدَ من أُسُس علم الاجتماع ما لا يدعُ شكا في نفس أحد من أن ابن خلدون إنما استخرج أسسه (وأسس غيره مما أتى به في مقدمته) من هذا المورد الذي لا ينفد. ولابدّ من أن نقول إن القرآن أتى بأسس هذه العلوم مختصرة غير مفصلة وإن الرسول في حديثه بين بعضها وترك بعضًا للفكر الإنساني لئلَّا يضيقَ وينحصرَ ويخمد إذا أتاهُ بالتفاصيل كلّها. هذا وليس من المعقول أن يوحيَ الله إلى رسولٍ من رُسله بكل شؤون الحياة مفصلة ولئن فعل، فمن ذا الذي يحفظها، كما حفظ القرآن والحديث؟ ! من العلوم الإسلامية علم مجهول لا تجد فيه إلا كتبًا قلائل مما نجا من عبث

الأيام وجهل علماء المتأخرين بقدره وخطره، ذلك هو علم (القواعد) ألف فيه كثير من الأئمة، وخير ما ألّف فيه كتاب القواعد (للعزّ بن عبد السلام) وكتاب (ابن رجب). ففي هذا العلم تجد من روائع الفكر العربي في علوم الاجتماع والحياة ما يبهرك ويفتنك، وأرجو أن أوفّق قريبًا إلى كتابة كلمات عن هذا في هذه المجلة. هذا وحقُّ كتاب الأستاذ عنان أكثر من هذه الكلمة، لأنهُ بذل فيه من الجهد في المراجعة والتثبت والنظر ما عهد فيه، ولولا أن أحدنا إذا أمسك قلمه للكتابة انفتحت له الأبواب من كل ناحية، وتطلب كل باب منها مقالة أو أكئر لتركنا النفس على غُلوائها، وعرضنا للقارئ تفصيلا لما أوجز الأستاذ عنان، ووقفنا عند كل ما يثير في النفس أفكارها وآراءَها وخيالها وآلامها من الظلم والغبن والتجاهل التي نزلت بالفكر العربي.

2 - قلب جزيرة العرب

2 - قلب جزيرة العرب تأليف "فؤاد حمزة" المطبعة السلفية ومكتبتها سنة 1352 - 1933 قام كثير من الأعاجم الأوربيين، وجاسوا خلال الجزيرة العربية، ودرسوا -على قدر ما وفقوا إليهِ- أمر هذه البلاد، وألّفوا في ذلك كتبًا كثيرة تشهد لهم بالفضل والبراعة والسبق إلى ما تأخر عنهُ أبناءُ هذه البلاد وأحبَّاؤها من أحفادها الذين رحل أجدادهم منها إلى بقية البلاد التي تنطق بالعربية الآن كمصر والشام والمغرب وغيرها. وقد وضع بعض العرب كتبًا عن الجزيرة العربية إلَّا أنها لا تفي بحاجة الأمم العربية المتباعدة، ولا تكشف لهم عن سرّ هذه الجزيرة، ولا تقوم صلة بينهم وبينها. وقد أثار هذا الأستاذ فؤاد حمزة لتأليف كتابهِ (قلب جزيرة العرب) على أتمّ ما رأى من طريقة لتعريف أبناءِ العربية ببلاد العربية، والأستاذ فؤاد أقرب من ننتظر منهُ الإجادة في غرض كهذا لأنهُ عربيٌّ يخلص لهذه البلاد، ثم لأنهُ قد سلخ أعوامًا طوالًا في قلب الجزيرة (بلاد نجد) وفي الحجاز الذي فاء إلى حُكم ابن سعود النجدى، ثم هو قد تقلَّب على رمالها كما تقلب في سياستها وأمور دولتها. فإذا كتب في حال هذه الجزيرة في أيامنا هذه كان أقرب إلى الإجادة ممن يدخلها سائحًا يخرج منها كاتبًا أو مؤلفًا. وقد بدأ كتابه بذكر طبيعة الأرض العربية، وتكوينها الجيولوجى وما في هذه البلاد من أنهار وبحيرات وغير ذلك من سهولها وجبالها وجوّها وأمطارها وسيولها الكثيرة. وهذا بابٌ واسع جدًّا كان على المؤلف أن يستوفيه لولا ما في ذلك من المشقة والتعنت، والحاجة التي لا تتمُّ من الآلات الحديثة التي يصعب نقلها واستعمالها، وبخاصة إذا كان الذي يقوم بذلك فرد برأسهِ لا أعوان له ولا أنصار. وقد كان من الفرض على الأمم العربية أن تتعاون على ذلك، إلا أن المآرب السياسية قد عاقت ذلك وأخَّرته إلى أجل نسأل الله أن لا يجعله بعيدًا. ثم أتبع ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 84، يناير 1934، ص: 111 - 112

هذا بالكلام على الحالة الاجتماعية في الجزيرة، وهذا كسابقه مما لابدَّ لهُ من التوسع حتى يقع في مجلدات ولكن المؤلف أوجزه على خير ما يكون الإيجاز وعرض فيه للقارئ أهم ما يفكر فيه أو يخطر على باله وأجاد في ذلك إجادة الخبير الذي شاهدَ وسمعَ وفهمَ كل ما شاهدَ وما سمع بعين عربية وأذن عربية وقلب عربيّ، ونقول ذلك لأن كثيرًا ممن كتبَ من الأعاجم إنما رأى بعين أعجمية وسمع بأذن أعجمية وتلقف ذلك بقلب أعجمى حتى كثر الخطأُ في كلامهم، ثم لأن السياسة كان لها يد ورجل أيضًا فيما كتبوا ودوّنوا من شؤون هذه البلاد الاجتماعية والسياسية. ويلى هذين البابين، باب قد استكمل بهِ المؤلف نقصًا كبيرًا في فرع من علوم العرب ألا وهو "الأنساب". فإن علم الأنساب (أنساب القبائل وغيرها) كان من أهم ما امتازت بهِ الأمة العربية، وقد ألف المتقدمون في ذلك الكتب المطوّلة، واستقصوا فيها أنساب العرب قبيلة قبيلة وبطنًا بطنًا وفخذًا فخذًا ولم يتركوا صغيرًا ولا كبيرًا في هذا الباب إلا ذكروه، ففي هذا الباب حشد المؤلف ما في الجزيرة الآن من القبائل وفروعها على قدر ما أتيح لهُ، وتوثق لذلك من أهل البلاد وعلماء الأنساب فيها وردَّ ما استطاع من هذه القبائل إلى أصولها من القبائل العربية الأولى، وبذلك وصل بين هوَّتين في تاريخ النسب العربيّ، وكان أسبق من أخرج للناس هذه الأنساب التي أهملها مؤرخو هذا العصر. فلما انتهى المؤلف من التعريف بالقبائل التي تسكن البادية العربية الآن أوجز تاريخ الحكم الذي مرَّ بهذه الجزيرة حتى انتهى إلى الدولة القائمة الآن - دولة عبد العزيز بن السعود وآله. هذه ترجمة ما في الكتاب من العلم، وبقى علينا أن نقول الكلمة في قدر هذا الكتاب وغيره من الكتب التي من بابته. فالأُمم العربية الآن تمزقها السياسة الاستعمارية التي تتولى كبرها وتحمل أوزارها أمم الأعاجم من الأوربيين. وقد بلغوا مبلغًا عظيمًا في التمزيق والتفريق بالدسائس حينًا وبالتعليم الفاسد حينا، وبالنكبة القاصمة التي تدفَّق علينا سيلها وسماها الناس الجنسيات وتهافتوا عليها كما يتهافت الفراش على حتفه من النار. ولابدَّ للأمم العربية فيما بين الصين إلى

أقاصى الغرب أن تعلم أن الجنسيات فتنة لا يراد بها إلا الشرَّ للعرب أولًا وللشرق الغنى ثانيًا، أن تعلم أن حياتها في النصرة والتعاون والتآزر، وأن تعلم أن لا حياة لواحدةٍ منها ما دامت الأخرى لا تزال على (المشنقة) الاستعمارية، وأن تعلم أن لا سبيل إلى الحرية إلَّا بالعلم الإنسانيّ الذي يتلقفهُ قلبٌ عربيٌّ ليبقى عربيًّا لا ليتحوَّل من عربيتهِ إلى أرجوحة بين العربية والأعجمية. وما من سبيل إلى ذلك إلَّا بإيقاظ الإحساس العربيّ في كل قلب، وعقد الآمال على المادة العربية والمجد العربي، وما من سبيل إلى إيقاظ هذا الإحساس إلا بالتعارف والتكاشف، وسبيل التعارف الآن هي هذه الكتب التي تكشف للعرب عن خفايا بلادهم وتصل ما تقطَّع من أواصرهم بالمعرفة وفي المعرفة المحبة، وفي المحبة التآلف، وفي التآلف التناصر، وفي التناصر الحرية والاستقلال. وهذه الجزيرة العربية -على ما فيها من الضعف- هي مادة هذا التناصر، وهي مهوى قلوب الأمم العربية والإسلامية وهي معقدُ الآمال، وهي حصنُ العرب وإليها تحشد القوى الأعجمية وتدبر الدسائس، وفيها تلقى الفتن، وتوقد نيرانُ العداوة بين أهليها. . . لأن الأعاجم الأوربيين يعلمون من ذلك ما يتجاهله أبناء العربية أو ما يتورطون في تجاهله وإنكاره. فعمل الأمم الناطقة بالعربية على التعارف والتكاشف هو عملها إلى الحرية والمجد والظفر بالأماني والآمال.

الينبوع

الينبوع نظم الدكتور أحمد زكي أبي شادى في أواسط القرن الرابع بدأ الشعر العربي ينزل درجات، وكان في سقوطه يتحسن بأثواب من جمال اللفظ يوارى بها سوآته ويستر عُرَرَه، وكان الشعراء يتعملون في استخراج أنواع من البديع والاستعارة والمجاز والإشارة واستوفوا بذلك غاية بعيدة في تركيب الألفاظ وترتيب الكلام. وبقى الشعر يسفل بعد ذلك حتى نجحت في القرن الماضي طائفة من الشعراء ردَّت إليهِ شبابه، وأعادت عليهِ جدته. إلَّا أن هذا الشعر لم يكن بالذي يرضى هذا الجيل الحاضر من الأدباء، فخرج عليه جماعة ممن تثقفوا بآداب الأعاجم من دول أوربا فبدأت هذه الجماعة تبتدع لنفسها طريقة في الشعر وذلك بإجادة المعاني وتحسينها وتحقيقها والتوسع في النظر إلى أوائلها وأواخرها وتابعها ومتبوعها وعلاقاتها بالنفس وآثارها في القلب إلى غير ذلك من الأغراض. ثم ترى بعضهم قد أهمل اللفظ واستجادته واختياره، ولم يلقوا بالًا إلى الصيغ العربية التي لا يفهم الكلام إلَّا بها، ولا ينعقد المعنى إلَّا عليها. وأغلب الظن أنهم يظنون أن هذه العبارة التي ينشئونها تؤدي المعنى الذي أرادوه، فيلقون بها دون روية أو تثبت، فإذا جاء القارئ ليفهم الكلام على عربيته لم يخرج بشيء ولا يجدى عليه إلَّا أن يتوهم مراد الشاعر توهمًا. غير أن الحقيقة التي لا ينكرها أحد أن كثيرًا من هؤلاء الشعراء قد انطوت أشعارهم على كثير من جليل المعاني ولكنهم أفسدوها بضعفهم في البيان وقلة عنايتهم بالأساليب العربية الجميلة التي يطابقون بها لين المعنى الذي أرادوه والصور التي تنشئها هذه الأساليب في ذهن القارئ البصير. ونحن لا نرى للشعر معنى إلّا بهذه المطابقة بين المعنى المراد والأسلوب المتخذ أداة للتعبير عنه، وإلَّا فإن المعاني الشعرية لا تزال قائمة في أنفس الشعراء من أول عهد الإنسانية إلى هذا اليوم، ولا يتقدم شاعر على شاعر إذا تساويا في المعاني، إلَّا بالبصيرة البيانية النافذة التي تقع بهِ على الألفاظ والأساليب التي تطابق المعاني القائمة في نفسهِ. ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 84، مارس 1934، ص: 380 - 381

هذه كلمة موجزة أردنا أن نقدم بها لذكر ديوان صديقنا (الدكتور أحمد زكي أبي شادى) الذي سماه (الينبوع). ورأيي في شعر أبي شادى أنه جيد المعاني، فربما أراد هذا الشاعر معنى جليلًا ولكنهُ لا يأخذ نفسهُ بالمطابقة بين المعنى الذي أراده والأسلوب الذي يعرضه فيه، وهو يعلم ذلك في شعره فيحتج له ويدافع عنه. ولعلّ الرافعي أراد ذلك حين قال في كلمة سمعتها منهُ أن أبا شادى (مبتدع طريقة). وذلك أن أبا شادى قد صار في شعره على وحي الخاطر (كما يقولون) دون التنقيح والتصفية والاختيار وجعل هذا مذهبًا من المذاهب التي يسلكها الشعراء. وأنا لا أفتات على الرافعي في مراده من هذا الوصف. ولكن ذكرتهُ كما سمعته فإن أخطأت في تأويلي فذلك مِن قبَلى لا مِن قِبَله. هذا وقد قرأت ديوان أبي شادى الجديد فوجدت فيه نفسه بنشاطها، وقلبه بشبابهِ، عقله بتوثبهِ، وعلمه بتنوعهِ، فهو أكثر شعرائنا استخراجًا للمعاني ولأغراض المعاني. وأنت إذا أخذت أحد دواوينه أعجبك من شأنه هذا التنوع في الأغراض التي يرمى إليها بشعره، وهو في هذا كثير المعاني الجيدة، وقد تقع له الألفاظ العالية والتراكيب القوية مما يدلنا على أنه لو توفَّر على الأخذ بأساليب لغته لأخرج لنا في الأدب العربي أدبًا باقيًا قويًّا ناضرًا جميل الظاهر والباطن. ويجدر بنا هنا أن ننقل كلمة للجرجانى في الوساطة فهو يقول عن نظم الشعر ونقده "وملاك الأمر في هذا الباب خاصة، ترك التكلف، ورفض التعمل، والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه، والعنف بهِ، ولست أعني بهذا كل طَبع، بل المهذب الذي قد صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة. وأُلْهِم الفصلُ بين الردئ والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبح". فهذه الكلمة نسوقها إلى الشعراء، فإن الشعر إذا كان متكلفًا في استجادة اللفظ واختيار المعاني لم يكن شيئًا، وخير الشعر هو المرسل على سجيةٍ، الآتي مِن طَبْع، ولكن شرط الطبع والسجية هو هذا الذي قاله الجرجانى في كلمتهِ، ولو اجتمع هذا لشعرائنا لكان لنا من شعرهم فنٌّ تستروح له القلوب وترف عليه الأرواح.

النثر الفني في القرن الرابع

النثر الفني في القرن الرابع تأليف الدكتور زكي مبارك: جزآن. مطبعة دار الكتب المصرية سنة 1352 يطلب من المكتبة التجارية مما ابتُلى بهِ النُقَّاد في هذا العصر كثرةُ الكتب وضيق الوقت فما أظن أن ناقدًا ينصف نفسه وقرّاءَ كلامهِ يدّعى أنهُ حين يضع بين يديه كتابًا كالنثر الفني الذي نتكلم عنه بعدُ، ويأخذ في قراءَته وتتبُّعه يستطيع أن يكتب عنهُ كلمة وافية في ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين، ثم هو بعد ذلك لا يستطيع أن يجعل كل ما يريد أن يقوله في صفحات ثلاث من مجلة كهذه المجلة، فربما كانت كلمة واحدة مما عرض في الكتاب تستنفد في نقدها أو نقضها كلمات تضيق بها عشر صفحات. هذا ما تردد في نفسي حين حملت القلم لأكتب عن كتاب النثر الفني في القرن الرابع. ولا يعنيني في هذه الكلمة أن أقول إن في الكتاب كيت وكيت من الأبواب والفصول فإن المطابع قد سهلت على كل أحد أن يطلع على ما شاء من الكتب مبتذلها وعزيزها، وإنما يعنينى أن أقول كلمة عن أهم ما عرض في هذا الكتاب من الآراء التي ينبغي للقارئ أن يمحصها قبل أن يأخذ بها أو يعتقد في نفسه أمرها أو صحتها. فمن أوَّل ذلك قول المؤلف في ص 33 من الجزء الأول "هل كان للعرب نثر فني في عصور الجاهلية، وهل كانوا يفصحون عن أغراضهم بغير الشعر والخطب والأمثال؟ "لقد اتفق مؤرخو اللغة العربية وآدابها كما اتفق مؤرخو الإسلام على أن العرب لم يكن لهم وجود أدبى ولا سياسي قبل عصر النبوة، وأن الإسلام هو الذي أحياهم بعد موت ونبههم بعد خمول. وهذا الاتفاق يرجع إلى أصلين: فهو ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 84، إبريل 1934، ص: 511 - 514

عند مؤرخى الإسلام والمسلمين تأييد لنزعة دينية يراد بها إثبات أن الإسلام هو الذي خلق العرب خلقًا وأنشأهم إنشاءً، فنقلهم من الظلمات إلى النور، ومن العدم إلى الوجود. وهو عند مؤرخى اللغة العربية، وآدابها يرجع إلى الشك في كثير من النصوص الأدبية التي أُثرت عن العرب قبل الإسلام من خطب وسجع وأمثال". ولا أريد في هذه الكلمة أن أعترض على صاحب الكتاب في وصفه النثر بقوله (الفني) ولا أن أطالبه بحكمة هذا الوصف وإن كنت قد جهدت أن أجد لها معنى يقوم عذرًا لهُ في وضعها فأعيانى الطلب. والواقع أني قرأت الكتاب فلم أعثر فيهِ على حدٍّ أو تعريف لما سمَّاه النثر الفني، وكلما أردت أن أجمع له حدًّا أو تعريفًا من معنى كلامهِ وجدت في غيره من معاني كلامه ما يتفارط عنده ما جمعت لهُ من الرأي. وكان صواب التأليف غير ذلك، لأنهُ جعل هذه الكلمة (النثر الفني) موضع الجدَل بينه وبين خصومه في الرأي من المستشرقين ومن تابعهم في هذا الشرق العربي. وما يقوم الجدل عليه ويقصد القول فيه، لا يصح أن يكون موضع شك أو غموض أو إبهام أو اضطراب. يقول صاحب الكتاب "هل كان للعرب نثر فني؟ " ونحن نجيب عن هذا السؤال بما نضمنه ما نوافقه فيه وما نخالفهُ عليهِ. فقد كان العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب إلَّا قليلًا من أهل المدن كمكة والمدينة (يثرب قديمًا) وأطراف اليمن ومشارف الشام ونواحي الحيرة، وهؤلاء الكتاب لم يكن لهم تأثير بيّن في الأمة العربية لأن جماعة العرب لم تكن لذلك العهد (قبل الإسلام) تعرف الكتابة والخط ولا كان من همهم ذلك، ولو افترضنا أن هذا العدد القليل الذي وصف بالكتابة كان يكتب وعنينا أنهُ كان يؤلف، بقى الأمر على ما هو عليهِ إذ كانوا -على ذلك- يؤلفون لمن لا يقرأ ولا يكتب. ومع هذا فقد كان العرب يتخذون الكتابة في بعض الأغراض كالعهود والرسائل العظيمة الخطر كالذي يروون مما كتبه لقيط بن يعمر الإيادىّ إلى قومه إِياد بالحيرة يحذرهم كسرى (سابور ذا الأكتاف) وكان قد أجمع على غزو إيادٍ فأرسل لهم لقيط -وكان كاتبًا بديوان كسرى- قصيدتهُ المشهورة التي يقول فيها:

يا قوم لا تأمنوا إن كنتمُ غُيُرًا ... على نسائكم كسرى وما جمَعا قوموا قيامًا على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا، قد ينال الأَمْنَ مَن فزعا ويقول في آخرها: هذا كتابى إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيهُ منكم ومن سمعا وقد ورد في ذكر العهود المكتوبة شعر جاهلى كثير منه قول الحارث بن حِلّزة اليشكرى في الحرب التي كانت بين بكر وتغلب. واذكروا حلف ذي المَجاز وما قُـ ... ـدِّم فيه العهود والكفلاءُ حَذَرَ الجور والتعدى وهل ينقُـ ... ـضُ ما في المَهارق الأهواءُ ويعني بالمهارق كتب العهود والمواثيق التي كانت بين بكر وتغلب أيام الهدنة والصلح. فنحن لا نستطيع أن ننكر أن العرب كانوا يكتبون ويتراسلون في بعض الأحايين، ولكننا نستطيع أن ننكر أنهم كانوا يصنفون الكتب ويؤلفون الرسائل في الأغراض الكثيرة. ويجب على المفكر في هذا الأمر أن يعلم أن كلام العرب في محاوراتهم ومجالسهم وخطهم كان هو الكلام المتخذ في الرسائل والعهود وغير ذلك إذ أن هذه اللغة العربية التي بين أيدينا والتي نزل بها القرآن والتي كان يتكلم بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضي الله عنهم كانت إلى القرن الثاني والثالث من الهجرة تؤخذ من أفواه العرب البداة. فلا يعقل بعد ذلك أن يكون في الجزيرة العربية كُتاب قد تفرغوا للكتابة حتى نسأل هل كان هناك (نثر فني) أو لم يكن فإن هذا السؤال يقتضي أن يكون في الجزيرة فئة قد تجردت للكتابة فعلت على غيرها من عامة الناس في الأسلوب البيانى. هذا والرسول نفسهُ - صلى الله عليه وسلم - كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وكان يعد أفصح العرب، وكان من أصحابهِ من يجيد الكتابة كعُمَر وعلىّ وزيد وعثمان رضي الله عنهم ومن يتدبر هذا يجد أن النثر على المعنى المعروف عندنا لم يكن مما تتطلبهُ العرب وتتفرغ له وتتفوق فيه وإنما كان كلامهم كله مرسلًا على سجية واحدة إلَّا الشعر فإن الذي ميزه هو الوزن والقافية.

أما قول صاحب الكتاب أن مؤرخى الإسلام اتفقوا على أن العرب لم يكن لهم وجود سياسي أو أدبى قبل النبوة فهذا قول مرسل لا حد له، وهو كلام لم يقل بهِ أحد من العلماء وإنما كانوا يعنون بما يصفون بهِ العرب من الجهل والضلال ما يتصل بأمر الدين والتوحيد وإلَّا فإنهم قد استشهدوا في تفسير القرآن نفسه بنوع من كلام العرب وهو الشعر. أما المسألة السياسية والكتلة الدولية فإنهم يعنون بذلك أن لم تكن أمة متآزرة ذات حكم واحد وسيادة متصلة من أعلى الجزيرة إلى أسفلها بل كانت قبائل متنازعة يأكل بعضها بعضا حتى جاء أمر الله ونزل القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون مبشرًا ونذيرًا وهاديًا إلى الله بأمره وسراجًا منيرًا فألّف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا وقاتلوا في سبيل الله حتى فتحوا الأرض واستولوا على ملك كسرى وقيصر. وليس في هذا موضع للجدال. . . ولا اتفاق -كما يقول صاحب الكتاب- يرجع إلى أن مؤرخى الإسلام يقولون ذلك تأييدًا لنزعة دينية يراد بها إثبات أن الإسلام هو الذي خلق العرب خلفا وأنشأهم إنشاءً فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن العدم إلى الوجود. . . هذا على أن القرآن قد أخرج العرب حقيقة من الظلمات إلى النور. ثم إن المؤلف أراد بعد ذلك أن يجعل القرآن أثرًا جاهليًّا "فإنه -نسأل الله المغفرة- من صور العصر الجاهلى، إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره" ص 38 فلو كان ذلك كذلك فما فعل القرآن بالعرب حتى أخرجهم من الظلمات إلى النور وكيف يجئ ما هو من عند الله مطابقًا لتصورات العرب وتقاليدهم على ما فيها من الطبيعة البشرية الضعيفة الهالكة الجاهلة. وهذا القرآن الذي يعدهُ صاحب الكتاب أثرًا جاهليًّا هو الكتاب نفسه الذي أعجز عرب الجاهلية جميعًا وتحداهم وطالبهم وسخر منهم ووضع من آلهتهم وحقرها وأثار أحقادهم وأضغانهم. ولو كان هذا القرآن قريبًا من كلامهم أو شبيهًا بهِ لما عجز بعض بلغائهم عن الإتيان بمثل سورة من سورهِ كما طالبهم بذلك وتحداهم. ونحن لا ننكر أن كل ما في القرآن من لفظ إنما هو من ألفاظ العرب كما أن أكثر ألفاظ كتّابنا الآن بل كتّاب القرن الرابع الذي يتكلم عنه صاحبهُ إنما هي ألفاظ عربية،

ونحن لا نعدُّ أسلوبنا أو أسلوب القرن الرابع في النثر مقاربًا أو شبيهًا بالنثر الجاهلى فكذلك القرآن من النثر الجاهلى بهذه المنزلة، فألفاظ القرآن هي الألفاظ العربية ولكن نظمه وسياقه وبلاغته ومواقع كلماته المعجزة لا صلة بينها وبين أي كلام من كلام البشر في جاهلية أو إسلام. ولماذا يعدُّ صاحب الكتاب هذا القرآن من النثر الجاهلى، ويتخذه دليلًا على وجود النثر في الجاهلية مع أن الحديث النبوي وكلام الصحابة المرويّ بالأسانيد الصحيحة الثابتة هو أقرب في الأدلة وفيهِ بغية صاحب الكتاب. فأنت إذا قرأت السيرة وجدت كثيرًا من كتب الرسول إلى القبائل والأمم ووُلاة جيوشهِ ووجدْت أكثر من ذلك في كلام أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وغيرهم من أهل الجاهلية الذي أسلموا واتبعوا الرسول النبيّ الأميّ - صلى الله عليه وسلم -. القرآن كتاب الله، فإذا أردنا أن نبحث عن الأدلة عن النثرِ الجاهليّ فهو في كلام الصحابة والرسول نفسه. هذا ونحن نعتذر إلى القراءِ عن تقصيرنا في الكتابة عن كتاب النثر الفنيّ فإنّ لهذا موضعًا آخر إن شاءَ الله.

مقاليد الكتب

مقاليد الكتب 1 - ديوان عبد المطلب قامت بطبعه ونشره مطبعة الاعتماد سنة 1934 وقف على طبعه الأستاذ محمد الهوارى وشرحه وصححه الأستاذان (إبراهيم الأبياري) و (عبد الحفيظ شلبي) كان عبد المطلب -رحمه الله-على كثرة ما يعاودهُ من الأمراض- فتيًّا تسمع لحديثه رنّات مجلجلات كأنما يتكلم وحده في بيداءَ تتداعى أصداؤها، وكانت الكلمات العربية الخالصة تتحدّر من لسانِه ومن بين شفتيهِ وعليها ميسم العرب الخُلَّص إلَّا في قليل من الحروف، وذلك القليل هو حرف (الضاد) فإني كنت أسمعهُ ينطقه على لهجتنا (أعني أهل مصر) كأنهُ دالٍ مفخمة (¬1)، وكان الرجل في إحساسه بوداد أصدقائه كأنما خلقت أعصابه كلها من المادة التي يُخْلَق منها القلب الرقيق الوفيُّ، ولذلك كان أهون الناس عداوة على الرغم مما ترى من شدتهِ وجفائهِ في الخصومة، ولذلك أيضا كان أحسن الناس تقديرًا لمعاصريه من الأدباء لا يداخله في ذلك حسدٌ. هذا الإحساس الرقيق وحده كان هو موضع الشعر في عبد المطلب، فإذا صعب على أصحابنا من الأدباء أن يعدُّوا شعر عبد المطلب كله من عالى الشعر في هذا العصر، فليس منهم من يستطيع أن ينسى أن رجلًا من الرجال اسمهُ عبد المطلب رحمة الله عليه كان كما خلق إنسانية من الشعر لا إنسانًا من الشعراء. وأنا حين أقرأ شعر عبد المطلب لا أشك ساعة في أمرين. أما أحدهما: فكون هذا الشعر ليس من النمط العالى الذي تقوم بهِ البلاغة العربية في هذا العصر وإن كان هو من حيث العربية وعلومها من جيد الكلام وجزلِه ورصينهِ ومحكمهِ. ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 85، يوليو 1934، ص: 114 - 115 (¬1) أما النطق العربي الصحيح (للضاد) فهو قريب الشبه بالظاء مع اختلاف المخارج فإن مخرج الضاد من أول حافة وما يليه من الأضراس من الجانب الأيسر وهذا الحرف يستطيل في النطق به حتى يتصل بمخرج اللام وهو الحرف الوحيد الذي يسمى (المستطيل) لما فيه من القوة بالجهر والإطباق والاستعلاء. (شاكر).

فإن اتساع الفكرة في هذا الزمن ثم بساطتها ثم خفاءِ موضع الفلسفة العالية فيها، ثم تغلغل النظرة الفلسفية إلى أعماق الحقيقة الحية في الكون هو رأس ما يمتاز بهِ كبار الأفذاذ والبلغاءِ في عصرنا هذا. وهو النوع الذي لم تعرفهُ العربية إلَّا في القليل من شعرائها، وفي القليل من شعر هؤلاء الشعراء. وليس في العربية من هذا النوع إلا معجزتان: إحداهما القرآن، والأخرى ما صحَّ من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففيهما وحدهما تبلغ الفكرة في نفسها، ثم بتعبيرها وألفاظها، ثمَّ بشمول معانيها لجميع الحقائق الواشجة بها، ثم بسريانها من ألفاظها وكلماتها مسرى الرَّوْح العطر في جوّ السَّحَر، ثم فوق ذلك كله البساطة واللين والتقارب والتعاطف بين هذه المعاني كلها -نقول يبلغ هذا كلهُ مبلغا يكون منه ما هو كنسيم الجنة في طيبه ونعمته، ويكون منه ما هو كحزّ المواسى في علائق القلوب، ويكون منهُ ما هو كالنار تستعر وتتلذع، ويكون منهُ ما ينتظم البنيان الإنساني البليغ المتفهم فيهزُّه هزّ الزلزلة أعصاب الأرض وبهذا كان القرآن معجزًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبمثله كان حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو ذروة البلاغة البشرية التي تتقطع دونها أعناق الرجال .. * * * أما الأمر الآخر الذي لا أشك فيه حين أقرأ شعر عبد المطلب، فهو هذه الحياة التي تترقرق في شعره وإن كان هذا الشعر نفسهُ على النمط الذي يسمونه (التقليدي)، فهو يصف الإبل ويتغزل لافتتاح القصيدة ثم يتخلص من غزلِه إلى المدح أو أي غرض كان من أغراض الشعر إلى غير ذلك من الملامح التي يحفظها هذا الشعر الحديث لشعر آبائنا رحمهم الله في عصورهم الماضية. فالعجب أن يكون عبد المطلب وهو الرجل العربي الذي احتفظ بعربيته في القرن العشرين يحاكى شعر أجدادنا وأجداده ولا يخرج الشعر من فكره فاترًا ميتًا بل يخرج وهو يتحرك وينبض وكأنهُ شعر عصره الذي كان يمكن أن يقال فيه هذا هو العجب. وهو عندي الدليل الوحيد على ما كان في نفس عبد المطلب رحمة الله عليه من أسباب الشعر ومادته الحية.

فكانت مقدرة هذا الرجل الشاعر في نقله صورة من القرون الماضية وحياتها إلى القرن العشرين. . . نقل هذه الصورة ولم يدعها كما أتته بل أرسل فيها من شاعريته، ما أحياهما ونفخ فيها الروح حتى لا يشك المرءُ في أنها لا تزال حية بين يديه مع اختلاف الأزمان عليها وتطاول العصور بها. ومن هنا كان يسمى نفسه بالشاعر البدويّ لأنهُ هو الذي استطاع في شعره أن يعطينا صورة حية من إنسانية قد مضت ونفذَ بها الأجل في ثوب من العربية الفصيحة التي لا عجمة فيها ولا فساد. * * * هو هذا الشاعر البدوي كما بدا لنا قبل أن نقرأ ديوانهُ مجموعًا وبعد أن قرأنا ديوانهُ مطبوعًا فمن شاءَ أن يختار لدراسة الشعر القديم أستاذًا يهديه فليرجع إلى ديوان عبد المطلب فسَيَسْهُل عليهِ بعد ذلك أن يحسَ بجمال الشعر البدويّ حين يقرؤه لامرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية ومن جاءَ على آثارها. وليعذرنا القارئ إذا بدا له أنّا لم نختر لعبد المطلب ما نثبته في هذه الكلمة، فإن باب الكتب في هذا الشهر لا يحتمل أكثر مما كتبنا، وليرجع إلى الديوان نفسه وليقس على ما قلناهُ فسيجد ذلك صوابًا - إن شاءَ الله.

2 - مرشد المتعلم

2 - مرشد المتعلم تأليف السير (جون آدمز) أستاذ التربية بجامعة لندن سابقًا -وترجمة الأستاذ (محمد أحمد الغمراوى) خريج المعلمين العليا وجامعة لندن والمدرس بكلية الطب- من مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر بدار الكتب المصرية سنة 1934 الأستاذ الغمراويُّ كما عرفتهُ من سنين رجل موفق فيما يتعمده من الأمور، مرَتَّبُ الحديث كأنما يحدثك عن كتاب، واسع الفكرة بسيطها حتى ليخيل إليك أحيانا يتكلَّمُ بكلام يتداولهُ الناس لا عمل للفكر الدقيق فيهِ، ولكنك إذا راجعت نفسك فيما تسمع رأيت التوفيق معانًا بالترتيب، مقدَّرًا بالفكرة، محفوفًا بالبساطة والحرية والجمال. وإذا أردت أن تتبيَّن ما وصفنا لك فاقرأ كتابًا يؤلفهُ رجلٌ يدرّس الكيمياء ويريق عليها من شبابه، في باب يتباعدُ ما بينهُ وبين الكيمياء وهو الأدب. اقرأ كتابهُ الذي ألّفهُ في رد الرأي الذي أذاعهُ الدكتور طه حسين عن الشعر الجاهلي فسترى كيف (يحلل) هذا الكيميائى كتاب الدكتور طه ويصنف لك في (تحليله) أنواع الجراثيم الفكرية التي وقعت فيهِ، ويقيدها لك بسلاسل من العلم، ويضع لك الدواءَ الذي يذهب بها ويميتها ونحن لا نقول هذه الكلمة لننتصر برجل على رجل، بل نقولها لأن الحقيقة تفرض علينا أن نقول ذلك وأن ندعو -ما تعرَّضت الفرصة- إلى قراءَة هذا الكتاب الذي لا غنى لأحد من الأدباء عنهُ لأنهُ هو الكتاب الذي أدخل في الأدب دقة التحليل الكيميائى ومزج بين الفكرة العلمية المتلبّثة المتَثَبّتَة وبين الفكرة الأدبية الخيالية الجامحة وأخرج منهما (مزيجًا) شافيًا لما انتشر عندنا من الأمراض الأدبية الكثيرة. قلنا إن الغمراوى رجلٌ موفق فمما رأينا من توفيقه اختياره كتاب (مرشد المتعلم) للترجمة فإن المتعلمين في مصر وغيرها من بلاد العربية بل الذين يعدُّون أنفسهم من شيوخ المثقفين وكبار النابغين! ! هم أحوجُ الناس في الإرشادِ إلى مثل هذا الكتاب. ولعلّ كثيرًا من الذين يسمعون قولنا هذا أو يقرأونه يكبر عليهم أن ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 85، يوليو 1934، ص: 116 - 117

يكون ذلك كذلك. ولكن هذه هي الحقيقة لا تحجبها عنا إلَّا كبرياء النفس المتعالية. لقد كان القدماء من آبائنا رضوان الله عليهم يتخذون من شيوخهم أمثلة يسترشدون بها، وكانوا أقدر منا على ذلك لشدة تعلق الطالب منهم بشيخه من العلماء فهو يتشبه به ما استطاع، يسأله عن أشياء من صغائر العلم وأدب طلبه، يستحي أحد طلبتنا الآن أن يسأل عنها أباه أو أخاه أو أستاذه. ثم أن العلماء من المتقدمين كانوا يعمدون إلى طريقة بارعة في التدريس وهي التي يسمونها (التوقيف) ومعناها أن يدلَّ الشيخ ولده أو مريدهُ من الطلبة على أصول الشيء الذي يتلقاه عنه ويبسطها له ويدربه عليها، ثم يتركه يقيس عليها ثم يصحح له قياسه إن أخطأ. ولا يذهبنَّ بأحد أن هذا يشبه ما يسمونه الآن (بالتطبيق) فإن الفرق بينهما بيّن وليس هنا موضع تفصيل ذلك. فهذا التوقيف الذي كان يقال في الأيام الماضية، لا يقيد بالكتاب قد جاء في كتاب السير جون آدمز طرف بارع منه حاوٍ لأكثر ما يحتاج إليه المتعلم صغيرًا وكبيرًا أو كما يقولون (من المهد إلى اللحد)، فهذا هو الباب الأول من التوفيق في ترجمة هذا الكتاب. ثم يلى ذلك الباب الثاني من التوفيق وهو في طريقة الترجمة، فإن المترجم حين تعرض لها لم ينسَ ما ينساه جمهرة المترجمين في هذا العصر، وهو مقدار التخالف بين الأمة التي ألف لها ثم فيها الكتاب وبين الأمة التي يترجم لها وفي بلادها هذا الكتاب بعينه. وهذا أمر حتم على كل من يتصدّر للترجمة، فربّ مضرة استجلبها المترجم على قارئ كتابه بنسيان مقدار هذا التخالف بين الأمتين. ولكن الغمراوى أمسك المفتاح بيده وأداره في الكتاب كله فتسنت له وللقراء من بعده مغاليق الرأي، وكانت الفائدة أجل وأعظم وأوفي. وسيرى قارئ الكتاب حين يتمشى في صفحاته المثمرة كيف وفق الغمراوى كل التوفيق حين ترجم هذا الكتاب. أما التوفيق الثالث فهو أسلوب المترجم في كتابه وهذا أمر يفرغ من الاقتناع به كل من يقابل صفحات من الأصل الإنكليزي بأخواتها من الترجمة.

أما خير ما وفق إليهِ المترجم فهو الفصل الأخير وهو الملحق بالفصل السابع من أصل المؤلف وفيه ذكر كتب المراجع في العربية. وذلك أن الفصل السابع عند مؤلف الكتاب كان في كتب المراجع الإنجليزية فاستدرك الغمراوى ما يفوت غيره واستوفى بابًا هو أول ما رأيته مما كتب عن المراجع التي يحتاج إليها طالب العلم العربي. لم يترك مؤلف هذا الفصل بابًا من أبواب العلم العربي المتداول بين الناس إلَّا ذكر لك فيه طرفًا من الكتب الأولى التي لا يستغنى عنها متعلم أو متخصص في علم بعينه. ونحن لو ذهبنا نستقصى توفيق هذا الرجل في ترجمة كتابه أولا ثم في الفصل الملحق، وذكرنا من الحوادث والأخبار التي تذكرناها حين قرأنا في فصوله، مما يدل على حاجة كبار المثقفين منا إلى الاسترشاد به لأدخلنا الضيم على صفحات نقد الكتب من هذه المجلة. فقصارى ما نعمل هنا أن نحمل شكر الأمة العربية إلى هذا المترجم البارع ثم نسأل الله أن يزيده فيما هو بسبيله توفيقًا وهدى، وأن يهدي قراءنا وأدباءنا إلى الاستفادة من (كتاب مرشد المتعلم) فإن فيه -إن شاء الله- رى النفس، وهدى العقل، واطمئنان القلب إلى طريقة محكمة في التحصيل والتفكير.

3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام تأليف الأستاذ محمد بن عبد الله عنان. طبعة ثانية بدار الكتب المصرية سنة 1352 - سنة 1934 ظهر هذا الكتاب من عدة سنوات فلقى من الانتشار وأُلقى عليهِ من المحبة ما لا تبلغه كثير من الكتب العربية التي تطبع في بلادنا. وسبب ذلك على الأرجح ما لهذا الغرض بعينه من الشوق في قلوب الناس من أهل الشرق. فطغيان الحياة الأوربية التي تنقل إلينا على ظهور البواخر كل يوم وعلى ظهور الآدميين وعقولهم وشهواتهم بما فيها من الفساد والضعف والانحلال، وبما فيها من العلم والقوة والنبوغ أيضًا، .. هو من أهم ما يحفز أكثر المثقفين المفكرين إلى درس المواقف التي كانت سبب التحاجز بين أمم الغرب والأمة العربية المسلمة، تلك المواقف التي جعلت للتاريخ الإسلامي صورة ينساها أبناء الإسلام، ويحقق النظر فيها علماء الأمم المسيحية ليأخذوا منها العبرة الباقية على مدى العصور واضحة جليلة مفصحة مبينة. المواقف الحاسمة التي وقفت من سيل المسلمين بدينهم ومرَّنت الأمم المسيحية على خُلُق المسلمين وآدابهم وعاداتهم وشيء من دينهم، كانت ولا تزال مادة للتاريخ الحي الذي يجب على كل شرقي أن يوجد العناية بهِ في نفسه إن كان لا يجدها، وذلك لما فيها من مفاخر السلف العاملين، وفي هذه المفاخر أصول للقدوة والاتباع فيها إنقاذ الحياة الشرقية من الفوضى والجهل، واستخلاصها من براثن الاستعمار الذي لا يدع للقويّ قوة يفزع إليها، ولا للضعيف عدة يستنصر بها. ولعلَّ أول مَن اعتنى مِن كتّاب العصر الحديث بهذا هو الأستاذ محمد عبد الله عنان فقد كتب كتابه هذا باذلًا أقصى الجهد في تحقيق ما هو بسبيله من التاريخ على قدر ما يكون في طاقته مخلصًا في ذلك كل الإخلاص. ولهذا ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 85، يوليو 1934، ص: 117 - 118

الإخلاص يغتفر له من يقرأ كتابه بعض الزلات. ولهذا نفسه كان هو أول من رجع على فصول كتابه بالتعقيب فنقّح منها وزاد فيها ما صحَّ له من العلم. وهذا وحده فخر عظيم للأستاذ يجعله دائمًا في طليعة من يريد العلم للعلم، لا للشهرة والاسم. ولا نزيد قراءنا تعريفًا بالكتاب وكاتبه، فالكتاب قد أخذ قسطًا وافرًا من الشهرة في الأمم الشرقية والعربية، والكاتب له في قلوب الشرقيين مكانة ومودة. ويبقى علينا أن ننبه إلى شيء جديد وهو أن هذا الكتاب يكاد يختلف اختلافًا كبيرًا عن الطبعة الأولى منه، لما فيه من الفصول التي أضيفت له، وما دخله من التغيير والتنقيح حتى أصبح كتابًا مستقلًا يضارع الطبعة الأولى منه. فلا غنى لمن يملك الطبعة الأولى عن اقتناء الطبعة الثانية، ونرجو أن يوفق الأستاذ في طبعته الثالثة إلى إضافة فصول جديدة وإدخال تنقيح جديد في أبواب كتابه، فما من كلمة يكتبها أحدنا اليوم وإلَّا ويصبح وقد بدا له فيها. وهذا هو السر في تجدد العلم. وهو سرُّ العقول النابغة التي لا تفتر ولا تمل.

"ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام"

" ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام" تأليف دوزي (المستشرق) وترجمة الأستاذ كامل كيلانى. نشرته مكتبة عيسى الحلبي وشركاه سنة 1353 و 1934 دوزي مستشرق معدود في الطبقة الأولى من الأعاجم الذين صرفوا قلوبهم إلى دراسة العربية وما فيها من الكتب. و"بعد" فقد كتبنا في مقتطف مارس سنة 1933 أن الأمة العربية ابتليت ببليتين: أولاهما، أنهُ لم ينتدب أحد من أهل هذه اللغة إلى التنقيب عن آثار الأمة العربية التي طويت في أرضها بين يمنها وشامها وحجازها وعراقها ومصرها ومغربها وما سوى ذلك، والأخرى: أنهُ لم يخفَّ أحد إلى دراسة كتب العرب ولمِّ شتاتها واستخراج ما خفي من أساليب العرب وأحوالها وعاداتها في الاجتماع والأدب واللغة حتى جاءنا في هذا العصر أصحاب الألسنة الأعجمية من دول أوربا بأقوالهم في تاريخنا وأدبنا وديننا بالكلام الجيد تارةً والفهم الملتوي والتعليل الفاسد تارةً أخرى. فهذا الكتاب الذي ترجمهُ الأستاذ كامل كيلانى وتنَصَّل من الإثم فيه بقوله "إذا كان العلامة فخر الدين الرازي يقول في مقدمته لشرح "الإشارات" لابن سينا: "إن التقرير غير الردّ، والتفسير غير النقد" فما أجدرنا أن نقول "والترجمة غير النقد". نقول هذا الكتاب قِسْمان: الأول ما كتبهُ دوزى عن ملوك الطوائف والآخر فصول من كلام دوزى في تاريخ الإسلام. والأول أهونهما خطرًا وأقلهما خطأً والآخر ما هو إلا تركيب فاسد قد اجتمع لهذا المستشرق من (استخراج) فاسد من كتب التاريخ الإسلامي وغيرها وترقى فيها بالخديعة الكتابية إلى تأليف كلام يشبه التحقيق العلمي وما هو منه في شيء. وهذه عادة هذه الفئة من المستشرقين الذين يتعرضون لتاريخ الإسلام ورجاله، لا يتورعون عن عرض آرائهم في أسواق الكتب ثم لا يبالون إلا بالنسج الذي نسجوه غير ناظرين إلى الحقيقة العلمية. ولقذ قرأت هذا الكتاب ووقفت على ما فيه من مواضع الخطإِ وأحصيت عليه ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 85، أكتوبر 1934، ص: 252 - 254

الآراء التي ترفق في عرضها وأخذ يلوكها مرة ثم مرة مجمجمًا غير مصرّح، وكنت على عزيمة تبيانها للقارئ ولكني رأيت أن ذلك مما يستنفد معنا في هذا الباب من المجلة صفحات كثيرة، ثم وجدت أن الأستاذ "محمد أمين هلال" قد سبقني وكتب في جريدة البلاغ مقالات دقيقة اطلعت على الرابعة والخامسة منها، وقد وقف فيها عند ما وقفت عليهِ ودافع كلام هذا المستشرق بالحجة الصحيحة، وأوثر أن أنقل إلى القارئ هنا جزءًا من كلمة الأستاذ "محمد أمين هلال" التي نشرت في بلاغ (الثلاثاء 2 جمادى الآخرة سنة 1353 - 11 سبتمبر سنة 1934) لما فيها من الفائدة. "يظهر أن اتهام رجال العرب الفاتحين -خصوصًا في الدولة الأموية- بالوثنية والحنين إلى عهودها كان صدًى لما كان يشيعه أعداء الإسلام من أنهُ دين وثني وأن المسلمين جماعة من الوثنيين تغلبوا على الأرض المقدسة ونفوا منها كل فضيلة وإخلاص ولقد رأينا هذه الأقوال الكاذبة ينشرها دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة إبان الحروب الصليبية، فلما قفل الغزاة إلى ديارهم قصُّوا على قومهم أن أعداءَهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة ومجاملة. "ونحن إذا تخيرنا من بين خلفاء الأمويين -الذين يتهمهم العلّامة دوزى ببغض الإسلام- أبغضَ هؤلاء الخلفاء وأبعدَهم عن قلوب المسلمين وهو يزيد بن معاوية مثلًا نجده كان يعمل للإسلام ويأمر قواده بذلك فقد حدثنا التاريخ أن عقبة ابن نافع عامل يزيد لما فتح بلاد البربر وسار إلى السوس الأقصى حتى وصل إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلنطي) قال "يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك" وأنه لما سار إلى (تهوذا) ورآه الروم في قلة طمعوا فيهِ فأغلقوا باب الحصن وشتموه وقاتلوه وهو يدعوهم إلى الإسلام ثم تكاثروا عليه وقتلوه. "ورأينا قتيبة بن مسلم عامل الحجاج بن يوسف "المشهور بغطرسته وقسوته" يخطب في الناس ويقول لهم: إن الله قد أحلكم هذا المحل ليعز دينه ويذب بكم عن الحرمات ويزيد لكم المال استفاضة والعدو قمعًا، ووَعَدَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - النصر بحديث صادق وكتاب ناطق فقال {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ووعد المجاهدين

في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده فقال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} * ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنهُ حي يرزق فقال {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} * فتنجزوا موعود ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمض ألم وإياى والهوينا! "وقتيبة هذا هو الذي تلقاه ملك الصَّغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب ودعاه إلى بلاده وكذلك فعل ملك كفتان وأنصف له مِن مَلِك أَخْرُون وشُومان (¬1) وكتب إليهِ الحجاج يقول: إذا غزوت فكن في مقدم الناس وإذا قفلتَ فكن في أخرياتهم وساقتهم، حتى فتح بلادًا واسعة نشر فيها الإسلام فأخرجت العظماء من كتّاب المسلمين وفقهائهم ومحدّثهم وعلمائهم. "وهذا أشرس بن عبد الله السلمي عامل هشام بن عبد الملك على خراسان أرسل لأول عهده إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية فسارع الناس هناك إلى الإسلام وحين كتب إليه أمير سمرقند إنهم لم يسلموا إلَّا تعوذًا من الجزية. قال له مَن اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه. وقد روى عن يوسف بن عمر عامل هشام على العراق أنهُ مع إسرافه في العقوبة كان طويل الصلاة ملازمًا للمسجد ضابطا لحشمه وأهله. وكان يصلى الصبح ولا يكلم أحدًا حتى يصلي الضحى. ولقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام وقد كان سيرته بلغتهم فأسلموا وتسموا بأسماء العرب. ¬

_ (¬1) كفتان، أَخْرون، شُومان، بلاد بالصغانيان وبالقرب منها وراء نهر جيحون. ولم أجد من ضبط الموقع الأول، أي: كفتان، وذكرها الطبري جميعا في غزو قتيبة خرسان في حوادث سنة 86، جـ 6، ص 425 (طبعة دار المعارف).

"وهذا قل من كثر من موقف خلفاء الأمويين وعمالهم إزاء الإسلام وعملهم على نشره والترويج له في غير عنف ولا شطط، أفبعد هذا يقول عنهم قائل "إن تلك الأقلية العربية التي اضطرت إلى الإسلام اضطرارًا وأكرهت على الدخول في هذا الدين إكراهًا، عرفت كيف تثأر لنفسها حين سنحت لها فرصة الانتقام فتقاضت ثمن ذلك الفوز مضاعفًا وشفت غلة صدورها المكتومة" اهـ. هذا وكنا نراه لزامًا على مترجم الكتاب الأستاذ كيلاني أن يتعرض لهذه المواضع ولا يتنصل منها، نعم نحن نقول معه أن الترجمة غير النقد، ولكن ذلك صحيح حين يترجم للعلماء دون غيرهم، أما حين يظن في كتاب مترجم أنهُ مما يقع في أيدي الناشئين، فلا. . . إن أبناءَنا في المدارس المصرية من ثانوية وعالية لا يعرفون عن مثل عمرو بن العاص إلَّا أنهُ فتح مصر، وعن عمر بن عبد العزيز أنهُ كان خليفة وعن فلان وفلان مثل هذا أو أقل، فكيف نترك مثل هذه الآراء الفاسدة غذاءَ ألباب الذين يريدون من أبنائنا أن يقرأوا كتابًا سهلًا دانى الثمرة. وهم لا يعلمون من التاريخ دقائقه ولا من الإسلام إلَّا كلمات حفظوها لا تبلغ بهم درجة من العلم فيهِ. والمترجم الذي يقول في مقدمة كتابة للقراء إني قد آثرت نقل هذه الفصول من دوزى "لتبيان وجهة تفكير عالم أوربى كبير، وهي -وإن خالفت آراءَنا أحيانا في بعض مناحيها- جديرة أن تقرأ بعناية فائقة" الذي يقول هذا يجب عليهِ أن ينقد المغالطات والمفاسد بعناية فائقة كذلك في زمن قد اجتمعت فيهِ على التاريخ الإسلاميِّ عناصر الفساد والإفساد من كل ناحية. بل في زمن نحن نتهيأ فيهِ لإعادة المجد الضائع والحق المغتصب بفقه ما كان عليهِ أسلافنا فقهًا صحيحًا لا يميل إلى الخرافة ولا يشطُّ مع التقليد والتورط والفساد. أقول هذا وأنا أشكر المترجم على ما أضافهُ إلى قليل علمنا عن آراء هذه الفئة المستشرقة التي نفعت العربية نفعًا كبيرًا بحفظ كتبها ونشرها حين أضاعتها أبناؤها وعموا وصمُّوا ثم عموا وصموا، ولولا رحمة الله بمن نشأ فينا وأحيا بعض مجد العربية لغمرتنا الموجة الطاغية التي وقانا الله بعض شرّها.

الإسلام والحضارة العربية

الإسلام والحضارة العربية تأليف الأستاذ كرد على. لجنة التأليف والترجمة والنشر. مطبعة دار الكتب المصرية سنة 1934 الجزء الأول اللهم إني أسألك السّداد. . . وبعد فلو ذهبت استقصى للقارئ ما نما بنفسي وأنا أقرأ فصول هذا الكتاب لخرجت بهِ من حدّ عرْض فكرة الكتاب إلى بسط فكرتى عن الإسلام وحضارتهِ والعرب وثقافتهم التي اختبأت في دمائهم وعقولهم وألسنتهم من أقدم عصور التاريخ ثم تنفست بالإسلام كما يتنفّس الفجر ضوءًا وحياةً وهمة وشبابًا وأنا هنا أجمع بين الأمرين على ما يحفُّ بذلك من عنتٍ ومشقة. والمؤلف الجليل الأستاذ كرد على يقصُّ على القارئ في مقدمته قصص كتابه فيقول "لما قرر المجمع العلمي العربي "يعني بدمشق" انتدابى إلى تمثيله في مؤتمر المشرقيات الذي عقد في مدينة ليدن من بلاد القاع في صيف 1931 رغَّب إليّ أعضاؤه المفكرون أن أُلْقِى فيه جملة أعرض فيها لما لا يزال يسري على أسلات أقلام (¬1) بعض مؤلفي الغرب، ولاسيما علماء المشرقيات، من أمور نابية عن حد التحقيق والنصفة، كلّما ذكروا الإسلام وأهله والعرب ومَدَنيتهم". ثم يقول. "وسبيل هذا الموجز الآن، تصحيح هفوات من أساؤا وما برحوا يسيئون للعرب ودينهم ورسولهم ومدنيتهم، وذكر ما أثرته الحضارة العربية في أمم الغرب والشرق، وما مني بهِ الإسلام، لما غيَّر أهلُه ما بأنفسهم، من خصماء غير رحماء، نالوا من روحه وجسمه، فالتاثت أحواله، وتنكرت معالمه، والإلماع إلى ما قام بهِ المسلمون بعد طول الهجعة، يلوبون (¬2) على استعادة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليهِ أشواطًا، حتى لم يبق أمامهم غير مراحل لبلوغ الغاية". ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 86، يناير 1935، ص: 109 - 111 (¬1) أَسَلات الأقلام: أطرافها. (¬2) لاب (كقال): استدار حول الماء وهو عطشان للوصول إليه، واستعمله هنا على سبيل الاستعارة.

في هذا الكفاية لمن يريد أن يكون رجلًا عربيًّا من نسل ذلك الشعب العجيب الذي بدّد جيوش الأمم الطاغية في أول أمر الإسلام، وأنشأ على أنقاضها اجتماعًا إسلاميًّا عربيًّا كلهُ محبةٌ وعطفٌ وعدلٌ. وفي هذا الكفاية وفوق الكفاية للذين يتولون أمر التعليم في الأمم العربية ليهبّوا من غفلتهم، وينظروا إلى ما يحاط بهِ مجدهم من كيدٍ وقتالٍ. إن العار أن يقضي الشاب من أول نشأته إلى آخر خروجه من دراسته -أعوامًا طوالًا يدرس في أثنائها تاريخ نابليون وأمته، وفلانًا وفلانًا من أفذاذ الأمم الغربية، وهو لا يعرف من ماضي أمته العربية إلَّا نتفًا تذهب مع الأيام. هذا الماضي الذي يصوره الذين يتعرضون للتاريخ من مستشرقين يقولون غير ما يعلمون أو يقولون فيما لا يعلمون، أو عربٍ قد فسدت قلوبهم على تاريخهم فهم يستقيدون لآراء عن تاريخهم كلها بهتانٌ وتدليس. هذا الماضي الذي يصورون في صورة مسخٍ تاريخى هائل قد خرج على الدنيا كما يخرج الوباء ثم انقشع عنها فأعقبها صحة وعافية أو كما يقولون! ! إلَّا أن الضلالات التي أحاطت بالتاريخ العربي والإسلامي لهي من أسوإ الضلالات وأشدها وأعصاها على العلاج. فإذا لم يتنبه العرب والمسلمون إلى تاريخهم تنبه المريد إلى ما يريد انماثوا في الأمم ذات الهمم كما ينماث الملح في الماء وأضحوْا بددًا لا يجتمع لهم شمل ولا يؤول آخرهم إلى مجد أول يلوذ به أو يستعصم. هذا وقد استوقفني من كلام الأستاذ كرد على الذي رويته آنفًا قوله يذكر ". . . ما قام به المسلمون بعد طول الهجعة يلوبون على استعادة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليه أشواطًا حتى لم يبق أمامهم غير مراحل لبلوغ الغاية"! ! إني لأقرأ هذه الكلمات فتتمثل لعيني (خريطة) العالم العربي الإسلامي من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب ومن مشرق الشمس إلى مغربها، وأعرض قول الأستاذ على أمةٍ أمةٍ من بلادنا فلا أجد قوله يرتاح إلى واحدة منهنَّ. هذه هي السلاسل وهذه هي القيود، وهذه بعض الأمم تمرح في طول من سلاسل الحديد

طرفها بيد المستعمر فيخيل إلى الناظر أن ما بهذه الأمم من المرح والنشاط هو انحلال من السلسلة وما هو به إن هو إلَّا بعض الغفلة التي نحن فيها إلى الأذقان مقحمون. إن الأشواط التي قطعتها هذه الأمم فيما يسمى حضارة أو ثقافة هي غير الأشواط التي يجب أن نقطعها إلى الحضارة والثقافة، وإن السبيل التي مضينا فيها غير السبيل التي فرض علينا سلوكها إن أردنا أن نبلغ غاية يقال لها "لم يبق أمامنا غير مراحل". أين الأمة الإسلامية العربية التي يريدها الأستاذ على ما فهمنا من فحوى كلامه. . .؟ أين الرجل العربي المسلم الذي يرتفع في الجو كما ترتفع الطائرة التي تحمل أسباب الموت ودلائل الحياة ثم ينقضُ كما تنقضُّ القذيفة من عليائها فلا تذر من شيء إلا أتت عليه فجعلتهُ هشيمًا تذروه الرياح. إن أمامنا مراحل أولها مهد الطفل العربي الرضيع. وآخرها هذا القبر فاغرًا فاه يلتقم ما تمضغه الحياة من الأبدان العربية ذات السيادة والحضارة والإخلاص والعدل. فانظر إلى هذا المهد الذي لا يخرج منهُ إلَّا الضعيف والمهزول والأعزل الذي لا سلاح لهُ في الحياة، وهذا الذي ينام على هدَّاتِ الجبال وقصف الرعود وخواطف البروق، وهذا الذي يمشي حيران ليس لهُ هادٍ ولا دليل، وهذا العود الخرِع الجميل الذي يتثنى ويتبرج "تبرُّج الأنثى تصدَّت للذَّكَر" (¬1) كما يقول ابن الرومى. ثم انظر إلى هذه المدرسة التي لا يخرج منها إلَّا الأدعياءُ وأشباهُ الأدعياء ممن استودعوا جماجمهم عقولًا غير عقولهم، وأذهانًا غير أذهانهم، وصاروا أتباعَ كل ناعق. ثم انظر إلى هؤلاءِ وقد ساروا في سبيل الحياة والعمل كما يسيرُ ذوو العاهات ¬

_ (¬1) هذا صدر البيت، وتمامه: تَبَرَّجَتْ بَعْدَ حَياءٍ وخَفَرْ ... تَبَرجَ الأُنْثَى تَصَدَّتْ للذَّكَرْ

فمنهم الأعرج والأكتع ومقطوع الساقين، والأعمى الذي لا يهتدى والفيلسوف الذي لا يعقل. . .! ؟ . ثم انظر وانظر. . . هل ترى إلّا أقوالًا ملفقة لبست ملابس الفلسفة والعلم والأدب، وتكلمت بها أفواهٌ تتعاقل على الناس وليس لها من ورائها عقل مستوٍ قد قرّر معنى المجد أو الحرية أو الإخلاص أو المعنى الذي يتبع الإنسان أينما سار أو حلّ، ذلك المعنى العظيمُ الذي لا يغفلُ عنهُ إلّا من لا حياة فيه ألا وهو الموت. إني لأبكي. . . وآسى. . . و. . . إلخ حين أذكرُ هذا، واعلمُ أني أتكلم بمثل هذا عن أمةٍ أنا منها وهي مني، وإني ليحزننى أن لا أجدَ مندوحة عن القول، ثم لا أجدُ معدًى عن استقصاء التصريح في هذا القول. فإن الدنيا كلها تسيرُ وتعدُّ من أسباب القوة والجبروت ونحن لا نجد لدينا من أسباب ذلك إلّا ألسنة. . .! ! وما تنفع الألسنة في زمن ألسنته غير هذه التي خلقها الله وسوّاها من لحمٍ ودَمٍ. إذا أردنا أن نكتب هذه الكلمة التي كتبها الأستاذ فنقول "قد قطعنا أشواطًا ونحن إلى الغاية ولم تبق إلّا مراحل" فإن أمامنا أهوالًا وأهوالًا لابدّ من ملاقاتها والتمرس بها تمرُّس المصارع المفتول الساعدين بالأسد الهصور الجائع الذي يريدان يملأَ معدتهُ ليتضلع من طعامهِ ويبسط إهابهُ العضل في ضحى الشمس تمامًا لمتاعهِ ولذتهِ. البيتُ العربيُّ الإسلاميُّ الذي يخرج رجلًا يقفُ في مهبّ الريح يملأُ رئتيهِ من الهواءِ النقي استعدادًا لطلب العيش الذي هو المجد. والمدرسة العربية الإسلامية التي تخرج رجلًا كالأسطول المدرع بالعلم والفلسفة والخُلُق والقوة البدنية والمكتسبة والتي هي الحرية. والاجتماع العربي الإسلامي الذي يفرضُ على كل رجل أن يعمل ثم يعمل في غير وهن ولا ضعف باذلًا روحهُ الفردة في غير شح ولا بخل لتنالَ الأرواحُ جميعها الحياة المتوَّجة بالمجد والمحفوفة بالحرية والتي هي السيادة. إن لكل أمة تطلب مجدها وحريتها وسيادتها أسلوبًا متبعًا وسبيلًا مقررة

لا عوَجَ فيها ولا أمْت (¬1)، فلنطلب لأنفسنا أسلوبًا وسبيلًا ولننشيء بيوتنا ومدارسنا واجتماعنا نشأة أُخرى غير هذه التي نحن عليها من التقليد المريض الذي ذهب بشبابنا واستهلك مادة الحياة فينا. هذا التاريخ الذي يصححهُ الأستاذ كرد على في كتابه هو أولُ ما يجبُ على البيت والمدرسة والصحافة والاجتماع أن تصححهُ في أذهان الأطفال والشبان والمثقفين من الرجال والنساء. وهذا الأسلوب الاجتماعي الذي نعيش فيه يجب أن يغير من أوله إلى آخره حتى يصبح رجولةً عارفةً متثبته لا تهزل ولا تغفل. وهذا الموج الزاحف علينا من أقطار الأرض بالفتن والبدع لابد من تقديم الحيطة له في العقول والأبدان. وإلّا فنحن إلى هلاك لا إلى غاية لم يبق منها إلّا مراحل. إني لأرى في هذا الكتاب الذي بين يدي أنواعًا من الفكر وألوانًا من القول كلها يؤدى إلى مثل الذي نقول به ونعمل له، وهو دليل نافع لكل من يريد أن يقف على حقيقة ما يحيط بأمته من الكيد والطمع. . . ولا أرى لعربي فضلًا عن متعلم فضلًا عن مثقف وفضلًا عن رجل يطلب المجد والحرية مندوحة عن الاستفادة منهُ مع التاريخ الذي يرِدُ شرعته من أصوله وكتبه. إن أمامنا المراحل كلها إلى غاية المجد فلنبدأ بتكوين ما يؤدى إليها وإن في حقائق ما يحيط بنا لحافزًا إلى العمل والإخلاص والنهوض والمبادرة إلى ما ليس منهُ بُدٌّ. وإن في التاريخ العربي لعبرة وإن فيه لأمثالًا من المجد والعدل، وإن فيه لصورًا من الحرية يجب أن يتمثلها كل عربي -مادام حيًّا- بين عينيه أنى سار وحيثما نزل وفي هذا الكتاب أطرافٌ من كل ذلك. فلعل الله يحدث لنا من بعد هذا ذكرًا في العالمين. ¬

_ (¬1) العوج والأمت بمعنى.

وحي القلم

وَحْيُ القلم لمصطفى صادق الرافعي: جزءان: 808 صفحة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1355 - سنة 1936 الرافعي كاتب حبيب إلى القلب، تتنازعهُ إليه أسباب كثيرةٌ من أخوة في الله، ومن صداقة في الحب، ومن مذهب متفق في الروح، ومن نية معروفة في الفن، ومن إعجاب قائم في البيان ومن هنا ومن ثمّ لا أدري من أين تبدأ ولا أين تنتهي. فأنا حين أريد القول في صداقتهِ أو في إيمانهِ أو في حبه أو في بيانه أو في فنهِ أجدنى كالمهموم إذا ابتدأ لهُ همٌّ تداعت إليه الهموم من كل جانب، فأضع القلم وأرفعهُ وأديره وأتلوى بهِ لأن المعاني تتلوى بي في سبيل مَضَلَّة، فأرانى أتحاشى القول خشية الغلوَ أو خوف التقصير. وقد تكلفت شططًا وحملت نفسي على ما لا تطيق وأنا أكتب عن "وحي القلم"، لئلا أغلو في الرافعيّ فيقال: معجب غلا بهِ إعجابهُ، أو أقصر فيهِ فيقال: صديق شقيت به أصحابه. كانت سنة 1341 - سنة 1923 - فقرأت للرافعيّ كتابهُ "المساكين" فنازعتنى نفسي إلى مراسلتِه لأصل ما بيني وبينه، فكتب إليَّ كتابًا رقيقًا كنور الفجر، ثم مضت الأيام ولقيت رجلًا كهلًا قد اشتعل الشيب في رأسه، خفيفا قد أخذت منهُ الأيام، صامتًا قد أسكتهُ الفكر، ثم قيل هذا الرافعي. فيوم ذاك عرفتهُ، فإذا هذا الكهل شباب مشتعل يتوهج، وإذا هذا الخفيف قوة مستصعبة مستمرة لا تلين، وإذا هذا الصامت لسانٌ عربيٌّ مبين. ثم هو بعدُ صديق أنت من صداقته في مثل الروضة تفيء إلى ظلها، وتستنشى شذاها، وتصاحبها وتصاحبك فتمسح عن قلبك الحزن بالرضى والفرح، ما لا تمسح صداقة الناس ممن ترى وتعرف. وهنا سر الرافعي كلهُ، سره في فكره، وسره في علمهِ، وسره في بيانهِ، وسره في فنهِ وذاك هو سر المؤمن إذا ارتفعت عن قلبهِ الحجب، وسقطت عن عينهِ الغشاوة، وارتفع بهِ الإيمان عن أشياء الأرض إلى أسرار السماء، فلا تجد ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 90، فبراير 1937، ص: 251 - 253

الدنيا منهُ ما يحده أو يطغيهِ أو يلفتهُ، فهو بصيرة تنفذ، وقوة تعمل، وإخلاص يجلو، وجمال يحب. وهذا هو سر الأسلوب الذي انفرد بهِ الرافعي. والرافعي كاتب قد استولى على الأمد في مادة الكتابة، فاللغة عنده مادة للتعبير لا مادة للحفظ والاستعمال، فهو قد قرأها قراءة البصير ليرى الفروق الخفية بين اللفظ ومرادفهِ وليعلم حق اللفظ من العبارة، وحق العبارة من الألفاظ، فيظن بعض من لا قدرة لهُ أن الرافعي يريد الإغراب على الناس في كلامهِ، واستجلاب الغريب من اللغة للتفاصح، وما بهِ ذلك، وإنما هي المعاني. . . المعاني عند الرافعي هي التي لها حق اختيار الألفاظ من لغتهِ. وهو لا يأخذ ألفاظهُ من المعاجم وإنما يأخذها من سليقته التي صقلتها المعاجم. وقد أكثر الناس من نقد الرافعي زمنًا ووضعوا عليه من أوهامهم غشاءً آذاهم ولم ينفعهم، وحجتهم في ذلك هذه اللغة التي أحيا الرافعي مواتها ببيانهِ. وما اللغة؟ أهي الألفاظ قائمة بالمعاني التي وضعتها لها المعاجم ووقفت عندها؟ إن هذه ليست بشيء، وما هي إلا أداة كالسيف. فالسيف على جودته لا يعمل إلا أضعف العمل، فإذا أخذتهُ أنت وجعلت تتدرب بهِ وتمرن ساعدك عليهِ، وعرفت كيف تجيد الضريبة وتصيب المقطع، كان لهُ أقوى العمل، لأن السر في ساعد منتضيهِ وبصره وحيلتهِ لا في حدِّه وعارضَيْه. واللغة لا تقوم بغير فكرة، والرافعي قد استولى على أصولها، بقوة الإدراك وشموله وتراميه، وبالقدرة على الإبانة عنها باللفظ المتصل الماضي الذي لا ينقطع دونها، وبسمو الخيال وتراحبه واستطالته. فالرافعي يدمن على الفكرة الواحدة إدمان الفيلسوف الصابر الثابت بين إدارتها وتطبيقها وبسطها وردها إلى أصول مقررة في الحياة، ثم لا يزال يجمع بينها وبين قرائنها، ويحدد فرق ما بين القرينين ما ظهر من ذلك وما استتر، ثم يصحح النظر في الأصل الذي يردُّ إليهِ أفكاره تصحيح الحكيم المقرر حتى لا يقع بينها التدابر والاختلاط والفساد. ولا يزال على ذلك يقيد ويطلق ويأخذ ويدع بقانون طبيعي في نفسه، فلا يترك الفكرة إلَّا وقد ولدت لهُ صغارًا من الأفكار فيها من الجمال والسحر والقوة الكامنة

ما للطفل الصغير الوديع الجميل، وإذا الفكرة الأولى التي أدمن عليها أمٌّ فيها هيبة الأُمومة العاملة المخلصة وحنانها وروعتها ووقارها. وهناك أسرار الفن في بيان الرافعي فمنها إدراك الجمال السامي غير المبتذل، فهو يدرك الجمال في الجميل لأنه يعرف أسرار جمالهِ، ويدرك الجمال في القبيح لأنهُ يعرف أسرار قبحهِ. فالجمال عندهُ في السر والجوهر وأصل البناء لا في العرض، وكذلك الخير والشر، والفضيلة والرذيلة وما إلى ذلك، هي كلها عند الرافعي موضوع للأسرار فهو لا يقف عليها وقفة المتشبّث بل يهزها من أصولها ليخرج أسرارها، فإذا فعل كتب صفة الشيء الحي بكلام حي فيهِ قوة المقاومة والقدرة على البقاء، وكل الأسباب التي تضمن لهُ الحياة الفنية والبيانية. ثم لا يقف الرافعي عند ذلك بل لكل هذا مكان آخر يصل إليهِ فيصهره ويذيبهُ ثم يرده في صورة فذة، ذلك هو الإحساس القوي المشبوب. فهو يأخذ الفكرة بلغتها وعقلها وسرها من إحساسهِ هو لا من إحساس الناس، حتى إذا آمن بها إيمانًا لا مطعن فيهِ استعان بإيمانه القوي على إنشائها إنشاءً مبتدعًا خاصًّا موسومًا بسمة صاحبهِ، تلك السمة التي تسمى "أسلوب الرافعي". كلُّ ذلك بعض العمل البيانيّ الذي يتدفق من لسان هذا الرجل. وإن لهُ خاصّة عجيبة إذا تكلم في الاجتماع العربيّ الإسلاميّ في هذا العصر ما بين خُلُق وعلم وعمل ودين، هي هذه الروعة المستعلنة المنصبَّة على معانيها كنور الشمس. وسر هذه أنهُ يحسُّ ويفكّر وينقد ويبيّنُ بقوة ثلاثة عشر قرنًا من التاريخ الإسلامي، ويحسُّ بإحساسها، ويدرك أفكارها، ويعرف أسرار فضائلها ورذائلها، وأسباب قوتها وضعفها، وقد أحاط بكثير من أصول القانون الطبيعيّ الذي يجمعُ ويفرّق ويضبط وينشر، ويزيد وينقص في هذه الأمة الرابضة في قلب الشرق. أما الرافعيّ المحب فهو رجلٌ وحدهُ سام عن الإسفاف، مشرق كالنجم، صاف كأنهُ مرآة مجلوَّة، ثم فرحٌ كأنهُ أملٌ يتحقق، باك كأنهُ عضوٌ يُقْطع، متألم كأنهُ محارب باسلٌ ينهزم، ثم لا يزال على ذلك -الرجلَ الجلْد القويَّ الذي

لا ينكسر ولا يتحطم، ولا تتدنَّى بهِ القوة الغالبة، قوّة اللذّة الإنسانية القَرِمة (¬1) المتشهّية. لذلك يخلو حبُّ الرافعيّ من الفجور الفني، وإنما يصف الرافعي المحبُّ فجور الرجل والمرأة ليسمو بالرجل الفاجر ويخرجهُ من سلطان لذتِه، ويصف فجور المرأة ليهديها ويطهرها وينزهها وينصفها من ظلم الرجل الفاجر. ولهُ على ذلك قدرة قَلّ أن ينالها كاتب ممن نعرف. وأما الرافعي ربيبُ الشّعب، فهو الواصف البليغ الذي يستطيع أن يجمع آلام أمة مظلومة في ألفاظٍ تتألم، ويؤلف آلام المساكين في كلمات تبكى، ويحصر سخط المستعبدين من الفقراءِ في حروفٍ تبكى وتتألم وتتسخط وتتشفى وتبغض وتسخر من هذا الاجتماع الذي استعبدهم وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. فهو في هذه "ترجمان القلوب المتحطمة". وأما الرافعي الساخر، فهو الكلمة القصيرة التي تبلغ ما لا تبلغهُ الثورات المسلحة. . . وأما الرافعي فهو الرافعي الذي لا تعرفه حتى تقرأه وتصبر على ملازمتهِ، وتعطيه من نفسك لتأخذ من بيانهِ ومن فنّهِ ومن بلاغته ومن فكره ومن حكمته. فهو كاتب حكيم قوي فلا يجدر بك أن تأخذ كلامه على النظرة الطائرة كما تقرأ مقالة في صحيفة يومية لتستفيد، بل اقرأه لتحس وتنفذ إليهِ وتهتز معهُ ثم تستفيد. اقرأ "وحي القلم" تجد الرجل الذي حدّثناك به، وتجد البيان الغضَّ القوي المتدفق الذي يثير في نفسك التاريخ اللغوى المكتوب في دمك بالوراثة، وفي قلبك بالحب, وفي إحساسك بالأهوال النفسية التي تمر بك. فإن بيان الرافعي إذا تدبرتهُ وتدبرتهُ أيقظ فيك البيان لأنه بيان حر غير مقلد، وأوحي إليك بالفكرة المستحكمة والعبارة المجوّدة لأنه بيان سام غير مقيد، ثم يلهمك القدرة على التفكير، والإبانة لأنه "وحيُ القلم". ¬

_ (¬1) القَرَم: التشهي للذائذ، وأصله في اللحم والنساء.

علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1) هذا بابٌ من أصول اللغة لم يَرْمِ إليه أوائلنا -رضي الله عنهم- إلَّا إشارة مبهمة ولمحة خافية أو نبذًا مهضومًا، فهم لم يجردوا لهُ أنظارهم، ولم يحتفلوا لتقصيهِ وتتبعه واستظهار طرائفه، وهم حين أشاروا أو ألمحوا أو نبذوا، لم يلموا إلَّا بأطرافه وحدوده، فلم يغمضوا في قلبه وسره ومعدنه ليستنبطوا منهُ أسراره المستكنة تحت ألفاظ العربية. ومعاني هذا الباب مما يقتضي القارئ فضل تدبر وصبر وتقليب وتثبت حتى ينفذ إلى حقيقته، ويستولى على ما يتعسر من أصولهِ، فإذا فعل فقد أدرك منهُ طرفًا صالحًا يستعين به على التوسع في معرفة حده وغرضِه ونتائجهِ، ويعيننا في تحقيق ما نرمى إليهِ من تفسير ألفاظ العربية بدلالة الحروف على معان أصلية ثابتة في طبيعة أصحاب السليقة العربية الأولى الذين تلقينا عنهم بيان هذا اللسان العربي المبين. وأنا أريد بقولي "معاني أصوات الحروف"، ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف -لا الحرف نفسهُ- من المعاني النفسية التي يمكن أن تنبض بها موجة اندفاعه من مخرجه من الحلق أو اللهاة أو الحنك أو الشفتين أو الخياشيم، وما يتصل بكل هذه من مقومات نعت الحرف المنطوق. وليست المعاني النفسية -أو العواطف أو الإحساس- هي كل ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف، بل هو يستطيع أن يحتمل أيضا صورًا عقلية معبرة عن الطبيعة وما فيها من المادة، وما يتصل بذلك من أحداثها أو حركاتها أو أصواتها أو أضوائها أو غير ذلك مما لا يمكن استقصاؤه إلَّا بعد طول الممارسة لوحي الطبيعة في فطرة الإنسان، وبعد مدارسة اللغة ومفرداتها على أصل دقيق من هذا الباب، والاحتفال في كل ذلك للتدبر والاستقصاء ومداورة اللسان على مخارج الحروف مع حسن التفطن ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 96، مارس 1940، ص: 320 - 325

للمعاني الأولية التي يمكن اعتمادها أصلًا لمعنى الصوت في حرف حرفٍ من حروف اللسان العربي. وأنا لا أدعي لنفسي درَك هذا الذي قدَّرت من "علم معاني أصوات الحروف"، ولا أنى وصلت بالفكر فيه إلى حيث أُريد، ولا أنى قد حشدت لهُ جهدي كلهُ حتى أصل إلى استقصاء المعاني التي تضمرها أصوات الحروف. كلَّا بل هذا جهد كنت بذلته قديمًا والنفس ساكنة قارَّة هادئة، إذ كانت مَخِيلةً لطول النظر وحسن الإصغاء لهواجس العاطفة وألحان الطبيعة، وقد حاولت أن أقيد كل خاطرة بقيد لا تتفلت من جوامعه، ولكن الأيام انتزعتني ورمت بي إلى حومة تتسعر وتضطرب وتطغى بضجيجها على فترة النفس واجتماعها على الهَدْأَة والهوينا والسُّكون، فكذلك ذهب أكثر ما تلقفته من المعاني نهبًا ضائعًا بين النسيان والغفلة وقلة المبالاة وطول الإهمال. فلما رغب إليّ أخي الأستاذ "فؤاد صروف" أن أعود إلى الذي تركت من ذلك، أقبلت على فكر قديم لم تبق عندي غير أطلالهِ وظلالهِ، فأتممت منهُ ما نقص على قدر ما بلغ بي الشوق إلى إنقاذ هذه الخواطر من الضياع والبوار. فأنا أكتب هذا الباب الآن ليكون قيدًا لمعانيهِ يحبسها حتى تبقى في مواطنها لا تضيع ولا تشرد، ورجاء أن يقع عليهِ من يحسن أن يتصرف فيهِ بقوة ونشاط وتجويد، أو من هو أمثل مني بمدارسة اللغة والوقوف على أسرارها، والتهدى إلى مسالكها وغوامضها، والاستنباط لينبوع هذا العلم بالبصيرة النافذة التي لا تخطئ مظنة الفائدة، ولا تضل عن جوهر المعاني المطموسة في ظواهر الحروف. وينبغي لنا أن نقدم بين يدي الكلام فصولًا من القول تكون بها الفائدة، ويسهل معها تقريب هذا الباب إلى من يحتمله، ونحن نقصد فيهِ إلى السهولة والوضوح، فإن ممن يقرأه، ويرجى لهُ أن يصل إلى حقائقهِ، من لا يستطيع أن يقف على الأصول التي يرتد إليها نسب هذا الكلام، من كتب القراءات وكتب اللغة، وأصول كتب النحو والبلاغة وغيرها مما يتصل بسبب إلى أصل العربية والكشف عن مدارجها.

فينبغي إذن أن نفرق أولًا بين الصوت والحرف. فالصوت نَفَسٌ مقذوفٌ من الجوف إلى الحلق إلى الفَم يخرج مدفوعًا مستطيلًا متصلًا حتى يعرض له في طريق استطالته أو اندفاعه ما يثنيِه أو يقفُه أو يردده أو ينكسهُ، وإنما يعرضُ له ذلك في الحلق أو الفم أو الشفتين أو الثنايا والأضراس مع اللسان، أو في الخيشوم أو في أعلى الحنَك، على اختلاف في مواقع النَّفس من كلّ هذه الأعضاء. فحيث يعرضُ للنَّفَس المقذوف من الجوف ما يقفهُ أو يقطعهُ عن الامتداد والاستطالة والاندفاع، فيسمَّى هذا المكان "مقطعًا" وإذن فلكل مقطع يقطع النفَس عن استطالته جَرْسٌ يتميز من جرَّاء اختلاف نوع الصوت حيث ينقطع. فانثناء النَّفَس على المقطع أو وقوفه أو تردُّدهُ أو ارتداده أو انتكاسه يحدث من الجرس ما نسميه "الحرف". ولسنا نستطيع أن نعرف مقاطع الحروف وما تحمله من الجرس على براءَته إلَّا أن تأتي بالحرف ساكنًا لا متحركًا وذلك لأن الحركة نفسها حرف من الحروف، فإن الفتحة "ألف" مختلسة، والضمة "واو" مختلسة والكسرة "ياء" مختلسة (¬1)، وكأنها حرف ساكن يمد حرفًا متحركا ولا يبرأ مقطع الصوت "أي الحرف" من شائبة الاختلاط بمقطع صوت غيره إلَّا حين يكون ساكنًا لا تحفزه الحركة عن مستقرّ انقطاعه، ولا تميل بهِ إلى الحرف الذي هي بعضهُ وجزءٌ منهُ مع اختلاس الصوت وسرقتهِ وكبحه عن الوصول إلى مستقرّ انقطاعه هو أيضًا. فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الحرف الساكن لا يوصَل إلى النطق بهِ مفردًا مجردًا من حركة تلحقهُ أو حركة تحفزه، لم تجد بدًّا من أن تستبدل الحركة التي تعين على النطق بوسيلة أخرى تؤدى إلى تمكينك من قطع الصوت حيث لا يختلط بمقطع حرف غيره من الحركات الثلاث. وليس يوصَل إلى تحقيق ذلك الصدى ¬

_ (¬1) كان المتقدمون من أصحاب النحو قبل أن تقرر مصطلحاته، يسمون الفتحة "الألف الصغيرة" والكسرة "الياء الصغيرة"، والضمة "الواو الصغيرة"، وذلك لأنك إذا أشبعت الفتحة في قولك مثلًا "سعد" وكسرت العين لاجتناب التقاء الساكنين صارت "ساعد"، وكذلك باقى الحروف. فهذا أسلوب جيد من النظر في حقيقة الحركات. (شاكر).

الصوتي للحرف مع تجريده إلَّا أن تدخل على تَأَهُّبِك لدفع الصوت همزة مكسورة قبله، فتقول مثلا في الشين والقاف والجيم والفاء والزاى، "إشْ"، "إقْ" "إجْ" "إفْ" "إزْ" إلى آخر الحروف. وإدخال الهمزة هو التحقيق والصواب وذلك لأن صوتها يبدأ من الجوف ثمَّ يعتمد على أسفل الحلق وأقصاه ثمَّ يحفز ما يشاءُ بعد ذلك من الأصوات، وكذلك لا يختلط بأيّ الأصوات التي تريدها وتحتال لها لأنهُ أول أصوات الحروف. ثم الهمزة المكسورة أحق بالإثبات هنا من المفتوحة والمضمومة. والعلة في ذلك أن "الفتحة" إن هي إلَّا ألف مختلسة تجد عندها الصوت بريئًا من الضغط والحصر لانفتاح الفم والحلق، "والضمة" واو مختلسة يضم معها معظم الشفتين على شدة الضغط والحصر، وكلا هذين إذا مارسته ودارسته -وجدته يدخل المؤونة عليك في اعتبار صدى الحروف عند منقطع الصوت. أما "الكسرة" وهي الياءُ المختلسة المسروقة من أصلها فإنما يقع ما فيها من الضغط والحصر على مجرى الأصوات كلها، وذلك أنك ترى الأضراس تكاد تنطبق على جنبتى اللسان فتحصره بينها ويجرى الصوت معها ممتدًّا مستطيلًا في الفم كله على يسر، فكذلك يسهل أن ترمى بها أول الحرف لتحفزه إلى أي مقاطع الصوت شئت، فهي إذن لذلك أولى أن تكون حافزَ النّفَس لأحداث الصدى الذي يتميز بهِ كل حرف من حروف النطق. فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن مقاطع الصوت متنازعة بين الحلق إلى الشفتين والخيشوم على تدرج واطراد في منقطع الصوت ومكان اصطدامه أو انفلاته أو تفشّيه، رأيت أن ثمة ترتيبًا لابدَّ منهُ للأصوات على مقتضى تدرُّج انقطاعها في أي مكان من آلة النطق التي هي اللسان وما يحيط بهِ. ونحن نجتهد أن نأخذ ذلك عن التجربة التي نحدثها بأنفسنا، وما وصل إلينا من تحرير المتقدمين من أصحاب العربية لبيان مقاطع الحروف وصور منطقها. فالحروف أو الأصوات حيث تنطق تتميز على هذا الترتيب في اطرادها: الهمزة (1)، الألف (2)، الهاء (3)، العين (4)، الحاء (5)، الغين (6)، الخاء (7)، القاف (8) الكاف (9)، الجيم (10)، الشين (11)، الياءُ (12)

الضاد (13)، اللام (14)، النون (15)، والراء (16)، الطاء (17)، الدال (18)، التاء (19)، الصاد (20)، السين (21)، الزاى (22)، الظاء (23)، الذال (24)، الثاء (25)، والفاء (26)، الباء (27)، الميم (28)، الواو (29). فهذه هي حروف العربية التسعة والعشرون على التصاعد من الحلق إلى منقطع الشفتين غير ناظرين إلى ما يدخل بعضها من المد والإخفاء والتفخيم والإمالة وغير ذلك من الأعراض التي تلحق الصوت من قِبَل انقطاعه واصطدامه. واعلم أنك إذا أردتَ أن تسير في ذلك على طريقة مستقيمة فلابد لك من أن تأتي بهذه الحروف ساكنة قبلها همزةٌ مكسورةٌ للعلة التي ذكرناها آنفًا، ثم كرّر ذلك، وتصور صوت الحرف وردده وتمثل قوته أو ضعفه أو لينه أو استرخاءَه أو تفشيه أو انحرافه أو استطالته، حتى يتأَتَّى لك أن تعرف بالمدارسة موقع انقطاع صوتهُ الذي يحدث عنهُ الصَّدَى المتردد الذي يتميز بهِ الحرف مما يلابسهُ أو يدانيه أو يقع على بعض موقعه. وقد تقصَّى شيوخنا من أئمة اللغة مخارج الحروف، ولابدَّ لنا هنا من ذكر هذه المخارج لحاجتنا إليها فيما نستقبل من كلامنا عن معاني أصوات هذه الحروف، وسنثبتها على الترتيب الذي رأيت قبل للحروف العربية نفسها. "المخرج الأول" من أسفل الحلق وأقصاه مع إطلاق الهواء، وفيه: الهمزة (1)، والألف (2)، والهاء (3). "المخرج الثاني" من وسط الحلق مع إطلاق الهواء وفيه: العين (4)، والحاء (5). "المخرج الثالث" من أدنى الحلق إلى أن يرتطم الهواء المقذوف بأول الحنك الأعلى وفيه: الغين (6)، والخاء (7). "المخرج الرابع" من طرف اللهاة وأقصى اللسان مما يلي الحلق مرتطمًا بالحنك الأعلى بعد ذلك وفيه: القاف (8). "المخرج الخامس" من طرف اللهاة وأقصى اللسان مرتطمًا بمقدم الفم من الحنك الأعلى وفيه: الكاف (9).

"المخرج السادس" من وسط اللسان مع تفشى الهواء وضغطه إلى وسط الحنك الأعلى وفيه: الجيم (10) والشين (11)، والياء (12). "المخرج السابع" من أول حافة اللسان من الجانب الأيسر وحصر الهواء إلى الأضراس التي تلى هذا الجانب وفيه: الضاد (13). "المخرج الثامن" من أدنى حافة اللسان إلى منتهى طرفه ودفع الهواء عن جانبيه محصورًا في الحنك الأعلى مما فوق الضاحك والناب والرباعية والثنية وفيه: اللام (14). "المخرج التاسع" من طرف اللسان بينه وبين فويق الثنايا العليا وانبعاث الهواء إلى الخياشيم وفيه: النون (15). "المخرج العاشر" من طرف اللسان بينه وبين فويق الثنايا العليا مع تحرف اللسان وإطلاق الهواء وحصره وترديده في تجويف اللسان وفيه: الراء (16). "المخرج الحادى عشر" من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا مع ارتطام الهواء بالغار الأعلى من الحنك محصورًا مع الإلانة وفيه: الطاء (17)، والدال (18)، والتاء (19). "المخرج الثاني عشر" من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا مع تحرف اللسان وإطلاق الهواء وحصره وترديده والتصفير به في تجويف اللسان إلى الثنايا السفلى وفيه: الصاد (20)، والسين (21)، والزاى (22). "المخرج الثالث عشر" من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا مع إطلاق الهواء في فروج الأسنان إلى اللثة ونبذ أسلة اللسان إلى خارج الثنايا وفيه: الظاء (23)، والذال (24)، والثاء (25). "المخرج الرابع عشر" من باطن الشفة السفلى مع قذف الهواء إلى الشفة العليا من بين الثنايا العليا وفيه: الفاء (26). "المخرج الخامس عشر" من الشفتين بعد قذف الهواء من الجوف وانطباق الشفتين عليه قبل ندوره وخروجه، أو خروجه مع استدارة الشفتين وانطباق أكثرهما وفيه: الباء (27)، والميم (28)، والواو (29).

فهذه خمسة عشر مخرجًا لحروف العربية على الترتيب والتوالى والاطراد قد وصفناها، ولم نلم بكل الفروق بين الأحرف المشتركة المخارج، وهناك مخرجان آخران لا بأس من ذكرهما هنا، وإن كان الرأي عندنا فيهما غير ما ذهب إليه كثير من أئمة العربية، وبهما تتم المخارج سبعة عشر مخرجًا. "المخرج السادس عشر" وهو ملحق بالمخرج الأول والمخرج السادس والمخرج الخامس عشر، هو من الجوف إلى أقصى الحلق حيث ينقطع المخرج حتى يتصل بالهواء خارج الفم وفيه: الألف، والواو الساكنة المضموم ما قبلها، والياء الساكنة المكسور ما قبلها. وأنا لا أجعله مخرجًا لعلل كثيرة ليس هذا مكان بيانها. "المخرج السابع عشر" وهو ملحق بالمخرج التاسع والخامس عشر حيث يستدير الهواء المنبعث في الخياشيم يتردد في دورته فيها وفيه: "النون والميم الخفيتين الساكنتين في الإخفاء والإدغام بالغنة. فهذان المخرجان، كما ترى، هما أعراضٌ قد لحقت أصوات الحروف، ولم تنشأ منهما حروفٌ منصوبةٌ على اللسان كسائر حروف المعجم التي اعتمدناها في لساننا العربي. ولو أقمنا نعت المخارج على الأعراض التي تلحق أصوات الحروف لكثر عندنا ما يمكن أن يعدَّ من المخارج. ألا ترى أن الحروف التي زعمناها من مخرج واحد إنما كانت كذلك لتقاربها مع تمام اختلافها، وإلا لما جاز في العقل أن يشترك في المخرج الواحد أكثر من حرف واحد ألبتَّة. وسيكون لهذه الأعراض التي تلحق أصوات الحروف بيانٌ تقتضيه فيما يأتي بعد من كلامنا. ولابد هنا أيضًا من حصر هذا التقسيم الذي مضى في دائرة أضيق من هذه، فهم يسمون حروف المخارج الثلاثة الأولى "الحروف (1) الحلقية" وهي سبعة أحرف. والرابع والخامس "للحروف (2) اللَّهَوِية" نسبة إلى اللهاة، وهي الهناة المعلقة بين الحلق والفم، وهما حرفان.

والسادس "للحروف (3) الشجرية" نسبة إلى الشجَر وهو مفرجُ الفم لانفتاحه وهي ثلاثة أحرف. والسابع، وهو مخرج (4) الضاد لم يسمَّ لنا، وبعضهم يعدها من الحروف الشجرية، وهو ليس بشيء. والثامن والتاسع والعاشر "للحروف (5) الذلَقية" نسبة إلى الذلق وهو طرف اللسان وعليهِ اعتمادها، وهي ثلاثة أحرف. والحادى عشر "للحروف (6) النِطْعية" نسبة إلى نطع الغار الأعلى وهو سقف الحَنَك وهي ثلاثة أحرف. الثاني عشر "للحروف (7) الأسلية" نسبة إلى أسلة اللسان وهي مُستَدَقُّه حيث تصفرُ عليهِ الحروف، وتسمى أيضًا حروف الصفير"، لذلك، وهي ثلاثة أحرف. والثالث عشر "للحروف (8) اللَّثوية" نسبهّ إلى اللثة حيث يكون تقطع الحرف وهي ثلاثة أحرف. والرابع عشر والخامس عشر "للحروف (9) الشفوية" لأنها تخرج من الشفتين وهناك يكون مقطع الصوت، وهي أربعة أحرف. وتنقسم هذه الحروف بالنظر إلى مقطع الصوت والنفس إلى أقسام كثيرة: فمن ذلك قسمتها إلى "مجهورة" "ومهموسة"، فالمجهورة هي التي أشبعت الاعتماد في مواضعها، ومُنع النفسُ أن يجرى حتى ينقضى الاعتماد ويجرى الصوت، والمهموسة ما ضعف الاعتماد في مواضعها حتى جرى معهُ النفس، وهي عشرة أحرف: الهاء (1) والحاء (2) والخاء (3) والكاف (4)، والشين (5) والصاد (6) والتاء (7) والسين (8)، والثاء (9)، والفاء (10)، وسائر حروف المعجم بعد ذلك مجهورة كالذي وصفناها. وقسمة أخرى إلى الشدة والرخاوة وما بينهما، فالشدة أن يمنع الحرف الصوت أن يجري فيهِ فلا تستطيع أن تمده معهُ، والحروف الشديدة ثمانية وهي: "الهمزة (1)، والقاف (2)، والكاف (3)، والجيم (4)، والطاء (5)، والدال (6)،

والتاء (7)، والباء (8). فإذا أردت أن تمد صوتكَ مع القاف من قولك "الحقّ" لم تستطع ذلك. والرخاوةُ أن يجرى الصوتُ الحرفَ كما ترى في قولك "القَسُّ" فالصوت يجرى مع السين كما تشاءُ، وبين هذين [بين الرخوة والشديدة] حروف ثمانية وهي: الألفُ، والعينُ، والياءُ، واللامُ، والنونُ، والراءُ، والميمُ، والواو. فهذه يجرى الصوت معها على تعسف أو مسامحة قليلة، وسائر حروف العربية -بعد ما سميناه من الحروف- هو رخوٌ. وقسمة أخرى إلى الإطباق والانفتاح، فالحروف المطبقة هي التي ترفعُ معها ظهر لسانك إلى خيار الحنك الأعلى مُطبقًا بهِ على الهواء، وهي أربعة أحرف، الضادُ، والطاء، والصاد، والظاءُ، وسائر الحروف منفتحٌ ولولا هذا الإطباق لخرجت الضادُ من العربية، ولانقلبت الطاءُ دالًا، والصادُ سينًا، والظاءُ ذالًا. وقسمةٌ إلى الاستعلاء والانخفاض. والاستعلاء أن يَعلُوَ الصوت فيرتطم بالحنك الأعلى، فالحروف المُستعلية سبعة: الخاءُ، والغينُ، والقافُ، والضادُ، والصادُ، والطاءُ، والظاءُ، وسائر الحروف منخفضة: وأنت ترى أن مع الاستعلاء الحروف الأربعة المطبقة التي عددناها قبل. أما القسمة الأخيرة للحروف فهي استنفاذُ الصاد والسين والزاى وجعلها حروفًا للصَّفير كما ذكرنا ذلك قبلا، وباقى الحروف العربية لا تصفرُ. فهذا نهاية ما يجب أن نقدمه بين يدي الكلام عن "معاني أصوات الحروف"، ونحن نرجو أن نكون قد بلغنا بعض الغاية في تقريب صوت الحروف لمن يريد أن يحقق معنا. حين نشرع في الكلمة الآتية في دراسة معاني الأصوات المقترنة بالحروف أو التي تجرى معها في النَّفَس أو المقاطع.

علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2) فرغنا في الكلمة السالفة من تقرير مخارج الحروف العربية ومدارجها وصفة مواقعها من الحلق واللسان وغار الحنك الأعلى والثنايا والأضراس واللثة والخياشيم وسائر الفم وما يحيط به، وأبنَّا عن مبلغ تباعدها وتقاربها وما يأتلف منها في المخارج وما لا يأتلف، ورتبناها على مجرى ذلك بالتحرى والضبط والإتقان، ثمَّ قسمناها لك على وجوه الاشتراك في صدى الصوت وما يلحقها من الإطباق والانفتاح، والاستعلاء والانخفاض، وما يلابسها من الرخاوة والشدة، وجعلنا ذلك كله مقدمة للقول في "علم معاني أصوات الحروف"، ونحن "إن شاء الله" نذكر لك بعض ما عرض لنا من الرأي في هذا العلم. ونحن نريد أن نأخذ معاني هذه الأصوات التي تدل على حروف العربية من جهة طبيعة الإنسان حين يريد العبارة عن شيء في نفسهِ أحسَّ بهِ أو عزم عليه، محاكيًا أو مقلدًا أو منبهًا أو مصوِّرًا أو مقرّبًا للمعنى الذي يريده بالجرس الصوتى المفرَد الذي يتبادر إليهِ فيحاوله ويعالجُه ويتهجم عليه. ويحسن أن نبدأ أول ذلك على ترتيب القسمة التي عرضناها في الكلمة السالفة متتبعين مدارج الأصوات من أقصى الحلق، مؤلفين بين الأصوات المشتركة الصدى، المتقاربة المقاطع والمخارج. وأول ذلك ما يسمونه "الحروف الحلقية"، وهي حروف المخارج الثلاثة الأولى، وهي سبعة على الترتيب: - الهمزة "1" والألف "2"، والهاء "3" -والعين "4"، والحاء "5"- والغين "6"، والخاء "7". ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 96، إبريل 1940، ص: 405 - 412

فأنت إذا أردت أن تعرف معاني هذه الحروف فارجع إلى الفقرة الأولى من العبارة، وما تحملك عليهِ إرادة التعبير من التفريج عن نفسك بالمنطق أو التصويت الذي هو قوةٌ كامنةٌ في الإنسان لابدَّ لها من العمل والمطاوعة حين تجد الحافز الذي يدفعها إلى تقرير طريقها في العمل لا يُلائمها تغيير عنيف في النظم، فهنالك فارق في العادات والأخلاق والمدنية والتعليم والدين. وأول ذلك أن تنظر إلى الحاجة التي تدفع إلى التعبير، ولعل من أوائل الحاجات التي يُدفع الإنسانُ للتعبير عنها النداءُ والتعجُّب والتأوُّه والأنينُ والإشارةُ والتنبيهُ، وغير ذلك مما تدعو إليهِ معاناة الحياة الفطرية الأولى التي بدأ الإنسان بها عمله على الأرض. فإذا استوعبت أمثال هذه الضرورات وجعلت تأخذُ نفسك بتدبرها في فطرة الإنسان رأيت أن النداءَ مثلًا يعتمد على أصوات الحلق المقذوفة من الجوف مطلقة في الهواء لتبلغ بالصوت أقصى ما يطيقه تدافعُ الهواء الذي يجعله. وكذلك الإشارة والتنبيه يتطلبان من المشير والمنبه إرسال الصوت خارجًا من الحلق إلى حيث يلاقى الهواء المقابل لفم الإنسان. ثم إذا أنت أردت كل حرفٍ بما يتجلى من صداه المقرون به -على المعاني الأولى- استطعت أن تقرّر لصدى الحروف معاني من النفس أو من المحاكاة أو من التمثيل للحركة أو الصوت المسموع أو غير ذلك. ونحن إنما نتكلم عن العربية، لأنها في اعتقادنا -بعد الذي مارسناه من معانيها- أدقُّ اللغات احتفاظًا بالمعاني الفطرية للحروف، بل هي أكثر اللغات احتفاظًا بحركة الإنسان الأوَّل في الإشارة إلى المعاني، وذلك حين يريد أن يقرن الصوت بحركة دالّة على معنى من الإشارة يُفهم بهِ المتكلمُ المخاطبَ ما يريد أن ينبههُ إليه أو أن يحمله على فهمه. فنحن نختصر لك طريق الكلام عن الحروف المجردة وحدها بإدماج ذلك في تركيب الحروف بعضها مع بعض، غير مخلّين بالبيان عن المعاني التي يتحملها الحرف الواحد من حروف هذا اللسان. ولا يهولنَّك ما سنقدم عليه، ولا يذهبنَّ بك أنا لا نستطيع أن نجرىَ اللغة كلها على هذا الأصل، كلا، بل نحنُ نستطيعُ ذلك، ونستطيع أن نحاول معرفة

الأطوار الاجتماعية والعقلية والخلقية واللسانية والمدنية التي مرَّت بالشعب العربي. وهو شعبٌ كما تَعْلم لا يزال محصورًا بين الحدود التي ضربتها عليه الصحراءُ، ولا يزال حيًا على نَمَطٍ من العيش لم يدخله كثير من التبديل، وإن كان قد اختلف بما اندفق إليه من نتاج الحضارات الأخرى التي اختلطت ببعض أمواجه ثمَّ ارتدَّت إليه. فخذ معني الآن: -الهَمزة والهاء والألفَ. وهي الحروف الحلقية المطلقة التي تُصَوّت حيث تلاقى الهواء ولا يقف في سبيلها، وما ترتطِمُ بهِ من الثنايا أو الأضراس أو الشفة، ولا يعمل معها اللسانُ عملًا في تكوين صداها أو جرسها. واعلم أننا لن نفرق كثيرًا في هذا الذي أردناه بين الهمزة والألف، وأننا سوف نجعل عملهما في العبارة واحدًا، هذا على أن الألف في أصل معناها تخالفُ الهمزةَ من وجوه كثيرة. وليس هذا موضع بيان الفروق بينهما، وأحق بذلك ما نريده إن شاء الله من الكلام عن الواو والياء والألف. فهل تنكر أن الرجل إذا خاف أو فزع أو رغب أن ينادى أو أن يشير -وهو ناقص الآلة اللغوية- فأول ما يبدأ بهِ أن يقذف الصوت مغسولًا من الحلق بأقصى ما يستطيع، كلا. وإذن فالهمزة الممدودة هي الصَّدى الصوتى الذي يراد بهِ التنبيه والإشارة والنداءُ. وكذلك هو في العربية. فالهمزة في العربية لا تزال تحتفظ بجميع هذه المعاني وما يتشعب منها تقول: "أمحمد" تريد "يا محمد" وإنما تفشى الحرف "يا" في النداء بعد، لأنهُ تسهيلٌ لمجرى الهمزة وتليين لها، ثمَّ انقلب بعدُ حرفًا من الحروف "الشجرية" التي في مفرج الفم كالجيم والشين لأسباب أتت بعد خروج اللغة من الطور الأول، وإلا فإن الأصل الذي لا أشك فيهِ أن الياء أقرب إلى الحروف الحلقية منها إلى الحروف الشجرية، فانطق "آء"، "وياء" تجد صدق ذلك (¬1). ثمَّ انظر، فالهمزة حرف للاستفهام كقولك: أأنت؟ ، وهي حرف للتعجب ¬

_ (¬1) أما العلة في أن الياء صارت بعد حرفًا من الحروف الشجرية، فسنعرض له كتابنا عن سر العربية إن شاء الله. (شاكر). أقول: انظر ص 725، هامش: 1.

من طريق الاستفهام. وقد احتفظت بها العربية في وجوه كثيرة أخرى كالتفضيل والتعجب (¬1) كقولك ما أحسنهُ! ، وهو أكرم من فلان، فإثبات الهمزة والإتيان بها في هذه الأبواب مأخوذ من الأصل الذي أقيم عليهِ معنى الحرف من فطرة الإنسان: فكأنهم أرادوا -بالبدء بها- إظهار المعنى الذي يتحمله صدى الصوت من الاستفهام والتعجب، والتفضيل فرعٌ من تعجبك من الشيء واستكبارك له. وكذلك احتفظت العربية بهذا الحرف في أكثر حروف الاستفهام كقولهم "أين" "أنّى" وما يدانيها كقولهم "أم" كذلك فيما يقارب ذلك من المعاني كما في قولهم "أو". ويشترك مع الهمزة حرفٌ آخر هو قريب منها، وهو "الهاء"، ففي لغات بعض العرب يقولون في الاستفهام في "أزيد؟ " "هزيد؟ ". وكذلك وقعت هي في "هَلْ؟ " و"هلّا! " وإن كان أكثر موردها على التنبيه والدلالة والإشارة، كما وقعت "في هذا" و"هؤلاء" و"هي"، و"هو" وهذان الحرفان الأخيران، وإن عدَّهما النّحاة من الضمائر وأجروا عليهما أحكامًا، إلَّا أنهما في أصلٍ معناهما للإشارة بغير شك. ولمثل ذلك قال المفسرون في قوله تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. . . . "الضميرُ في منهُ" جارٍ مجرى اسم الإِشارة كأنهُ قيل "عن شيء من ذلك" (¬2). وكذلك جرت العربُ على سُنّة إبدال الهمزة هاء والهاء همزة لتقاربهما في الدلالة كما يقولون في "أراق، وهراق" و"لأنك، ولَهنَّك" وغير ذلك مما لا نريد استقصاءَهُ الآن. ¬

_ (¬1) ومن باب ذلك الهمزة في أوائل أوزان جموع التكسير أيضًا في مذهبنا. (شاكر). (¬2) اعلم أننا لا نريد بذكر هذا المثال إلا أن نضرب المثل بأن "الهاء" هي الفطرة للإشارة، ثم استقرت الضمائر بعد ذلك وجرى حكمها في النحو العربي مجرى غير الذي جرى عليه حكم الإشارة، ونحن لا نخلط هنا بين ما هو النحو الآن، وما نتوهمه من المعاني للصدى الصوتى المقارن للحرف. (شاكر)

وأنت إذا أخذت الضمائر أول ما تأخذ وجدتَ الإشارة فيها ظاهرة، فما قولهم "أنا" إلَّا إبانةٌ عن الصوت "أَن" (¬1) المدغم في الخياشيم مقترنًا بإشارة المتكلم إلى نفسه بيده، ثم تركوا الإشارة وعمدوا لفتح النون -أقاموا ذلك مقام الإشارة، فلما أراد أن يعبر عن المخاطب قرن "أن" بحركة يده في صدر مخاطبه. ثم استغنوا عن ذلك بتمثيل صوت اليد وهو يقرع الصَّدرَ في رفق بأخف الحروف النطعية التي يرتطم فيها الصوت بالحنك الأعلى محصورًا باللسان فقال: "أنت" (¬2). فإذا قرَّ في نفسك هذا المذهب فأدرْ عليهِ سائر حروف الحَلْق مما لم نذْكره، وتبين فروق مواقعها وتدبر ذلك كل التدبُّر، تجد المذهب حسنًا سهلًا طيعًا لا يتخالف عليك إلَّا قليلًا. ونحنُ نأخذُ الآن في بيان بعض ذلك من جمهور بعض الكلام العربيّ المؤلَف من ثلاثة حروفٍ أحدُها مُضعَّف، ليكون ذلك المذهب أقرب إليك. فإن لكلّ حرفٍ معنى، فإذا نحنُ أخذنا في الثلاثيّ غير المضعف اقتضانا ذلك أن نعرضَ لمعنى حروف ثلاثة، والمؤونة علينا في تقريب ذلك إليك، والكلفة عليك في تعاطى ما نناولك -هي في ذوات الثلاث أشد منها في ذوات الحرفين. وهذه الحروف الحلقية لم تجتمع في العربية على التضعيف إلا قليلًا لقرب مخارجها كما تعلم فقالوا "أحّ" و"أه" و"أخّ" ولم يقولوا "أع" ولا "أغ"، ولا "أأ" لأن هذه ثقيلة لا تأتلفُ. وهذه الثلاثة إنما تدل على إشارة وبيان فالصوت فيها يتحمل معنى التنبيه. ألا ترى أن قائل "أح" و"أخ" إنما يريد التألم والتوجع وإبداء ذلك والدلالة عليه، ولكنهُ مع الحاء يريد التنفيس عن نفسه لما يعانى من شدة الألم والوجع. وكما يكون من صوت المغيظ المحنق والمغموم ¬

_ (¬1) اجعل نطق هذه الكلمة صوتًا مبهمًا في الخياشيم غير مبين قى نطق "النون" ويكون الفم مغلقًا مطبقًا، واللسان ساكنًا لاصقًا أسلته بالثنايا العليا من الداخل. (شاكر) (¬2) اقرع صدرك بيدك، ومثل صوت التاء بلسانك مع التخفيف تجد الصوت مقاربًا. والدلالة بينة، وهذا أحد معاني التاء. (شاكر)

المفكر فقالوا "الأحيحُ: الغيظُ والضِّغْنُ" وإنما هو في الحقيقة صوتُ الممتلئ غيظًا حين يتفرج بهذا الصوت الذي يصدره من جوفه. ثم انظر. . .، فإنهم لما أرادوا هذا المعنى نفسه من التأوه والغيظِ والغمُّ اتخذوا "أخّ" والخاء حرف حلقى جافّ غليظٌ يكون معهُ الاستعلاء والترفع والاستبشاع والاشمئزاز، فقول أصحاب اللغة "أخّ": كلمة توجع وتأؤه وغيظ - قول ناقص لا يفضى إلى المعنى الحقيقي، وهو أن المتوجع يبين عن اشمئزازه وشموخه وتقذُّره، ولذلك ما ورد في اللغة أن "الأخ": القذَر، يقول الراجز يذكر سنه وعجزه وضعفه: وانثنت الرجْلُ فصارت فخا ... وصار وَصل الغانيات أخَّا أي قذرًا لا يقربهُن، أو لا يَقْرَبنه. وكذلك ترى أنهم لما راموا التعبير في الأول أقاموا له "الحاء" للبُحَّة التي فيها، وهي لينٌ ونعومة، وهي قابلة للدوران مع الهمزة في التكرار، لأن الذي ينطقها يريد معها أن يكررها ويتلوَّى معها، ويعكس لها أضلاعه لما يقاسيه من الألم أو الغيظ، والخاء لجفوته وانقطاعه في غار الحنك واستعلائه لا يطيع على مثل ذلك، بل أكثر عبارته المقترنة بهِ هي في الوجه والشفتين، والألف ترفع من بعضها وتخفض من بعض. ولكنهم لما أرادوا العبارة عن التوجع مع اللين والضَّعْف والفَتْرة التي تلحق المتأسف المكسور النفس بغير إضمار للحقد والغيظ كما في "أحَّ، وأخَّ" قالوا "أَهْ" و"أَهَّ" و"آهٌ". وهذا إشارة إلى تعب النفس. واجتماع هذين الحرفين السائلين المطلقين المغسولين الضعيفين هو تمثيل لحركة التوجّع من إرسال النفس بريئًا مع انهزام خصر المتوجع وانثناء صدره واستسلامه للضعف واسترخاء أعضائه وتكسر أجفانه على عينيه. وقالوا أيضًا من ذلك ما يكون في الجيش من الأصوات للنداء والإيقاظ والتنبيه والتوجع والإشارة وتداخل الأصوات بعضها في بعض وزجر الإبل وما إلى ذلك "آءَ"، يقول الشاعر:

إن تَلْق عمرًا فقد لاقيتَ مُدَّرعًا ... وليسَ من همهِ إبْلٌ ولا شاءُ في جَحفَل لَجِبٍ صَواهلُهُ (¬1) ... بالليل تُسمَعُ في حافاتهِ: آءٌ وقد أفرد أصحاب اللغة هذه المعاني التي ذكرناها، فقالوا: "آء" حكاية لصوت زجر الإبل، وليس كذلك، وهذا البيت يدل على خلافه كالذي قدمنا في بيان معناه: فأنت ترى أن هذا الحرف "الهمزة" يحمل معهُ أين كان معنى الصوت المغسول الأوَّل، وهو الإشارة والتنبيه وما إلى ذلك من استفهام وتعجب وما يتفرع منها. وأما العين والحاء والغين والخاء. فهذه الحروف الأربعة الحلقية لا تصلح للاستفهام والتعجب وما إليهِ لأنها في الحقيقة أحرفٌ غير خالصة بين الحلْق والهواء الذي يلاقيها خارج الفم ولما في جميعها -إلَّا الحاء- من التكلف والضغطِ والتعسُّر في المخرج وارتطامها قبل الهواء ببعض أجزاء الفم عند مقطعها المبين عن صداها. انطق: "إعْ، إغْ، إخْ". والحاء، وإن كانت أسهل وأخفَّ وأسلم، فهي مع ذلك مقرونةٌ بحشرجةٍ طفيفةٍ رقيقة غير مُثْقلة مع كفِّ النَّفَس المقذوف عن الانطلاق إلى نهاية تصادُمه بالهواء خارج الفم، وإنما تصلح للدلالة على نوع الصوت المراد تمثيله، أو تصوير الصوت مقرونًا بالحركة التي تكون معهُ أو تلحقهُ من جرَّاءِ ألم يدعو إلى هذه الحركة، كما قالوا مَثَلًا في الرجل إذا ذَرَعهُ القئُ -فمدَّ ذراعيه على الأرض وأقبَلَها وَجْهه ونَغَضَ إليها رأسه وتمايل على الأرض ليقئَ: "هَاعَ"، فهذه بلا شكّ حكايةُ صوت القئ أوَّلَ ما يكون بالهاء، ثم ما يكون من تضرب الطعام المائع في الحلق كصوت العينِ، ثم انطباق الحنجرةِ وتصويتها في هذا الانطباق بصدّى كصدى العين. هذا ونحن لا نستطيع أن نستوفي لك في هذه الكلمة كل الذي نريده من المعاني، فهو كما ترى بابٌ واسع متداخل يفضى قولٌ منهُ إلى قول، وهو مما ¬

_ (¬1) قف عند قوله "صواهله" ثم انزع إلى الابتداء بعد سكتة فاقرأ "بالليل. . . .". هذا صواب إنشاد الشعر ونرجو أن نوفق قريبًا إلى كتابة كلمة للمقتطف للبيان عن طريقة قراءة الشعر. (شاكر)

لا يمكن حصره في مثل هذه الكلماتِ، فإنَّ لكُلّ جمهور من حروف العربية مجرى ودربًا تتفرع منه شعبه، ولا يمكن استيعاب ذلك إلا بالإطالة والدُّربة والتمثيل، وذلك مما يقتضي انبساط النفس وقلّة الثّقل وخُفُوف (¬1) العمل. ثم نحنُ لا نكتب هذا إلَّا عَفْو الخاطر أو شبه ذلك، فإذا أردنا أن ندخل الجدّ من هذا الباب -ونحن ما نحنُ- انبتَّ الجهد بنا دون ذلك. فاقبل بعض العُذْر وتغمد بعض الزلل. وكذلك نستطيع أن نبين لك بعض الإبانة عن الأصوات وحكايتها وأسمائها التي جعلتها اللغة لها في أعمال الإنسان والحيوان والجماد، وكيف تدور فيها هذه الحروف الحلقية دورانًا طبيعيًا دالًا صريحًا متدرجًا على بيان نوع الحكاية أو التمثيل. . .، فكأنك به. ¬

_ (¬1) الخفوف: السُّرْعَة.

علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3) أفضنا في الكلمة السالفة -في ذكر الحروف الحلقية، وبدأنا بالهمزة ونظرنا بعض النظر في معناها ما هو؟ وحسنٌ أن نعود إلى استقصاء القول في هذه الهمزة وسائر الحروف الحلقية، واستخراج أكثر معانيها من الفطرة. ثم كيف هو دورانُها في الكلام العربي، ثم كيف تنزلُ عن بعض معانيها من تركيب الكلمة لدلالة أخرى تفضي إلى معنى يكون شارعًا من الأصل أو مستمدًّا منهُ أو عارضًا فيهِ، أو ليكون اعتراضها مسقطًا لبعض المعنى في حرفٍ آخر ليعادَل بهِ إلى القصد في إرادة معنى بعينِه ينشأ من اشتراك هذه الحروف الدالة في تركيب الكلمة. ويقتضينا هذا المذهب أن نسبقَ إلى عرض بعض معاني سائر الحروف العربية في مدارج القول، إذ كان الاشتراك بين هذه الحروف في الكلمة مدعاةً للبيان عن معانيها. وإذ كان ذلك كذلك، فستجد كلامنا عن هذه الحروف الحلقية مختلطًا بغيره من بيان معاني حروف أُخر من حروف اللسان العربي. وإنما أردنا ذلك اختصارًا وتخفيفًا. فلو ذهبنا ننشيء لكل حرف مقالًا لغلبنا الجهد، ولكان على القارئ أن يبقى مغموسًا في فكره في هذا الباب أشهرًا بعدد حروف العربية. ونحن إنما نجعل كلامنا هذا كالتذكرة لنا وللقراءِ في هذا العلم، ولأن ننتظر -حتى يأذن الله فيتيح لنا من الفراغ والهمة والجدة والتوفيق ما هو بعض نِعَمِه علينا وآلائهِ- أَوْلَى وأخلقُ، ولأن يكون ذلك مخبوءًا لنا حتى نضع كتابنا في "سر العربية" (¬1) -أحبُّ إلينا وأَجود للبيان، فإن بيان الرأي- في سعةٍ من كتاب ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 97، يونيو 1940، ص: 57 - 63 (¬1) لم يُتَح للأستاذ شاكر أن يضع مثل هذا الكتاب، وليته فَعَلٌ، فقد فاتنا بذلك خير كثير.

يؤلَّف لغرضٍ يشملهُ- أحرى بالاستفاضة فيه من مجلة تحدّ الرأي بحدود من الورق! ولقد علمتَ أن ضرورة الحياة الفطرية الأولى هي التي نزعت بالحرف الحلقيّ المغسولِ -المسمى في عبارة المتكلمين "بالهمزة"- أن يكونَ هو أقربَ الحروف إلى النداءِ، والتعجب، والاستفهام، والإشارة، والتنبيه، والأمر، والتحذير، وذلك لأن هذه المعاني كلها ليست إلَّا أقربَ الحوافِز التي تحفِزُ الإنسان الفطريَّ إلى إرادة التعبير، لفرط حاجته إلى كل منها بضرورة الطبع، لما يلاقيه مما يَصدِمُهُ ويتذَمَّرُ عليه من تصاريف الحياة وتخاليف الأحوال التي تُقبِلُ عليهِ فتدفعُهُ إلى نداء مَنْ يستعينه من أبٍ أو ولدٍ أو أخٍ أو زوجةٍ، أو تحمله على الاستغاثة، بالإشارة، أو الإغاثة بالتنبيه والتحذير. ثم لما يتجددُ عليهِ مما يستخرج عجَبَه أو ما ينصبُّ عليهِ مما يستغلقُ ويستبهمُ، فيجيله إلى طلب الاستفهام أو الاستنكار. ولعلك لستَ تشكُّ في أن ذلك هو أولُ ما يبدأ الحيُّ على الأرض وما يتنازعهُ من الضرورة، كما لا تشكُّ في أن أوّل مطاوع لهُ من الصوت هو ما يصوّتُ من الجوف والحلق، دون ما يكون تصويتهُ من قِبَل اللسان والفم والشفة مما هو لا يُطيع إلَّا بالمداورة والهز والتمرين والدُّربه على حركة بعينها مرة بعد مرة. وفي أصوات سائر الحيوان -خلاف الإنسان- دليل ذلك والبرهان عليه وعلى صحة مذهبنا إليه، فإن أصوات جميع الحيوان إنما هي أصوات حلقية تتردد، إلا ما كان من مثل صوت الغراب والقط والجُندب والبازى والقَطا وما إلى ذلك مما انفردَ من الحيوان والطير بحرفٍ يتردد، في مدارج نفسهِ أو منقط صوته. ثم لا يكون ذلك إلَّا حرفًا واحدًا مقاربًا، أو بعض حرفين متجانسين يتليَّن شدتهما ألفٌ أو همزةٌ مختلسة تكون بينهما فاصلةٌ. ولما كان من أول ضرورة الحياة الفطرية أيضًا أن يلاقىَ الإنسان من الهول ما يفزعه ويخيفه وما يتعرض لهُ من الجرح والكدم في صراع غيره من الإنسان والحيوان، وما يجد بعد ذلك من الألم والشدة، ثم ما يحمله عليهِ الأَلم الممضُّ من التأوه والأنين والغيظ والحنق، ثم ما هو من دواعى الفطرة الإنسانية القائمة على الغرائز الاجتماعية كالذي يجده إذا توحّد وانفرد من الحنين والحيرة والوجد -لمَّا

كان كل ذلك وما إليه مما يتصل به، كان أيضًا من ضرورة الحافز الذي يستوفزهُ ويرتفع به إلى إرادة التعبير، أن ينحو به إلى أول ما يطاوع من الأصوات ويتلين ويخف ولا يحتاج إلى المداورة والتمرين. فإذا تدبرت ذلك وأَوعبت نظرك إليهِ وفيهِ، وتلمست كل الصلات والأسباب التي تمتد بهِ إلى سائر المعاني التي تنظر إلى هذا الأصل أو تتخايل عنهُ -عرفت أنهُ لابدَّ من اشتمال كل هذه المعاني على الدلالة الفطرية التي تدلُّ بها طبيعة الإنسان على أغراضهِ الأولية القديمة. فكُلُّ ما يرجعُ أصلُ معناه أو بعض فحواه إلى هذه الدلالة، فالواجب لذلك إذن أن يشتمل على حرفِ الحلق الأوَّل وهو "الهمزة"، أو على الحرف الثاني الذي يقاربه ويشابهه ولا يختلف عنه إلَّا بضغطهٍ هوائية رفيقة هينة في جوار الحنجرة وهو "الهاء". فإذا تصرفت قليلًا على مثل هذا الأصل ترقَّيت إلى "العينِ"، "فالحاء"، "فالغين"، "فالخاء"، مقدّمًا "الحاء" على جميع هذه الأربعة الأخيرة لخفتها وسهولتها وسلامتها واقترانها بالحشرجة الحُلوة اللطيفة الرقيقة المُنْسربة في تصويتها كأهدإ انسراب وأحنّهِ وألينهِ. فإذا صحَّ لكَ، ما نذهبُ إليه، استخرجتَ من ذلك ضرورة أن تكون جميعُ الألفاظ العربية -التي ندعى لها هذه الحكمة الشريفة: في إمساسِ الحرف والكلمة شبهًا من معاني الفطرة ودواعيها- مبينة كل الإبانة عن هذا الرأي الذي نجرى إليهِ، باشتمالها على أحد هذه الحروف الحلقية. ويقتضي ذلك أن تكون كل أدوات الاستفهام والنداء والإشارة والتنبيه والفزع والتحذير، وسائر الألفاظ ذوات المعاني المقاربة لذلك -مشتملةً على أحد هذه الأحرف ثم يكونُ منهُ أيضًا أن جميع أسماء الأصوات الدالة على صوت الإنسان والحيوان والطير والحشرات قد جمَعتْ طرفًا صالحًا منها، حين تكون هذه الأسماء -أو الأفعال- دالةٌ على حكايةِ صوتٍ حلقي يكون لهذه الخلائق. وإذن فواجبنا -بعد الذي قلناه وعرضناهُ- أن نقدّم الدليل من ألفاظِ العربية على صحة ذلك، وأنه طريقةٌ ممهدةٌ على لسان هؤلاء الناس من العرب، وأنهُ إذا كانَ ما نقول بهِ، فاللغة العربية هي حقا -على ما ادعيناه في الكلمة السالفة- أدق اللغات، وأكثرها احتفاظًا

بالمعاني الفطرية للحروف، وبالحركات التي لجأ إليها الإنسان الأول فقرنها بالحروف للدلالة على معنى ليس يقومُ الحرفُ على بيانِه كلهِ إذا أفردَ وحده للتعبير عنهُ. ولقد رمينا إليك -في الكلمة السالفة- طرفًا من القول في حروف الاستفهام والنداء والتعجُّب والإشارة وما يجرى إليها من معنى الضمائر، ثم في الكلمات الثلاثية المضعَّفة التي اجتمع عليها في التضعيف حرفان حلقيان وهي"أحّ" و"أهّ" و"أخ"، ثم كشفنا عن معانيها بعض الكشف. فالآن نستقِلُّ بك إلى حروف الحَلْق المشتركة مع حروفٍ أخر من حروف اللسان. ولن نستوعَب كلَّ ذلك، فإنهُ يقتضينا -إن فعلنا- شرح اللغة كلها على مذهبنا، وهذا إن اجتمع في كتاب فجمعهُ في مقالٍ يتعذَّر مرَّة ويثقُلُ على قارئه أخرى. فلو أخذت الهمزة وبدأت بها في قولهم: "أبَّ"، "أتَّ"، "أثَّ"، "أجَّ"، "أدَّ" "أذ" "أرَّ"، "أزَّ"، "أسَّ"، "أصَّ"، "أضَّ"، "أطَّ"، "أظَّ" "أفَّ"، "أكَّ"، "ألَّ"، "أمَّ" "أنَّ"، "أيَّ". وقد أمضينا القول على "أحَّ"، "أخَّ"، "أهَّ"، "أنَّ"، "أع"، "أغ"، "أأ" مما تجافوا عنهُ وتركوهُ وأهملوهُ لعلل ذكرنا بعضها، كما أسقطوا أيضًا "أقَّ"، وذلك لأن هذه "القاف" -كما علمت من أوَّل مقال لنا- هي الحرفُ الذي يلي مخرجهُ مخرج الحروف الحلقية، فهو الحرف الثامن بعد الحروف السبعة الحلقية المبدوء بها في ترتيبنا. فإذ كانت الهمزة أشدَّ الحروف مطالبةً بالانطلاق وحافزها أقوى حوافز الحروف الحلقية فاتباعها بالحرف الذي يدانى اللَّهاة وأقصى اللسان ويرتطم بالحنك الأعلى ويتردد فيهِ جاسيًا غليظًا متعسرًا (¬1)، يكون مثقلًا على النطق، ثقيلًا في السَّمْع. وأيضًا فإن القاف -هي في ترتيب الحروف الشديدة التي وصفناها لك- تلى الهمزة، وهي أول هذه الحروف الموصوفة بالشدة ثم ¬

_ (¬1) فالهمزة تريد الانطلاق والمضى حتى تلاقى الهواء، والقاف تريد أن تقطع عليها ذلك لتستوفي حقها من المخرج ومنقطع الصوت الذي تتمثل فيه بترددها عليه، وارتداد اللسان بها وبهوائها المحصور في مخرجها ارتدادًا يعوق انطلاق صاحبتها التي تحفزها من ورائها. (شاكر)

الاستعلاء أيضًا. فهم لم يريدوا أن يجعلوها مفردَة في كلامهم لذلك، وقالوا "حق" و"عق" لما تعرف من صفة العين والحاء على ما يتوجه إليك من فحوى بعض كلامنا آنفا. فنحن سنأخذ هذه الكلمات المبدوءة بالهمزة على ترتيب مُتّصل، وذلك بأن نفصّلها لك على مخارج الحروف التي تليها، فأول ذلك: "أكَّ" فأصل هذه المادة عندنا من صوت احتكاك الأجسام اللينة بعضها ببعض لأن الكاف تمثل في النطق صوت شيئين لينين بَينَ بَينَ يزحمُ أحدهما الآخر زَحمًا شديدًا. والأكَّة في اللغة الزحمة والضّيقُ، وأكَّهُ زاحَمَهُ. وهذا المعنى للكاف ثابثٌ في قولك "حَكَّ" و"عكَّ" و"هَكَّ" الشيء سحقهُ، وهذه كلها حروف حلقية تتبعها الكاف، فإذا أنت أخذت في مثل "بَكَّ" أي زَحَم، و"تكَّ" الشيء اللين الرطب وطأه فشدخه و"دكَّ"، و"زكَّ" في مشيه قارب خطوه وحَرك جسده واحتَكَّ بها ثوبهُ، و"سَكَّ" و"شكَّ" و"صَكَّ". . . رأيتَ كل هذه تَحملُ كافُها لها معنى الاحتكاك أو تصويره أو مقاربة صوته (¬1) ولكنهُ في "أكَّ" و"حَكَّ" أبينُ المعنيين، لأنَّ الهمزة والحاء حرفان أصليان دالان على الأصوات الأولى التي هي أقربُ من سواها إلى حكاية هذا الصوت (¬2). ثم إليك "أشَّ"، "أجَّ" والشين تحمل بطبيعتها صوتَها المتفشّى المستطيلَ المتلينَ الذي يُهمس بهِ، ويضعف لها الاعتماد في مخرجها حتى يجرى معها النفَس بين الحَنَك الأعلى واللسان مع انفتاح الشفتين مع الإمالة الخفيفة. ويلقى هذا الصوت الأذن فيمثل صَوت الحركة الخفيفة التي تكون كأنها من احتكاك ¬

_ (¬1) اعلم أن لكل حرف معنى، وأن اشتراك الحروف ذوات المعاني في الكلمة الواحدة يسقط بعضها معاني بعض، ومصطفى من المعنى الأصلى ما يتمثل به في الحروف المجتمعة معنى آخر يجتاز عليهما أو يستمد منهما، وعلى ذلك فعليك أن تنظر إلى هذه الأحرف على الأصل الذي نحاول بيانه لك. (شاكر). (¬2) إذا رجعت إلى اللغة في معاجمها الدقيقة الواسعة، وجدت تقارب المعاني بين هذه الكلمات ظاهرًا حتى في المجاز، ولولا أن ذلك يستوعب أكثر مما نكتب هنا لأحطنا به. ولكنك إذا أردته على طريقتنا لم يباعدك ولم تخطئه. (شاكر).

الثوب القشيب، أو صوت وقوع الرش الخفيف من المطر، أو صوت خفيف الورق الأثيث على أشجاره إذا فيَّأهُ النَسيم المُتروّح، ويمثل أيضًا صوت الضاحك إذا انقذف نَفَسهُ بضحكةٍ خفيفة لا تبلغ القهقهة، مع انفراج الشفتين واستعلاء الشفة العُليا. وتجد أكثر هذه المعاني دائرة في "أشَّ"، "هشَّ"، و"حشَّ"، و"خشَّ" و"بشَّ"، و"نَشَّت" القدر تنش، وهو صوت غليانها، و"رشَّ" الأرض بالماءِ. و"كشَّت الحية" والمرأة أيضًا! ! كشيشًا وهو صوت جلدهما إذا حكت بعضهُ ببعض. ولذلك كُلهِ قيل في "أشَّ" أن الأش والأَشاش الطلاقة والبشاشة لما يتبع الارتياحَ والنشاطَ والخفة والضحك من الحركة التي تُسمِع هذا الصوت، وأشَّ غنمهُ كهشها، وأشَّت الشحمة إذا نشت وقطرت فسمع لها مثل هذا الصوت. وأما "أجّ"، فمن قبل أن الجيم أجسى وأقسى وأغلظ صوتًا من الشين، واللسان بها أشد ضغطًا للهواء في غار الحَنَكِ الأ على، وصوتها جافٍ على السمع ظامئٌ لا ماء فيه ولا قطر له ولا همس يأتي من قبله -لذلك دخلت مع الشين في بعض معانيها، ولكنها خرجت من بعضها الآخر بما أَخرجها من الميزة التي مازتها عنها في مستقبل السمع. وبعد، فإن "أجَّ" هذه وما يليها من "هَجّ"، "حَجّ" و"عَجَّ" بالدعاء، و"ثجَّ" المطرُ يثجُّ سالَ فسمع صوت سيلانِه، و"هَجَّ"، و"لَجَّ" -الجيم في جميعها دالةٌ على حكاية صوت وصفناه بما وصفناه فأُخِذ منهُ "أجَّت" النار و"هجَّت" إذا اتقدت فتعالت فاستعرت فاستطارت فسمع صوت تلهُّبها الذي تمثلهُ الجيم، كما يظهر لك إذا تدبَّرتهُ وداورتهُ على المعنى الفطري للحرف (¬1). وأما "أيّ" وهو اليائى الذي عددناه مع الشين والجيم في مخرج الحروف ¬

_ (¬1) أرجو القارئ أن يعذرني في اختصار القول، فإني وأنا أكتب هذا أكاد لا أمسك النفس عن الاستفاضة، لأنى أكتب وأنا أحضّ النفس على التأمل، فتنثال على المعاني فلا أدري ما آخذ منها وما أدع، وقد ذكرت في الكلمة الأولى أن هذا بحث قديم أستثيره وأهيجه، فربما غلبني ما أجد منه على الضبط. والقارئ في هدأته يستطيع -إذا تأمل- أن يصل إلى مثل الذي يريده منا إن شاء الله.

الشجرية فليس هذا مكان الإفاضة في ذكره، لما تعلم مما أشرنا إليه آنفًا في بعض كلامنا من أنَنا نرى في الألف والواو والياء رأيًا نخالف بهِ ما ذهب إليهِ أئمتنا رضوان الله عليهم. وأن في سرّ تطوره من حرفٍ حلقى إلى حرفٍ شجريّ موضعًا للنظر، ومجالًا يجول إليهِ الرأي. فندعه إلى موضعه الذي يتنزل عليهِ في أوانه إن شاء الله. وإذا درجتَ إلى "ألَّ"، رأيت اللاَّم، وهي عندنا من الحروف ذوات المعاني المتشابكة، وذلك أن اللسان معها يعمل أعمال حروف كثيرة. ولقد علمت أن مخرجها -فيما أسلفنا- هو من أدنى حافة اللسان إلى منتهى طرفه حيث يندفع إليها الهواء المقذوف من الجوف، فيحصُرُ اللسان هذا الهواء حَصرًا بين الشدّة والرخاوة في الحنكِ الأعلى مما فوقَ الضاحك والنابِ والرباعية والثنية، وعند ذلك يرتكسُ هذا الهواء المحصور في جوف الفم من كِلا جانبيه، ثمَّ إن بعض هذا الهواء يجول في ميدان كأنهُ يروم المخرج من الخياشيم وهو مخرج النون. فلذلك ترى هذه اللاَّم إذا وقفت عليها في مثل "هَلْ" و"قُلْ"، قذفت من المنخرين نفسًا خفيفًا همسًا، تنتفش معهُ الخِنَّابتان (¬1) قليلًا قليلًا، وكذلك تجدُها كأنْ قد أُشْربتْ من غنة النون في أكثر المنطق. وهذه الملامح الكثيرة التي اختلستها اللام من الحروف التي تليها كالنون والراء والميم، ومن الحروف التي سبقتها كالجيم والشين والضاد، هي التي راحبت من معانيها وكثَّرتها وغمَّضتها على من يروم فقهها وضبطها، وهي أيضًا التي جعلتها أكثر الحروف دورانًا في كلام العرب للطفها وضعفها ورقّتها حيث كانت -ولا تكون هذه الرقّة التي فيها إلَّا مشوبةً ببعض القوَّة والشدَّة، فهي إذن أعدل الحروف وأحسنها استواءً فلا تعتاص على باغيها. ولذلك أيضًا تجدها لا تدخلها العيوبُ التي تدخل سائر ¬

_ (¬1) هما حرفا المنخرين -الثقبين- عن يمين وشمال من عرض الأنف، وهما وحشيا الأنف. (شاكر)

الحروف كالراء التي تليها، وهي تدخلها اللّثغة في لسان الألثغ فلا يستقيم لهُ معها المخرج، وإنما ينحاز الألثغ -إذا غلبته لثغتهُ من الراء إلى اللام، فاعرف هذا وتدبره وانعم نظرك له وفيهِ (¬1). فالقول في "ألَّ"، "هلَّ" يفترق من القول في اللّام التي تلى سائر حروف الحلق مثل "حلَّ" "وعل" ولذلك نقصر القول على "ألَّ" و"هلَّ"، فالألف والهاء هما عمدة باب الحروف الحلقية كما أمضينا آنفًا. واللام في هذا الموضع تمثيل للإلحاح والتردد والانتشار، ومعاناة للتحفز الذي يأتي بالصوت في اندفاعهِ. ألا ترى أن صوت اللام -إذا حققتهُ- شبيهٌ بالجرس الذي تسمعهُ من اصطدام شيء لين بعض اللين بشيء من مثله فيفزع سمعك إليه فتصغى له. وعلى ذلك فمعني "ألَّ" -ابتداءً يتضمن الإشارة إلى حركة مقرونة بصوت بين بين، فلا هو جاسٍ ظامئٌ ولا هو رطب ممتلئٌ بمائه. وكذلك هو في اللغة: ألّ الفرس إذا أسرع فاهتزَّ فسمع من الرمل صوت حافره إذا وقع عليها متتابعًا مترددًا، وكذلك ألّ البرق، وألَّت المرأة رفعت صوتها بالدعاء أو غيره. والأليل من ذلك هو الأنين والحنين عند الجزع، وهو خرير الماء على التربة، وهو صوت الحَصَى إذا وقع على الرمل. والقول في "هَلَّ" قريب منهُ فقالوا: هَلَّ السَّحاب وانْهَلَّ بالمطر، وذلك إذا قطر فوقع ماؤه فسمع صوت هذا الماء حين يصطدم الثرى والرمل بحباتِه في شدة انصبابِه، وتردد هذا الصوت مرة بعد مرة، ومنهُ "أهلَّ" إذا رفع صوته بالدعاء فردَّده. فإذا صرتَ بعد هذا إلى الحرف الذي يلي اللام وهو النون في "أنّ"، حيث ينبعث الهواء المقذوف إلى الخياشيم، فيحار فيها ويتردد ويجولُ ويُسمَع لجولانه في الأنف صدًى ناعمًا تتبعه غُنة مُدَوّيةٌ باحتكاك الهواء بجدار الأنف -رأيتَ المعنى يتسلسل من اللَّام إلى النون مختلفًا في الدلالة اختلافًا بينًا مرة ومقاربًا مرة أخرى. ثم هو من أجل ذلك حرفٌ دَمِثٌ طيع مترفِّه ناعمٌ حُلو النَّغم لطيفُ الترديدِ، يسيلُ مع الهواءِ لينًا ونعومةً ورقة، لا تدركه الجفوةُ التي تعرض لسائر الحروف مع التحريك إذا حُرّك، فهو لطيفٌ مطاوع ذو نَغَم إذا حُرك أو سُكن. ¬

_ (¬1) لا نريد أن نفيض في ذكر اللام وشرح معانيها، فإنها تأخذ من كل معنى بسبب. ولو أردنا ذلك لخرجت وحدها في أوراق صالحة لأن تفرد لها مقالة برأسها. (شاكر).

فهو إذن أقرب الحروف للبيان عن المعاني الشافعية التي لا تتحامل أصواتها إلى المادة وصوتها، ولذلك يدور أكثر ما يدور في الألفاظ ذوات المعاني النفسية الصافيةُ التي تذوب فيها آلام النفس وأحزانها وأحلامها وأفكارها التي لا تتكلم إلَّا لمحًا وإشارة وتلويحًا. فكذلك هو في معناه إذا قلت: "أنّ" أنينًا، و"حنَّ" حنينًا وحنانًا، و"هَنَّ" هنينًا، وهو كالحنين والأنين، وكذلك "خنَّ" خنينًا، وهو الانتحاب والبكاءُ الذي يتردد حتى يصير في الصوت غُنة من جولان البكاء في الخياشيم. وذلك كلهُ من أجل الحزن الذي لا يعبر عنهُ إلَّا بالصوت المبهم المطاوع لحركة الجسد إذا حُرك من نوازى الأحزان الداعية إلى هزّ الأعصاب وبالرجفة التي تلحقها من تنزِّيه فيها. ولكن انظر إلى "خنَّ" وتدبَّر فعل "الخاء" في توجيه المعنى إلى الشموخ والاستعلاء ورفع الصوت بالبكاء، وخشونة الصوت التي تكون في هذا الضرب من البكاء أو الضحك المشوب بالترفع والاشمئزاز، وإلى التعذُّر والمعالجة التي تجدها في البدء بالخاء. ومن أجل هذا يتباين الأنينُ والحنينُ من "الخنين" تباينًا صحيحًا في الدلالة على هذا الأنين المشوب بالصوت الذي وصفناه لك. ونحن نقف بالقول عند هذا الحدّ الذي حدَّه الفرق الصوتى أيضًا بين النون والراء التي تليها في المخرج، ولعلك قد رضيت عن هذا الضرب من النظر، ولعلك تحمل نفسك على معاناته وتكلفه، ولعلك تجد لهُ من الطرافة والحسن واللذة، وما يجعلك تمضي في إتمام ما أسقطناه من كلامنا. فإذا فعلت عرفت لطف هذه اللغة، وملابستها للطبع والطبيعة والفطرة، وأن أصحاب هذا اللسان كانوا أرقَّ الناسِ إحساسًا، وألطفهم فهمًا، وأحسنهم تهديًا إلى المعاني، وأثقفهم لسحر الطبيعة وأنغامها ولغتها التي تجرى في أرواح الشعراء بالمعاني والأحلام. واعلم أننا إنما أخذنا لك من أبواب الكلام في هذه الكلمات، وما يُعدُّ من أصول المادة اللغوية التي يكون الحرف دالًّا عليها، وتركنا ما هو مجاز واستعارة في مذهبنا، وإن كان أصحاب علم اللغة يعدُّونه من أصل المادة أيضًا. وإذا جاء أوان شرح المجاز من المعنى الأصلي إلى المعنى الذي انتقل إليه اللفظ بعدُ،

عرفت أن هذه اللغة شريفة جليلة دقيقة التركيب، مع ما تتبين في قسماتها من النبل والاستواء والاستقامة على مذهب لا يتخالف ولا يتناقض ولا يختل والله المستعان.

عبقرية عمر

عبقرية عمر تأليف: الأستاذ عباس محمود العقاد المكتبة التجارية الكبرى بمصر، مطبعة الاستقامة في سنة 1361 هـ، 1942 م عدد الصفحات 460 "وكتابى هذا ليس بسيرة لعمر، ولا بتاريخ لعصره، على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء ولكنهُ وصفٌ له، ودراسةٌ لأطواره ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم الحياة. فلا قيمة للحادث التاريخى جلَّ أو دقَّ إلَّا من حيث أفاد في هذه الدراسة، ولا يمنعني صغر الحادث أن أقدّمهُ بالاهتمام والتنويه على أضخم الحوادث، إن كان أوفى تعريفًا بعمر وأصدق دلالة عليه. "وعمر بعدُ رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه، لأنهُ العصر الذي شاعت فيهِ عبادة القوة الطاغية وزعم الهاتفون بدينها أن "البأس" و"الحق" نقيضان. فإذا فهمنا عظيمًا واحدًا كعمر بن الخطّاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية من أساسه لأننا سنفهم رجلًا كان غايةً في "البأس"، وغاية في "العدل"، وغاية في "الرحمة". وفي هذا الفهم ترياق من داء العصر يشفي بهِ من ليس ميؤوس الشفاء". هكذا قدَّم العقاد بين يدي كتابهِ وهو أتم قول في البيان عن مبنى كتابه وعن منحاه وعن غرضه الذي رمى إليهِ في كل فصل من فصوله. فأنت تقدم فيه بعينيك ورأيك وعقلك على رجل قد استوى واستَحْصد. لا تجد ذكر أولية ولا ميلادٍ ولا نشأة، ولا من كان أبوه ولا من كانت أمه، وإنما هو "عمر بن الخطاب" وحدهُ الذي تلقاه. ثم تجول فيه فلا ترى تاريخًا ولا موقعة ولا فتوحًا ولا أعمالًا ولا حوادث، وإنما ترى "رجل" التاريخ والموقعة والفتح والعمل والحادثة قد ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 101، ديسمبر 1942، ص: 534 - 538

امتثل لعينيك قوَّة وفكرًا وعقلًا وتدبيرًا وجنانًا، وهو الرجل. . . هو عمر بن الخطاب. وعمر -ككل رجل في التاريخ- قد ترك للناس أعماله وخرج منها لتكون شاهدةً عليه، أحسن أو أساءَ، وليس أحد بأكبر من أن يسئ. وقد وقع في تاريخ عمر بعض ما يمكن أن يترجَّح الرأي فيه إلى جانب الإساءَة، وإذا كان ذلك، فإن عمل الكاتب -إذا أراد أن يؤدى الأمانة التي استحفظ عليها- أن لا يدع شاردةً من الحوادث إلَّا اعتبرها ووزنها واستخرج منها ما يقيم له وجه الرأي، فإن من ظلم الظالمين أن تحكم بالإساءَة، على رجل قد أكثر من الإحسان حتى عُرف به. وليس يستقيم وجه الرأي في مثل هذا إلا بعد تمحيص يخرج بك إلى القدرة على معرفة النية التي انطوى عليها صاحب العمل فيما عمل. ولست تصل إلى معرفة النية في العمل حتى تتمثل الرجل بجميع خصائصه ومناقبه، وأطواره ومثالبه، ثم لا تزال توازن بين ما يجتمع لك حتى تعرف الحدود التي يقف عندها في كل أمر من أموره أو عزيمة من عزائمه، وحتى يتبيّن مقدار الطاقة في كلّ قوةٍ من قُواه، وكيف تسيلُ، وإلى أين تتَّجِه، ولم تنحرف إلى غير ما يظنُّ بها. فإذا عرفتَ ذلك وأطقته، فأنتَ -بَعدُ- على الطريق. . . وإذا الشيءُ يفسِّرُ الشئَ وقد ظُن أنهُ يعارضهُ، وإذا الحادث يحقق الحادث وقد خيِّل أنهُ يناقضه. وبذلك يخرجُ الكاتب من جملة "الكتاب المنصفين! ! " -كما قال العقاد- الذين تعوّدوا "أن يحبذوا وينقدوا، وأن يقرنوا بين الثناء والملام. . . فإن لم يفعلوا ذلك فهم إذن مظنة المغالاة والإعجاب والتحيز". ويكفي العقاد فخرًا أنه حطَّم بهذا الكتاب تلك الهياكل البشعة الموبوءة التي يتعبَّد أهلها بكلمات مريضة كالإنصاف والتحقيق العلمي، ثم يرمون من سواهم بالإغراق والمبالغة والمغالاة والتعصُّب إلى آخر ما يملكون من كَلِمٍ. ولم يكن تحطيمه لها إلَّا بقوةٍ من العقل والمنطق والاستقصاءِ والمراجعة، حتى يخيل إليك إنه لم يدَعْ شيئًا يمكن أن يؤتى به في الحجة والدليل إلَّا أتى به بينًا كأحسن البيانِ لمن شَرَح بالعلم صدرًا ولم يعاند فيهِ عنادَ من لا يعقل. ولذلك لم يحجم عن أن

يقول لهم حين قال لنفسهِ في أول كتابه: "إن كنتِ قد أفدتِ شيئًا من مصاحبة عمر في سيرته وأخباره، فلا يحرجنّك أن تزكى عملًا لهُ كلما رأيتهِ أهلًا لتزكية. وإن زعم زاعمٌ أنها المغالاة، وأنه فرط الإعجاب"، "فالحق أنني ما عرضت لمسألةٍ من مسائله التي لغِط بها الناقدون إلَّا وجدتهُ على حجة ناهضة فيها، ولو أخطأه الصواب". وهذا الذي فعله هو على التحقيق طريق العالم المتثبت الذي لا يخاف ولا يتردّد، ولا يحاول أن يستجلب لنفسه المحاسن التي تقوم على دعوى اللسان، إذ يقول لهُ: هذا رجلٌ منصف! هذا رجل محقّق! هذا رجل واسع الذهن! هذا رجل يرى وجوه الرأي من جميع نواحيها! فإنما هذه كلها تعاويذ المرضى وتمائم الجهَّال. لم يدع العقاد شيئًا من مقومات شخصية عمر إلا عقد عليه فصلًا أو بعض فصل، ومن هذه المقوّمات يتمثل عمر بجميع خصائصه وأخلاقه وما تدلُّ عليه أعماله من أول جاهليته إلى مقتله وهو أمير المؤمنين. وما شك أحد في القوة النفسية التي كانت تتدفّق بهذا الرجل كأنها سيل جارفٌ، وكانت تسم أعماله وأخلاقه بسمة فذّة بين أعمال الرجالِ وأخلاقهم، وكانت على عهد رسول الله -وهو من هو- مميزة لعمر عن جميع أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. ولقد كانت هذه القوة التي لا يخطئها مؤرّخٌ يكتب عن عمر، سببًا في أخطاءٍ كثيرةٍ في فهم تاريخ الدولة الإِسلامية بل كانت سببًا حَمَل بعضَهم على أن يضعوا في الدعوة الإِسلامية أوهامًا مضلّة لمن لم يقف على حقيقة هذه الدعوة، ولا على حقيقة صاحبها، ولا على حقيقة عمر من بين أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. وكأن العقاد وقد تنبه لهذا من أول كتابه فهو يثبت لك القوة النفسية في عمر ويدلك على أنها مع اندفاعها وتدفقها لم تجعل صاحبها من أصحاب المطامع الطاغية التي تدفعهم إلى اقتحام الحقّ إلى باطلهم إن كان لابدّ لهم من ذلك. ولم يأت بها كلمةً تقال لتدفع شبهةً، بل عاد إليها في الفصل الذي عقده عن "صفات عمر" من ص 41 إلى ص 111، ثم في الفصل الذي يليه عن "مفتاح شخصيته" من

ص 111 - 141 فأبان عن تعادُل القوى النفسية في عمر بحيث لا تطغى صفةٌ من صفاته على الأخرى فتتحيَّنها أو تأكل بعض حقها في العمل. فالعدل والرحمة والغيرة والفطنة والإيمان، هذه كلها في عمر تتعاون تعاون الأسلحة الحربية في الغرض الذي ترمى إليه، وأَصل ذلك كله مجتمع في الخلق الغريزى الذي طبع عليه عمر، وهو طبيعة الجنديّ الحازم الصارم الذي لا يلتف إلى وراءَ إذا عرف أنَّه لابد منتصر على العقبات التي تخيّل له لتضعف من حدَّتهِ. وقد جعل العقاد "طبيعة الجندي" هي مفتاح شخصية عمر، ولقد وفق في ذلك أحسن التوفيق، إذ هي التي انتظمت جميع خلائقه فرمت بها إلى أغراضها، وحمتها أن يطغى بعضها على بعضٍ. بل إن الحدود التي حدّ بها طبائع عمر، وبيانه عن طاقة كل قوة من قواه، وتحديده لعملها في عمله، قد أعانهُ كل العون في تصحيح الروايات المختلطة التي تروى عن عدل عمر أو رحمتهِ أو قسوته أو لينهِ، فاستطاع مثلًا (من ص 49 - 58) أن ينفي من قصة عبد الرحمن بن عمر وأبى مسروعة حين شربا الخمر بمصر فحدَّهما عمرو بن العاص، وأعاد عمر الحدّ على ابنه حين حُمل إليهِ بالمدينة -استطاع أن ينفي كل المبالغات التي دخلت على الرواية، واستخرج منها الرواية الصحيحة التي تطابقُ الحقّ والعدل في غير زيادة أو نقصان. وبذلك أيضًا استطاع أن يعرّف برحمة عمر تعريفًا لا يدع شكًّا لأحد في أن عمر كان يرحم بفطرة مستقيمة لا تظلم ولا تقبل الظُّلم فهو يرحم الصغير والكبير، والمسلم والذميّ من أهل الكتاب سواءٌ، فهو لا يرحمُ المسلم لأنه من أهل دينه، ثم تذهبُ الرحمة من قلبه لامرئٍ ليس من أهل هذا الدين، بل هما لديهِ سواءٌ فيما استوجَبَا بهِ الرحمة. وليست تقتصر فائدة هذا البيان عن قُوَى عمر على الكشف عن خصائص أخلاقه وطبائعه، بل أعانت أيضًا على بيان أعماله كلها في تأسيس الدولة الإِسلامية، التي قاد جيوشها ووسع ممتلكاتها، وأرسل إليها عمالها ليحكموا البلاد، ويعلموا الناس دينهم الذي اتبعوه.

فهذه القوة التي لا تقف أبدًا بل تندفع إلي الإمام في كل وقت كما تكاد تعرفها في عُمَر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هي نفسها القوة المكيثة المتريثة التي كان عمر يوصى بها قواده وعماله. ففي عمر قوة الاندفاع وقوة الضبط معًا لا تفقد إِحداهما حيث يجب أن تكون. "إن البأس الذي رُزِقته نفس عمر لحظٌّ عظيم، ولكنه لو كان في يَدَيْ غيرِها لقد يكون نصيبها أَوْفى من نصيبه وهو في يديها. فلم يشحذه عمر قط لغرض يخصه دون غيره" وكذلك "يقوي الرجل فلا يخافه الضعيف بل يخافه من يخاف الضعفاء" كما قال العقاد في فصل من كتابه. ومن قديم والناس يخوضون في موقف عمر من سيف الله خالد بن الوليد حين عزله، ثم أتى جماعة من المحدثين -عربهم ومستشرقيهم- فاستوحلوا فيه إلى الأذقان، فانبرى العقاد لأقوالهم ففندها بالحجة التي لا يقف لها شيء، ولم يجعلها كذلك إلَّا هذه الحدود التي استطاع أن يميز بها أخلاق عمر وطبائعه، فإنهُ استخدم كل ما استبان لهُ من شخصية عمر بعد التحليل المقنع، وسرد القصة كلها بما يرتضيه العدل والمنطق والتاريخُ، وإذا شئت أن تتثبت من ذلك فاقرأ من ص 338 - 364 فلعلهُ خير ما كتب إلى اليوم عن هذه المسألة التي ضلَّ فيها من ضلّ. إن كل فصل من هذا الكتاب يستوقف الناظر فيه، فلا أدري ما آخذ منهُ وما أدع ولقد جاهد العقاد فأبلى بلاءً حسنًا. . . إنما كان يقاتل تاريخًا مختلطًا مبعثرًا قد أهملهُ أهلهُ، وآراء باغية قد رمى بها قوم عزتهم عن أنفسهم قوة أيامهم وعلوّ سلطانهم، وتكاذيب قد تجمل بها المستضعفون من الكتَّاب. ولقد دل بهذا الكتاب على أن التاريخ العربي والإِسلامي إذا استوى لهُ كاتب قد قرر المذهب على أصول صحيحة، استطاع أن ينفي عنهُ زغلهُ (¬1) وأن يبعثهُ بعثًا جديدًا بعد تراكم الأتربة التي قبرتهُ أجيالًا طوالًا. ¬

_ (¬1) الزَّغل: لا أعرف لهذا الحرف معنى يستقيم في موضعه من السياق هنا. والزغل: مَجّ الشراب أو صبّه، ورمْيُ البعير بِبَوله، ورضع الفصيل أمه على كره منها، وغير ذلك. ولابد أن الأستاذ شاكر قد وقف على معنى مخالف لما في كتب اللغة أخلت به.

ليس من الهين أن تكتب التاريخ الإسلامي على نمط جديد، فإن عدّة الكاتب لهذا الأمر تتنازعها قوى مختلفة يجب أن تتوفر للكاتب، ولعلها قد توفرت في العقّاد، فهو أديب يتلقّف معاني الكلام وينفذ إلى ما وراءَها، وهو مفكر لا يدعُ للفكر منهجًا إلَّا ولج إليهِ، وهو واسع المعرفة فهو يعرف المجهول من المعلوم بأدق فكر وأحسن نفاذٍ، وبذلك استطاع أن يكتب للتاريخ الإسلامي فصلًا خالدًا في شخصية خالدة هي الفاروق "عمر بن الخطاب".

شاعر الحب والفلوات ذو الرمة 1

شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة - 1 - " ذو الرُمّة: لقبٌ غَلَب عليه، واسمهُ "غَيلان بن عقبة بن مسعود" من بني عدي بن عبد مناة. وأمه "ظبية بنت عبيد أو بنت مصعب" من بني أسد. وإخوته لأبيه وأمه: "مسعود" و"هشام" و"جرفاس"، وكلهم شعراء. وكان هشام من عقلاء الرجال. وخاله أبو جنة الأسدي "حكيم بن عبيد أو بن مصعب"، وكان شاعرًا. وابن عمّهِ "أوْفى بن دلهم العدوى"، وهو أحد من يروى عنهم الحديث، وكان رجلًا صالحًا. وصاحبته ميّ بنت عاصم بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقرى. وجدها قيس بن عاصم هو الذي قال فيهِ رسول الله: هذا سيد أهلِ الوبَر. ثمَّ شبَّب ذو الرمة بخرقاء العامرية ليكيد بها مَية -وذلك قبيل وفاتهِ بقليل- ثم نزع إلى صاحبته حتى مات". قبس يتوقّد في عيني هذا الغلام البدويّ النحيف، وقد أخذت أمه بيده تريد ذلك الشيخ سيد بني عديّ بن عبد مناة "الحُصينَ بن عبدة بن نعيم العدوى" وجاءَت المسجد والناس على صلاتهم، حتى إذا ما انفتلوا عن موقفهم، وانفضُّوا عن إمامهم أقبلت عليهِ: يا أبا الخليل إن ابني هذا يروع بالليل كأنما يفزِّعهُ شيطان، وإني لأخاف عليه، فاكتب لي معاذة أعقلها على عنقه. قال الشيخ: إيتينى بِرَق أكتب لك فيه. قالت: فإن لم يكن، فهل يستقيم في غير رقّ أن يكتب له؟ قال: فجيئينى بجلدٍ. فانطلقت الأم الوالهة حتى أتتهُ بقطعة جلدٍ غليظ، فكتب الشيخ لهُ معاذة فيه، فعلقتها في عنقه مشدودة على يساره في حبل أسود. فمكث الغلام بها ما شاءَ الله أن يمكث، حتى قال شعرًا. وإن أمهُ لتمشي بهِ إلى بعض حوائجها، فلما كانت ببعض الطريق، مرَّت بالشيخ سيد بني عديّ بن ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 102، فبراير 1943، ص: 126 - 130

عبد مناة، وهو جالس في ملأ من أصحابه ومواليه. دنت وسلّمت وقالت: يا أبا الخليل: هذا غلامك غيلان قد شبَّ وقال (¬1)، ألا تسمع قوله وشعره؟ قال: بلى! يا أم مسعودٍ! فتقدّم الغلام فأنشدهم، فإذا أبلغ قائل، وأنطق متكلم، وأحسن صوتٍ في أحبّ إنشادٍ، كأنما يرتل مزامير داود. قال الشيخ لقد أنجبتِ يا أمّ مسعود! أحسن ذو الرمة وأنهُ لشاعرٌ! فمن يومئذٍ ذهب بلقبه "ذي الرمة"، لذلك الحبل الأسود البالي الذي كان في عنقه، والذي كانت فيه المعاذة. (والرمة قطعة من حبلٍ بالية). ولم يلبث أن خرج الغلام "ذو الرمة"، هو وأخوه مسعود وابن عمه (أوْفى)، في بغاءِ إبلٍ ضلّت لهم، حتى إذا أجهدهم العطش، وردوا ماءً. وإذا حِواءٌ (¬2) عظيم. فقال مسعود لأخيه الغلام: إيت الحِوَاء فاستسق لنا. فانطلق، فإذا عجوزٌ جالسةٌ فاستسقاها. فالتفتت وراءَها وقالت: يا مَي! اسق الغلام! . . . ودخل ذو الرُّمة على مي وهي تخيطُ ثوبًا لها، وهي تتغنَّى بأرخم صوتٍ. يا من رَأى برقًا يَمُرُّ حينا؟ ... زمْزَمَ رعْدًا وانْتَحى يمينا كأنّ في حافاته حنينًا ... أو صوتَ خيل ضُمَّر يَرْدِينا (¬3) فقطعت غناءَها وقامت إليهِ تصبُّ في قربته من الماءِ. وعلى الفتاة بُرْدٌ فارسيٌّ لا جَيب ولا كُمّ يسمونهُ "النوذر". فلما مالت على القربة تصبُّ، رأى ذو الرُّمَّة، فلها بالنظر إليها. . . غلامٌ متوقدٌ ينظر من عيني باز، إلى فتاة أحسن من النار الموقدة في الليلة القرّة في عين المقرور مسنونة الوجه، أسيلة الخد، شماءُ الأنف، حُسَّانة الجيد، هيفاءُ أملود (¬4)، واردة الشعر، عليها وَسْم جمال، تنظر عن عيني غزال، فجعل يستطعم حديثها، حتى انطلقت تحدثهُ ويحدِّثها، والماءُ يذهب يمينًا وشمالًا. رقّت الفتاة للغلام حين نمَّ صوتهُ على هواه. فقالت له: يا ذا الرمة! لقد كلّفك أهلك السفر، على ما أرى من صغرك وحداثة سنك! ! وتفطن لهما العجوز، وتقبل عليهما، وتقول: يا بنَّي! ألهتك ميّ عما بعثك أهلك له! أما ¬

_ (¬1) أي قال الشعر. (¬2) الحواء: مجتمع بيوت الناس. (¬3) يردى: يسرع. (¬4) الأملود: اللينة القَدّ.

ترى الماءَ يذهب يمينًا وشمالًا؟ فلم يخش أن يقول لها يا أماه! أما والله ليَطولنَّ هيامى بها! ! . . . ثم يملأ قربتهُ وينصرف، ويأتي أخاه وابن عمه. ولم يطل بهِ الأمر حتى أخذه من هواه ما قرب وما بعد، فيلف رأسهُ، وينتبذ دونهما ناحية، حتى دنا رحيلهم فارتحلوا، وميّ أحلام ليله ونهاره. وشبّ الغلام في وَهج الحبّ. . . في سعير الحرمان، فإذا هو شابٌّ آدم، رقيق البشرة، مدوَّر الوجه، أكحل حلو العينين، برَّاق الثنايا، حسن المضحك، أقنى الأنف، أنزع الرأس، حسن الشعرة جعدها، خفيف العارضين. . . بدويّ جميل المنظر، لوَّحه (¬1) البيد والأسفارُ، وإذا هو يفترُّ عن شاعر عاشق مُلْهم لُجِّيّ الصبابة، لا يشكو الحبَّ أحد أحسن من شكواهُ، مع عفةٍ وعقل رصين. وإذا هو يتعشق الأطلال في البوادي والقفار، فيقف عليها متأملًا قد نفذت بهِ أشواقه إلى سرِّ الرمالِ، فلا ينعتُ الفلوات، وسرابها، وأسفارها، وسَفْرها (¬2)، وما فيها من شيء. . . شاعرٌ، أبرعَ من نعته. ويتسامع الناس بهذا "الغلام من بني عدى" الذي يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات، حتى يحسده فحول الشعراءِ كجرير والفرزدق، فيؤخروا ذكره لما يرون من حداثة سنه، وأنهُ لا يحسن من الشعر ما يحسنون. . . هذا المدحَ، وهذا الهجاءَ، وهذا الفخر! ! ولكن الفتى البدويّ العاشق يندفع إلى الحَضَر فيكثر أن يأتي الكوفة والبصرة يدَعُ رجز أهل البادية، ويأخذ في القصيد. ويلم بأهل الحضر فإِذا هو عندهم من أظرف الناس وأرقهم: بدويٌّ عاشق، عفيف الطرف، عذب المنطق. إذا نازع أحدًا الكلامَ لم يسأم حديثه، وإذا تكلّم أبلغ الناس، يضع لسانهُ حيث شاء، لم يكن أحد من القوم أحلى كلامًا، ولا أجلي منطقًا، ولا أحسن جوابًا منهُ، حتى كانوا يرون أن كلامه أكبر من شعره. ولم يزل الفتى يتردد بين ديار ميّ في بلاد بني مِنْقَر، وبين دياره في بلاد بني عديّ، وبين الكوفة والبصرة. فتجلو أرض الحضر وحديث أهلها بعض ما في ¬

_ (¬1) لوّحه: غيّر لونه وأضمره. (¬2) السفر: جماعة المسافرين، مثل راكب ورَكْب.

نفسه من جفاء البادية. حتى إذا لجَّ به هواه عاد إلى بلاد مى ينظر الديار بعينين ظامئتين، فإِذا خفَّ ما به انقلب إلى أهله، يحادث بينهم قلبه. ولا يزال يردد ذكر مي حتى عرف بها وعرفت بهِ، ولم يكن ما بهِ إلَّا هوى فتى لفتاة هو عليها -إن شاء- قادر. فقنع بذكرها وحبها زمنًا، وجعلت عناصر المأساة تتجمع من هنا ومن هناك ومن ثمة. وذو الرمة في أسفاره يتطرح (¬1) لكان البوادي والحضر، يستزير طيف ميّ على البعد، قد عمى عن فجاءات الغيَر! لم تلبث مى أن تزوجت أحد رجال قومها: "عاصمًا المِنْقَرِى". نسيت الغلام الذي عجبت منه ومن أخيه مسعود، يوم. "رأتْ غلامَى سَفَرٍ بعيد ... يَدَّرِعان الليل ذا السدود" "مثل ادّراع اليَلْمَقِ (¬2) الجديد" نسيت ميّ عينيه تنظران في عينيها، وهي تصبّ له الماء في قربته، فيشغلها الحديث ويشغله، فيذهب الماء يمينًا وشمالًا. نسيتْ ذلك الهيام الذي انبعث في صوت الغلام يدعو هواها إلى هواه. لم تأبه لذلك القلب الغض الذي تنسَّمها فاستراح، ثم فارقها ليتعبّد لها ولطيفها في الليل والنهار. . . مات صدى كلماته وهو يقول لأمها: "أما والله ليطولنَّ هيامى بها"، فلم تجد لها في نفسها رجعًا. ويعرف ذو الرمة خبر زواج ميّ، فيجن جنونًا. يومئذٍ ينبثق ينبوع الشعر في قلب هذا البدوى العاشق المحروم. الأمل، اليأس، اللوعة، الدمع، الصبوة، الأحلام، وساوس القلب، ديارها، زوجها، أخوها، الغدر، الذكريات، النظرة الأولى. . . كل هذه أخذت تتدفق في خطرات قلبه تحت الضربة الأولى من ضربات الغيرة المغيظة، المحنقة، الحاقدة. ميُّ. . . ميُّ. . . ميُّ. . .، هكذا يتردد صدى الضربات الملحة التي لا تفتر ولا تنقطع. . . ميُّ. . . ميُّ. . . ميُّ. . .، صدى يتردد في أذنيه من عن يمينه وشماله، قد ملأَ عليهِ أرضه وسماءه. ¬

_ (¬1) يتطرح: يذهب ويجئ على ما بُعْد ما بينهما. (¬2) اليلمق: القباء الفارسى، وهي مُعَرّبة.

ميُّ. . . ميُّ. . . وتضرمت الروح باللَّهب القدسى، وانبعثت في عيني "ذي الرمة" تلك الشغلة الخالدة التي لا يطفئها شيءٌ، وأكلت النار التي لا تخبو كل غشاءٍ كان يحول بينة وبين ميّ. وإذا الفتى اللاهي جليد "قد حلّمته العشائر" (¬1). ويخرج من بلواه. . . من غيرته. . . من أحقاده، قد نصب وجهه لهجير الحياة، فإذا قسماته تتوهج بالعزم، والصبر، والمغالبة، وفي عينيه تلك النظرة النافذة المتأملة الساكنة، ثابتةً لا تنهزم. لقد كان أحب فتاة هو عليها -إن شاء- قادرٌ، وهو اليوم يحب امرأة قد ضمها خدْر بعلها، فلا سبيل لهُ عليها. أحبَّ الفتى فتاته، ولكنه اليوم رجل يحب أنثى قد تصدّى وجودها لوجوده. ذهب الفتى وذهبت الفتاة، وبقى الرجل والمرأة. أيُّ سرّ عجيب يمس الفتاة اللاهية المتقلبة فإِذا هي تستحيل إلى وجودٍ كامل. . . إلى قلب يسع الدنيا. . . إلى حب ثابت حافل؟ أي سرّ هذا الذي يحيل عاشقها الفتى إلى قوةٍ زاخرة منشئة مبدعة متجلية، لا تقف ولا تتردَّدُ. أي سر فيها يمنح العين دقة ونفاذًا؟ أي سر ينفث في البصيرة وعيًا مستوعبًا لا يضيق؟ بل أي سر هذا الذي يرد إلى العبد حريته ليزداد في حريته تعبدًا للرّق؟ وينظر ذو الرمة فيرى الأُسَى (¬2) قد سبقته بين يديه. فما من شاعر من العشاق إلَّا قد ابتلىَ بمثل ما ابتلى به: امرأة ذات بعل لا سبيل لهُ عليها. أهي إذن "المرأة" وحدها لا الفتاة؟ أهي وحدها التي تحقق لهُ معني وجوده؟ فليذهب ليخالس الطرف إلى مى زوج "عاصم المِنْقَرى". ويركب ناقته "صَيدَح"، حتى إذا انتهي إلى ديارها لمح "ميًّا" مع الصبح تستقبل النهار. وتجلو بفَزع من أراك كأنه ... من العنبر الهندى والمسك يُصبَحُ (¬3) ¬

_ (¬1) من بيت لذى الرمة، وتمامه: أفي الدار تبكى أن تفرق أهلُها ... وأنتَ امرؤٌ قد حَلمتْكَ العشائِرُ حلمتك: وَصَفُوك بأنك حليم. (¬2) الأُسَى: جمع أُسْوَة. (¬3) الأراك: شجر تتخذ منه المساويك. يُصبح: يُشقَى العنبر الهندى والمِسك في الصباح

ذُرى أَقْحُوانٍ راحهُ الليل وارتقى ... إليه الندى، من رامة، المتروّحُ (¬1) هجانَ الثنايا مُغْرِبًا لو تبسمت ... لأخرس عنه، كاد بالقول يفصح (¬2) هي البرءُ والأسقام، والهمُّ، والمنى، ... وموت الهوى، لولا التنائى المبرح ويعود "ذو الرمة" إلى ديار أهله، إلى أخيه مسعود، إلى الذي جعل يركب معه الفلوات، يطيعه تارة حين يستوقفه على ديار مى، ويعصيه تارة أخرى ويلومه. ولم يزل ذاك أمره، يهيم في ديار مى أكثر من عشرين سنة، ومى لا تزداد في عينيه إلَّا ملاحة، ويتفجر شعره من قلبه، يشكو ما يلقاه من حبها، وما يقاسيه من البيد في الحنين إليها والوجد بها. ولا يلقى صاحبته إلَّا والحيُّ خُلوف، لم يبقَ في الديار إلَّا النساءُ، فيشكو لها ويتوجع، فتمسح عنهُ بعض عذابه. ويتردّد شعره بين البادية والحضر فلا يزال يعجب الناس ويحسده الشعراءُ. ويلجُّ الشوقُ بذى الرمة يومًا، فيركب ناقته في ليلة ظلماءَ يريد أن يضيف (¬3) "عاصمًا المنقرى" زوج ميّ، وهو يطمع في أن لا يعرفه فيدخله بيته، فيقريه، فيرى ميًّا، ويتزوّد من وجهها، ويكلمها. فلما نزل به فطن له عاصم وعرفهُ، فلم يدخله. وأخرج إليهِ قراه وتركه بالعراءِ، فلمحته مية تحت الليل فعرفته. وجعل ذو الرمة يتململ، فلما كان في جوف الليل تغنى غناء الركبان ببعض شعره: أراجعة يا ميّ أيامنا التي ... "بذى الرمث" أم لا؟ ما لهن رجوعُ! ولو لم يَشُقنى الظاعنون لشاقنى ... حمام تغنَّى في الديار وقوعُ ¬

_ (¬1) ذُرى الأقحوان: أعاليه، وهي جمع أُقحوانة، وهي نبتة طيبة، تشبّه بها ثغور النساء. (¬2) هِجان: بيض، وكذلك مُغْرِب، أو هو الشديد البياض. (¬3) يضيف: ينزل به ضيفا.

تجاوبنَ فاستبكينَ من كان ذا هوى، ... نوائح ما تجرى لهن دموعُ! دعاني الهوى من نحو ميّ، وشاقنى ... هوَى من هواها: تالد ونزيعُ (¬1) إذا قلت عن طول التنائى قد ارعوى، ... أبي مُنْثَنٍ منه علىَ رجيعُ فغضب عاصمٌ، وقام إلى امرأته وقال: قومى فصيحي به وسبيه، وقولي: أي أيام كانت لي معك "بذى الرمث"؟ فأبت ميّ وقالت لزوجها: يا سبحان الله! ضيف! ! والشاعر يقول! فانتضى عاصم سيفه وقال لها: لأضربنك به حتى آتي عليك أو تقولي! ففزعت وصاحت بذى الرمة وسبته كما أمرها زوجها. هذا صوت مى! ! ذهل ذو الرمة، فلما استقر في سمعه كلامها، نهض على راحلته فركبها. وانصرف عنها وعن ديارها مغضبًا يريد أن يصرف قلبه عنها إلى غيرها. وعاد إلى ديار قومهِ مغيظًا يتمزَّق، وأبى على نفسه ذكر مى. . . وهيهات. وجاء قَدَرُه، فخرج في سفر في بعض أصحابه، فلما كان بفَلْج -في طريق الحاج من البصرة إلى مكة- إذا جوارٍ خارجات من بيت يردنَ آخر، وفيهنَّ جارية طويلة، حسنة، حلوة، شهلاء، بها فَوَهٌ (¬2)، فنظر إليها فوقعت في عينه وفي قلبهِ المغيظ المحنق، وذكر ميًّا فأراد هذه يكيدها بها إذا تناقل الناس ما بينه وبينها، وما يقول فيها. فأخذ إداوَته (¬3) فخرَّقها، ودنا من هذه الجارية يبتغى حديثها فقال: إني رجل على ظهر سفر، وقد تخرّقت إداوتى فأصلحيها. فنظرت إلى عينيه وقالت له تهزأ به: والله إني ما أحسن أعمل، وإني لخرقاءُ! (والخرقاء التي لا تعمل بيدها شيئًا لكرامتها على أهلها)، فسماها يومئذٍ خرقاء. وانطلق يشبب ¬

_ (¬1) التالد: القديم. والنزيع: الذي ينزعه من مكانه إلى منَ أحب، يعني أن هواه أبدا متجدد. (¬2) الشهلاء: التي يخالط سواد عينها حُمرة أو زرقة، وهو ذَمٌ عندهم. الفَوَهُ: سعة الفم، وأيضًا خروج الأسنان من الشفتين وطولها. (¬3) الإداوة: وعاء يحفظ فيه الماء مثل المَزادَة.

بها ويذكرها في بعض شعره، يريد أن يغيظ بذلك ميّا، فرمى إليها أول ما رمى ببيت تداولته الرُّواة: تمام الحجّ أن تقف المطايا ... على خرقاءَ واضعة اللثام فجعلها منسكًا من مناسك الحج، لا يتم إلا به! ! ولكنه كان لا يطيق أن يدع ذكر مى فلم يقل في خرقاء إلا قصيدة أو قصيدتين، ورجع إلى ميّ. ثارت نفس ذي الرمة ثورتها على مى، وقلق، فاضطرب في البلاد حتى أبعد، فذهب إلى أصبهان، فلم يطق أن يقيم بها فعاد إلى دياره. . . صبيّ مروَّع يتفزَّع بالليل، وغلامٌ عاشق يتزوّد بعينيه من ميّ نظرة بعد نظرة، وبين جنبيه نفس ملتاعة يحرقها الوجد في وقدة البيد تحت الشمس السافرة، ثم شابٌّ تأكل الغيرة قلبه، يثور بالليل والنهار فزعًا إلى مى، إلى المرأة التي لا سبيل لهُ عليها إلا بالوساوس والأوهام. إلى أين ومن أين؟ من البادية ... إلى الحضر ... إلى البادية ... من الديار ... إلى الأطلال، ومى تناديه في سرَ روحه فيهوى إليها كأنه شهاب تقاذفهُ الفضاء. فلم يلبث ذلك الشاب القصير، النحيف، الخفيف العارضين، أن استحال شيخًا شَخْتًا (¬1) دقيق العظام، قد براهُ الحب والضنى ولما يشرف على الأربعين. حتى إن أمهُ لتقول، وقد تحلق الناس عليه واجتمعوا. فأنكر -من لم يعرفهُ- دمامته، : أيها القوم اسمعوا إلى شعره، ولا تنظروا إلى وجهه! ! فلم يلبث ذو الرمة على ذلك أن اشتكى "النُّوطة" -وهي زيادة تحدث في النحر كأنها غدَّة، تَمور بين الجلد واللحم إذا حركتها- فوجع بها دهرًا حتى قال: أَلِفْتُ كلابَ الحَى حتى عَرَفْنَنِي ... ومُدَّت نساج العنكبوت على رَحلى فلما تماثل عزم على أن يخرج إلى الشام، إلى هشام بن عبد الملك، فقال ¬

_ (¬1) الشخْت: الدقيق الضامِر.

لأخيهِ مسعود: يا مسعود! قد أجدنى تماثلت، وخفّت الأشياء عندنا، واحتجنا إلى زيارة بني مروان، فهل لك بنا فيهم؟ فقال نعم! فأرسلهُ إلى إبلهِ يأتيهِ منها بلبن يتزوّده، وواعده مكانًا. وركب ذو الرمة ناقته فقمصت به، وكانت قد أعفيت من الركوب، فانفجرت النوطة التي كانت به. فلما بلغ موعد أخيهِ جهد فقال: أردنا شيئًا وأراد الله شيئًا. وإن العلة التي كانت بي قد انفجرت. مكث أيامًا حتى ثقل، وكان معه من أخواله الحجاج الأسدى فسأله: يا غيلان! كيف تجدك! فقال: أجدنى والله يا أبا المثنى اليومَ في الموت لا غداة أقول: كأني غداة الزُّرق يا مى مُدنفٌ ... يَكِيد بِنَفْسٍ قد أحمّ حِمامُها (¬1) فلما احتضر كان آخر ما قاله: يا ربِّ قد أشرفتْ نفسي، وقد علمتْ ... علمًا يقينًا لقد أحصيتَ آثارى يا مُخْرِجَ الروح من جسمى إذا احتضرت، ... وفارج الكرب، زَحزِحْني عن النارِ فمن مبلغ ميًا منية هذا القلب الذي شب في حبها حتى هَرِم قبل حين هَرَم؟ ؟ ¬

_ (¬1) يكيد بنفسه: يجود بها عند الموت.

شاعر الحب والفلوات ذو الرمة 2

شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة - 2 - " هذا والله ملهمٌ! وما علمُ بدويِّ بدقائق الفطة وذخائر العقل المعدة لذوى الألباب؟ لله بلادُ هذا الغلام! ما أحسن قولهُ، وما أجود وصفه! ". الكميت بن زيد الأسدى الشاعر غلامٌ يتيمٌ عبقريُّ الطبعة، مشتعل العقل، ثائر العاطفة، نابض الأعصاب، لطيف الحس ذكى القلب، وَرِعُ النفس، جيَّاش الخيال: يرى أو يسمع، أو يتوهَّم، فيهتز كيانه من أعماقهِ هزة خاطفة، كأنهُ قوسٌ موتَّرة يُنْبضُها مشبوح (¬1) الذراعين شديد النزع. بعث اليتْم في دمهِ حرارة التحفُّز، وسعَّر في روحه ضِرام الحياة الملتهمة، وسلبهُ سكينة القلب الغرير الناشيء، فهو أبدًا جافلٌ متفزّع، كأنما يعارضهُ -حيثما توجه- شبحٌ يتخيل لهُ في صورٍ تروَعهُ وتَهُولهُ. ويقوم على تثقيف هذا الغلام اليتيم وتهذيبه، رجلٌ من عقلاءِ الرجال، وشاعرٌ مُقل من شعراءِ بني عدى بن عبد مناة، ثم هو أخوه الأكبر: "هشام بن عقبة". يشفق هشام على يتيمه "غيلان"، فيحوطهُ بقلب متودّدٍ، ويعطفُ عليهِ بنفس صادقة، فتشتد قوى الودّ بين الغلام اليتيمٍ وأخيهِ الذي يربِّبُهُ، وبذلك يكسب "الطفل" من عقل "الرجل" وذكائهِ وصدقهِ، عقلًا وذكاءً وصدقًا، حتى تنشقّ طفولته عن رجولة مبكرةٍ. ولا يزال الغلام ينشأ في سر البادية العربية الخالدة التي لا تكادُ تتغيَر، وفي جوّ الشعر العربي من أقدم عصوره إلى أيام شبابه [في أواخر القرن الأوّل من الهجرة من سنة 77 - 97]، وبين إخوة وأخوالٍ من شعراءِ البادية، وبين رواةٍ قد حفظوا شعر قومهم وغير قومهم. لا يزال الغلام ينمو على ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 102، مارس 1943، ص: 245 - 251 (¬1) مشبوح: عريض، يعني بُعْد ما بين الذراعين، وهذا أدعى إلى قوة النزع، وهو جذب وتر القوس لإطلاق السهم.

الأيام في ذلك كلهِ، حتى يمشي، في بادية قومهِ "بني عديّ"، بروح ثائرة متمرَدة عليه، تكافح طُغْيان البادية لتظفر بأسرارها المكتّمة. ينظر، وفي عينيه تلك اللمحة الحديد النافذة التي لا تدَعْ شيئًا إلَّا تغلغلت فيهِ أو أحاطت بهِ، لينالَ الخيالُ غذاءَه مما يرى. يُصغِى، وفي أذنيةِ تلك الحاسة الدقيقة التي لا تذرُ نغمة الّا اختطفتها، ليأخذ الشعور الرقيق حظهُ مما يسمع. ويُومض في قلب الغلام ذلك الضوءُ المتلاحق المتدارك الذي يضئُ لعينيه دنيا جديدة ثم يخبو، ليعود فيبحث عنها في الظلام ليجدها مرة أخرى. هنا، ثم ها هنا، ثم هناك! ! ! أين ضلت عنهُ؟ كيف ذهبت؟ لماذا اختفت؟ ما الذي رأَى؟ ويهتز الفتى لليقظة، يريد أن يجدها، ولابدَّ لهُ من أن يجدها. وفي سر البادية العربية الخالدة، وفي جو الشعر العربيَ الخالد، يدبُّ الفتى اليتيم الصغير بين إخوةٍ وأخوال من الشعراءِ، ورواة للشعر يتناشدونه في أسمارهم تحت هدأةِ الليل التي تموج فيها النفس الإنسانية مَوجَها. يصغى الفتى ويحفظ، ويخفق قلبه بين جنبيه على نغم حُلوٍ حبيب تتردَد أصداؤه في أرجاء روحهِ، حين ينقلب إلى مضجعهِ. ولا تزال ترنُّ في أذنيهِ تلك الأصداءُ مع الفجر إذا تنفَّس. ولم تزل البادية في عصر هذا الفتى تردّد أنغامها إيقاعًا عجبًا على ألفاظ اللغة، في شعر امرئ القيس فعل الجاهلية، ولبيد، وطرفة، وعنترة، والأعشى، والنابغة. ولكنَّ الفتى يتسمع إلى ذلك الحنين الخفيّ في نغم امرئ القيس وطرفة ابن العبد. ما هذه القوة المتدفقة من تحت الألفاظ، تعطيها الحياةَ فتحيى، لتغالب الدهور المفنيةَ المبيدةَ للحياة؟ وما هذه الصورة الممثلة التي تحبّب البادية إلى قلبه حبًا لا ييأس ولا يفتُر؟ كيف استطاع هؤلاءِ أن ينفذوا في الغامض الملتبس ليبعثوه في كلماتهم بيَنًا سهلًا يكاد يمشي ويتحرَّك؟ ! ثمَّ تَلْقَفُ مسامعه تلك الأنغام الجديدة التي تقذفها حواضر الحجاز والشام إلى بوادي نجدٍ: عمر بن أبي ربيعة، العرجيّ، الأحوص، عبيد الله بن قيس الرُّقيات! ! هذا الترفُ الجميل الذي يعبث بالحب ويعبث الحب بهِ. نساءٌ ينفثنَ على ألسنة هؤلاءِ سحر الغزل وفتنة الأحاديث. ويناظر الفتى -الذي صهرته البادية، ثمَّ صاغَتهُ، ثمَّ نفخت فيهِ

-بين هؤلاء، وبين امرئ القيس وطرفة ومن إليهما من فتيان الجاهلية وفُتّاكهم وأصحاب اللهو منهم. ولكن شعر المعاصرين يقبل على قلبه وعقله بغضارته ولينه وترفه، ثم ينفذ فيهما بسطوته، سطوةِ الجديد المتحكم. يتمنى الفتى أن يرقَّ رقة هؤلاء الغزلين، إن في روحه سرًا يتحرك، إنهُ يريد أن يقول. وتتبع عين "الفنّان البدويّ" أَوانِسَ البادية، كما تبعت عيون الشعراء المعاصرين أوانس الحاضرة في الشام والحجاز، ولكنهُ لا يستطيع أن يقول كالذي قالوا. إن قلبه لا يزال مغلقًا على قَدَره الذي سيحين وقد قارب. وتجيش أمواج الشعر في صدره لتكون إرهاصًا للقدر المُجْلِب عليهِ من بعيد أو قريب. فيعالج بداوته التي حكمته وأنشأتهُ، بتقليد الرقة التي يستشعرها من فنّ الشعراءِ الفتيان المعاصرين، وينظر إلى ابن أبي ربيعة الذي فتن نساءَ عصره، يريد أن يكون كمثلة ترفًا وغزَلًا وحديثًا، وهيهات! إنهُ سرُّ البادية العربية، وابن أبي ربيعة سرُّ الحاضرة العربية، لكنهُ سيقول على نهجه غير متلبث، إلى أن تنتفض روحه انتفاضتها: شاعرةً مبينة متحدثة على سجيتها. فماذا يقول؟ : أطاوع من يدعو إلى رَيق الصِّبا ... وأترك من يَقْلَى الصبا لا أُؤامرُهْ وسِرب كأمثال المَها، قد رأيته ... "بوَهْبينَ": حورُ الطرف بيضٌ محاجرُهْ إذا ما الفتى يومًا رآهن، لم يزلْ ... من الوجد كالماشى بداء يُخامِرُهْ يُرين أخا الشوق ابتسامًا كأنهُ ... سنا البرق في عُرْف له جاد ماطِرُهْ (¬1) فجئتُ وقد أيقنتُ أن تستقيد لي ... وقد طار قلبي من عدوّ أحاذِرُهْ ¬

_ (¬1) عرف السحاب: أعلاه الذي يتدلى منه كعرف الفرس متهدلا.

فقال: بأهلى! لا تَخَف! إن أهلنا ... هجُوعٌ، وإن الماءَ قد نام سامِرُة فأين البادية، وأين ابن البادية في هذا الشعر؟ لقد ضاع ابن البادية ولم يبق له من بداوته إلَّا قوله: "وإن الماءَ قد نام سامره"، فإِن أهل الحواضر لا يقولون ذلك، وإنما هذا كلام الذين ينتجعون الغيث في البوادي، وينزلون على الماءِ في الفيافي الظامئة. وأما أهل الحضر فيقولون: "إن الحيّ قد نام"، وينسون الماءَ لقلة افتقادهم إياه في الحاضرة، أو يقولون كما قال عمر بن أبي ربيعة: فما رِمْتُها حتى دخلت فجاءَة ... عليها، وقلبي عند ذاك يروَّعُ (¬1) فقلن حذارَ العين لما رأيننى ... لها: إن هذا الأمر أمر سيشْنُعُ فلما تجلى الروع عنهنَ قلنَ لي: ... هلَّم! فما عنها لك اليوم مَدْفع! فَظَلْت بمرأى شائقٍ وبمسمع ... ألا حبذا مرأى هناك ومَسْمَعُ! ! إن فنان البادية يقلد هؤلاءِ الحضريين، فهو يطاوع أصحاب اللهو والبطالة، لا يبالى بمن يلومه وينهاه. وهو يملأ عينيه من جمال الفتيات، يغازلهن ويحادثهن ليعود إلى دارهِ مترنحًا يتهالك من صبابته بهنَّ. ثمَّ يتفتَّى فيدَّعى أنهُ انفرد بواحدة من بينهن قد تيقَّن -أو خيل لنفسه أنهُ يتيقن- أنها أمكنته من نفسها، وأنها لابد منقادة له، فواعدها فجاءَها لميعادها على رِقْبة من أهلها خائفًا فزعًا، فتحدثهُ صاحبته بما يسكن روعه. تفدّيه بأهلها حين يقبل عليها، ثم تميل عليه فتقول: لا تخف! ثم تبتسم له وتُخافت صوتها لتعلمه أن "أهلها هجوع، وأن الماءَ قد نام سامره". فهذا شعر غُفْل لم يوسم بسِمَة امرأة بعينها قد فرغت لها نفسه، وإنما هنَّ النساء: غانيات مطمعات بالحب لاهيات. وهو يتهالك في شعره تهالك "الماشى بداءٍ يخامره". ثم يعود بخيلاء شبابه فيحدث نفسه أن الفتاة خاضعة له، ثم يحاول أن يتمثل الفزع ليزعم أن الفتاة قالت له وقالت! ! هذا شعر الغزلين من أهل الحضر، لا شعر الفتى الذي كان -إذ ذاك- يتهيأ في داخله ليستوى على ذروة الشعر العربيّ الفنيّ، حتى يخرّ له شعر العشاق والفنانين من ¬

_ (¬1) رام مكانه يريمه: تركه وغادره.

أهل الجاهلية كامرئ القيس، ويسجُد بين يديه شعر المعاصرين كجرير والفرزدق والأخطل! إنهُ إلى اليوم فتى حائرٌ يقلد، لم يستول على طريقته. ولم يلبث الفتى أن انتبه من غفلة على صوت جديد ونغم فنيّ ساحر: ذلك النغم البدوى الذي يترجم عن حب صاحبه للبادية، وعن عشقه للإبل، فهو ينعتها نعتًا لم تسمع أذن عربيّ مثله، فحل من شعراء الإِسلام المعاصرين، "عُبَيد بن حصين" الذي لقبوه "الراعى"، و "راعى الإبل"، لشدة شغفه بالإِبل وجودة لغته لها. ويهوِى "غيلان" إليه، ويلازم شعره يرويهِ ويتتبعه، ثم يصاحب هذا "الراعى النُميرى" حتى يكون راويته ويجعله إمامه. ولكن الفتى لم يخلق للإِبل ونعتها فيقصر قلبه عليها. إنهُ سرّ البادية، ولن تكون الإبل وحدها هي كلَّ همه من البادية، ولكن هكذا قدر لهُ، فيصحب الراعى ويحبه ويسلك معهُ المسالك، ليأخذ عنهُ دقة العبارة عن غامض النعوت والأوصاف، وليزداد تأملًا فيما يرى من أسرار البادية، كتأمل "الراعى" في الإبل التي استخرج غاية أوصافها. ولكن. . . إن بين جنبى هذا الفتى قلبًا يرتعد. قلبٌ محروم ظامئٌ يبحث عن رِيّهِ. هؤلاءِ النساء! أهو يبحث عنهنَ ليلهو بهن كما يلهو عمر بن أبي ربيعة وأشياعه، أم يبحث بينهنَ عن سرّ ضائع يريد أن يجده؟ أيقول كما قال أوّلا وهو يقلد ابن أبي ربيعة؟ . . . كلّا بل يقول: وبيضًا تهادَى بالعشي كأنها ... غمام الثُّريَّا الرائحُ المُتَهَلِّلُ (¬1) خِدالا قذفنَ السورَ منهنَّ والبُرَى ... على ناعم البَرْديّ بل هنَّ أخدلُ (¬2) قصار الخطى يمشينَ هَونًا، كأنهُ .... دبيبِ القطا، بل هنَّ في الوعَثْ أَوْحَلُ (¬3) نواعمَ رَخْصاتٍ كأن حديثها ... جَنَى النحل في ماء الصفا مُتَشمَّل رقاقَ الحواشي، مُنفذِاتٌ صدورُها ... وأعجازُها، عما بهِ اللهو، خُذَّل أولئك لا يُوفينَ شيئًا وعدنهُ ... وعنهنَّ لا يصحو الغويّ المعذَّل ¬

_ (¬1) الرائح: مطر العشى. المتهلل: السحاب الماطر. (¬2) خدال: ممتلئات. السور: جمع سِوار. البرى: الخلاخيل. وعنى بالبردي: سواعدهن وسوقهن لنعومتها. (¬3) الوعث الرمل اللين. أوحل: أكثر وقوعا في الوَحْل.

هذا هو ينقلب إلى بداوتهِ! إلى رقّة البادية العنيفة في رقّتها. أجل هنَّ النساءُ أيضًا، ولكنهُ لا يَتَضنَّى ولا يتهالك، بل يصف وهو جليدٌ، يقول هنَّ بيضٌ تتهادى، ثم يصرخ صرخة الظامئِ إليهنَّ يريد أن يروى منهنَّ ما استطاع، فهنَّ الغمام في آخر اليوم يتهلل بالمطر. هكذا رآهنَّ جملة أول ما رأي، ثم تستقرُّ أشواقهُ فيتأمل تلك الأبدان الفاتنة، فإذا الساعدُ ريَّان ممتلئٌ، وإذا الساق تامةٌ مستويةٌ لا عَضِلةٌ ولا مضطربة، كأنها ساق البردى في نعومتهِ ولينهِ بل هنَّ أخدل وأشد امتلاءً واستواءً. ثمَّ يراهنَ تتبعهنَّ نفسهُ، فيفارق سَورة المشتاق إلى هدأة المتأمّل، فيرى خطوهنَّ كأنهنَ قَطا يدبُّ على الرمل، بل هنَّ في مشيتهنَ في الرمل اللين السهل أحلى مشيةً. كأنما يخشينَ أن ينهال الرمل من تحتهنَ. ثم يدنو إليهنَّ فيسمع اللحن الحلو الفاتن الذي يروى من ظمئهِ، إنهُ في نفس أحسن بردًا من شهدٍ مذابٍ في أخصر ماءٍ وأبرده وأنقاه، ثم يسكن ظمأه إليهنَّ شيئًا فشيئًا، فيرى كلماتهن تنفذ في سر قلبه، فإِذا أراد منهنَّ، ما كان يجد في كلام ابن أبي ربيعة وأمثاله من الفتيان اللاهين بالحب، وجد من حديثهنَّ، بعد الإطماع، ما يخذله وينهاه. فتضطرب نفسه من أعماقها باليأس منهن بعد الأمل، فيقول: أولئك لا يوفينَ شيئًا وعدنهُ ... وعنهنَّ لا يصحو الغوى المعذّل فهذا هو البدويُّ الفنان قد عاد مرة أخرى إلى البادية وأنكر لَهْو الحضر ورقته. ثمَّ ينطلق بعد ذلك -وقد كسب من "الراعى النميرى" دقة التأمل- يصف هذه الأرض التي نمشى عليها فيقول: فما أمُّ أولاد ثكولٌ؟ وإنما ... تبوءُ بما في بطنها حين تَثْكَلُ يسائل: ما هي أمُّ أولادٍ، ومع ذلك فهي لا تزال تفقدهم، فإذا فقدتهم امتلأَت بطنها بهم كما تمتلئ الحامل، فيثقلها هذا الحمل الجديد، يعني من يموت من الناس. أَسَرَّتْ جنينًا في حشّا غيرَ خارج ... فلا هو منتوج ولا هو مُعْجَلُ وهذا الذي يموت، فتُخْفِيه في حشاها، ويعود بدفنه جنينًا، لا هو يخرج إلى

الدنيا مرة أخرى مولودًا لوقته، ولا هي تلقيه سِقْطا مُعجَلًا قبل ميعاد مولده، بل هو أبدًا جنين مستقرٌ لن يرى نور الدنيا ثانيةً. تموتُ وتحيا حائل من بناتها ... ومنهن أخرى عاقرٌ، وهي تحملُ ومن بناتها أرضون حوامل، وحملها هذه القرى، تكون عامرة تارة وخرابًا تارة أخرى، فالقرى تحيا إذا كانت عامرة، وتموت إذا صارت خَرابًا. ومن بناتها أرضٌ هي البيداء، وهي عاقر لا تحمل قرى، ولكنها تحمل الناس من البداة الذين يسكنونها وينتجعون مراتعها: تراها أمامَ الركبِ في كل منزلٍ ... ولو طالَ إيجافٌ بها وترحُّلُ وهي بساط بعيدٌ مترام لا يتناهي، فهو أبدًا أمام السَّفْر. كلما ساروا وأوغلوا، لم يستقبلوا إلَّا أرضًا ولا شيء إلَّا الأرض، فهي: تُقَطعُ أعناقَ الركابِ، ولا ترى ... على السير إلَّا صِلْدِمًا ما تَزَيَّلُ إذ كل من أراد قطعها شَقِى في طَيها حتى تكاد أعناق ركابه تنقطع، وهي هي لا تنتهي حتى يخيل إليك أنك لم ترحل فيها عن مكانك، فكأَنك ركبت من هذه الأرض راحلة شاقة صلبة لا تفارق مكانها: ولو جُعلَ الكُور العِلافي فوقها ... وراكبُهُ أعيتْ به ما تَحَلْحَلُ فلو وضع الرحل فوق هذه الراحلة، أي الأرض، ثم علاه الراكب، لأبت ولم تتحرك من مكانها. ومع ذلك فإِن راكبها لو أراد أن تتحَرك به فإِنهُ: يرى الموت إن قامت، وإن بَرَكت بهِ ... يرى موتَهُ عن ظهرها حين ينزلُ فإِن الأرض إذا همت براكبها وارتفعت عن مكانها فذلك نذيرٌ بفناء الكون وقيام القيامة؟ وإن ثبتت به لا تتحرك فإِنه يرى ويستيقن أن ساعة موته قد دنت لينزل عن ظهرها. وهذه هي الأرض المفنية المحيية التي وصفها. فلما قارن بينها وبين الراحلة التي تُركب لتقطع عليها مسافة الرحلة، أتى بالدليل على ذلك وهو: أنها: تُرَى ولها ظَهْرٌ، وبطنٌ، وذِروَةٌ ... وتشرب من بَردِ الشراب وتأكلُ

فالبطن جوفها الذي يغيب فيهِ كل شيء وكل حي إذا فارق الحياة الظاهرة، وظهرها جلدتها من الثرى والرمال، وذروتها وسنامها هذه الجبال، وإنها -أيضًا- لتشرب ماءَ الأمطار إذا نزلت عليها، وتأكل كل ما يلج في بطنها من شيء. فهذه الأبيات في صفة الأرض، وهذا الخيال الذي توهمها، هو خيال الفتى المتأمل الذي بدأ يقف على مكامن الأسرار، لينفذ إليها، ويكشف عنها ببصيرة الشاعر الفنان المصور. وفيها سُخْرِية الضمير من الحياة التي لا معنى لها إلَّا الإجهاد الذي لا ينتهي، وفيها قوة "ابن البادية" الذي يستطيع أن يلم شعث الأَشياء المتفرقة ليستفيد من النظر إليها، ثم يلقيها ساخرًا مستخفّا لا يبالى. فما أمُّ أولادٍ ثكول. . . إلَّا مطية لها "ظهرٌ، وبطنٌ، وذروةٌ، وتشرب من برد الشراب وتأكل"، فمصيرها مصير كل مطية، هو الموت، هو إقبال الفناء بالهدم والتدمير، فمن وثق بالبقاءِ عليها وهي فانية فقد جهل وضلّ. ثمَّ لا يزال الفتى، في أشواقه وتأملهِ، يقطع البيداء في الرحلة بين الديار والقبائل، في صحراء فاتنة ساحرة، ومَوْماةٍ مَخُوفة مَهُولة: ومَهْمَه دَوِّيَّة مِثْكالِ ... تَقَمّسَت أعلامها في الآلِ كأنما اعتَمَّت ذُرَى الجبال ... بالقزِّ والإِبْريسَمِ الهلهالِ في كل لمّاعٍ بعيد الجالِ ... تسمعُ في تيهائه الأفلال عن اليمينِ وعن الشمال ... فَنَّينِ من هماهم الأَغوالِ (¬1) ويرى بقر الوحش، والثيران، والظباء، والنعام، والقطا، والجندب، والحرابى، والغراب، والذئب، فيرى ويسمع وينصت ويتأمل، وتستجيش نفسُهُ إليها صورًا من خياله القوي العنيف، فتترك الباديةُ وَسْمَها عليهِ، ذلك الوسم الذي لا يفارق من وَسَمَتْه بهِ. ولكنهُ على ذلك حائر لم يجد دنياه التي رآها أول ما أومض في قلبه ذلك الضوءُ المتدارك الذي لم يلبث أن خَفت. إنهُ يبحث عنها في ¬

_ (¬1) المهمه: الفلاة. الدوية: تسمع لها دويًا لخلائها. وتقمست: تغوص ثم ترتفع. والآل: السراب والأعلام: الجبال. واللماع: السراب اللامع. بعيد الجال: بعيد الجوانب لا شاطئ له. والتيهاء: التي يتاه فيها. والأفلال: التي لا يصيبها المطر. والأغوال جمع غول. (شاكر)

كل وجه. ويطول بحثه وفكره، وتتهيأ نفسهُ مستعدةً للتلفي أعظم أستعدادٍ، إنها نفس دقيقة حساسة لا تتبلّد. وجاءَ القدر، فيخرج الفتى هو وأخوه "مسعود" وابن عمّه "أوفى"، في بِغاء إبل ضلت لهم، ويدخل على "مى" وهي تتغنّى (¬1). ذلك الصوت الذي يتحدر من سمعه إلى قلبه فيرسل فيهِ قشعريرة الإفاقة من إغماءِ طويل كان فيه هذا القلب. إن ألحانها قد أضاءَت فيه نبراسًا من النغم لن تزيده أعاصير الحياة إلَّا ائتلافًا وضياءً. ذلك الحديث بينها وبينهُ -وهي تصب له الماءَ في قربته- سيزيد على مرّ الأيام جدَّة في حقيقة روحهِ. أيُّ تعبير في الحياة كلها عن الفن والجمال هو أروع من هذا المنطق الرخيم، تفترُّ عنهُ ثناياها كما يفترُّ الفجر عن صباحهِ؟ أيّ فتنة في هذه الدنيا هي أنبل من حرّ هذا الوجه الأسيل المخروط المسنون الذي صقَلتهُ أسحارُ البادية وآصالها؟ أيُّ لذة في هذا الوجود هي أمتع من هذا الجِيدِ المتمرّد على جسد أهيف أملود يتحدَّى كل قوة في كل جمال؟ أيُّ متاع في هذا العالم هو أغنى من هذا الشَّعَر الجَثل الأثِيتِ المتموج على متنها، ينادى كل عاطفة لتضل في دياجيه الساحرة؟ أيُّ دنيا هي أعمق أسرارًا من هاتين العينين الصافيتين تسبح في صفائهما الروح إلى الغاية التي تُرَى ولا تُدرَك؟ ؟ وينصرف الفتى من لقائها، وفي سمعه نغماتها، وفي عينيه صورتها، وفي قلبه هواها، وفي روحه لذة خالدة تزداد على الأيام عِتْقًا ونفاذًا. فلئن أشقاه الحرمان بالرحيل، فلشدّ ما أسعده أن وجدها. فهو بين اللذة والألم يتردد، ولكنه في شَجوٍ يطربهُ كما يحزنة، ينال بأثريه في قلبه فرحةَ وجودها. لقد تزوّد منها نظرة وابتسامة وحديثًا. أنسته النساء وما فيهنَّ، وصرفته إلى طيف يُلم بهِ في مضجعهِ، ويعارضه في طريقه. يناديه إذا خَلا، فيأتيه جواب دعائه من أعماقه. . . صوتها، ألحانها، عيناها، كل شيء رآه منها أو سمعهُ يستجيب لهُ. ولكن القدر يعدُّه ليتلقى من "ميّ" ما هو أعظم من الفرح بحبها ووجدانها، فيتركه ينطوى ¬

_ (¬1) انظر مقتطف فبراير 1943 ص 125 - 130 (شاكر. وانظر الجزء الثاني من المقالات ص: 742

عليها، ويتسلى بها في خلوتِه فرحًا أن يزورها من عامهِ في ديار أهلها كما زارها من قبل. فيرجع إلى ديار بني مِنْقَر، لعامه هذا، فيجد القوم قد ارتحلوا عن منازلهم "بالوحيد"، فيقف على ديارها يسائل نفسه عن ميّ وأهلها، وكذلك يعرف الفتى منذ اليوم ما معني الوقوف على الديار، وما لذة مساءلة الأطلال، يعرفها تجزبة في قلبه، لا معرفة من شعر من سبقهُ. فإذا عاد إلى دياره -مؤملًا أن يعود إلى "ميّ"، فرحًا بما عرف من لذة الوقوف على أطلالها- قال: "هل تعرفُ المنزلَ "بالوحيدِ" ... قَفْرًا محاهُ أبدُ الأبيدِ؟ " "والدهرُ يُبلى جدَّة الجديدِ! ! ... . . . ." فإِذا أتمَّ تساؤله، وعرف لذة ما كان فيهِ من موقفه هناك، أجاب نفسه فقال: "نعم! فأنتَ اليومَ كالمعمود ... من الهوى أو شَبَهُ المورودِ" يجيب نفسهُ مختالًا: نعم، ثم يصرف القول كأنهُ يخاطب آخر غيره فيقول له متعجبًا نعم: لقد عرفت، فأنت في يومك هذا كالمريض الذي هَدَّه المرض فهو يُسنَد من جوانبه ليستوى، أو مثل المحموم الذي وردتهُ حُمَّى نافِض (¬1)، فتلك الحمى هي ما وجدتَ في روحك من قشعريرة الشوق والذكرى. ثم يصرخ يناديها: "يا ميُّ! ذاتُ المبسمِ البَرُودِ ... بعد الرقادِ، والحشا المخضودِ" "والمقلتينِ وبياضِ الجيدِ" ولكنهُ يعود فيذكر حديثها إذ قالت له -وهي تصب الماء في قربتهِ- تلومه على ارتكاب السفر، وهو صغير حديث السن، فيقول: يا ميُّ! "أهلكتِنا باللومِ والتفنيد" أهلكتنا! عجيب هذا الفتى البدوى كيف يرقّ ويقسو، ولكنه يعود فيعتذر لنفسهِ عن ملامتها وتفنيدها. مسكين! إنهُ يخاف عليها حتى في خلوتهِ وشعره، فيقول: هذا عذرها، إنها "رأت شُحوبى، ورأت تخديدى ... من مُجْحِفاتِ زمني مِريد" ¬

_ (¬1) يقال: أخذته حمى نافِضٍ (على الإضافة) وحمى نافِضٌ (على الوصف).

"نقّحنَ جسمى عن نُضار العود ... بعد اهتزاز الغُصُن الأملود" ثم يعود فيقول: كيف أعتذر لها؟ إنها رأت هواى لها فصدَّت عني، فيقول لها: "لا! بل قطعتِ الوصل بالصدودِ" ألم يكن ذلك كذلك؟ وإلا فلمَ: "قد عجبتْ أختُ بَني لبيد ... وهربتْ مني ومن مسعود" وإذن فهو الصدود والإِعراض بعد الوصل. أجل! إنها أيضًا تخاف أن يكون بيني وبينها هوَى غالبٌ، وبيّنة ذلك أنهُ لا يمكن أن يكون سرُّ صدودها أنها: "رأت غلامي سفرٍ بعيد ... يدَّرعان الليل ذا السدود" "مثل ادِّراع اليَلْمَقِ الجديد" كما تدعى، فإن هذا الأمرُ لا يوجب دهشةً ولومًا وتفنيدًا، وإذن فهو الصدود، هو الصدود يا ميُّ! ! ويبيت يمنى النفس بغدٍ يراها فيه، فهو يتهيّأ لها، ويزوّر الأحاديث في نفسه للقائها، ويومئذٍ تجد صدُودها وإعراضها قد انقلب شوقًا وصبابة وإقبالًا على فتاها! هكذا كان يقول ويقدِّر، والقدرُ من وراءِ الحجُب يقول: على رِسْلك أيها المغرور! !

شاعر الحب والفلوات ذو الرمة 3

شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة - 3 - " ذو الرّمة يخبر فيُحسن الخبرَ، ثم يردُّ على نفسه الحجّة من صاحبه فيحسن الرد، ثم يعتذرُ فيحسنُ التخلّص، مع إنصاف وعفاف في الحكم" أبو عبيدة تتحدَّث الباديةُ بأسرارها حديثَ اللَّوعة الخالدة في ضميرها، فتحنُّ الرياح وتئنُّ من أرجائها، ويقفُ "غيلان" يصغى إليها حتى تجاوبها نفسه فتناجيها بأشواقِها إلى "مى"، هذه اللوعة المتنهّدة في سر حياتهِ، فيحنُّ مع الريح حنينها ويئنُّ أنينها، ولكن ميعةَ الصِّبا، وغرَّة الشباب، وبراءَة الروح من عذاب الحب، تأبى عليه كلها أن يحزن مع هذه الرياح الباكية حزنًا كحزنها يستهلك النفس في طغيانهِ وعتوه. فَرِحٌ غافل: قد وجد دنيا كان يقلقُ إليها، ينشقُّ عن أسى لاهٍ: إذْ تعذَّرت عليه دنياهُ وهو يتصبب إليها. يقف "غيلان" وإن دمه ليتوهَّج متدفّقًا في مدافِعِهِ، وإن آمالهُ لتستقبلهُ من كل وَجْهٍ تومض إليهِ إيماضةَ البرق في حواشي السحابة السوداءِ، وإن خياله ليمثل لهُ ميًّا وأيامها جنةً ناعمة تتفيَّأ النفس من ظلالها متاعًا لا تنقضى لذتُه. وتجيشُ غوارب الشباب بين جنبيه متلاطمة يتكفَّأ بعضها على بعض، فتنبعث قوته بتيارها مريدة مصممةً راغبةً، لا تنثني عن هذا الهدف الذي نشأ أمامها ففتنها ودلّهها. فهو يريد "ميًّا"، ويريد من أجلها كل شيء. سيسمو إلى "مى" بنفسه وحياته وشعره، وسيمنحها النفس والشعر والحياة غير ضنين. سيذهب المذاهب فيها، سيطوى البيد كالطف في ضمير الليالي، وسيجتابُ الحضر كالشعاع في مسرح الشمس، وسيأتيها بثمار الحياة ناضجة تغرى وتنادى، فتستجيب لها "ميُّ" من أعماق روحها مشتاقة منقادة. سيقذف بنفسهِ في كل سبيل، لتردّد البيداءُ ¬

_ (*) المقتطف، المجلد 103، يونيو 1943، ص: 41 - 47

والحضر صدى خطواته نغمًا حلوًا ينساب فيأخذ كل سمع ويستميل إلى شجوه كل جنانٍ. سيجعل اسمها لحنًا بدويًّا عنيفًا رقيقًا بعيد القرار متجاوب الإيقاع، ينبسط في جوّ الشعر العربي فيلين القلوب القاسية، ويذيب الكباد المتحجرة، ويحيى بالشوق من أهلكتهُ الصبابة وأحرقهُ الوجد وذرّاه (¬1) الهيام، وتلتفّ حولهُ عشرون عامًا مضت عليهِ من يوم وُلد كأنها أغلالٌ وسلاسل، فهو يجاهدُ أن يفضَّها عنهُ ليحرر لميّ كل حياتهِ وكل همهِ وكل أمانيهِ، فإذا فعل فقد رجَّعت البادية اسمه واسمها، وثارت ميٌّ إلى الصوت تستشرف، لترى هذا القلب العاشق المتيَّم الذي استكنَّ في صورة رجل بدويّ لا تمسك الطرف على محياهُ فتنة ساحرة أو جمال بارع، ويومئذٍ لا تأبى عليهِ مىٌّ إباءَها، بل تعرف ذلك الفتى الذي وهب لها من عينيه وقلبه عَلاقة الأبد. هكذا كانت تقول له نفسُه، وهكذا جعلت خطرات الهوى تندفع بهِ في تأمُّله، وتمر الأيام بهِ وهو يلحُّ على نفسه إلحاح الحائر المحروم يتعجَّل ميقات ما يتشهَّى أن يكون ولكنه لا يجد من حيلتهِ إلا أن يفيض إلى ديار ميّ يطوف بها، يختلس النظرة إليها وهي على باب خبائها تستقبل الشمس بسُنَّة وجه تتلألأ عليها أشعة الشرق، فتكسوها غلالة من بهاءٍ يتلهَّبُ، حتى تضطرم في قلبهِ نار الوجد عليها. أو يلمحها وهي تنعطف بجيد غزال تريد خباءَها فتنعطف في إثرها دواعى هواه. فكانت هذه الخطراتُ مما تزيده شوقًا وغرامًا وصبابة، ثم يعود قد طوى النفس على ظمإ يائس، لم يروَ إلا ليستأنف شدّة والتياحًا (¬2). هكذا كان يتقلب غيلان في أيامه ولياليه. أما ميّ فكانت لا تحس شيئًا، ولا تجد لغيلان في نفسها صدًى أو ذكرًا. إنهُ شيءٌ كان ثم مضى، لم تلتفت إليه الفتاة التفاتة الحريص المدّكر. ويحوم "غيلان" يومًا حول ديار "مي" بأسافل "الدهنا"، وإذا هي تغسل ثيابًا لها ولأنها في بيتٍ رثٍّ من الشعر، فيهِ خروق يرى الناظر منها ما وراءَها. ¬

_ (¬1) ذرَّاه: أضعفه وبدَّد قواه، وأصله للريح تدفع التراب فتنثره وتبدّده. (¬2) الالتياح: شدة العطش.

ويلمحها متجرّدة متكشفة ليس بينها وبين عينيه إلّا الهوى ومهالكهُ. لقد ارتدّت هذه اللمحة إلى قلبه حريقًا يتسعر حتى أتلفت كل ماضيه، أنهُ رجلٌ ليس له ذكرى إلّا ذكرى واحدة سوف تعرض لهُ مع كل مشرقٍ ومغيبٍ، فلا يذكر من مواضى أيامه إلّا ما رأى في يومه هذا. . . فتنة وغرامًا وتعذيبًا لا تنتهي غوائلهُ. يمضي على وجهه كالهارب من لذْع ما يجد، ولكنهُ لا يلبث أن يعود لينظر النظرة الأخرى، فلا يجدها إلَّا قد لبست ثيابها وجلست إلى أمها تحدثها على باب الخباءِ. ويذهب ويجئُ في تحرُّقه، فتسوّل لهُ نفسهُ أن يقبل على مىٍّ وأمها ليسمع حديثها من قريب، فيدَّعى لهما أنهُ أضلَّ بعيره فهو ينشده، فما يروعه إلّا أن تدعوه العجوز فيدنو ويجلس إليهما، وجعلتا تناقلانه الحديث سرْدًا واحدًا لا تسألانهِ ولا تستخبرانه عن شيء من أمره. أغفلتهُ الفتاة وجهلتهُ أمها، كأنْ لم ترياه من قبل. أهكذا تقتحمُ "غيلانَ" عيونُ الناس فلا تأبه له ولا تبالى بهِ؟ فيتربَّد وجههُ، وتختلج شفتاه، وينطلق مسلمًا مودّعًا ثائرًا كأنما نهشتهُ في مجلسهِ حيةٌ أو أطارتهُ جِنَّةٌ عن حلمِه، وينصرفُ أشد ما كان يأسًا ووجدًا وهيامًا. تعجبُ مى لما ترى مما غفلت العجوز عنهُ. إنه ينظر إليها بعينين ترى في شعاعهما لهبًا، وفي وقعهما لذعًا، وفي تتابعهما معمعة تتكلم كلامها ولا تبينُ. وتلتفت ميّ إلى عجوزها وتقول: أمَّاه! تالله أنه للفتى العدوىُّ الذي دخل علينا حِواءنا عام أول يستسقى! ! إنه لهو ذو الرُّمة قد ثاب إلينا! وكأني يا أماه قد قرأت في عينيه أنهُ اطلع عليّ آنفًا فرآنى متجردة من حيث لا أرى ولا أشعر! ! اذهبي يا أماه فقصِّى أثره من حيث لا يراك .. وتعجل أمها وراءه وقد ذكرته وعرفته، وتعود إليها تقول: أرأيت يا ميّ؟ إنه والله لهو ذو الرمة! لقد أخذته عيني من قريب وهو لا يرانى، ولقد رأيته يتردد آنفًا أكئر من ثلاثين طرفة، كل ذلك يدنو فيطلع إليك ثم يرجع على عقبيه، ثم يعود. وإني لأخاف عليك بعد اليوم يا بنيَّتى، فقد وقعتِ في لسان شاعر فيما أرى، وما أنسى ما حييتُ ما قال لي فيك: أما والله ليطولنَّ هيامى بها! اللهمَّ إنا لا نسألك ردَّ القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه!

ويعود ذو الرُّمة إلى دياره غضبانَ أسِفًا، ولكنهُ قد عزم وصمم. فستكون له مى عرفتهُ أو أنكرتهُ، وسيهدى إليها بشعر يضئ لعينيها طريق قلبها رضيتهُ أو كرهتهُ، وسيقذف على ألسنة الرواة، من شعره الذي يذكرها فيهِ حتى تتلقف الآذان اسمها فتطلع إليها وإلى أخباره وأخبارها، فلا يلبث من فوره أن ينشد الناس في الأندية ذلك الرجز الذي ذكرناه آنفًا: "هل تعرف المنزل بالوحيد؟ "، ثم يُرْدِف إليها ذلك الرجز الآخر الذي يقول في أولهِ: "قِفا نُحَيِّى العرصاتِ الهُمَّدا ... والنؤْىَ، والرميمَ، والمُسْتَوْقَدا" (¬1) والسفعَ -في آياتهنَّ- الخُلَّدا" (¬2) والذي جعل يتكذب فيهِ بما لم يكن وما لم يرَ من مىّ ومن صواحبات لها، فيقول يذكرها ويذكرهنَّ، وأن الديار ورسومها قد هاجت كمده: "أَوْلَى -لمَن هاجت له- أن يَكْمَدا ... أَوْلَى، وإن كانتْ خلاءً بعَّدا" (¬3) "وقد أرى والعيش غير أنكدا ... ميًّا بها، والخَفِراتِ الخُرَّدا" (¬4) "غرَّ الثنايا يستبينَ الأَمْردَا ... والأَشْمَطَ الرأس وإن تجلَّدَا" (¬5) "قواتلَ الشَّرْقَ قتيلًا مُقْصَدا ... إذا مشينَ مِشْيَةً تَأَوُّدا" (¬6) هزَّ القَنا لانَ وما تَخَضَّدَا ... يركضنَ رَيْطَ اليَمَنِ المُعَضَّدا" (¬7) وسالت أودية بني عدي بهذا الشاعر الذي نبغ بينهم، وتناقلوا ما أنشدهم، وتساءل القوم: ما "ميّ" هذه التي يذكرها؟ وكل امرئ يخشى أن تصيبه معرَّة هذا اللسان العاشق حين يتولج إلى حرمه بالصبابة والوجد. وأقبل على "غيلان" ¬

_ (¬1) النؤى: حَفْر يكون حول الخباء يمنع الماء. الرميم: الرماد. (¬2) السفع: الأثافي، تضرب إلى السواد فيهن حمرة. (¬3) بعدا: كذا بالأصول، وبعيد لا تجمع على بُعَّد. ورواية الديوان وسائر المصادر: يُيَّدا: أي نائية. (¬4) الخرّد: الحَيِّيات. (¬5) الأمرد: الذي لم تنبت له لحية بعدُ. الأشمط: الذي خالط سواد شعره بياض. (¬6) الشرق هنا: البكاء، وأجود روايات البيت: السَّرْق، أي استراق النظر. (¬7) تخضد: تثنَّى. الريْط: جمع ريطة، وهي الملاءة. المعضد: ضَرْب من الوشى.

إخوته يستخبرون خبره، ويسألونهُ عن ميّ من تكون؟ وجعلتْ نفس "غيلانَ" تعتاص على الناسِ، فردَّ السائل بخَيْبته، وائتمن عليها أخاه مسعودًا فهو أحق الناس بالأمانة: إذ كان عونًا لهُ في سفره، وصديقًا قد اقتربَ ما بينهُ وبينه، ولم تَعُد للسنِّ قدرةٌ على التفريق بينهما في المودَّة النامية المتوثّقة. ولم ينشب هذا الشعر وما سواه أن تدفَّقَ إلى ديار بني مِنْقر من كل وجه ومكانٍ، وعرفَت العجوز وعرفت ميٌّ أنهُ يريدُها، وأن الأمر قد استَعْصى، وأن الحزمَ أن يُبتَّ الرأيُ تبل أن تذهبَ ساعته ورأتِ العجوز أن تقطع هذا اللسان المتقحّم باليأس، فإذا ملكه اليأس غلبهُ العيّ والحصر، وانتهى أمرهُ -كما ينتهي أمر كثير سواه من نوابت الشعراء- إلى لجاجة ثم فترة ثم سكون. فدسَّت العجوز إلى فتى من بني مِنْقر يقال له "عاصم" دسيسًا يرغبهُ في ميٍّ، ويُسَنِّى له من أمرها ما قد يتعسَّر عليه، ويكفل له رضاها أن تكون له زوجًا. فسعى "عاصم" إلى العجوز سعى الملهوف، وجعل يماسحها ويعرّض لها بخطبة ابنتها حتى صرّح، فرضيتهُ لابنتها، ليكون عاصمًا لها من لسان هذا المتجريء الباغي إليها الفضيحة والعار. واستشيرت ميّ في أمرها فقبلت، وتم الرأي على أن يبنى بها حين يشاءُ، فسارع عاصم وقضي الأمر. أما ذو الرّمة فقد رجع إلى دياره، ثم أوفض منها إلى البصرة نافرًا عجلًا يريد أن يقضى فيها عامهِ هذا حتى يصيب من الذكر بين أئمة العلماءِ وفحول الشعراء، ما يردُّ عليهِ راحةً قد استلبتها هذه الفتاة الطاغية التي أحبها ذاكرًا مردّدًا راغبًا، فكان جزاؤه منها أن اقتحمته وأسقطتهُ، ولم تعرف له حقًّا يذكر أو هوًى يكون منها على بال. ونزل هذا البدويّ مدينةَ الحضر، فجعل يتلفت ههنا وههنا، فلا يجد إلفًا يألفه إلّا شذّاذ القبائل الذين نزلوا "البصرة"، وخلطوا أنفسهم بالتجار وأوشاب أهل الأسواق، وجعل يتسكع معهم حائرًا بين حوانيت البقالين وأشباههم، قد فترت همته عما كان خرج له من بلاده. وكانت البصرة تموج بالناس من نواحيها، واجتمع فيها من العلماء والشعراء

ما لم يجتمع في مثلها من قديم أيام العرب، فقامت فيها سوق من أعظم أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، تضَارع سوق عكاظ منتدى الشعراء من أهل الجاهلية، وهي "المرْبدُ": مِربد البصرة، حيث يجتمع العلماء والكتاب والشعراء يكتبون وينشدون ويتفاخرون ويتهاجون. وأقبل ذو الرُّمة -هذا البدويّ الراجز- يسمع إلى الرجز والشعر الحديث. فلما سمع من رَجز العجاج ورجز ولده رؤبة علم أنهُ إذا ألحَّ على الرجز لم يقع من هذين الفحلين موقعًا، ورأى أنهُ إذا بقي عليه يقوله، عرَّه ما يقول، فعزم أن يصرف نفسه عنه ويعوّل على الشعر وحده. وكان ما يسمعهُ من الشعر في هذه السوق العظيمة قد هاج في نفسه الرغبة في المنافسة، إذ كان الشعر أسهل مأتًى، وأوسع مجالًا، وأدنى إلى القدرة على الإجادة، وأولى أن يكون تصريفُ القول فيه أحسن وأنبل، وأن الرجز لا يطيق ما يطيقه الشعر من المعاني. وكانت نفسه إذ ذاك تتحرك مغاضبةً إلى ميّ، وترقُّ لها، وتريد متنفسًا تَبُثُّ فيهِ لوعتها وأشواقها، والرجز لا يستوى على إرادتها، وقلَّ في العشاق من الشعراء من رَجَزَ بحبه. وكذلك بدأت نفسه تستقبل الشعر وحده، وتدع الرجز لهؤلاءٍ البداة الغلاظ الأكباد يقولون في أغراضه ما يقولون. ولا يكاد يشك في أن الشهور التي يقضيها ذو الرمة بمدينة العلم والشعر والحضارة، قد جعلت تهزُّ نفسه هزًّا عنيفًا متتابعًا لا هوادة فيه، وأن شدَّة ما لقى من الغربة في هذه البيئة الجديدة التي لا عَهْد له بمثلها، قد أحدثت له فترةً وانكسارًا، وكادت تذهب به في الخمول مذاهبها. ولكن العاطفة المحنقة التي تجيش بين جنبيهِ كانت توجه هذه النفس إلى الغاية التي أعدت لها. وكذلك بقي ذو الرمة حائرًا لا يدرى كيف يتوجه بالرأي والعزيمة، فهو يدخل حوانيت البقالين يبقى فيها يسمع من لغو أهل الحضر ما يسمع، ثم ينصرف إلى المساجد وقد تحلَّق الناس على علمائهم يسمع من هؤلاء وهؤلاءِ، ويتلقف الكلمة بعد الكلمة مما يدرك من جدَ لهم وأحاديثهم. ثم يفكر في ذلك ما شاءَ الله، لم يأخذ نفسه بالدّربة على شيءٍ مما يتعلمون أو يتناقلون. وكان أكبر ما شغل عليهِ خواطره قول

هؤلاءِ المتكلمين في القضاءِ والقدر، وما يتنازعون فيه من الشر الذي يقع في هذا العالم، أهو مُرادٌ من الله تعالى أم غير مرادٍ؟ ويعجبهُ أن يذهب إلى أن الشرّ ليس مرادًا لله تعالى، وأن إرادته لا تتعلق إلّا بالخير، وأن الناس وما سواهم هم الذين تتعلق بالشر إرادتهم. فكان له في هذه المجالس شغل عما يتردد بين جنبيه من وساوس مى وبلبالها، وأخذت تهدأ على الأيام حدّة ما يجد من ذكرها، ويذهب عنهُ عناءُ ما يلقي من خيالها. وكان كل ذلك يرقق من قسوة البادية التي نشأ فيها، ويلين من جفائها وغلطتها، ويمهد لسماحة أهل الحضر ورقتهم وظرفهم ومباذلهم طريقًا في نفسه، يهديها إلى السمت النبيل المتواضع الذي درب عليهِ الناس ممن يعاشرهم في هذه المدينة. وأنس به أهل الحاضرة -"البصرة"-، فكان لبلاغة منطقه، وحسن تَهَدِّيه إلى غاية القول، وصدق عبارته عما في نفسه، وقوة بيانه البدوي عن المعاني التي يبتذلها أهل الحضر بإهمالهم، وسرعة بديهته فيما يعرض له، وقدرتهُ على تخيل الأشياء بذلك الفكر البدوي المحض، وإرساله في الكلام شعاعًا من الفطرة السليمة التي لم تفسد على الترف والعبث والمخالطة، كل ذلك جعل أهل البصرة -من عرفه منهم- يحبه ويستدنيه ويتحفَّى له، حتى صار يدعى إلى أعراسهم وأفراحهم وملاهيهم، ليسمعوا من حلو حديثه البدوي صفةَ هذه الأشياء التي لا عهد لأحد من أهل البادية بها. فكان ذلك سببًا في أن يقال عنه -بعد أن طار اسمه في الآفاق: - هذا الشاعر البدوي! ! تالله لقد كنا نراه بالبصرة طفيليًّا يتدَّسس الى العرساتِ! ! وشغله المربد عن شعراء البادية الذين كان يألفهم ويروى شعرهم، وجعل يسمع مناقضات جرير والفرزدق والأخطل، ويحفظ ما يرد على المربد من شعراء الحجاز، ولكنه لا يجد عند أحد من هؤلاء ما وجد عند "الراعى النميرى": مِن نَفَس رابٍ كأنما يقذفهُ مرجل أوقدت عليهِ نار لا يخبو لها سعير. فهذا القلق الذي استولى على رأيه في الشعر، وهذا السأم الذي استبدَّ بعزمه في الحياة، وهذه اللوعة التي اعتسفت قلبه في الحب، كل أولئك كان يُعِدُّ هذا اللسان الشاعر

إعدادًا جديدًا لتنطق البادية العاشقة على عَذَباته (¬1) أجمل بيان وأعنفه، وأروع نجوى وأحلاها، وأدق نعت وأشكله. فكانت أيامه بالبصرة تدريبًا لابد منهُ لهذه النفس البدوية المفطورة على جانب من الخشونة والجفاء. ومضى العام عليهِ بالبصرة، فاجتوى ريح الحاضرة من طول ما أقام بها، فآثر أن يعود إلى ديار قومه بالبادية ليتنسَّم تلك الرُّوَيحة الحبيبة إلى القلب البدوي، وليستروح نسمات ميّ إن أطاق أن يكفكف من كبرياء نفس ثائرة متمردة عنيفة في أصل جبلّتها. والبادية هي البادية قلَّ أن تتغير لها صورة أو يجدّ لها جديد، فنزل على إلْفٍ قديم حبيب، تتلقاه أمهُ رفيقة به على عاداتها، ويسائله إخوتهُ ولِداتُه عن أمر الحاضرة كيف وجدها، وما لقى فيها، وما الذي أحبَّ منها وكره، وكيف ترك ابن عمه "أوفي"، وقد زعموه تحضَّر وأخذ من علم الحاضرة، يسمع في مساجدها عن شيوخ الحديث حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فينبئهم بأخباره، وأنَّ أوْفَى قد ترك البصرة في طلب حديث نافع مولى ابن عمر، فلم يلقه بها. ويحدِّثهم أنهُ لقى أُمَّ الصهباء معاذةَ بنت عبد الله العدوية العابدة، وما يتناقل الناس من أخبار عبادتها وتقواها. ويقيم ما يقيم، ثم يعزم على أخيه مسعود في الرُّفقة حتى يزور ميًّا، ليتزود منها نظرةً لعلها تردّ من صدره هذه البلابل التي نشأت توسوس له أن قد أصابها مكروه. وينهاه مسعود أن يُتْبع نفسه هذه الفتاة التي عنَّتْهُ وأنهكتهُ وشغلت عقله عن أمر دينه ودنياه، وقبيح بالرجل أن يلجَّ على من أعرض أو نأى عنه بجانبه، والنساءُ بالنساءِ أشبه من الغمامة بالغمامة، فما هذا العناء الذي يفنى فيهِ أيامه ولياليه؟ ثم يرى مسعود في سُكات أخيهِ أنينًا يلتجُّ تحت الهدأة، وينظر في عينيه إطراقةً تستصرخ غوث الرحمة، فيأوى (¬2) لذلك الشبح المستكين وراءَ هذه التجاليد الصامتة المستحصدة، ويشفق عليه أن تنتهب حياته هذه الأشواق التي تتنازعه من كل مغيب عاطفة أو صبابة. "لك ما شئت يا غيلان، فأنت والرحيل ¬

_ (¬1) عذبات اللسان: أطرافه. (¬2) أوى له: رقَّ له ورحمه.

كيف عزمت، وإني لرفيقك حيثما وجهت". وهكذا يصبح مسعود عون أخيه في هذه البأساءِ التي يتضرع لها بعد جلادة. ويرتحلان يقصدان بلاد بني منقر، فإذا الديار بلاقع ليس بها أنيس، إلَّا هذه الظباءُ وهذه المها تتهادى كأنهن العذارى يرفلنَ في بيض الجلابيب. ويعوج ذو الرُّمة على النؤى والرسوم ينظر إليها نظرة الواله المتوجس، ويدور عليها كأنهُ يستخبرها وهي تستعجم عليه لا تجيب، "والدار لو حدثته ذات أخبار". ويظلُّ ذو الرُّمة يتوهم لنفسه أوهامها في مى، ولكن لا تخطئه وسوسة الغيب بأمر ذي بال قد أصاب صاحبته، فهو يزداد التياعًا كلما ازداد ريثًا في مكانه من هذه الأطلال الخُرْس النواطق. ثم تنزو بهِ روعةٌ كأنه آبدٌ قد نشِط من قيده، وينطلق يجوب هو ومسعودٌ هذه الفيافي يسألها عن مذاهب مى في غوامضها ومنكراتها. وهكذا يبدأ هذا العاشق يتطوّح في أقدار مجهولة لا يدرى أين ينتهي به سيرُه وسُراه! ولكن لا يلبث أن يجد في أسفاره جماعة من بنى منقر قد انفردوا عن أهلهم في أرض ينتجعونها، ويسألهم عن أخبار ميّ، فيعلم يومئذ أن قد ذهب بها عاصم المنقرى. ربّاه! لقد تهدّم البناء الشامخ من كبريائهِ على قلب حي نابضٍ محب لم يسكن ساعة عن ندَاءِ ميٍّ من وراء الأسوار المضروبة عليهِ. ألم تعلم هذه الحبيبة أن غيلان قد أخلص لها حقيقة ما في قلبه من الحب والهوى؟ ألم تدرك بعد أن حياته كانت تفيض إليها متدفقة من أغوار النفس الجياشة بالعشق والصبابة؟ أكانت هي الغريرة البلهاءَ حتى لا تجد على نفسها لواذع نظراته إليها ملتاعًا قد توقد وجده بها؟ ألم يكن في عينيه ووجهه وحديثه عهدُ المحبين إلى من أحبوا؟ وتغوَّلتِ به الأرض الفضاء فلم يجد الَّا ضلالا وحيرة في وحشة هذه الحياة المجدبة الجرداء، التي قذفت به فيها هذه الفتاة اللاهية عن جد الحب الذي لا يلهو ولا يهزل، أي غدر قد ألقى به في مُغَوَّاة (¬1) مظلمة قد افترشتها أفاعي الغيرة والغيظ والضغينة. فانطلقت تنهش منهُ بأنيابها، وترسل في عروقه ¬

_ (¬1) المغَوَّاة: حُفْرَة تحتفر للأسد لصيده.

ذلك السم الذي يغلى عليهِ دمهُ؟ وفي سكتة البيداء التي لا حس فيها ولا ركز (¬1)، تترامى إليه من كل وجه أصوات تتردد "ميّ، ميّ" وتقع في سمعه إلى قلبه سهامًا مسددة تنفذ في رميتها تنشُّ كأنها سِكَّة محماة. ما أقسى هذه الساعات التي تمر عليهِ وهو كالملقى على جمرات الغيظ في غمرات من لهيب الغيرة! ! إنها تمضي لا يحس منها إلا حريق الزمن خالدًا عليهِ، لا ينقضى ولا يتقطع. وأخوه مسعود إلى جانبه ينظر مشفقًا متلددًا إلى شبح ساكن لا ينود (¬2) منهُ شيء أو يتحرك. من لهُ بأن يستلَّ أخاه المسكين من أمواج أطبقت عليهِ من كل مكان؟ إن الصمت وحده هو كل ما يستطيع أن يعين بهِ أخاه على بلوى هادمة مدمرةٍ، صمت ينطق بالمشاركة والإسعاد، والرقة والحنان. ليتهُ ما أطاعهُ، بل ليتهُ أغرى أخاه بالرحلة في جانب من الأرض بعيد فعسى كان يستجدُّ له من نوازع الحياة ما يكفيهِ شر مىٍّ وشرّ هواها. وكذلك يخطو ذو الرُّمة الخطوة الأولى في الطريق إلى حقيقة الحب. . .، في الطريق إلى العذاب. . .، في الطريق إلى الجحيم الذي يجعل النفس العاشقة سعيدة بالألم، متشبثة به، آلفة له، باحثة عنهُ لو فتر عنها أو سكت. ¬

_ (¬1) الحِسّ والرِّكْز بمعنى. (¬2) ينود ويتحرك بمعنى، وإن كانت الأولى فيها بمعنى التمايل.

"جمعية الشبان المسلمين"

" جمعية الشبان المسلمين" في اليوم التاسع من شهر ربيع الأول، من سنة 1353 وضع الحجر الأساسى لبناء دار جمعية الشبان المسلمين، وإني ليحزننى أن لا أكون حضرت وضعه في أرضه المباركة، فلقد كان قلبي يوما ما لبنة حية من لبنات هذه الجماعة، ولا يزال هذا القلب مخلصا لها إخلاص ورع لا دعوى فيه، محبا لها محبة إيمان لا نفاق فيها، يبتسم لما تبتسم له، ويغضب لما تغضب له، ويأسى لما تأسى به، ولئن كان من أحداث الدهر عندي أنى انقطعت دون أصحابى من هذه الجماعة، فوقفت وساروا، فإني لا أزال أجد في نفسي الاطمئنان إليهم، وما بى عنهم من تأخر حين يدعوننى إلى مكانى من صفوف المجاهدين يوم يشتد ساعدى للجهاد. وبعد أن وضع هذا الحجر الأساسى رغّب إليّ أستاذي وصديقي محب الدين الخطيب أن أتعجل في كتابة التاريخ الماضي للأيام الأولى لظهور هذه الجماعة التي انتشرت في عام واحد بين خوافق العالم الإسلامي، انتشار النور الإلهي في القلوب المؤمنة، وسبيل التاريخ في مثل هذا أن تذكر الحوادث مؤرخة باليوم والساعة، مبينة بالمواضع والأمكنة، محددة بالرجال والأعمال، ولكني وجدت أن أوراقى قد تشتّت على الآن، وليس بين يدي منها إلا القليل الذي لا يأتي منه هذا التاريخ على وجه التدقيق والتحقيق. فقصارى ما أكتبه في هذه الكلمة أن يكون تاريخا مجموعا من أشتات الورق، ثم مما وعته الذاكرة من أيام كانت تمر بنا إذ ذاك مر السحاب، لفرط ما فيها من الحياة والشباب، والعجلة والاهتمام، ثم إن فرحة ما كنا بسبيل تحقيقه هي مما يُنْسِي المرء كل شيء، حتى لذة العمل والإخلاص. ¬

_ (*) مجلة الفتح - العدد 401، السنة التاسعة، 16 من ربيع الأول 1353 هـ، 29 يونيو 1934.

"تاريخ اليوم الأول"

" تاريخ اليوم الأول" ففي مثل هذا الشهر (ربيع الأول من سنة 1346) زار مكتب الأستاذ محب الدين الخطيب في دار المطبعة السلفية ومكتبتها فضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر حسين، وكانا يتحدثان في أمر الاجتماعات التي كانت جمعية الشبان المسيحية تعقدها في تلك الأيام -كدأبها إلى اليوم- تدعو لها رجالا من رجال مصر، ليحاضروا الناس في دارها. فمما حدث يومئذ أن تلك الجمعية دعت إلى دارها رجلا كان من دأبه أن يجعل القرآن موضعا للتهكم والشك. وفيما هما في حديثهما هذا دخل عليهما صديقي الأديب الضليع الأستاذ عبد السلام محمد هارون -الطالب إذ ذاك بتجهيزية دار العلوم (¬1) - فأشرقت بوجوده فكرة انبسطت أنوارها فيما بعد، وأضاءت ظلمات من الغفلة والخمول والدعة، كانت قد انطبقت على العالم الإسلامي عامة، ومصر خاصة، حتى كنا نستشعر الفزع مما يمر بنا من أطياف الحوادث التي تمر بالناس، ولا تصيب منهم شيئا يبكى له، أو يؤسف عليه. . . من ذلك الشر انقدحت الشرارة الأولى التي أوقدت النور الذي أشرق على العالم الإسلامي في الشهر المبارك شهر مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ليكون ضياء للمسلمين، يسترشدون به في أمر دينهم عامة، ثم اجتماعهم خاصة بعد أن أصاب الأمة الإسلامية من قِبل التدابر والتقاطع، والفرقة والشتات ما أعيى حكمة الطبيب، وإشفاق الآسى. فلذلك كانت هذه الجمعية ولا تزال لا غرض لها إلا أن يكون المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، ولا تتعمد في ذلك طعنا في دين، أو منابذة لملة، بل غرضها الذي لا يتغير أن تطلب خير الأمة الإسلامية والعربية من كل سبيل. والآن نعود إلى تاريخ هذه الجمعية. . . أشرقت هذه الفكرة فكنت في طليعة ¬

_ (¬1) وقد تخرج بعد ذلك في مدرستها العالية، وهو الآن يتولى التدريس في مدرسة فارسكور الابتدائية، من أعمال مديرية الدقهلية (شاكر).

مَن سُوِّغ من أشعتها لمحات، لا تزال تضئ في قلبي سراجا هاديا، فيما ينطق عليّ من ضلال الحياة انطباق فكٍّ من الظلام على فك. . . وكنت (حين تفجر النور من منبعه الصافي) مع أخي الذي أشرقتْ عليه (عبد السلام هارون) في طريقنا إلى المطبعة السلفية، يدفعنا الشباب، وتثور بنا الفكرة المنبعثة من الآلام التي لقيناها حين سمعنا خبر جمعية الشبان المسيحية. وكانت دار المطبعة السلفية -ولم تزل- نبع القلوب الصادية، تردُها من الشباب فئة قليلة الصبر على ضيم ينزل بالأمة العربية من ظلم الاستعمار، وعصبية الاستعمار. ففي المطبعة السلفية قلد السيف صاحبه. . . ذلك المجاهد الرابض في مكتبة، يواصل الليل بالنهار، عاملا لأشياء قد استقرت في نفسه فصارت إيمانا، ودارت على لسانه فأصبحت تسبيحا، وترامت عن قلمه فكانت جهادا - ذلك هو محب الدين الخطيب. لم يلبث هذا الجمع أن جمع من كبار المجاهدين رجلين: أما أحدهما فرحمة الله عليه أحمد تيمور باشا، ذلك القلب الرقيق الوفي، الذي لا يَنْسَى ولا يُنْسَى، وأما الآخر، فهو العالم المخلص، والكاتب البليغ الأستاذ السيد محمد الخضر حسين، الذي بارك الله به هذا العمل من الساعة الأولى، فمن هؤلاء جميعا استفاض النور الحي الجميل على مدينة الأحلام الفاتنة، التي نسميها الآن (جمعية الشبان المسلمين). أما تيمور باشا رحمة الله عليه فحين سمع ما تآمرنا له أضاء وجهه، وابتسم ثغره، وترقرق الدمع في عينه، حتى لظننت أنى لا أرى رجلا شيخا، بل أرى قلبا فتيًّا حيا، يتنزى إلى جهاد يبذل فيه الروح في غير حرص ولا شح. وأما السيد الخضر فكان كالغُصن الرطب، حين يَفيئه النسيم، يهتز طربا وسرورا، فحين بدأنا العمل أصبح نشاطا قد سُوِّىَ رجلا، وإيمانا قد أفرغ قلبا، وصراحة قد جمعت حزما وعزما. هذا الاجتماع الأول كان هو الحجر الأساسي الذي يقوم عليه البناء الحي النابض بدم الشباب، العامل بفكرة الشيوخ، المترامى إلى الحقيقة العظمى في

"دعوة الشباب إلى الجمعية"

تاريخ الإنسانية، ليثبت أن الإيمان يمنح الضعيف أسبابا من القوة والرهبة، تنشيء في القويٍّ أَدْوَاءً من الضعف والفزع. " دعوة الشباب إلى الجمعية" افترقنا بعد ذلك الاجتماع، وذهب صديقي عبد السلام، وذهبت إلى من نعرف من أحبائنا وأصدقائنا، نداولهم ونشاورهم. وأذكر أنا لم نذق ليلتنا نوما نطمئن إليه، فقد كانت حياة الفكرة في أعصاب الشباب كفيلة بأن تنشيء فينا القوة على الاطمئنان إلى العمل، وتنفي الركون إلى الراحة والدعة. . . ووفق الله في اليوم التالى فصار عدد الدعاة إلى إنشاء الجمعية اثنى عشر شابا من طلبة المدارس العالية والتجهيزية على اختلافها. نذكرهم للتاريخ، لا للفخر والتعالي: محمد محمود الخضيرى من قسم الآداب بالجامعة مصطفى محمود القاضي من مدرسة الهندسة محمود محمد شاكر من قسم الآداب بالجامعة زكي القاضي من مدرسة المعلمين عبد الفتاح كيرشاه من قسم الحقوق عبد السلام محمد هارون من مدرسة دار العلوم كمال اللبان من كلية الحقوق عبد المنعم خلاف من مدرسة دار العلوم محمد القاضي من كلية الحقوق محمد أبو الفضل إبراهيم من مدرسة دار العلوم محمد محجوب من كلية الطب توفيق أحمد البكرى من مدرسة الجيزة " الاجتماع الأول" اجتمع الإخوان الاثنا عشر يرأسهم تيمور باشا رحمة الله عليه، والسيد الخضر ومحب الدين في المكتبة السلفية، وتبادلوا الرأي في تنفيذ الفكرة على

"الاجتماع الثاني والثالث"

أساس من القوة، ومن العجب أن هذا الاجتماع لم يحدث فيه اختلاف ما على فكرة واحدة مما عرض، مع أن هذا الاجتماع قد طال أكثر من ثلاث ساعات لا فترة بينها، ثم افترقنا على موعد من الأستاذ الخضر، لمهلة يضع فيها نص القانون الأساسى للجمعية، وبلاغ ينشر في جمهور المسلمين. فلما اجتمعنا في المرة التالية اطلعنا على ما وضع الأستاذ الخضر، وحددنا موعدا للاجتماع في المنزل رقم 30 بغيط العدة، من باب الخلق، يتسع لعدد كثير من المدعوين من أفاضل الرجال. " الاجتماع الثاني والثالث" كان هذا الاجتماع كما ذكرنا بغيط العدة، لعرض القانون مرة ثانية على المدعوين من الشباب والشيوخ، الذين توافدوا بإخلاص وشوق لتشييد البناء الأول للعمل الإنساني العظيم الذي دعوا إليه. ففي هذا الاجتماع خطب الأستاذ الخضر ومحب الدين الخطيب، ثم كاتب هذه السطور، وكانت أقوالهم جميعا في بسط أغراض الجمعية، ومناشدة الحاضرين إلى توسيع أمر الدعوة، ولذلك كان الاجتماع الثالث في هذا المكان نفسه حافلا بأفاضل الرجال والشيوخ والشباب، حتى إن المكان ضاق بهم، وكان من خطباء تلك الليلة المرحوم الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش، والأستاذ الخضر، ثم الأستاذ الههياوى. ومما حدث في هذا الاجتماع وعددناه توفيقا وبركة قيام رجل إيطالى موظف بالمحكمة المختلطة، خطب خطبة بالغة، أثارت الناس، وأحيت في نفوسهم أملا قويا، وعزما صادقا. وفي هذا الاجتماع أُقرت الصورة النهائية للقانون، ووضعت الخطة الأخيرة، وانتخب الاثنا عشر الدعاة إلى مقابلة الدكتور عبد الحميد سعيد، وعرض الأمر عليه لأن آراء القائمين بتأسيس الجمعية أجمعت على انتخابه رئيسا، لمزايا متعددة اجتمعت فيه، وحدد ميعاد للذين اشتركوا في الجمعية، أن يجتمعوا في يوم 15 جمادى الثانية سنة 1346، بدار الكوزمجراف، بشارع عماد الدين، لانتخاب مجلس الإدارة.

"انتخاب مجلس الإدارة"

" انتخاب مجلس الإدارة" وفد الوافدون على دار الكوزمجراف في الموعد المحدد، وقام الخطباء، وكان منهم الأستاذ الخضر، ثم الدكتور عبد الحميد سعيد، ثم الأستاذ محمد الههياوى من الشبان، (ثم) الأستاذ عبد الفتاح كيرشاه -المحامى الآن بالإسكندرية- فأبدع وأثار وحفز الناس وضج الحاضرون، وقام إليه بعد خطبته الأستاذ محب الدين فعانقه وقبّله، لما أبدى من حمية وإخلاص. ثم انتخب مجلس الإدارة بالاقتراع السرى، فكان المنتخبون هم هؤلاء الأعلام: (1) الرئيس: الدكتور عبد الحميد سعيد عضو مجلس النواب (2) وكيل الرئيس: الشيخ عبد العزيز بك جاويش مدير التعليم الأولى (3) أمين الصندوق: العالم الجليل أحمد تيمور باشا عضو مجلس الشيوخ (4) كاتم السر العام: الأستاذ محب الدين الخطيب منشيء الزهراء، والفتح الأعضاء: (5) الأستاذ السيد محمد الخضر حسين - المدرس بقسم التخصص بالأزهر (6) الأستاذ أحمد إبراهيم - أستاذ الشريعة بكلية الحقوق (7) الأستاذ محمد أحمد الغمراوى - خريج جامعة لندن (8) الدكتور يحيى الدرديرى دكتور حقوق وليسانسيه في العلوم السياسية (9) الدكتور على مظهر - خريج جامعة فيينه (10) الأستاذ محمود على فضلى - المدرس بمدرسة المعلمين العليا (11) الأستاذ محمد الههياوى - من رجال الصحافة المصرية (12) الأستاذ على شوقى - سكرتير وكيل وزارة المعارف بهؤلاء بدأت الحياة تعمل عملها في إحياء الروح الإسلامية في شباب العالم الإسلامي، لا ليكون التعصب والسخرية والعبث. بل ليكون الإيمان الذي لا يرهب، والعقيدة التي لا ترتد، والدعاء الممتد من نواحي الأرض إلى خوافق السماء، يستنزل الرحمة على أمم قد قاست من القسوة والظلم والتحيف ما لا صبر

لأحد عليه، حتى هوجمت بعد تجريدها من سلاحها - في معقل الدين من قلوبها، وحصن الفضيلة من اجتماعها، ومنبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ألسنتها. ألا وإن أمل العالم الإسلامي كله معقود بتحقيق الأغراض التي سعت لها هذه الجمعية المسلمة، وما بقي العالم الإسلامي متعلقا بها، معينا لها، فهي إلى الغلبة والظفر والانتصار إن شاء الله.

في حلبة الأدب

في حلبة الأدب كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي للأستاذ أنيس الخورى المقدسى ألقى إلى هذا الكتاب فخما ضخما مصقولا كأنه حديقة مطوية فأخذته بين يدي أدافع به الملل وأنا عند صديق عزيز فوقعت العين على كلمة أكبرتها أن تكون من غير رجل عالم. ثم وضعت الكتاب وأنا في أمر غير الأمر وطويت أياما حتى تلقيته مرة أخرى لأقرأه وأكتب عنه، فدخلت الكتاب كما يدخل الضيف أحمل نفسي على الأدب في خلوة من أهل الدار، وطفقت أرد ورقة منه على أختها يوما من بعد يوم حتى فرغت منه وأنا في حيرة. فقد اتفق لمؤلفه أنه سما بالرأي حتى قلت قد انفتق لعينيه النور فما يروعنى إلا وأنا في ظلماء مطبقة من تحت سبع أرضين لا هدى فيها لدليل، وهذا عجيب في كثير ممن يؤلف في عصرنا هذا فقد رأيت في كتبنا كثيرا من هذا السمو في الفكرة والسقوط في أدلتها وبراهينها ثم في توجيهها وتطبيقها. وقبل هذا أصف للقارئ موجز هذا الكتاب الذي هو الأول من جزءين فهو كما يقول مؤلفه في صدره "يتناول النثر العربي وخصائصه الفنية منذ بزوغ الإسلام إلى النهضة الأخيرة يتخلله دراسات تحليلية لنخبة من أمراء الأقلام وعرض كثير من نصوصهم الإنشائية". ثم يصف غرضه في الكلمة التمهيدية لكتابه فيقول "أما كتابنا فغايته عرض الأساليب النثرية عرضا يبين تطورها منذ ظهور الإسلام إلى الوقت الحاضر". . . ."ولسهولة البحث أفردنا لنثر صدر الإسلام قسما خاصا صرفنا العناية فيه إلى تحقيق مروياته والنظر في نصوصه وهو يشمل بضعة فصول ويمتد إلى زمن عبد الحميد الكاتب"، ثم ألقى نظرة "على الأساليب ¬

_ (*) المقطم، الجمعة 26 يوليه سنة 1935

الإنشائية من أيام عبد الحميد إلى الوقت الحاضر فإذا هي تجري على ثلاثة أساليب رئيسية: (1) الأسلوب المتوازن (أي المزدوج غير المسجع) ويدخل فيه ترسل عبد الحميد والجاحظ وأضرابهما. (2) الأسلوب المسجع - ويتناول الرسائل الديوانية والأدبية والمقامات وما إلى ذلك. (3) الأسلوب المطلق - وهو النثر السائد في الكتب العلمية والتاريخية والاجتماعية قديما وأسلوب الإنشاء العام في العصر الحديث". وقد تناول المؤلف الأسلوبين الأولين في هذا الجزء وأبقى الثالث للجزء الثاني من كتابه .. هذه صفة الكتاب رويناها للقارئ عن مؤلف الكتاب. وأنا حين أقرأ كتابا أنظر إلى نهج صاحبه في تأليفه فإذا رأيت له نهجا يخالف ما درج عليه الناس في التأليف أخذته بنهجه حتى أخرج لنفسي خطأ النهج أو صوابه، فإذا اضطرب نهجه عدلت عنه إلى أغراضه، فإذا استوت أغراضه أخذته بها ونظرت إلى غرض غرض منها معدلا بين أوزانها حتى يخلص لي الأصل الذي خرجت عليه أو الأرض التي نبتت فيها، فإذا اضطرب ذلك أخذته بآرائه في مفردات علمه واحدة واحدة حتى يخلص بي إلى أحد أمريه غير مظلوم ولا ظالم. فلما قرأت هذا الكتاب لم يقع لي إلا أن آخذ الأستاذ أنيس المقدسى بآرائه في مفردات علمه غير متعرض لنهجه أو أغراضه في كتابه هذا. فمن أول ذلك كلامه عن السجع ومقارنة سجع الجاهلية بآيات القرآن فإن المؤلف لم يأت فيه إلا بالشبه التي تورط فيها الناس من قديم إلى يومنا هذا كقولهم في تحريم السجع لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الغرة وقوله للرجل الذي قال "أَأَدِى من لا شَرِبَ ولا أَكَل ولا صاح فاسْتَهَلّ، ومثل ذلك يُطَلّ" فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - "أسجْعًا كسجع الكهان". ثم جاء الجاحظ بعد ذلك ووضع علة لتحريم السجع: إن الكهان كانوا يتكهنون ويحكمون بالأسجاع، فوقع النهي في ذلك

لقرب عهد العرب بالجاهلية ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة هذه زال التحريم. وكنت أحسب أن المؤلف سينظر في خصائص سجع الكهان نفسه ليستخرج منه الفرق بينه وبين السجع المعروف عن البلغاء ثم بينه وبين القرآن فإن هذا هو موضع الفصل في الكلام الذي دار حول السجع وهو موضع التحقيق في العلم المروي الذي وقع إلينا ولم نحقق فيه إلا القليل. وأكتفي هنا بأن أقول أن سجع الكهان اسم لما وقع في ألفاظ الكهان على صورة صامتة وهو غير السجع الذي عرفه علماء البلاغة ووضعوا له الحدود والرسوم وسنفرد لهذا البحث كلمة خاصة في المقتطف إن شاء الله. ومن عجيب ما وقع للمؤلف في هذا الفصل قوله "ص 5" ويؤيد ما يراه من شيوع السجع في تلك الحلقات (الدينية في الجاهلية) أن التنزيل القرآني على تعاليه عن أقوال العرب وكهانهم لم يخرج عن الأسلوب الذي عرفه الناس يومئذ". كيف يتفق للمؤلف أن يقول أن القرآن (لم يخرج عن هذا الأسلوب) وهو لا يعرف هذا الأسلوب ولم يحط بخصائصه. أيحسب الأستاذ أن الأسلوب هو الكلام المرصوف، وأن الخصائص هي انتهاء كل جملة من هذا الكلام بلفظين متقاربين في الجرس متفقين في القافية. . . إنه لا يقول هذه الجملة إلا من وقع إليه سجع الكهان في "حلقاتهم الدينية" كما يقول فدرسه وميزه وحده، ووضع له مطلعا ومقطعا وغرضا، ثم درس القرآن وعرف مثل ذلك فيه وقارن ثم ألقى ووضع وأخذ ورد ونفى وأثبت. كيف يقول المؤلف ذلك وهو الذي يقول في ص 4 "ولا يجوز علميا أن نتكل على روايتها فقط (أي أسجاع الكهان) في الحكم على ما كان عليه هذا النثر". وقد أتى المؤلف في ص 6 بما يدل على بطلان الأصل الذي يبنى عليه كلامه هذا من معنى السجع، فقد نقل عن الجاحظ "وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين فيكون في الخطب أسجاع كثيرة فلم ينهوا أحدا منهم". فهذا دليل على أن سجع الكهان غير السجع الذي يقع في كلام الناس أو يتعمدونه للزخرف والزينة، ولولا ذلك لكان الخلفاء

الراشدون قد نهوا عن ذلك كما يقول الجاحظ. فلو أن المؤلف وقف قليلا عند هذه الكلمة لتبين له أن كلمة السجع قد وقع في معناها الخلط والخبط بين أقوال الكهان والكلام المزور المزوق بالقافية الموسيقية، ولاجتهد بعد ذلك أن يفرق بين معنى الكلمة عند علماء البلاغة ومعناها الذي وردت له في قولهم (سجع الكهان)، ولوجد أن مقارنة سجع الكهان بالتنزيل القرآنى كما يسميه من أعظم الخلط بين المتضادين. والذي أوقع المؤلف في هذا أنه حسب أن أهل الجاهلية الذين قالوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كاهن إنما قارنوا بين سجع كهانهم وبين سجع السور المكية الأولى كما قال في ص 5. ولو أن أهل الجاهلية قالوا ذلك لهذا المعنى ومن جراء هذه المقارنة لما كانوا أهلا لتنزيل قرآن عليهم، ولما كان هذا القرآن معجزا لأنه إنما أعجزهم ببلاغته وأسراره والذي يحكم في صور الألفاظ لا يكون بليغا أبدًا ولا يدرك أبدًا سرًّا من أسرار الكلام فهو عاجز من أصل طبيعته لا من أن الكلام بليغ أو معجز وبذلك يسقط الإِعجاز كله ولا يبقى معنى لإيمانهم بما جاء فيه ولا بمن جاء به. وندع كلامه كله عن القرآن فأكثره مما لا يقف عنده إلا من أراد أن يكشف عن أوهامه وَهْمًا فوَهْمًا مفصلا لأخطائه أو مبينا لمواضع السقط فيه. ويأخذ في كلامه عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الباب من الكتاب مملوء بكل عجيبة من الرأي، وفيه من التناقض كثير مما يدل على أن المؤلف لم يدرس هذا الموضوع دراسة من يريد أن يعلم ثم يحقق ثم يكتب خلاصة ما ثبت عنده أو رجح لديه. ومن عجيب أمره أنه بعد ما جعل السجع من أسلوب الجاهلية وردَّ القرآن إليه في موضع من الباب الأول، عاد فذكر في ص 73 أن من مزايا الحديث أو نثر صدر الإسلام -البساطة- وفسرها بقوله أنها البعد عن تكلف السجع أو البديع وكيف يكون ذلك في الحديث ولا يكون في القرآن. هذا من العجب فإن الذي أنزل عليه هذا القرآن هو هو الذي تكلم بهذا الحديث، وهو هو الرسول الذي يريد أن يؤثر كلامه في الناس. فلو أن السجع الذي في القرآن كان للتأثير والإيهام كما

يكون سجع الكهان لكان ذلك أولى بصاحب هذا الكتاب في حديثه أن يتخذه من مادة تأثيره على الناس. ثم أنه في ص 50 بدأ كلاما عن وضع الأحاديث -يعلم الله أنه كلام مُتلقَّف من أفواه قوم خبرناهم عهدًا طويلا، وفيه من التحريف شيء كثير. وللدلالة على ذلك نجد المؤلف يروى عن صحيح مسلم قول ابن القطان "لم تر أهل الخبر في شيء أكذب منهم في الحديث". وجعل الخبر بالباء الموحدة وسط اللفظ، ويريد بذلك أن يوهم الناس أنهم أهل الحديث. والحديثُ في مسلم "أهل الخير" بالياء المثناة، وفي رواية "لم نر الصالحين"، وفسر مسلم بعد هذا الحديث موضع الإشكال في أن الصالحين يكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم هم الصالحون. فقال: "قال مسلم: يقول يجرى الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب"، وتأويل ذلك أن أهل الصلاح والتقوى الذين يصرفون أنفسهم عن أمور الناس ولا يبحثون عن أحوالهم من صدق وكذب وتدليس وكذا وكذا إلى آخر النقائص يحسبون أن الناس لا يجترئون على رسول الله بالكذب إذا حدثوهم عنه فيتلقَّوْن ما يسمعون بالتسليم ثم يَرُوون ما يسمعون لما فيهم من سلامة الصدر عن الخبث، ولذلك يجرى الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدونه. ولذلك يردّ أصحاب الحديث قوما من كبار الصالحين ويقولون عنهم حين يذكرونهم "كان في فلان غفلة"، فهذا هو المراد. ومما يدل على أن المؤلف لم يتثبت من كلامه في هذا الباب كله أنه قال في ص 66 في عرض كلامه عن رد أحاديث من الصحيحين لا تثبت عنده لعلل زعم أنه اهتدى إليها وحده فردَّها، لذلك قال المؤلف حفظه الله "آية المنافق بغض الأنصار -آية المنافق حب الأنصار" وهما (يعني الحديثين كما يزعم) مع تناقضهما من المتفق عليهما في الصحيحين والإغضاء عن مثلهما أَوْلَى، أولًا: لما فيهما من دعاية حزبية، ثانيا: لتناقضهما". انتهى كلام الأستاذ والعجب لمن ينقل عن كتابين طبعا ثم طُبِعا ثم طبعا حتى امتلأت بما طُبع منهما بيوت المسلمين وغير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ثم يخطئ في النقل ثم

يجعل خطأه من الأدلة التي دفعته إلى الطعن فيما روى من حديث مسلم والبخاري وهما من هما في التحديث وفنونه. وللقارئ أن ينظر في صحيح مسلم كتاب الإيمان: باب حب الأنصار، وفي البخاري: كتاب المناقب، ليقرأ الحديث على وجه التحقيق لا على وجه الوهم "آية المنافق بغض الأنصار وآية المؤمن حب الأنصار". وأنا لا أدري كيف يتأتى لمؤلف أن ينقل خطأ ثم يتوهم ثم يكتب ثم يرد على الناس أقوال أئمتهم الذين أفنوا أعمارهم في تحقيق العلم وتمييزه طيبه من خبيثه ثم يزعم أن ذلك تحقيق لمرويات الصدر الأول كما نقلت عنه في أول كلامه. هذا وسنعود إلى مواضع من الكتاب بعد قليل لنثبت أن هذا الكتاب لابد من تغييره البتة لأنه لا يصلح أن يكون دراسة في النثر العربي. وهنا أسوق للمؤلفين قول كونفوشيوس "من تعلم من غير تفكير فهو في حيرة، ومن فكر من غير تعلم فهو في خطر".

"عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

" عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه غضب الأستاذ أنيس المقدسى مما نقدناه به في مقالنا الأول ورمانا بكلمته الفاتكة في مقطم الثلاثاء 13 أغسطس سنة 1935 ظنا منه أن ما أتى به يعد دليلا جديدا يقنعنا بما في كتابه. والحقيقة أنه دليل جديد يعضد رأينا في الكتاب ودليل أيضا على أن المؤلف إنما يأخذ معاني الأشياء من ظواهرها ولا هَمَّ له بما في باطنها. ونحن لا نقول هذا هجاء ولا طعنا كما يقول في مقاله. فما في العلم هجاء ولا طعن. وأنت إذا قلت في قضية من قضايا العلم أنها فاسدة وأن صاحبها مخطئ وأن هذا الخطأ دليل على أنه لم يفكر في القضية وأن إلقاءه القضية بغير تفكير فيها إنما هو تهجم على الخطأ -فلا تعني بذلك هجاء ولا طعنا ولا تنقصا. فإذا جئت مع ذلك بالدليل على ما تقول لم يبق لصاحبها عذر في غضبه أو فورته. أراد الأستاذ الأديب أن يدفع عن نفسه وعن كتابه ما قلناه وأراد أيضا أن يعلمنا -علمه الله الخير- كيف نكتب حين ننقد في هذا القرن العشرين وسنكون عند حسن ظنه بنا إن شاء الله. يدعى الأستاذ -أكرمه الله- أن نقدنا "مشبع بروح لا نجدها اليوم إلا في الأوساط الجدلية البعيدة عن الحرية العلمية فنحن ننظر إلى الحياة من خلال (العرف الموروث)، وأننا نعتبر (التقاليد القديمة) قضايا منزلة لا سبيل للعلم إليها، وأننا حين رأيناه خرج عن السنة المعهودة قامت قيامتنا واتهمنا الخارجَ بالضعف وسوء القصد وانصرفنا عن المناقشة العلمية الهادئة الى الطعن والتنقص، وأن كلامنا قد ورد فيه ما يجب أن يتنزه عنه ناقد من نقاد القرن العشرين إذ أخذنا نعالج علمه معالجة الغيور على معتقد موروث نخاف فقدانه، وذلك من جراء الغيرة التقليدية التي اتهمنا به. ¬

_ (*) المقطم، الثلاثاء 20 أغسطس سنة 1935، ص 11

وإذا كان الأستاذ قد أباح لنفسه أن يفهم كل هذا من كلمتى عن كتابه ثم رضى أن يصرح بذلك تصريحا عجيبا في بابه ثم لم يتورع عن أن يقول إنا أخذتنا الغيرة على (معتقد موروث نخاف فقدانه)، إذا كان الأستاذ قد أباح لنفسه ذلك كله فلا أقل من أن يبيح لنا أيضا أن نترجم للقراء معنى هذه الكلمات التي ذكرها في كلامه. فإن هذه (الطريقة الأمريكانية في الأساليب الكتابية والنقدية) مما لا نتعاطاه ولا ندع لأحد سبيلا إلى الاختفاء وراءه. ولعل الأستاذ يعرف أننا نقبل كل ما يقال تصريحا ولو كان في كل كلمة منه سيف مسموم، ولا نقبل شيئا مما يقال تعريضا ولو كان في كل كلمة منه رحيق مختوم. فإن أدوأ الأدواء هذه المخادعة التي يتخذها بعض الناس ولا يزالون يلحون في الإتيان بها عند كل حديث ليوقعوا في النفوس معاني تأتي من وراء العقل مأتى اللص من وراء الجدار. ونحن لا نظن بقرائنا إلا خير الظن، فما من أحد إلا وقد فهم أن الأستاذ يريد بقوله (العرف الموروث والتقاليد القديمة والمعتقد الموروث) -القرآن والحديث- فإن الكلام في مقالنا كان منحصرًا فيهما، وفهم أنه يريد بقوله (الغيرة التقليدية) قيامنا لرد شبه الأستاذ التي أتى بها وبثها في كتابه وأكثرها مما لا يقتضيه البحث الذي يبحثه. وليعلم الأستاذ أننا أخذنا كتابه أرفق مأخذ ولم نرد أن نفجعه فيه دفعة واحدة فوضعنا له كلمات هي أس عظيم لمن يتدبر، فظن الأستاذ أن قليل علمنا وقف لنا حيث وقف القلم. فإن كان ذلك ظنه وكان ذلك هو الذي حفزه إلى أن يجعل القرآن والأحاديث من التقاليد الموروثة فخير له أن يرد ظنه إلى حيث كان. وإن كان هذا أيضا هو الذي استفزه حين قال أننا كتبنا غيرة منا على (معتقد موروث نخاف فقدانه) فسيعلم أننا ما كتبنا أولا إلا لإقرار الحق في العلم وتزييف العلم الناقص أو العلم الصناعى الذي راج الآن في أسواق الأدب رواج بضائع اليابان في أسواق البزازة. وليعلم أيضا أن هذا (المعتقد الموروث) ليس مما يخشى عليه طوارق الحدثان التي تسمى أساتذة وفلاسفة وكتابا وشيوخا في الأدب في هذا الزمان. وبعد هذا كله سيعلم الأستاذ أيضا أننا لسنا نقلد أحدا فيما نكتب حتى نصبح من المدافعين عن التقاليد، وأن كلامنا عن السجع مما نقضنا

به أقوال الأئمة من علمائنا رضي الله عنهم وأننا نأخذ هذا العلم من طريق الفهم لا من طريق الرواية وحدها وأننا لا نستعمل الطريقة (التجارية الأميركية) في تقسم الأشياء وترتيبها وهندمتها وتزيينها للإغراء لا للفائدة. حصر الأستاذ أنيس (نظرياتنا العلمية) كما سماها في كلمات خمس لا ندري كيف وقعت له على الصورة التي كتبها بها، ورد عليها ردا طريفا يقف بالمسألة كلها على الباب، لا تريد أن تدخل ولا تريد أن تنصرف. وقد نبهنا الأستاذ في مقالنا الأول (حين تكلمنا عن كلمة الجاحظ في سجع الخطباء عند الخلفاء الراشدين) أن الوقوف عند النصوص وتدبرها لفهمها أمر لابد منه وأن فيلسوف الصين الأكبر يقول "من تعلم من غير تفكير فهو في حيرة ومن فكر من غير تعلم فهو في خطر" وسنقرر ذلك نفسه في مقالنا هذا من باب آخر وسنقرر أيضا أن الفوضى التي عمت أدباءنا في فهم الألفاظ ثم القدرة على اختراع كلمات وتوهم معنى لهذه الكلمات، ثم بناء التاريخ على هذا الوهم إنما هو إفساد للعلم وللعقل وللتراث الإنساني كله. فالأستاذ أولا قد ادعى أن العرب كانت لهم (حلقات دينية! ! ) وأن رأس هذه الحلقات هو (الكاهن) وأن هذا الكاهن كان (يسجع) كلامه في هذه الحلقات فالسجع إذا من (آلات) صناعة الكاهن في الحلقات الدينية ومن هنا خرج إلى مقارنته بالقرآن. أما مسألة (الحلقات الدينية) عند العرب فما هي إلا وهم توهمه الأستاذ وفَجَأَ القراء به في أول صفحة من كتابه كأنه شيء مقرر ثابت قد أجمعت عليه الرواة وتواترت به الأخبار. وكان من حق القراء الذين يقرأون كتابه أن يبين لهم أستاذهم الأصل الذي جاء منه بهذا البيان عن دين العرب في الجاهلية ثم يصف لهم هذه الحلقات مما استنبطه هو من أصول التاريخ. ونحن ننفي هنا أن العرب كانت لهم حلقات دينية كما يقول الأستاذ وإلا فليأتنا الأستاذ بالدليل الذي يعضد رأيه فما قرأنا مرة واحدة شيئا من هذا لا في تاريخ قديم ولا حديث يوثق به.

وإذا صح ذلك واستطاع الأستاذ أن يأتينا بالدليل فليبين لنا أيضا كيف كان الكاهن هو رأس هذه الحلقات الدينية. ونحن من الآن نقول لقرائنا أن الأستاذ لن يستطيع أن يفعل شيئا من هذا وأنه كان أولى به أن يدع أمر كتابه ويقف به حيث وقفنا به من النقد، فهذه واحدة في القدرة على اختراع كلمات ثم تَوَهُّم معنى فيها ثم بناء تاريخ على هذا الوهم. وننصرف عن هذا إلى القول في الفوضى في فهم الألفاظ العربية فالكاهن عند العرب إجماعا هو الرجل الذي يتعاطى الكهانة وهي الخبر عن الكائنات والحوادث في مستقبل الزمان ويدَّعِي لنفسه معرفة الأسرار واستظهارها. وكانت العرب تسمي كل مَنْ أخبر بشيء قبل وقوعه أو أنذر به قبل أن يقضى أمره (كاهنا). فكانوا يلجأون إلى الكهنة لفض النزاع القائم بينهم في خصوماتهم أو عند إرادة السفر من مكان إلى مكان ليعرف الرجل منهم ما يصيبه في سفره من خير أو شر إلى غير ذلك مما هو من هذا الباب. وليس في كتاب من الكتب ما يدل على أن الكهان كانوا من رؤساء الدين أو أنهم كانوا قائمين بشرائع الجاهلية في شيء أبدًا. والكاهن عند العرب والعراف والمنجم من بابة واحدة مع اختلاف يسير يدل عليه اشتقاق هذه الألفاظ. فالأستاذ قد وقع في هذا الخلط بين معنى الكاهن عند العرب والرئيس الديني كما يسمونه من أنه إنما اعتمد في فهمه هذا على ما يرد في ألفاظ المترجمين الذين ترجموا كتب المستشرقين حين كتبوا عن تاريخ الشرق القديم كمصر والهند وآشور وغيرها، فإن هؤلاء المترجمين لم يجدوا في ألسنتهم كلمة يعبرون بها عن الرئيس الديني إلا قولهم (الكاهن). فهذا اللفظ عند الأستاذ هو كما ترى عامى لا عربي فهمه على عاميته لا على عربيته. بقى أن نذكر لقرائنا كلمة (الكاهن) التي وردت في القرآن ثم ننتقل بهم إلى معنى (سجع الكهان) موجزين في ذلك غير ناظرين إلى رأي الأستاذ فيما نقوله فإن المعنى العامي الذي فهمه من هذه الكلمة يجعل بيننا وبينه سدا محكما. فالذي ورد في القرآن آيتان إحداهما في سورة الطور وهي قوله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -

{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}. والأخرى في سورة الحاقة {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ومن أسباب نزول هاتين الآيتين أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونَفَرٌ من قريش، وكان ذا سِنّ فيهم وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم فأجمعوا فيه رأيا واحدًا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويردّ قول بعضكم بعضا. فقيل يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقوم به. فقال: بل أنتم. فقالوا نقول مجنون! فقال ما هو بمجنون، ولقد رأيت الجنون وعرفناه فما هو بخَنْقَه ولا تَخالُجِه (¬1) ولا وَسْوسته، فَقُولوا أَسْمَعْ. فقالوا: نقول كاهن! فقال ما هو بكاهن، رأيت الكهّان فما هو بِزَمْزَمة (¬2) الكهان. فقالوا: نقول شاعر. . . إلخ وسنعود بعد إلى تفسير هاتين الآيتين مع هذا الحديث. فذِكْر الكاهن في القرآن ليس مما يقيم لأستاذنا أبقاه الله حجة فيما يدعيه من أن هذا الاتهام مبني على ما رأوه من الشبه بين أسلوب كُهَّانهم وأسلوب السور الأولى من القرآن. وليتدبر الأستاذ هذا الموضع فضل تدبر فإنا لن نفسره له إلا بعد أن يقر بأوهامه التي ذكرناها ويقيننا أن القراء قد فهموا الآن موضع التفسير الصحيح لمسألة الكهانة. أما سجع الكهان فموجز الرأي فيه عندنا أنه هو طريقة الكهان في الإخبار بالغيوب ثم زَمْزَمَتُهم عليها ثم الاستعانة على إيقاع التأثير على السامع في زمزمتهم بالاتزان والتعديل الذي وضعوه لكلامهم. وفي هذه الكلمة الكفاية بعد، ونتم ¬

_ (¬1) تخلّج المجنون في مشيته: تجاذب يمينا وشمالا، أي تمايل. (¬2) الزمزمة: صوت خفيّ لا يكاد يُفْهَم.

قولنا عن الكهان وسجعهم مفصلا بعض التفصيل في المقال الآتى (¬1) مختصرين القول اختصارا لأن الرأي الذي نقضنا به أقوال علمائنا في فهم (سجع الكهان) كثير الأدلة، مبنى على تفسير دقيق لمعاني الألفاظ التي تداولها العلماء ولم يبينوا لنا وجهها بيانا شافيا. ¬

_ (¬1) لم يكتب الأستاذ شاكر هذا المقال ولم يتابع قوله عن سجع الكهان في أي مكان آخر.

ترجمة القرآن وكتاب البخاري

ترجمة القرآن وكتاب البخاري كتب فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد السلام القبانى كلمتين عن ترجمة القرآن الأولى في بلاغ الثلاثاء (¬1) الماضي والأخرى في بلاغ الجمعة (¬2) "أمس" ويقول الأستاذ في مقاله الأول "والذي كنت أعجب له أن المسألة لها باب خاص في أشهر كتاب إسلامي وهو البخاري عُقِد لبيان جواز (ترجمة) التوراة وغيرها من كتب الله إلى اللغة العربية (كذا) وغيرها في كتاب التوحيد وهو آخر كتاب في البخاري إذ قال -باب ما يجوز من تفسير التوراة وكتب الله بالعربية وغيرها لقول الله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. . . إلخ}. وقد كان من فرح الأستاذ الجليل بهذا النص أن جعل كلامه تعجبا من الكتاب والعلماء الذين تعرضوا لمسألة الترجمة ولم يفطنوا إلى هذا النص ولا وقعوا عليه حتى بلغ به أن قال في آخر المقال الثاني "وإذا كان للأقلام أن تفخر بالعلم، والعلم خير ما يتنافس فيه، ويُفْتَخر به، فلهذا القلم أن يفتخر بانفراده باكتشاف هذا الدليل (العجيب) في المسألة من أن البخاري -وهو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى- وضع لهذه المسألة بابا خاصا. وذلك أن مئات من الناس العلماء وغيرهم كتبوا في هذه المسألة ولم يعثروا على هذا الباب من البخاري. وبعض كبار العلماء وضعوا رسائل فيها، بل العلماء المتقدمون لم يعثروا عليه أيضا، فللهِ الحمد والمنة. ولا نقول ذلك إلا فرحا بالعلم وسرورا به. فلا ينقمن علينا ذلك رجل سليم دواعى الصدر". ونحن نقول للأستاذ الجليل: هونًا فما بك الفخر. فدعوى الأستاذ أن أحدا لم يعثر على هذا الباب في البخاري ليس لها دليل البتة من وجه من وجوه القول، فإن هذا الباب المعقود في كتاب تدارسته الأجيال من منتصف القرن الثالث ¬

_ (*) البلاغ السبت: 19 المحرم سنة 1355 - 11 إبريل سنة 1936 (¬1) 15 محرم، سنة 1355 - 6 إبريل سنة 1936. (¬2) 18 محرم، سنة 1355، 10 إبريل 1936.

للهجرة إلى يوم الناس هذا، ليس مما يخفي على أحد من العلماء أو أشباه العلماء من أمثالنا. ولكن الذين كانوا يتدارسون هذا الكتاب، ومن لا يزال يتدارسه لا يستطيعون أن يحرفوا الكلم عن مواضعه، ويخرجوا العربية من أوضاعها المقررة إلى الأوضاع المتخيلة، لذلك لم يدخلوا هذا الحديث في كلامهم حين ذكروا ترجمة القرآن، وتولجوا في الكلام عنه إباحة أو منعا. وإذا كان أستاذنا قد كشف شيئا لم يكشفه أحد قبله، وعثر على ما لم يسبقه إليه كاتب ولا عالم، فهذا الذي كشفه وعثر عليه شيء آخر غير هذا الباب المعقود في "أشهر كتاب إسلامي - وأصح كتاب بعد كتاب الله تعالى" كما قال الأستاذ. إذا كان للأستاذ أن يفتخر، ولقلمه أن يفتخر فليفتخر بأنه أول عالم قد اكتشف أن "الترجمة والتفسير" لفظان مترادفان في العربية ليس بين مفهومهما فرق البتة. فالإمام الجليل البخاري يقول "باب ما يجوز من (تفسير) التوراة وكتب الله بالعربية وغيرها. . . ." وأستاذنا يقول أن البخاري قد "عقد بابا لبيان جواز (ترجمة) التوراة وغيرها من كتب الله إلى اللغة العربية (كذا) وغيرها" فاكتشاف الأستاذ الذي يفخر به هو أن الترجمة والتفسير بمعنى. ولكني أنا خاصة لا أطاوع على أن الترجمة والتفسير بمعنى، وإلا فليأتنا الأستاذ بالدليل على أنهما بمعنى واحد فإذا فعل سلمنا له بأن هذا الباب الذي ورد في كتاب البخاري إنما يراد به جواز الترجمة. ولا بأس من أن نُذكّر الأستاذ هنا أن الأئمة لم يختلفوا أبدا في جواز تفسير التوراة والإنجيل والقرآن بلغة من اللغات، ولا كان ذلك في كلامهم. وأرجو أن يعلم أستاذنا الجليل أنى رجل سليم دواعى الصدر، ليس بى عليه نقمة، ولا لي معه خلاف إلا على هذه المسألة بعينها، أن الترجمة والتفسير بمعنى واحد، وأن البخاري لم يرد إلا التفسير، ولم يرد في كلامه، ولا في الحديث الذي رواه في هذا الباب أو غيره دليل واحد فيه ذكر ترجمة شيء من الكتب المنزلة ولسنا نريد أن ننافس الأستاذ في العلمِ ولا أن نفخر به، بل نريد أن نتعلم، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من كتم علما يُنْتَفع به جاء يوم القيامة مُلْجَما بلجام من نار".

ترجمة القرآن في صحيح البخاري

ترجمة القرآن في صحيح البخاري قلنا لفضيلة الأستاذ الجليل محمد عبد السلام القبانى حين فخر بأنه اكتشف في صحيح البخاري نصا في مسألة ترجمة كتب الله المنزلة على عباده ورسله: (إذا كان للأستاذ أن يفتخر، ولقلمه أن يفتخر، فليفتخر بأنه أول عالم اكتشف أن "الترجمة والتفسير" لفظان مترادفان في العربية ليس بين مفهومهما فرق البتة)، ثم قلت -ولا أزال أقول- أننى أنا خاصة لا أطاوع على أنهما بمعنى واحد. فغضب الأستاذ لذلك غضبة الأسد الجريح إذا حملته الجراحة فأعمل في عدوه الناب والظفر. وأنا يعجبنى من الرجال من يغضب لحقه في القول أو غيره. ولا أضيق به صدرا ولا أتبرم. ولكن الأستاذ حفظه الله في غضبه لم يبال أن يصب عليَّ نهرا من البلاغ. ما كنت أحسب أنه يستطيع أن يصبه عليَّ، . . . وبعد فإن الأستاذ يقول إن البخاري "عقد الباب للترجمة، وساق الأدلة، ولم يفهم الشراح إلا أنه للترجمة، ولا يمكن إنسانا كائنًا من كان أن يفهم إلا أنه للترجمة وفي الترجمة، وليس معنى كلمة تفسير حينما تضاف لشيء بلغة إلا ترجمته إلى تلك اللغة الأخرى، فمن الذي حرف كلم الناس عن مواضعه لأجل أن ينقدهم ثم يشتط في نقدهم؟ وأي جملة في كلامي تقول أن التفسير من حيث هو مرادف للترجمة، حتى تبنى المقالة كلها على هذا التوهم! ! ". وأنا مضطر أيضا هنا أن أسجل للأستاذ الجليل اكتشافا ثانيًا لم يفطن إليه أحد من قبله، وهو أن كلمة (التفسير) إذا أضيفت إلى شيء بلغة كان معناها ترجمة هذا الشيء من تلك اللغة إلى اللغة الأخرى، وهذا اكتشاف جدير بالتقدير، فهو زيادة في ثروة اللغة أولا، ثم هو أصل في قاعدة جليلة ينبغي للمجمع اللغوى أن ¬

_ (*) بلاغ الجمعة: 25 المحرم سنة 1355 - 17 إبريل سنة 1936

يدرسها، فإن في تطبيقها والتوسع فيها إنقاذًا للعربية من الضيق وقلة المادة. وإذا صحت هذه القاعدة التي ذكرها الأستاذ، فأنا ولا شك قد أسأت إليه أبلغ الإساءة وعليَّ أن أعتذر إليه جهدى، وإن أبذل إليه العُتْبَى حتى يرضى. فهذه القاعدة هي التي "تزيل الإشكال" وتجعل كلامي الأول تحريفا لكلمه عن مواضعه، وبناء قائما على توهم ليس فيه من الحق شيء، ومع اعترافي بأنى كنت أجهل هذه القاعدة حين كتبت مقالى الأول، فإني لا أزال في شك من أمرها ولا أستطيع أن أقر الأستاذ عليها ولا أطاوعه فيها فالإشكال لا يزال عندي قائما. ولا يغضبن الأستاذ مرة أخرى إذا اضطررنا أن نقول له أن الترجمة من حيث هي كما يقول لا ترادف التفسير من حيث هو، وليست من بابه، ولا لها به صلة. وتأويل ذلك أن الترجمة في أصلها "نقل" الكلام من لغة إلى لغة، وللترجمة شروط ودقائق يعرفها من مارسها وأخذ نفسه بها، والتفسير هو بيان معاني الكلام تفصيلا في اللغة الواحدة. هذا هو الأصل. ويحسن بى أن أضرب لفضيلة الأستاذ مثلا يقرب إليه فصل ما بين الكلامين. فلو أنى قلت للأستاذ أنى ترجمت قصيدة من شعر شكسبير من الإنجليزية إلى العربية، فمعنى ذلك أنى قرأت هذه القصيدة وتدبرتها وفهمت معانيها، وجهدت في استبطان نفس الشاعر في كلامه ومراميه، ثم هضمت ذلك كله، وجئت بلسانى العربي، فحاولت أن أنقل الى القارئ العربي الأديب شعر هذا الرجل في ثوب عربي لا يزيد ولا ينقص عن ثوبه الإنجليزي مجتهدا في أن أحمل اللفظ العربي روح الشاعر ونفسه ومقدرته على التأثير في نفس قارئه أو سامعه، غير مخل في ذلك بمعنى شعره أو معانيه مقابلا اللفظ الإنجليزي المحكم البليغ، الذي تتسع معانيه على قدر اتساع الأفهام، واختلاف الأحوال بلفظ عربي موجز مثله محكم بليغ تتسع معانيه وتختلف، بشرط أن لا يكون في عبارتى ما يخرج بالقارئ العربي إلى فهم معنى لا يحتمل أن يفهم من عبارة الشاعر الإنجليزي. هذه واحدة. فإذا قلت للأستاذ أنى فسرت قصيدة من شعر امرئ القيس فمعنى ذلك أنى قرأت هذه القصيدة وتدبرتها، وفهمت معانيها، وجهدت في

استبطان نفس الشاعر في كلامه ومراميه، ثم هضمت ذلك كله، وجئت بلسانى العربي، فحاولت أن (أبين) للقارئ العربي الأديب معاني شعر هذا الرجل في ثوب عربي آخر يزيد على لفظه العربي الأول، مفصلا في ذلك مراميه كلها في شعره (أو بعضها)، كاشفا الغطاء عن أغراضه في شعره هذا، مبينا عن المشكل الذي تختلف فيه الأفهام محددا وجوه الاختلاف، ثم مرجحا لبعض المعاني على بعض. . . إلى آخر ما يكون في ذلك. فالأصل في الترجمة والتفسير كما يرى الأستاذ مختلف، والموضوع متباين والقواعد متباعدة غير متفقة، فكيف يصح في ذهن الأستاذ بعد هذا أن كلمة (تفسير) حينما تضاف لشيء بلغة إن هي إلا (ترجمته) إلى تلك اللغة الأخرى؟ ! وكيف يأتي هذا المعنى الجديد الذي كشفه الأستاذ على وجه مرضى عند إنسان يفهم (كما قال الأستاذ في مقاله)؟ وليتدبر الأستاذ هذا الباب فضل تدبر فإن الفصل بين معنى الترجمة والتفسير لابد منه لمن أراد أن يتناول كلام الأئمة رضوان الله عليهم، وبخاصة من كان كتابه أصلا من الأصول العظيمة في دين الله. وأزيد الأستاذ كلمة أخرى في ذلك فلو أنى قلت له إني فسرت قصيدة من قصائد شكسبير بالعربية، فليس يقع في وهم إنسان (كائنا من كان! ! ) أنى ترجمتها، فإذا لم يصدقنى الأستاذ في ذلك فليسأل، فإنه واجد من يقول له أن ثم فرقا كبيرا بين قولنا "ترجمت قصيدة فلان الإنجليزية إلى العربية" و"فسرت قصيدة فلان الإنجليزية بالعربية" .. فإذا فرغ أستاذنا من سؤاله عن ذلك، فسيعلم أننا لم نحرف كلام الناس عن مواضعه "لأجل أن نشتط في نقدهم"، وأننا لسنا ممن يبني "كلامه على التوهم". وأعود فأقول مرة أخرى للأستاذ خشية أن يكون فاته ذلك في مقالى الأول "أنى رجل سليم دواعى الصدر، ليس لي عليه نقمة، ولا لي معه خلاف إلا على هذه المسألة بعينها من أن الترجمة والتفسير بمعنى واحد، وأن البخاري لم يرد إلا التفسير ولم يرد في كلامه، ولا في الحديث الذي رواه في هذا الباب أو غيره دليل واحد فيه ذكر ترجمة شيء من الكتب المنزلة". أما ما نقله الأستاذ من

كتب شراح البخاري حين شرحوا هذا الباب منه، وما في ذلك من ذكر الترجمة، والصلاة بالفارسية أو غيرها، وجواز قراءة القرآن بغير العربية، فلسنا نكذبه في نقله. وليست هذه النقول التي نقلها مما بعد عنا، فإن الكتب -وبخاصة المطبوع منها- مبذولة لكل قارئ. ونحن نعلم أن ابن حجر قد استوفي الكلام في هذا الموضع من كتابه وفي هذا الباب من صحيح البخاري، ولكن أيظن الأستاذ أن ذكرهم الترجمة في هذا الموضع دليل على أن قول البخاري "باب ما يجوز من تفسير التوراة. . . إلخ" معناه "باب ما يجوز من ترجمة التوراة .. إلخ"؟ كلا يا سيدى الأستاذ، فإن ابن حجر وغيره كان أحرص على علمه من أن يتقحم على العربية فيقلب وجهها. انظر كيف حرص ابن حجر حين شرح نص كلام البخاري فقال "والحاصل أن الذي بالعربية مثلا يجوز (التعبير عنه) بالعبرانية وبالعكس". وكرر ذكر (التعبير) ولو أنه كان قد صح عنده أن البخاري عني بالتفسير الترجمة لما ذكر غيرها، ولا أدري .. لعل عذر ابن حجر كان هو عذرنا إذ لم يكن يعرف قاعدة الأستاذ في أن كلمة التفسير إذا أضيفت لشيء بلغة فما هي إلا ترجمته إلى تلك اللغة الأخرى! ! أما ذكرهم في هذا الموضع بعينه قراءة القرآن بالفارسية أو الصلاة بالفارسية وترجمة القرآن أو ما يشاءون فليس لأن البخاري جعل هذا الباب لذلك، بل لأن هذه المسائل من مسائل الفقه مما استدل فيها الفقهاء بهذه الأحاديث على مذاهبهم، وفرق بين أن يكون البخاري عقد الباب من أجل ذلك وبين أن الفقهاء استدلوا بما في هذا الباب على مذاهبهم. ولو رجع أستاذنا فقرأ شرح ابن حجر لوجد صواب الرأي، والله الهادى إلى سواء السبيل، فإذا أشكل عليه المذهب، فليسألنا غير متجانف، فإذا فعل شفينا صدره من ذلك بجوابنا. هذا، وقد نصحنى الأستاذ في أول كلامه بنصائح غالية كقوله "وكنت أود أن يتروى (يعني كاتب هذه الكلمات) قليلا قبل أن ينشر، أو أن يعرض هذه الكلمة على فضيلة الأستاذ أخيه أو والده الأجل قبل نشرها"، وكقوله "لو تروى قليلا أو شارك (أي إنسان) في فهم ما ينقده لما وجده موضع نقد". وأنا أعترف

للأستاذ أننى (ترويت قليلا) ولكني آسف أشد الأسف وأَبْلَغَه وأمضَّه أنى لم أستطع أن أعرض هذه الكلمة على فضيلة الأستاذ أخي أو والدى الأجل قبل نشرها، وآسف أيضا أشد الأسف وأَبْلَغه وأمضَّه إذ لم أجد (أي إنسان) أشاركه في فهم ما أنقده. . . ويقول الله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

فاتحة مجلة العصور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. ساعة فاصلة في تاريخ الإنسان، حين يرمى تحت قدميه كل وساوس الشيطان متجردًا لله، مجاهدًا يعمل ويكد وينطلق، لا يردّه فزع، ولا يكبح جماحه وَجَلٌ. ساعة فاصلة ينصرم من ورائها عمر قد أدبر، ويمتد أمامها أجل يستقبل، والحياة بينهما شاخصة تنظر عمل الحي في أسباب حياته. في هذه الساعة أضع بين يدىّ أشياء عزيرة كنت أضن بها دون الناس جميعًا، ثم أرسل إليها بصري مؤملا يرجو أن يفوز، مشفقًا يخشى أن يحبط عمله. لقد عشت ما عشت، وجربت ما جربت، ثم بقيت صامتًا أو كالصامت. فالآن حين أبدأ أعرض نفسي على الناس في كل أسبوع أو أسبوعين، أرانى متكلما أبدًا: إن سكت القلم بقي عملي من أمامى يتكلم. فأنا -ما بقيت- محاسب بالكلمة يقولها، والعدة يعدها، والتدبير يسوسه، والعمل يعمله؛ ورب واحدة تخفض مني ما كنت أرجو أن أرتفع ببعض أسبابه. لقد انتزعت نفسي من بين أحبابى وأصحابى، وصرت رجلا لكل امرئ فيه حق، وعليه في كل ما هو بسبيله تَبِعة، ولكل يد في عنقه مِنَّة أو دين، ولديه أمانة هو مؤدّيها على الرضى كما يؤدّيها على الكره، فإن خاس أو خان أو أمسك هلك -ولا هلك سواه- وكان من الخاسرين. ¬

_ (*) "مجلة العصور" العدد الأول في يوم السبت 27 من رمضان سنة 1357 - 19 من نوفمبر سنة 1938، ص: 1 - 2.

لقد انتزعت نفسي من بين أحبابى وأصحابى، ولزمنى أن أبطل -في هذا العمل الصحفي- معنى العداوة والصداقة في جانب من قلبي، إذ ليس أقتل لعمل الصحافي من تحكم العداوة ومحاباة الصداقة. ولئن كنت قد خسرت لذة إيثار الصديق، فأحسبنى سوف أربح جمال إيثار الحق والعدل من طريق المساواة في المحبة. وكأيّ من لذة تعدل لذة القدرة على إنصاف عدوك من نفسك حين يكون مع الحق، أو كان الحق معه! ! إن هذا العمل الذي أقدم عليه يكاد يشعرنى بعض الفكر فيه بدبيب الشيب وهو يصَّاعد بين القلب والشعر، ويكاد يحملنى بعض هذا الفكر على حالة من أريحية الصبا وعنفوان الشباب، أتدفق بهما في نفسي تدفق السيل تحت صعقات الرعد، وخفقات البروق؛ وانقضاض الرياح العواصف بين مخارم الأودية وأفواه الفجاج. أما دبيب الشيب: فمن هول المطلع، حين أُغمض عيني على هدأة وأرمى ببصيرتى فأرى ليلا مظلمًا قد أطبق على هذه الشعوب العربية والإسلامية والشرقية، وأرى من ورائها دنيا تموج وتضطرب، وتضئ وتخبو، وتسمو وتتضع، وتأخذ وتدع. . . توشك أن تلتهم الشرق كله، فينتاشنى (¬1) الهم من نواحي نفسي، ويتداخلنى الرعب والفزع واليأس أو يكاد. كيف. . .! كيف نستنقذ مجدنا وتاريخنا وأرواحنا وذرارينا من بعدنا، وأنّى المسلك؟ إن أحدنا ليضربه العجز عن ضبط ما يتبدد على أفكاره من خطرات الرأي التي يريد نفسه وأمته على العمل بها لينقذ روحه من الهلاك، ومجده من التهدم، وذريته من إرث السوء وتركات الشر. وأما عنفوان الشباب: فحين أمد طرفي إلى مجد آبائى وأجدادى، وهم يهبّون من بواديهم في غبارها، ثم لا يلبثون إلا قليلا فيملأون الدنيا حضارة تلوح ¬

_ (¬1) انتاشه: أخذه وتناوله من قريب.

في بدئها كتباشير الفجر، ثم تتفجر بشموسها وأنوارها حتى تضئ من جنبات الأرض كل مظلمة داجية، فثَمّ الأسوة. إن المجد الغابر ينادينا من وراء السنين والأجيال: لابد. لابد! ! فهل ييأس من يريد أن يحيى؟ إن الصخرة العظيمة المعترضة سبيل الظمآن إلى الماء تقول له: إما أن تحطمنى، وإما أن تموت، فأين الخيرة .. ؟ لقد أعتقد أن إرادة الرجل إذا تعلقت بالله، وأمَّلت في الله، وعملت لله لم يبق أمامها إلا ما يلين أو يتقصف أو يتهدم أو يستقيم. لقد تعلمت أن لا أيأس، وقد بالغت الحوادث والأيام في تكوين بعض ما في نفسي حتى ما أكاد أعرف كيف أفرح لنجاح أصيبه وأدركه. لقد سُلبتُ أشياء كثيرة، وحُرِمت أشياء كثيرة، ثم وجدت أشياء كثيرة، فعرفت مما حُرِمت ومما وجدت خيرًا كثيرًا أرجو أن أنفع الناس به بإذن الله؛ فإن فزت فبإذنه وله الحمد في الأولى والآخرة، وذلك أملى في الله وهو على كل شيء قدير.

من أين؟ وإلى أين؟

من أين؟ وإلى أين؟ في هذه العاصفة الهوجاء التي تجتاح الدنيا، والشرق أول ما تجتاح في تهجمها وانقضاضها، أجترئُ فأصدرُ "العصور" محتملا في سبيل ذلك ما يهدّ وما يفزع وما يغتال، وبالله أستعين، وله أتوجه، وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. إن بعث مجلة "العصور" التي كان يقع على تحريرها، ويتولى إصدارها صديقي إسماعيل مظهر، عمل قد نصبت نفسي له، وفرغت من كل شيء في سبيل تحقيقه. لقد كان مما يسعنى أن أصدر مجلة أخرى باسم آخر، وأنهج لها عين المنهج الذي أريده الآن "للعصور". ولكن تاريخًا قديما ينبعث من بعض نواحي القلب يدفعنى إلى أن لا أختار إلا ما اخترت. "فالعصور" الأولى التي كان يقوم بأمرها إسماعيل، إنما كانت ثمرة مبدأ اعتقده صاحبه واستمسك به، وخفَّ له، ونافح دونه، ورمى به إلى غرض. وفي الطريق إلى غرضه، أصاب إسماعيل وأخطأ، وأحسن وأساء، وأثار إلى نفسه من يحب ومن يبغض، واحتقب (¬1) في ذلك شرًا كثيرًا وأصاب بعض الخير. لقد ميز "العصور" الأولى عن سائر ما كنت رأيته من المجلات أن صاحبها أنشأها لمبدأ تقوم عليه وتعمل به، واستمر يلاقى في سبيله ما يلاقى من شر نفسه وشر الناس، حتى اندفعت به الحوادث إلى مصائبها ونكباتها فصرف وجهه اضطرارًا، وفاء إلى سكتة ظاهرة، يعمل من ورائها قلب مشبوب. إن الشركة بيني وبين إسماعيل في أصل المبدأ الذي قامت عليه "العصور" الأولى، هو الذي جعلني أتجاوز ابتداء مجلة إلى بعث مجلة، وأيضًا. . . لقد عملت "العصور" عملا لا ينكر أثره في الفكر العربي الحديث، وسواء علينا ¬

_ (*) العصور العدد الأول، يوم السبت 27 من رمضان سنة 1357 - 19 من نوفمبر سنة 1938 (¬1) احتقب: حَمَل.

أكان هذا الأثر مما نرضى عنه أُم كنا نعارض فيه ونقف دونه، ونخالف على صحته أو بطلانه. وعقيدتى أن حقيقة الحياة هي المبدأ والإيمانُ به، وبغيرهما ينقلب الإنسان آلةً عاملة لا يعرف معنى الإيجاد والإِبداع والمقاومة، والنزُوع العقليِّ والروحيِّ إلى المعاني السامية والفضائل العلْوية. وكذلك يفقد الإِنسان الحياة، وكذلك يضيع التراث الإنسانيّ الذي جاهدت أجيال البشر الغابرة في سبيله، بما وهبت من قوة، وما أُعِينَت به من وسيلة. إن صحة المبدأ وحدها كفيلة بإحداث أعظم الآثار في تاريخ العقل الإنسانيّ، وأما الإيمان بهذا المبدأ، فهو إعطاء العقل قوة التدبير ليخرج حقائقه وأمانيه إخراجًا عمليًا في الحياة. لقد كان المبدأ الأول "للعصور" هو حرية الفكر، وصراحةُ الضمير، وإخلاصٌ للوطن والعلم والأدب. هذا هو المبدأ، وقد آمن به "إسماعيل" إيمان الشباب المتوقّد، فاندفع به الرأيُ في مجاهله فاهتدى وضل، وأضاع نفسه ووجدها. . . لم يبق على حالة يستقر عندها استقرار الحكمة الرزينة. الرجل الحر، هذا هو مبدئى ومبدأ أصحابى. الرجل الحر أي الفكر الحر الذي يبلغ من حريته، واتساع آفاقه، وبُعد مداه، وتراميه إلى الغايات البعيدة وتساميه إلى الأجواء العلوية - أن يعرف أن للحرية قيودًا كثيرة، وأن الجاهل المغرور هو الذي يظنها انطلاقا من القيد، وخروجًا من التقاليد، وتحللا من إصر الأخلاق وأغلال الشرائع. إن النفس (البُغاثية) (¬1) إذا انطلقت -في ضعفها وفتورها- بين حدائق الرأي وغاباته أذهلها سعة ما ترى من الأرض الخضراء المثمرة المُظلة، وخُيل إليها أن الدنيا كلها امتداد لما ترى ينبسط على نهج واحد. ولكنَّ نفس (النسر) الأجدل تنطلق لترى الغاب وما وراء الغاب، فترى كيف ينتهي إلى قفر يحدُّه بجَدْبه وظمأه وفقره وإعدامه، ثم يصده بجبال رواس شامخات الذُّرى، مظلمات ¬

_ (¬1) بُغاث الطيور: ألائمها وشرارها وما لا يصيد منها.

النواحي، مضلات المخارم (¬1)، فتختلف المعالم باختلاف الحدود. أما الشيء الذي لا حد له، فهو شيء "يستحيل وجوده في هذه الدنيا، فلا جرم أن تكون الحرية شيئا كسائر الأشياء محدودًا بحدوده. إني أومن بالحرية، وأومن بقدرة الرجل الحر على الإتيان بالمعجزة حين تتم فيه آية الحرية، فلذلك لا يسعنى حين أبدأ هذا العمل إلا أن أقول بملء نفسي لمن يسمع: "من ههنا أبدأ"، من ههنا أبدأ لا لنفسي ولكن للناس. إن هذه كلمة شاملة لا يكون تفصيلها إلا عملا في كل موضع عمل. إن العمل الصحافي ليقتضينى أشياء كنت بمنجاة منها، وكان أحب إلى أن أفرغ لما كنت فيه من عمل، ولكني أشد حبًا لهذا التراث العربي الإسلامي العظيم من أن أدعه في يد من لا يقوم عليه كقيامى عليه. إن هذا التراث الإِسلامي ليس وحده ما خلف آبائى من دين وعلم وأدب وآثار، بل إن أعظم التراث وخيره وأروعه هو هذه النفوس التي انحدرت معنا إلى هذا العصر من أجيال القوة الحرة المستحصدة (¬2) العادلة. إن هذه النفوس التي نحيا بها هي التي تطالبنا -من تحت الأدران التي غشيتها- بالعمل من أجلها وفي سبيلها لإنقاذها من التعفن والبلى، ثم لردها إلى حياة هذا العصر لتثبت أنها لا تزال نفوسًا يجب أن توصف بالحياة. هذه فلسطين الصغيرة المجاهدة المظلومة التي تحيط بها الأفاعى الذهبية من كنوز اليهود تثبت للعالم كله أن (الرجل) في العربي لم يمت بعد، وأنه حين يستيقظ في داخله تستيقظ معه كل الفضائل والأخلاق والتقاليد العربية التي تتوهج تحت شمس البادية المقفرة. . . تتوهج كالذهب حيث يفقد الذهب قيمته المدنية. هذا العربي حين يحارب، ولكن أين العربي العالم العامل المخلص الدؤوب الذي لا يفتر. إننى وأصحابى ممن أكرمونى بصحبتهم، ومن يكرمنى بعد ¬

_ (¬1) المخارم: الطرق في الجبال. (¬2) المستحصدة: القوية.

بصداقته، سوف نرصد قوانا كلها لإيقاظ الفكر العربي والإسلامي في مصر والحجاز والشام والعراق والمغرب وسائر بلاد العربية والإسلام. إن هذا الفكر إذا جدد تاريخه القديم وبدأ بدءه أثبت هو الآخرُ أن (العاقل) في العربي إذا انتبه، انتبهت فيه كل الحقائق العادلة في الحياة العقلية والاجتماعية، وكل الأحلام الجميلة الوديعة التي تتندّى على النفس العاملة المجهدة بالراحة والسكينة. * * * إني أكتب كلمتى هذه من هذا المكان، وقد انبسطت تحت عينيّ خريطة رقعة من الأرض ما بين المشرق والمغرب، أهلها إما عرب قد انحدروا سلالة أمة تاريخية قد حازت من المجد كل غال وكريم، وإما مسلمون من غير العرب قد اندمجوا في العرب بإسلامهم فكانوا منهم واستبقوا خيرات المجد العربيّ، وأعانوا على إبداع الحضارة العربية الإِسلامية بقلوبهم وأيديهم وعقولهم غير مقصرين ولا متخاذلين. إن هذه الرقعة من أرض الله كانت يومًا ما نبراس العقل والعلم والحضارة، بل كانت منبعَ الفيضِ الإنسانيِّ السامى المتفوّق، بل كانت مَعبدَ الرحمة والعدل والحق، والسموّ بالطبيعة الإِنسانية إلى عنان السماء المشرقة بفضائلها وأخلاقها. كانت كذلك حين كانت القوة في هذه الشعوب ميراثًا لا يضيعه وارثٌ من وَرَثته، فلما رمينا بحب الخمول والكسل انفلتت أسباب القوة من أيدينا، وانفتل كل خير، وكل مجد، وكل فكر سام، إلى من يستطيع أن يحوزه ويحرص عليه ويقوم على تربيته ليربو بين يديه. القوة، القوة .. إنها الفضيلة الأولى في حياة الإنسان الحي، القوة. . . إنها عصب الحرية الكاملة التي تعمل بنقائها لتطهير الحياة البشرية من أدران الذل القذر الذي يجعل الحياة جيفة منتنة على الأرض. إن هذا الطاعون الوبئ الذي انتشر في الشرق، وفي الشرق العربي والإِسلامى خاصة، طاعون الضعف، قد فتّ كل خير فينا وأحاله إلى فساد، فاختلفت الأنظار إلينا هازئة ساخرة بنا .. كلا .. بل هازئة ساخرة بالمجد

المخلف من عصور آبائنا الأمجاد. . . كلا، كلا، بل اختلفت أنظارنا (نحن) إلى هذا الميراث النبيل بالهزء والسخرية والاحتقار، فصارت الناشئة منا إلى ازدراء ما ورثنا من علم وفن وأدب ودين، وشريعة اجتماعية، وفضيلة أخلاقية، واندفعت إلى ما بهر أبصارها من مدنيات الأمم، وارحمتاه لنا. . . إن الضعف قد أيقظ في الإِنسان الشرقي الطبيعة المنتكسة، الطبيعة (القردية)، طبيعة التقليد على غير هدى في بصيرة النفس، والفرح بغير انبساط في حرية العقل، والفكر بغير تأمل في عواطف القلب، والعمل بغير ضابط من قلب أو عقل أو بصيرة. وأي خير يرجى لمثل هذا الإِنسان الذي لا تحركه إلا أدنأ الطبائع، وأحطها مرتبة عن الإِنسانية العالية السامية التي يجب أن تتفوق في الإِنسان المهذب على الإنسان الوحشى المريض فيه. أكتب هذه الكلمة، وأنا أعلم أن عمل الصحافة اليوم قد خرج عن أن يكون مقالا أدبيًّا يكتبه أديب متمكن، أو قطعة فنية يصورها فنان مبدع، أو قصيدة درية تتلألأ على الذرى العالية، ليسمو الشاعر برواته وقرائه إلى أحلامها الجميلة الرائعة، تحفها أناشيد النفوس الرقيقة التي عذبها الأسر في السجن الآدمى المسمى بالجسد، إني أعلم، وأعلم أن الحياة المدنية الحاضرة قد اقتسرت الناس على خطة مالية لا يعرف فيها ما قال فلان، ولكن، ما ملك فلان؟ إني أعلم، وأعلم أن الجمهور قد اعتنقته هذه الحياة إلى طريقة هازئة ساخرة فهو لا يقدر إلا ما يجد له لذة طارئة تهز النفس هزتها الأرضية. . . وما يبالى بعدُ باللذة الخالدة التي تبقي حلاوتها في النفس بالتأمل، وفي العقل بالتفكير الحر، وفي القلب بالعاطفة المتفجرة التي تملأ إنسانية الإِنسان عذوبة وريًّا، ثم حنانًا ورحمة. إني أعلم هذا. . . ولكني أعلم أيضًا أن الصحافة الأدبية الشرقية قد اندفعت في طريق ليس لها أن تسلكه، أو تصر على المسير فيه. إن هذه الصحافة قد بلغ بعضها فيما بلغ مرتبة أعظم الصحافة في العالم، ولكني أجد الحق والعدل أكرم عندي من صداقة الأصدقاء. إني أجل كل عمل، وأقدر كل عامل، ولكني أجل أمتى وتاريخى، وأقدرهما بما يفوق كل عمل وكل عامل. . . إن صحافتنا التي

اتخذنا أساسها من أسس الصحافة الغربية، لا تنفعنا ولا تجدى علينا إلا بقدر لا يكفي ما نطالب به ونجاهد له. إن هذه الأمم التي أخذنا عنها، واهتدينا بها، وشرعنا على منهاجها. . . أمم قد بلغت شعوبها من مرتبة الحرية والقوة ما أوحى إلى صحافتها بالنهج الذي يجب أن تنهجه في تتبع إرادات الشعب، واستغلال أهوائه وشهواته لمصلحتها ثم للذته. فلذلك كانت هذه الصحافة متعة المستمتع، وكان فيها لذة الضعيف ولذة القوى معًا، وكان فيها ما ينفع وما يضر، ما يهدم وما يبنى. . . لأن استفحال القوة وامتلاء النفس والعصب والروح والقلب بآثارها وأصولها، لا يجعل الشعور بما يضعف أو يضر أو يهدم شعورًا تاما يوقظ النزاع لمقاومة هذه العوامل الهدامة ودرء آثارها، وأيضًا لأن القوة تحمل على البغي، وتجعل الاعتقاد فيها والإِيمان بها نفيًا للمبالاة والاكتراث من نفس الإِنسان القوى. أما نحن فإن السبيل علينا مختلف، والغرض الذي من أجله ننشيء الصحافة جد مباين لأغراض الصحافة الأوروبية. إن صحافتنا صحافة شعوب ضعيفة خاملة متهدمة، شعوب قد فقدت فضيلة القوة وكل أسبابها العاملة، وافتقدت نور الحرية النبيلة المترفعة على الشهوات، وبذلك صار من حقها على الصحفي أن ينظر نظرة متأملة متعمقة نافذة شاملة، لينهج لها النهج القويم الذي يرد إليها ما فقدت، ويوجدها ما افتقدت؛ ويعمل لها عمل الأب الرحيم لولده الضعيف حتى يشب ويستحكم. وأنا حين فكرت في بعث "العصور" واحتمال تكاليف الحياة الصحفية، لم أُلْقِ كثير بال إلى مشقة المال وهو أصل في قوة الصحافة، ولا في النصب الذي يهد الجسد لأن الروح يجب أن تبقى مستعلية بشبابها على عجز البدن، ولا في الآلام التي سأحملها في كل شيء، لأن الآلام هي التي تجدد عزم الإنسان، وتدفعه إذا عرف كيف يحتملها مبتسما راضيًا. لم أفكر في هذا ولم ألق بالى إليه، وإنما فكرت في المبدأ الذي يجب على أن أحدده لنفسي تحديد الذي يريد أن يشرع في عمل ينتظم، وفي الغرض الذي يجب أن أسدد إليه كل سهم من سهامى في هذا العمل.

إن مبدئى ومبدأ أصحابى ممن أرتضى أن يشركنى في هذا العمل، هو الجهاد في سبيل القوة التي نملك بها القدرة على الاحتفاظ بهذه الحريات، والنظام الذي يسدد خطانا في العمل بقوة وحرية في إيقاظ الشعوب المستضعفة العاجزة. إن هذا المجمل الذي تنطوى تحته أسرار اليقظة، يشمل الحياة الاجتماعية العربية والإسلامية كلها: حياة الفرد من حيث أنه أصل في تكوين الجماعة وتكييفها، وحياة الجماعة من حيث أنها اشتراك بين الأفراد لتكوين شعب مثقف عال عامل، ويشمل الحياة الأدبية والعلمية والعملية، أو الحياة العقلية كلها مستغلة ومنتجة. من وراء هذا المبدأ البسيط أهوال، أهوال النظر في كل ما يمت إليه بسبب من أشياء الحياة، وأهوال العمل على تنفيذ السياسة التي نتخذها لكل إرادة من إرادات الخير للمنفعة، وأهوال التنبه للخطأ كيف ينشأ، وكيف يصلح، وأهوال الخطر من أين يقبل علينا وكيف يتقى، وفوق ذلك قول الترفق على هون، والتلطف للنفوذ بما نريد إلى المكان الصالح لاستنبات المبادئ الصالحة والأعمال الناجحة. فالعمل الصحفي في مجلتنا هذه ليس عملا إخباريا ولا سياسيا، ولكنه عمل اجتماعى تمتد أصوله إلى كل شيء، في الشارع وفي البيت، وفي النفس وفي العلم، وفي الأدب وفي السياسية، وفي كل ما هو ممثل للحياة التي يجب أن يصير بها الشرق العربي والإسلامي كائنًا حيًّا يعيش بنفسه ولنفسه ثم بالإنسانية وللإنسانية. إن النظرة الأولى إلى هذا المبدأ الذي نهجناه وبينا بعض أصوله، توحي إلى الناظر غرور العمل الذي نحن مقبولون عليه؛ وأما النظرة الثانية، نظرة المتأمل الذي يرمى ببصره إلى الأعماق البعيدة ثم إلى الذرى العالية، ويستوعب ما عليه الأمم العربية المختلفة، وما تتباين فيه وما تتفق عليه، وما يجترفها من التيارات الحديثة القوية المكتسحة - سوف يرى مشقة العمل، ومشقة التوجيه السياسي لهذه المبادئ.

وأما الغرض الذي نرمى إليه، فهو غرض واضح بين لا خفاء فيه. هو إصلاح الحياة التي نحياها، وإمدادها بكل أسباب القوة والحرية والسيادة النفسية والعقلية والأدبية، وما يحمى هذه السيادة من الخضوع لاستبداد الأهواء والشهوات. وطريقنا طريق واضحة هي أن ننفض الكسل عن عقولنا وأرواحنا، ونتجرد للحق والعدل، والسيادة، والاستقلال. إننا نريد أن تكون حياتنا المنزلية والاجتماعية، وحياتنا العقلية والعملية، وحياتنا السياسية والأدبية، حياة ممثلة للفضائل الإنسانية الكاملة، ومميزة لنا بتقاليدها القويمة القوية، وسامية بنا إلى مرتبة المجد الذي أذهل العالم في أوانه بحضارته وروعته وعبقريته وجماله. الطريق واضح بين، فيجب أن نقول وأن نعمل وأن نؤمن بما نقول وما نعمل من سر أنفسنا .. من قلوبنا .. من أحشائنا. . . من دمائنا. . . من نوازع المجد التي تتراءى لأبصارنا أحلامًا تريد أن تتحقق. . . ولابد من أن تتحقق.

لماذا، لماذا؟

لماذا، لماذا؟ إن قلبي الذي يتصدع الآن هو قلبي الذي أحبها من قبل. لقد عشت لها كالدوحة الناضرة. من أفيائها ظل رطب نديٌّ يروى ظمأ النفس الصادية، هكذا كنت أحس. أنا بقوتى كنت ألين لها كأنى نغمة عاطفة تحن إليها حنين الطفل، هكذا كنت أحب. وأنا بكبرياء رجولتي كنت أخشع لرقة أنوثتها خشوع الزهرة المتفتحة في معبد الفجر، هكذا كنت أفرح. ولكنها المرأة.! في طبيعتها إنكار الرجل إذا عرفت أنه لها، وأنه أحبها، وأنه بها يفرح. إن قلبي يتصدع الآن في يديها: لأنه أظلها، وحَنَّ إليها، وخشع لها. . .، لأنه أحبها. فلماذا أحببتها .. ؟ لماذا؟ لماذا؟ . . . ¬

_ (*) العصور، العدد الأول، 19 نوفمبر 1938، ص: 26

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات لبثت في أسر "الوظيفة الحكومية" عشر سنوات متواليات أعمل فيها ولها، ثم تنزل القدر فعافتنى وعفتها، وانطلقت أطوى الأرض. . .، أنظر بعينيَّ إلى آفاق تترامى على مطرح البصر، وكأنى آبد قد حطَّم القيود وانفلت من بين أعواد الحديد التي كانت تمسكه من ورائها، وملأت رئتىَّ من الهواء الحر، يارب، أين كنتُ؟ إن طبيعتى التي فُطِرْتُ عليها تأبي أن تألف هذه الأنفاس المقتّرة المعطاة على المنة لصدور تنطوى على قلوب حية تنبض وتتحرك وتسمو بآمالها إلى الخير النبيل. وبقيت أياما، هي من حياتى كأنها ذكرى فرحة قديمة انبعثت على حين غفلة من كهوف النفس المهجورة التي يختبئ في ظلماتها ما يمضي من أفراح الحياة. وتوالت الأيام تتسحب على ظلال العمر، وتجلت الأحلام العزيزة التي لا تفني وسكنت النفس إلى حريتها، وبدأت أبحث عن واجبي في الحياة، فمكثت على لُبث أتأمل وأفكر، والروح في فترة من هدوء ورضًا، حتى اهتديت بحمد الله إلى الطريق والغاية. نحن شعوب متخاذلة قد غفلت عن حقيقة الحياة، فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سنة النوم التي طالت بها، وقتلت فيها مادة النشاط التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض. أجل .. ، وهذه الشعوب نفسها، هذا الشرق، قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارة والمدنية، يتقنها ويستجيدها ويطهرها من أدران البلاء التي تعصف بإنسانية الإِنسان كما تعصف الريح بأوراق الشجر. فلم لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة؟ وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على نسج الثياب الرفيعة التي تلبسها الإنسانية لتزهى بها، وتبدو في زينتها؟ ¬

_ (*) العصور العدد الثاني، 9 ديسمبر 1938، ص 37 - 39

هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين كأنما نرى معجزة تحققها أيدى مردة من الجن ليسوا من الإِنس في أصل ولا نسب. إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزًا وهلعًا واستكانة. ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة ليعرف كيف يعمل. إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة، تقف على هذه الأرض موقفًا ظاهرًا لمن يتأمل. هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملأها حديدًا ونارًا وضجيجًا في الأرض وصخبًا طائرًا في السماء. والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدة مهيأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مُقْعِيَة (¬1) متربصة تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها. إن المدنية الأوربية المحدثة، في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية، ودفعتها إلى زيادة التسلّح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كل ما يمس الاستعداد الحربي، ولا شك في أن هذه الإِرادة وحدها مع الإِسراع في تنفيذها، سوف تؤدى حتما إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشر جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوه وجه الإِنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلا في العالمين. ولو أن هذا الاستعداد الحربى العظيم، كان نتيجةً للدفاع عن مبادئ ¬

_ (¬1) أَقْعَى الكلبُ: جلس على مؤخرته مُفْتَرِشا رجليْه وناصِبا يديه.

استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها، لقلنا عسى أن تنتفع الإِنسانيةُ بانهزام الباطل وانتصار الحق، وإن ضَحَّت في سبيل ذلك بالملايين من البشر الذين تأكلهم هذه الحرب الضروس، ولكان ثمَّة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإِصلاح تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به. ولكن الواقع غير ذلك. فإن الحرب الحديثة المقبلة. . .، إنما هي بغْى. لقد بغي بعضهم على بعض في العلم، فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضَرَرَ العلم أكبر من نفعه، وأن الشقاء قرينٌ لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإِرادة، وردهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض. . .! هذه أوربَّا التي نفضتْ على كلمة "الحرية" من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإِبداع، وزخارف الحضارة -حتى بدتْ فتنةً يتهاوى في فتونها كل غاو وحليم- تثبتُ للناس أن "الحرية" كلمة ضامرة ضعيفة لا معنى لها، ولا حياة فيها، ولعل التاريخ كله لم يشهدْ عصرًا ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة، مع كثرة دورانها على الألسنة، مثل الذي شهده في هذا العصر. ففي كلّ ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السر وحرية العلن، وعلى حرية الرأي وحرية الضمير. في فرنسا -باعثة هذه الفتنة في أوربا- في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كل بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبد به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربى، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة "الحرية". إن كل عمل، بل كل رأي، بل كل فكر، بل كل شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها، في العلم والفن والأدب وفي كل

شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطا فاسدًا لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالح كل شيء، وتنفي فساده وتحريفه وغلوه وغروره ليكون الانتفاع به أقرب لإِنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتد بها إلى وحشية الغرائز الدنيا التي تتحكم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا روية. هذه الصورة الدانيةْ الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية التي تبنى عليها سعادة القلب الإِنسانى، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة؛ والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمد كل هذه بأكبر أسباب الفساد إلّا وهو غرور هذه المدنية بعلمها ورأيها وفهمها؛ وادعائها إدراك سر الحقيقة في كل ما تتناوله بالبحث والتحليل. أما الشرق. . .، فهو الآن يموج ويهتز ويمتد بآماله، ويطالب بحرياته، فبذلك تهيئه ضرورة الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتهيئه طبيعته الموروثة للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها، وتهيئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية، لتعبئة قواه التاريخية كلها، فيأخذ الحضارة الحديثة فيصهرها ويذيبها ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى تقوى الله في عمل الدنيا وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يسم بها مدنيته الجديدة التي يتهيأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.

شكر

شكر لم يزل هذا القلب يكلفني من عواطفه يومًا بعد يومٍ، ويطالبنى أن أجزى عن كل إحسان بما يعجزنى ويعجزه. وحين أصدرت العدد الأول من "العصور" تجلت له عواطف أصحابه وأحبابه، وأشرق عليه من بشرهم وترحيبهم ما لا وفاء لي ولا له ببعض مثله. ومن حيانى سرًّا فأنا أرد تحيته هنا علانية، ومن قدّم إلى من معروفه علانية، فأنا أحفظ له الشكر في نفسي ما بقيت. وأخصّ في هذا المكان أستاذى الأول ومرشدى وصديقي الأستاذ محب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية ومجلة الفتح، وأستاذى وصديقي الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة والرواية، أخصهما بكل ما أملك من هذه الدنيا التي يتنازع عليها الطغاة البغاة. . . أخصهما بقلبي وإن قلّ. ¬

_ (*) مجلة العصور العدد الثاني، 9 ديسمبر 1938، ص: 44.

أنا وحدى. . .!

أنا وحدى. . .! تحت الشمس المحْرقة التي ترسلُ أشعتها، وكأنها لُعَابٌ من النار الجاحمة المتسَعِّرَة. وعلى الرِّمال الملتهبة التي تَزْخر حَرَارتها، وكأنها بحرٌ من السعير تتلاطَمُ فيه أمواجُ اللهب. وبينهما. . . بينهما يتهاوَى سَمومٌ من الرياح العاصفة، وكأنها أنفاسُ الشياطين المخلوقة من مارج من نارٍ. أنا وَحدِي. . . أمُدُّ الطرف إلى الآفاق المترامية، ذاهلًا عن آلام الظَّمْأ، لأرى السرَابَ المتخايلَ كأنه ذَوْبُ الدُّر واللؤلؤ. أنا وحدي. . . أرَى الجبال البعيدة الشامخة، على هامَاتها عمَائمُ الشيب تفيَّئُها الريح، وكأنها ذوائب من دُخانٍ. أنا وحدِي. . . حيث تلبسنى النار، حيث أطأ النار، حيثُ أتنفَّسُ من نارٍ، حيث أسمع حَسيسها وأرى آثارها. . . أنا وحدى. . . أيتها الشمس المحرقة، أيتها الرمال الملتهبة، أيتها الرياح المندلعة، أيها الشراب، أيتها الجبال. . .! ! أنا وحدى معكُنَّ أحيى لأحترق، وأحترق لتحيى النفس التي تنشُدُ الخلود! ! الصديق. . .! الصاحب. . .! الأخ. . .! كلهم. . . كلهم ودَّعنى لأنه لا يطيق، وأنت أيضًا أيتها الحبيبة! ! إذن فأين أجد الراحةَ من وَقُودِ النار؟ . ¬

_ (*) العصور، العدد الثاني، 9 ديسمبر 1938، ص: 64

الطريق إلى الأدب 1

الطريق إلى الأدب - 1 - تلقيت رسالة من بعض أصحابنا يسألنى فيها عن الطريق الذي ينبغي له أن يسلكه إلى دراسة الأدب، ويقول: إنه يجد في نفسه المعاني التي تجري وتتخايل والأحلام التي تزهو وتتزين، وأنه إذا رام الكتابة جرى فيها على طبيعته غير متوقف، ولكنه إذا قرأها -بعد أن يفرغ منها- وجدها أقل مما يحس به، بل هي ليست تعبر كل العبارة عما يحس به ويتمثل له من معانيه وآلامه وأحلامه. وأنه قد أكثر القراءة لفلان وفلان من المعاصرين، ولكنه يجدهم لا يلقون في طبعه تلك الجذوة الخالدة التي تشتعل نارها إذا تنفست عليها النسمات التي ترتاحه وتهزه، وأنه يعتقد -أو يخيل إليه أنه يعتقد- أن هذا الذي يقرؤه لو كان حقا من الأدب الخالد لبعث في نفسه ما يبعث بخلوده من نفحات الخلود. ويريد هذا الأخ الفاضل أن يدلنى على صدق ما ذهب إليه، فيبعث إلى بقطع من كلامه -ومن شعره أيضا- لأعلم أنه مطبوع على الأدب وإن كان يقصر بيانه عن إدراك الإجادة. ثم يقول: فأرجو أن تمنحنى بعض وقتك، وتنظر في بعض كلامي على طريقتك في استخراج (نوع الأديب والشاعر! ! ) من تحت الألفاظ التي تجتمع له، والمعاني التي ينبعث طبعه إليها. ثم يأتي في كتابه إلى بكلام كثير، أستأذنه في إغفاله هنا، إذ ليس يجرى إلى الغرض الذي نرمى له أو الذي يريدنا هو أن نرمى إليه. وقد قرأت الورقات التي كتبها فوجدت له روحا حرة حية متأملة تترقرق في كلامه، وأنه مطبوع على سرعة النظر وحسن الهداية إلى المعاني سريع النفوذ في أغراض القول، يتغلغل في بعض ما يفكر فيه بما هو فوق طاقة الفكر المجرد من ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 721، الثلاثاء 15 ربيع الأول سنة 1359 - 23 إبريل سنة 1940

حدة البصيرة ومضائها، فأسفت أن يكون هذا الأخ قد جاوز الثلاثين من عمره، وهو ما هو، ثم هو لا يزال حائرًا بعد ذلك لا يستطيع أن يملأ نفسه من زاد الأدب، ولا يطيق أن يحمل أداة العمل الأدبى المرهق الذي أعد له في طبعه. وحملنى كتابه على التفكير في شأنه وشأن أمثاله من الأدباء الذين قتل أدبهم سوء التعليم في الصِّغَر، وفي الأدباء الذين يكتبون للأدب وهم لا يجيدون ما يكتبون، ولولا أن صاحبنا هذا حيى متواضع -كما وصف نفسه- لكان من الممكن أن يزاحم كما زاحم غيره غير مبال بتقدير نفسه وتقدير ما يكتب قبل أن ينشره على الناس، فلذلك أحببت أن أجعل رسالتي إليه رسالة عامة يحملها إليه بريد "الدستور". ولا بأس من أن يستفيد هو ويشرك معه غيره، إذ كان الذي يجده من الضعف يجد كثير من الناس مثله في أنفسهم، وكثير لا يبالى أن يجد ذلك ثم يكتب وهو لا يبالى أن يجيد أو يستفيد. وأول ما تجب معرفته لكل طالب أدب، أن لكل علم آلة، ولكل آلة نظاما، ولكل نظام مبدأ، ولكل مبدأ أصولا، فإذا فسد الأصل فسد معه المبدأ والنظام وتوقفت الآلة حتى يعلوها الصدأ، وإذا وقع بعض الاختلال في بعض الأصول أفضى هذا الاختلال إلى الآلة فجعلها تدور متعسرة ضالة يتكسر سن منها على سن حتى ينتهي بها ذلك إلى الفساد عامة بعد الجعجعة والضوضاء والصخب الذي هو كل إنتاجها. فليس ثمة علم من العلوم أو فن من الفنون إلا وقد استأثر بأصول مؤسسة، لابد لكل راغب -في شيء من هذه العلوم والفنون- أن يستوعبها ويجيدها ويحسن التصرف فيها إذا عالجها حتى لا يتوقف به العجز بعد الدخول في بحبوحة هذا العلم أو الفن، إذا فَجأهُ ما يفجأ مما لابد منه ولا محيص عنه. فطالب الهندسة مثلا إذا لم يعرف أصولها من النقطة والخط والزاوية القائمة والحادة والمنفرجة، والأشكال المختلفة بين التربيع والتثليث والتدوير، وما يتبع كل ذلك من البرهان على صحة الأحكام التي تقتضيها هذه الأشكال الهندسية - فهو خليق إذن أن لا يجيد شيئا من الهندسة مهما طال مراسه لها، وتتبعه لكتبها الكبيرة التي لا تلم بشرح هذه الأصول الإبتدائية.

فإذا خيل لهذا الطالب -بعد طول العمر في دراسة الكتب الكبيرة- أنه مستطيع أن يشرح النظام الفلكى بالحساب الهندسى، أو أن يبنى دارًا بما تلقف من ألوان هذا العلم، وقع من حيث طار مرة، أو انهدم عليه ما أقامه مرة أخرى، وهكذا أمر كل العلوم والفنون لا يشذ واحد منها عن القاعدة التي تقررها فطرة العلوم والفنون. والأدب والشعر والفلسفة وسائر العلوم النفسية والعقلية التي يخيل لبعض الناس إنها ملك للجميع من كل صاحب عقل وصاحب نفس لا تخرج عن هذه القاعدة التي تطالبنا بتقريرها فطرة العلوم والفنون. فأيما أديب أو كاتب أو شاعر أو ناقد أو متفلسف يقتحم بابا من هذه الأبواب غير متسلح بالبراعة في أصول الفن الذي يرمى بنفسه فيه، فهو إلى إهلاك نفسه أدخل، وإلى إضاعة وقته أسرع، وبالغرور سار حيث سار، وإني قد رأيت أكثر من يقذف نفسه في فن من هذه الفنون يقول: إذا كان مرد الشعر والأدب والكتابة والنقد وما إليها -هو إلى الطبع والسليقة وصفاء النفس ورقة الشعور، فما جدوى أن نقيم الدنيا ونقعدها من أجل أشياء لا تنفع ولا تشفع؟ وأي فائدة -بعد أن يجتمع للأديب والشاعر هذا كله- في أن يرهق نفسه بالدراية والثقافة والبحث والدأب، ولعله أن يكون بعيدًا عن هذا كله أقدر على العبارة عن ضمير نفسه؟ ولعله إذا أقبل على هذه الأشياء بالدرس والتثقيف كان ذلك أسرع في إفساد طبعه، ومجمجة سليقته، وتكدير نفسه ومَحْق شعوره! ! ولقد أخطأ هؤلاء من حيث أرادوا الإصابة في التقدير. فإن أصل العلم كله من أدب وفن وعلم إنما هو النفس والطبع والشعور، ولولا هذه لما كان في الدنيا علم، ولكن النفس لا تكتفي بأن تكون كل أعمالها صادرة عنها وحدها، بل إن الاجتماع الإنساني يضطرها أن تكون أبدًا متأهبة للتلقى كما هي مريدة للإذاعة، وأن تكون راغبة في مشاركة الآخرين في تأملاتهم كما هي متشوقة للانفراد بتأملاتها. وهذا يدل على أن النفس إذا انفردت لم تؤد أعمالها إلا ناقصة معيبة، لأن تمام أعمالها في المشاركة. وكأنى بابن خلدون قد رام هذا المعنى إذ قال في مقدمته الجليلة، حين

عرض لذكر "علم الأدب": "هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارض أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنثور والمنظوم على أساليب العرب ومناحيهم". ثم عد ابن خلدون أشياء لا قيمة لها في تحقيق معنى الأدب. وأنت ترى أن عبارته التي نقلناها مبهمة "غامضة" لأنه لم يجر إلى شرحها والبيان عنها، ولكنه بعد أن تقدم في كلامه وضع التفسير لهذه العبارة من حيث لم يرد، ولكنه أفسد التفسير بالتعليق عليه، وذلك قوله: "ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف". فالأخذ من كل علم بطرف أصل عظيم للأديب، لأنه هو المعبر عن نفسه التي تريد أن تعبر عن النفس الإنسانية العامة التي يشترك في الاستمداد منها سائر البشر. ومادامت كل العلوم في أصلها صادرة عن النفس فلابد للأديب من معرفة الأحوال التي تعرض لهذه النفوس فتوجهها إلى استجلاء الغامض الذي به وبإرادته وطلبه كانت هذه العلوم علوما. وأخذ الأديب بطرف من هذه العلوم لابد أن يكون على طريقة الأديب لا على طريقة العالم، فإن الأديب ينفذ بنفسه وروحه فيما يقرأ من ذلك، ليحس ويستشعر نبض النفس الإنسانية الكبيرة في إنتاج هذه العلوم. وأما العالم فإنه يريد أن يستوعب في نفسه النبض العلمي الذي يجرى عليه التحقيق والنقد فيها وبأسلوبها وعلى هديها. ولكن ابن خلدون أفسد معنى هذه العبارة بشرحه إذ قال بعد ذلك: "يريدون (الأخذ بطرف) من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب". ولاشك أن هذه بعض ما يجب على الأديب أن ينال منه، وخاصة القرآن والحديث، فعليه أن يعب منهما عبًّا، لأنهما نهاية الإعجاز الإلهي والبشرى في التعبير وفي المعاني وهما النظام الخلقى العام للبشر، وكلاهما يخاطب أول ما يخاطب النفس الصافية ويمسها ويتغلغل فيها ويهزها ويملؤها ريا ونعمة وحياة.

ومنهما تتكون للأديب السليقة العربية الصحيحة الحرة التي لا تتقيد بالزمن ودواعى الزمن، من مثل القيد الذي جعل ابن خلدون يتوهم في شرحه للعبارة أوهاما فاسدة كقوله بعد: "فاحتاج صاحب هذا الفن -يعني الأدب- حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها"! ! فابن خلدون إنما يشرح قولهم "الأخذ من كل علم بطرف" -على طريقة الأدب في عصره هو، وهو العصر الذي كان أدبه ترديدًا لحشرجة الميت لا معنى للصوت فيها إلا معنى انقضاء الأصوات وعجزها عن التعبير عن الحياة، ذلك كان صوت الموت إذا صوت في صدور أدباء عصره. وكذلك زعمه أن لا مدخل لغير النحو واللغة والبلاغة والعلوم الشرعية في علم الأدب، إنما هو تصوير لأدب العصر الذي عاش فيه، فحكم ابن خلدون وشرحه وبيانه ليس إلا الحكم والشرح والبيان الذي اقتضاه عصره وحده. ومهما كان ابن خلدون في الأدب بالمنزلة التي كان بها أول من استطاع أن يقرر قواعد علم الاجتماع- لكان قوله في علم الأدب غير ذلك، ولاهتدى إلى السر في تعبير القدماء من قولهم في الأدب أنه الأخذ من كل علم بطرف. ولعل أهم ما أسقطه في هذا الخطأ ظنه أن قولهم "كل علم" يعنون العلوم التي قامت باصطلاحاتها، وليس كذلك، فإنهم أرادوا لب العلم لا حواشيه، وجعلوا "العلم" في هذه العبارة بمنزلة "المعرفة" التي لا تحده بحدود. والسر كما ترى هو أن الأدب تعبير عن الحياة كلها على طريقة نفسية محضة يراد بها أن تخاطب نفس نفسا بألفاظ من اللغة تروم بها التأثير والهز، وتنبيه النفس الإنسانية النائمة في نفس الفرد لتوجهه إلى الغاية التي يرمى إليها الأديب بالضرب الذي اختاره من الأدب، ليكون بيانا عن الحياة مهما اختلفت أنواعها وأشكالها ومقتضياتها. والأديب من أجل ذلك مضطر لدراسة الحياة وما فيها دراسة حية بنبض النفس وحركتها وأشواقها إلى ما وراء الماده دون الجسمية أو العلمية التي تحجب

فن الحياة دون أعين الأحياء ثم هو بعد ذلك مدفوع إلى طلب العبارة عن الأحساس الذي يجرى في كيانه الإنساني العاقل المفكر المتأمل. وسواء بعد أكان ما يريده من الأغراض علميا أم فكريا أم قلبيا أم فلسفيا، فكل ذلك إنما يستمد من الطبيعة التي انطوى عليها، والتي صار بأسبابها ودواعيها أدبيا يريد أن يتكلم بألفاظه، وأن يترجم بنفسه عن النفس الخالدة الذائبة في الكون كله، والتي تعرف بالنفس الإنسانية العامة. هذا وسنتم فيما يستقبل بقية القول في أداة الأديب وما يجب عليه.

الطريق إلى الأدب 2

الطريق إلى الأدب - 2 - جاءتني عدة كتب من إخواننا بعد الكتاب الذي فتح لنا باب القول في "الأدب"، وكلها يجرى على أسلوب واحد من الحيرة في طريق الأدب. هذه الحيرة -كما يقول أحدهم- التي تجعل الأديب يمشي في بيداء من الظنون الشائكة والشكوك الظامئة. ثم لا يفضى إلى شيء، ولا يظفر من حياته إلا بالوحشة والمرارة والحزن، ثم يهلك بعد ذلك كله على أرض سبخة يأكل مِلْحها كل ما يقع عليها: يبليه ويسحقه. نعم، إن هذه الظاهرة المؤلمة هي أول الخير للأدب والأدباء وهي البشير بأن عصر الفوضى في الأدب قد بدأ ينقضى إلى غير رجعة، وهي الدليل على أن أكثر الأدب الماضي قد كان تلبيسا على العقل والقلب، وشعوذة على الروح والنفس والفكر. لقد أخرج العهد الماضي طائفة من الأدباء، كلهم قد عمل واستعد وخرج على الناس بأدبه، ثم غرتهم الشهرة فمضوا لم يبالوا أن ينظروا إلى قيمة الأدب الذي ينتجونه ليمحصوه للناس، فلعل بعضه يفسد على الشباب أمر أدبهم الذي يتأهبون له. وشغل الشباب هذا الأدب الجديد، وكبرت معاني الأسماء والألقاب في أسماعهم وأذهانهم، فحسبوا أن هذا الأدب هو الغاية وهو النهاية وهو الذي ليس بعده نبوغ أو عبقرية. وتعصَّبوا لذلك بحمية الشباب، وصرفتهم هذه العصبية عن تحرير أنفسهم وعقولهم من أسر الألقاب والأسماء. ثم مضى زمن فنظروا فلم يجدوا في أيديهم شيئا من هذا السراب الخادع الذي تعصَّبوا له وعكفوا عليه. بل وجدوا أنفسهم كعابد النار تحرقه ويعبدها! ! .. ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 727، الثلاثاء 22 ربيع الأول سنة 1359 - 30 إبريل سنة 1940

ولكن هذه الظاهرة الجديدة التي تدفع الشباب الجديد إلى الشك في قيمة ذلك الأدب، وإلى الشك في أنفسهم -هي النجاة لهم من عبودية مستبدة ماحقة وهي التي ستقذف في أعصاب الجيل الجديد روح الحرية، وهي التي ستجعله يأبى إلا أن يمهد الطريق قبل المسير، وإلا أن يتخير الأساس قبل البناء، وإلا أن يعرف برهان الحقيقة التي يجب عليه اعتقادها قبل الإيمان بها إيمانا أعشى أو إيمانا أعور أو إيمانا أعمى يضل به ويموت عليه. ونحن قد تناولنا في الكلمة السالفة تعريف الأدب الذي وضعه ابن خلدون في مقدمته، وأخذنا في نقده وتمحيصه لعلمنا أن الأدواء التي أدركت الأدب أو أصابته ترتد في أصل جرثومتها إلى عهد بعيد متقادم. فأردنا بذلك البيان عن هذه العلة (بالتشخيص) والتحليل. فإذا عرف طالب الأدب حقيقة الأدب كان ذلك أحرى أن يهديه سواء السبيل في كل ما يقصده من أغراض هذا الأدب وهذا هو الأصل، وأما الفروع التي تتفرع منه فهي هينة عليه بعد ذلك إن شاء الله. وقد كان القدماء الذين نقل عنهم ابن خلدون ومن هو في طبقته -يعرفون حقيقة الأدب معرفة نفسية، فلذلك كان كلامهم عنه صحيحًا موجزًا ولكن شرح أهل العصور المتأخرة التي ضلت عن حقيقة الأدب -حين شرحوا هذا الكلام الموجز الدقيق الفاصل- هو أصل الداء الذي تغلغل في الأدب العربي قديمه وحديثه، وهو الذي حقر الأدب في عيون أكثر الأدباء، وزيفه عند العامة. فإذا استطعنا أن نخلص إلى حقيقة أقوال القدماء الموجزة وعرفنا سر معانيها الجميلة الدقيقة، نظرنا -عندئذ- إلى الأدب القديم نظرة جديدة تنفض عنه الأتربة التي طمست محاسنه وروائعه كل هذه القرون، وإذا عرفنا هذه المحاسن وما فيها من جمال وفتنة، استطعنا أن نغير أساليب القراءة وأساليب الفكر فيما نقرأ، فإذا أدركنا ذلك فهو أول الطريق إلى الأدب الصحيح الذي نريده ونشتاق إليه, وهو بدء الحرية الأدبية التي لا تعرف القديم والجديد بتلك الفكرة المفتونة المريضة التي ثارت في ميادين الأدب حينا من الدهر، تحقر القديم لقدمه،

وتستعظم الجديد لجدته، على غرور واندفاع وتهور، حتى تحطمت كل الموازين في أيدى أصحابها، ولم يبق للناس ميزان يعرفون به ما في الكلام من الصدق والجمال، وما فيه من الكذب والغش، وهما أقبح القبح، وهما الدمامة المتبرجة في زينة "المكياج" اللفظى لا في زينة الحق والعدل، فإن القبيح ربما حسن إذا عرف الإنسان سر القبح الذي فيه، ومن استطاع أن يعرف سر القبح فاشمأز منه، فهو خليق أن يعرف سر الجمال فيهتز له. وحركة النفس بالاشمئزاز والاهتزاز هي أصل الأدب -إذا ما نشأت عن الإدراك أو النفوذ إلى الإحساس بالسر الذي يكون به القبيح قبيحًا والجميل جميلا. فإذا تتام هذا الإدراك وهذا النفوذ وعملا في كشف الحجب عن هذه الأسرار على نظام وتدبير وتساوق واطراد فذلك هو طريق الأدب. فإذا خلص للأديب مذهبه في تناول هذه الأسرار على طريقته وبأسلوبه، واهتز إحساسه بالمعاني اهتزازًا قويا متجاوبا بأنغامه التي يتردد صداها في كهوف النفس فتتابعت هذه الأنغام معبرة عن خواطر العقل والقلب والنفس والروح وآلامها وأفراحها وأحزانها ولذاتها، وظنونها وحقائقها، وأوهامها ويقينها، فذلك هو حقيقة الأدب. فإذا استطاع الأديب أن يصور هذه كلها بألفاظه ولغته وعبارته وأسلوبه الذي يحمل صور هذه الاهتزازات، ويحمل أنغامها في جرس الكلام، فذلك هو الأدب الذي ينسب إليه ويتميز به فيقال مذهب فلان وطريقة فلان وأسلوب فلان. . . والوصول إلى هذه الغاية من الأدب ليست عملا سهلا يكون قصده هو بلوغه كلا، فإن الفطرة وحدها أو الطبع الفطري وحده لا يكاد يصل إلى ذلك في مثل زماننا هذا. بل هو كان يصل إلى غايته في العصور الأولى قبل أن يتكاثر الأدب ويتشقق الكلام، وتستقل الطرائق للناس بعد الناس من الأدباء. وقد كان الطبع قديمًا كافيا لتساوى من يتعاطى الأدب في السليقة وفي بعض العلم وفي أكثر المعرفة، ولأنهم إنما كانوا يتناولون من أغراض القول على طريقة محدودة بطبيعة الاجتماع الذي لم يكن قد تراحب مثل التراحب الذي بلغه في زماننا.

فالآن قد امتلأت دنيا الناس بأسباب اجتماعية طاغية، وتبعثرت حقائق الوجود في كل علم وفن على وجوه من الاختصاص، وتكشفت أسرار كثيرة لا يحيط بها إلا من حمل نفسه حملا على متابعة الدراسة، وطول الروية، ومعالجة الفكر وحذر الغريزة، وتوقد الفطنة. ثم لا يخلى نفسه مع ذلك من الحرص على نفسه وإحساسه وطبعه أن ينفذ إليه ما يفسده من جميع هذه الدراسات الكثيرة والتأملات الطويلة. ومن هنا أيضا تستطيع أن تعرف مقدار ما في قول ابن خلدون من الخطأ إذ قال فيما نقلناه لك آنفا في المقالة الماضية "فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها". فاسأل ابن خلدون ما جدوى أن يفهم الأديب اصطلاحات العلوم؟ وإنما الاصطلاح حرف من الكلام مقيد معناه بالعلم الذي اتخذ له واصطلح عليه فيه، فإذا عرفه الأديب فهو بين اثنتين، إما أن يعرف اللفظ ليعرف معناه ويكون قائما على فهمه من حيث هو حروف مركبة وهذا شيء لا قيمة له -إذ كان الأديب لا يحتاج إليه ما لم يكن من أهل هذا العلم الذي وضع له الاصطلاح، أو أن يعرف ذلك ويقوم على فهمه ليستطيع أن يتعلم من هذا العلم، وينفذ في معاني أصحابه التي يقصدونها في علمهم هذا. فإذا فعل وتعلم وقرأ لهم وفهم عنهم، فهو لا ينتفع بهذا العلم إلا إذا اتخذه مادة تمد أدبه وتغذيه. أما إذا تعلم هذا العلم ليفهمه على طريقة أصحاب هذا العلم وقيودهم التي قيدوه بها فهو باطل من حيث كان لا ينفعه فيما أراده من الأدب. وإذن فطريقة الأديب في قراءة العلم هي طريقة امتياز، على أصحاب العلم نفسه، لأنها طريقة استيعاب لما وصلوا إليه من حقائقه وأسراره، ثم تزيد على ذلك فطنة الأديب وبصره وإحساسه وقوة إدراكه للمعاني البعيدة التي تفضى إليها هذه الحقائق وهذه الأسرار، ثم قدرة الخيال على التطرح والتسامى، والتغلغل والنفوذ إلى أعماق مبهمة، حيث يستطيع أن يعقد المقارنة ويقيم المشابهة ويجمع هذا إلى ذاك، ويفرق بُعْدًا شيئين يتلازمان في بعض وجوه النظر وكذلك يهتدى

بالفطرة الصادقة الهادية إلى معان وأسرار لا يصل إليها إلا من استقل بمثل هذا المذهب الذي يبدأ بصحيح العلم وينتهي بصادق الخيال. وقد كان القدماء من شيوخنا يدركون ذلك، ويفصلون بين الطبع والطبع والسليقة والسليقة، وقد جهدوا أن يضعوا فاصلا يبين الحد بين الطبع الجيد والطبع الردئ، ولكن ذلك مما لا يرام البلوغ إليه في تحديد هذه الطبائع التي لا تخضع لسلطان علمي متميز بحد وقوة. فانظر مثلا إلى قول القاضي أبي الحسن الجرجانى في كتاب الوساطة بين المتنبى وخصومه: "وملاك الأمر في هذا الباب خاصة، ترك التكلّف، ورفض التعمل، والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه والعنف به، ولست أعنى بهذا كل طبع، بل المهذب الذي صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة، وألهم الفصل بين الردئ والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبح"، انظر إلى قول القاضي وتأمله تجده قد رام البيان عن حقيقة الطبع الذي يستقل بمذاهب الأدب ويقوم عليها، ولكنه وقع دون الغرض. قال عن الطبع: "تصور أمثلة الحسن والقبح". والتصور في هذا لا يكفي ولا يؤدي بالأديب إلى غاية كالغاية التي نريدها نحن؟ نعم إن التصور شرط في كل شيء من الأدب، ولكن الإحساس بالقبح والحسن هو الأصل الذي لا أصل غيره في الأدب جميعه شعره ونثره، والإحساس المتلقى وحده لا يكفي أيضا، بل هو الإحساس الذي يتلقى فيثور فيندفع فينفذ كما ينفذ السهم أو كما يغيب الشعاع في ظلمة المعاني ليضئ للأديب والشاعر ما يستبهم على غيره وينغلق. وأما قوله عن الطبع أيضا: "وألهم الفصل بين الردئ والجيد" فهو كلام جليل دقيق موجز، فإن الإلهام -هذا المعنى المبهم الذي نحس به وبآثاره ولا نستطيع أن نعرفه أو نحدده- هو الأصل العظيم الذي يردف العقل، ويغذى الخيال، ويشحذ الحس، ويهدى في الظلمات الجاثمة على المعاني والأفكار، وإذا استطاع الأديب أن يتنبه إلى آثار الإلهام فيما يفكر فيه، وفيما يكتب وفيما يقول، واستطاع أن يجعل لعقله وفكره وبعض خياله نظاما يسترشد في وضعه

وتدبيره بهداية هذا الإلهام وتعرف آثاره في إنتاجه، فعندئذ تستقم له الطريقة وتنثال عليه الآراء والمعاني، ويدخل في الأسرار ويخرج على يسر وفي لين وبخفة، وهذا هو قول القاضي الجرجانى فيما سلف من كلامه: "وملاك الأمر في هذا الباب خاصة ترك التكلف ورفض التعمل، والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه والعنف به". ولولا أن القاضي لم يأخذ هذا الأمر من بدئه بل أمسك بذنبه وجرى وراء الذنب، لكان وضع عبارته على التقديم والتأخير كما فعلنا نحن في شرح هذه العبارة. فإن تَرْكَ التعمل ورفْضَ التكلف والاسترسال وتجنُّبَ الحمل على الطبع هي النتيجة التي يبدأ عمل الأديب من بعدها فأين المقدمة التي تتقدم به في هذا الطريق؟ وكيف يستطيع أن يكون كذلك؟ نعم، فليس كل من ترك التعمل ورفض التكلف وتجنب الحمل على الطبع والعنف به ثم استرسل -بمستطيع أن يكون أديبًا أو شاعرًا، لأن هذه ليست أداة ولا شبه أداة بل هي نتيجة طبيعية لشيء آخر فإن الإحساس المشبوب النافذ الحذر الذي يصيد معانيه من كل ما يتناوله بالسمع أو بالبصر أو بالفكر أو بالخيال ثم هداية الإلهام الحر الذي يستقل بأدب الأديب، هما اللذان ينتجان ما ينتجان، فإن الأديب إذا خلص له هذا كله لم يكن له بد من ترك التعمل ورفض التكلف والاسترسال. وإنما يتعمل الأديب ويتكلف في أول الطلب، وفي بدء ممارسته للفن الأدبى الذي يريده، ويكون هذا التكلف والتعمل شحذا لحده، وصقلا لمرآته، وجلاء لروحه، وما هو إلا القليل حتى ينطلق من هذه القيود الأولى، ويتحرر من رق الرغبة، ومن عبودية التقليد والمحاكاة. فإذا انطلق الأديب وتحرر تصرف في أغراضه كلها على هوادة ورفق كأيسر ما يكون التصرف وأسهله وأنعمه وأرقه. فلينظر طالب الأدب أول ما ينظر إلى هذه الاُصول التي رتبناها، وليحاسب

نفسه ويفهمها، وليعرف قوة طبعه معرفة التجربة، فإذا فعل ذلك وتدارس ما يجب عليه من الاختبار لنفسه، فوجد عنده من الاستعداد لها أثارة قد طُبِع عليها، فلا يخافن، فهو على الطريق وهو إلى الغاية، وهو مدرك ما يبغي إن شاء الله.

فوضى الأدب وأدب الفوضى

فوضى الأدب وأدب الفوضى مضى زمن، مذ كان أحد من يلتصق بأيامه في أيام الأدب، وينتشط اختطافا من بعض أسباب هذا الأدب المسكين -يتكلم عن الأدب والفوضى وكيف يضرب أحدهما بعرق إلى الآخر. وقبل، فإن أضر ما ابتلى به الأدب وغير الأدب من العلم والسياسة والاجتماع وما علا وما سفل- إنما هو تلك الهنات الناشبة في أقصى الحلق، والتي تمتد وتطول وتعرض، وتلين على الحركة، والتي تسمى في لغة الناس باللسان. ونحن الآن نريد أن نتسلل من فتنة هائلة وفوضى شاملة، بل نحن غارقون في هذين البلاءين إلى قريب من الاختناق فيجب على كل من حقق لنفسه معنى من معاني الأدب -على أصل ثابت قوى أن يدفع بنفسه في جهاد هذه الجنود الفاسدة التي تغزو عقول الناس في الشرق بأداة مهولة من الأدب الذي لا قيمة له في حقيقة العلم. وهذه الجنود هي بعض الآراء البراقة، وكثير من المراتب التي يلقى على درجاتها كل من ملك لسانا يتكلم به فتكلم وأطال، وعرف أن الحياء إن يكن في الأخلاق مَنْقَبة، فهو لطالب الشهرة والصيت مَثْلَبة ومَذَمة. وعلى ذلك فأنت ترى أكثر هؤلاء لا يستحي أن يتبجح بالجهل والخطأ والضلال والفجور، مادام ذلك مما يؤدي به إلى مدارج الذكر على ألسنة الناس من العامة وأشباه العامة. وإذا نُزِع الحياء كثر البلاء. وقد رأيت أن أقدم بين يدي هذه الكلمة -أن الرأي ليس هو ما يقال، وإنما هو ما يبنى بناء محكما على دقة وتدبير ومراقبة، وأما القول فسهل على باغيه، دان لملتمسه، وليس في ظواهر الأشياء في الحياة ما يعسر على المرء أن يتخذ منه فصلا بل فصولا كاملة يلبس بها الحق على الناس تلبيسًا، يقف في مدارج ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 764، الثلاثاء 5 جمادى الأولى سنة 1359 - 11 يونيو سنة 1940، ص 1.

أفكارهم فيدعها لا تخلص إلا على طريقه، وإن بعض البلاغة -على أي درجاتها- تمهد للسان الرجل أن يذهب بالرأي المذاهب غير حذر، فإنه يعلم أنه يزور كلاما على مدة وتطاول، يلقن إلى من يقرؤه فيتلقفه فيختزنه عقله يعمل فيه عمل الداء الخفي في العضو المصاب به. ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان" وجاء عنه أيضا قوله: "إن الله -عز وجل- يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة (¬1) بلسانها" وذلك لأن عمل الكلام في النفس الإنسانية هو العمل الخفي الذي يذهب مع الدم، فإن الجماهير تأخذ الآراء كلاما لم يحذر فيه صاحبه، وتعطيه للدنيا عملا لا يخاف مغبته فاعله. فذلك هو البلاء وهو اللعنة وهو المحق الذي يذهب بصالح أعمال الناس فيجعلها كهباء اشتدت به الريح في يوم عاصف. فواجب الأديب الذي يحرص على أن يكون رجلا مذكورا في الناس ما بقي في الدنيا وبعد زواله منها، أن لا يتركه لسانه يلين كما يلين لسان البهيمة في التمطق بلذيذ الكلأ إذا أصابته وتملأت منه، وإلا فقد اختار لنفسه أسوأ الحالين. فإن العصر الذي هو فيه إن ذكره فذاك، ثم يأتي من بعده عصر فيه يغاث الناس بالعقل الحاكم فيقذفون به وبأدبه في تلك السلال الأبدية العظيمة التي أعدها الزمن لفلان وفلان ممن عرفنا ومن لم نعرف. فمن الغفلة التي طمست على صاحبها، وسولت للسانه أن يتخلل الكلام من هنا وهنا، أنه جعل الأدب إنما -على هذا الحصر- يزدهر في أزمان الفوضى الاجتماعية. ولو فهم هذا الأديب حق الفهم معنى الفوضى الاجتماعية لم يجرؤ على القول الذي قاله، ولم يحاول بلسنه وتفاصحه، أن يذهب هذا المذهب من الرأي. فإن عصر الفوضى الاجتماعية، شيء غير عصر الصراع الاجتماعي، فإن الفوضى انحلال ذاهب إلى أسفل وإلى طلب الأسفل، والصراع ذاهب إلى الأعلى وإلى درك الأعلى، وبين هذين ما بين ألفي ميل انخسفت في الأرض، وألفي ميل ¬

_ (¬1) الباقرة: اسم جمع للبقر.

ذهبت في السماء، ولا يخلط بينهما إلا مخادع أو مفتون أو من عمى فلم يبصر الذي فوق والذي تحت. إن جماعة الجماهير التي تقرأ والتي تسمع والتي تفهم، لا تفهم من الفوضى إلا ذلك الاضطراب المتداعى الذي لا يستقر فيه شيء على حال، ولا يمكن أن يستقر على حال، والذي لا يعرف أصولا مقررة بينة يتهاوى إليه بقوته وإرادته إلى غاية بعينها، فالفوضى الاجتماعية هي الحال التي إذا وضعت إصبعها في سرارة الجماعة ووسطها جعلت فيها كمثل الزلزلة المخبولة الطائشة الباغية بقوتها وجبروتها، إذا أصابت الجبل فهدته، فما كان فيه قمة لم يلبث أن يكون مطمورا تحت الحصى الذي كان يلوذ بالجبل كما يلوذ الذليل بمن أذله واحتكم عليه. فهذه حال لا يكون فيها الجبل جبلا ولا ينتظر أن يكون مرة ثانية. أما الصراع الاجتماعي فهو ذلك الجذب الهائل بين القوى المتكاثفة من الخير والشر والخطأ والصواب والعلم والجهل كلها قد احتشد للظفر والغلبة فيخيل للجاهل المفتون إذا رأى تداخل هذه الجيوش المتحاربة وتحاطم أسنتها في قتالها، وما يصيب ميدانها من الكَرّ والفر والإقبال والإدبار وما سوى ذلك من أعمال القتال والمناجزة -يخيل لهذا الجاهل أن الأمر فوضى واضطراب، وما هو به، إن هو إلا طبيعة الحرب، التي يراد بها الظفر ولا تكون الحرب إلا كذلك. وما اختلاط الدنيا وموج الناس إلا تنظيم القوى وتلاقيها، فليس بين هذا وبين الفوضى إلا شبه يتخيله من ينظر إلى السطح دون الأعماق، ويطلب عرض الباطل دون جوهر الحق، وهذا النظر حاله غالبة على من به ضعف كضعف القط حين يتنمر أو يستأسد، وما هو إلا نتيجة الفوضى التي تقع في أعصاب مريضة متهالكة من منبعها إلى مصبها، فلذلك لا يكون الرأي لها إلا كذلك. إن الفوضى الاجتماعية إنما تعقب عصور القوة الحاكمة المتسلطة، وذلك إذا بدأت تنهار بعد الاستكانة إلى غرور هذه القوة وهذا السلطان، وإذا انهار السلطان الاجتماعي القوى كانت الفوضى بتمامها وبأدق معانيها، وتعيش الأمة بعد ذلك في فوضى أي في ضعف مستمر ليس له حاجز يلجأ إليه، أو ليس له من

القوة ما يرتفع به حتى يعتصم بهذا الحاجز إن كان قد بقي منه شيء. وإذا بلغت الأمة هذا المبلغ فالرجاء في قيامها من كبوتها هو رجاء باطل ليس له أصل في السماء ولا في الأرض. وعلى ذلك، فإن أدب مثل هذا الجيل الذي تغلب عليه الفوضى الاجتماعية لا يكون إلا أدب فوضى من عقول فوضى بآراء فوضى إلى غايات فوضى، أدب لا يرجع إلا إلى الفوضى، ولا ينتهي إلا إليها. فإذا انقشع غبار الفوضى، وتجلت عمايتها عن الناس، كان مصير هذا الأدب أن يحكم عليه بالإعدام فيقتل ثم يلقي في حفرته إلى التعفن والبلى، فإذا خفف الحكم كان حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة، ليعمل في البناء التاريخى للأمة ومع ذلك فلن يعرى في مكانه هذا من اللعنات التي يغسل بها كلما ذكر. إن صاحب هذا الرأي الذي أشرنا إليه آنفا قد احتمل سيله من غثاء الرأي، لا نجد معه حاجة إلى تعقبه للبيان عن وجه الخطأ فيه، أو وجه المغالطة إن كان قد تعمد ذلك. وليس هذا سبيلنا الآن. وإنما أردنا أن نبين قدر اللجاجة التي تسقط الرأي إذا نبعت في أصلها من خطأ الفهم لحرف واحد من الكلام. فلم يتدهور هذا الأديب فيما تدهور فيه إلا بعد أن كان أصل كلامه خلطا عجيبا بين معنى الفوضى، ومعنى الإرادة التي ينشب بقوتها الصراع بين الآراء أو المذاهب أو الضرورات الاجتماعية. إن الفوضى شر كبير لا يشك في ذلك عاقل، وهذا الشر لا يمكن أن ينتج خيرا كالذي يخيله للناس كلامه، والصراع خير وإن ظن فيه بعض الشر! فهو مخيلة الخير في الأدب وغير الأدب. والأدب إذا بدأ استمداده من الفوضى التي لا تدع، يجب كما يجب، ولا تذهب بما ينبغي أن يذهب إلى حيث ينبغي أن يذهب -فهو أدب ضعيف لا يقوم على أساس من شيء ولا واقع ولا مرجو. وليس يغر أحدًا أن يقال إن الفوضى هي التي تدفع الناس إلى التفكير في إصلاح الفوضى، فإن أول ما يصاب في الفوضى هو التفكير، وإذا أصيب التفكير في مجموع الأمة بهذه الفوضى، لم يجد المصلح من يعقل عنه معنى ما يقول وأخفق أن يجد من يسمع إليه، وإذا فقد الأديب هذين فَقَدَ القدرة على الذهاب في البيان عن إصلاحه.

إن الأديب ينشأ في أوساط متصارعة بعقولها في طلب الحق، أي في الجماعات التي يشملها الصراع الاجتماعي الهائل، وليس معنى ذلك أن يكون هذا الصراع قائما على أسباب من المفاسد والمقابح التي تفسد النفس وتهلكها، بل معنى ذلك أن يكون هذا الصراع قائما على طلب الحقيقة التي تعصم الأمة من التفكك والذهول والحيرة أي من الفوضى. فأدب الفوضى، فوضى الأدب هما شيء واحد، وقد احتفظت العصور الكثيرة في الأمم المتعاقبة بصور كثيرة من الفوضى الاجتماعية، وما كان من قدرة أدباء تلك الأجيال، وأين يقع أدبهم من الأدب الجيد، فإذا تناولت ذلك، ودراسته لم تجد إلا الفوضى في هذا الأدب من قبل الفكر والعبارة عنه والغرض الذي يرمى إليه. فلا يخدعن الناس ما يقال في ذلك، فإن أكثر ما بين أيدينا من الأدب إنما يدل دلالة بينة مكشوفة عن حقيقة الفوضى التي جعلت عقول بعض الأدباء كسطح المنخل، لا تمسك حبها على الهز.

الأدب والحرب

الأدب والحرب إن روح الأديب الذي أعدته طبيعته للتعبير عن الإحساس الذي يجيش في ضميره تعبيرًا يكفل لنفسه البقاء والخلود في تاريخ الأدب، هي الروح الصحيحة التي يمكن أن يعرف من ناحيتها حقيقة تأثير الحرب في الأدب. وقد قلنا مرارا إن تأثير الحرب في الأدب ليس هو أن ينصب الأدباء أنفسهم لتسجيل أخبار الحرب أو أحداثها أو نتائجها أو غاياتها أو فكاهاتها، وما يكون فيها أو منها مما يمكن أن يتخذ أساسًا للكتابة، وإنما يكون أثر الحرب في أدب الأديب في وحي الفكرة التي يقوم عليها بناء إنشائه البليغ، أو غرضه الذي يتوجه إليه معنى كلامه. وبذلك نعرف أن تأثير الحرب في الأدب يقع في كل إنتاج بيانى صحيح، فالحديث عن المرأة مثلا إذا كان في كلام هذا الأديب يخضع اليوم -أو زمن الحرب- خضوعا تاما من بعض نواحيه للزلازل المرجفة التي يرتج في رجفاتها كيان الأديب المفكر المترفع. وهذه الحرب الحديثة التي نسمع اليوم هدها ودويها وقعقعتها، وتزأر في نواحي ميادينها والوحوش المجنونة التي تستولغ في الدم، وتصبغ فيه أفكارها وأعمالها وعقائدها، وتنشب مخالبها في الفرائس التي تلاقيها في انقضاضها المخبول حين تنقض بكل غرائزها الدنيئة التي تثور في الإنسان ساعة الغضب وأوان الحقد وعند الحفيظة -نقول هذه الحرب الحديثة ذات الطبيعة الدموية الحمراء، تخالف من كل نواحيها كل ما سبقها من الحروب في تاريخ العالم من لدن آدم إلى يوم الناس هذا. فلا جرم إذن أن يكون تأثيرها في طبائع البشر تأثيرا مخالفا لما سبق من تأثير الحروب السالفة في توجيه شعور العالم. والأديب -لا شك- أشد الناس تأثرا بهذه الحرب، وأثرها فيه وفي أدبه أشد وضوحا وبيانا من مثل ذلك في سائر ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 770، الثلاثاء 12 جمادى الأولى سنة 1359 - 18 يونيو سنة 1940، ص 1.

الناس، وبذلك سيكون ثأثير هذه الحرب -على قصرها أو تطاولها- تأثيرا مباينا لكل تأثير سبقه في أدب الأدباء. فالأديب في حياته الإنسانية والأدبية يعيش على استمداد الطبيعة الأدبية التي تصيد من مادة الحياة التي يعانيها في كل يوم من أيامه، والتي أرصدتها لها طبيعتها لتكون له أبدا صيدا يغذو منه أدبه وفنه، ويربى على دره عبقريته الأدبية، وطريقه إِلى ذلك طريق لا يكاد يختلف. فالحياة الإنسانية اليومية هي المؤثر الأول في حياة الأديب، وهي التي تشكل أعصابه المفكرة بشكل الصورة التي يمكن أن تخضع لها هذه الأعصاب وتخضع فطرتها. وهذه الأعصاب المتصلة بعقل الأديب الحساس المعبر، هي التي تتناول المادة الفكرية لتصوغها صياغة جديدة من البيان. فليس شك إذن في أن الأفكار -أو الإنتاج- نفسه، سيكون مميزًا ببعض المميزات التي كانت نتيجة طبيعية للتأثير الواقع بصورته في أعصاب الأديب وعلى ذلك -فمهما يتناول العقل الأديب من شيء من أشياء الفكر، قدم أو حدث، بَعُدَ أو قرب- ففي هذا الشيء تظهر آثار بينة من ضغط المؤثرات الإنسانية اليومية التي تقع عليه. والفكرة في البيان الأدبى هي الأصل الذي تدور عليه بلاغة التعبير اللغوى، وذلك أن الألفاظ اللغوية التي يتداولها أهل كل لسان من الألسنة الكثيرة في هذا العالم ليست إلا رموزا محدودة بحروفها, يراد بها وجه من وجوه الدلالة على معان كثيرة، وهذه المعاني التي تدل عليها الألفاظ تختلف اختلافا كبيرا في فهم رجلين متقاربين متعاصرين وذلك لأن الألفاظ اللغوية بحدها الذي تحده به المعاجم ليس لها عمل البتة إلا إثارة المعاني في نفس قارئها أو سامعها، وهذا السامع أو القارئ يتحين أحيانا لمعانيه, فإذا هزته الألفاظ أخرجت من مكامنها تلك الأفكار الكثيرة المتشابكة المتداخلة التي لا تنتهي، والتي تنام دائما في واعية العقل -أو ما يسمونه العقل الباطن- وعندئذ لا يُبْقِي اللفظ اللغوى معناه المحدود بالمعجم، بل ينطلق في مذاهب لا تنتهي كل معنى منها يركب معنى آخر أو يتعلق به أو يتولد منه.

والعرب سمت هذه الحالة التي تعرض للألفاظ في سمع السامع وفهمه، وكلام المتكلم وبيانه، اسما خاصا أرادت به تعميم هذا المذهب في كلامها. ولولا أن البلغاء -أعنى أصحاب علم البلاغة- قد حجروا ما وسع أصحاب اللغة والبيان العربي، لكان لهذا الباب مذهب آخر غير المذهب الذي درج عليه أئمتنا رضوان الله عليهم في دراسة هذا الباب من العلم. وهذه الحالة التي ذكرناها هي المعروفة في علم البلاغة "بالمجاز". فالمجاز في اللغة هو الطريق، وسموه كذلك لأن اللفظ اللغوى يجوز من معناه الأصلى على طريق ومذهب إلى معنى آخر يتهافت إليه أو يتعلق به أو يهوى في بعض هواه. وهذا المجاز الذي يجوزه اللفظ ينضبط ويتقرر على أصول نفسية محصنة (¬1)، هي التي ترتاد للفظ سبيله الى المعاني التي يمت إليها أو يمتد معناه فيها. والمجاز هو أصل البيان كله، والبيان هو أصل الأدب، والأدب قائم من ناحية أخرى على الفكرة الأدبية، فمن هنا ترى أن المجاز في اللفظ والفكرة الأدبية هما الشريكان المترافدان اللذان ينشئان الأدب ويجعلانه شيئا خالدا من الفن المتكلم الصامت. وإذا سقط أحد هذين من مذهب الأديب تساقط معه أدبه وتهافت، وإذا بقي أحدهما سابقا والآخر متخلفا كان ذلك مطعنا يغمز منه أدبه أو مقتلا يلقي من قبله حتفه، وكذلك تعلم أن لابد من تقاود الفكر واللفظ في البيان الأدبى حتى لتجد كأنهما يتسابقان يقود أحدهما الآخر إلى غايته، فلا تسلم صفة القيادة لواحد منهما دون الآخر، فإذا تم ذلك تم المعنى الأدبى البيانى الكامل في أدب الأديب، وتم له الخلود الدائم في التاريخ الأدبى والبيان اللسانى الذي تتكون من أشيائه ثروة اللغة. وإذا صح لديك -وهو لا شك صحيح- أن الأديب لا تجتمع لأدبه مادته إلا من الحياة اليومية التي تؤثر في فكره أشد التأثير، وتحمله على توليد المعاني الأدبية من معاناة الحياة ومداورتها ومقاساتها على لينها وشدتها، وأنه أشد الناس تأثرا وإحساسا بالأحداث الإنسانية والطبيعية كلها، وأن هذا الإحساس وهذا التأثر هما ¬

_ (¬1) كذا بالأصل, وظنى بها: مَحْضَة.

الدافعان الأولان اللذان يوجدان فيه معانيه التي تحمله حملا على التعبير، وأن التعبير يتناول المادة اللغوية من الألفاظ فيدورها على أسلوب وطريقة وترتيب ينتهي إلى شيء واحد: هو حفظ النسبة والعبارة بين اللفظ اللغوى والمعاني الجديدة التي يعلق بها الأديب أسبابه بأسباب معانيه. إذا علمت ذلك علمت أن الحرب وهي الهَزّ الدائم المستمر بين صباح اليوم وليله -توجد في أدب الأديب بيانًا جديدًا ومجازًا مبتكرًا وعبارة متناسبة تتجدد بها اللغة وتثرى، وتختزن في خزائنها أموال الأدب التي يسهبها (¬1) لها هذا الأديب. ولا يذهبن بك ما ترى منْ رَأْينا إلى أن ذلك لا يتناول إلا الألفاظ، كلا، فالأغراض والمعاني والآراء كما قلنا هي الأصل واللغة تبع كمتبوع، وليس ذلك حسب، بل أن النهج والأسلوب والمأخذ والمرمى والمقطع والحد، وكلٌّ يتميز به الكلام الأدبى والنهج الأدبى العام، هو أيضا يتأثر تأثرًا ظاهرًا بينا بالأثر الذي يحدث من جراء الرجفة الحربية التي تزلزل أعصاب المجتمع البشرى في هذه الأيام. والحرب الحديثة هذه لا تزال قائمة تدمدم دمدمة مفزعة متغولة بالرعب الوحشى الذي يزأر زئيره في ميادين القتال الهائلة، وستستمر كذلك إلى أن يقضى الله قضاءه على هذا العالم الظالم أهله، ولن تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تصفي الأوضار الخبيثة التي تراكم ثقلها (¬2) على البشرية، وحتى ينهك التعب شياطين الحرب وهي تتداك وتتزاحم إلى أن تسقط إعياء من طول ما طوفت على العقول المختبلة تضع فيها مادتها الشيطانية النارية الملتهبة بالشر والعدوان والبغي والطمع وسائر الرذائل الماحقة التي تعمل في خراب العالم من ناحية، ليقوم العقل البشرى الخالد من ناحية أخرى فيعمره بتوفيق الله وهدايته، واتباع طريقه والتسلم لقضائه، والإيمان بأن منه الرحمة في الخير والشر يداوى بها الكلم الدامى المتفجر حتى يرقأ دمه وتنحسم مادته. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، وظنى أن الصواب: يُنْهِبها، وأنهب المال: جعله نهبا لمن يريده أن يأخذه. (¬2) في الأصول: ثغلها، فأثبتُ ما ترى. الثِّقْل: الذَّنْب، وفي التنزيل العزيز {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] أي: أَوْزارهم وأَوْزار مَن أضلوا.

ومادامت هذه الحرب قائمة على هذا الهول وهذا العنف وذلك الجبروت الطاغى، فنحن لا نستطيع أن نقول كيف هو أثر هذه الحرب بالتحديد في أدب العالم، وذلك لأن تأثير الحرب لن ينتهي الآن لأنه يتجدد في كل يوم بأهواله، بل في كل ساعة بل بين كل دقيقة ودقيقة، والتأثير لا يعرف ولا يتميز إلا بعد أن تمر فترة تكفي على قدرها أن يستوى التأثير على حالة باقية يمكن أن يتصورها العقل أو يُلِمّ بها فيتفهمها، وعلى ذلك فليس من الممكن أن نجد أساسا نقول فيه إنه هو الأساس. ولكن لسنا نشك البتة في أن هذا الانفجار العظيم المتقصف في كل مكان سيجعل في أعصاب العالم كله بعد انقضائه انفجارا يتقصف زمنا بمثل ذلك الهول والفزع، وأن الحياة الاجتماعية في نواحي العالم الحي بعد ذلك ستجد اختلالا هائلا يسمع هده ودويه في كل ثنية من ثنايا الدنيا، وأن كل دار يسكنها حي باق سوف تسمع من أرجائها ضجيجا هائلا يودى بالحياة الاجتماعية السالفة التي تعاقبت على العالم بعد الحرب الماضية، وأن المرأة سوف تستغل لشهواتها هذه الرجولة الظامئة التي أطارت الحرب ريها زمنا طويلا، وأن العالم على ذلك سيجد بلاء جديدا لم يسبق له شبيه في التاريخ الإنساني، وأن الأديب سيعيش في هذا الاجتماع الإنساني العالمى بعد آثار الحرب في نفسه فيرى ويسمع ويحس ويفكر ويتأمل ثم ينتج للأدب إنتاجا جديدًا فيه من ذلك كله آثار تشتعل في نواحيه. إن الأدب هو تعبير الروح الإنسانية السامية النبيلة، والحرب الحاضرة هي تعبير الروح الإنسانية التي اختبلها مَسٌّ من الشيطان المتدلِّي إلى هوة سحيقة من الغرائز الوضعية، وسنرى -والله يعصمنا ويعصم القارئ، وهو الحافظ- كيف يعبر المعنى السامى حين يهتز بالمعاني الوضيعة، وسنرى أبالسة الأدب ينطلقون في كل فج ومن كل حدب ينسلون على الناس بشهواتهم المتكلمة في شعرهم ونثرهم وأفكارهم المستكلبة. وإنا لا ندرى ما خَبَأَ الله للناس، ولكنا نرجو أن ينجينا الله أن نكون بعض هؤلاء، فإن الرجل -وصدق رسول الله- ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها قيد ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.

وإنما القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء! فاللهم اهدنا بهديك واعصمنا، فلا عاصم اليوم من أمر الله.

إلى على ماهر باشا

إلى على ماهر باشا هل يأذن لي -صاحب الرفعة- أن أنتحل لنفسي صفة الأديب الذي يريد أن يتكلم بلسان مصر الخالدة التي أرسلت أجيالها تطل علينا من لدن عصر التاريخ الأول إلى القريب القريب ممن توفاه الله من آبائها وأبنائها؟ إنني لن أنتحل بهذا شيئا ليس لي، فإن الأدب الذي وقفت نفسي عليه هو نفسه ليس إلا تعبير الوطن كله بأرضه وسمائه وسكانه بألفاظه من اللغة على لسان رجل واحد، فما ينكر أحد على أديب مجهول مثلي -يجد في دمه تلك الأمواج الثائرة المتدفقة، وهي تتدافع في بنيانه تيارا من الإحساس- أن يطلب بألفاظه التعبير عن حقيقة هذا التيار تعبيرا صريحا يدل بروحه على أن الغفلة المظلمة لم تطبق دياجيها على القلب المصري الحر بعد. حين بدأ الموقف المصري السياسي يرسل تلك الرعدة النافضة في أعصاب الوطن المستيقظ، بادرت فكتبت كلمة كنت أجد ألفاظها جائلة تدور في نفسي. كان الموقف غامضا، ولكني كنت أجد الهواء ينشق عن رائحة الفجر ويترقرق بأنواره فعلمت ساعتئذ بعض واجبي، فسارعت إليه. فلما قرأت اليوم ذلك البيان الفاصل الذي فرق بين الحق والباطل جعلت أستعيده مرات. ثم قلت لنفسي: "ويحك يا نفس! أي رجل هذا الذي أشرق من قلبه النور الخالد الذي أضاء لمصر وللعالم الإسلامي طريقا سوداء داجية"، وعندئذ علمت من واجبي بعضًا آخر. إن مصر قد لقيت في هذا القرن من أحداث الدهر ما لا طاقة لوطني بالصبر على لأوائه وشدته، فقد قامت جماعات أريد لها يوما أن تنصب أنفسها كالأعلام الشامخة في تاريخ مصر، فكان ذلك. ومع ذلك فإن القلب المصري الذي لا يندفع وراء صوت الناعق، قد وجد هؤلاء -حين استوى لهم الأمر- قد أفرغوا ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 778، الأربعاء 20 جمادى الأولى سنة 1359 - 26 يونيو سنة 1940، ص 1.

على شعلة الوطن التي أوقدتها قلوب أبنائه ذَنوبا (¬1) من ماء، فأطفأوا نورًا ونارًا - لو هما بقيا واستمرا إلى غاية، لأضاءا للتاريخ المصري الحديث مرتقاه إلى الذروة. ولكن لا يخذل الله إلا هالكا، فاصطفاك الله لمصر في أيام من المحن، فما ندرى! ! لقد كانت مصر تجهل أن هذا الرجل الذي استطاع أن يلم شعث الوطن في أيام عاصفة، هو الرجل نفسه الذي سيكون عمله فيما بعد تعبيرًا عن روح النار المصرية الخالدة التي تأبى أن تنطفيء. نعم، لقد وقفت اليوم على قمة المجد الوطنى تكشف الحجاب عن ذلك المارد العاتى الذي جعل همه أن يغرر غرره بالوطن المصري، فنزعت من قلبك الرهبة، وسموت بروحك عن حاجة البدن وضرورة المادة، فتوهج بك النبراس المنير الذي سيضئ لمصر مرة أخرى -بعد مصطفى كامل- طريقها إلى معراج مجدها الخالد الذي لا يتهدم. أبشر أيها الرجل المبارك! ! ! إن هذه القلوب المصرية المشعلة قد جعلت تسمع معمعة نيرانها تتردد في أرجاء الوطن قاصيها ودانيها. وإن الجرأة الكامنة في ضلوع هذا الشعب قد وجدت تعبيرها في مثال روحي سام نبيل، فهي تمد بقوتها وتستمد منه استمرارها ودوامها، ليس في مصر اليوم إلا أمة على قلب رجل واحد، اجتمعت على معرفة الحقيقة التي أحاطت بها، فهي لن تتوانى ساعة من نهار في إعلان حقيقتها هي. تلك هي الحقيقة التاريخية الخالدة في بلاد الشرق حقيقة الروح الباقية بإيمانها، بعد أن ينضم الثرى على رمَّة ورُفاتها. إن الأسد لا يعرف من معاني وجوده إلا معنى واحدا: هو معنى العظمة الباذخة تستعلن بخيلائها من عضله إلى لبدته، وتتجلى بتيهها من نظراته إلى مشيته، لأنه هو قوة تفرض سلطانها بنفسها، وهو متبوع لا تابع، وهو صرامة ¬

_ (¬1) الذَّنُوب: الدلو المَلأَى، ولا يُقال لها وهي فارغة: ذَنُوب.

ماضية تلطم فتحطم، وما يؤذيه أو يضره أن يصاب خيانة أو غدرا. فإذا لاقاه من يلاقيه عيانا، فالأسد الأسد، لا يفر ولا ينهزم. وقد مد الله لك صحيفة بيضاء في عهد الفاروق، فاكتب فيها تاريخك المجيد الحي في المحاماة عن هذه الأرض التي حملتك صغيرا، ورعتك شابا، وعظمتك كبيرًا. اكتب تاريخك، وسيكون توقيع الأمة كلها شهادة على أن مصر تستطيع أن تلد أبناءها أحرارًا، لا يستذل أعناقهم خوف ولا حرص ولا طمع وسيكون توقيع الأمة عملا مجيدًا لعملك وصرامة ماضية كصرامتك، وجرأة تتحفز كجرأتك. إن الله قد أعطاك سَورة من عز مصر، وعز العرب، وعز الإسلام، فاعمل على ألا يراك الله إلا بحيث أحبَّ، فإنه تعالى يقول: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}. إن مصر قد أعدت لك قلوبها، فانزل منها حيث شئت، ومن أنكر عليك موضعك فما ينكر إلا نفسه، ومن أغمض (¬1) في ضلاله فدعه، فقديمًا قالوا: "خرقاء وجدت صوفا" (¬2) فهي تفسده بحماقتها، وسيأتي على الناس يوم تعلم فيه الشاة علما ليس بالظن: أنها إن تك بقرنيها تناطح، فمن قرنيها تصرع، ويومئذ لا يغني عنها علمها شيئا. فاللهم ادفع عنا وانصرنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) أغمض في الأمر: مضى فيه ولجَّ. (¬2) مثل يضرب للذي يُفْسِد ماله.

لا تبكوا. .! لا تنوحوا. . .! !

لا تبكوا. .! لا تنوحوا. . .! ! من يوم أَن سقطت تلك المدينة العبقرية التي فتنت الناس وأغوتهم، ورمت في قلوبهم أعوانها وأشياعها، وأطلقت عليهم لذاتها فأطلقوا عليها شهواتهم .. من يوم أن سقطت باريس الفرنسية: لا أكاد أستريح من نفسي ولا من قلقها واشتياقها واضطرابها الى أمر غامض لم تنجل غمامته بعد. إني من ذلك اليوم لأنطوى بين جدرانى أفكر، أو آوى إلى ليل الحرب المظلم أسبح وأتخيل وآخذ لقلبي متاعه من الفرح، أو لوعته من الحزن. نعم! لقد آثرت أن أنفرد في هذه الأرض أعيش وحدى، وآكل وحدى، وأفكر وحدى، كما أفرح وحدى، وأتألم وحدى، فإن يكن في هذه الوحدة متاع ولذة، فذاك بعض فنون الدنيا، وإن يكن منها شجو وحسرة، فذاك بعض شجونها. ولكن. . هل استطعت أن أكون أبدًا وحدى؟ كلا، كلا! ما ظنك بإنسان قد فرض عليه -أو فرضت عليه إنسانيته- أن يكون حيًّا يتداخل في الحياة كما تتداخل عليه، وأن يؤدي وظيفتها كِفاء ما وظفت له من أسباب الحياة: من هواء ونور وحرارة وحركة. وقد جعلت وظيفتى في هذه الحياة في شيء أحسنه بعض الإحسان، ألا وهو هذا الأدب الذي نعيش به، و .. و .. ونحيا له إن شئت. فهذه الوظيفة تحملنى على أن أدع ما أحب إلى ما لا أحب، وأن أضرب النفس على واجبها بالسوط والعصا حتى تنقاد، فليس يحسن بمن هذا عمله وتلك وظيفته أن يقطع نفسه عن إنتاج الأدباء الذين يعاشرونه ويعاصرونه، ولا أن يتخلف عن شهود مواكبهم أو مآتمهم في راحة أو تعب فلذلك كان لزاما على أن أقرأ لأصحابنا -أطال الله بقاءهم ومدّ في أعمارهم- كل ما يكتبون، فإن لم ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 787، الجمعة 29 جمادى الأولى 1359 هـ، 5 يوليو 1940، ص 1.

يكن كله فأكثره، فإن لم يكن أكثره فبعضه، وذلك أقل ما يجب على الأديب من حق الأدب وحق المعاصرة. وقد جاءت الحرب الطاغية، فأوقدت عليَّ أفكارى فهي أبدًا تغلى بما فيها مما يخص وما يعم، ومما أسر به أو أعلنه، ومما أرضاه، أو ما أسخطه. وعلى ذلك أقرأ أفكار أصحابنا، وفي هذه الحال أتناول آراءهم وإنتاجهم، فإن وجدوا في بعض كلامي حرارة تحرق، فإن الذي ألقى من هذه الحرارة أشد مما يلقون. وأنا أقاسى فأتكلم، وهم يقرأون كلامي فيشعرون ثم يتناسى منهم من يتناسى، وفرق بين الحالين كبير. وقد قيل في المثل: "تحرقك النار أن تراها بله أن تصلاها". ولم أزل كلما أخذت صحيفة أو مجلة أجد أصحابنا يعيشون في دنيا غير الدنيا، وينظرون في أشياء، لو أنصفوا لكفوا أنفسهم مؤونة الفكر فيها، فضلا عن الإلحاح عليها، فضلا عن معاناة الكتابة في أغراضها. فلما سقطت باريس مدينة فرنسا تحت سطوة الجيوش الألمانية الغازية، لم أكد أتناول شيئا من ذلك إلا وجدت هؤلاء قد لبسوا الحداد، فهو في سطورهم حسرات، وذرفوا الدمع، فهو في كلماتهم قطرات، وتأوهوا وأنوا وتصدعت أكبادهم، وتزايلت أنفسهم، وأظلمت الدنيا في عيونهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت! ! وكأن كل أحد منهم قد أخذ أخذًا على أن يحمل القلم، ليثبت أن البكاء الذي في قلبه، يستحيل أيضا بكاء من قلمه. لم يرد أحد منهم أن ينظر إلى الحقيقة التي يجب أن يفرض على نفسه طلبها والعمل لها. لم يرد أحد منهم أن يعرف أن الأدب أو ما يجرى مجراه -ليس هو الكلام يقال أو يكتب، وإنما هو في أصله وفي أخراه هو طلب الحقيقة وإظهار هذه الحقيقة، ثم يختلف الأسلوب على هذه الحقيقة. إن الأدب المصري أو العربي أو الشرقي عامة، قد فرضت عليه أمته أن يبحث لها عن حقيقتها هي، ليعلق لها هذه الحقيقة، في أسلوب بعد أسلوب، يكون من كل واحد منها أثر

يدفع إلى غاية، وتكون الغاية إثباتا لهذه الحقيقة وتقريرا لها في روح الشعب، حتى يتكون من جميع الآثار التي يرمى إليها الأدباء، ما نسميه في هذا العصر بالرأي العام. فإذا كان إنتاج الأدباء ذاهبا عن هذه الغاية ضالا على وجهه، ليس يهتدى ولا يبصر ولا يستوضح طريقه، فهو إنتاج مخمور، كأنه قد استنقع في كأس من الخمر فهو يمشي متخلعا يتطوح بين حائطين من الضلال، كلما صدم أحدهما قذف به إلى الآخر، ولا يزال كذلك حتى يتهالك مجرحا محطما، لا يتماسك شيء منه على شيء. لقد سقطت باريس! ! هذا شيء -لا أقول مؤلم أو محزن- بل أقول: هذا شيء كان الظن فيه غير ذلك. فما الذي يؤلم المصري أو الشرقي من سقوط باريس في أيدى الطغاة الذين حملوا على أصحابهم حملة واحدة حتى فرغوا؟ نعم لست أجهل مواقع الحجة لمن يريد أن يحتج منهم، ولكن إن كان الكاتب يألم، فالشعب الذي يكتب له لا يستطيع أن يألم كألمه، أو أن الضرورة الوطنية تحمله على أن يوفر على الشعب عواطفه التي تتألم، لشيء غير هذا. ليس أحد من هؤلاء يجهل أين ينبغي أن تتوجه آلام عواطف الشعب، فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى بيان أو دليل، وإذن فواجب هذا الأديب -أو هؤلاء الأدباء- أن يتخذوا من سقوط باريس وأخواتها مادة لتوجيه عواطف الشعب إلى الحقيقة الوطنية العظمى، الحقيقة الوطنية التي لا يعيش الشعب إلا بها، لأنه ليس له قوام إلا بها، ولا بقاء له إلا عليها. إننا نعانى من قرون بعيدة آلاما كأشد الألم إذا تمكن حتى يفقد صاحبه الشعور به، من طول إلحاحه عليه حتى يعتاده ويقر عليه. وهذه الآلام يعوزها من يقوم على تصويرها لشعبه تصويرًا جديدًا حتى يتمثلها في دمه آلاما جديدة قد ولدت له خاصة في جيله هذا، وبذلك يبقى الشعب أبدًا وهو يجد في دمه تاريخه الموروث بآلامه، فيعرف واجبه في العمل على دوائها والقضاء عليها، فكان يجب على هؤلاء أن ينتزعوا من سقوط هذه المدينة أمثالا جديدة لقرائهم -أي

للقوم الذين يتكوَّن منهم الرأي العام- ليوقظوا ذلك التاريخ المنسى الذي طمست عليه فتنة المدنية الحديثة التي أتت إلى بلادنا، فأحالت رجالنا إلى رجال ليسوا منا، وما هم إلا كترجمة فاسدة في لغة ركيكة لكتاب بليغ في لغة أخرى. هذا مَثَلُهم. . . إن الحياة -أيها المعاصرون الأصدقاء- قد كتبت على الأرض مدنيات كثيرة، علت مدنية وجاءت أخرى فبغت عليها بطوفانها حتى ذهبت بها إلا آثار للتاريخ. لقد قامت مدنية الهند والصين وآشور والكلدان، ومدنية مصر والعرب وغيرهم مما نعلم وما لا نعلم، ثم ألقى الدهر عليها كَلْكَله فسوّاها، فكم من باكٍ بكى على هذه المدنيات المسكينة التي دفنت تحت أجساد متجمدة من الدم؟ كم من باكٍ بكى عليها من غير أهلها؟ ونحن! ! نحن الشرقيين! ! نحن المصريين! ! نحن العرب! ! هذه أعظم جرائم التاريخ قد فتكت بنا وبرجالنا وبمجدنا، وسلبتنا حتى العقل، حتى الروح، حتى الآمال والأماني والأحلام، من بكى علينا يومئذ؟ ومن يبكى علينا اليوم؟ أين هؤلاء الكتاب الذين فتنتهم باريس بالأمس وأبكتهم على لذاتها اليوم، أين هم من تلك الصور الفظيعة المخيفة التي يعرضها عليهم التاريخ في كتبه؟ صور آبائهم وأجدادهم، ومن يتبجحون بالانتساب إليهم والتحدر من أصلابهم؟ ؟ وهم يتعذبون ويشردون ويطاردون بين خوافق السماء وفي جوانب الأرض! ! ! أولئك هم الغافلون: لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها. ثم انظروا .. انظروا .. أليس الجنرال بيتان هو ابن فرنسا وابن باريس وابن المجد الفرنسي الذي توارثه عن أجداده وعن تاريخه وتاريخ بلاده. لقد قام الرجل الفيلسوف الجندي الحزين يصور للشعب الفرنسي. . . حقيقة حضارته التي كان سرها وخلاصتها وأجودها ممثلًا في باريس. لقد وصفها صفة خالدة الميسم على الحضارة الفرنسية الباريسية، حضارة اللذة واللهو، حضارة المجون والعبث، حضارة من يأخذ لذة ولا يعطى أمته فائدة ولا مجدا. لقد كان حكم بيتان على

قسوته حكما مشوبا بالملق لتاريخ حضارة أمته، وإلّا فالتاريخ أَمْضَى حكمه على هذا الضرب الساقط من المدنية الخبيثة ولكن بيتان الرجل معذور في ملقه، لأنه فرنسي يحب فرنسا بدمه قبل أن يحبها بأفكاره وآرائه. ولكن ما عذرنا نحن إذا قام كاتبنا. . وكاتبنا. . . وكاتبنا. . . إلى آخر هذه القائمة الطويلة، يمجد تلك المدينة -باريس- التي حكمت بأسلوبها في الحضارة على فرنسا بذل الأبد وعار الدهر. لا تقولوا إنا نذكر ونحن نسبح بخيالنا في جمال باريس وفن باريس وعقل باريس وعلم باريس. . . إن تمجيد باريس ليس إلا تمجيدًا لذلك النوع الفاسد من الحياة التي سلبت باريس وأم باريس الحياة. إنكم حين تتكلمون وتكتبون لا تذكرون شوارع باريس ولا حيطان باريس، فإن ذلك كله لا نفع له إن لم يكن ذكركم لها ذكر الروح التي تحيى بها هذه المدينة العبقرية اللذات وهذه الروح هي التي أرهقت روح المدينة الفرنسية وما يشابهها ويلف لفّها في التلذذ والشهوة والفساد. يا أحبابنا، ويا أصحابنا: إني أكتب هذه الكلمات، لكل من يقرأ ومن لا يقرأ، ومن ينسى ومن لا ينسى، ولكني أعلم أنى أؤدى واجبي، فليس يسوء أحدكم أن أكون له مخالفا ما كان خلافي عليه نصيحة له وحبا لهذا الشعب الذي يغذونى ويغذوكم بما تقوم به حياتى وحياتكم. فانظروا إليه أولا وانظروا إلى ما هو فيه من البلاء، وخذوا من أحداث الدنيا ما يكون لنظره عبرة، ولرأيه فكرة، ولروحه قوة، ولمستقبله حافزًا. لا تبكوا. . . لا تنوحوا، فإن كنتم لابد فاعلين، فابكوا له، ونوحوا عليه: موت بعض الناس في ... الأرض على البعض فُتوحُ فعلى نفسك نُحْ إن ... كنت لابد تَنوحُ

تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة ساعة واحدة، وتتوالد منها ساعات تلمع في الأيام كبسمات النجوم في قبة الليل. ساعة واحدة في تاريخ الأمة، وتأتي الساعات بعدها تنفث في الشعوب رقى من السحر تجعل الساكن البليد الغافل شعلة متوقدة تتوهج من نشاطها وإقبالها وذكائها وحسن تصرفها في المضيق المتلازم الضنك. ساعة واحدة، وتنبعث حرارة الإيمان في القلب حتى ما يدع شيئا إلا قهره وأذابه ورده بعدُ سبيكة من الجمال والحق والقوة والحرية والنبل. ساعة واحدة، وتكون المعجزة قائمة على الدهر جديدة حية كالحياة نفسها. هكذا يبدأ تاريخ الشعوب، وهكذا يكون يوم يتجدد التاريخ القديم ليكون مرة أخرى على الناس في عنفوانه كالموج المتلاطم لا يتفانى إلا ليكتسب قوته من تياره فيتجدد. وهكذا يقوم على الأرض بناء الحضارات من يوم أن كانت الأرض. وهكذا تتجلى فضائل الشعوب على الزمن الشعبى فتجعله فضيلة تاريخية متوارثة متبعة، تقف الأمم إليها تقتبس من نورها هدى تمشي به خطاها في تاريخ الأمم. إن من يجهل حقائق الحياة الإنسانية العالية المتسامية، يخيل إليه جهله أن الزمن إذا وقف بأمة في مربط من الحيوانية التاريخية النازلة لا يمكن أن يمد لها مرة أخرى في طِوَل (¬1) أو زمام، وأن الحياة التي وقفت يصعب بعد ذلك أن يستمر مَرِيرها (¬2) فتقوى على المشى المتعب، وأن ساعات الاستبداد، وعد الأنفاس، ومراقبة الهمس، والتوجس من النجوى، والتفتيش عن أسرار القلب وخطرات النفس وخلجات العقل -هي ساعات من البلاء تمسك الحياة على ذلها وقلتها، فلا تعز بأمر ولا تزيد ولا تكثر. ولكن الحق يختلف بطريقته عن طريق هؤلاء الظانين به غير الحق، فإنه ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 794 ,الجمعة 6 جمادى الثانية سنة 1359 - 12 يوليو سنة 1940، ص 1. (¬1) الطوَل: الحَبْل. (¬2) استمرت مريرتُه: قَوِيَ واستحكم واشتد.

يمتحن الإنسانية بالاستبداد والتعذيب والمحاصرة وطول الحرمان وشدة البلاء، ليخلص الحق بقوته من كل ضعف، وإذا خلص الحق من رعاع الأخلاق وأنذال الطبائع وجبناء الغرائز، اتصلت كالسيف ما مس من شيء قطع، وهو يومئذ لا يُغْلَب لأنه لا يَتهيّب، ولا يذل لأنه لا يطمع، ولابد أن ينتصر لأنه لابد أن يجنى. هذا، وإن تقصير أصحاب الصوت الذين يصلون بأصواتهم إلى أسماع الجماهير، هو البلاء الذي يتفلت به تاريخ الأمة من أيدى الشعب، فتضيع الفرص السانحة التي تعرض على الشعب مجدًا وعزا وحرية وبقاء وذكرًا حسنا في التاريخ، فإن هذه الساعة التي وصفناها إنما هي اهتبال للفرصة وتعلق بها وحرص عليها، ثم حسن التصريف والتدبير والأهداف إلى أغراض من المجد، ثم حث للأمة على اليقظة وتنبيهها إلى علم الحقيقة التي تعيش فيها، والحقيقة الأخرى التي ينبغي أن تعمل لها لتعيش بها. فإذا عرضت للأمة هذه الساعة التاريخية الخاطفة، فلم تجد أصوات قادتها -من أدبائها وشعرائها وكتابها، وأصحاب الرأي فيها، وذوي السلطان منها- فقد استحقت كلمة العذاب في التاريخ، وتأتي الأجيال بعد الأجيال لتقرأ فتعرف، فتصب اللعنات على ماضيها وأهل ماضيها، لعنات كأنها شواظ من النار مصبوب على السلف الذي فرط في حقوق الأرض التي تغذوه وتربيه وترعاه وتحوطه، وتجعل له نسبا ينتهي إليه وخلفا يستمر به حيا في التاريخ. ونحن اليوم قد وقفنا وعرضت لنا هذه الساعة الخالدة في تاريخ مصر، بل في تاريخ العرب، بل في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الشرق كله، واشتعل لها رجل واحد فأضاء عليها وجلاها كشفها لِكل ذي عينين مبصر، وجرد معها نفسه للفداء والتضحية. . . هذا هو على ماهر، ولكنه آثر الرفق فلم يعنف ولكن الأمة التي فداها بنفسه لم تعرف بعد أن هذا هو يومها الذي تستطيع فيه أن تجدد تاريخ الشرق وتاريخ مصر، وإن أكثر أصحاب الصوت فيها قد خرسوا وأَرَمُّوا (¬1) ¬

_ (¬1) أَرَمَّ: جلس ساكنا لا يتحرك.

وسكتوا وأطبقوا أفواههم، وخَنَسُوا في جِحَر (¬1) الحياة المظلمة التي تخاف النور وتعشى ببرقه، وتخشى فواضحه التي تكشف الضعف وتميز للناس الخبيث من الطيب. إن هذه السكتة التي خاطت شفاه الثرثارين -كانوا- بخيط الرعب والفزع والحرص على شهوات العيش، قد أضرت بمصر بل بالشرق ضررا نرجو أن لا يتلاحق أوله بآخره. نعم أنهم كانوا لعهدهم فيما مضى قد اتخذوا عقول الناس مطايا لما يشتهون، فارتحلوها وركبوها بالشهرة والصيت ونبوغ الاسم، فلما جاء يومهم يوم الجد والحزم، وأن ينزلوا عن مراكبهم هذه ليترنَّموا بالحداء والغناء والنشيد، فيبعثوا قلوبا حرة تستهدف للبلاء بإيمان وصبر وعزة وإرادة: استكانوا وهوَّموا (¬2) وأخذتهم نعسة الخوف، فارتاحوا بها واطمأنوا لها، ورضوا بالحياة كما تقبل عليهم بعد ثورة وصخب وجَعْجَعَة من رأي وكلام. إن سبيل التجديد الذي يطلب التاريخ منا أن نمتهدها ونسلكها، قد انشقت لنا أوائلها وصدورها، وقد بطل العذر وستموت المعاذير في المستقبل، فلم يبق إلا الإقدام وحده، ولم يبق إلا تجريد القوة الكامنة في أنفس الناس. فإذا أمكننا أن نبدأ وأن نتحرر في البدء مما يعوقنا من الخوف، وما يقطعنا من الحرص، وما يقف بنا من الجزع -أمكننا أن ندير الأيام على مدار ينتهي بنا إلى الغرض الذي نرمى إليه. فالصراع العالمى الدائر بين القوى الفكرية والأدبية والسياسية والحربية، قد مهد السبيل لكل عامل أن يعمل، وأعطى النائمين نصيبًا من اليقظة، وكسر عن المقيدين بعض القيود التي كانت تعض على كل جارحة. فالعمل واليقظة والحركة في هذا الأوان كفيلة بأن تورث الشعوب -إذا أحسنت حق استعمالها- قوة ومضاء وعزمًا، لا ينثنى شيء منها لما يعترضه من الحوائل التي أوجبت بعض ¬

_ (¬1) خنس: تراجع وارتد. وجِحَر: جمع جِحْرَة. (¬2) هوَّم: تملكه النعاس، فسقط رأسه فوق صدره.

الظروف قيامها في سبيل هذا المدد الحي الذي أمدت به شعوب الشرق في ساعة التاريخ العظيمة. وطبيعة الصراع قائمة على انتهاز كل فرصة عارضة واستغلالها بالمضاء والعنف والاقتسار وجعل أوائل الفرص إذا أقبلت على المصارع خاضعة للإرادة التي تتحكم في الغايات التي ينتهي إليها في صراعه. فعمل الشرق الآن عمل حقيقي لا وهمي، والفرص العارضة له حقيقة مستمرة باستمرار الحالة الدولية التي نشبت في أعصاب الأمم المتعادية المتنازعة على أغراضها وأطماعها، وتاريخ الشرق منذ اليوم قد افتتح صفحة جديدة من كتابه ليثبت فيها هذا الشرق حقيقة الوراثة البعيدة التي جعلته فيما مضى حارسا على العقل الإنساني وإنتاجه وعبقريته. وسبيل الشرق إلى هذا التجديد في تاريخه، وسبيل مصر -وهي رأس الشرق اليوم- في تجديد تاريخها، هي طرح الأناة والغفلة والخمول، واحتمال مؤونة العذاب في العمل على إنتاج الشعب الذي يستعد بفطرته للدخول في المعركة الحاسمة التي تقطع عهدا مضى عن عهد يستقبل. وسبيل ذلك أن نتعاون ونتظافر ونتظاهر على إحياء التراث القومى الذي لا يعرف المسامحة في محاسبة أصحاب التهاون في مصير أوطانهم، وأصحابهم الحرص على منافعهم التي ينتهشونها من أيدى الجبارين والطغاة، وأصحاب اللهو والعبث بروح الأمة وعقلها وحقائق وجودها. وإن كل أحد منا قد أقامته مصر -أو أقامه الشرق- حارسا على ثغرة من ثغور البلاء، وكتبت عليه أن يدافع دونها دفاع المستميت حتى الموت، وأن ينذر بالعدو إذا أقبل عليه وأجلب (¬1)، فإنما كل أحد منا طليعة لجيش أو ربيئة، فلابد أن يكون في عينيه ذلك الضوء النافذ الذي يخترق ظلمة المخارم (¬2) والثنايا ¬

_ (¬1) أجلب جمع عُدَّته وحشد رجاله من كل وجه. الربيئة: الذي يعتلى مكانا يراقب حركة العدو وينذر قومه. (¬2) المخارم: الطرق في الجبال، جمع مَخْرَم.

ومجاهل الأرض وأن يكون في حزون (¬1) ذلك الصوت القاصف الذي يجلجل في الهواء بقوة وصليل ورعد وبرق وصواعق ولابد أن يكون بعد ذلك كله حيًّا قد وهب حياته للموت تحت البارقة في كل ساعة وعند كل فزع لا يختلجه إلى الحياة سبب من أسباب العيش أو شهوة من شهوات البقاء في لذة الدنيا ومتاعها. هذه هي الدعوة الصحيحة إلى العمل عمل الأدباء والشعراء والكتاب وعمل كل ناطق من أهل هذا الشرق، وكل مطيق لحمل هذا العبء الروحي الجليل، وليس يغر الناس ما هم فيه من الضعف، فإن كل ضعفة في الإنسان مقتولة بقوة من إرادة الرجل إذا عقد العزم عليها، وكل مخوف يبعث الرعب وينشره ويجلب له بالدعاية والأكاذيب وفوضى العقل المرسلة على لسانه، يمكن أن تبددها صرامة رجل واحد يقف على رأس الناس يقول: "ها أنذا فاعرفوني! لقد كذبتم وتكذبتم! ! ". إن هذا الرجل إذا صرخ بالناس بعد ذلك صرخة إلى الجد، عمل بصرخته في الناس ما لا تجد الأكاذيب معه بعد ذلك حياة تحيى بها لتستجيش الذعر لقتال إنسانية الإنسان الحي الذي يريد أن يعيش لوطنه وأمته، جنديا يقاتل عنها ويحميها من عدوان الاستبداد والطمع، ويحسم عنها شر الضمير المدخول بالوحشية الاقتصادية الغالبة على أمم هذا العصر. إن العقل يجب أن يستبطن المعاني ليستطيع أن يطابق بينها وبين وقائع الحياة، وفي كل كلمة معنى إذا اتصل سره بسر النفس، اهتزت له وأقبلت عليه، وجعلت تفسر به الحياة تفسيرًا واضحًا يقيم البناء على أساسه الحق، أو يفتح الطريق إلى الغاية المرجوة. وإذا كنا اليوم لا نستطيع أن ندع ألسنتنا تنطلق بكل ما يحملها على الطلاقة، فإننا نستطيع أن نجعل قلوبنا في عالم واحد لا يتغابى ولا يتجاهل، ولا يتعادى في الحق ولا يتدابر، ونستطيع أن نجد عند "الرجل" ما وجدناه قبل من القدرة على الاستعلاء على جبروت العناد الأحمق الشره، الذي يريد أن يجعل قانونه في المظالم هو القانون. ¬

_ (¬1) حزون: جمع حَزْن، وهي الأرض الصلبة المرتفعة.

إن الروح لا تموت، لأنها تستمد سلطانها من سلطان الله، وإن القلب لا يسكن، لأن سكونه هو حقيقة الموت، وإن العقل لا يؤسر أو يقيد، لأنه حر لا يستعبد، وإن الزمن قد أشرف بنا على مجد وعزة، فينبغي أن نجدد تاريخنا القديم بمجد مستحدث مستجد.

أحلام مبعثرة

أحلام مبعثرة ليس يخفى على أحد لمن يتعاطى الأدب والشعر والفلسفة وما إليها من مادة الأفكار القلقة التي تعيش بأشواقها الظامئة إلى حقائق الوجود أن هذه الفنون الجميلة الرفيعة لا يتلقاها عامة الناس في مصر إلا بالاستهانة والسخرية، ومع أن من هؤلاء الناس من يجد الحاجة إلى تناول بعض هذه المواد العقلية من أصحابها فإنه مع ذلك يجد من رغبته إلحاحا يحمله على النظر إليها وإلى أصحابها نظرة الساخر المستصغر. وعدوى الرأي والفكر حقيقة قائمة في الطباع كحقيقة الجرثومة إذا التبست بالبدن المستعد لقبول المرض الذي تقوم به، فالعامية الطاغية على الشعوب العربية في هذا العصر تعدى جراثيمها كل متعرض لها، فمن هنا كان كثير من طلبة الأدب، ومن يجدون في أنفسهم رغبة واستعدادًا وشغفا به، ربما تناولوا المادة الأدبية بشغفهم من ناحية، ولكن تغلبهم من الناحية الأخرى عامية العصر، فلا يزالون ينظرون إلى الإنتاج الأدبى نظرة فاترة، ساكنة باردة على الأغلب والأعم. وبذلك تقل حماسة الطالب لما يطلبه من الأدب، وإذا قلَّت الحماسة ضَعُفَ النظر واختلج الرأي وضاعت حقيقة الأدب. وإذا تم ذلك كانت هذه العدوى مؤثرة أثرا قويا بالغا في أصحاب الإنتاج أنفسهم، أي في الأدباء، فترى الأديب يتهالك في أدبه بقدر ما يأخذ من جرثومة الداء العامي، لأنه لا يستطيع أن يتخلص من روح الاجتماع الذي يتنفس في جوه، ولأنه أيضا يريد أن يتدلى إلى عامية الشعب ليكتسب لنفسه قراء أيا كانوا يشعر بنظراتهم وهي تجري على كلامه الذي يكتبه من أجلهم، ليجد صيته وشهرته عندهم حتى يرضى ويطفئ ما يتوقد في نفسه من حب الشهرة. ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة، العدد 802، الأحد 15 جمادى الثانية سنة 1359 - 21 يوليو سنة 1940، ص 1.

وهذه العامية العصرية في الفكر والرأي والإحساس، قد تناولت كل شيء في الحياة الاجتماعية العربية، حتى ما تكاد تجد معنى من معاني الحياة يتسامى عن الإسفاف العامى الهابط إلى أردأ ما تعرف من القبح والسماجة. ولو أردت أن أظهر لك قبح ما نتورط فيه من عامية العصر، فذهبت بك إلى الأصل الذي لا يكاد يتخلى منه إنتاج أدبى صحيح: وأخص الشعر، لرأيت أن منبع الوحي الأدبى في عصرنا هذا، منبع وحل قد تضرب طينا في ماء في حمأة في عفن الحياة الإنسانية الرديئة. فالشاعر حين يشتعل في روحه ذلك السراج الإلهي الطاهر المقدس، فيمشي بضوئه في الأرض ليبدأ رحلته في الأعماق النفسية الهائلة المرصدة لشاعريته فيتقدم إلى باب المعبد الروحي، يجد هذا الباب قد دار به في أقبح ما يتصور العقل من مستنقع طينى نازل زلق. فالمرأة باب المعبد: لا يزال الشعراء يعرفون بها طريق الحقائق العليا للوجود الأسمى، فإذا بدأتهم بأوحالها فما يزال الشاعر على أوحالها ينزلق يرفع رجلا ويهوى بأخرى لا يكاد يستقر حتى على هذه الحقيقة الطينية الطبيعية. وعامية العصر أعظم تمثلا في المرأة منها في الرجل، لأنها بطبيعتها أقدر على مداورة الحياة الاجتماعية بأسلوبها الرقيق السحرى الذي اختصت به ودربت عليه وتفننت فيه، فهي اليوم في عاميتها، وسوء تركيبها وقلة احتفالها بالعقل النبيل وغفلتها عن حقيقة ما يتطلبه شعبها من جهودها الصامتة التي لا تعرف إلا نظرة الحنان، تلك النظرة التي تبعث بضعفها في قلب الرجل أقوى القوة -أقول: هي اليوم قد نزلت بالأدب والشعر والفن نزولا عاميا كنزولها حتى ما ترى شاعرا يستطيع أن يسمو أو يتغلغل لأنه لا يزال ينزلق في الأوحال التي تسيل أمامه ومن خلفه وحواليه وتحت قدميه. ولو ذهبنا نتتبع سائر ما يحيط بالأدب وأهله، وما يجعل العوامل العامية أشد أثرًا في كل إنتاج أدبى لطال بنا ما نتولجه من القول في هذا الباب، ولكنك إذا أَسْدَدْتَ النظر إلى هذا الأمر عرفت أن الحقيقة هي ما ذكرت لك، وأن العمل

على التخلص من عوامل الضعف في الأدب يحتاج إلى جهد هائل من الأدباء أنفسهم حتى يبلغ بهم جهدهم، يريدون من تمحيص أدبهم، وجعله مادة حقيقية تعمل في الحياة عملا نافعا يشفي من داء العامية ليجد في قوة الشعب قوة يمتلئ بها شبابا وعزما ليكون أجمل مما هو وأسمى مما هو. وفي هذا الجو العامى يجب على الأدباء أن يبحثوا لأنفسهم عن أساليب جديدة لكفاح هذه الجرثومة المبيرة المهلكة لهم ولأدبهم، وينبغي أن تبدأ الأساليب كلها من باب واحد يكون هو الأصل، وهذا الباب هو باب الاعتزال عن المغريات التي تدفع الأديب لشهوة الصيت والاحتفال بذلك لتقوية الروح المقاتلة التي لا تعرف الهزيمة في العمل دون الموت. فإذا تم ذلك للأديب - أو الأدباء استطاعوا أن يمحقوا جراثيم الداء في كل مكان بالإرادة الصارمة والعزم النافذ. ولكن الأدباء في بلادنا ومن أهل لغتنا لا يحبون أن يأخذوا أنفسهم بالجد والاعتزام وطول الحرمان ومجاهدة الطائع المعادية للواجب، فهم ينساقون في طريقهم على الهوى والهوادة ومتابعة الشهوات الغالبة، ومحاباة العواطف المريضة، التماسا للراحة بعد الإنتاج السريع. وبذلك لم يكن لأحد ممن نعرف مذهب يستقل به ويقوم عليه، ويذب عنه بالروح القوية التي تحمله على التضحية بكل شيء في سبيل المذهب الذي يعمل في تمهيده وتطريقه للناس بعده، وكذلك ليس لهم غاية يجد لها أحدهم القلق الدائم المستمر الذي يدفعه من كل ناحية إلى بلوغها وإدراكها والظفر بها. من أجل ذلك أصبحت تجد أدب الأدباء وشعر الشعراء وفن الفنانين خطرات من الرأي أو الفكر أو الخيال ليس لها جامع يجمعها، ولا رابط يربط بين متفرقها حتى يمكن أن يتكون من مجموعها للأديب الواحد -أو الشاعر الواحد أو الفنان الواحد- مذهب صحيح يفضى إلى غاية على ترتيب ونظام ومساوقة، ومن أجل ذلك أيضًا كان هؤلاء تمثيلا صحيحا لصورة الشعب الذي لا رأي له. ولا مذهب ولا غرض ولا غاية، ، ومن أجل ذلك أيضا صار الأدباء أتباعا للشعب لا قادة له،

فمن أجل ذلك كله انتبذهم الشعب أو استقلهم وأنكرهم وسخر منهم، لأن الشعوب لا تعرف بل لا تحب إلا صرامة الصارم وقوة القوى لأن الطبيعة والفطرة تدعو إلى البحث عن المثل الأعلى، أي عن أحلام الشعب في المثل الأعلى، أي عن الأحلام المتمثلة في قائد الجماهير، وإلا فلا فضل لأحد على أحد مادام أمر القيادة قائما على المتابعة دون الاستقلال، وعلى الممالأة دون العزم والإصرار والقوة. وأنت لو تتبعت أدب الأدباء وشعر الشعراء، لعرفت يقينا أن الألفاظ التي تقرأها، فيها من كثرة الملل قدر ما فيها من قلة الجهد، وفيها من الفتور أكثر مما فيها من عدم الفكر، وأن أكثر ما تجده من الأفكار والأخيلة والأساليب ما هو إلا أحلام نائم لا حقيقة لها -أي لا رابطة بينها وبين الحقيقة، وربط الأحلام العقلية بحقائق الوجود هي العمل الصحيح للأديب والشاعر، فإذا تركا أحلامهما تضيع وتشرد وتند عن حظائرها من الحقيقة ضاع الأدب وبقي مبعثرا شاردًا لا قيمة له، فإذا لم تكن للأدب قيمة، فلا جرم أن يكون مدعاة للاستهانة، ومظنة للسخرية والاستهزاء. ونحن اليوم مقبلون على زمان من التاريخ لابد فيه من العمل المرهق والجهد المميت، فواجب الأدباء والشعراء لا يتم إلا بنفض الكسل والخلاعة واللين والطراوة وقلة المبالاة، ثم إقبالهم على الحياة بنشاط المجاهد المضحي، لا بانبعاث اللاهي المتلذذ، ثم إقدامهم على أفكارهم وآرائهم وخيالاتهم وأحلامهم بالنظر الخاطف، والعقل المسيطر، والتدبير الحازم، والنظام المتساوق، فإذا فعلوا فقد أنشأوا حكومة عقلية جديدة قوية من هذه الأحلام المبعثرة، ويومئذ تنال هذه الحكومة العقلية الفائدة من احترام الشعب ما يجعل الأدب ساميا أبدا، حتى ما تستطيع العين إلا أن تنظر إليه طامحة سامية جادة، في مثل جده وسموه وطموحه، وبذلك يصبح الأدب احتراما يتجلى لا هزأة تمحو ضوءها ابتسامة المبتسم وسخرية الساخر.

أهوال النفس

أهوال النفس سبحان خالق نفسي! ! كيف لذتها ... فيما النفوس تراه غاية الألم؟ الدهر يعجب من حَمْلِي نوائبه ... وصبر نفسي على أحداثه الحُطُمِ (¬1) وقت يضيع، وعمر ليت مدته ... في غير أمته من سالف الأممِ أتى الزمان بنوه في شَبِيبته ... فسرَّهُم وأتيناه على الهرمِ في ظل الأيام الصامتة الثقيلة، وفي سوادها المظلم الممتد تحت غمام الحياة، تتململ النفس من عنت وضيق وحيرة، وتجد من أحداث القدر ما يتركها تتقلب على نار موقدة من أفكارها وأشواقها وآلامها، وتتجمع من حولها أطياف ماضيها وأحلام مستقبلها، ثم تتنازعها هذه الهاوية في الأبد، وتلك السابقة في الغيب، حتى تكون بينهما تتمزق بين جاذبين قويين متعارضين لا يضعف أحدهما في قوته فتذهب النفس معه على وجهها إليه. وفي هذه الحالة التي تدرك النفس يعيش أحدنا في أنفاس من الجحيم والعذاب المستعر، وتنشأ له في جنون اللهب أحلام مفزعة حمراء الحواشى والأطراف، تندلع في تاريخ إنسانيته، وتثبت فيه أثر النار التي تنضرم عليه فيكتوى بها وليس يستطيع أحد أن يخلص بنفسه من هذه الأحوال الفظيعة، لأن سبيل الخلاص لا يمتد إليه من خارجه، وما سبيل الخلاص إلا من النفس وحدها، فإذا كانت هي التي تعيش في حيرة وآلام مكفوفة عن قوة تفكيرها في إطفاء النار بإيمانها، فليس إلى نجاتها طريق تتخذه، أو باب تنفذ منه. وهذه الأيام التي نحياها في دنيا الاضطراب العالمى المختبل المجنون، تشعل تحت النفس تنُّورًا هائلا طعامه تاريخ الإنسانية كلها من لدن آدم إلى هذا اليوم، وتملأ النفس أفكارًا كثيرة قد انطوت عليها، فهي تغلى بها غليان المرجل ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 807 السبت 21، جمادى الثانية سنة 1359 - 27 يوليو سنة 1940، ص 1. (¬1) الحُطُم: جمع حَطُوم، وهي النائبة تحطم الإنسان من شدتها، والأبيات للمتنبى.

المصمت فلا يزال في تفزُّع وتقلقل يتنزَّى بضغط البخار، فلا يستقر ولا يرجى له أن يستقر. إننا لا نفقد آمالنا في الحياة إلا أن نفقد الإحساس بالحياة، فنفقد الرغبة فيها، ومادامت لنا في الحياة رغبة أو شهوة، فآمالنا أبدًا حية تتحرك بل تتجدد بل تزيد وتتكاثر، وأيما أمل تعتاقنا عنه ضرورة لا نملكها ولا نُعْطَى القدرة على تصريفها كما نشاء -فهو أمل يتوالد آمالا كثيرة صغيرة تكبر وتتعاظم وبذلك نعيش العيش في حالة تستجيش جيوشا حاشدة من الآمال تقاتل أحكام القدر التي لا تعرف إلا حقيقة الحياة الاجتماعية، ولا تلقى بالا إلى الحياة الفردية المستأثرة الطامعة التي لا تشبع. ولكن الفرد لا يستطيع أن يحقق وجوده، ويستيقن من قدرته على العمل والإنتاج إلا باتساع فرديته اتساعا يعطيه من الحرية ما يكفل له إرضاء نفسه في بعض آمالها التي يريد أن تتحقق، فإذا استطاع الفرد أن يحقق بعض آماله تحقيقا كاملا، استيقن من حقيقة وجوده، فإذا استيقن من حقيقة وجوده بذلك، كانت قدرته على الحياة أبلغ وأقوى وأمتن وبذلك يكون دائما ثابتا في تقدير أعماله وإتقانها وإيجادها بالقوة الصارمة، فإذا أمكن ذلك، وجدت نفسه في الحياة المضطرمة منفذا تستعين به على تلطف الحياة أو تبريد السعير الملتهب الذي يكتنفها بألسنته المتكلمة بألفاظ من النار اللذاعة. وإذا بدأ الإنسان يخفق في آماله، ولا يحقق من نوازعها العظيمة شيئا يسكن اليه أو يهدأ عليه، كان إحساسه بنقصان حياته أو ببطلان وجوده عاملا ثائرا دائبا يجعله أبدا في تعذيب من قوة النزاع الهائل بين الحقيقة التي تتطلبها فرديته وشخصيته وبين الأمر الواقع الذي يكفُّه عن الشعور بمعاني هذه الحقيقة في نفسه شعورا واضحا بينًا متمما لإنسانيته. ولكن بعض النفوس تعيش مهما أخفقت في إدراك تام لحقيقة وجودها وعلى يقين ثابت عن أنها أحق بالوجود من النفوس الغبية الفاترة المتلذذة التي تعيش كما

تعيش البهائم ترعى حيث طاب لها المرعى. فهذه النفوس المستيقنة المؤمنة بحقها إيمانًا لا يتزعزع تبقى دائما في تجديد لمعانيها وآمالها ولا ترتد عن أعمالها التي ينبغي لها أن تعملها، وتمضي في الحياة تتكلف أثقال العيش، وتتوثب في نيران الأفكار، وتقاتل عن حقها قتالا لا يلقي السلاح أبدا إلا أن تفرغ الحياة من تحريك النفس بنفحاتها المنعشة. وهذه النفوس لا تعرف كيف تستقبل أعمال الحياة في بُلَهْنِيَة (¬1) من العيش المترفِّه الناعم الرقيق، ولكنها تريد أن تعرف كل ساعة كيف تغتصب أعمال الحياة اغتصابا بالافتراس والانقضاض والسقوط على رغباتها كما ينقضّ النسر على أفكار عينيه المتمثلة في فريسته. فإذا أعطى القدر هذه الفرائس طريقا إلى النجاة من مخالبه! لم يرتد هذا النسر إلى صخرته العالية إلا لينفض الجو بعينيه مرة أخرى، حتى يقع بصره على أفكار جديدة تتخايل له، ويبقى حياته على ذلك يعاني آلام الشوق المتضرم الدائم حتى تقول له الحياة: مكانك، لقد فرغتَ فاسكن الآن! وفي هذه الحالة المؤلمة تجد النفس شيئا كثيرا من المضض والحسرة، ولكنها لا تضعف، بل يزيدها الألم عنادا في المطالبة بحق وجودها، لإثبات شخصيتها في داخلها إثباتًا صحيحا بالعمل، أنتج العمل أو لم ينتج، لا تبالى أي ذلك كان، وعندئذ تكون في جو من الأهوال القاسية الفظيعة التي لا تفتر، وتعيش في تهاويل من خيالها وأحلامها وآمالها، وتنقض عند كل بارقة بقوة الحياة التي تندفع في أنحائها اندفاع التيار الأعظم أمسك عن تدفقه لحظة ثم أطلق. أي شيء في الحياة بعدئذ يستقر على دفاع هذا التيار؟ وأي شاطئ عندئذ يستطيع أن يحتمل صدمات هذه الأمواج المجنونة، وأي سد يحتمل الثبات في وجه هذه القوى الهائلة المفزعة التي لا تلتفت وراءها، وليس لها إلا الأمام يطالبها ويجذبها ويتطارد لها لتدركه بعنفوانها وطوفانها المجنون؟ ¬

_ (¬1) بلهينة من العيش: أي تَرَف ولين ونَعْمَة.

إن الأعصاب التي يتكون من مجموعها إنسان هذه النفس، تجد من الجهد في ضبط الأمواج المنفجرة المتدفعة أشد ما يجد حيٌّ من الجهد، ويكون العقل المدبر لهذه الأعصاب في حالة لا يستطيع معها إلا أن يفقد هدوء التأمل الذي ينبغي له ويكون في حياة صاحبه مادة جديدة لتعذيبه، لأنه يُنْشِئ من هذا البحر أفكارًا جديدة يضع فيها مادة عقلية متفجرة، لا تكاد النفس تتناولها حتى تنفجر، فتزداد أمواجها ارتفاعا وثورة واضطرابا وتدفقًا، وكذلك يتعاون العقل والنفس على إشقاء الحي، وجعله بحرا من الآلام لا يسكن ولا يطمئن. هذا العذاب كله وهذه الحركة المستمرة في أعصاب الحي، وهذه الأمواج المتطوحة الصاخبة في أودية النفس، هذه كلها تعود في حياة من يمارسها ويصبر عليها لذَّات متتابعة يجد فيها سموًّا وعبقرية وقدرة متجددة في دمه، لذات مؤلمة، ولكنها تنعش النفس بالآلام، لذات محرقة، ولكنها تجدد الحياة بالحريق الدائم، لذات على علاتها توجد للحياة اليائسة معنى من الآمال الحية. أيتها النفس، خوضى غمرة الحياة واسبحي، فلن تعرفي حقيقتك إلا وأنت على الشاطئ الآخر، أيتها النفس المعذبة؟ انغمسى في العذاب ما استطعت فإنك لن تستريحي إلا أن تجدى راحتك كلها في القدرة على احتمال العذاب! أيتها النفس! أنت قوية الإرادة، ولكن القدر أقوى إرادة منك.

وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس نحن لا نشك في حقيقتين ظاهرتين متمايزتين متحزبتين بطبيعة الفطرة الإنسانية الاجتماعية. فالحقيقة الأولى هي مطالب الفرد لنفسه ورغباته وأمانيه وأحلامه. والحقيقة الأخرى هي: مطالب الجماعة المكونة من الأفراد على اختلاف نزعاتهم في أنفسهم وخاصتهم. وكل عمل فردى لا يكاد يفلت أثره في الجماعة، وتوجيهه في الحياة الاجتماعية عامة إلى جهة بعينها، وخاصة إذا كان مرد أعمال الأفراد إلى قاعدة عامة تطلق لهم من الحرية ما يجعل أعمال الفرد استقلالا على طريقة المصلحة الفردية التي لا تحترم قيود الجماعة، وقيود الجماعة عندنا هي المصلحة التي لا ترقى بها هذه الجماعة المختلفة قوة وضعفًا، ولؤما وكرما، وعقلا وسفاهة، وحكمة وضلالا. وأخطر الأشياء في حياة الجماعات والشعوب هي القواعد العامة التي يأتي من تفسيرها وتوجيهها سيل طام متدفق من تيارات الأفكار المتنازعة التي تتنابذ ولا تتعاون. فلذلك نحن نعد المبادئ العامة التي تسيرها أعمال الأفراد مستقلة عن الفكرة الاجتماعية الرحيمة التي تخاف سوء المغبة في جسم الجماعة، هي الأصل الذي يجب أن يمحص ويحقق ويضبط، حتى لا تتنازع عليه الأهواء أو الشهوات ودناءات الأخلاق الفردية المستأثرة، والتي تعيش بلذاتها قبل حقائق لذاتها. فإن طغيان الوحشية الفردية يفضى بالعالم إلى فوضى في الجماعة لا تقاومها حسنات المجتمع أو مصالحه أو حقيقة حياته. فأنت ترى من ذلك أن أهم ما يجب علينا أن نتوجه إليه، هو ضبط النسبة بين حاجة الفرد المستقل باعتباره فردًا من جماعة مستقلة أيضا، تريد هذه الجماعة أن تجتنب أكبر قسط بل أعظم كارثة من بلاء التشقق الاجتماعي الذي يأتي من وراء ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 813، السبت 28 جمادى الثانية سنة 1359 - 3 أغسطس سنة 1940، ص 1.

القانون الذي يضبط دولة الجماعة ويقوم على حياطتها، طلبا لإسعادها والترفيه عنها، ووقايتها من التدهور الأدبى والعقلي والسياسي والاجتماعى. وقد كان من بلاء المدنية الأوربية الفاجرة، أن انفجرت في الأخلاق الفردية انفجارا بعد انفجار بعد انفجار حتى صارت مِزَقُ الأخلاق نثرا متطاورا لا يجمعه جامع يكون للجماعة -من صعلوكها إلى مليكها- جِماعا ومِلاكا واستحصادا، يمسح عن آلام البشرية تلك الدموع الغزيرة التي تجري تحت ظلام الأثرة والبغي والاستبداد والشهوات المظلمة في نفوس مظلمة مثلها وأنشأت هذه الطريقة الدنيا من الشهوات المستحكمة الغالبة، مبادئ يتخذها الأفراد شعارًا، ثم جعلت تتخذها بعض الجماعات رمزا لحياتها، ولكنها مع ذلك لا تعد نظاما لجماعة، بل تبديدا لنظام الجماعة أو لما ينبغي أن يكون عليه نظام الجماعة. فمن هذا البلاء ما يقوم في عقول بعض المتأدبين من حرية الإنتاج الأدبى على أي صورة من الصور، أي أن يدور الأديب بإنتاجه حول شهواته الخاصة التي يبثها أدبا في أمته، ويدعى مع ذلك أن هذه الحرية الشخصية في نظرته إلى الحياة وأعماله في الحياة، وتصوير هذه النظرات والأعمال، عمل أدبى حر يكفل له الناس الانتشار والذيوع، وأن يدخل على الأحرار في بيوتهم، وعلى العقائل في خدورهن الطاهرة وعفافهن النبيل، وأنه ينزل على الأمهات والزوجات والعذارى وحيًا جديدًا من الفن الذي تضمن له فنيته حرية التغلغل في حصون الأمة المقاتلة عن الذرارى والأبناء وكيان الشعب المولود للمستقبل. ولا يبالى هؤلاء أن يكون في داخل هذه الحصون الشعبية الهائلة معنى جديد يخذل القوى العاملة على إنشاء الحياة الاجتماعية إنشاء يضمن لها البقاء والاستمرار والتفوق والسمو بالشعب إلى القوة الحاكمة التي تدفع عن أرض الوطن بلاء الاستعباد. فإن الرجل إذا استعبدته الشهوة، فهو يدور أبدا في تصريفها مستعبدًا ذليلا لا يدفع عن نفسه إذا ما أوتى من هذه الحاسة المتلينة الخاضعة بطبيعتها لسلطان اللذة غير متورعة عن التدلى إلى الحضيض، وغير حافلة إلا بالساعة الحاضرة العمياء المظلمة ظاهرا أو باطنا.

وإذا أفسد الأدب أول ما يفسد هذه الحصون فقد أمد الشعب بهلاكه، وأدخل عليه هذه النوازع المحطمة، وبث فيه سراياه وأعوانه من (الطابور الخامس) الذي يعمل على إيجاد حركة ارتداد تشقُّق وحَيْرة ووَجَل، فإذا تم لهذا الطابور الخامس تمامه، استولى على الأمة فمحقها بالفزع والتسليم والرضا بالخضوع والذل، قبل أن يمحقها العدو بالآلة والسلاح والجيش الغازى. وفي هذه الأمم التي لا تملك من سلطان القوة ما تسوغ به السيطرة على ميادينها في صراع الأمم إذا تصارعت، أي في هذه الأمم الشرقية، وأخص الأمة العربية، يعيش هذا الطابور الخامس من الأدباء، ويرى أنه قد أجاد المذهب والمسلك، واتخذ لأمته أهدى السبيلين وخير المنزلتين. وعقيدة هذا الطابور الخامس أن حرية الفن يجب أن لا تتقيد بمصلحة الجماعة، أي أن يكون إنتاج هذا الطابور على ما يثور في أنفس أفراده من النزعات المستكلبة والنزغات المنفجرة في أعصابه بروح الشهوات. فالأدباء والشعراء خاصة يرون أن أدبهم وشعرهم لابد أن ينطوى على تلك المعاني النفسية النازلة التي تستولغ في دماء الناس وأعراضهم المذبوحة بالآلات الحديدة الماضية التي لا تقاوم بالشهوات الغريزية المجنونة التي تضئ لأعينهم سراج اللذة المحرمة تحت جناح الليل، بين الأخلاق المتهالكة في حانات الفجور، تستنقع بأحلامها وهذيانها في كأس تفوح نشوة وتسيل عربدة، ثم ماذا، ثم يأتي هؤلاء فيدفعون إلى المجتمع نتاجا مركبا من جميع هذه الرذائل المنهوكة المخمورة، ثم تتغلغل هذه المساخط كلها في بيوت الشعب في أوهام الزوجات البريئات، في عيون الفتيات الجاهلات، في أحلام العذارى المتأملات في هدأة الحياة ينتظرن من وراء النفس والعقل تحقيق أحلام الفطرة الغالبة على كل حي في هذه الأرض. ثم يكون ماذا؟ ثم يكون هذا التفكك والتخاذل بين الأوصال الشعبية التي يجب أن تتماسك وأن تجعل من تماسكها وارتباطها قوة، وأن تنفث فيها روح الجماعة روحا سامية طامحة راغبة جادة تريد أن ترتفع بالجميع فوق شهوات

الجميع، لتحقق للكيان الاجتماعي كله سيادة تامة على الأسباب التي يصير بها الشعب قوة عاملة على إيجاد السعادة للشعب وسلالة الشعب في مستقبل أيامه وأعوامه. فأدباء الطابور الخامس الذين اتخذوا لأنفسهم شعارًا من حرية الفن وحرية الأدب، وحرية التعبير عن ثورة النفس المشتهية المستكلبة، هم أعدى أعداء هذا الشعب المسكين، وهم البلاء الماحق، وهم الذل الحاضر والقيد الربوض، وهم سفالة الإنسانية، إذ كانت الإنسانية لا تستطيع إلا أن تنزل بهم إلى الحضيض الأوهد من الخضوع لسلطان الشهوة، وهم الهلاك المحقق، لأنهم سبب التفرقة إذ كان بناء أدبهم على الاستقلال الفردى المحض الذي لا يقدر للجماعة معنى الجماعة بل يأتيها بكل أسباب التمزيق والتعاند والخلاف بين القوى إذا تحررت فانطلقت فاتخذت كل قوة سبيلا مناقضا لاتجاه صاحبتها، فتصبح قوى الشعب كلها في نزاع دائم لا خير فيه، بل فيه كل الشر وكل البلاء وكل المحق. إن أحدًا من الناس لا يستطيع أن يفرغ دمه من معاني الشيطان، لا يستطيع أن ينقي أعصابه من وراثة الغرائز الإنسانية القديمة الآتية مع الإنسان من الخطيئة الأولى لآدم صلوات الله عليه. وإن أحدا لا يعطى التحكم في تصريف القدر على الوهم والأحلام، ولكن الإنسان أعطى العقل، وأعطى مع العقل الإرادة وأعطى مع الإرادة طبيعة التعاون وأعطى مع هذه الطبيعة نظام الجماعة فأعطى مع نظام الجماعة حقيقتين عظيمتين. فالحقيقة الأولى، هي قدرة الفرد في بعض حياته على الحياء وعلى التضحية، وبذلك يستطيع أن يضع تحت أعين الجماعة قدوة حسنة ومثلا أعلى، ينبل ويسمو ويترفع ويضئ في الأجواء البعيدة بروح الجمال والحق. والحقيقة الأخرى، هي سرعة استجابة الجماعة للمثل الأعلى بالاقتناع من ناحية والتقليد من ناحية أخرى، وبجميع ذلك تستطيع الجماعة أن تجعل نظامها ساميا أبدا عظيما دائما، متماسكا على مر الزمن.

فأدباء الطابور الخامس -هم كسائر الناس- يستطيعون أن يستخدموا العقل والإرادة وطبيعة التعاون ونظام الجماعة، لإيجاد المثل الأعلى للشعب، باذلين من أنفسهم تضحية واحدة، هي أن يستحوا قليلا من الناس ومن أنفسهم، وأن يجعلوا مصلحة هذا الشعب المسكين نصب أعينهم وعلى مد أفكارهم، وأن يكونوا عاملين على إيجاد القوة في بناء الأمة وإصلاح أفرادها، لا أن يكونوا خبلا خابلا وفسادا، ونزولا بالإنسانية السامية إلى الحضيض المظلم الذي تعيش فيه أرواح الشر المهلكة، تلك الأرواح التي لا تريد من معنى الحرية إلا استعباد الآخرين للشهوات. أما نحن فعلينا أن نحارب هذا الطابور الخامس قبل أن نحارب أعداءنا من غيرنا، لأن هذا هو العدو الحقيقي الذي يخذل قوانا، ويفسد استحكامنا، ويحطم قواعدنا الحربية التي بنتها الأجيال من قديمنا الأول، هذا الطابور الخامس هو من رسل المدنية الخربة التي تهدمت، ولا تزال تتهدم، وستتهدم في ميادين القتال إلى هذا اليوم. فلنعمل جميعا على أن نكون من الفرق الواقية من دسائس الطابور الخامس.

قلوب جديدة

قلوب جديدة تأتي النائبة من وراء الغيب مسرعة متوهجة تتوقد، ثم تنغمس في الدم فتسمع الحياة نشيشها فيه، وتضطرب الروح، وتتفرق النفس، ويتألم القلب، وتتبعثر الإرادة، ويحار العقل، ويكون مع ذلك كله أمل ممض نافذ يجعل الحي يستشعر معاني الموت وهو لا يزال حيا بعد. فالمصيبة بطيعتها توجد في الحياة حركة سريعة طائرة مخبولة تخرج الحياة كلها عن دستورها ونظامها بعنف وقسوة، فيعقب هذه الموجة المتلاطمة السريعة فترة خاملة بليدة تنقل الحي من جو إلى جو حتى يتسنى له أن يستقر ويهدأ. فإذا لم يقرر لنفسه هذا النظام الذي تتطلبه المصائب لم يزل في موج واضطراب وفزع وحيرة، وتتضاعف المصيبة الواحدة حتى تكون -من جراء عواقبها عليه- مصائب عدة. وقد تنزل المصيبة بالرجل فينفتر لها ويتبلد عليها، ويستنيم في بعض أحزانها ولكنه لا يلبث حتى يشعر أن في دَمِه أصواتا تتداعى فيه كما يتداعى الجند إذا تفرق على ضربة عدوه في الميدان، يجتمع المتفرق ويتألف الشاذ وتتضام القوى، ويعود الأمر على أشده كأحصن ما كان. فإذا تداعى الدم، وزأر القلب، واهتزت الروح، وأصاخت النفس، وارتدت العواطف المنهزمة إلى مواقعها وحصونها من إنسانها، وجد الرجل كأن قلبا جديدا قد انتفض في صدره، فنفض المصيبة وأعوانها نفضة الطل عن غصن مورق. والشعوب كالرجال، وأمرها كأمرها. والشعب إذا ابتلى ببلاء مصبوب عليه بمصائبه ونواكبه (¬1)، يستطيع أن يسترد ما يضيع من قوته في تيار المصيبة، وأن يستعيد شبابه الثائر مرة أخرى، ولكن الفرق بينهما هو فرق ما بين الواحد إذا استقل، والجمع إذا تعاون. فشرط الاستقلال الإرادة والنفاذ بها، وشرط التعاون ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 820، الأحد 7 رجب عنة 1359 - 11 أغسطس سنة 1940، ص 1. (¬1) النواكب: جمع ناكبة، مثل النكبة.

المشاركة بين الأفراد المستقلين بالإرادة والعزم، والحرص على اجتناب التخالف، واطراح الفرقة، ونبذ الهوى والعناد على الهوى. وأمر الشعب هم أغمض الأمرين وأشدهما وأحقها بالرعاية والنظر والتدبير، فإن مصائب الشعوب قلما تكون فتراتها إلا جيلا أو أكثر يقع في خلاله من النقص والتدمير والضعف وذهاب النشاط الحافز، وطغيان الجهل المستبد، واضطراب أمر الجماعة ونظامها إلى ما وراء ذلك، يكون تحطما كاملا لأكثر الإنسانية الشعبية، وإذا تحطمت إنسانية الشعب في المصيبة أردفت وراءها مصائب، إذ يقع النسل إلى الحياة لتقتله الحياة بفتورها وبلادتها وقلة احتفالها ويتبدد ذلك النور الإلهي الذي يأتي مع المولود من وراء الغيب، ويبدأ يمشي في الحياة المظلمة بالبصر المكفوف عن النفاذ في أسوار المستقبل. وعلاج الشعوب في هذه الحالات لا يتأتى ولا يمكن ولا يكون، إلا بعلاج الأفراد أنفسهم، وأخذهم بالجد في تدبير الحياة والاستعداد لها، وتحمل المشقات العظيمة في سبيل إيجاد الفرد الذي يستطيع أن يجعل في صدره قلبا جديدا أبدا بعد كل نازلة أو مصيبة، والقلب الجديد المتجدد هو سر الشعلة الذاهبة دائما إلى السماء سامية طامحة، مُطالبة بحقها في السمو، عالمة بواجبها في إضاءة الظلمات المتكاثفة من حولها بنور جديد. أما استكانة الأفراد وإخلادهم للراحة واستمتاعهم باللذة وإغماضهم في طلب المنفعة الفرديه المستأثرة ونفضهم عن أنفسهم تكاليف النظر الاجتماعي الشعبى، ودبيبهم إلى الغايات بالخطو المسترق من أسماع الشعب لا يبالون أن يكون هلاك غيرهم من أمتهم في بعض ما يجتلبون به قليلا من أسباب الحياة لأنفسهم. . . فذلك كله جريمة بعيدة الأثر في قتل الروح المعنوية للشعوب وفي إيجاد المثل الأسوأ للنسل، بل هو سرقة صحيحة الشرط الذي يوجب عقابها. فالشعب كلٌّ كامل، فكل جزء منه انتفع بشيء كان من حق الجميع أن ينتفع به على تقدير حق الانتفاع، فذلك استبداد بحق الغير، واستلاب منه لما يوجب الاجتماع أن يكون على صورة بعينها ولغرض بذاته، وفي تسليمه بقدرتنا، وفي موضع هو له.

وليست السرقة في الحقيقة إلا هذا الضرب من الاستلاب، فسارق الشعب يخون الشعب ويخون نفسه ويمنع غيره من الانتفاع بحق الحياة التي أوجدوا فيها جميعا ليعملوا لها جميعا متعاونين متظافرين. وعدم شعور السارق المُغْمِض (¬1) في سرقته المستطيل بها المصر عليها، دليل قائم أبدًا على انعدام إحساس القلب فيه، وإذا عدم القلب إحساسه -أي حركته في الحياة- رق وتخرق وبلى وأخذه المَحْق من كل وجه، فلا يمكن أن يعد في القلوب ولا أن يجرى عليه حكم القلب الحي في قبوله للتجدد والحياة المستأنفة من أولها مشرقة كميلاد الفجر مع كل صباح. وإذا ابتلى الشعب، ثم أخرج منه هذا البلاء رجالا كان من صفتهم ما ذكرنا من الاستكانة واللهو والعبث واهتبال اللذات على مدها وتطويحها، كان هؤلاء بلاء آخر على الشعب ومستقبل الشعب، وكانوا فوق ما وصفنا جثثا مطروحة على طريق الشعب تعتاقه عن مسيره إلى الغاية التي تنبغي له أن يسير إليها. وإذن فهو بين اثنتين: أما أن يطأ الشعب على جثث الشعب، وإما أن ينتظر حتى يمتهد لأجياله طريقا آخر يكون فيه السير حثيثًا لا تقوم في سبيله عقبات كهذه. وكلا الأمرين تعويق وتخذيل وإضاعة وبلاء من البلاء. ومن ذلك، فإن الحياة تأبى إلا أن تجعل لأحيائها أساليب كثيرة منها ينفذون، فاليأس -من أن يكون في هذه الجثث صلاح بعدُ- أمرٌ لا تكاد تقبله الحياة إلا بعد طول التجربة والامتحان، ولم يبق إلا الأمل في أن يكون إصلاح هذه الجثث وبعثها، وإيجاد قلوب جديدة في جثمانها، أمرا مقاربا ممكنا مستطاعا يجب العمل له، والحرص عليه، والاحتيال في تصريفه احتيالا صحيحا مدبرا يفضى بنا إلى الغاية منه. وقد تسهل في هذا العصر خاصة ما لم يكن في العصور الخالية، فالطريق إلى إسماع الناس ودعوتهم وتنبيههم صارت أقرب وأسرع، فالطباعة والصحافة ¬

_ (¬1) أغمض في الشيء: مضى فيه.

والمذياع وسائر أساليب الدعوة تمكن لصاحب الصوت أن يبلغ بصوته حيث أراد إلى من شاء على الوجه الذي يحب. ولكن نشأت مع هذه الأشياء عوائق بقدرها جعلت الدعوة بهذه الطرق أقل أثرا مما يراد منها أو يرجى فيها، ولم يكن وجودها في الحقيقة إلا طريقا جديدًا لإفساد الأساليب الصحيحة في الدعوة للإصلاح الكامل الذي يراد به تجديد القلوب، أي تجديد حياة الشعب تجديدًا نفسيا عميقا ثابتا. ومع هذا فما أحسب أن الأمر قد أحبط إلا من ناحية واحدة، هي فقدان الصوت المستجاب في كل قلب. فإذا وجد هذا الصوت للعالم، فقد يتغير كل شيء، ويصبح تجديد القلوب أمرًا سهلا على صاحبه ومالك أمره والقائم عليه. وإذا أتت ساعة خلاص العالم من فتنة الحضارات المتجبرة الطاغية المتوحشة، فقد يكون عمل العامل في تجديد قلوب البشر هو الفتح الصحيح للتاريخ الجديد للعالم ويمضي عصر ويأتي عصر، ويومئذ يقف لفظ واحد في التاريخ ليدل على نوع الحضارة التي نعيش فيها، فيسمى هذا العصر "عصر القلوب المتحجرة". "قلوب جديدة": هذه هي غرض الحضارة الجديدة التي يتمخض عنها العالم اليوم، فإذا عرفنا الغرض فما يصعب علينا أن يقوم كل أحد منا بالتجربة بعد التجربة لإيجاد قلب جديد في صدره مكان قلبه المتحجر، إن الشباب لا يضيع مع طول العمر، ولكنه يضيع مع طول العبث، والحياة لا تفنى مع شدة الجهد، ولكنها تفنى في شدة الغفلة، والعقل لا يكل مع طول الفكر، ولكنه يكل مع طول الاستخفاف بالفكر. وشباب الشعوب وجهودها وأفكارها هو الحضارة كلها، وأصل الحضارة في القلب الشاب العامل المفكر الذي لا يسكن ولا ييأس ولا يقسو حتى يتحجر. فهل يستطيع العالم أن يبدأ التجربة على الانفراد، فإذا جاء الداعى للحق بالحق، وجد أعوانه لإنشاء القلوب الجديدة في كل مكان في الأرض.

القلم المعطل

من أحلام الفجر القلم المعطَّل بقيت أسابيع وأنا كالسجين المعذب في وحدة الغربة ووحشة التشريد، وكنت أجد المعاني في نفسي وفي قلبي وفي أفكارى، وكأنها ظاهرة على لسانى ولكني إذا جئت إلى القلم أحمله لأكتب وجدته صامتا جافيا نابيًا عن أوراقه، ثم أتحامل عليه أقسره على المطاوعة فإذا هو حائر عَيِىّ تَمْتام متردد لا يفصح ولا يُبِين، وعجزت عن علاج هذا العجز الذي لحق بأنيسى وصاحبي وكاتم سرى، والمخبر عن نفسي، والمبين عن معاني روحي، فلما أعيانى وغاظنى وهدد حولي، وبدد حيلتي، لجأت إلى الكتاب أستخبره وأستنبئه وأطويه وأنشره، وصرفت أوقاتى في القراءة. وأقبل على يوم كاللعنة المرسلة حائرة طاغية ماحقة، ولم أجد ملجأ ولا ملاذًا ولا مغيثا حتى جاء الليل يؤنسنى بسواده ووحشيته، فلما ضقت انصرفت إلى بيت كتبى فجعلت أتلفت حائرًا لا أدري ما آخذ وما أدع، حتى استقر بصري على كتاب أسود مظلم موحش مضطجع على صف من الكتب، فأخذته وانصرفت إلى غرفة نومي أملأ بحديث هذا الجزء من كتاب "الحيوان" للجاحظ فراغ الليل الساكن الموحش. أيتها النجوم الخاشعة المشرقة في معبد الزمن السرمدي! أنت دائما أنسى وراحتى وصديقي، ولكن الكتاب أيضا صديق يحدثني حديث العقول الناسكة المضيئة في معبد العقل الأبدي. أفتأذنين -أيتها النجوم! - أن أخلو إلى شيخى أبي عثمان ساعة من ليلك أسمع في صمت كتابه صدى لسان المتكلم من أقصى الماضي؟ قولى نعم! وخلاك ذم. ¬

_ (*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 854، الثلاثاء 14 شعبان سنة 1359 - 17 سبتمبر سنة 1940، ص 1.

وأضأت مصباحي وبدأت الجزء أقرؤه حتى شغلنى عن أحاديث نفسي، وردنى إلى شيخى أطوع ما كنت له، وأعقل ما كنت عن بيانه .. كل هذا جيد يا أبا عثمان، ونعم صاحب الرأي كنت! وإنك والله ما تخلو -أيها الشيخ- من لسان ناطق مبين متدفق حتى حين تكتب، فما أقرأ لك إلا رأيتنى أجد الألفاظ تنفذ عن بصري إلى نفسي إلى عقلي إلى أوهامى التي أسمع دبدبة صوتك المتكلم في جوف دمى. ما أنت يا -أبا عثمان- إلا رجل محدث منطلق فياض اللسان، خفيف الروح، قليل البطء فيما تحاوله وما أظنك تكتب شيئا كما يكتب سائر من يتعاطى الكتابة ويعمل لها ويتحامل عليها، وما أحسبك إلا كنت مغلوبا على قلمك، قد غلب اللسان المتكلم فن القلم الصامت. هذه حروف كتابك تتردد على بياض الورق وكأن ترددها صدى صوت يتذبذب في جو الهواء. . . هكذا كنت أقول كلما وقفت على جملة من الكتاب أسكن عندها سكون المتأمل. وقطعت الكتاب حتى أفضيت إلى هذه الحكاية. . . قال أبو عثمان: قال الأصمعي: قال رجل لأعرابي: كيف فلان فيكم؟ قال: مرزوق أحمق! قال: هذا والله الرجل الكامل! ألقيت الكتاب، وجعلت أسمع إلى أبي عثمان وهو يردد: "هذا والله الرجل الكامل"! أجل إن الحماقة المرزوقة من جهود العقل ومتاعبه وعبقريته وتفانيه هي التي تعيش في الناس ظاهرة حاكمة غالبة مستولية على الأمد في السلطان والحكم والسيادة، وإنك لترى الرجل أو المرأة وما لهما من فضل إلا الغني، وأنهما على ذلك لأهل كل جميل وإنهما لغاية كل طامح، وأنهما لَلْقوة الكاملة التي تفيض على ما يطيف بهما روعة وجلالا. . . استبدت بي الرغبة، وألحت إلحاح العناد، أن آوى إلى سريرى بعد وَهْدَة. فأطفأت المصباح، وجعلت أتقلب قليلا قليلا، وأنى لأرى هذه النجوم في جوف السماء زاهرات مضيئات متلألئات، كأنهن عذارى ألقين زينتهن على الشاطئ ثم

انغمسن في لج البحر إلا ما عفا (¬1) البحر عنه من إهابهن الرقيق المضئ المتبلج .. أيتها النجوم السعيدة الضاحكة أبدًا! حدثينى بأفكارك الجميلة المتجددة! إنك منذ الزمن القديم، وأنت أبدًا تنظرين إلى الأجيال وهي تموج في أشعتك على هذه الأرض في تيار القضاء والقدر، منذ الأزل البعيد والدنيا تتفانى تحت نظراتك الهادئة الساخرة .. أف لك يا أبا عثمان! لماذا وضعت الأحمق المرزوق -هذا الرجل الكامل- بيني وبين هذا الجمال العتيق الذي يروى لعيني لمحات الإشراق الإلهي عن أقصى الأجيال الفانية الغابرة؟ وجعلت قصة أبي عثمان عن الأعرابي تنتشر في نفسي، وتتسرب في سراديب عميقة تحت الظاهر الإنساني المتجسد، وطفقت تأخذ في كل سرداب معنى جديدا، أو تثير معنى قديما، أو تدفع معنى ساكنا، حتى وجدت في أفكارى سطوة البعثرة التي تنفض النفس وتطيرها في وجوه كثيرة. لقد خرجت هذه القصة من معناها إلى معان أخرى كثيرة تتعادى وتتطارد وتغيب في كلمات الفكر البعيد. . . وأجهدنى ذلك إلى أن سبحت الروح في لجة الليل، واستيقظت الأحلام. وحضرنى أبو عثمان، فجاء من بعيد ضاحكا متسرعا نافضًا، وهو يعب عباب الحر، حتى دنا ثم سلم وجلس وأقبلت عليه بين يديه، فبدأت أستمع إليه وهو يروى ويقص وينشد، ويخرج من باب داخلا في باب، وهو خلال ذلك يتنادر على شيوخه وأصحابه ومريديه، ويحدث بكل غريبة وعجيبة ونادرة عن الأوائل وعن رجال العصر، ويروى من طرف الأخبار ما لم أسمع به ولا وقفت عليه .. حتى إذا هدأ قلت: يرحمك الله يا أبا عثمان! إني والله لفي تعب من طول ما أرحت نفسي وأرحت القلم: وما بدأت أكتب إلا وجدتني كالمغشى عليه من فرط ما يتوقف القلم، وإن في النفس من الحديث ما يعيى القلم بقليله فضلا عن كثيره، وإنك لتقول في بعض كتابك: ¬

_ (¬1) عفا: من العفو، وهو الفضل، يعني ما لم يستره البحر من أجسادهن، فكأنه تفضّل على الناظرين بما أظهره ولم يستره.

"وينبغي لمن كتب. . . أن يعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعترى المؤدِّب عند ضربه وعقابه. فما أكثر من يعزم على خمسة أسواط فيضرب مائة! ! لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع، فأراه السكون أن الصواب في الإقلال، فلما ضرب تحرك دمه، فأشاع فيه الحرارة فزاد في غضبه، فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم. فما أكثر ما يبتدئ الكاتب وهو يريد مقدار سطرين، فيكتب عشرة". وإني والله لأعزم وأهم وأثور وتغلى المعاني في نفسي، وأحمل القلم، وآخذ مجلس الكتابة، أعد العدة، وأريد مائة سطر، فما أجاوز سطرا أو سطرين، ثم كأن القلم قد اعْتُقِل (¬1)، وكأن الفكر قد بطل، وكأن الذي قد كان لم يكن! فنظر أبو عثمان، وإن الضحك لفي عينيه، ثم قال: من زمنك أتيت -يا بني! أنكم لتعيشون -أيها الكتاب- في زمان غير زمانكم، وأن أحدكم ليحمل من قلمه عبئًا ثقيلًا، كعبء من وقع في الصحراء يضرب في أرجائها، وما يحمل فيما يحمل إلا ثيابا وزينة ومتاعا وفنونا من الحضارة. وهو كان أحوج إلى زاد يزوده، إلى تمرات في جراب وماء في إداوة (¬2)، وعصا يستعين بها على بعض أمره. إنكم لفي زمن أهون شيء عليه القلم، وإن الصباح ليخرج عليكم من جنبات الأفق بشهوات كثيرة تجعل الحياة عندكم عملا في استخراج أسباب المتاع باستخراج الدينار والدرهم، وإن الليل ليظل عليكم بشهوات أخرى تجعل الحياة إفناء لعمل النهار، فإذا كان نهاركم إحياء الدينار والدرهم، وليلكم إفناء الدينار والدرهم، فأين تجد يا بني عمل القلم؟ وأين تجد من يبالى بعمل القلم؟ إذا أردت -يا بني- أن تعيش بقلمك في زمانك هذا، فاحمله حين تكتب ¬

_ (¬1) اعتقل (بالبناء للمفعول): حُبِس عن حاجته. (¬2) الإداوة: إناء يحمل فيه الماء كالمزادة.

على أنه أداة لاستخراج الرزق من الحياة، كما يحمل صاحب الفأس فأسه لاستخراج الرزق من الأرض، أما إن حملت القلم على أنه أداة البيان، وآلة العقل، وزينة النفس، وسر الطبيعة المركبة في سر الإنسانية، فأنت والله تحفي قلمك، وإنك لتبدأ عاملا جاهدًا مشتعلا، ثم لا تلبث أن تمل، فإذا مللتَ فما أيسر أن تنطفئ. ولتعلم -علمك الله الخير- إن فرق ما بين القلمين في هاتين الإرادتين، كالفرق بين من يحمل السيف على أنه آلة النصر غصبا وحربا، ومن يحمله احتياطا، حتى إذا وجد الدنيا تضيق بسلمه وحيلته ورفقه، فما يجد إلا أن ينصب السيف، ثم يحرر ذبابه (¬1) إلى قلبه ثم يتكئ عليه حتى يموت انتحارًا. فأنت إذا حملت القلم تريد البيان، ولا تريد من قلمك إلا البيان: لا تحفل رزقت به أم لم ترزق، فقد كتب عليك أن تبقي في شقاء القلم وتعبه، حتى إذا طالبتك الحياة بحاجاتها وضروراتها، فزعت وتلفت ودرت ودارت رأسك حتى تعلم أن القلم استخدمك في بيانه طائعا، وأنك لا تستطيع أن تستخدمه في أسباب الرزق طائعا ولا عاصيًا. فإذا مضيتَ على ذلك لا تبالى واحتملت شقاء الضرورة وكابدت طغيانها وأبيت إلا القلم وحده مبينا كاملا عادلا، فقد أبيت إلا أن تنتحر. إن صاحب القلم كصاحب العقل، فإذا أبى صاحب العقل أن يخضع عقله في الحياة لبعض غرورها، وأن يجعل في عقله مكانا لحماقاتها، شقى بالنقص في حياته إذ رضى بالتمام في عقله. فإذا أبى صاحب القلم أن يتهور، في بعض ما ينخسف من أبواب الكتابة، وأن ينحط في بعض الأودية الغامضة البعيدة عن طهارة البيان الحقّ، فما بد له من أن يتهور وأن ينحط في سعير الحيرة والقلق والضيق والشقاء المريض. . . وأنا أسألك: كيف تجدك تشقى وتعانى وتتألم، ولا تزال من فزع إلى فزع، ثم تجد القلم إذا حملته وأنت على هذا البلاء -مطيعا ريضًا سهلا سمحا ¬

_ (¬1) الذباب: حَدُّ السيف وطرفه.

لا يشمس (¬1) بعنان في يدك؟ إن القلم أداة البيان، ولكنه أداة تريد رضاها من صاحبها، فإذا أقبلت عليها وأنتَ تحمل الهم وتتكفأ به كما تتكفأ السفينة المثقلة الموقرة على ثبج الموج، لم تستقم لك نصبتها التي تجعلها أداة صالحة للعمل على صورة يعينها. فإذا أردت -يا بني- إلا القلم النبيل الذي لا يتهور ولا ينحط، فامنع نفسك واحْفَظها وحُطْها، وتدبر لها، وترفق بها، ولا تمسك القلم إلا وقد علمت أنك قد نفيت عن نفسك الهم والخبث، ونكد الدنيا، وشقاء الحياة، وضرورة العيش، ثم اعمل له عمل المجاهد لا يبالى أن يموت، إذ نفي عن قلبه نوازع الحياة، فإذا فعلت فقد نفثت في هذا القلم المعطل روح السمو التي لا يمكن أن تنزل، وإن القلم يومئذ لهو أطوع لك من الحبيبة في هوى من يحبها، إذا أفضت الروح إلى الروح، وبقى الجزء الأرضي في أوحاله أسيرا ممنوعا مكفوفا عن عمل الشر الذي هو طبيعته وسر طبيعته. إن القلم الأحمق الذي لا عقل له هو القلم المرزوق -يا بني- وإن الأقلام أشبه بأزمانها منها بأصحابها، وإن زمنكم. . . ثم انتفضت جالسا إذ خيل إلى أن قنبلة تكاد تسقط علينا من السماء في أزيز الطائرات. ¬

_ (¬1) يشمس: يجمح، وأصله في الفَرَس.

اللغة والمجتمع

اللغة والمجتمع أدق تعريف للغة وأوجزه. فيما أعلم، هو ما جاء في كتاب الخصائص لابن جنى من أنها: "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"، وهو على إيجازه مغن عن التفصيل، ومصيب حد المقطع في الخلاف، ومساير لمدارج اللغات منذ نشأتها الأولى إلى أن صارت أوضاعًا محفوظة يقاس عليها. ففيه تحديد الصوت، وهو أصل الكلام المنطوى كله، وفيه ذكر الجماعة، وهم القوم الذين يتفاهمون بينهم بهذه الأصوات المختلفة، وفيه ذكر الأغراض، وهي حاجات المجتمع الذي يتفاهم بتلك الأصوات المعينة وهذه هي حقيقة كل لغة في كل زمان وفي كل مكان وبين كل جماعة. ولما كانت أداة الصوت، وهي الحلق واللسان وما يكتنفهما، هي بطبيعتها مختلفة في الناس على تباينهم منذ كان الناس، وكانت الأعراض والعلل التي تلحقها تزيد الاختلاف كثرة وشدة، كانت الأصوات المعبرة عن الأغراض عرضة للتباين والاختلاف أيضًا. ولا مراء في أن الحلق واللسان وعملهما في النطق خاضعة لقانون طبيعي كالقانون الذي اكتشفه الإنسان وأصدر عنه أكثر آلات الموسيقى على اختلاف تركيبها، وعرف بذلك كيف يبتدع الأصوات ويقلدها ويفسد منها ويصلح. وكذلك الجماعات أيضًا خاضعة لقانون -أو قوانين كثيرة- تجعل لكل جماعة دستورًا أو دساتير تجري عليه في كل شأن من شؤونها، وتفضى بها إلى غايات أو نتائج لا محيص عنها. وهذه القوانين تنشيء من الأغراض -أو تنشأ هي من الأغراض- ما تصبح به الجماعة فئة ذات حضارة مدنية على اختلاف الدرجات. فمن أجل ذلك كان لابد للغة من قوانين تسير بها وتتغير على قواعدها طبقا لما يلحق أداة التعبير نفسها من التغير والتباين، وبحسب ما تخضع له الجماعة من ¬

_ (*) مجلة الكِتاب، المجلد الثاني، سنة 1946، ص: 310 - 313

تطور إلى علو أو سفل، وتبعًا للأغراض التي تقتضيها طبيعة التبدل التي هي سنة من سنن الله في الحضارات والمدنيات. ومن أجل ذلك نشأ علم جديد يبحث عن هذه القوانين التي تشمل طبائع الألسنة المختلفة في العصور المتطاولة، وهو الذي في شأنه ألف الدكتور وافي كتابه "اللغة والمجتمع". ولا شك أن علماء العربية القدماء لم يؤلفوا في هذا الباب كتبًا قائمة برأسها. وليس معنى هذا أنهم لم يكونوا يعرفون شيئًا من هذه القوانين التي انتهى إليها بحث المحدَثين. كلا، بل كان في كتبهم ما يدل على أنهم ألموا بأطراف من هذه القوانين وساروا في بعض أبحاثهم سيرة من يدرك حق الإدراك طبيعة تلك القوانين ومقتضياتها. ولكن كل ذلك من عملهم كان شيئًا مبعثرًا في كتبهم وفي مطاوى كلامهم، ولم ينتهوا إلى إفراده بالتأليف على النسق الذي انتهى إليه المحدَثون، وتركوا لمن يأتي بعدهم جهد الإبداع فيما أشاروا إليه أو ألموا به، وكان من أعظم من تعاطى القول في بعض ذلك في تضاعيف كلامه، فيما أعلم، الجاحظ أولا، ثم أبو علي الفارسى، ثم تلميذه إمام العربية أبو الفتح بن جنى، في كتاب "الخصائص"، وفي كتاب "سر صناعة الإعراب"، وفي كتاب "المحتسب في شواذ القراءات" بيد أن انتثار القول هنا وهنا يجعلنا نقضى بأنه لم يكن عندهم "علمًا" ولا "فنًّا"، بل كان بابًا من المعرفة غير مضبوط ولا محصور ولا مترابط. أما العلماء المحدثون -من غير أهل اللسان العربي- فقد تدارسوا ما يختلف على اللغات أو أكثرها من تغير وتبدل على مدى عصور متطاولة، فانتهوا إلى شيء كثير من هذه القوانين التي يخضع لها اللسان في أمم كثيرة، وصارت اللغات عندهم ظاهرة من الظواهر الطبيعية تدرس على حدتها، دراسة استقصاء للأطوار التي مرت على مفرداتها ونحوها وإعرابها وبيانها. أما عندنا في العربية فقل ما ألف من الكتب فيها وندر من شغل نفسه بتتبع مثله في مدارج العربية من أول أمرها إلى يومنا هذا. ولعل رجلا أو رجالا لو تتبعوا ذلك في بلاد العرب كلها أن يهتدوا إلى كثير من وافى هذا الفن فيسدوا بذلك إلى العربية في العصر الحاضر خيرًا كثيرا في

إصلاح تعليمها، وتيسيرها على أهل العصر، وتبسيطها لهم حتى يدرك منها الرجل من عامة الناس ما لا يزال يجد العوائق دونه جمة مستعصية. وقد أراد الدكتور وافي بكتابه "اللغة والمجتمع" أن ينقل إلى العربية صفوة ما انتهى إليه الرأي في شأن القوانين التي تسير عليها لغات الأرض قاطبة من حيث هي إحدى الظواهر الاجتماعية على اختلاف ألسنة البشر والناطقين بها. وقد قسم دراسته هذه ثلاثة أقسام: الفصل الأول في تطور اللغة وارتقائها. والفصل الثاني في صراع اللغات بعضها مع بعض. والفصل الثالث في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات. ففي الفصل الأول طوى المؤلف جمهرة العوامل والمؤثرات التي تعمل في تطور اللغة من حالة إلى حالة أعلى أو أسفل، وهذا الفصل هو أهم الفصول في أمر اللغة ففيه تكمن العوامل الاجتماعية والأدبية والطبيعية واللغوية التي كان لها أكبر شأن في تحول اللغات من لهجة إلى لهجة، ومن أسلوب إلى أسلوب، ومن لغة إلى لغة. ودراسة أسرار هذه العوامل ودراسة آثارها بعد الاستقصاء والتحقيق، لها خطر أي خطر -لا في معرفة التطور اللغوي وحده، بل أيضًا في استخراج أشياء من اللغة نفسها بعد تطورها تتيح للباحث أن يقف على أحوال الشعب الذي كان يتكلم بها، من حيث الحضارة والثقافة والأدب، والأخلاق، وسائر أسباب مدنيته، وتكشف له الغطاء عن علاقاته بالأمم التي جاورته أو احتلته أو عقدت بينه وبينها أواصر الرحم والقربى، وما كان بينهما من تبادل الثقافات والتجارات والفنون وما سواها. فمعرفة القوانين التي تخضع لها اللغات في تطورها أمر لا غنى عنه لمن يريد أن يصور تاريخ الأمم الماضية بصور أقرب إلى الواقع. فما أكاد أرتاب في أن علم التاريخ وحده علم "قاصر" لم يلم كل الإلمام بما ينبغي أن يشتمل عليه من الحالات الاجتماعية السائدة بين الناس، والتي لها فيما أظن أكبر الأثر في حضارة الأمة، ولعل أثرها في ذلك أعظم وأخطر من أثر الأحداث التي عنيت أكثر كتب التاريخ بجمعها واستيعابها.

وقد أتى في هذا الباب طرف مما يتعلق بآثار هذه القوانين في اللغة العربية، غير أنه جاء عرضًا ومن ناحية الاستدلال وحده على صحة القانون الشامل لسائر اللغات. وأظنه يكون أجدر بالأستاذ أن يفرد لمثل هذا الشأن كتابًا يتَّبَّع فيه العربية ولهجاتها واختلافها على العصور وفي البلدان المتباينة. وذلك لأن إدراك ذلك في اللغة التي يعرفها القارئ أتمَّ معرفة، يكون أقرب وأسهل منه في لغة أجنبية عنه، قلما يتاح له أن ينفذ إلى تاريخ ألفاظها نفاذًا يعينه على حسن فهم الموضوع الذي يعالجه المؤلف. وليس في الذي أقول غض من شأن الكتاب في ذاته، بل هو نقص في المكتبة العربية نحب أن يسده من كان أهلًا له وقائمًا به. وقد رأيت الدكتور وافي حسن التهدِّى إلى أشياء من ذلك في كتابه، فلذلك أحببت له وللعربية أن يتولى تأليف كتاب يغني القارئ العربي عن كثير من فضول القول في لغات لا يسهل عليه أن يضطلع بعبئها مستقلًّا، والفائدة التي تهدى إليه من مثل ذلك خليقة أن تحفز الهمة إلى إنجازه. أما الفصل الثاني وهو صراع اللغات، من ناحية نزوح العناصر الأجنبية إلى بلاد فيها لغة قائمة، ومن ناحية تجاور الشعوب المختلفة الألسنة، ومن ناحية العلاقات التجارية والثقافية والأدبية، فهو أقرب إلى دراسة تاريخ اللغات وما كان من أمرها بين الحياة والموت وبين الغلبة والهزيمة، وكيف يتم أحد هذين الأمرين للغة على أخرى، وما هي الأسباب المفضية إلى هذه العاقبة. ومعظم هذه الأسباب كما قال المؤلف نفسهُ تردّ في أخراها إلى العوامل الاجتماعية التي عالج بحثها في الفصل الأول، بل هي في الحقيقة شيء لا مفر منه في العالم الاجتماعي كله. وأما الفصل الثالث: وهو تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات، فهو عندي من أقوم فصول الكتاب. ولو كنت مؤلفًا في مثل ذلك لبدأت بهذا الباب أو بأكثره، لأن اللغة الواحدة تتشعب من أول نشأتها إلى شُعَب من اللهجات قبل أن يلحقها التطور اللغوي الذي بينه المؤلف في أول كتابه. فعندئذ تتشعب مرة أخرى بعامل من العوامل الكثيرة التي تصطلح عليها حتى تستقل لهجة عن لهجة فتصير إحداهما لغة ثانية. والقوانين التي تخضع لها اللغة في انشعابها إلى لهجات

هي أصل القوانين التي تخضع لها في انشعابها في لغات، وهي أشبه شبهًا بالقوانين التي تفضي إلى تطورها وارتقائها أو انتكاسها. والمؤلف فيما أظن كان عارفًا بذلك كل المعرفة، لأنه قدم في أول هذا الفصل ما يفهم وأنه كالملحق بالفصل الأول، وجاء في أثناء كلامه ما يجعل الشبه بين الفصلين أقرب ما يكون. ولعل الذي دعاه إلى تقديم الأول وتأخير الثالث خطر التطور اللغوى في تاريخ الألسنة، وخفاء شأنه في انشعاب اللهجات. وهذا رأي، ولكني أميل إلى الذي قلتُ به. هذا عرض الكتاب، رأيت أن أقتصر فيه على هذا القدر. بيد أنى رأيت المؤلف كان يقف من بعض الآراء التي ينسبها إلى أهلها موقف البصير المتعقب، فكان في أكثر الأحيان موفقًا غاية التوفيق، وكان في أحيان قليلة يميل به كرم طبيعته ترجيح رأي قال به عالم كانت بينه وبينه مودة سابقة، أو لعلى مخطئ، فيكون هو من صاحبه أنفذ بصرًا وأهدى فهمًا في حقيقة ما كان يقول به، غير أنه في حجاجه كان مبينًا كل الإبانة عن حقيقة رأيه. وبقي في الكتاب أشياء كثيرة أخرى لم نتعرض لها بالنقد ولا بالتوضيح، لأن ذلك يقتضيني أن أكتب فيها كلامًا قائمًا بنفسه، فإن موضوع اللغة متشعب تشعبًا يجعل المرءَ أمضى قلمًا في باب التوسع، فلذلك آثرت أن أطوى ذكرها حتى يحين حينها، ونعود إلى بقية آراء المؤلف في سائر كتبه الأخرى، ليكون الموضوع أملأ بالرأي وأَقْوَم بالحجة. هذا، ولابد لقارئ الكتاب من أن ينتهي إلى رأي لا محيص عنه: هو أنه لابد من دراسة اللهجات العامية في البلاد العربية كلها دراسة تبويب وتقسيم وفهم، ولابد من رد كل طارئ على هذه اللهجات إلى الأصول القديمة التي لا تزال باقية متوارثة في سلائق الشعوب التي تنطق بالعربية إلى يوم الناس هذا، وأن نجعل أكبر همنا أن ننتهي إلى معرفة هذه السلائق المشتركة بين العرب على اختلافهم. فإذا وقفنا على ذلك وعرفناه تمام المعرفة، تيسر لنا أن نَنمِّى هذه السلائق، وأن نعلمها العربية على هدى من قوانينها الثابتة، وبذلك تجري العربية

يسيرة سهلة على الألسنة، ونصير في مندوحة عن الخضوع للقوانين التي جعلت اللغة العربية الأولى تنشعب في ميادين المحادثة إلى لهجات متباينة، على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل صيانتها والاحتفاظ بوحدتها ومحاربة ما يطرأ عليها من لحن وخطأ وتحريف (كما قال المؤلف في ص 132). بل نقلب الأمر، ونجعل هذه القوانين خاضعة لسيطرة علماء العربية في تيسير أمرها على متعلميها من أهل اللسان العربي والسليقة العربية. وكفي بهذا غرضًا تبذل في سبيله كرائم الجهود والآراء.

أوطان

أوطانَ في أواخر القرن التاسع عشر الميلادى وأوائل القرن العشرين، كانت العربية قد بلغت من الانحلال على ألسنة أهلها مبلغًا ليس بعده إلا موت اللغة واندثارها بتةً واحدةً، لولا كتاب واحد كان كالديدبان على مصير هذه اللغة ومصير أهلها -هو القرآن، إذ كانت في كل بلد عربي لهجة عامية تختلف عن عامية أخيه، بيد أن القرآن ظل هو اللغة المشتركة التي يتفاهم بها هذا الجيل المختلط من العرب، وظلت لغته هي الرباط الوثيق الذي يمنع هذه الأمة العربية من أن تنتشر وتتفرق وتنقطع بينها أسباب التفاهم. وفي هذا العصر نفسه كان الشعر العربي، في هذه البلاد المختلفة والأوطان المتباعدة، خليطًا عجيبًا من الركاكة والعبث بالألفاظ وبالمعاني وبالعقول، فكان مصيره أيضًا إلى الاندثار، لولا رجل فرد جاء كالقدر الغالب لينقذ الشعر العربي من أن يصير رِمَّة بالية في تاريخ الأدب، هو محمود سامى البارودى الذي نشأ على سليقة العرب الأوائل، فطرح الركاكة واللهو بالألفاظ، وانتحى الجزالة وقوة الأسر في العبارة في شعره، أو في التعبير عن حقيقة ما يدور في نفسه "هو" من المعاني التي يحس بها إحساس الشاعر، وإن كان يسلك أحيانًا طريق تقليد القدماء فيما لم يحس به ولم يعرفه، كبكاء الديار والأطلال ما إليه من خصائص شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. فكانت نشأة البارودى في ذلك العصر إحياء للعربية وللشعر العربي لم نقدره إلى اليوم حق قدره. فلولا كتاب الله، ثم لولا ما شاء الله من هداية البارودى الشاعر إلى حقيقة نفسه وإلى حقيقة الشعر، لما صارت العربية إلى الذي صارت إليه اليوم، حتى لو بعث الجاحظ، وبيننا وبينه أكثر من عشرة قرون ومئتى سنة، لما أعجزه أن يفهم عن العقاد والمازنى وطه حسين من كتاب هذا اليوم، وعن محمود حسن إسماعيل وعلى طه من شعرائنا المعاصرين. ¬

_ (*) مجلة الكِتاب، المجلد 4، سنة 1947، ص: 1566 - 1587

وفي هذا العصر نفسه، بلغت فورة الاستعمار الأوربى ذروتها، وغمرت الشرق والغرب العربي أمواج طاغية متدافعة من البغي والعدوان والعصبية الفاجرة، وأصبح العرب من أطراف مراكش إلى أقاصى العراق غرقى في لجج الاستعمار الأجنبى، ثم لا يجدون شيئًا يتشبثون به إلا الإيمان، وإلا أنهم قوم بُغِى عليهم و"على الباغى تدور الدوائر"! أي أنهم كانوا مستسلمين لعقوبة القدر التي نزلت بهم، وكان مع الاستسلام الذهول والتشتت والحيرة والضلال عن الطريق السوى، طريق الحرية. وفي هذا العصر أيضًا ولد رجلان قدر لاسمهما أن يكونا أعلى الأسماء في شعراء مصر والبلاد العربية، هما شوقى وحافظ، ولد أولهما في سنة 1868 وولد الثاني في نحو من سنة 1871، أي قبيل اليوم المشئوم في تاريخ وادي النيل وتاريخ العرب قاطبة، إذ تم للغزاة البريطانيين أن يطؤوا ببطشهم أرض القاهرة في 14 سبتمبر سنة 1882. فنشأ الرجلان في حقبة من الدهر كان البلاء فيها محيطًا بالأرض التي ولدا فيها وبسائر بلاد العربية. وكان البارودى يومئذ قد نفي إلى جزيرة سيلان بعد أن استسلم للغزاة كما استسلم إخوانه من رجال الثورة العرابية، وخلا بِغَيْبَتِه ميدان الجهاد من شاعر يؤرث أحقاد أمته على الغزاة، أو يرفع لعينيها أهدافًا نبيلة سامية تندفع إلى بلوغها، أو يملأ قلوبها أشواقًا إلى التحرر من طغيان الغزاة وغطرستهم واستبدادهم. وقد فُتِن هذان الشابان بالشعر منذ حداثتهما وطلبا أن يكونا شاعرين مذكورين كما كان إمامهما البارودى، فإن البارودى كان قد حطم ذلك الوهم الراسخ الذي لم يزل يملأ قلوب الشعراء هيبة تحجم بهم عن الطمع في بلوغ مرتبة الأوائل القدماء في الشعر: من قِبَلِ لغته وجزالتها، ومعانيه وجدّتها، وأغراضه وحداثتها. فأرهف هذا المثل الحي إحساس الشابين، فانطلقَا يطلبان الشعر من معادنه الأولى كما فعل البارودى: طلباه من دواوين شعراء الجاهلية وصدر الإسلام إلى ما وراء العصر العباسى. وتم لهما ما أرادا، فأجادا اللغة وتتبعا ألفاظها، وحرصا على اختيار جيد الكلام واحتذاء مِثَاله في أغراض عصرهما،

حتى صارا شاعرين لا تنزل ديباجة كثير من كلامهما عن ديباجة شعر العصر العباسى، ولكنهما وقعا في أشد مما وقع فيه البارودى، فكانا كثيرًا ما يقلدان شعراء هذا العصر في نهج شعرهما، وفيما لم يحسا به، وفيما لم يعرفاه على وجهه من تاريخ تلك الحقبة من حضارة الدولة العربية، فصارا يستعيران من كلامهم وأسلوبهم ما ليس يغني شيئًا في مثل عصرهما، وإن شئت فقل: ما ليس له معنى في هذا العصر. ولما استقاد لهما الكلام العربي السليم، نظرا فأبصرا سبعين مليونًا من العرب يرسفون في أغلال الاستعمار الأوربى، ومن ورائهم خمسون مليونًا ومئتا مليون مسلم من أهل القرآن يرسفون في هذه الأغلال أيضًا، وفي أغلال مثلها من الجهل والتفرق والتنابذ والتدابر والعصبية الجاهلية. ثم تلفتا فإذا مجد باذخ عريق كان لأسلاف هذه الأمة من خلق الله، ولأوطانها التي تعيش فيها -مجد يضرب بجذوره إلى آلاف من السنين في مصر والشام وبلاد العرب والعراق وتونس ومراكش والجزائر وتركيا وفارس والهند وما والاها. ولم يلبثا أن سمعا صوت جمال الدين الأفغانى، وهو يدور في أرجاء الدنيا ليوقظ هؤلاء المسلمين من غفواتهم، ويحملهم على فضّ تلك الآصار التي ضربت عليهم. ثم لم يلبثا أن سمعا الصيحة الأولى في أرض مصر والسودان- صيحة الجهاد والتحرير التي انبعثت من قلب الفتى مصطفى كامل في نحو سنة 1890، ورددتها جنبات الوادي، واستيقظ على رَوْعتها ذلك الجيل المستسلم بعد فُجَاءَة الاحتلال. فانتبه هذان الشابان وتسمَّعا، فإذا صيحات أُخَر تدوى في نواحي الأرض العربية والأرض الإسلامية كلها، داعية إلى التحرر من ضراوة الاستعمار الأوربى، ومن البطش التركى، ومن الجهل المستبد الجاثم على هذه الشعوب، ومن الخوف الذي يقبض الهمم ويُغلُّ النفوس. وإذن فقد نشأ هذان الشاعران في زمن كل ما فيه يدعو الشاعر إلى أداء الفَرْض الأول على أبناء الوطن، وهو الجهاد، فماذا كان من أمرهما؟

كان من البديهي أن ينبعث هذان الشاعران إلى باب من الشعر حقيق بأن يسقط عنهما عبء الجهاد العسير في السياسة أو في الثورة أو في الجماعات السرية التي تعمل لاستنقاذ الوطن الأصغر وهو مصر والسودان، وتحرير الوطن الأكبر وهو ديار العروبة والإسلام، كما فعل رجال كالأفغانى وتلاميذه ومن جاء بعدهم. وهذا الباب من الشعر هو الذي يؤثر الكتاب أن يسموه الشعر الوطنى أو الشعر القومى. وقد عرف الرجلان ذلك وأراداه، وأدركا أن عليهما فرضًا وطنيًّا لابد من أدائه على وجه من الوجوه، ولذلك كثر في شعرهما ما قالاه في المناسبات الوطنية قديمها وحديثها. وليس عليك إلا أن تتصفح ديوان شوقى ثم ديوان حافظ، فتعلم أنهما شاركا مشاركة تامة في ذكر الأحداث السياسية العظيمة التي عاصراها. وكان حقًّا عليهما أن يعرفا أن هذا الضرب من الشعر إنما هو جهاد في سبيل بلادهما وفي سبيل سائر الأوطان العربية والإسلامية، وكان حقًّا عليهما أن يحرصا عليه حرصًا شديدًا، لأن الأمم العربية والإسلامية كانت يومئذ تتحرك وتغلى، وكان وطنهما مصر مُهَاجَر كل مضطهد ومأوى كل مهضوم، وكانت هي نفسها تغلى غليانًا شديدًا عميقًا لقرب عهدها بنعمة الحرية المسلوبة في سنة 1882، ولأن الغاصب كان يومئذ جبارًا متغطرسًا شديد الوطأة، لم ينشِّئْ بعد ذلك الجيلَ المستكين إليه، العاملَ على مرضاته، القانعَ بالوظيفة، الراضىَ بخسيس الجهد في خسيس الرزق. وهذا الضرب من الشعر الوطنى الذي قصداه أو ظنا أنهما قصداه كان بلا ريب شيئًا جديدًا عليهما وعلى الشعر في زمانهما، فهل استطاعا أن يعرفا طريقهما إلى إنشاء أسلوب لهذا الشعر غير الأسلوب الذي درج عليه شعر الحماسة وشعر المناسبات. أما "حافظ" فما أظنه فعل شيئًا ولا كان في طوقه أن يفعل شيئًا، ولذلك قصر شعره على المناسبات يقول فيها، وكان قليل المحصول من تاريخ هذه الدنيا، فاتر النفس في عالم مضطرب، مُسْتَغْرَقًا في همم صغارٍ لا تنزع به إلى ثورة ولا إلى تحريض على ثورة، وكان إلى آخر حياته حريصًا على أن يكون مكفيّ

الرزق، فإنه -رحمه الله- قد لقى عنتًا شديدا من ضيق ذات يده في نشأته وفي صباه وفي أكثر شبابه. ولكنه لم يخل شعره أحيانًا قليلة من إحساس وطنى يدفع الشاعر أن يقول شعرًا فيه نفحة من الوطنية، ولكنه شعر على غير نهج وإلى غير هدف، بل كان إذا جاءه القول قال. واستقر في نفسه أن ذلك حسبه من الشعر الوطنى فيما يظن ويتوهم. وكان في حافظ عيب آخر ضلله وزاغ به عن طريق الحق، ووقع به دون الاهتداء إلى النهج الذي يكون به الشاعر صاحب شعر وطنى أو قومى، فقد كان إنسانًا مذعور القلب في غير ذعر، قليل الحمل للمشقة وتكاليفها، كثير الشكوى والتبرم من أهون شيء، فكان إذا جاءه شعر فيه شيء يخشى أن يؤخذ عليه، آثر السلامة فطواه وأبى أن ينشره، كما روى ذلك أكثر الذين عاصروه وصاحبوه، ولما نشر هذا الشعر بعد وفاته كان أفرغ من أن يخافه إنسان من عامة الناس فضلا عن شاعر من خاصة المجاهدين! ثم إن هذا الذعر في غير ذعر كان يحمله على اختيار مناسبات يقول فيها شعرًا تبرأ الوطنية منه، ولا يقوله إلا شاعر متكسب أو خائف أو مقتول إن سكت، كان يقوله وهو يعلم كما يعلم أنه لن يأتيه بخير كثير ولا قليل، ففيم كان عناؤه وكده ذهنه إذن؟ فأي شاعر اهتدى إلى الحق يخطر على باله أن تموت ملكة بريطانيا التي كان زمنها بلاء مصبوبًا على بلاده، فإذا هو يرثيها ويعزى قومها الذين غزوا بلاده وساموها الخسف، وأي خسف؟ هو الخسف الذي شهده حافظ بعينيه وأبصره بباصرتيه! ونشر هذا الرثاء الغث في يناير سنة 1901، والذي لن يسمعه أحد إلا قومه المساكين، وهو كان يعلم ذلك حق العلم، ولذلك يقول في أولها: "أعزى القوم لو سمعوا عزائي" ولو سمعوا عزاءك لفعلوا ماذا أيها الشاعر الرقيق القلب؟ ثم لما ماتت ملكة بريطانيا التي تعرف في تاريخهم باسم فكتوريا، ولى المُلْك بعدها في يناير سنة 1901 إدوارد السابع، فإذا الشاعر المصري ينبري بعد أكثر من عام فينشر في أغسطس سنة 1902، يهنئ ملك الغزاة البريطانيين بتتويجه بقصيدة مطلعها (1: 18):

لمحتُ من مصرَ ذاكَ التاجَ والقمرَا ... فقلتُ للشعر هذا اليوم من شعرَا يا دولةً فوق أعلامٍ لها أسدٌ ... تَخْشَى بوادرَهُ الدُّنيا إذا زأرَا في كلام كثير هو على غثاثته مدخول مرذول، فأي رجل هذا الذي يقول لأبناء أمته إن الدولة المحتلة لبلادكم دولة ذات بأس تخشاه الدنيا؟ وأي تثبيط هذا؟ وما الذي دفع هذا الرجل إلى أن يقول ما قال ثم يشفعه بما هو أرذل منه وأشد تثبيطًا، إذ يقول لبريطانيا: منْ ذا يُنَاوِيكِ والأقدارُ جاريةٌ ... بما تشائين، والدُّنيا لمن قهرَا إذا ابتسمتِ لنا، فالدهرُ مبتسمٌ ... وإن كشرتِ لنا عن نابِهِ كشرَا ألستَ خليقًا أن تقول كما قال القائل الأول: "لا والله لا يخرج هذا الكلام من قلب سليم أبدًا"؟ ثم ندع شيئًا كثيرًا من أمثال هذا وننظر، فإذا يوم "مشئوم" آخر في تاريخ مصر يفجع الشعب المصري كله، وتتسامع به الدنيا وتقشعر له الأبدان، حتى أبدان الإنجليز أنفسهم، لشناعته وشناعة آثاره، هو يوم دنشواى الذي لم يشهد العالم يومًا أفظع منه وحشية ولا اعتداء على الإنسانية. وكانت هذه الحادثة خليقة أن تنشيء رجلا لم يقل الشعر قط فيكون شاعرًا يملأ رحاب الدنيا تفجعًا ونداء وتحريضًا على تقويض دعائم البغي والطغيان، أما إذا كان الرجل شاعرًا وطنيًا، فكانت حقيقة بأن تبعثه بعثا جديدًا فيجرِّد شعره للحرية والجهاد والمصابرة على البأساءِ والضراء، حتى يوقظ نيام قومه من غَفَلاتهم، وينفض المخاوف عن قلوبهم، ويجيش هممهم للصِّراع الذي لا تنطفيء له جمرة أو تنطفيء جذوة الحياة في أبدانهم، ولقد وقعت هذه الكارثة في 13 يونية 1906، وحافظ يومئذ في الخامسة والثلاثين من عمره، أي في فَوْرة الشباب والعزم والقوة، ودوى صوت مصطفى كامل كأنه الرعود القاصفة في السحاب العرَّاض في الليلة المظلمة، فماذا كان من أمر هذا الفتى الشاعر الوطني؟ إنه استفتح قصيدته بهذه الكلمات الرقيقة وبهذه السخرية اللطيفة التي يقول فيها (2: 20): أيها القائمون بالأمر فينا ... هل نسيتمْ ولاءَنَا والودادَا

ثم لا تنس أنه يخاطب الإنجليز ويذكر لهم ولاء مصر وودادها! ! خفّضوا جيشكُمْ وناموا هنيئًا ... وابتغوا صيدكُمْ وجوبوا البلادَا وإذا أعوزتكُمْ ذاتُ طوقٍ ... بين تلك الرُّبَى، فصيدوا العبادَا إنما نحنُ والحمامُ سواءُ ... لم تغادر أطواقنا الأجيادَا ثم يطلب من الطغاة إحسان القتل إذا ضنُّوا بالعفو، وأنه لا يليق بالقوى أن يتشفى من ضعيف أسلم إليه قياده، ثم يقول: إنّ عشرين حجّةً بعد خمسٍ ... عَلمتنا السكون مهما تمادَى! إلى آخر ما قاله في هذه القصيدة، وهو كلام لا غناء فيه ولا يمكن أن يعد في جيد الشعر الوطني، فإن فيه من المغامز ما لا يقوم له شيء من عذر أو سواه، بل أكبر من ذلك كله أن هذا الفتى الشاعر لم يلبث أن نشر قصيدة أخرى في 5 أكتوبر سنة 1906 يستقبل بها اللورد كرومر عند عودته من مصيفه بعد حادثة دنشواى (2: 22) يقول في مطلعها إنه لا يريد بها شيئًا أكثر من أن يعاتب اللورد ويقول له "علمتنا معنى الحياة"، ثم لا يزال يفيض في كلام رقيق سهل حتى يقول له ويذكر ولاء المصريين للبريطانيين! ! رفقًا عميد الدولتين بأمّةٍ ... ضاقَ الرجاءُ بها وضاق المذهبُ رفقًا عميد الدولتين بأمّةٍ ... ليست بغير ولائِها تتعذّبُ كن كيف شئتَ، ولا تَكِل أرواحنَا ... للمستشارِ فإن عدلَكَ أخصبُ فاجعل شعاركَ رحمةً وموَدّةً ... إن القلوب مع الموَدّةِ تكسبُ إنها نصائح غالية يهديها هذا الفتى الشاعر الوطنى إلى الغازى المتغطرس الذي لم تسلم من شروره زاوية في أرض مصر، لكي يكسب قلوب المصريين وينال مودتهم وإخلاصهم له ولبريطانيا، فما أعجب وما أغرب! ! ثم هل يكتفي هذا الفتى ويمسك لسانه عن القول؟ كلا بل هو يبسطه أشد البسط في أوجز قول وأخصره، يصف قومه وما هم عليه فيقول للورد العظيم: وإذا سُئِلتَ عن الكنانة قُلْ لهم: ... هي أمّةٌ تَلهو وشعبٌ يلعَبُ واستبقِ غفلتَها، ونمْ عنها تَنْم ... فالناسُ أَمثال الحوادث قُلَّبُ

"هي أمة تلهو وشعب يلعب"! لم تكن لحافظ مندوحة عن أن يقول هذا القول، فإنها عادة "سيئة" من عاداته لم يزل يرددها في شعره ما استطاع، كأنه ترك هجاء الناس ووكل بهجاء هذه الأمة، لتكون كلماته عونّا للغزاة حين تذيع وتثبت وتجري بها ألسنة الجهال والمنافقين وشذاذ الآفاق الذين نزلوا مصر مع الاحتلال البريطاني. وقد كان ذلك، فمن منا أخطأه أن يسمع هذا المثل المضروب! ! مرات كثيرة في كل مجال قول أو دفاع عن مصر؟ وأقول عادة، لأن حافظ قد أطال الطعن في هذا الشعب على غير هُدًى، فإذا كان يريد به إيقاظ النفوس، فيا سوء المسلك الذي سلك، وإلا فهو يريد الطعن وحده ولا شيء غيره. وهو في سنة 1904 قبل دنشواى يقول: (1: 256) فما أَنت يا مصر دارَ الأريبِ ... ولا أَنتِ بالبلد الطيّبِ يقولون في النشء خيرٌ لنا ... ولَلنَّشْءُ شرٌّ من الأجنبِي وكم ذا بمصرَ من المضحكاتِ ... كما قال فيها أَبو الطَيّبِ وشعبٌ يفرُّ من الصالحات ... فرار السليم من الأجرب أيجوز لي أن أعلّق على هذا الشعر بشيء إلا أن أقول إن حافظا نفسه كان أشد على مصر من هذا النشء الذي ذمه، وأنه ابن هذا الشعب الذي يفر من الصالحات؟ ولست أدري كيف أنتصف من هذا الرجل، فإن كل كثير في أمره قليل. وهو بهذا الكلام وأمثاله قد نفى عن نفسه خيرًا كثيرًا كان هو أحوج الناس إليه في حياته وبعد مماته. ولست أدري أيضًا ما الذي كان يحمل حافظًا، حتى بعد أن جاوز الأربعين واستقر عيشه وصار رئيسًا للقسم الأدبى بدار الكتب، على أن يرمى بنفسه في غمار هذه الأشياء التي تجلب عليه المذمة والنقيصة، فإن كان يطلب الرزق فقد كفى الرزق، وإن كان يطلب الترقية ليزداد شيئًا إلى شيء فقد كان له سبيل غير سبيل الشعر. ويخيل إليَّ أحيانًا أن حافظًا كان أذنًا يذهب حيث يذهب به من يواليه ويلوذ بكنفه، فقد كان سعد زغلول في ذلك الحين الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وكان حافظ صديقًا له ونديمًا، ثم أعلنت الحماية على البلاد

وأذيلت كرامتها في 19 ديسمبر 1914، وأرسلت بريطانيا أول مندوب سام يحكم مصر تحت ظل الحماية، فخرج وكيل الجمعية التشريعية يستقبل هذا المندوب في محطة مصر يوم 9 يناير سنة 1915، وكان مما قاله سعد يومئذ على مسمع من المستقبلين: "إن دلائل الخير بادية على وجهه" وأمّل أن يجزل الله لمصر الخير على يده! ! كما نُشِر في جريدة المقطم يوم 11 يناير 1915، فلا تكاد تمضي أيام حتى ينشر حافظ في يناير 1915 قصيدته التي يقول فيها (2: 82) مخاطبًا المندوب الجديد: أَىْ مَكْمَهُون قدمت بالـ ... ـقَصْدِ الحميد وبالرعايهْ ماذا حملتَ لنا عن الـ ... ـمَلك الكبير وعن (غِرايه) أَوضِحْ لمصر الفرقَ ما ... بين السيادة والحمايَهْ ثم يمضي على سننه في هذا الكلام الرفيق الرقيق الذي كان كأنه ترجمة شعرية للكلمة التي قالها وكيل الجمعية التشريعية، ثم يسأل العميد الجديد أن يتعهد هو وقومه أرض مصر بالرعاية، وأن يحسنوا عليها الوصاية! ! إلى أن يقول في غزاة بلاده: أَنتم أَطباءُ الشُّعُو ... بِ وأَنبلُ الأقوام غايَهْ أَنَّى حللتم في البلا ... دِ لكم من الإصلاحِ آيهْ وعدلتمُ فَملكتمُ الدُّ ... نيَا وفي العدل الكفايهْ إن تنصروا المستضعَفيـ ... ـين فنحن أَضعفهم نِكايَهْ! ! وَاذُلّاه! فأي شيء أبقى لبريطاني أن يقوله في تسويغ احتلال مصر، وفي الدعوى العريضة التي لا تزال بريطانيا تدعيها على كل شعب وقع تحت سلطانها الباطش؟ ! ونحن قد سقنا هذا للدلالة على موضع الدَّخَل في شعر حافظ وفي عزيمة نفسه، ولو طلبنا أن نذكر شعرًا مما تكون فيه نفحة من الوطنية لوجدنا شيئًا، ولكنه إذا مُحّص وُجِد غير صحيح على التمحيص. وغير ذلك أننا لم نكتب هذا لنجمع ما قاله من الشعر مما فيه ذكر لمصر أو لما حدث فيها، بل أردنا أن نعرف

هل استطاع حافظ أن ينهج شعرًا في الوطنية، وأن يتخذ له أسلوبًا غير أسلوب المناسبات، وغير ترديد أسماء الأمم والأعلام والرجال من العرب الأوائل والمحدثين ممن كان لهم أثر في وطنه الأصغر خاصة أو في وطنه الأكبر عامة. فلما لم نجد لهذا الرجل نهجًا، وأعجزنا أن نجد له إلا كل ما يجعله محالا عليه أن يهتدى إلى مثل النهج الذي نطلبه، آثرنا أن نغفل ذكر شيء من شعره الذي يخيل إلى السامع أنه شعر وطني. * * * أما شوقى فقد برئ من هذه الآفة التي لحقت شعر حافظ، إذ خلا شعره مما يقدح في وطنية الشاعر، ومن طعن على بلاده وأوطان قومه إلا أن تكون فلتة، ومن كل ملق لا خير فيه يتملق به الغزاة البريطانيين. وبذلك سلمت له نفسه، فهل استطاعت هذه النفس الشاعرة أن تلتمس نهجًا للشعر الوطنى؟ وما الذي وفقت إليه؟ وهل أتتنا بشعر حقيق بأن يسلك في عداد الشعر الوطنى كما ينبغي أن يكون؟ كتب شوقى أول شعره في نحو سنة 1888، أي بعد الاحتلال بست سنوات، وكان قد صار إلى ما كان يتمناه وهو أن يصير "شاعر الخديو صاحب المقام الأسمى في البلاد"، كما قال في مقدمة ديوانه الأول. وكان خديو مصر في ذلك الوقت هو محمد توفيق الذي تم في عهده احتلال وادي النيل بعد انهزام جيوش عرابي وإخوانه. فليس عجيبًا إذن أن لا تجد في شعره الذي قاله في عهد توفيق شيئًا فيه ذكر ما اعتلج في نفسه من أثر هذا الاحتلال المشؤوم الذي نكبت به مصر والسودان، وهو يومئذ في نحو الخامسة عشرة من عمره -أي أنه كان فتى يعقل ويدرك ويعرف معنى الاحتلال وكان أيضًا يحفظ الشعر ويطلبه ويتهيأ له كما قال في مقدمة ديوانه الأول. وسكوت شوقى هذا السكوت المريب عن أفظع بلوى منيت بها بلاده، لم يكن إلا أنه كان منذ أول عهده يسمو ببصره إلى أن يكون "شاعر الخديو صاحب المقام الأسمى في البلاد"، فحمله هذا المطمح النبيل على أن يخفي شعوره الوطنى كل الإخفاء، أو يغفله كل الإغفال، حتى

لا يعوقه ذلك عن بلوغ المرتبة السامية التي يصبو إليها. فلو هو تنفَّس عن شيء لجرّ ذلك عليه غضب الخديو توفيق الذي تم الاحتلال في عهده، ولكانت عاقبة ذلك أن يقصى عن القصر وعن الحضرة الخديوية الفخيمة لا محالة. وهذا الفعل من شوقى دليل على أن نفسه كانت تؤثر المنفعة الخاصة إيثارًا يصرفها عن الأهداف النبيلة في حياة أحرار الرجال. وهذا أول مغمز يخشى معه أن يضل هذا الفتى كما ضل حافظ من قبل عن الشعر الوطني الحق. ثم قضى توفيق نحبه في 7 يناير سنة 1892، فانقضى بموته السبب الذي كان يمنع الشاعر الفتى أن ينفث خطرات نفسه ويبث قومه أشجانه. وولى الأمر بعد توفيق الخديو عباس الثاني في 8 يناير سنة 1892. وبدأ عباس، منذ عاد من فينا إلى مصر في 16 يناير من تلك السنة، يناوئ الإنجليز ويُصِرّ على أن يستَمسك بحقوق مصر وحقوق عرشه. وكان رئيس الوزراء يومئذ هو وزير الاحتلال المشهور مصطفى فهمي باشا، فظل يعمل جاهدًا على نزع السلطان كله من يد الخديو الشاب، ووضعه في يد المعتمد البريطاني اللورد كرومر، ومضى عام، فإذا الخديو الشاب يرسل إلى مصطفى فهمي كتابًا يقيله من رئاسة الوزارة دون أن يستشير كرومر أو يطلعه على ما نواه، وذلك في 15 يناير سنة 1893. فلما بلغ الخبر كرومر استشاط غضبًا وجن جنونه وثار ثورة بريطانية، فأسرع إلى الخديو وقابله، وأصرّ على عودة وزير الاحتلال، فأصر الخديو على أن اختيار الوزراء حق من حقوقه الشرعية لا يجوز لكائن من كان أن ينازعه فيه. فأخذ كرومر يتوعده وينذره ويهدده، ولكن الخديو الشاب بقى كالطود الراسخ لا يتزلزل ولا يهاب وعيدَه ولا نُذُرَه. هكذا فعل كرومر، أما الشعب المصري فقد انبعث انبعاثًا جديدًا كان فاتحة الحركة الوطنية الخالدة في تاريخ مصر، وكان هذا الشعب يبغض مصطفى فهمي وزير الاحتلال بغضًا ليس بعده ولا قبله، ولكنه كان يطوى جوانحه على هذا البغض، فلما انتهى إليه خبر إقالته، وخبر هذه الجرأة الصريحة على كرومر الجبار المخوف، ابتهج ابتهاجًا عظيما، ولم يلبث أن سارت وفود الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى الموظفين والقضاة، ويمموا

شطر قصر عابدين في 18 يناير سنة 1893 لكي يؤيدوا هذا الفتى فيما فعل. وكان هذا اليوم عجبًا في تاريخ مصر، دل على أن هذا الشعب لا يغفل عن حقوقه، ولا ينام عن عدو أو صديق، وإن ظن الجاهل به أنه راضٍ ساكن قانع بما كتب له أو عليه. ومن يومئذ ظل عباس يناوئ بريطانيا وعميدها كرومر مناوأة العنيد الذي لا يهاب. ولسنا نشك في أن شوقى "شاعر الخديو" قد استفاق يومئذ على روعة هذا العمل الذي اجترأ عليه هذا الفتى الغرير عباس الثاني، كما استفاق خلق كثير ممن أُبْلِسُوا (¬1) حيرةً وذهولًا بعد احتلال بلادهم في عهد سلفه توفيق. ومن يومئذ، فيما نظن، بدأ شوقي يتطلب أن يكون شعره صدى يردد صوت الأمة المصرية والأمم العربية والإسلامية التي حاق بها بلاء الاستعمار. فماذا فعل؟ في سبتمبر من سنة 1894، أي بعد هذه الحادثة بسنة، أُوفِد شوقي مندوبًا إلى المؤتمر الشرقي المنعقد في مدينة جنيف، ويومئذ قال قصيدته المشهورة. (ج 1: 1) هَمَّتِ الفُلْكُ واحتواها الماءُ ... وحَدَاهَا بمنْ تُقِلّ الرجاءُ وهي، كما قال هو في ديباجتها: "قصيدة تاريخية تتضمن كبار الحوادث في وادي النيل من يوم قام إلى هذه الأيام"، وفي هذه القصيدة أول شعر لشوقى تجد فيه إشارة إلى احتلال الغزاة البريطانيين لأرض وادي النيل، بعد سكوته في عهد توفيق، وذلك إذ يقول في ذكر الخديو محمد توفيق: وغزيرِ الهُدَى من "الحمد والتو ... فيقِ" صيغت لذاته الأسماءُ بثَّت العدْلَ راحتَاه، وعزَّتْ ... في حماهُ العلوم والعلماءُ (إن أَتَاها فليس فيهَا ببَادٍ، ... أو جناهَا فذا الوَرَى شركاءُ) (لا يلمْ بعضكُمْ على الخَطْبِ بعضًا، ... أيها القوم، كلّكُمْ أبرياءُ)! ولم يصرح باسم الاحتلال بل كنى فقال: "إن أتاها. . . ." يعني الزلة المردية ¬

_ (¬1) أبلس: وقف في مكانه حائرا مترددا.

التي زلها توفيق بدعوة بريطانيا إلى نصرته على أبناء بلاده الذين ثاروا مطالبين بحقوقهم الدستورية. وشوقى يحفظ جميل البيت العلوى عليه، فيلتمس العذر لتوفيق بأن يشترك الشعب المصري في هذه البلوى التي حلت بهما جميعًا. ثم يذكر في آخر القصيدة عهد عباس الثاني، فإذا فيه إشارة "خفية" إلى ما كان من إقالته لوزير الاحتلال وقلة احتفاله ببطش المعتمد البريطاني، وذلك إذ يقول: كيفَ تشقى بحبّ حِلْمِي بلادٌ ... نحنُ أسيافُها وأنت المَضَاءُ؟ وهذه القصيدة، لا أقول إنها من فاخر شعر شوقى، ولكنها كانت بدءًا جديدًا أراد به هذا الفتى أن يجلو بالشعر تاريخ وطنه، وأن يذكر الناس بماضي أسلافهم وغابر مجدهم وقديم حضاراتهم؛ وهذا بلا ريب باب من أبواب الشعر الوطنى. بيد أن شوقى لم يوفق إلى حقيقة الشعر الوطنى فكانت قصيدته هذه سردًا للأحداث التاريخية في وادي النيل، وردًّا على بعض المطاعن، وسخرية من الغزاة الذين غزوا أرض مصر، حتى إذا ما بلغ عهد توفيق اختصره في الأبيات التي ذكرناها آنفًا، وأعرض عن التصريح بذكر الاحتلال ووقعه في نفسه، ولم ينبض حرف "واحد" من شعره هذا ببغض الغزاة الذين يسومون بلاده سوء العذاب، وهو حي يدرك ويحس ويسمع ويبصر. فأي بلاء هذا؟ شاعران تفخر بهما مصر العربية والإسلام، يضل أحدهما ضلالا مبينًا كما ذكرنا، ويضل الآخر عن الطريق الذي مهده له الخديو بجرأته وقوة جنانه معرضًا عرشه للضياع! كان شوقى رجلا طموحًا إلى أشياء بعينها أخذت عليه المسالك: أن يكون "شاعر الأمير" وأن يظل "شاعر الأمير" وإن اختلفت الأمراء، فمن أجل ذلك تراه لا يزال يخشى أن تتغير الحال بعد قليل فتتغير حاله، فيؤثر أن يمسك لسانه ولا يسترسل مع أميره هذا الجرئ. وكان هذا أول الداء العياء، هو الخوف آفة الأحرار. ومن جراء هذا الخوف القابض على جَنَانِه حار هذا الفتى الشاعر فلم يستطع هو أيضًا أن يهتدى إلى حقيقة الشعر الوطنى الصحيح ولا إلى نهجه الحق. إن أصل الشعر الوطنى هو الحماسة، أي أن تكون ثائر النفس جياش الفؤاد، فتصب ثورة نفسك في بيان يتدفق في قلوب

أبناء أمتك فيثيرهم ويثير أحلامهم، ويجيش همتهم، ويوقظ نائم أحقادهم، ويرفع لهم مثل الحياة الحرة الشريفة العزيزة، ويهزهم هزا إلى صراع عدوهم وإن خيف بطشه وجبروته، ويحبب إليهم احتمال الأذى ولقاء الردى، والجود بالنفس والمال والولد ونعيم العيش وراحة الحياة الدنيا، فكيف يستطيع أن يركب هذا المركب الوعر من تتعلق نفسه بلقب يحرزه ونعمة يتقلب فيها؟ ! وأنت إذا قرأت هذه القصيدة الهمزية التي ذكرناها، رأيت شوقى يتدفع فيها تدفعًا شديدًا على خلاف أكثر شعره، فقد كانت كالموج المتدفق في أسلوبها، وهذا هو الأسلوب المختار لأكثر الشعر الوطنى في أي أغراضه كان. بيد أن شوقى لم يلبث حتى هجر هذا الأسلوب نفسه واتخذ أسلوبًا آخر يناقضه تمام المناقضة، فلان شعره واسترخت قوته، وبدأ يسمو إلى أن يكون حكيم هذه الأمم يضرب الأمثال، ويأتيها بشعر فيه فلسفة وحكمة، تقليدًا للشاعر "صاحب اللواء، والسماء التي ما طاولتها في البيان سماء" وهو المتنبى، كما وصفه في مقدمة الطبعة الأولى لديوانه (ص 5 - 7). ومع ذلك لم يخرج شوقى من هذا التقليد إلا بأن يكون شاعرًا واعظًا، لا شاعرًا حكيما كما كان المتنبى وخليفته أبو العلاء المعرى، على شدة التفاوت بينهما. وأما السبب الذي من أجله عجز شوقى عن أن يكون حكيما على شدة تشبثه بهذا الوصف كما جاء في شعره، فشيء ليس هذا مكان بيانه والتدليل عليه. ومن أعجب العجب أن شوقى الذي كان إلى سنة 1906 لا يدع شيئًا إلا قال فيه، قد اعتقل لسانه وسكن سكونًا حتى لا حراك به يوم وقعت كارثة دنشواي، فلم يقل شيئًا إلا أبياتًا من أرذل الشعر، قالها بعد عام مر على "حادثة هذه القضية في سبيل طلب العفو عن سجنائها"! كما قال في ديباجتها، وكان غاية ما قاله: (نيرون) لو أدركتَ عهد (كرومر) ... لعرفتَ كيف تنفّذ الأحكام! فمن شاء أن يرشدنى كيف استطاع شوقى أن يملك نفسه، فلا يذكر شيئًا عن احتلال بلاده وضياع استقلالها، وعن هذه الكارثة الوحشية التي حركت الكاتب الإيرلندى "برناردشو" -فليفعل مشكورًا. أما أنا فأرى أن القلب الذي

سكن فلم يتحرك ولم يتمزق على هذين البلاءين الشديدين، لا يستطيع البتة أن ينفخ الحياة في شعر يقال لينفخ الروح في شعوب موات من وطأة الاستعمار والجهل والاستعباد قديمه وحديثه. وهذا هو جوهر الشعر الوطنى والقومى. كانت الأحداث تتوالى في الدولة العثمانية، وتوالت الأحداث أيضًا في مصر، وهبَّ مصطفى كامل كالأسد يزأر هنا وهنا حتى أيقظ الأجنَّة في أرحام أمهاتها، واضطرب أكثر العالم العربي والإسلامي، فأراد شوقى أن يكون بالمرصاد لكل ذلك، فأرصد شعره للمناسبات يقول فيها، فكانت لكل حادثة قصيدة، وألف هذه العادة إلى آخر أيام حياته، وقلده فيها جمهرة من معاصريه الشعراء، ولا يزال يعيش بيننا إلى اليوم من يقلده ويقتفي آثاره خطوة خطوة. وأمثال هذه القصائد التي تقال في فورة الأمر وعنفوانه قلما تخطئ هدفها، إذ تجد النفوس مستعدة للتلقى والاهتزاز من تلقاء نفسها، وإن كان الذي يلقى عليها كلامًا غثًّا لا غناء فيه. وشبيه بذلك ما يجده الخائف المتوجس إذ تروعه النبأة الخافتة وتنفضه نفضّا، فإذا سكن جأشه نام على هدة جبل يندك. ولو قرأت اليوم أكثر ما قاله شوقى في المناسبات الوطنية والإسلامية والعربية، فعسى أن لا تجد فيه شيئًا يثير شيئًا فيك إلا التعجب مما كنت أحسسته يوم قرأته في حينه وأوانه، وكأنما كان ذلك كله من عمل الوهم فيك لا أكثر ولا أقل. ومثل هذا ليس بنافع شيئًا في الشعر الوطنى الصحيح الذي لا يموت بموت الساعة التي قيل فيها. ولو شئت أن أضرب الأمثال بكثير من هذا الشعر لفعلت ولكنه إطالة، فمن شاء أن يلتمس وجه الحق في ذلك فليقرأ ديوانه، فهو واجد فيه تحقيق ذلك عيانًا وتجربة. وشيء آخر أراد به شوقى أن يكون شاعرًا وطنيًّا لكل وطن من أرض العرب والإسلام، ذلك أنه عني كل العناية بدراسة تاريخ عظماء هذا الجيل العربي قديمه وحديثه وحفظ أسماء الرجال والمواقع والأحداث، وجعل ينثرها نثرًا في شعره حتى ما تكاد تخلو له قصيدة من ذكر هؤلاء الرجال كخالد بن الوليد وصلاح الدين وبنى أمية وبنى العباس وفلان وفلان. وصار الأمر عادة حتى أفرط في ذكر الأنبياء بخاصة عيسى ومحمد -عليهما السلام-، ثم ألح على أسماء الملوك الأقدمين

كالفراعنة والقياصرة ومن إليهم، حتى صار شعره أشبه بسجل تاريخى لقديم هذا العالم وحضاراته. وأكبر الظن أن شوقى ظل يبحث عن الشعر الوطنى فخيل إليه أن هذا الذكر المردَّدَ للأسماء كافٍ وحده في أن يجعل شعره مذكورًا في الشعر الوطنى. والحق أنه ليس كذلك، وإن كان بعضه مما يدخل هذا المدخل على ضعف شديد. وكذلك أخفق شوقى كما أخفق حافظ في التهدى إلى حقيقة الشعر الوطنى والقومى. * * * بيد أنه ليس من الإنصاف في شيء أن نغفل أكبر يد أسداها حافظ وشوقى إلى الأمم العربية والإسلامية. ذلك بأنهما كانا شاعرين يستجيدان الكلام، وإن أخطآ وضلا عن الصواب، وأنهما كانا رائدين لهذا الجيل العربي بعد البارودى، وأن شعرهما قد علم مئات من الكتاب والشعراء في كل نواحي البلاد العربية، وأن تلهف الناس كان على شعرهما هو الذي أغرانا جميعًا ببذل الجهود في دراسة العربية ودراسة تاريخها وآدابها، وأنهما كانا من طلائع النهضة العربية الحديثة في هذا القرن العشرين. فإن كانا قد أخطآ وضلّا، فقد أيقظا ناسًا صاروا مددًا لهذه القوة الجياشة التي سوف تدفع بلاد العرب والمسلمين إلى التحرر من ربقة الاستعمار، ومن أوزار الجهل والتشتت والفرقة، وتجمعهم يدًا واحدة لكي ينشؤوا للعالم حضارة جديدة كالتي أنشأها آباؤنا من قبل، تأنف لنفسها أن تستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.

حول قصيدة القوس العذراء

رَسَائِل القُراء (حول قصيدة القوس العذراء) أخي الأستاذ محمد سعيد المسلم . . . شكرًا شكرًا. وبعد، فلست أنكر ما قلت، ولا ما قال من قبل صديقي الأستاذ جمال مرسى بدر. فالذي جرى عليه العملُ -كما يقال- هو ما قلتما. أبدأ بما ختمت به رسالتك، فقد ذكرت هذا البيت (ص 173؛ مجلة الكتاب، فبراير سنة 1952). أغثنى! أجل! باع! ماذا! أباعَ ... نعمْ باعَ! حقًّا! أجل والعجز كما رأيت مختل الميزان، وهو عندي مختلّ المعنى أيضًا، وصوابه: "نعم باعَ! قد باعِ! حقًّا فعلْ! " وسقطت "قد باعَ" في نقلي أنا من نسختى إلى نسخة المطبعة، لما شغلنى به البيت والأبيات قبله من كثرة "البعبعة". أما القسم الأول من رسالتك، فيحتاج إلى إطالة في ذكر العروض والقوافي، وإلى الإفاضة في ذكر بحر الرمل، وما يطيقه وما لا يطيقه. وأختصر القول اختصارًا. فأنا لم أفعل ما أنكرته إلا في أبيات قليلة من بحر الرمل، وكان يسيرًا أن أقيمها بأهون الجهد، ولكني قبلت منذ قديم، أن أخلط في بحر الرمل بين أعاريضه وضروبه على اختلافها، وأن أنتقص بعض تفاعيله أو أزيد عليها، وأن أدخل فيها حشوًا قليلا أحيانًا. وبحر الرمل أقرب بحور الشعر كلها إلى النثر، وتستطيع أن تكتب كتابًا كاملا موزونًا على تفاعيل هذا البحر، وأنت غير متقيد بضروبه وأعاريضه، ولا بأعداد هذه الضروب والأعاريض، ثم يكون الكتاب موزونًا مقبولا في السمع، خفيفًا على اللسان حافلا بالموسيقى التي لا تنتهي. فإن استطعت أن تجرب هذا، وأن تحاول كما حاولت أن تسيغه، فإنك ¬

_ (*) مجلة الكِتاب، المجلد الحادى عشر، سنة 1952. وفي الأصل: حول كتاب طبقات فحول الشعراء. وهو خطأ، فصححته لما يدل عليه فحوى المقال.

ستصيبُ في لين هذا البحر، وفي حسن تقلبه معك، وفي سماحته وسخائه بما لا يسخو به بحر غيره - ما تشاءُ من الروح والراحة. فإن لم تسغه، ولم تسغ أبيات قصيدتى هذه، فاجعلها في الشعر كقصيدة عبيد بن الأبرص التي قال فيها ابن كناسة "لم أرَ أحدًا ينشد هذه القصيدة على العروض"، والتي قال فيها القدماء من شيوخنا: إنها "شعر مهزول غير مؤتلف بناء" وأنها "لكثرة ما دخلها من الزحاف كادت أن لا تكون شعرًا"، ثم عدّها شيوخ آخرون من الملحق بالسبع الطوال (المعلقات)، أو من المجمهرات. يحقّ لهم أنّ يعدوها كذلك، فهي من بارع الشعر وفاخره ولم يعبها أنها مهزولة غير مؤتلفة البناء، تكاد تخرج عن مدارج الشعر. فإذا لم تستطع أن تسيغ من قصيدتى هذا ولا ذاك، فاطرحها عنك، فما أظنك تخسر إن فعلت قليلا أو كثيرًا. وأرجو أن لا تعدنى مجددًا أو مخترعًا في بحر من بحور الشعر، فما ذاك أردت، ولا هذا فعلت، ولكني رأيت تفاعيل هذا البحر مطيقة للحركة الشاذة، مطيقة للاحتمال. نغم لم يألفه بحرها المقيد، مطيقة للتوجه بى حيث توجهت، فامتطيتها مما شئت فأطاعتني، ولم أنكر من طاعتها شيئًا، واستوت معى على الطريق. وعسى أن يأتي يوم أبلغ فيه مرضاتك، وأكتب في شأن هذا البحر كلامًا متصلا، حتى تعرف رأيي فيه بأسلوب علمي محضٍ، ولك مني أجزل الشكر والسلام.

صدى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد (¬1) أشكر أخي وابن أخي الأستاذ أحمد صقر شكرًا يخالطه عَتْب، فقد جاوز القصد في الثناء حتى أوغل في المبالغة، وكان يحسن ظني بنفس أنا إلى إساءة الظن بها أحوج. والإسراف لا خير فيه، وإذا خشيت معرّته على نفسي، فأنا منه على أخي وابن أخي أخوف. وهذا أثر الإسراف بيّن في أول نقده لكتاب "طبقات فحول الشعراء". فقد قال إني رأيت أن أكمل نقص كتاب الطبقات، بكل ما رأيته "مرويًّا عن ابن سلام من الأخبار والأشعار التي تتعلق بالشعراء الذين ذكرهم في الطبقات". إفراط شديد، ولفظ جائر. لم أقل هذا ولا بعضه، ولا أنا كتبته في مقدمتى، ولا أنا فكرت لحظة في أن أفعله. ولو فعلته لأسأت إساءة لا أغتفرها، ولا أحب لأحد أن يغتفرها. والذي قلته في المقدمة (ص: 28 - 32) هو أنى جمعت أسانيد أبي الفرج في الأغانى إلى ابن سلام، فكانت عدتها أربعة وخمسين إسنادًا. منها ثلاثة عشر إسنادًا، أثبت نصها (28 - 30)، ليعلم من يحب أن يعلم، أنها كلها إسناد واحد في الحقيقة، يسوقه أبو الفرج في ثلاث عشرة صورة. فكأن مجموع أسانيد أبو الفرج اثنان وأربعون إسنادًا. وقلت إني لم أنقل شيئًا إلى الطبقات، إلا رواه أبو الفرج عن ابن سلام بإسناده عن "أبي خليفة الفضل بن الحباب، عن محمد بن سلام"، وهو الإسناد الذي يسوقه أبو الفرج في ثلاث عشرة صورة، مختلفة اللفظ، متفقة المعنى. أما الأسانيد الباقية، وعدتها واحد وأربعون إسنادًا عن ابن سلام، وفيها علم كثير من علم ابن سلام، فلم أنقل إلى الطبقات من ¬

_ (*) مجلة الكِتاب، المجلد الثاني عشر، الجزء الرابع، سنة 1953، ص 513 - 522. (¬1) نقد الأستاذ سيد صقر لكتاب طبقات فحول الشعراء نُشِر في مجلة الكِتاب، المجلد الثاني عشر، سنة 1953، ص 379 - 387.

روايتها وأخبارها شيئًا قط. وهذا واضح فيما أظن، بل أظن ظنًّا أنه يدل على أننى لا أنقل: "كل ما رأيته مرويًّا عن ابن سلام"، لا في كتاب الأغانى ولا غيره. وقد روى أبو الفرج في أغانيه بإسناده هذا، أو أسانيده الثلاثة عشر إن شئت، "عن أبي خليفة الفضل بن الحباب، عن محمد بن سلام" أخبارًا كثيرة جدًّا، دلت مراجعتها على الطبقات المطبوعة والمخطوطة، على أنها ثلاثة أقسام: الأول: أخبار موجودة بنصها في النسخ المطبوعة، وفي المخطوطة جميعًا، وهو الأكثر. الثاني: أخبار موجودة بنصها في المخطوطة وحدها، وفي زياداتها على ما يقابلها من المطبوع، وهذا كثير. فدل هذان القسمان الكبيران جدًّا على أن ما يرويه أبو الفرج بهذا الإسناد، أو الأسانيد الثلاثة عشر، مما هو روايته عن كتاب الطبقات، الذي أجاز له أبو خليفة روايته عنه، وكتب به إليه، كما صرح في بعض هذه الأسانيد. بل بما ذكرناه مما هو أصرح، عند ذكر شعراء الطبقات (المقدمة ص: 22 - 26). وبقى القسم الثالث: وهو ما رواه بهذا الإسناد، أو الأسانيد الثلاثة عشر، وهو الذي يقع في مواضع من المطبوعتين، ليس عندنا ما يقابلها من المخطوطة. ولما ثبت بالاستقراء أن القسم الأول والثاني، هو من كتاب الطبقات، لم تبق ريبة لمرتاب في أن هذا القسم الثالث هو أيضًا من كتاب الطبقات. والمخطوط قد دلّ دلالة قاطعة، على أنّ المطبوع مختصر وناقص نقصًا فاحشًا، كما دلت أيضًا مراجعة سائر ما نقل عن طبقات ابن سلام في كتب كثيرة، وكما دلّ ما نقله أستاذنا من شرح نهج البلاغة، مصرّحًا بنقله عن الطبقات وليس في المطبوع. فمن أجل ذلك نزلت هذا القسم في منازله من الكتاب، على ما بلغه ظنى واجتهادى، وكله واقع في المواضع التي ضاع ما يقابلها من المخطوطة. وما قلته آنفًا عن الأغانى، أقول مثله عن الموشح للمرزبانى، فقد روى بأسانيد كثيرة عن ابن سلام، لم أنقل منها غير إسناد واحد هو "إبراهيم بن شهاب العطار، عن أبي خليفة، عن محمد بن سلام". وقد أكثر المرزبانى الرواية عن

ابن سلام، وانفرد هذا الإسناد بمطابقة المخطوط والمطبوع، كما ذكرنا آنفًا في شأن الأغانى. وطرحت رواية سائر الأسانيد غير هذا الإسناد الواحد. وبمثل هذا السياق من الاستدلال فعلت فيما جاء في أمالى الزجاجى، وما جاء في الشعر والشعراء. فبيّنٌ إذن مما أطرحت نقله من روايات أبي الفرج الكثيرة في أغانيه، وما أطرحت أيضًا من روايات المرزبانى الجمة في موشحه، أنّى لم أنقل إلى الطبقات "كل ما رأيته مرويًّا عن ابن سلام". فأظن ظنًّا أن ما فعلته دليل قاطع، يمسك سيل الأسئلة التي ساقها الأستاذ صقر على لسان النقاد، وأنطقهم بها في مقاله. أما سائر الكتب التي نقلت عن ابن سلام، غير هذه الأربعة، ففيها علم كثير عن ابن سلام، لم أنقل إلى الطبقات منه شيئًا. ولكنه الإسراف، زلَّ معه اللسان، وأزلنى حتى أطلت في أمر بين لمن تأمل مقدمتى فضل تأمل. * * * ولما أسرف ابن أخي في الثناء وفي البيان، كانت العاقبة أن فرّط في الإبانة عن حجتى في تسمية الكتاب "طبقات فحول الشعراء" لا "طبقات الشعراء". فإني ذكرت في هذا الموضع من المقدمة نصّين عن أبي الفرج أغفلهما الأستاذ في نقده. أحدهما في ترجمة المخبل السعدى، إذ يقول: "ذكره ابن سلام في الطبقة الخامسة من فحول الشعراء". والآخر في ترجمة عبيد بن الأبرص، إذ يقول: "وجعله ابن سلام في الطبقة الرابعة من فحول الجاهلية"، فإذا ضم إليهما قول ابن سلام نفسه: "فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعرًا"، كان بينًا لمن يستبين، أن ابن سلام لم يؤلف كتابه إلا لذكر طبقات "فحول الشعراء" في الجاهلية والإسلام، واقتصر عليهم. وكان أيضًا بينًا أنه لم يؤلفه لذكر "الشعراء" بلا وسم ولا صفة. هذا مبلغ جهدى وحجتى، وبها أتوسل إلى الأستاذ صقر أن يعذرنى، وإلى النقاد أيضًا إن استطاعوا إلى العذر سبيلا. * * * وللأستاذ صقر بعد ذلك رأي في الشعر، ومآخذ على ما شرحت منه.

1 - أخذ عليّ شرحي للبيتين الأخيرين من قول دويد بن زيد بن نهد، حين حضره الموت: اليوم يُبنى لدويد بيتُه ... لو كان للدهر بلى أبليتُهُ أو كان قرنى واحدًا كفيته ... يا رب نهب صالح حويتهُ "ورب غَيْل حسن لويته ... ومعصم مخضَّب ثنيتهُ" ولما كنت أعلم، والله أعلم، أن لكل لفظ يأتي به الشاعر دلالة على معنى، وأنه لا يسوغ لي أن أسقط بعض الألفاظ أو دلالة بعض الألفاظ، فقد شرحت الأبيات، على قدر حظى من فهم الشعر، ومن فهم لغة العرب، ومن فهم بعض طبائع البشر. ولكن رأي الأستاذ صقر أن كل ما يمكن أن يؤخذ -من البيتين الأخيرين- هو أنه يذكر شبابه ومتاعه بالنساء ذوات السواعد السمينة، أو كما قال. وللأستاذ رأيه بلا معارضة، وله أن يستعمل لفظ "كل" حيث شاء. ولكني رأيت الشاعر أغفل ذكر الساعد وأتى بالصفة "غيل"، لا لأنه أراد "السواعد السمينة"، بل لأنه أراد ساعدًا يترقرق ماء شبابه، كما يترقرق الغَيْل، وهو الماء السحّ، السهل الجرية على وجه الأرض، يتلألأ بريقه بين الشجر الملتف الناضر، وفي ظله الظليل. وإذا كان ماء شبابه كذلك، فهو ساعد ممتلئ مشرق البشرة، لم يهجّنه إسراف في "سمن"، بل هو "غيل حسن"، وهو نعت يدل على القصد والاعتدال والبراءة من الإسراف. وإذا كان كذلك فصاحبته منعّمة، لم تغذ بؤس معيشة، كفيت شقاء المهنة، وأعفيت من ممارسة العمل، وإذا كانت كذلك فلها وال شريف سرىٌّ، وخدم يحوطونها أن تمتهن. وإذا كانت كذلك فهي في نعمة من عيشها، ومنعة من أهلها وخدمها، وهم جميعًا حراس عليها. أو هذا على الأقل، هو شيمة السادة والأشراف من العرب في شأن فتياتهم ونسائهم. فليس عجيبًا إذن أن أقول: "كنى بالبيت الأول عن تجاوز الأحراس والمنعة إلى الكريمة المنعمة". وقد غفلت في شرح البيت عن بيان معنى "لويتُه". والظاهر على مذهب الأستاذ صقر، أنه أراد أنه لوى ساعدها كما يلوى الحبل. ولكني أعجب: أي

متاع كان لدويد في أن يلوى "سواعد سمينة"، "لوى يده الله الذي هو غالبُه"؟ وأي لذة يجدها في أن يثنى معصما مخضَّبًا؟ وأسأل نفسي: ما فرق ما بين اللذتين: لذة ليّ السواعد السمينة، ولذة ثنى المعاصم المخضبة؟ وكيف يكون هذا اللىّ وهذا الثنى هما آخر ما يذكره من متاع شبابه حين حضره الموت؟ أما عندي، فمعنى قوله "لويته" أن الفتاة راعها إقدامه على تجاوز الأحراس بلا خوف، فعلمت شدة هيامه بها، فأعجبها إقدامه وزادها به صبابة، فلما دنا إليها "عطفت" ساعدها عليه، وضمته ضمة شوق وفتنة وإعجاب، فجاء دويد ونسب إلى نفسه أنه "عطف ساعدها أو لواه"، لأن إقدامه هو الذي استخفها، ففعلت ما لم تكن لتفعله فتاة غريرة منعمة مكرمة عفيفة مثلها. فإقدامه هو الذي زادها صبابة، وهو الذي نفى من قلبها فَرَق العذراء وحياءها، فعطفت عليه ساعدها وضمته. ذكرى جميلة مثيرة، تدل على ما كان له في شبابه من سطوة بالحرائر الغرائر. أما ليّ السواعد السمينة كما يلوى الحبل، فلا أظنه يصلح أن يكون متاعًا، ومتاعًا يتمدح بذكره شيخ يصيخ لداعى المنية. وأما البيت الثاني: فإني رأيت أن ثنى معصم مخضب، لا يتميز شيئًا من أي معصم لم يخضب. ورأيت الحسناء تخضب، والشوهاء تخضب أيضًا، بل هي أحرصهما على الخضاب والزينة والتجمل. وظننت، والله أعلم، أن "الخضاب" لا يدخل لذة جديدة زائدة على لذة ثنى المعاصم التي لم تخضب. وظننت أيضًا أن المعصم لا يخضب، فرأيت أنه أراد المعصم المخضب الكف. وظننت أيضًا أنى أعلم أن الخضاب كان منذ قديم الآباد من زينة العرس، حتى خصُّوا به ليلة سموها "ليلة الحناء". ثم وجدتُ أن ثنى المعاصم المخضبة الأكف، كَلَىِّ السواعد السمينة، لا يصلح متاعًا يستمتع به أحد، ويذكره رجل في سياق الموت متمدحًا بما كان في شبابه. فانتهت بى الأظانين كلها إلى أنه أراد "خضاب العرس"، وإذا كان ذلك كذلك، فهو يذكر غانية حديثة العهد بالزواج، أحصنها بعلها، وكفَّ طِماحها إلى غيره. وهي في عقيب العرس أولى بأن تمهِّد لزوجها وتتقتل له وتبتغى له مما يسره منها ويرضيه. ولكن يأتي هذا

الشيطان، دويد، فاتكًا عارمًا فيتصبَّاها عن حليلها، ويغلبها على نفسها وعفافها، ويستثيرها إليه فتنسى البعل بتحليل، فيخلو بها، فتكون أشد من الفتاة الغريرة جرأة لأنها عرفت الأزواج، وإذا هو قد ملك هواها، وقهر إرادتها، وإذا هي "تثنى" معصمها عليه مشغوفة به، أي تطوقه ذراعها تطويقًا وإذا بينهما ما قال سحيم عبد بنى الحسحاس. توسِّدنى كفًّا، وتثنى بمعصم ... عليّ، وتَحْوِى رجلها من ورائيا ذكرى تشتعل في دم الشيخ الفانى، من شباب كان له عُرام وفتك لا يبالى. هذا بعض ما أخذته، لا "كل ما يؤخذ". ثم نسب أيضًا إلى نفسه أنه هو الذي ثنى معصمها، لأنها ثنته عليه، فتنة به وشغفًا، ثم سلطان له لا يقهر. 2 - وأخذ علي أيضًا شرح بيت المستوغر في ذكر بنى بنيه: إذا ما الشيخ صمّ فلم يُناجَى ... وأودى سمعُهُ إلا ندايا ولاعب بالعشى بنى بنيه ... كفعل الهِرِّ يَحْتَرِشُ العَظايا فعاب إطالتي في شرح "يحترش"، وقال إن احتراش الإنسان للضب غير احتراش الهر للعظايا، وأرادنى أن أكتفي بأن أقول: "يحترش: يصطاد" وكفى المؤمنين القتال! ورحم الله المستوغر! فيم أتعبنا؟ كان حسبه أن يقول: "كفِعْل الهر يصطاد العظايا" فيستقيم الشعر، ويسقط عنا مؤونة التعب، ونقل ما في لسان العرب! ولكن المستوغر عربي قديم سليم الطبع، فاختار كلامًا -قلت إني لا أستطيع أن أسقط دلالته، وأراد معنى- قلت إني لا أطيق إغفاله. ولما كان ذلك كذلك، نقلت صفة "الاحتراش" كما كانوا يفعلونها، ولم أزعم لنفسي أن احتراش الإنسان للضب، غير احتراش العظايا، فإنه غير صحيح، إذا راقبت هرًّا وعظاء. ولم أرد بما وصفوه من "الاحتراش"، إلا ما يكون فيه من كثرة حركة الهر، ومن الإمساك والإرسال، ومن الغفلة والترقب، ومن الجثوم والقفز، ومن سرعة اليد بضربة، وفرار العظاية منها. وإذا علم من يحب أن يعلم، أن المستوغر، يزعمون، عاش ثلاثمئة وخمسين عامًا حتى أدركه الإسلام فأسلم، فهو خليق أن يعلم أن المستوغر قد

عجز عن أن يفعل فِعْلَ الهِرِّ فيما وصفنا من حركته، وخليق أن يستدل أيضًا بما بدأ به في شعره من ذكر صممه وذهاب سمعه، على أنه ضعف ضعفًا مبينًا ذهب بقوته، فبلغ أرذل العمر، ونسيه الموت نسيانًا تامًّا، أو كما يقولون. ولما كان ذلك كذلك، وكان المستوغر عندئذ غير مطيق أن يفعل فعل الهر المحترش، وظننت أيضًا أن المطيق لهذه الشيطنة، هم العفاريت من بنى بنيه، أجريته على ما جرى عليه كلام العرب من "القلب"، لأنه هنا بين مفهوم من سياق الشعر، ومن صفة المستوغر وعمره، ومن بديهة الفطرة، وأظن أن الأستاذ يذكر مَثَلَهم المضروب في قلب الكلام عن وجهه وهو: "أدخلت الخاتم في إصبعى"، ومثله قول القائل: كانت فَرِيضة ما تقول كما ... كان الزِّناء فريضة الرَّجْمِ أي: كما كان الرجم فريضة الزناء. والفريضة: الحد المفروض عقابًا ونكالا. وقول الأخطل: مثل القنافذ هدّاجون، قد بلغت ... نجران، أو بلغت سوءاتِهم هَجَرُ والسوآت هي التي بلغت مدينة هجر. وهو مذهب لا يحاط به في كلامهم. ولم أفهم اعتراض أستاذنا على "لاعب"، وإيجابه أن يقال -إذا صح ما ذهبنا إليه، وهو صحيح! - "ولاعبه بالعشى بنو بنيه". فالذي أعلمه، والله أعلم، أن قولك "لاعبت الصبى" معناه: لعبت معه، وسواءٌ عندئذ أن تكون أنت البادئ باللعب وهو مستجيب، أم يكون هو البادئ وأنت مستجيب. ولو ذهبنا مذهب الأستاذ لقلنا في قول العرجى: مثل الضفادع نَقَّاقون وحدهم ... إذا خَلَوْا، وإذا "لاقيتهم" خُرْسُ إنهم لا يخرسون حتى يكون اللقاء منك، فإذا كان اللقاء منهم لم يخرسوا. وتصير العربية عجبًا في لغات الناس. وأما ما تبع ذلك من قوله إنه كان ينبغي عندئذ أن يقول: "يلاعبونه وودوا لو سقوه"، فيدخل فيما دخل في السابق. على أنى أرى أجود الروايتين ما ذكرته في التعليق "يفديهم وودوا لو سقوه"، أي هو عليهم بنفسه، وهم يتمنون موته بل قتله بسم يجرعونه إياه بأيديهم. أما ملاعبة الجدود التي ذكرها وظن الشعر يستقيم بها، فربما صحت في جد بلغ

الخمسين والستين، أما جد في أرذل العمر أعشى أصم ميت الأعضاء، فصعب أن يتصور المرء مثله ماشيًا على يديه وركبتيه، يحاور من هنا ويداور من هناك! فوق كل ذي علم عليم. هذا على أن المستوغر لم يكد يقص قصة هذا اللِّعاب حتى ختمها بما يلقى من أذاهم، وأنه لا نجاة له من شرهم إلا أن يموت موتًا مضاعفًا، فقال: فذاك الهم ليس له دواءٌ ... سوى الموت المنطَّق بالمنايا 3 - وأرجئ ما قاله في أبيات الشماخ، وسأفرد لها كلامًا غير هذا، فإنها تحتاج إلى فضل بيان. 4 - أما تعليقه على قول اللعين المنقرى: ويترك جِدَّه الخَطَفَى جريرٌ ... وَينْدُب حاجبًا وبنى عِقالِ فإنه قال: "معنى يندب هنا، يجرح أعراضهم بالهجاء". ولم أجد في كتب اللغة: "ندبَ"، أو "أَنْدَب" بمعنى جرح، ولا أظنه يصح من جهة الاشتقاق. وأظن الكلمة محرفة، ولا يزال البيت متطلبًا تصحيحًا ينفع (¬1). 5 - أما ما عابه من شرح بيت جرير في هجائه عمر بن لجأ التيمى: ألَّا سوانا ادَّرأتم يا بني لَجَأ ... شيئًا يقارِبُ، أو وحشًا له عُررُ فإني قلت إن جريرًا اشتق "ادرأه من الدريئة، وهي الحلقة التي يتعلم عليها الطعن والرمى". ثم رأيت في تاج العروس مادة "درأ" ما نصه: "ادَّرأوا، وتدرّأوا: استتروا عن الشيء ليختلوهُ"، أو جعلوا دريئة للصيد والطعن. وأستاذنا ينكر هذا، ويراه بعيدًا، ولكني بعد أراه قريبًا. فإن عمر بن لجأ من شعراء تيم الرباب، كانوا قد تعرضوا لجرير بالهجاء فقال يهجوهم وبنى تيم: ¬

_ (¬1) ذكر أستاذنا -رحمه الله- (الطبعة الثانية 1: 402) أن هذه الكلمة وردت في مخطوطة م: وتثرب (غير أنها غير منقوطة) فنقطها كما رأيتَ، وهي من باب ضرب، ومعناها: وبَّخه وعيَّره بذنوبه وعاب أفعاله.

قد كنت أحسبُ في تيم مصانعة ... وفيهم عاقلا بعد الذي ائتمروا تعرض التيم لي عمدًا لتهجونى ... كما تعرض لاست الخارئ الحجر ألَّا سوانا ادرأتم يا بني لجأ ... . . . . . . فهو يذكر تعرض شعراء تيم له، إذ جعلوه هدفًا لهجائهم، فقال لهم: هلا اتخذتهم سوانا غرضًا. أما مسألة "لها غِرَر" التي جاءت في الأغانى والديوان، وهما مطبوعتان سقيمتان غير محققتين، فالأستاذ هي أن "الغرر الغفلة"، وأنها أحسن دلالة على ضعف عمر بن لجأ. وأن "عرر"، وهي الأذى والشر، دالة على قوة ابن لجأ، وهذا غير مراد الشاعر بلا ريب. فآثر الأولى. وأخشى أن يكون الذي أوقعه في هذا الرأي، أن شيئًا من شرح البيت سقط مني عند الطبع، وهو قولى: "والوحش: الجائع الذي لا طعام له. يعني سبعًا أو ذئبًا جائعًا جاء يتعرض لغنمهم. يقال: بات وحشًا، أي جائعًا لم يأكل شيئًا فخلا جوفه، قال حميد بن ثور في صفة ذئب: وإن بات وَحْشًا ليلة، لم يَضِق بها ... ذراعًا، ولم يُصبح لها وَهْوَ خاشِعُ" ومع ذلك فقد كان ينبغي أن أزيد الأمر بيانًا حتى لا يقع قارئ في مثل ما وقع فيه الأستاذ صقر، فأقول إن جريرًا كان يهجو التيم بأنهم رِعاء أذلاء، وعيرهم بذلك في شعره، يقول: وقد يحسن التيمى عقد نِجافه ... ولم يُحْسِنوا عَقْدَ القلادة بالمُهر والنِّجاف: جلد يشد بين بطن التيس وقضيبه فلا يقدر على السفاد. يقول: أنتم رعاء أخساء تحسنون هذا، ولا تحسنون شأن الخيل. ويقول لهم أيضًا، يذكر كلاب الرعاة وزرائبهم، وأنهم ليسوا أهل حرب، ولا أهل شرف يفدون على الملوك، ولا أهل حلبات لسابق الخيل: وتَيْم تُماشيها الكلاب إذا عدوا ... ولم تمش تيم في ظلال الخَوافقِ

وتيم بأبواب الزُّروب أذلةٌ ... وما تهتدى تيمٌ لباب السرادقِ تَمْسَح تيم قُصَّةَ التَّيْس واستَه ... ولا يمسحون الدهر غُرَّة سابِقِ فهو إذن أراد أن يقول لهم: هلا رميتم بما تظنونه سهامًا تقتل، شيئًا مما يطيف بأغنامكم، أو ذئبًا ساغبًا جاء يعرّكم، وينزل الأذى والشر ببهائمكم. يعرض بأنهم رعاء أذلاء لا شرف لهم. 6 - أما هذه السادسة، فقول المتوكل الليثى: إنا أناس تستنير جدودنا ... ويموت أقوام وهم أحياء قد يعلم الأقوام غير تنحُّلٍ ... أنَّا نجوم فوقهم وسماء فعاب قولى: "الجدود جمع جد: وهو الحظ والسعادة والغنى والعظمة، ولو أراد الأجداد والآباء لكان حسنًا"، وأنا أرجو ممن عنده نسخة من الطبقات يضرب بالقلم الأسود، على هذه الجملة الأخيرة، فهي غير حسنة، بل هي مضللة. وأشكر الأستاذ صقر أن دلنى على فسادها وإضلالها. ولكنه هو يقول: "إنه لم يرد إلا الأجداد والآباء، فهم الذين يستساغ التمدح له بإضاءة ذكرهم وسالف مآثرهم بعد دثورهم. وبذلك تصح مقابلة هذا الشطر، وبالشطر الثاني "ويموت أقوام وهم أحياء". وأما إرادة التمدح بالحظ والغنى والسعادة والعظمة، شيء لا غناء له هنا، ولا يسوغ مثله في هذا المقام، ولا يتسق ذكره مع الشطر الثاني". وهو كذلك. ولكني أقول بل أزعم -مع الأسف- أنه عنى بهذا الشعر "أقوامًا" يهجوهم يزدريهم ويضع من شأنهم، ويقابل بين قومه وبينهم، فيقول في الشطر الأول والبيت الأول: "إنا أناس" من شأننا كذا وكذا، ويقول في الثاني: وأنتم "أقوام" نعتكم كذا وكذا، ثم يقول في الشطر الأول من البيت الثاني: وأنتم تعلمون "الأقوام" ما أذكره لكم في الشطر التالى. فقابل بين "أناس" وبين "الأقوام"، وكرر ذكر "أقوام" مرتين. فلعله أصبح واضحًا. يقول: نحن أناس حياتنا حياة، لا يزال مجدنا وحظنا من السعادة والعظمة يُضئ ويستنير على الأيام. وفي الناس "أقوام" حياتهم موت من بعد موت،

لا يزال أمرهم ينطفيء بالذلة والضعة، ولا يزال ذكرهم يموت بالصغار والخمول، أنهم يعدون في الأحياء. أو كما قال ابن رعلاء الغسانى: ليس من مات فاستراح بميْتٍ ... إنما الميْت مَيِّتُ الأحياءِ إنما الميت من يعيش كئيبًا ... كاسفًا باله قليل الرجاء ثم يقول لهم: وأنتم أيها "الأقوام" تعلمون علما ليس بالظن -وهو شيء ولا ننتحله- أننا من فوقكم نجوم تضئ وتزهر، وأن مجدنا وحظنا من الرفعة والعظمة يظلكم بسماء تعجز المتناول. وكل ذلك تعريض بهم، وبما هم فيه من الخِسَّة والسقوط. وقد أطلت، ولكني آثرت أن أنفي الريب من نفس من يرتاب، وأن أصحح طريقى، وطريق أخي الأستاذ صقر، وطريق القراء، في سعينا إلى طلب الحق والبيان عنه. فإن رضى أخي، فلعمرى، لقد أعجبنى رضاه، وذلك يقينى به. وحسبه من الشكر أن أجعله لي معوانًا على تدارك زلتى، وإقالة عثرتى، وتقويم ما اعوج من أمري.

الاستعمار البريطاني لمصر

[الاستعمار البريطاني لمصر] كلمة ألقيت في اللجنة العليا للحزب الوطني 1 - حين دعيت إلى إلقاء هذه الكلمة بين أيديكم، كان أوّل ما فكرت فيه أن أعدّدَ أنواعَ الأخطار التي تحيط ببلادنا، والأخطارِ التي تفعَلُ في كياننا فعل السوس في العرقِ العتيق. ولست أعني مصر والسودان وحدهُمَا، بل أعني جميع بلاد الشرق، وبلاد العربِ، وبلادِ الإسلام، فنحنُ فيما أرى رقعة واحدة، لها هدفٌ واحدٌ هو الحرية، ننازلُ عدوًّا واحدًا لهُ هَدَفٌ واحدٌ، هو أن يسلبنا هذه الحرية. 2 - ولكنّى رأيتُ الأخطارَ أكْثر من أن يحاط بها في حديثٍ واحدٍ، ورأيتُها جميعًا ترتدُّ إلى زَمَنٍ بعيدٍ، ورأيتُها قد تطوّرت أطوارًا على كرّ الأيامِ. ورأيتُ المرءَ إذا رامَ أن يقسِّم هذه الأخطار الداهمة أقسامًا كثيرةً فَعَل، وإذا أبى إلّا أن يحصرَها في شيء واحد فَعَل أيضًا غير آثم ولا مجانبٍ للصوابِ. وهذا الشيء، هو الاستعمار. فالاستعمارُ خليقٌ أن يجمعَ في هذا اللفظ البرئ من اللغة كُلّ معاني الأخطار، وكُلّ خبائث الشرور التي اجتمعت في أرض الله منذ كانت هذه الأرض، فآثرتُ أن أجعلَهُ مادة هذا الحديث، لا لأنّه شئٌ حَدَث اليومَ بعد أن لم يكن بالأمسِ، بل هو كما تعلمون قديمٌ قد تطاول عليه الأَمَد، والحديثُ عن شروره قديم أيضًا منذ كانَ هذا الخبث اللَّعين. ولم تزلْ أرجاءُ الشرقِ تردّد أصداءَ الزئير العالى، زئير الأحرار في كُلّ بقعة من بقاعه، ولم تزلْ ترجّع أيضًا أناتِ المعذبين، الذين صبّ عليهم الاستعمارُ عذابًا غليظًا ونكالًا شديدًا في كل مكانٍ. ليسَ الاستعمارُ إذنْ شيئًا حديثًا كانَ بعد أن لم يكنْ من قَبْلُ، وبيدَ أنّه شيءٌ يتجدّد كُلّ يومٍ. ويتّخِذُ صورًا مستحدثةٌ مختلفة الأشكالِ: بعضُها بَشِعٌ تنكرهُ العينُ عند النظرة الأولى، وبعضُها ثقيل بغيضٌ إلى النفوسِ، ولكنّه يلحُّ إلحاحَ الذبابِ حتى ييأسَ المبتلَى به، فيعرضُ عنه تارةً ويتجشّمُه أخرى، فإذا ¬

_ (*) يوم الخميس 3 جمادى الأولى سنة 1368، 3 مارس سنة 1949. وهذه الكلمة لم يضع لها الأستاذ شاكر -رحمه الله- عنوانا، ولم تنشر من قبل، أخذتها من أصولها بخط يده، وجعلت عنوانهما كما ترى.

طال الزمن أَلفَ هذا البغيض الثقيل فلم ينكره. أما أخبث صوره وأخفاها فهو الذي يأتي القلوبَ من أضعفِ أركانها، فيتمكّن ويضربُ بعروقه، ويستفِحلُ ويتفشَّى، حتى لا يكادُ ينفِرُ منه أشدُّ الناسِ بُغْضًا للاستعمار، وأصدقهم حَمْلةً على أصحابه وطواغيته. 3 - والأخطارُ الحديثة التي يشملها لفظُ الاستعمار كثيرةٌ لا يحصرها عدٌّ، وأظهرهَا الآنَ خَطَر المطامِعِ الديمقراطية التي هَبَّتْ على الشرق كالذئابِ الضَّوارِى في كُلّ أرضٍ وفي كُلّ ميدانٍ. وَخَطَر المطامع الشيوعية التي تَتَدسَّسُ إلى كُل قلبٍ، فتلقى فيه فتنتها، وتنفث فيه سُمُومها، ومن البلاءِ أن تجدَ كثيرًا من الناس لا يزالون يؤمنون بأنهم سوفَ ينالون خيرًا كثيرًا -أو بعض الخير على الأقل- على يد الفئة الديمقراطية، وأن تجد آخرين لا يزالون يؤمنون بأن الفئة الشيوعية لا تضمر كبيرَ شرٍّ لهذه البقعة المسكينة من بلاد العرب أو بلاد الإسلام أو بلاد الشرق. وهذا الضربُ من الإيمانِ، بل هذا الضربُ من الغَفْلَة، كان منذ قديم أكبرَ مَقَاصد الاستعمار، سَعَى إليه، ولا يزال يسعى إلى الإكثارِ منه، وإلى تزيينه عند الجَمَاهير، لا عند الطبقة المثقَّفة وحسبُ. ولقد أدرَكَ الاستعمارُ ما شاءَ من هذا المقصد، فمن أجل ذلك رأيتُ أن أَصرف وجه الحديث إلى ناحية من نواحي الاستعمار، أراها أجدَرَ بالبيانِ وبالفَهْمِ، وأرى التقصير في بيانها وإفهامها لجماهير الناسِ، هو الخطر الحقيقي الكامن، وراءَ خطر الديمقراطية ووراءَ خطر الشيوعية، أو وراء خطر الاحتلال العسكري السافر، أو خطر الاحتلال الاقتصادي الملثم، بل هي مادّة كُلّ خطرٍ يتجدّد علينا إلى أن يزول الاستعمارُ عن وجه هذه الدنيا. 4 - إنّ في الاستعمارِ فضيلةً واحدةً هو أنه شيءٌ بشِعٌ بغيضٌ، لا يشُكُّ أحدٌ في سوء مغبَّته إذا مَسَّه، أو توهَّم أنه سوف يمسُّه، وأنَّه كُلُّه لا يستطيع أحدٌ أن ينبرى للدفاعِ عنْه، وأنّه خَبَثٌ سافرٌ، لم يتيسَّر لأدْهَى الناسِ أنْ يذكرَه مصرِّحا باسمه، ثم يزعمُ أنه خيرٌ من بعضِ نواحيه، أو أن يحسّنَه جَهْرَةً في عيون الناس. وإذن فالاستعمارُ مكفيُّ الشرّ من هذه الناحية، وهي فضيلةٌ تُذْكَرُ له بالخيرِ.

5 - نعم، لم يستطعِ المستعمرون أنفسهم حين دخلوا البلاد التي استعمروها، أن يقولوا للعالم، أوْ أن يقولوا لأهل البلاد التي ابتُلِيتْ بهم: لقد جئنا نستعمركُمْ، أو لقد جئنا نحتلّ بلادكمُ. كلّا، بل اخترعوا للتدليس على أنفسهم شيئًا سَمَّوهُ "عبءَ الرجُل الأبيض"، أنفةً من خَسَاسة مَا يرتكبون. ثم قالوا بلسان السياسة: إنّما جئنا لإنقاذ هذه البلاد من الفوضى، أو جئنا لتخليص ذلك الشعب من الجهل والفساد، أو جئنا لرفع ظُلْم المهراجات أو الباشوات أو الطبقة الحاكمة عن الشعب الفقير المضطهد، أو جئنا لترسيخ دعائم عرشٍ تزعزعه الثورات والفتن، أو جئنا لحقٌ بسيط جدًّا أو واضح جدًّا، هو الحقّ المكتسب في حماية طريق الإمبراطورية. هذا هو الأسلوب القديم الذي كان المستعمرون يعبِّرون به عن عواطفهم النبيلة، وعن الحوافز السامية التي تدفعهم إلى ارتكاب الخيراتِ واقترافها - كارهينَ أو رَاضين. 6 - كان الاستعمارُ يومئذ في أوائل أمره، وكان المستعمرون يعرفون أتم معرفة أن الشعوب التي ابتُلِيتْ بهم سوف ترى استعمارهم سافرًا كما هو، لأنه كان يأتي عقب الغزو الحربى، ولأنه كان يقوم يومئذ على الاحتلال العسكرى الطاغِى وحده. وكانوا يعلمون أنهم مهما قالوا في تسويغ هذا الاحتلالِ، ومهما زيَّنوه بهذه العواطف الرقيقة والمقاصد النبيلة، فلن يجدوا من الجيل الذي شهد قارعة الاستعمار تحلُّ به إلّا عاطفةً واحدةً، هي النفورُ من هذا المعتدى على حريته، الغاصب لبلاده، المتسلّط في أمره بقوّة السلاح والإرهاب. ويعلمون أيضًا أنّ هذا الجيلَ سوف ينطوى على نفسه صابرًا مرابطًا، يترقَّبُ الفرصة للانتقاض على من احتَلّ بلاده، ويجمَعُ الأحقادَ في قلبه على الطاغى المستبدّ، ويُوَرِّث أبناءه هذه الأحقاد. 7 - ولو أصرّ الاستعمار البريطاني -مثلا- على أن يَظلّ احتلالًا عسكريًّا مجرّدًا منذ سنة 1882، لظلَّ الناسُ يجمعون له من الأحقاد والأضغان، ما كان خليقًا أن يقوّض أركانَهُ في أقل من خمسين سنة، ولم يُغْنِ عنه يومئذ "عبْء الرجل الأبيض"، ولا سائر العواطف النبيلة التي دخل من أجلها هذه البلاد.

ولو ظل هذا الاستعمار سافرًا كيوم جاءَ، لظلّ الصراعُ بيننا وبينه سافرًا أيضًا، ولا انتهي إلَّا إلى أحد أمرين لا مناص منهما: إمّا أن يقضى علينا جميعًا، وإمّا أن نقضى عليه نحن جميعًا. والأمر الثاني هو الذي لا شكّ فيه، لأنه مصيرُ الاستعمار في كُلّ أرضٍ نُكبتْ به. بيد أنَ الاستعمار البريطاني -وهو رأسُ الاستعمار وحاميه في العالم كُلّه- أخبثُ من أن يظَلَّ ثابتًا على حالٍ واحدةٍ، يعلم أنّها تحشُد عليه الضغائن والأحقادَ، وتفضى به إلى هذا المصيرِ المحتوم. فماذا فَعَل؟ وكيف دبَّر وقدّر؟ 8 - والإجابة على هذا السؤالِ القصيرِ من أعسَرِ الأشياء، لأنّها لا تتعلَّق بفترةٍ قصيرةٍ من الزمن، ولا بشَئ أو شيئين من أمور السياسة، بل هي تشمل أَقْصى ما تتخيَّل من الأشياء، وعلى أطولِ فترةٍ من الزمانِ، وأنا في حيرة تجعلني لا أستطيعُ أن أصوّر لكم في هذه الكلمة كُلّ ما يتمثل في صدري من أساليب الاستعمار، ولا أن أجمعها على ترتيبٍ أستحسنُه وأرضَى عَنْه. ولكني أذكر لكم أمرينِ أضمرهما الاستعمارُ البريطاني منذ وَضَع قَدَمَه في أية أرضٍ، وهُما فِعلُ الزَّمَن، وفِعْلُ الشهواتِ خيرها وشرّها. فهو يستعين بالزمن على الأمم، يطاولُها ويراوغُها، ويضربُ الضربة القاتلة ثم يسكنُ حتى تسكنَ النفوس، ثم يعودُ فيضربُ الضربة الأُخْرى ويكمن. وهكذا دواليك حتى يَصِل إلى الغاية التي ينشدها على مرّ الزمن. وهو يستعين بشهواتٍ الأفراد والجماعات على مرّ الزمن وتطوُّره، ويعطيها بقَدَر، ويحرمُها بقدَرٍ، حتى يستطيع على مرّ الزمن أيضًا أن يتحكم في توجيهها إلى الغرض الذي يَرْمِى إليه. 9 - ولقد علم الاستعمارُ منذ أول يومٍ أن الاحتلالَ العسكرى السافِر إن هو إلّا جبروتٌ يُفْرض على الناس فرضًا، ويصبُّ عليهم صَبًّا وهو إذن سئ المغبّة. فهو يرتكبه إلى حين، على أنه اضطرار وشرٌّ لا مناص منه، ثم يجهد جُهْدَه خلالَ ذلك أن ينشيء نظامًا تامًّا يكفُلُ له البقاء الثابت بغير حاجة إلى إظهار الاحتلالِ في أبغضِ صُوره وأظهرها، وهو الاحتلال العسكرى المحض، لكي يتفادّى اشمئزاز النفوس وانطواء القلوب على الأحقاد والبغضاء. وهو ينشيء هذا النظامَ على

مراحِلَ، وعلى أوسع نطاقٍ يتصوره الناظرون، وبأخبث الأساليب التي تخطر على النفس الإنسانية. إنه نظامٌ يتعلَّق بالسياسة، كما يتعلّقُ بأساليب الحكم وبضمائر الحاكمين، ويتعلَّقُ بالمعاملات بين الناس، كما يتعلَّقُ بأخلاق الجماعات والأفراد، ويتعلّق بأعمال الناسِ في الحياةِ من تجارة وصناعة وزراعة، كما يتعلَّقُ بأفكار الناسِ في شئون العَقْل من علم وأَدبٍ وسياسة وفنّ، ويتعلّق بمعايش الناسِ في بيوتهم ومجتمعاتهم، كما يتعلّقُ بأهوائهم وشَهَواتهم في هذه الحياة، ثم يتعلَّقُ بآثار ذلك كُلّه في تدمير شعبٍ بأسره تدميرًا منظَّمًا لا يعرف إنسانيَّةً ولا شرفًا ولا كرامة. فهذا النظام كما ترون لا ينتهي إلى أسلوب من أساليب الحكْم في البلاد، بل ينتهي إلى أبشعِ غايةٍ في هذه الدنيا -إلى جمهور مسكين تُسَلَّطُ عليه كُلّ ألوان الفساد والانحلال، يأتيها طائعًا مختارًا حينًا، وراغبًا متحمّسًا حينًا آخر، وهو لا يدرى أن ما يأتيه هو البلاءُ الأعظم والشرُّ المستطير- بل أفظَعُ من ذلك إذ يمضِى الزَّمنُ فإذا الجمهور يعدّ ذلك الشرَّ خيرًا يحرصُ على إتيانه، ويظنُّ من ينهاهُ عنه أو يزجره، هو الكاره له، وهو عدوّه الذي يبغي له الغوائل، ويرى الناصح المشفق دسيسًا عليه يريدُه أن يتأخر وهذه الدُّنْيَا من حوله كُلَّها تتقدَّم. وأنا لا أرتاب في أن الجماهير مهما فعل بها الاستعمار، لن تفتأ مخلصة في بُغْضه، ومخلصة في حبها لأوطانها -ومع ذلك فهي لا تفتأ تسيرُ أيضًا في أخفي طرق الاستعمار وأوغدِها، تسيرُ فيها لأنها طرقٌ تزيُنُها الأهواءُ والشهواتُ، فلا تبصر فيها إلّا ما تحبُّ وما تشتهي. ومن للجماهير بأن تملك أهواءها وشهواتها، وليسَ لَهَا يومئذٍ هادٍ يعصمُها من مهالك هذه الأهواء والشهوات. 10 - هذه هي الدُّروب التي سلكها الاستعمار إلى تحقيق شرور كثيرة، ثم انتهى إلى شر منها، بل إلى الشرّ الأكبر -إلى أبناء المضطهدين، وإلى سلالة المعذَّبين، وإلى فرائس الغاصبين، فإذا هم يجاهدون في أن يرفعوا عن أنفسهم وعن أبنائهم آصارَ الاستعمار، وفي أن يميطُوا عن بلادهم شرَّه وشَناعته، وفي أن يدفعوا عن أعراضهم ذُلّه وعارَه- وهمْ في الحقيقة أعوانٌ له، وهم خدمٌ لدعوته -بل هم شرٌّ من ذلك، هُمْ معاول هدْمٍ يهدم بها الاستعمارُ كيان أمّتهم وشَعبهم

وبلادهم، ويهدمُ أركان الحرية في كُلّ عمل وفي كل مكانٍ- ولكنهم مع كُلّ ذلك يظنُّون أنفسهم سَواعِد تبنى لا مَعَاول تهدم. 11 - وقد استطاعت أمّ الاستعمار، أم الخبائث -بريطانيا العظمى- أن تجمعَ في احتلالها لبلادنا من ألوان الخداع والتغرير والنفاق والعبث بالضمائر والنفوس ما لم تجمعه لأمة غيرنا. فمن الخيرِ لنا أن ننظر في تاريخنا إلى أساليب الاستعمار كيف كانت، وما هي الغايات التي سعى إلى إحرازها، وما هي الأحوال التي جاهد في سبيل إيجادها، حتى تيسَّر له أن يخفّف صور الاحتلال العسكرىّ الذي يملأ عليه القلوبَ نقمةً ومرارة، فذلك أحرَى أن يعصمنَا من الزلل في تفسير سياسة الاستعمار، وأن يعصمنا من طريقٍ وبيلةٍ نسيرُ فيها إلى هوَاه -عُمْيًا ونحنُ ندّعى لأنفسنا الإبصار، أو يَجْعَلُنا نخرّب بيوتنا بأيدينا ونحن نظن أننا نعمّرها. ودراسةُ هذه الأساليب هي خلاصة المحنة التي مَرَّتْ بنا، يجبُ أن نعرفها تمامَ المعرفة، ويجبُ على كُلّ منّا أن يذكرَها في كُلّ ساعةٍ وأنْ يقرأ على هُدَاها كُلّ خبرٍ، وأن يطبّق فحوَاها على كُلّ ما يرى وما يَسْمع، ويجب أيضًا أن يذيعها بين الناس في كُلّ مكانٍ، وبين كُلّ طبقة من طبقات الشعب. فهي تفسّر له ولنا هذا البلاء الذي نعيش فيه اليوم، وهي التي تقينا كل فتنة جديدة من فتن هذا الاستعمار. 12 - دخلتْ بريطانيا بلادنا غازية في سبتمبر سنة 1882، وادَّعتْ أنها جاءت لكي توطّد لنا أركانَ عرشنا، وتطفيء نار الفتنة العرابية كما يسمّونها، وزعمتْ أن بقاءها لن يطول، وأن مصيره إلى الجلاء القريب. بيد أن بريطانيا المستعمرة انتهزت الفرصة الأولى لتضرب ضربة حاسمة، فلم تمض خمسة أيام على دُخُولها حتّى ألغت الجيش المصريّ، ومزّقت البحرية المصرية، وأغلقت مصانع السلاح، وسرّحت الجنود، وجرّدتْ الضباط الصغار من رتَبهم، وقدمت كبار الضباط للمحاكمة، ووضعت الشرطة كُلَّها تحت سيطرتها المباشرة، وتتبَّعَتْ الأحرار الذين اشتركوا في الثورة، فقبضت عليهم أو شردتْهم، حتى يخلُو لَها الطريق، فلا يجدُ الشعبُ من يستجيشه إلى الانتقاض عليها. هذه هي الضربة

الأولى، ضربةٌ سريعةٌ تستعين بريطانيا بالزَّمن على نيل غايتها منها -وهي أن لا يكون لمصر جيش إلّا صورةٌ من الصور، وأنتم تعلمون كيف تم هذا، وإلى أي مدّى وُفِّقت بريطانيا في تحقيق غايتها إلى هذا اليوم. 13 - نظرت بريطانيا بعد دُخُولها، فإذا هي أمامَ شعبٍ هُزِم في معركةٍ كان يشتركُ فيها شِيبُه وشُبَّانه وفقيرُه وغنيُّه، وجاهِلُه وعالمه. فلا قِبَلَ لَها بأنْ تصدمَه صدمةً واحدة بإظهار الاحتلال العسكرىّ الصَّارِخ في أبغض مظاهِرِه، خشيةَ أن يثورَ بعد قليل ثورة جائحة. ولكن لابُدَّ من إضعافِ ثِقَة هذا الشعبِ بنفسه وبرجاله وبحكَّامه دون أن يجد غضاضةً مُرّةً تشمئزُّ منها النفوس، ولابُدَّ من أن يأتي ذلك على مراحِلَ، وأن تستمرَّ هذه المراحِل حتى تظفر بالسلطة كاملةً غير منقوصة. فتظاهرت بريطانيا بالعفّة عن الاستيلاء على مقاليد الحكْم كاملة، ونصحت توفيق بأن يستدِعي رجُلًا -كان منذ سنةٍ واحدٍ- فيما يعرف الناسُ جميعًا، نصيرًا لعرَابى باشا، إذ جاءَ على إثر ثورة الجيش، فتولّى الوزارة بمعونة العرابيين، وتحقّق على يديه كثيرٌ مما يريدون، وهذا الرجُل هو شريف باشا. وأرادتْ بريطانيا أنّ تختار هذا الرجل بعينه، لأن الشعب كان يعرفُه، ويعرف إخلاصَهُ لبلاده، وحبَّه لخيرها، وإشفاقَه عليها. وعلمتْ بريطانيا أنَّه لن يتردّدَ طويلًا إذا استدعِىَ في هذه المحنة الماحقة، لأنه سوفَ يظنُّ أنه مُسْتطيعٌ أن يدفعَ بعض الشرّ عن بلاده. فإذا جاءَ فمجيئُه يسكّنُ ثائرة النفوسَ الجامحة، ويجعلها تصبِر حتى تنظُر ماذا يفعل، ومجيئُه أيضًا يخفف وقع الاحتلال العسكرىّ، وسيقول الشعبُ: هذا رجُلٌ كان قريبًا إلى عرابي يتعاونُ مع الغُزَاة، إذن فلعلَّهم راحلونَ ولعلهم أرادوا بعضَ الخير كما يزعمون. ويأتي شريف في أغسطس (¬1) سنة 1882 ليتولّى الوزارة، معلنا في كتاب تأليفها أنّه جاءَ وغايته صيانة البلاد "ونجاحُ الوطن ماديًّا وأدبيًّا، وتعميم المعارف، ونشر لواءِ العدالة، وتوسيع نطاق ¬

_ (¬1) لابد أن يكون توليه الوزارة متأخرا عمَّا ذكر الأستاذ -رحمه الله-، لأن الاحتلال الإنجليزي لمصر تم في 14 سبتمبر 1882.

المبادئ الحرّة الملائمة لهيئتنا الاجتماعية والسياسية" يعني "مجلس النواب" و"الدستور". وقد خُدِع شريفِ بنفسه وببريطانيا، فقد ظنّ أنه يستطيعُ أن يفعل شيئًا، وأضمرت بريطانيا أن تبدأ بتلويث هذا الرجل الذي كان نصيرًا لعرابي أو نصيرًا للدستور -كما يطلبه عرابي- وأستطيعُ أن أقولَ إنّ شريفًا كانتْ فيه غفلةٌ شديدةٌ، لولاها لقاوَم بريطانيا بدلًا من أن يتعاون مَعَها على يد الخديو الذي زعمت بريطانيا أنها جاءت تثبت له دعائم عرشه. وظلت بريطانيا تطوى الرجَل وتبسُطه سنة ونصف، حتّى جاءت الساعة، فإذا هي تستطيع أن تستغني عنه وأن تسقطه من حسابها جملةً واحدة. ولكنْ بعد أن تعاون مَعَها، وبعد أن ألف الشعبُ تعاونه معها، وبعد أن رَجَا الشعبُ أن تُرْفَع عنه نقمة الاحتلال على يد هذا الرجل الذي عارضَ الخديو وعارضَ عرابي، وبقي مع ذلك موضع ثقتهما في الأزمات. ففي 7 يناير سنة 1884 رفض شريف إخلاء السودان كما طلبت بريطانيا، فإذا وزير خارجية بريطانيا "جرانفيل" يرسل برقية إلى مصر هي أغرب بل أوقح برقيّةٍ في تاريخ الحياة السياسية المصرية يقول فيها: "من الضروريّ أن يتخلّى عن منصبه كل وزيرٍ أو مدير لا يسيرُ وفقًا لسياسة بريطانيا". وتؤكد البرقية أيضًا "أن حكومة جلالة الملكة -البريطانية طبعًا- واثقةٌ من أنّه إذا اقتضت الحالُ استبدال أحد الوزراء، فهناك من المصريين، سواءٌ من شغلوا منصب الوزارة، أو شغلوا مناصبَ أقل درجةً -من هُمْ على استعداد لتنفيذ الأوامر التي يصدرها إليهم الخديو، بناءً على نصائح حكومة جلالة الملكة"، استقال شريف غضبًا للسودان، ولكنه طُردَ في الحقيقة طردًا لا كرامة فيه، وخرجَ لم يَفْعَل شيئًا مما كان يرجوهُ الشعب، وخابَ رجاءُ الشعبِ في رجُلٍ من رجالاته، وبقى شريف ساكنًا لا يستطيع أن يحرّكَ سكونَ هذا الشعب المسكين، وانزوى بين جدران بيته. 14 - ويبدأ الفصلُ الثاني من المسرحية التي يرادُ بها إذلالُ الشعبِ وتوهينُ عزمه، وتبديدُ ثقته في رجاله. فيستدعى رياض باشَا إلى تأليف الوزارة، ولكنه

يأبَى، لا لأنه ممن يؤمنون بمقاومة الاحتلال، أو من الذين يعملون عملًا صادقًا في مقاومته، بل لأن مسألة السودان "بَغْى ظاهر لا يستره شيءٌ". 15 - ويأتي الفصل الثالث، وترى بريطانيا أن خروج شريف وإباءَ رياض، لم يُثرْ غضبة هذا الشعب الذي غاب عنه أَحرارُه وأسودُه. فتتعمَّد إذلالَه إذلالًا سافرًا لترى ما وراءه. وتأْتى بأرمنىّ خبيثٍ، ممن ابتليت بهم مصر كما ابتليت بسائر الأجانب. فيتولّى وزارة مِصْر نوبار، ويقضى في السودان بما تُرِيد بريطانيا، وتجدُ بريطانيا شعبًا ساكنًا لا يغيّر عليها ولا يثورُ. فتلقى حَبْلَ هذا الأرمنىّ على غاربه، يعيث ما شاءَ أن يعيث في وزارته من يناير سنة 1884 إلى يونية سنة 1888. ويختلفُ هذا الأرمنى مع توفيق لأسبابٍ تافهة، فيستقيل، ولا تبالى بريطانيا أن تنصر من نَصَرهَا وسار في خدمَتها. ولماذا؟ لأنها لا تأمن أن يطولَ إذلال الشعب بهذا الأرمنى، فتسوء العاقبة. ثم هي تريد ما هو أفْعَلُ من مجرّد الإذلالِ -تريد أن يشهَد الشعب المسرحية التامة التي تفقده ثقته بنفسه وبرجاله. 16 - ويبدأ الفصل الرابع. هذا الذي انتصر لشريف في مسألة إخلاء السودان ورفض الوزراة أين هو؟ لقد مضى على هذا الإخلاء أربع سنوات، لعله نَسِىَ، ولعلّه لا يرى الآن بأسًا في قبولها، ولعلَّه يظنُّ كما ظنّ شريف أنه سوف يرفع عن بلاده شيئًا من هذه الغاشية، وأن يردّ عنها بعض شرور الاحتلال، بالتعاون مع الاحتلال. وصدق حدسُ بريطانيا، فإذا رياض باشا لا يأنفُ أن يؤلف الوزارة، مغالطًا نفسه، ومغالطا عيون نَظّارة الشعب. ويظل رياض ينزلق في هَوَى بريطانيا الخفي وكيدها المسموم، ويلوّث نفسه تارة ويَغْسِلُها أُخرى، ويتورطُ في أشياء تضرُّ مصْر، فتكافئه بريطانيا بأن تأذن له في عمل يقابله يظنّ أن فيه مصلحة ظاهرة لمصر ويسمرّ يفعلُ ذلك، وتستمرّ بريطانيا في كيدها له ولشعب مصر من يونية سنة 1888 إلى مايو سنة 1891. وذلك حين جاءه الأمرُ الملزم بتعيين مستر سكوت مستشارًا قضائيًا. فينفر رياض من هذا العدوان، ويأبى ويصرُّ على الإباءِ، ثم يلين على مضضٍ، ثم يستسْلِمُ، وتكرهُ بريطانيا هذا التلكؤ، فهو كان خليقا أن يعلم كما علم شريف من قبل، أن برقية جرانفيل توجب على الوزراء وغير الوزراء أن يسمَعُوا ويطيعُوا. ولقد صبرت بريطانيا عليه ثلاث سنوات حتى

يتمَّ تلويثه، وإظهارُ عجزه على عيون الشعب. وقد تم لها ما أرادت وإذن فليستقل، فاستقال بعد تعيين سكوت بثلاثة أشهر، وانزوى كما انزوى شريف من قبل. 17 - لقد مضت الآن تسع سنواتٍ على هذه المسرحية التي يشهدها الشعبُ ليستكين ويخضَع. ولم تجد بريطانيا أثرا ظاهرًا لتلويث هذين الرجلين وامتهانهما، ولم تجد شعبًا ينكر إذلاله بهذا الأرمنى نوبار، وإذن فقد آن الأوان للإتيان بمصري آخر كانت بريطانيا تعلمُ أحسن العلم أنه يرضى كل الرضى بالسعى في خدمة بريطانيا العظمى مهما كلّفه هذا السَّعْى، وأنه سامع لها ومطيعٌ كما تشاء وفيما تشاءُ. ولقد كانت تستطيع أن تفرضه منذ أوّل يوم دخلت فيه مصر، ولكنّها لم تفعلْ، لأنه ذخيرةٌ ادَّخرتها حتى تتمَّ معالجة هذا الشعب وترويضَه على قبول الواقع، وبعد أن يفقدَ بعض إيمانه بجدوى المُقَاومة، وبعد أن تطمئن إلى أنّها بلغت الغايةَ في اختبارِ إرادته وثقته وعزيمته. ويبدأ الفصل الخامِسُ من المسرحية، فيؤمر مصطفى فهمي، وزير الاحتلال الأعظم، بتأليف الوزارة في 14 مايو سنة 1891. وهذا الرجل هو الذي قال فيه ملنر "إنّه أول رئيس للوزارة المصرية يشارك الإنجليز عواطفهم غير متحفّظٍ". وكانت بريطانيا تستطيع كما قلتُ أن تفرض هذا الرجل على مصر منذ أول يوم، وكانت تستطيع أن تجعل حُكْمها في مصر حُكْمًا مباشرًا على يده! نعم كانت تستطيع، ولكنّها لم تكنْ تريد، لأنها تنظر إلى المستقبل البعيد، وتهيئ لهذا المستقبل كل الأسباب والأحوال التي تؤازره على البقاء الطويل، طبقًا لما ترسمُه وما تريده. 18 - ثم حدث شيءٌ لم يكُنْ في حسبان بريطانيا، فخرج منه شيءٌ جعلها تعرف أنّها أخطأت في حسابِ هذا الشعب وفي تمييز قُوَّته وعظمته وكوامن نفسه. مات توفيق في 7 يناير سنة 1892، وفي عهد وزير الاحتلال مصطفى فهمي، وولى بعده عباس الثَّانى الشابُّ. وظلّ ساكنًا سنة كاملةً، حتى إذا مرض مصطفى فهمي في 5 يناير سنة 1893 أرسل إليه يحرّضه على الإستقالة مراعاة لصحّته، فيردّ وزير الاحتلال بأنه سيفكّر في الأمر، وأنه خير لسموّ الأمير أن

يستشير اللورد كرومر، فيغضب الخديو الفتى، ويرسل إليه كتابا بإقالته، ويأمرُ حسين فخرى بتأليف الوزارة في 15 يناير سنة 1893 وتتألّف الوزارة، وإذا كرومر يأتي في 17 يناير بعد يومين يحمل إلى الخديو برقيةً من وزير خارجية بريطانيا، يُعارض في تعيين فخرى باشا، وتذكر حَقّها في اختيار الوزراء طبقا لما تأمر به برقية جرانفيل. وتحدث الأَزمَة، ويعاند الخديوى ويصرُّ على حقوقه، ويشيع الخبرُ في الناس، فإذا الشعبُ كُلَّه يهبُّ هبَّةً واحدة حتى الموظَّفون، ويمضي إلى سراى عابدين وفودًا بعد وفودٍ مؤيدّة للخديوى في موقفه. ويومئذٍ استيقظت بريطانيا، ولم ترد أن تتراجع، وآثرت أن تعودَ إلى الحزمِ مَرّة أخرى، وتشبثت بإقالة وزارة فخرى باشا وسترًا لانهزامِها أمام سخط الشعب. وأرادتْ أن تترضّى الناسَ، وهي تطوى الغيظ عليهم والتربُّصَ بهم، فاستبدلتْ بفخرى باشا رياض باشَا مرّةً ثانيةً، ليمثل الفصل السادسَ من المسرحية المهلكة، وذلك في 19 يناير سنة 1893. وظلّ رياض سنة كاملة في الوزارة، وبريطانيا تتربّص. ففي 18 يناير سنة 1894 سافر الخديوى في رحلته إلى وادي حلفاء، وعرضت فرقة من الجيش المصري يتولاها بريطانى، فلاحظ بعض النقص في نظامها وتدريبها، وانتقد نظام الجيش كله، فثار كتشنر وعدّها إهانة له وللكرامة البريطانية، وثارت معه بريطانيا كلّها وطلبت الحكومة البريطانية أن يعتذر الخديوى، وخاف رياض فنصح الخديوى بالاعتذار، وقد كان، طلب رياض، ولكن الخديوى أسرّها له في نفسه، ويبسَ الثرى بينهما، فاستقال رياض. 19 - كان هذا الحادث قَتْلًا للروح التي ظهرت في الشعب عند إقالة مصطفى فهمي، وظَهَرَ له جليًّا أن الخديو أيضًا لا يستطيع شيئًا أمام هذه القوة القاهرة، وعرفت بريطانيا أثر ذلك في الشعب، فأسرعت بفرض وزارة نوبار باشا في 16 إبريل سنة 1894، ليعود لإذلال الشعب مرّة أخرى، وإرغامه على التسليم بقوة بريطانيا التي تعزلُ من تشاء، وتوَلّي من تشاء. ولم يلبث نوبار أن فَرضَ تعيين أول مستشار بريطانى لوزارة الداخلية، صارت له الكلمة العُلْيا في الوزارة وعَيَّن المفتشين الإنجليز، وكاد يلغى سلطات المديرين المصريين. وردًّا

على فعلة الخديوى، أنشئت المحكمة المخصوصة التي تحاكم من يتعدّى على ضباط جيش الاحتلال وجنوده. وكان ختام الفصلُ السابع من المسرحية، أن اشتدّ الخلاف بين عباس ونوبار ولكنه أبى أن يستقيل، فلجأ عبّاس إلى كرومر يحتالُ على إقالة هذا الأرمنى برغبته في إعادة مصطفى فهمي وزير الاحتلال. فاستقال نوبار في 11 نوفمبر سنة 1895. 20 - وفي اليوم التالى بدأ الفصل الأخير من هذه المسرحية، وتولّى مصطفى فهمي وزارةً تدومُ من سنة 1895 إلى سنة 1908، أي دامت أكثر من ثلاث عشرة سنةً، يشارك رئيسُها الإنجليز عواطفهم غير متحفظٍ. ولست أشُكُّ لحظةً في أن السياسة الاستعمارية، لو أرادت أن تحكم مصر حُكْمًا مباشرًا بالاحتلال العسكريّ لفعلتْ، ولو أَرادتْ أن تفرضَ منذ دخلت وزيرًا واحدًا يقضى بقضائها كما تريد لفعلتْ أيضًا. نعم، ولكن لم يكنْ يعني بريطانيا شيء، بقدر ما يعنيها تثبيطُ قُوَى الشعب الكامنة، وترويضُه على قبول فكرةٍ واحدة، هي أنه لا خير في مصادمة الاحتلال أَو مقاومته، فلجأتْ إلى تمثيل هذه المسرحية الطويلة التي دام القسم الأول منها ثلاث عشرة سنة في تقليب الوزراءِ على أعين الشعب، ودامَ القسم الثاني ثلاث عشرة سنة أيضًا بوزير واحدٍ تأمُرُه بريطانيا فيطيعُ. وفي خلالِ ذلك تتمُّ ثلاثة أشياء -الأوَّل أنْ يَظْهر سلطانُ بريطانيا القاهر في الحُكْم، وفي الحاكمين- والثاني أن يَفْشو تحكُّم البريطانيينَ في الدَّوَاوين وفي الحياة العامة -والثالث، أَنْ يجهَلَ الشعبُ جهلًا تامًّا تَفَاصِيل ما تضمرُهُ بِرِيطانيا من خفايا سياسَتِها. وقد استطاعتْ أن تحقق ذلك كُلّه على يد كرومر، وبغفلة الرِّجالِ الذين تولّوا الحُكْم تحت سلطانها مِن المخلصين، وبخيانة الوزراء الخَوَنَة الذين راضوا أنفسهم على الطاعة المطلقة، وعلى كراهة هذا الشعبِ. 21 - ستٌّ وعشرون سنة أيها الإخوان من سنة 1882 - 1908، أمّةٌ حائرةٌ أذهلتها مفاجأة الاحتلالِ ومفاجأةُ الهزيمة، أمّةٌ أصبحت ولا جيش لها، أُمَّةٌ يعاون وزراؤها جيش الاحتلالِ، أمّة شرّد أحرارها واضطهدوا وأُبعدوا عن شَعبهم،

وإدارةٌ كُلُّها في يد الإنجليز، ودواوين تعمَلُ تحت سلطانهم، ورجالٌ يخدمونهم ويعاشرونهم، وأَمْوالٌ تنفق على شراء النفوس الضعيفة، ومدارسُ كلها تحت إشرافهم، كُلّ صغيرة وكبيرة مما يقرؤه الطُّلَّاب ومما يدرسونه، وكتب خاصة وضعت لخدمة الاحتلالِ من ناحية، ولإنشاء جيل من المتعلمين الجاهلين من ناحية أخرى، وصحافةٌ تحتضنها بريطانيا وغير بريطانيا من المستعمرين، تعمل وتتَّسِع وتنشر على الناس ما تريده بريطانيا أن يُنْشَر لإضعاف نفوس الناس وتثبيط عزائمهم في مقاومة الاحتلال، وشراذِمُ من الأجانب مسرّحةٌ في أرض مصر تستولى على تجارتها وصناعتها وزراعتها وسائر مصادر رِزْقها، وتسلب المصريين أموالَهم وتحتقرُهم وتفقرُهم تحت حماية الاحتلال، وحياة اجتماعية جديدةٌ تستهوى جماهير الشعب الجاهل الغافل، وآراءٌ تُذَاع فتستميل القلوب حينا وتنفّرها حينا آخر، وسلطانٌ يرهبُ ويخيفُ، ومودّة تنافق للعلماء وأصحاب الرأي فتفتنهم وتخذلهم، وأموالٌ تؤلّف القلوب النافرة، ومناصبُ تُوهب لمن يتطَّلبُ الجزاءَ أو المجد أو الشرف في بلاده المحتلة. ستّ وعشرون سنة، وذلك كُلُّه يحدث ويزداد اتساعًا على الزمن، وتظْهر آثارُه على مرّ الأيام. لماذا؟ لأنّ بريطانيا أرادتْ أن تضرب بمعاوِل اليأسِ في قلوب الذين شهدوا هزيمة بلادهم، وحضروا نكبة احتلالها. وأرادتْ أيضًا أن تطيل هذه المُدّة لكي تستطيع أن تنشيء من أهلِ مصر، ومن شباب مصر، جيلًا من المثقَّفين تريده على صورة بعينها. وأرادت أخيرًا وهو أَهَمُّ ما تريدُ: أن تجعل الشَّعْبَ يحارُ ويضطربُ وتتنازعه الأهواء والشهوات، ويضيعُ إخلاصه لبلاده في هذا الموج المتلاطم من الحياة الحديثة، ومن التدليس والتغرير ومجاذبة النوازعِ الفاسدِة، ومن اليأْس الغالِب والقُنُوط المدمِّر. ستًّ وعشرون سنة، أرادتْ بريطانيا في خلالها أن تنشيء جيلًا من المثقَّفين اليائسين الطامعين في مناصب الدولة، يعينون غاصب بلادهم أو على الأقل يعتدلُون في عداوته. جيلٌ ينشأ من صميم مصر والسودان، لا يبغّضُه إلى الشعب ثوب الخيانة الفضّاح، الذي بغض إليه نوبار ومصطفي فهمي وأعوانهما. وتعلم

بريطانيا أن الزمن كفيلٌ بعد ذلك بأن يُرِيها أبناءَ مِصْر والسودان، وهم يسخرون لعبثٍ لا ينتهي بمستقبل مصر والسودان، وبمجد مصر والسودان ويريها أبناء مصر والسودان يفكرون في إصلاح مصر والسودان، وتحرر مصر والسودان ولكن على أسلوب ترضاه هي، وتؤثره هي، دون أن تَظْهر على المسرح بطغيانها وغطرستها إلّا عند الحاجة. 22 - كان هذا الجيل الجديد يتخلَّق ويجيش في رَحمِ أمّنا العظيمة -مصر والسودان، يتخلَّقُ كما تريده بريطانيا، يفكّر لبلاده ولكن بعقل بريطانى، ويحبُّ بلاده ولكن بالنظر إلى رَهْبَة بريطانيا وعظيم سلطانها، ويفهم معنى الحريّة والاستقلال، ولكنْ في حُدُودِ الحُكمْ البريطانىّ والسطوة البريطانية. هكذا أرادت بريطانيا، ولكنْ خابَ ظنُّها مرّة أُخْرى، فقد أراد الله أن ينبعث من بين هذا الجيل فتى واحدٌ: جاءَ يسعى من أعماقِ التاريخ، ويَصْرخُ من أغوار الشعب المصري، لا يرهبُ شيئًا ولا يردّهُ شيءٌ، فصرخ في الوادي صرخةً رَوَّعت القلوبَ في أكنّتِها. جاء مصطفى كامِل يتدفّقُ من جميع نواحيه، ويمضي على غُلَوائه كالسيل المتلاطم، وكانَ أصلبَ عودًا وأقوى مراسًا، وأعنف إرادة -من أن تزلزلَه مكايِدُ الغاصب أو ضرباتُه. واستطاعَ الفتى أن ينقذ مئاتٍ من الجيل الذي تعهّدت بريطانيا تكوينه وإنشاءه، واستطاع أن ينقذ آلافًا مؤلَّفة من الشعب ويهديهم إلى حقيقة معنى الحريّة والاستقلال. ولم تستطيع بريطانيا أن تهزمه، بل كان العكس، فروّعتْ بريطانيا باجتماع هذا الشعب الكريم مرّة أخرى في 1906 أيام دنشواى، كما روّعت باجتماعه ويقظته عند عَزْلِ مصطفى فهمي في يناير سنة 1893. وقالت بريطانيا: ما هذا الشعب الغريب؟ ما هذا الشعبُ الجاهلُ الذي يَكْمُنُ فيه حبّ الحريّة كما يكمن المرض الخبيث- يَخفى أشدّ الخفاء، ثم يَنتشر دفعة واحدة كالحريق المُشْعَل؟ كيف يتسنّى علاجه من داء الحريّة الخبيث؟ لجأتْ بريطانيا إلى مصطفى فهمي وزير الاحتلال، وأمرتْه أن يتلقّطَ لَهَا جماعةٌ ينشئون شركة مساهمة مصرية، لكي يصدروا صحيفة يومية، هي الجريدة. واستطاعَ مصطفى فهمي أنه يجد في سنة 1906 أي بعد أربع وعشرين

سنة من الاحتلال، جماعة من الشيوخ ممن يتزلّفون كما يتزلّفُ إلى الغاصبين، واستطاعَ أن يجدَ جماعةً من الشباب الجديد من ذوى الأطماعِ والمطامح البعيدة، ممن يفهمون الحرية والاستقلال كما تريدُ بريطانيا أن يكون. وتألفت الشركة برعاية مصطفى فهمي، وصدرت الصحيفة بعد أيام دنشواى وتولّاها فتىً مِصرىٍّ من الجيل الجديد هو "أحمد لطفي السيد" الذي سيصير فيما بعد المعلم الثاني أو الثالث لا أدري -وإذا الجريدة تدعو إلى سياسة الملاينة والاعتدال، وإلى التدرُّج في نيل حقوق البلاد، وإلى الاستقلال ولكنْ بعد أن يُتِمَّ الشعبُ تعليمه على يد الاحتلال. وتنقلب هذه الشركة إلى حزبٍ يعرف باسم حزب الأمّة، يجتمع فيه صغارٌ وكبارٌ- كبار من شيعة بريطانيا في خمسٍ وعشرين سنة، وصغارٌ نُشُئوا وأرضعوا لِبَانَ بريطانيا في خمسٍ وعشرين سنة. ويمهّد الكبار للصغار، وتمهّد صحافة الاحتلالِ لهذا النشء، وتولّى بريطانيا كثيرًا منهم المناصبَ العالية، وتستغِلُّ بريطانيا طُموحَ هذا الجيل إلى الحكْم والسلطان والمال، وتستغلُّ كُلّ ما في النفس الإنسانيّة من النوازع والشهواتِ، ويستغلُّ كرومر عميد الاحتلال شيوخًا من جلّة العلماء والوزراء، وأعضاء الجمعية التشريعية، في الثناء على هذا الجيل- ليعارضوُا ذلك الفتى المشاغب العنيد الذي لا يرضى أن يلين لبريطانيا، أو يستكين تحت لوائها، أو يدعَ ذكر الحرَّية الخبيثة التي يدعو الناس إليها، والشعبُ المصريّ ينظر إلى هذا الصراع بين الشبان المثقفين -بين مصطفى كامل، وشيعة حزب الأمة- وترى بريطانيا انّ هذا الصراع خليقٌ أن يمزّقَ وحدة الشَّعبْ، ويجعَلَ فئة تنحازُ إلى هذا، وفئة تنحازُ إلى الآخرين، والزَّمنُ بعد ذلك سوف يعمل على توسيع الشُّقة من ناحية، وهي تعمل أيضًا إلى إِبلاغ إحدى الفئتين إلى أَسْمى المناصبِ وأعلى الدرجاتِ في الحُكْم وفي غير الحُكم. 23 - ويموت مصطفى كامل في سنة 1908، وتتنفَّس بريطانيا الصعداء، ويتنفَّسُ شيعتُها، لقد استراحوا من هذا الموجُ الصاخب الذي لا يهدأ. ويخلُفه فَرِيد، ولكن شتان ما بينهما -شتّان بين خطيب الجماهير، والسياسيّ

الساكن- شتان بين النار المُشْعَلة، والنَهر المنسابِ. علمت بريطانيا أن الشَّعْب لن يَسْمَع بعد اليوم ذلك الصوتَ الذي يُضِئُ لَهُ شعاب الحرّية وأوديتها الغامضة. فتبسُط ما استطاعت للفئة الأخرى لكي تستكثر من الأعوان والأنصار، ومن المخدوعين والمغررين، وتبذلُ الأموال والرُشَى في الدواوين وفي غير الدواوين. وتأتي الحربُ العالمية الأولى، وتعلن الحماية على مصر والسودان، فتضطرب النفوسُ، وتتّطاير الأراجيف ويعظُم الطمع، ويقلُّ الوَرَع، وتخبث نفوسٌ وتَصْلُحُ نفوسٌ، وتَتَّسِع مِصْر لخبائث جيش الاحتلال، وتنحلّ الأخلاقُ انحلالا لا مثيل له في تاريخ مِصْر، ويستهتر الشبابُ، وييأس الشيوخ، ويظلُّ هذا البلاءُ أربع سنوات، فإذا مصر والسودان تجيش جيشانها العجيب في سنة 1919، وتذعَرُ بريطانيا من هذا الشعب الذي لا يموتُ ولا يريدُ أن يموت. وتعودُ كلمة الحريّة والاستقلالِ ناصعةً لا تشوبها شائبةٌ، يتنادى بها شعب كامِلٌ من أقاصى مِصْر إلى أبعد أَطْرافِها. شعبٌ كاملٌ يريد طرد بريطانيا من بلاده، يثور ثورة رجل واحدٍ لا يزيدُه الإرهاب والعنف والتقتيل إلّا مضاءٌ واشتعالًا، فماذا تفعل بريطانيا بهذا الشعب الغريب؟ . 24 - كانَ من حُسْن حظّ هذه الأمة الغاصبة أن الرجل الذي نفته، والذي ثارتْ الأمّة فجاءة وعلى غير توقّع منها أو من الثلاثة الذين زاروا دار الحماية في ذلك الوقت -هو "سعد زغلول"- الذي كان وزيرًا في وزارة مصطفى فهمي الأخيرة، وزوجُ ابنة مصطفى فهمي، والذي تعاون مع الاحتلالِ في زمنِ طغيان كرومر، والذي كان يَأْوى إليه طائفةٌ من الشُّبّان الذين عارضوا مصطفى كامل ولا يزالون يعارضون دعوته باسم الحرية الخالصة من الشوائب والقيود. وعلمتْ بريطانيا أنها تستطيع أن تتفاهم مع سعدٍ المنفيّ، ولكن هل يستطيع سعْدٌ أن يقاوِم تيّار الثورة التي أرَّثَها شبابٌ من المؤمنين بالحرية والاستقلال بلا قيد ولا شرطٍ؟ وهل يستطيع أن يردّ جماحَ شعبٍ بأسره لا يعرف شيئًا إلّا أنّه يريد الاستقلال، ويريد طَرْد الغطرسة البريطانية من أرض بلاده؟ هذا الشعب! . . هذا الشعب! عرفت بريطانيا يومئذ أن المسرحية الطويلة الأُولى في رفع الوزارات وخفضها قد

باءتْ بالخسران، في نواح كثيرة، ولم يَنجعْ دواؤها في شفاء الشعب الحرّ من داءِ الحريّة. وعلمت أيضًا أن الحديد والنار لم يزد هذه الثورة إلا اشتعالًا. وعلمت أنّ سعدًا ومن يلوذُ به من شباب الجيل الجديد، ومن أهل الطويّة السليمة -أو الغفلة إِن شئت- فيهم استعدادٌ كريمٌ للملاينة والمسايرة والتفاهم والتعاون، لأنهم لا يؤمنون بقدرة الشعب الأعزل على طرد غاصبٍ يملك من القوّة والسلاح والإرهاب ما لا قِبَل لأحدٍ به، بل غاصبٍ خرجَ من الحرب العالمية الأولى منتصرًا ظافرًا على ألمانيا المخيفة وتُرْكيا الباسلة. فمن هذه العناصر جميعًا وضعت بريطانيا مُسَوَّدَة المسرحية الجديدة التي ينبغي لهذا الشعب أن يشهدَهَا، لكي يَنْسَى كلمة الحرية، وكلمة الاستقلال، فإن لم ينسهما، فليفهمهما على النحو الذي تريده بريطانيا. حريّة خائِفَة ترجو معونة بريطانيا في حياطتها حتى تنمو وتعيش، واستقلالٌ مذعورٌ، لا يستطيع أن يتخلَّى عن معونة بريطانيا في التمهيد لَهُ وفي كفالته، في عالمٍ تصطرعُ فيه القُوَى المسلّحة بالحديد والنار وبالسلطان والبطش. 25 - اشتعلت نار الثورة الجامحة في يوم الأحد 9 مارس 1919، وظلت تزداد اشتعالًا يومًا بعد يوم، ولم يُجْدِ الإرهابُ والبطش شيئًا، وكانت بريطانيا قد أعدّت الفصل الأول من المسرحية الجديدة، فأرسلت إلى مصر تلك اللجنة المشهورة باسم لجنة ملنر، فقاطعها الشعب الثائر، فعادت لم تنل شيئًا مِنْه أو من ثورته، ولكنها في الحقيقة نالت شيئًا كثيرًا، لأنها لقيت رجالًا يحفظون الودّ والعَطْف والجميل، ويؤمنون بأن بريطانيا تحبّ الخير أو بعض الخير لبلادهم، ورأت أنهم مستعدّون للتفاهم والتعاون؟ ! فبدأت المسرحية بأن وضعت اللجنة مشروع معاهدة لإرضاء المصريين فيما ترى، وترسله إلى الوفد المصري بزعامة سعد، وإذا زعيم الثورة يَرَى بأسًا في أن يفاوض بريطانيا في أمر هذه المعاهدة، وإذا هو يُعدُّ مشروعا آخر يفتتحه سعد بهذه الكلمات الخالدة: "أتشرف بأن أبلغكم نبأ استلام خطابكم المؤرخ 17 يوليه 1920 وإني أبادر فأعرض على فخامتكم طى هذه مشروع اتفاق يحوى النقط التي جرت المناقشة في شأنها في أحاديثنا، وهي النقط التي يلوح لي أنكم تقبلونها. ونحن نعتقد أن المشروع

بالصفة التي هو عليها من شأنه أن يرضى الطرفين، فعلى هذه القواعد يمكننا أن نضع دعائم صداقة متينةٍ وتعاونٍ عمادهُ الإخلاص بين الشعبين الإنكليزى والمصري". وبإرضاء الطرفين -أيها الإخوان- وبدعائم الصداقة المتينة والتعاون والإخلاص بين الشعبين -تمَّتْ هزيمة الثوار، وهُزمَ شعب مصر والسودان هزيمة منكَرَةً، بل هي أفظع هزيمةٍ في تاريخ مصر والسودان، بل أبشع هزيمة أصيب بها شعبٌ يجاهد في سبيل الحرية والاستقلال. وعلى يد مَنْ هُزمت؟ على يدِ أبنائها، وبعمل أبنائها أنفسهم، وبجهادِ أبنائها أنفُسِهم! ! 26 - وبعد قليل أيها الإخوان سَارَ الشعبُ المصري وهو ينادى بالحرية والاستقلال، وزعيم ثَوْرته يفاوضُ الاحتلال في الحرية والاستقلال -ويتشعب الرأي، ويتقسَّمُ الناسُ، ويعظُمُ أمر هذه المفاوضة، ويختلف عدلى وسَعْد على رآسة المفاوضة: أهي لرئيس الوفد وكيل الأمة أم لرئيس الحكومة حاكم الأمة؟ ويشتغل الشعبُ كُلّه بكلمة المفاوضة، ولمن تكون؟ وعلى يد من تكون؟ ويتعادَى الناسُ، وتظهر العصبيّة لهذا ولهذا. ويتقدَّم الجيل الذي أنشأته بريطانيا إلى قيادة هذا الانقسام بين سعد وعدلى وثروت ومحمد محمود وأشباه هؤلاء. وتخفُّ العداوة الكامنة في الصدورِ لبريطانيا، وتتجه إلى تعادى الزعماء والقادة -كما يسمونهم- وتصْبرُ بريطانيا على هذا الانقسامِ ثلاث سنواتٍ حتى يشهَدَ الشعب مسرحيّة النزاع بين رُؤُوس الثورة الكبار، أو على الأصح من كانوا يظنونهم رؤوس الثورة. ويبدأ الشعبُ الذي أحبّ سعدًا لأنّه ثائر فيما يظنُّ، يَشْعُرُ شيئًا فشيئًا بأن معونة بريطانيا ومفاوضتها لازمة لحريته واستقلاله. وفي خلالِ ذلك استغلظ أمرُ هؤلاء المعتدلين جميعًا في عداوة بريطانيا، وتأثر الشعبُ بهذا الاعتدال، وضعفتْ عزيمته في النداء باسم الحرية والاستقلال. وتم بذلك الفصل الثاني من المسرحية البريطانية الجديدة. 27 - وجاءَ موعد الفصل الثالث من المسرحية الثانية، وهو أضخَمُها وأعظمها. وهو تصريح 28 فبراير سنة 1922 الذي يقضى بانتهاء الحماية

البريطانية، والاعتراف بمصر (وحدها دون السودان) دولة مستقلة ذات سيادة. مع تحفظات أربعة هي: 1 - تأمين مواصلات الإمبراطورية. 2 - الدفاع عن مصر من كل اعتداء أجنبى بالذات أو الواسطة. 3 - حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات. 4 - السودان. وظاهِرُ هذا التصريح يدلّ كما قال مع الأسف أحد قدماء رجال الحزب الوطني -على أنه- "مكسبٌ سياسي ومعنوىٍّ، فقد ترتّب على انتهاء الحماية إعادةُ منصب وزير الخارجية الذي ألغى في عهد الحماية، وتحقيقُ التمثيل السياسيّ والقنصلىّ لمصر، كما أن الاعتراف بمصر دولة مستقلةً ذات سيادة، قد أزال العقبة التي كانت تعترض فعلًا إعلان الدستور، فبزوال هذه العقبة قد تمكنت مصر من أنه تجعَلَ نظامَ الحكْمِ فيها نظامًا دستوريًا"، ويقول أيضًا: "إن تصريح 28 فبراير سنة 1922 يكون ضارًّا لو قبلته الأمة وارتضتْ به، أو اعتبرته خاتمة الجهاد، أمّا إذا كانت ماضية في جهادها، فإنّه بلا شكٍّ فوزٌ لها في معركة من سلسلة المعارك التي يتألّف منها نضالها القوميّ الطويل". وأنا أَرَى أيّها الإخوان أن الحرية لا تتجزَّأ وأرى في هذه الكلمات التي جرى بها قلم أحد أفذاذ رجال الحزب الوطنّى -دليلًا على نجاحِ بريطانيا في بلوغ غَايتها من صرف الشعب المصريّ علمائه وجُهَّالِه، وخاصته وعامته، عن حقيقة الجهاد في سبيل الحريّة- إلى هَوّى من الأهواءِ عظَّموه أكثر ممّا يعظّمون الحرية، وآثروهُ بحرص، لم يؤثروا الحريّة بحرصٍ مثله -وهذا الهَوَى هو الذي شاءت بريطانيا أن تستغلّه أحسن استغلالٍ، ألا وهو الدستور والحُكْم النيابى. علمت بريطانيا أنّ عرَابى ثار من أجل تحقيق هذا الدستور لبلاده، وأن الجمعيّة التشريعية قبل الحرب استرعت انتباه الناس ببعض المواقف العظيمة في سبيل تحقيق الحُكْم النيابىّ، وعلمتْ أن اسم الديمقراطيّة ودَعْوَاها في هذه الفترة من الزمن يستهوى كثيرًا من العقول الراجحة المثقفة، فأتت الثورة من هذه الجهة، وأتَتْ كلمة الحريّة والاستقلال من هذا المدخَل. فلم يكَدْ سعدٌ يَقْبل دخول الانتخابات التي ضمِنها أو مَهّد لَهَا هذا

التصريحُ، حتى نَسِيَ الشعبُ المصريّ عداوَته الفَوّارةَ لبريطانيا، وتَابَع بعداوته أعداءَ سعد وأعداءَ الوفد المصري من المصريين، وانطفأتْ كلمة الحُرّية انطفاءً تامًّا، وسارَ الشعبُ في ظُلُماتٍ سُودٍ لا ينيرها شيءٌ إلى هذا اليوم. 28 - فَرِح الجيلُ الجديد من المثقَّفين، وقادَ الشعبَ إلى الفرحِ، بهذا الدستور الجديد، وباتت سياسة بريطانيا في فرح آخَر بانصراف الشعب إلى هذا الدستور الجديد. وصارت قيادةُ الأحزابِ المصرية جميعًا إلى جماعة المعتدلين في عداوة بريطانيا، وشاعَتْ كلمة المفاوضة والمعاهدة مكان كلمة الحرية والاستقلال، وثار الجدلُ على صفحات الجرائد وفي الكتب عن الدستور والمفاوضة والمعاهدة، وانقطع البحثُ في حقيقة معنى الحرية والاستقلال. ويومئذ ضمنت بريطانيا سيادة كلمة المعتدلين في عداوتها واستمرار هذه السيادة زمنًا طويلًا، وضمنت بريطانيا شعبًا كاملًا تشغَلُه كلمة المفاوضة والمعاهدة، ولا تشغله قليلا أو كثيرا كلمةُ الحرية أو كلمة الاستقلال، وضمنت بريطانيا صحافة يتولاها مصريون وأشباه مصريين تؤثر الاعتدال وتزيدُ الشعب إيثارًا له، وتحبُّ المفاوضة والمعاهدة وتزيدُ الناس حُبًّا فيهما، وضمنت الزمن وكرَّه على الناس وفِعْلَه في الشعوب، وضمنت تطوُّر الحياة الاجتماعية تطوُّرًا يُفْضِى بالشَّعْبِ إلى الاستهانة والتهاوُن، وإلى التَّسلية والتلهّي، وإلى السُّخْرية بالزعماء والقادة وهم يختلفون ويتنازعون على الحُكْم وعلى الأموال والمناصب، وإلى اشتغاله عن الحريّة الحقة بحياة الاستقلال الجديدة التي كَفَلَها لهم الدستور الجديد. وخلاصة ذلك كُلّه أن بريطانيا أرادت بتصريح 28 فبراير تمزيق وحدة الشعب، وصرفه عن حقيقة معاني الحرية والاستقلال- وأراد الزعَماءُ نَيْل السُّلطة التي يكفُلُها الدستور للأكثريّة. وأنتم تعلمون أيها الإخوان أن الأكثرية أخفقت في نيل ما أرادتْ على الزمن، وأن بريطانيا نجحتْ على الزمن في إدراك بُغْيَتْها من الشَّعْب العنيد الذي ابتُلِيَ بداء الحريّة. فكأنها رفعتْ يدها عن هذه الأداة المصرية (لحمًا ودمًا) في سنة 1924، البريطانية (كيدًا وهَوًى وإرادةً)، وقالتْ للناس: هذه بلادكُمْ: احكموها بأنفسكم، وتنازعوا على حكمها ما شاءَ لكم التنازع، وتنابزوا

بالألقابِ في سبيل هذا الحكْم، وليعادِ الأب أبناءَه، والأخُ إخوانه، والصديق أحبابه، وكونوا عباد الله أعداءً. وكان من أخبث مكر السياسة البريطانية أنها تورَّعت عن أن تنزل بالشعب عذاب التنكيل بالقوة الغاشمة، لتنزل به ما هو أبشع وأفتك من عَذَاب الأبدان، عذاب الأَرْوَاح الحائرة المضلَّلة، عذابَ الاعتدال في طلب الحرية، عذاب العداوة والبغضاء، عذاب الضعف والاستهانة والفتور، عذاب الغفلة الدائمة عن الذلّ المقيم. 29 - هذه هي غاية المسرحية الجديدة التي بدأت "بإرضاء الطرفين، وبدعائم التعاون الصادق بين الشعبين الإنجليزي والمصري" كما قال سعد زعيم الثورة! ! ولم تتمّ المسرحيَّة بَعْدُ، والشعبُ لا يزالُ ينْظُرُ إلى الممثّلين وهُمْ على المسرح، وبريطانيا من بعيد تنظُر إلى أثر هذه المسرحية في الشعب الذي أضناها علاجُه. وتعدُّ له تتمّة المسرحية في الفصل الذي يتضمَّنُ "رفع مستوى معيشة الشعوب"، "والدفاع المشترك عن حوزة الوطن"، و"الخوف من ضياعِ الحضارة الإنسانية وتدميرها في الحروب". ولكنها مع ذلك مطمئنّة بعض الاطمئنان، لأن المفكرين والسَّاسة والقَادة والصحافَة كُلَّها، أَعوانٌ لها في هذا الهدف، أعوانٌ في اللحم المصري، ومن الدم المصري، وعليهم سمة النيل الخالدة، والشَّعْب حائرٌ يسيرُ على غير هُدًى وإلى غير غاية، وهو ينظر إلى هؤلاء غير مُنْكر لهم ولا مستريبٍ فيهم أو في إخلاصهم لبلادهم. والأحرارُ الذين يعرفون معنَى كلمة الحريَّة، ويؤمنون بأنّ الحُرّية لا تنال بالمفاوضة ولا بالمعاهدة ولا بالتعاون مع بريطانيا أو أمريكا أو روسيا أو فرنسا، ويؤمنون بأنّ الاحتلال الطويل قد أَفْسَد عقولًا كثيرةً ونفوسًا كثيرة -هؤلاء الأحرار- أيها الإخوان - غائبون عن أوطانهم وعن شَعْبهم في غيابات الاضطهاد، وفي ظلماتِ طَلَب العيش، وفي سراديبِ السُّكُوت والتسليم. 30 - صورة قائمة عابسةُ عرضتُها على شباب هذا الحزبِ، لم أتناوَلْ فيها إلا الناحية السياسية والتفكير السياسيّ. وهناك صورٌ أشد قتامًا وعبوسًا في النواحِي الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية، تزيدُنا بلاء على بلاء. ومع

كُلّ هذا، ومع أن بريطانيا استطاعتْ أن تبعدنَا عن كلمة الحريّة في أوسع معانيها، وأن تميت هممًا وتثبّط عزائم، وتهلك نفوسًا، وبرغم سيادة المعتدلين على الرأي العامّ، وسيادتهم على الدستور، وسيادتهم على الحكومة وسيادتهم على الصحافة والأقلام، فأنا أثق بشيء واحدٍ، أثق بشعبِ مصر والسودان، كما أثق بسائر شعوب بلاد الشرق وبلاد العرب وبلاد الإسلام. وإني لأرى خلالَ هذه الظلمات نجومًا تلمع، وكواكب تتوهَّج، وعَزَائم تنبثقُ، وأمواجًا تجيشُ في قرارة هذه الشعوب. وستأتي الساعة في ميقاتِها، وسنهبُّ هبَّةً واحدة، فننفض الغبار العتيق، ونعصف بالقيود، قيودِ الاستعمار وأعوان الاستعمار. وسنهتدى إلى الطريق التي نهجها الأحرارُ في كُلّ مكان، ليسلكهَا الأحرارُ من كُلّ أُمَّةٍ. وإذا كان كيد بريطانيا في سياستها الدائبة الملحّة، لم يُردْ إلّا الشَّعبَ وحده، ولم يقصد إلا تدمير هذا الشعب وحده، فعَلَينا نحنُ أن نبدأ جِهادنا في الميدانِ الذي أرادته بريطانيا، نجاهد في هذا الشَّعْب وحده من أجل هذا الشَّعْبِ وحده، نذكره بالحرية التي نَسِيَها في مكر بريطانيا، ونُعينُه على أن ينشيء حياةً أخرى غير الحياة التي دبّرتها له بريطانيا، علينا وعليكم يا رجال هذا الحزب ويا شبابه، أن تحملوا شُعْلة الحريَّة إلى كُلّ قلب، وأن تنفثوا روح الحرية في كُلّ عَمَل، وأَن تطاردوا شيطان المستعمر في كُلّ بقعة وفي كُلّ نفس، وأن تعلّمُوا أنفسكم وتعلّموا الناس كيف يعيش الحُرُّ بالحُرّية -لا بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطان ولا بمناصب الوزارة، ولا بعضوية البرلمان. أوقدُوا نَارَ الحرَّية وألقوا فيها خبائث العبودية والذلَّ والاستعمار، واعلموا أن مِصْر والسودان تموتُ الآن على يد فئة من أبناء مصر والسودان، فكونوا أنتم حياةَ مصر والسودان، بل حياة بلاد العرب، وبلادِ الشرق، وبلاد الإسلام.

المتنبي

المتنبي في شهر يناير الماضي صدر عدد المقتطف وفيه كلمة قد استغرقت العدد كله عن أبي الطيب المتنبى ذهبت فيها مذهبا، ولا أدعى العصمة، ولا علو الكعب في الآداب ولا حسن المنطق في الحجة. وقد كانت كلمتى عن أبي الطيب بدءا لطريقة انتهجتها في ترجمة الرجل، لم أتعبد فيها بأقوال الرواة تعبد الوثني للصنم. وقد ظهر العدد من المقتطف ولم أحاول بإخراجه شهرة، ولا إعلانا عن نفسي ولا أدبى. وقد احتفي الناس به في الشام والعراق ومهجر أمريكا وغيرها من بلاد العرب والعربية، وخلت صحف مصر من الكتابة عنه إلا قليلا قليلا. . . ومع ذلك فما سعيت إلى أحد أن يكتب لي عنه، أو يذكر الناس به، فقد كان من توفيق الله أن نفد عدد المقتطف في شهر ظهوره، ولم يبق من مطبوعه شيء. وكان مما ذهبت إليه في كلمتى ما أثبته هناك من الشك في أن المتنبى كان كما زعم الرواة ابن سقاء، .. ثم سقت القول على هديه وطريقه ورجحت أنه كان عَلَوِي النسب، وترجمت للرجل على هذا الأساس. وأنا حين فعلت ذلك، وكتبت ما وفقت إليه في رد السقاءة عن المتنبى، وإظهار بطلانها، وبطلان كل هذر مما لجَّ فيه بعض من نتهم من الرواة، لم أرد (أن أنفي عنه عيبا، أو أضيف إليه مفخرا جديدا)، ولم أرد أيضا (أن أذكر المتنبى فأحسن إليه، وأحمد الخبر عنه، وأسبغ من دفاعى ستارا على عيبه) ليقول الناس عني (إني قد أوتيت الحكمة، وبلغت نهاية الفهم، وصرت مستحقا لاسم الأدب، وداخلا في جملة الموسومين عند الناس بالأدباء. . .). لقد كتبت كلمتى وتركتها، وكنت أظن أن النقاد من أهل عصرنا سيحرصون على حسن الهداية إلى الحق، كان ذلك لي أو علي .. ولكن خاب ظنى في كثير من النقاد، فمن سكت منهم فقد تنصل، ومن ¬

_ (*) جريدة الأهرام 13/ 6/ 1936

وافقنى فقد أخجلنى، وجاء بعض من خالف بأسلوب غريب في المناظرة. فمن ذلك ما قرئ على اليوم مما كتبه الأستاذ الجليل محمد هاشم عطية -المدرس بدار العلوم. وأنا قبل أن أنقل للقارئ قوله أعترف له أنى كنت متحرجا من التعليق على قوله لسابق فضله عليّ في عام من أعوام الدراسة بالمدارس الابتدائية، ولكني رأيت الأستاذ لا يتحرج من أن يذكر في مقاله رأيا لأحد من الناس غفلا غير منسوب إلى صاحبه، ولا إلى مكانه من الكتاب الذي نشر فيه، ثم يزيد فيرد على هذا الرأي بغير طريقة النقد العلمي الصحيح، ثم يزيد فيتهكم، ثم يزيد فيرمى الناس على غير علم بإرادة ما لم يجل لهم في خاطر. فقد أصدرت (جماعة دار العلوم) مجلتها الجليلة الموفقة "صحيفة دار العلوم" العدد الرابع من السنة الثانية، وهو خاص بذكرى أبي الطيب المتنبى. ومن الكلمات الممتعة التي فيه كلمة الأستاذ محمد هاشم عطية عن (المتنبى وكافور). ويقول الأستاذ ص 80 و 81 من هذا العدد: ". . ونحسب أننا بما سنقضى به من بعض ما لاحظناه في أكثر ما كتب عنه في أيامنا الحاضرة، سنكون أبلغ احتفالا وأسنى تكرمة على حساب أننا لا ننفي عنه عيبا، ولا نضيف إليه مفخرا، ولا ندعى أننا سنزيل من أمره لبسا، أو نحل متعقدا إلا النظر في هذه المحاولة التي يراد بها إسناد المتنبى إلى غير أبيه، واستخراجه من غير معدنه، والادعاء بأنه علوى النسب، هاشمى الأرومة، والالتجاء في ذلك إلى التأويل للحكم والاتهام للثقة، والانتحال لكل حيلة، لتحصينه من كل تهمة، وتبرئته من كل مذمة، والتصدى لاحتمال المكروه عنه. مع أنهم يعلمون أن وضع الرجل في غير موضعه، وإعطاءه ما ليس من حقه، تهجين لشأنه وذم له. يظنون أن من ذكر المتنبى فأحسن إليه، وأحمد الخبر عنه، وأسبغ من دفاعه ستارا على عيبه -فقد أوتى الحكمة، وبلغ نهاية الفهم، وصار مستحقا لاسم الأدب، داخلا في جملة الموسومين عند الناس بالأدباء، لتوهمهم أن الناس لا يتجرأون عليه، ولا يقدر منهم على مسافات خواطره، ومسبح إلهاماته إلا الذين أصفاهم ربهم بالفطن، وأعانهم بتمام البصيرة، من المنحوتين

على مثالهم، والمنتخبين من طرازهم. ولكن ذلك على ما فيه من المناقضة للتاريخ الثابت، والمعارضة للصريح من النصوص، ليس بمغن عنهم شيئًا، ولا بنافعهم قليلا ولا كثيرا، ولا هو من الأمانة الأدبية التي لا أظن أن التمويه بخلافها يروج على العقول في أيامنا هذه. ومع أن الشاعر أسقط عن الناس هذه الكلفة، وأعفاهم من احتمال هذه المئونة، باعترافه في شعره، وتصريحه لممدوحيه، بأنهم أولى له، وأفضل عنده من أهله الذين لم يشرف بهم، ولا تناول ما تناول من المجد بأولهم ولا بآخرهم. وقد آثرنا أن نكتفي في الاستدلال على ذلك بحياته في مصر مدة انقطاعه لكافور، ونحب قبل تلخيص هذه الصلة أن نذكرهم بتقدمة صغيرة لهذا الأمير. .". ثم مضى الأستاذ على غير هذا الغرار الجاحظى في التحرير والكتابة. وسائر كلامه ليس عندنا بشيء حتى نقف عليه أو نحاول نقله. وقد أراد أستاذنا كما اعترف في كلامه أن ينظر (في هذه المحاولة التي يراد بها إسناد المتنبى إلى غير أبيه .. إلخ) وقد اخترط المقالة كلها، ولم يأت بشيء يُعَدُّ نظرا في الذي كتبت عن نسب المتنبى، ولا نقدا لقولى فيه. ولكن لعلى لم أفهم، فأنا أرجو الأستاذ أن يدلنى على الذي في كلمته مما هو نظر أو نقد أو إسقاط لقولى. وليعلم الأستاذ أن للنقد الذي كتبه على نفسه بهذه الجملة طريقا لابد من انتهاجها، هو أدري بها وأعلم. وأول ذلك أن يذكر رأيي منقولا منسوبا، ثم حجتى متتابعة، ثم يعمل في ذلك عمل الناقد فإن شاء رفع وأن شاء أسقط. أما الذي سلك أستاذنا من مذهب القول فهو مما لا يخفض قولى ولا يرفع قوله. ثم شرع الأستاذ ينظر إلى الجاحظ بطرف، ويقول عني ما يقول من أنى أحاول تأويل المحكم وأتهم الثقة، وانتحل الحيلة ثم يزيد ذلك أنى أريد تحصين المتنبى من كل تهمة، وأبرئه من كل مذمة، وأتصدى لاحتمال المكروه عنه. وأنا يعجزنى أن أرد على هذا القول! ! ثم لا يكتفي أستاذي بهذا بل يستبطن نفسي، ويتولج في دخيلتى ويزعم أنى أزعم أنى كتبت ما كتبت وأنا أظن أنى قد أوتيت الحكمة وبلغت غاية الفهم ..

إلى آخر ما تنبأ به من أمرى فجعل لي في الخواطر مسافات، وفي الإلهام سبحات! وأنا أسأل الأستاذ مرة أخرى أن يضع يد القارئ وعينه وعقله وفكره على موضع من كتابى تكون لي فيه هذه الدعوى مقولة أو مفهومة أو متوهمة. فإلى الأستاذ الجليل محمد هاشم عطية أسوق شكري أولا، ثم نصيحتى بعد، في أن يتجنب اتهام البرئ بالظن، واعتقاله بغير حجة بينة، وليأت بالبيان عن كل جملة في كلمته الجاحظية التي نقلناها، وليضع أمام القارئ جملته التي وصفني بها، والجملة التي وردت في كتابتى فحفزته إلى اختيار الأوصاف لي وصفا وصفا، وسأدع للأستاذ أسبوعا كأسبوع المتنبى يقرأ فيه ما كتبت مرة أخرى ليقول كلمته، ويجيب سؤالى وله الشكر أولا وأخيرا.

حديث رمضان. عبادة الأحرار

حديث رمضان. عبادة الأحرار سألتنى أن أكتب لك شيئا عن هذه الكلمة المعذبة: الصيام. فقد ضرب عليها الناس من الحكم، وصبوا عليها من الفوائد ما لو تأملته لم يعد أن يكون عرضا طفيفا من أعراض التجارب التي تمر بالصائم. ولرأيتهم يبنون فوائدهم وحكمهم على غير منطق، كالذي يزعمونه من أن الغني إذا جاع في صيامه أحس بل عرف كيف تكون لذعة الجوع على جوف الفقير، فهو عندئذ أسرع شيء إلى الجود بماله وبطعامه. ثم يزعمون أن الفقير الصائم إذا عرف أنه استوى هو والغني في الجوع قنع واطمأنت نفسه، لا أدري أمن شماتته بالغنى حين جاع كجوعه وظمئ كظمئه أم من حبه للمساواة في أي شيء كانت وعلى أي صورة جاءت! ولا تزال تسمع مثل هذه الحكم، حتى كأن ربك لم يكتب هذه العبادة إلا ليعيش الفقير، وليعيش الغني، كلاهما في سلطان معدته جائعا وشبعان .. ! ومنذ ابتلى المسلمون بسوء التفسير لمعاني عباداتهم، ومنذ أدخلوا عليها ما ليس منها، ساء أمرهم ودخل عليهم عدوهم من أنفسهم ومن غير أنفسهم، وجعل بأسهم بينهم، وتتابعوا في الخطأ بعد الخطأ حتى تراهم كما تراهم اليوم: ألوف مؤلَّفة ما بين الصين ومراكش، تستبد بهم الطغاة بل تهاجمهم في عقر دارهم شرذمة من قدماء الأفاقين، ومن أبناء الذل والمسكنة، فتمزق أنباء دينهم ولغتهم من الأرض المقدسة شر ممزق. وكل نكيرهم أصوات تضج، ثم عودة إلى موائد الشهوات ولذات النفوس ومضاجع الراحة والترف والنعيم: حرصوا على الحياة وأسباب الحياة فذلوا حتى أماتهم الذل، ولو حرصوا على الموت وأسباب الموت، لعزوا به في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ولقد كتب علينا الصيام لينقذنا من مثل هذا البلاء، ولكنا نسينا الله فأنسانا أنفسنا، حتى صرفنا أعظم عبادة كتبت علينا -إلى معنى الطعام نتخفف منه ¬

_ (*) جريدة الأهرام 15/ 7/ 1950

لتصح أبداننا، ونبذله لنواسى فقيرنا، ونجتمع عليه لتأتلف قلوبنا، ونصوم شهر رمضان فلا تصح لنا أبدان، ولا يواسى فقير، ولا تأتلف قلوب- وإذا تم بعض ذلك فسرعان ما يزول بزوال الشهر وتنتهي آثاره في النفس وفي البدن وفي المجتمع. ولو أنصفنا هذه الكلمة المظلومة المعذبة لرأينا الصيام -كما كتب على أهل هذا الدين- طاعة خالصة بين العبد وربه، يأتيها الفقير الهالك ابتغاء رضوان الله، ويأتيها الغني الواجد ابتغاء رضوان الله، ويأتيانها جميعا في شهر رمضان، ويأتيانها فرادى في غير شهر رمضان، لا ليعيشا في معاني المعدة بالبذل أو بالحرمان، بل ليخرجا معا سواء عن سلطان الطعام والشراب، وليخرجا معا سواء من سلطان الشهوات بل ليخرجا معا سواء من سلطان كل نقيصة: من سلطان الخوف فلا يخاف أحدهما إلا الله، ومن سلطان الرياء فلا يعمل إلا لله. وليس بين الصائم وبين ربه أحد، ولا يحول بينه وبين الاستجابة لربه شيء من أشياء الدنيا، أو حاجات البدن، أو داعيات الغرائز أو نزوات العقول. فتأمل معنى الصيام من حيث نظرت إليه: هو عتق النفس الإنسانية من كل رق: من رق الحياة ومطالبها ومن رق الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رق النفس وشهواتها ومن رق العقول ونوازعها، ومن رق المخاوف حاضرها وغائبها، حتى تشعر بالحرية الخالصة، حرية الوجود، وحرية الإرادة، وحرية العمل. فتحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضا وتأتيه تطوعا. ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض، لتقيم فيها الحق، ولتقضى فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق- لا يرضى لها أن تذل لأعظم حاجات البدن لأنها أقوى منها، ولا لأعتى مطالب الحياة لأنها أسمى منها، ولا لأطغى قوى الأرض لأنها أعز سلطانا منها. وأراد الله أن يكرم هذه العبادات فأوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر الناس عن ربه إذ قال "الصوم لي"، فلا رياء فيه لأنه جرد لله فلا يراد به إلّا وجه الله، فاستأثر به الله دون سائر العبادات، فهو الذي يقبله عن عبده، وهو الذي يجزى به كما يشاء.

وقد دلنا الله سبحانه على طرف من هذا المعنى. إذ جعل الصيام معادلا لتحرير الرقبة في ثلاثة أحكام من كتابه إذ جعل على من قتل مؤمنا خطأ تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}. وجعل على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا تحرير رقبة من قبل أن يتماسا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. وجعل كفارة اليمين تحرير رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ}. فانظر لم كتب الله على من ارتكب شيئا من هذه الخطايا الثلاث: أن يحرر رقبة مؤمنة من رق الاستعباد، فإن لم يجدها فعليه أن يعمل على تحرير نفسه من رق مطالب الحياة، ورق ضرورات البدن ورق شهوات النفس، فالصيام كما ترى هو عبادة الأحرار، وهو تهذيب الأحرار وهو ثقافة الأحرار. ولو حرص كل مسلم على أن يستوعب بالصيام معاني الحرية، وأسباب الحرية، ومقاليد الحرية، وأنف لدينه ولنفسه أن تكون حكمة صيامه متعلقة بالأحشاء والأمعاء والبطون في بذل طعام أو حرمان من طعام -لرأينا الأرض المسلمة لا يكاد يستقر فيها ظلم لأن للنفوس المسلمة بطشا هو أكبر من الظلم، بطش النفوس التي لا تخشى إلا الله ولا يملك رقها إلا خالق السموات والأرض وما بينهما. ولرأينا الأرض المسلمة لا يستولى عليها الاستعمار، لأن النفوس المسلمة تستطيع أن تهجر كل لذة وتخرج من كل سلطان، وتستطيع أن تجوع وتعرى وأن تتألم وتتوجع صابرة صادقة مهاجرة في سبيل الحق الأعلى وفي سبيل الحرية التي ثقفها بها صيامها وفي سبيل إعتاق الملايين المستعبدة في الأرض بغير حق وبغير سلطان. واستطاع كل مسلم أن يكون صرخة في الأرض تلهب القلوب، وتدعوها إلى خلع كل شرك يقود إليه الخوف من الظلم، ويفضل إليه حب الحياة وحب الترف وحب النعمة، وهي أعوان الاستعمار على الناس. ويوم يعرف المسلمون صيامهم حق معرفته، ويوم يجعلونه مدرسة لتحرير نفوسهم من كل ضرورة وكل نقيصة، فحق على الله يومئذ أن ينصر هذه الفئة الصائمة عن حاجات أبدانها وشهوات نفوسها، الطالبة لما عند ربها من كرامته

التي كرم بها بنى آدم، إذ خلقهم في الدنيا سواء أحرارا لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وفعل الخيرات. ويومئذ ينصرهم على عدوهم ويستخلفهم في الأرض مرة أخرى لينظر كيف يعملون.

مع الشيطان الأخرس

مع الشيطان الأخرس قرأت الكلمة التي كتبها صديقنا الدكتور زكي نجيب محمود في الأهرام الخميس 4/ 3/ 1976، ولا أقول أنها ساءتنى، لأن الذي يسوء كثر وتفاقم حتى تبلد الإحساس به. وأحب أن أجعل الأمر واضحا كل الوضوح. فالذي يسوء مما يكتبه من يدعى الالتزام بما كان عليه السلف، كثير جدًّا أو فوق الكثير، والذي يسوء مما يكتبه الداعون إلى طرح العودة إلى ما كان عليه السلف، كثير أيضا وفوق الكثير. فمن أجل هذا تعجبت من قول الدكتور زكي "أنه يجد موجة تطغى على حياتنا الفكرية والشعورية طغيانا يزداد كل يوم قوة وصرامة، حتى ليخشى أن يقول عنه أنه طغيان يبلغ حد الإرهاب الفكري الذي لا يدع مجال الحرية في التعبير عن الرأي مفتوحا للجميع على حد سواء، فهو مفتوح على مصاريعه لأصحاب جانب واحد من جوانب القول، مغلق بالضبة والمفتاح أمام الجوانب الأخرى أو قل إنه يكاد". وهذا عجيب جدا. أوشكت أن أقول إن الدكتور زكي قد مل قراءة الصحف والمجلات، حتى صحيفة الأهرام التي يكتب فيها. فمن أجل ذلك صار لا يرى الأمر بوضوح كاف مع خبرتى القديمة بوضوح رؤيته لما يحيط به، وصدق تعبيره عما يرى. وأستطيع أن أشهد صادقا أنى أرى الأمر على غير ما يرى، فإن الجوانب الأخرى، تمارس ضروبا من الإرهاب الفكري، وضروبا أخرى من العبث بعقول الناس، وضروبا ثالثة من الحجر "الصحي"! ! لا يكاد يقارن بها ما يمارس الجانب الذي كره هو ما رآه من إرهابه الفكري. وأنا لا أحب أن أناقش صديقي الدكتور زكي فيما يثير كراهيته لما يسميه "العودة إلى السلف في رسم الطريق الذي يراد لنا أن نسلكه في أكثر جوانب حياتنا حيوية وأهمية"، وهذا لفظه -لا أريد أن أشرحه ولا أن أحلله في هذا ¬

_ (*) جريدة الأهرام: 12/ 3/ 1976

الموضع وإن كنت قد تناولت مثله قديما في مكان آخر (¬1). ولكني أريد أن أنبه الصديق الكريم أن الموضوع الذي تناوله للبيان عن هذا الإرهاب هو موضوع "قطع يد السارق" وموضوع "تحريم الخمر"، قد تناوله بمجلة لا تليق به ولا بأدبه الذي أعرفه، وكنت أحب أيضا أن لا يورط نفسه في مثله وبمثل هذه السخرية الخفية المبنية على قصة هو مسئول عن صحة روايتها عن الشيخ حافظ وهبة، فإن كان الشيخ حافظ قالها كما رواها الدكتور، فهو مسئ فارق الأدب في الحديث عن حد من حدود الله سبحانه. وأما قصة واصل بن عطاء والخوارج التي أدهشت الدكتور زكي، فهي لا تدل على ضيق الأفق كما قال، بل تدل على أن الذين لا يفهمون ما أنزل عليهم من القرآن على الوجه الذي أنزل عليه، ويتلعبون بأحكام الله في كتابه، قوم بلا عقول. وواصل بن عطاء، الذي زعم له الدكتور مكانة دينية وفكرية، هو نفسه ممن أخطأوا الطريق إلى فهم ما نزله الله من القرآن وبلغ هو وأصحابه وشيعته مبلغا من الإرهاب والقسوة والفجور في الحكم، حين صارت إليهم مقاليد الحكم في خلافة المأمون. أما الفقرة الثانية الخاصة بالمرأة، وقول من قال أنها "سهم من سهام إبليس"، فإن كان قائلها قد أساء من وجه في لفظه، فأغرب من إساءته: ما انتهى إليه الدكتور زكي في تعقيبه بقوله: "أيكون البشر على هذه الصورة الشيطانية الرهيبة؟ ألا نتقى الله في كرامة الإنسان، إذا كنا لم يكن بنا رغبة في أن نتقيه في القيم الحضارية كلها"، فهذا تعقيب في غاية الغلو، وإدراجه تحت "الإرهاب الفكري" مسألة أعجب وليس بى حاجة إلى دلالة الدكتور على أن فتنة الرجال بالنساء، مسألة لا تحتاج إلى إيضاح، وأن قائل تلك العبارة، إن كان قد أساء، فإنه لم يبلغ المبلغ الذي ظنه الدكتور في كلامه، بل وضع لفظا في غير موضعه لا أكثر ولا أقل، لا يعني به أما ولا أختا ولا زوجة ولا كريمات النساء وحرائرهن في أمتنا وفي غيرنا من الأمم. ¬

_ (¬1) وذلك في مقاله "مواقف"، يأتي ص: 1051 - 1070

وأما الفقرة الثالثة، التي علق فيها على خبر في تقرير صحفي نشرته الأهرام عن مؤتمر الاقتصاد الإسلامي، وما قاله أحد من سماهم "أئمة الدين": "أن رجال الشريعة، قادرون على أن يقولوا كلمتهم في كل شيء"، فأقصى ما كان ينبغي أن يقال فيها إنها عبارة سيئة أيضا عن معنى صحيح، وهو أن كتاب الله وسنة نبيه، فيهما أصول جامعة، ليستنبط منها علماء الأمة المسلمة في كل زمان طريقا صحيحا للعمل ما استطاعوا. ولا يكون عالما من علماء الأمة من يتكلم في شيء يجهله من شئون زمانه كالذي نراه اليوم ممن يتكلم في الأدب، وهو لا يحسن شيئًا منه، وفي الاقتصاد، وهو يجهل أصوله ولم يتعلمها تعلما كافيا، وفي الفلسفة وهو لا يحسن إلا ما يعرف من قشورها، والدكتور زكي أخبر بهؤلاء وقد تناولهم في بعض ما كتب، مع أنهم يتولون تعليم الفلسفة في الجامعات، كما قال. وإذن، فالسيل قد أغرق الزُّبى، لا بهذا الذي ذكره في الفقرات الثلاث التي ظن أنها عودة إلى السلف، بل هو قد أغرق الزبى، وغطى قمم الجبال بعبث آخر يجرى في حياتنا الفكرية والعقلية على يد من يكرهون العودة إلى السلف، وعلى كل حال، فأنا سلكت نفس الطريق الذي سلكه أخي الدكتور زكي، في ترك المواجهة بالألفاظ الصريحة الدالة على المعاني الواضحة، وتحيتى إلى الصديق الكريم.

"يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته"

" يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته" علاقتى بصديقي يحيى حقي -رحمه الله- بدأت مع بدايات الحرب العالمية الثانية. أو بالتحديد في أواخر عام 1939 لتمتد حتى يوم زيارته وهو على فراش الموت في غرفة الإنعاش .. قبل رحيله ببضعة أيام، لتستمر هذه العلاقة أكثر من ثلاثة وخمسين عامًا استمرار حياتنا، فلا يقطعها إلا سفر له أو لي .. وقد بدأت هذه العلاقة بداية غير مألوفة بالنسبة لي على الأقل. إذ زارنى السفير عثمان عسل، ودارت بيننا أحاديث أحسست خلالها بأن هناك ما يريد أن يقوله، وإذ هو بقائله. وخلاصته أن هناك صديقًا عزيزًا لديه ود التعرف بى. وهو على استعداد لزيارتى. هذا الصديق هو يحيى حقى. وينبهنى عثمان عسل بأمر ربما فزعت له في حينه، وهو أن لا أشتد في المناقشة أو أغلظ في القول معه قائلًا: "إن يحيى حقى إنسان عذْب الحديث رقيق الحاشية دمث الخُلُق .. فنان إلى أبعد الحدود فلا تشتدّ عليه". وقد عجبت لهذا التقييم غير المتوقع .. فلا أنا مُغلظ في القول لأحد يزورنى، وليس ما أسمعه عن يحيى حقى ليستحق شدة الجدل أو المناقشة. وجاء الاثنان يحيى حقى وعثمان عسل. وتحدثنا ساعات طوالًا وتفرّع بيننا الحديث إلى أكثر من اتجاه. حتى حان موعد انصرافهما. وخلال عبارات التوديع التقليدية. نظر إليّ يحيى هذه النظرة الوَدود الحانية وقال برقة بالغة: "أتسمح لي أن أزورك مرة ثانية؟ ". وعلى قدر ما راعتنى منه هذه المودة وذلك اللطف، بقدر ما كانت دهشتى وعجبى لهذا الطلب الذي لم أتعوّده. فوجدت نفسي أقول له مندفعًا: "يا أخي البيت بيتك وأنا أخوك. وزيارتك لي حق لك ودَيْن عليّ. ثم إن أبغض الأشياء إلى النفس أن توضع الحدود والقيود بين البشر". ¬

_ (*) جريدة "الأهرام" -العدد 38728 - 18/ 12/ 1992 - ص 8

وفي اليوم التالى فوجئت بمكالمة من وزارة الخارجية ليكون المتحدث هو يحيى حقى حيث كان يعمل بها لتنتهي بطلب الزيارة. وفي هذه اللحظة أيقنت أن يحيى هو صديق الحياة الذي لا يمكن الإبتعاد عنه إلا بالموت و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. واستمرت هذه العلاقة كما قلتُ ثلاثة وخمسين عامًا. وازدادت قوة مع الأيام إلى درجة أنه ترك بيت العائلة وأقام معى في بيتى عشر سنوات لا نفترق فيها قط، ولم يقطعه إلا زواجه الأول من والدة كريمته "نهي" ليعود إلينا بعد وفاتها مواصلًا هذه العلاقة مع إخوة كرام في مقدمتهم فتحي رضوان، وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل، ومحمد لطفي جمعه وإبراهيم صبرى ابن شيخ الإسلام مصطفى صبرى المنفي في تركيا وعثمان عسل. كانت علاقتى بيحيى حقى مزيجًا من صلات العمل العلمي والأدبى، وخلافات في الرأي ووجهات النظر، مع تباين واضح في الأمزجة والطباع وتبادل لمحات الفكر، وجوانب المعرفة. والحق أنها كانت صُحبة عظيمة خيل إليّ بعدها أننى كنت أعرف يحيى حقى منذ عشرات السنين وذلك لدماثته وأدبه وصفاء نفسه. كنا ننفق وقتًا طيبًا في قراءة الأدب العربي القديم شعره ونقده ونثره وتاريخه. وكان يحيى أكثر الموجودين التقاطًا للتعبيرات والألفاظ وأسرعهم حفظًا للشعر. كنا نلحظ ذلك إلى درجة أننا فسرناه أنه يريد أن يُحَصِّل في ساعات وأيام ما لم يُحصِّله في شهور وسنين. وكنت والرفاق نعجب لذلك. ويزداد عجبنا حيث نلحظ تنبهه إلى جمال العبارة العربية، واكتشافه المبكر لأسرار بلاغة العرب، وقدرته الفائقة على اختزان كل ما يعرف وتمثله فيما يكتب بأسلوبه وعباراته بغير محاكاة أو تقليد. وإنما باقتدار وفن. براعة جعلته لا يقع فيما يقع فيه غيره من النقاد والأدباء. وهو ما أكسبه شخصية متميزة ومستقلة قائمة بذاتها كامنة في نفسه لا تظهر إلا عند الكتابة أو الاحتكاك بالآخرين. وعلى امتياز يحيى حقى وتفوقه في المجالات التي اختارها لنفسه. كنت ألمح فيه شفافية من الصعب أن

ألمحها في غيره. إلى درجة أنه كان يستشعر أمورًا يصدق فيها دائمًا. ولعله استشعر نهايته في الأيام الأخيرة قبل وفاته حيث أكد لي بأنه يعيش الأيام الأخيرة من حياته. ولم يمض على ذلك إلا أيام دخل بعدها غرفة الإنعاش لأزوره، وتنبهه كريمته قائلة: عمى محمود شاكر. فيرد عليها وقد ضعف بصره تمامًا: أنا لا أعرف أحدًا بهذا الإسم. أعرف محمود محمد شاكر وكأن اختصار ابنته للاسم لم يقنعه. لقد كان يحيى حقى بالنسبة لي أخًا وصديقًا سرنا معًا في زمن واحد، ومشينا في طريق واحد، وكنا ننتهي إلى غاية واحدة ولم يتخلَّف أحدنا عن الآخر حتى فرّق بيننا الموت وإنا لله وإنا إليه راجعون.

لا تنسوا ..

لا تنسوا .. لا أعلم نكبة نزلت بالشرق العربي والإسلامي بلدا بلدا كانت أفحش أثرًا وأشأم عاقبة من نكبة النسيان والغفلة. لقد نسينا نسيانا تاما أن العالم كما هو في الواقع الذي نشهده بالليل والنهار، قد انقسم قسمين: قسم من الأقوياء، يقع الصراع بين قواه حتى يبلغ الحرب العالمية المدمرة، وهو إنما يصطرع ويقاتل، على القسم الثاني من العالم، وهو الضعفاء. والقسم الأول من هذا العالم يرى أنه هو السيد، وأن القسم الآخر هو العبد الذي لا ينبغي أن يطمح إلا بقدر محدود يُعِينه على أن يكون حسن الإنتاج في خدمة هذا السيد. وهؤلاء الأقوياء هم شيء واحد وإن اختلفت أسماؤهم: بريطانيا، روسيا، أمريكا، فرنسا، هولاندة، أسبانيا. وهم إن اختلفوا فيما بينهم، لا يختلفون أبدا على القسم الثاني من العالم، وهو الشرق المستعبد، ينبغي أن يظل كما هو، وأن يتعاونوا جميعا عليه حتى يبقى كما هو، ومن استطاع أن يستعمر بنفسه فعل، ومن لم يستطع فهو يؤازر أخا له على الاستعمار واستعباد الأحرار. أنه شيء معلوم بالضرورة، لأنه ظاهر بين. بيد أننا ننسى كل هذا، وقد أنشأ المستعمر مثلا مدارسنا بيديه، ووضع لنا برامجها بنفسه وتولى الإشراف عليها حتى نشأ الجيل الذي يستولى به على أداة الحكم كلها، ومنها وزارة المعارف. فنحن نتعلم في هذه المدارس والجامعات وننسى أن أكثر ما يلقى الينا: أما علم "يصرفنا عن التأهب لقتال الغاصب المستعمر" أو علم يقرب ما بيننا وبينه ليكون التفاهم معه أقرب، والاعتدال في عدوانه أدنى وأسرع، ونحن نتكلم عن الاستعمار الاقتصادى ولكننا ننسى فنعيش بهذا الاقتصاد، وفي ظل نظامه الاجتماعي يوما بعد يوم عيشة اللاهي المستمتع، بل عيشة الذي لا يرى الحياة إلا هذا الضرب من الحياة. إننا ننسى أن هذه الأمم المستعمرة قد نزلت بكل مكان وكل أرض، ¬

_ (*) اللواء الجديد، عدد 7 أغسطس سنة 1951، ص 3.

بجيوشها تارة، وبسياستها تارة أخرى، وباقتصادها تارات أخر، وبحضارتها في كل ساعة من ساعات الحياة التي نعيشها. فإذا رأينا مثلا حوادث تتتابع وتتلاحق فجأة وفي كل مكان، فِكَرنا في كل واحدة منها هي فِكَرُنا في كل واحدة منها على حِدَة ونسينا الذي وراء الستار، نسينا الدافع الذي في يده أن يدفع، وفي يده أن يمنع. تثور إيران، ويضطرب ما بين الهند وباكستان، وتنشب معارك بين بعض البلاد وإسرائيل، وتتقابل أحزاب السودان وتتشقق، وتضطرب معاني القلق في مصر، ويقتل وزير، ويهلك منصوب على عريق من الذهب البريطاني وتقوم مشكلة دولية مفتعلة كناقلات البترول، وتدور تمثيلية المفاوضات بين انقطاع واتصال، وتظهر فجأة المادة الخامسة عشرة من الدستور، إلى ضروب أخرى من الأحداث في كل ناحية من نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية وتأتي كلها في وقت بعينه، ويشغلنا شيء منها عن شيء، وندور مع هذه الأحداث كما تدور، بلا روية وبلا تفكير. ما معنى هذا كله؟ لا شيء. إن الشرق العربي والإسلامي، يحاول أو تحاول صحافته على الأقل، أن تفسر كل حدث من الأحداث على أنه أمر مستقل، يجعل عامة الناس يقنعون بأنهم عملوا شيئا، أو استطاعوا أن يعملوا شيئا، أو أنهم أرادوا مجرد إرادة -أن يعملوا شيئا يحقق وجودهم في هذه الدنيا. وقلما تجد من يحاول أن يرتاب في الباعث الذي يحرك كل هذه الأحداث مرة واحدة، ويجعلها في أعيننا متلاحقة متداركة، في أوقات متقاربة ومقرونة بضجة صاخبة طويلة عريضة كمهزلة قضايا الجيش! قل أن تجد من يحاول أن يرتاب أدنى ريبة، لأننا نسينا، وأريد بنا أن ننسى أن الاستعمار أو المستعمر موجود بين ظهرانينا، بجيوشه، وباقتصاده، وبسياسته، وبأسلوب تفكيره الذي ارتضاه لنا، وبحضارته التي بثها فينا واستعبدنا لها، وبأداة حكمه من زعماء ووزراء وأعوان لهم في كل مرفق من مرافق الحياة. وبأنظمة حكمه من دستورية واستبدادية وعرفية! فأي نكبة أبشع، وأي بلاء أفظع من أن تفقد الأرض التي اسْتعبِد أهلها من يحذر الناس ويقول لهم: لا تنسوا، وقبيح بكم أن تنسوا أن المستعمر الخبيث قد اختبأ وراء كل عمل يغركم ظاهره.

إنه ليس من المعقول أن تحدث هذه الأحداث فجأة، متوافقة في ترتيب الحدوث، بغير تدبير سابق. فإذا خفي التدبير، وعجز صاحب الرأي عن تفسير الغرض من حدوثه، فليس معنى ذلك أنه ليس تدبيرا مبيتا وأنه جاء فجأة متلاحقا لغير غرض محدود. إن صريح العقل يوجب على كل ذي عقل أن يرتاب، وأن يجعل الريبة مقرونة إلى الاستعمار وأعوان الاستعمار وأن يرى وراء هذه الأحداث شيئا واحدا، هو المستعمر نفسه. ويقتضينا صريح العقل أن ننسى الأحداث نفسها، لنذكر غاصب بلادنا، والمعتدى على حريتنا، ثم نعمل على بث الريبة في كل نفس وكل فكر، فلا نضيع أيامنا وليالينا في النزاع على أحداث لا معنى لها. إلا أن الاستعمار قد نجح في أن يشغلنا عن نفسه بأنفسنا، وفي أن يذكرنا بهذه التوافه الصاخبة، لننسى القارعة الكبرى، وهي وجوده في صور مختلفة عميقة في حياتنا بالليل والنهار. من الغفلة أن تصطخب الأصوات، ويصطرخ المتنازعون في الدستور وغير الدستور، وفي المذاهب وغير المذاهب، وفي رفع مستوى المعيشة وغير المعيشة، وفي أخطاء وزراء الاستعمار وغير وزراء الاستعمار، ويظل اسم بريطانيا وأمريكا وروسيا وفرنسا وهولاندة وأسبانيا ضميرا غير مذكور، ومنسيا غير معروف، وغائبا غير مشهود. إن الحياة لا تعاش بالأوهام، وإنما يعيشها من أراد أن يعيش بالإرادة الصادقة، وبالرأي الصريح، وبالهدف البين، وبالحق الذي لا يتجزأ، وبالمشقة التي توهن البدن وتستهلك القُوَى. فإذا أردنا الحياة، فإنما حياتنا أن نعرف العار الذي ألبسنا ذلة الاستعمار، فلا ننام حتى ننفض عنا الذل، بإعلان العداوة لعدونا الواحد الذي يتسمى بأسماء كثيرة في هذه الأقاليم المتراحبة من تخوم الصين إلى حدود المغرب الأقصى. اذكروا اسم عدوكم، فإن نسيانه جريمة. واعرفوا عمل عدوكم فإن جهله هو الذل، وحرضوا أنفسكم على أن تقاتلوه بالليل والنهار، في تفكيركم وأعمالكم، وفي بيوتكم وشوارعكم وفي كل شيء من أشياء الحياة له فيها أثر ظاهر أو رسم خفي. لا تنسو، فإن النسيان هو الهلاك. . . .

عدوى وعدوكم واحد!

عدوى وعدوكم واحد! أخي علال الفاسي. . . . . . لقد أوشكت أن أقول "عدونا وعدوكم واحد"، ولكني آثرت أن أسند العداوة إلى المفرد: لأسباب كثيرة منها: أننى أحببت أن تكون هذه الرسالة كأنها موجهة إليك من كل قارئ، بل من كل عربي، فأنت تسمع أصواتهم جميعا، تعج في مسامعك بلفظ واحد: "عدوى وعدوكم واحد". وبذلك ترى آلافا مؤلفة قد رفعت لعينيك وأن تقرأ، وكل منهم مستقل بعداوته، فإن غاب واحد أو اثنان أو ثلاثة أو عشرات لم يقدح ذلك شيئا في كثرة الداعين والهاتفين. ثم هو أدل على أن استقلال كل فرد بعداوته ينطوى على عزيمة ونية ثابتة لا تتحول ولا تتأثر بتغير الأحوال، وعلى أن كلا منهم لا يرى أنه فرد مسوق في جمهور صاخب، بل يرى أن الآلاف المؤلفة من حواليه صور قد لبست الفكرة فعاشت بهم، ومشت بهم، ونطقت بهم وستعمل بهم عملا ينبغي أن يتم لأنه إرادة وعزيمة ونية وهدف، لا حياة إلا بتحقيقها جميعا. بل لعلي آثرت هذه الصيغة ليكون قارئها في هذه الصحيفة، مستشعرًا معنى العداوة في نفسه، وهو يخاطبك من خلالها بلسانى، فإذا ألح عليه تأمل هذا المعنى فتح عينيه على حقيقة العداوة، ما هي؟ ولمن هي؟ وكيف تكون؟ والإجابة على هذه الأسئلة الثلاث هينة، ولكنها تدلس بهوانها في بادئ الرأي. فهي في الحقيقة شاقة عسيرة، تحتاج إلى تفاصيل كثيرة، لو ذهب إنسان يحصيها، ويمحص ضروبها وأنواعها، ويميز بين طيبها وخبيثها، لاحتاج إلى مجلد ضخم، لا إلى أسطر في رسالة، أو مقالة في صحيفة، أو فصل في كتاب. ما العداوة؟ أهي مجرد البغضاء والحقد؟ إذن، فهي سفه وسوء خلق. أهي مجرد الشعور بأن تكره إنسانا ما، أو ناسا ما، لأنك تحس بهذه الكراهة بلا سبب بين عندك، أو بسبب بين ولكنه لا يزيد على أن يجعلك تكره وينطقك بهذه الكراهة؟ وإذن فهي إضاعة لجهد النفس، وإفساد لصحة الرأي. والعداوة بهذه ¬

_ (*) اللواء الجديد، عدد 24 أغسطس سنة 1951، ص 3.

المعاني وأشباهها لا نبل فيها ولا شرف. وأختصر هذا التفصيل إلى ما تحققته أنا في نفسي من معنى العداوة، ولست أشك أنك قد تحققت مثله، وأن كثيرين غيرنا عرفوه وأدركوه. فنحن نعادى الاستعمار -مثلا- لما فيه من بذاءة العدوان على أصحاب الحرية، ولما فيه من فجور الطغيان على الضعيف العاجز، ولما فيه من الشره على احتياز الخير لنفسه ومنعه عن أهله ومن هم أحق به، ولما فيه من خسة الهدف لأنه يعمل على إسقاط همم الناس والتغرير بهم وتنويمهم حتى لا يفيقوا فيستخرجوا حقهم بأيديهم من الغاصب، ولما فيه من لؤم الطبيعة الدافعة إلى احتقار جماعات من البشر، لا لشيء إلا لحب المال وحب السيطرة، وحب العلو في الأرض، ولما فيه من التفريق بين بنى آدم على أساس المعدة والشهوة والترف، ولآلاف من المعاني الرديئة التي لا يحصيها حصر، ولا يجهلها سليم الفطرة من الناس. فنحن نعادى إذن هذه المعاني الخسيسة، لنحب أضدادها من المعاني النبيلة، وذلك لا يتيسر إلا بإدراك كل هذه الخساسة التي يتضمنها الاستعمار، فإذا أدركناها فعلينا أن نجتنبها في الخاص من أمورنا نحن وفي العام منها. فأول معاني العداوة إذن هو إدراك الخسيس وتجنبه، وإدراك النبيل والعمل به والحرص عليه. وتحصيل ذلك يتطلب من كل فرد يعادى الاستعمار أن يدور بعينيه وبرأيه وبفكره في كل ما يحيط به ليعرف مواضع الخسة واللؤم والبذاءة، ويفعل مثل ذلك في تمييز المروءة والنبل والطهارة وأعمال الفضيلة، ويمثل معانيها أعمالا في نفسه باتباعها، وبدعوة إخوانه إلى فعل ما يفعل، ونهيهم عن ارتكاب هذا الحشد البغيض من مثالب الاستعمار، وأخلاقه التي أنشأته ومكنت له في الأرض. ونحن لا نعادى الاستعمار، إذا نحن لجأنا في مقاومته وقتاله إلى نفس الأخلاق التي منها نبع. ولا نعادى الاستعمار إذا عشنا حياتنا بما يعيش هو به من الطغيان على الضعيف والعاجز، ومن الشره الظالم لحقوق الناس، ومن الخسة في التغرير بهم وتنويمهم وإسقاط هممهم، ومن لؤم الطبيعة في إحتقار بعضنا بعضا، ومن حب المال والسيطرة والعلو في الأرض، ومن جعل حياتنا معدة وشهوة وترفا

ومتاعا لا نبالى معه أن نظلم ضعيفا، أو نجور على غير قادر، أو نغتال حق رجل منا لا فضل لنا عليه ولا ميزة، إلا أن يكون فضلا مغتصبا، وميزة ندعيها. وإذن فالعداوة، إدراك صحيح، وعمل صادق، إذا لم يتحققا جميعا صارت العداوة لغطا نتشدق به، لا معنى له ولا خير فيه. وهي شيء ينبغي أن يحققه كل فرد بنفسه وفي نفسه أولا، مستقلا عن سواه بمجهوده وعمله، ثم يصير الأمر عمل جماعة لأن الفكرة الواحدة كالضوء مصدرها واحد، ولكنها تجمع الآلاف وتنير لهم الطريق، كل على قدر ما يستطيع، وبقدر ما أوتى من بصر ومعرفة، فكلهم يعمل، لأنه يرى ويبصر ماذا يعمل وفيم يعمل. هذه واحدة، لعلى وفقت في بيان بعض معانيها. أما لمن تكون العداوة؟ فأظننى قد بينت عن العدو، وهو الاستعمار، ولكنه بيان غير كاف. وأشهدك على أن بيانه متعبة شديدة، فهو متلبس بكل شيء. متلبس بهذه الدول الطاغية التي تتناحر فيما بينها على غير معنى نبيل للحياة الإنسانية، والتي اعتدت على أكبر جزء من العالم لتستغله وتستعبده، وتبقيه أبدا غير مطيق للنهوض بنفسه، إلا معتمدا عليها. وهو متلبس بنفس الحضارة، التي تحاول أن تزعم نفسها حضارة إنسانية شاملة، وهي ليست إلا حضارة نابتة في جزء صغير من العالم، ويريد أن يفرضها على العالم كله بسيئاتها جميعا، وذلك الجزء الضخم من العالم لم يشترك في إيجادها ولا في رعايتها ولا في إمدادها والقيام عليها. وهي حضارة لا تقوم على فكرة تدعو إليها، بل على سيطرة تريد أن تضربها على قلوب الناس وعيونهم وبصائرهم، ولا أصل لها في هذه القلوب، وهي لا تهدى عيونهم، ولا تنير بصائرهم، بل تقودهم بعمى الشهوات والفتن والجهالة، إلى غرض واحد، هو أن يعيش هذا الضرب من الحضارة سيدا على هذه الأرض. فنحن إذن ينبغي أن نعادى شيئا كثيرا، بل أشياء كثيرة تعترف عقول كثيرة أيضا بأنه جزء لا غنى عنه للحياة الإنسانية فيما يزعمون، ولكن هل يمنع ذلك أن يكون الحق حقا أبدا؟ مهما تنوعت أسماء الدول المستعمرة، ومهما كثرت،

فهي فيما ينبغي لنا أن نعرفه، دولة واحدة. ومهما تفرقنا نحن في الأرض التي خضعت لهم، فينبغي أن نكون عداوة واحدة لهذه الدولة، الواحدة الحقيقية، المختلفة الأسماء. والحضارة التي قامت في هذه الدول، نبعت فعلا من نفس الأخلاق التي جعلت الاستعمار كما وصفناه طاغيا باغيا شرها خسيس الغرض، لئيم الطبع، جريئا على إهدار الكرامة الإنسانية. فينبغي إذن أن نعاديها بنفس الأسلوب الذي نعادى به الاستعمار. وإذا ظن أصحاب هذه الحضارة أن حضارتهم ينبغي أن تشمل الأرض جميعا، بالأساليب التي يتبعونها في بثها، لتكون لهم ثمرة جهود العبيد الذين تستعبدهم لخدمتها فعلينا نحن أن نستيقن أن كرامة الإنسان لا يمكن أن تهدر، وإن إنشاء الحضارات شيء قائم في طبيعة الجنس البشرى، قد أوتى القدرة عليه منذ وجد على الأرض بلا أداة، ولا علوم، وبلا فنون، وبلا صناعات. ومن الجهل أن نعتقد أن الجنس البشرى يتقدم أو يترقى بهذه الحضارة، في حين نراه قد انقسم هذا الانقسام الشنيع إلى: طاغ ومحطم، إلى: ظالم ومظلوم، إلى: آكل ومأكول، إلى: حي يستأثر، وهالك يستغيث. ولن يضيرنا شيئا أن نعادى هذه الحضارة، لأننا بالفطرة قادرون على إنشاء حضارة أفضل منها، إذا أقمنا عداوتنا على الأصل الصحيح، وهو بغض الفساد، وحب الإصلاح، وكراهة الشر وإلف الخير، وتحقيق معاني ذلك كله في حياتنا كلها بالليل والنهار، في بيوتنا وشوارعنا، في معاملاتنا وخصوماتنا، في صغير أمورنا وكبيره، غير غافلين ولا متهاونين ولا متعجلين أيضا، فعندئذ سوف ينبثق على هذه الأرض نور جديد يمحو هذه الظلمات الباغية التي أطبقت على العالم، وسنكون نحن هداة هؤلاء -الذين عاديناهم- إلى طريق صحيح، يعرفون به كرامتهم، لأنهم عرفوا للناس كرامتهم، ويهتدون إلى السكينة التي فقدوها في عالمهم هذا، لأنهم سوف يعرفون أن للحياة معنى أكبر من معنى الاستئثار والغلبة والترف. ولن نبلغ هذا المبلغ إلا بأن نبنى أعمال حياتنا على غير ما بنيت عليه أعمال حياتهم، ولو اتخذنا نفس أساليبهم، ونفس أفكارهم، ونفس أضغانهم على

الجنس البشرى فنحن إذن مثلهم في الشر، بل هم أقوى منا فيه لطول ممارستهم له، ولاجتماع قوى الشر كلها في أيديهم، بل أفظع من ذلك أننا لن ننال شيئا من الحرية، لأننا أتباع مقلدون، نشعر في أنفسنا أننا أتباع وخدم، وإننا عاجزون محتاجون إلى هذا المدد المستمر من نفس عدونا. وبئس المصير! أما السؤال الثالث، فخيل إلى أنى أجبت عن بعضه في تضاعيف كلامي، وأنا أدع لك تفصيل وجوهه وأسبابه ووسائله فإن ذلك يسير عليك، وعلى كل إنسان صدقت عداوته لعدوه، وعرف الحق فاتبعه في نفسه قبل أن يحمل الناس عليه ويدعوهم إليه. والسلام.

أندية لا ناد واحد ..

أندية لا ناد واحد .. من أكبر الغفلة أن يظن ظان أن السياسة المصرية، بل الحياة المصرية، كانت تستمد أصولها من قلوب المؤمنين بحق بلادهم في الحياة وفي المجد، وأنها كانت خالصة من كل شائبة تفسدها أو تحولها إلى وجهة بعيدة كل البعد عن الصراط المستقيم. حسبك أن تعلم أن في مكان ما، مستعمرا ما، حتى يملأ قلبك اليقين أنه لن يدع الأمور تجري على ما يتفق بغير تدبير ولا سياسة ولا ضبط ولا فكرة. بل ينبغي أن تعرف كل المعرفة أنه لابد له من أن يكون شديد الحرص على أن يقلل أسباب القلق والمخاوف والريب، أو أن يمحوها محوا إن استطاع إلى ذلك سبيلا. وأنه من أجل ذلك ينبغي أن يكون عظيم الحذر، خفي الكيد، رفيق العمل، بالغ الأناة، واسع الحيلة. ولن يبلغ ما يريد من ذلك إلا بأن يستخفي هو عن عيون الشعوب ما وجد إلى ذلك طريقا. وكيف يستخفي إلا بأن يصطنع من أنفس الشعب ناسا يطمئن إلى أنه منه، لأنهم يمشون في ثيابه، ويتكلمون بلسانه، حتى يتشبه على الشعب فيما بعد أمر الصالح والفاسد من أبنائه. فإذا بدأوا يعملون ظنهم الشعب منه، وهم في الحقيقة عدو له. وتجري الأمور عاما بعد عام وجيلا بعد جيل، حتى إذا بلغ الأمر مداه، صار تمييز الحق من الباطل، والبرئ من المجرم، قضية معقدة تحتاج إلى فطنة وتتبع واستقصاء، وتفتيش عن خبايا الأعمال والأقوال، وعن أسرار المودات والمجالس، وعما وراء الأستار الكثيفة التي يعيش فيها كل إنسان على حدة. كشف اللواء الجديد عن أخبار نادى الشرق الأوسط الذي ذكره جون كيمش في كتابه "الأعمدة السبعة المنهارة"، وجاء في وصفه أنه: يضم موظفين بوزارة خارجية بريطانيا، وأكثر موظفي سفاراتها ومفوضياتها في الشرق الأوسط، وموظفي حكومة فلسطين، وموظفي شركات البترول، وبخاصة ¬

_ (*) اللواء الجديد، 28 أغسطس سنة 1951، ص 5 - 6.

الموظفين والضباط السابقين الذين خدموا في الشرق الأوسط من عهد لورنس إلى الآن. . . .". ولكن لم يزد جون كيمش على أن رفع الغطاء عن أصابع أقدام المارد المتلفع في أثياب الحياة المصرية الحديثة كلها. وهذه الأصابع أهون ما في الأخطبوط المارد. أين هذا النادى من معاهد التعليم الأجنبية التي تتلقى أبناء مصر وبناتها لتنفث في قلوبهم وعقولهم سحرا يدب في عروقهم ما عاشوا بين الناس؟ أنها بنيت للعلم، هكذا يقال. والحق أنها بنيت لأغراض كثيرة من الاستعمار: منها استعمار القلوب والنفوس والعقول والأهواء. ومنها تليين هذه الفطرة العاتية في الشعوب -وهي كراهة العدو. فعلم هذه المعاهد أن تسل من القلوب الغضة أسباب هذه البغضاء، حتى تألف عدوها فلا تنكره ولا تمقته، بل أكبر من ذلك: أن يستحيل عليها يوما ما أن تقاتله صادقة مستعلنة، أو تطاعنه جريئة مستبسلة. فأين إذن هذا النادى من معاهد الاستعمار أمثال الجامعة الأمريكية ومدارس الليسيه، والمدارس الإنجليزية، ومدارس الجزويت والراهبات وأشباهها، هذه تتدسس في القلوب والعقول والأفكار والبيوت، وفي كل الحياة العامة. فيا بعد ما بينهما! أين هذا النادى من الأساتذة في الجامعات المصرية الذين نظن أننا نستوردهم لتعليمنا، وهم مستوردون من مصانع تفريخ الاستعمار، يعيشون لغير العلم، ويعملون لغير العلم، ولهم نشاط ضخم في غير العلم، وأكبر همهم أن يبثوا في أبنائنا ما يبعد كل البعد عن حقيقة معنى العلم؟ أين هذا النادى من أندية الشركات المختلفة الجنسية المتفقة الغرض على استعمار أرضنا؟ تستجلب من يصلح لها من المستأجرين صغارهم وكبارهم، وتمهد لهم وتعينهم وتمكن لهم تمكينا، رأيناه يفضى أحيانا كثيرة إلى أن نرى من هؤلاء وزراءنا ورجال سياستنا وأعوان حكوماتنا؟ وأين هذا النادى من أندية الآلاف المؤلفة من المهاجرين المستعمرين الذين استوطنوا أرضنا حتى ملكوا تجارتها وصناعتها وأرزاقها جميعا، وخالطوا الناس وعاملوهم وصادقوهم،

وجاذبوهم الأحاديث في شئون كثيرة، وأهدوا إليهم من الآراء والأفكار ما بلغ خطره على الحياة الاجتماعية والسياسية مبلغا يعجزك تقدير خطره عن الأمم؟ أين هذا النادى من أندية أعوان الاستعمار الذين انبثوا في الصحافة، فوجهوها وجهة معينة في هذا القرن؟ أين هذا النادى من الأقلام الدخيلة المتسترة باسم العلم والفن والأدب والسياسة، وعملها موغل في التغرير بالجمهور المتطلع إلى الفهم والمعرفة؟ أين هذا النادى من الإذاعات العامة، كالسينما والراديو والتمثيل وأشباهها، وهي جميعا ملوثة بالفساد تعمل في تحريكها أصابع لا ترى، وألسنة لا تسمع، تبث في الناس ما تبث باسم اللهو والتسلية والترفيه، وفيها السم الذي لا ينجو ذائقه؟ أين هذا النادى من أندية مبثوثة في كل منزل، وفي كل طريق، وفي كل مكتب- تعمل باسم الصداقة أو باسم الخدمة العامة، أو باسم التجارة، أو باسم العلم والأدب؟ مئات من الأندية ورثت نادى كرومر في بيت نازلى، ومئات من الأندية ورثت أندية الأسواق التجارية الماضية. فلو نحن راجعنا تاريخ الأسماء التي وقعت في يدها مقاليد الحكم، أو كانوا أعوانا لهذا الحكم، لعرفنا جذور الفساد، وعرفنا أنها غاصت في أرض خبيثة، استطعمت منها أخبث غذاء، لتكون نكبة ماحقة مستشرية في الشعب المضلل. وأندية أخرى مثل هذه الأندية تقوم الآن في كل أرض للاستعمار فيها قدم، أو له فيها مطمع: في جزيرة العرب، في الشام، في لبنان، في العراق، في اليمن، في بلاد المغرب، بل في سائر بلاد الشرق. ويخرج من مجموع هؤلاء جميعا ناد أكبر من هذه الأندية جميعا، هو النادى المختلط الذي احتكر، أو أراد أن يحتكر، الكلام باسم هذه الأمم، ويتولى قيادتها وتصريف شئونها، ويذيع على الشعوب المغررة معاني لم تستمد أصولها إلا من الكذب والغش والفساد، ومن التجارة البشعة بمستقبل الحياة الحرة في هذا الشرق، لقاء عرض زائل من مال يثمرونه، أو شهرة يستمتعون بها، أو مجد يحلمون به.

ولكن حذار حذار، فإن النائم لابد له أن يستيقظ، والجاهل خليق أن يتعلم، والذاهل يوشك أن يفيق، فيومئذ لا يغني شيء عن العاقبة التي يرونها عيانا، ويومئذ يعلمون الحق علم اليقين. وذلك يوم قريب.

لا تخدعونا!

لا تخدعونا! كتب كاتب في الأهرام يعلق على موقف روسيا من مسألة قناة السويس، وأراد أن يفسر مسلك موسكو في هذا الأمر، وزعم بعد التطويل أن الخطأ خطأ وزير الخارجية النشيط، إذ تأخر عن الاتصال بموسكو، فسبقته إسرائيل إلى الاتصال بها، فغيرت روسيا موقفها من أجل إسرائيل. وهذا الضرب من التفسير، يراد به دائما أن نظل عالة نمد أيدينا إلى الأمم والدول، نطلب منها النصرة، ونخيل إلى أنفسنا أن لو فعلنا ذلك، لاستطعنا أن نصل إلى كثير، لولا تقصيرنا. وهذا الكاتب يخدع الناس .. فروسيا -وغير روسيا- لها سياسة هي بها أعلم، وهي إليها تسعى، ووزير الخارجية لا يعرف شيئا عن هذه السياسة، ولا يمكن أن يعرف، ومهما فعل فلن يغير شيئا منها، ولن يستطيع بلباقته المشهورة! ! أن يحول هذه السياسة إلى مصلحة بلادنا، وإسرائيل لم تكن هي التي غيرت سياسة روسيا فجعلتها تخذلنا بعد أن تظاهرت بنصرتنا. بل الحقيقة أن لروسيا أغراضا في مجلس الأمن وغير مجلس الأمن، -ولها سياسة ثابتة تعرفها- لا تغير بهذه السهولة بين عشية وضحاها من أجل إسرائيل، ومن أجل نشاطها السريع الحاسم، كما يزعم هذا الكاتب. كان أولى بالكاتب الفاضل، أن يبين لقراء الأهرام أن الشعوب التي تطلب الحرية، ينبغي أن لا تصدق الدول التي صارت كل صناعتها في العالم أن تسلب الناس الحرية، وتأكل الأمم أكلا لا يبقى على إنسانية ولا كرامة ولا شرف. حطموا هذه الأقلام الكاذبة، فقد قادتنا زمنا طويلا إلى اليأس والانحلال. كنتم بالأمس تهللون لروسيا وأنتم لا تعلمون، ماذا تخبأ، ويتأثر الشعب بتهليلكم ويفرح ويأمل، ثم يصبح وأنتم تنوحون وتفسرون! ! ليتأثر الشعب ويحزن بنواحكم ثم ييأس. وكأنكم تريدون أن تدعوا هذا الشعب يعيش في بلبلة دائمة ¬

_ (*) اللواء الجديد، عدد 4 سبتمبر سنة 1951، ص 5

بين الفرح والحزن، والأمل واليأس، حتى يتحطم في أيديكم وأيدى الاستعمار هذا ما تفعلونه عامدين وغير عامدين.

احذروا أعداءكم!

احذروا أعداءكم! تكاثر الحديث فجأة عن إلغاء المعاهدة، ولم يبق لسان ولا قلم لم يجر عليه حديث إلغائها، ولكني وقفت طويلا أتردد أن أغمس قلمى أو لساني في شأنها، حتى يستقر قرارى على ما ينبغي أن أكتب أو أقول. ثم تبين لي أن ثقل الصمت أفدح من وزر الكلام. وتبين لي أنه لابد من بيان وتفسير لما نحن فيه، وإلا فنحن صائرون لا محالة إلى مصير مفزع تسوقنا إليه سياسة الاستعمار. فإذا لم نفهم الآن كل الفهم ماذا يريد بنا عدونا، فلن نجد غدا من شره نجاة، وسنظل دائما في حيث أراد بنا أن نكون، وسنسير أبدا إلى حيث يريد لنا أن نسير. وقبل كل شيء، ينبغي أن نفرق بين الشعب والحكومة. فالحكومة في البلاد المنكوبة بالاحتلال، جزء من نظام الاستعمار، ولو زعمت أنها مستقلة في تصريف سياستها. ومن خداع النفس أن يتصور إنسان أن الحكومة تمثل إرادة الشعب، أو تفكر مثل تفكيره، وبخاصة إذا ثبت ثبوتا قاطعا أن جميع حكومات الاستعمار، لم تستنكف أن تعاونه مرات، وأن تخضع لما أراد أن يخضعها له، وأن تبقى في مناصب الحكم وهي تعمل بأمره وتحطب في هواه. وطريقة الحكومات في البلاد المحتلة، هي أن تهادن الغاصب وتفاوضه وتعاهده، أما الشعوب فلا تعترف بالمهادنة والمفاوضة والمعاهدة، إلا أن يدعى مدع أن الحكومة تمثل الشعب، فإذا رضيت هي شيئا، فالشعب راض عنه! وهذا باطل من أساسه، لأنه مناقض لطبيعة الحق الخالد: وهو أن الشعوب لا ترضى أبدا بالاستعباد وإن جاء في صورة معاهدة. فالحكومة والشعب شيئان مختلفان كل الاختلاف في عهد الاستعمار، ومن أجل ذلك كانت كل معاهدة بين الحكومة وبين حكومة الغاصب المستعمر، معاهدة باطلة من أساسها. والشعب لا يطالب بإلغائها، لأنها ملغاة فعلا في ¬

_ (*) اللواء الجديد، عدد 18 سبتمبر سنة 1951

نظره، لا يعترف بها أبدا: لأنها معاهدة معقودة بين المستعمر وصنيعة المستعمر، فهي لا تتعدى أن تكون معاهدة عقدها المستعمر بينه وبين نفسه. فإذا جاءت ساعة رأينا فيها الحكومة الضالعة مع المستعمر تقول: "لابد من إلغاء المعاهدة"، وسمعنا أصوات الشعب تردد الكلمة: "لابد من إلغاء المعاهدة" فربما خيل الى الناس بل الى الشعب نفسه أحيانا، أن معنى الكلمة واحد في لسان الحكومة وفي لسان الشعب. ولكن هذا باطل، وغير معقول أيضا، بل هو ما قيل فيه: "كلمة حق أريد بها باطل". كلمة الحكومة قاصرة على الإلغاء القانوني، واستبدال معاهدة بأخرى، لأن المعاهدة التي يراد إلغاؤها قد استنفدت أغراضها مثلا. أما الشعب فلا يذهب هذا المذهب في الإلغاء القانونى للمعاهدات بين دولتين مستقلتين، بل يريد أن لا يعترف بهذه المعاهدة، ولا بإبرام معاهدة بين الحكومات الضالعة مع المستعمر وبين الاستعمار، وأن هذه الحكومات لا تمثل إرادته، وأنه أراد أن يقول إنه عازم على أن يجعل عدم اعترافه بالمعاهدات أمرا واقعا، وإنه سيقاتل المستعمر بطريقة الشعوب في طلب الحرية .. أي بقتال المستعمر في كل زاوية وطريق، بالليل والنهار، وبكل أداة يملكها، وبكل وسيلة يطيقها، رضيت الحكومات عن ذلك أو لم ترض وما أبعد ما بين المعنيين! بل هما غرضان متناقضان. وإذن، أليس عجيبا أن تكون طائفة الساسة الذين عقدوا معاهدة سنة 1936، هم أنفسهم الذين يذمون هذه المعاهدة نفسها يطالبون بإلغائها! وهم أنفسهم أصحاب مبادئ المهادنة المعتدلة التي لا ترى محيصا من عقد معاهدة أخرى مع المستعمر! وهم أنفسهم الذين كانوا منذ أيام قلائل يفاوضون ويذهبون ويجيئون للاتفاق على نص يرضى الشعب فيما يزعمون! أنه لعجيب، ولكن لابد من تفسير: انتهت الحرب الماضية، وعلمت بريطانيا أن شعب مصر والسودان، بل شعوب العالم العربي والإسلامي، تموج بآلاف من قوى مختزنة في الشباب وغير الشباب، وأنها توشك أن تنفجر، وأنه لابد من تبديد هذه الطاقة المختزنة قبل أن يحين انفجارها.

وكادت الثورة تندلع في سنة 1946، ولكن سرعان ما حولت عن وجهها، إلى الخديعة الكبرى المعروفة بتعديل المعاهدة، وشغل الناس بها زمنا طويلا، وانبعث أشقاها يتولى حوك هذه الخديعة وإطالة أمدها، وهو بطل قديم من أبطال الساسة الدجاجلة صنائع الاستعمار. وأفلح الخبيث، وفازت بريطانيا بعض الفوز. ولكن لابد من تبديد الطاقة، فإنها أكبر من أن تقضى عليها خديعة واحدة. فإذا بريطانيا تمكن لليهود كل التمكين هي وأعوانها، وإذا الدول العربية جملة واحدة تنزلق إلى ما تريد، فتدخل حرب فلسطين بجيوشها، وإذا الهزيمة المنكرة، وما تبعها من اضطهاد وتشريد واستبداد ومخاوف بالليل والنهار. ولم تكد تنتهي هذه الخديعة، حتى جاءت الانتخابات المضحكة التي انتهت بمجيئ الوفد فجأة إلى الحكم، بعد اليأس كل اليأس من عودته. وما هو إلا قليل، حتى أثيرت القضايا الكثيرة الملوثة التي شغلت القلوب والعقول، ثم انتهت أيضا بما نعلم من الركود والخيبة، وانتصار الخيانات وأصحاب الخيانات. وفجأة ينبعث من كل مكان ضجيج وعجيج في فضائح الاستبداد والظلم والاستبداد والفجور وتبديد الأموال وقضايا الحرية. وأخيرا ينفجر في هذا الجو الصاخب الثائر، صخب أشد منه. من أين؟ من معسكر الحكومة: إلغاء المعاهدة، إلغاء المعاهدة! في كل حادثة من هذه الحوادث التي ذكرتها، والتي لم أذكرها، فزعت الأمة كلها: شيبها وشبانها، جاهلها وعالمها، ثم انقلبت يائسة قانطة، وثارت ثم سكنت، واندفعت ثم ارتدت، وغلت ثم فترت. وضاع قسط وافر من الطاقة المختزنة في الشعب شيئا فشيئا. وبدد سخط الألسنة عزائم القلوب. يا لها من نكبة! ثم يجئ إلغاء المعاهدة، فإذا لسان ثائر يتولى تعبئة الشعب لإلغاء المعاهدة، وهو لسان من ألسنة الحكومة الضالعة مع الاستعمار. وينطلق الشعب يردد: إلغاء المعاهدة! بيد أن الحكومة -كما قلنا آنفا- تذهب في إلغاء المعاهدة مذهبا، أما الشعب فيذهب في الحقيقة مذهبا يناقضه كل المناقضة. فيا له من إشكال عسير معقد!

أن كل عاقل يستطيع أن يسمع همس الاستعمار في هذا الضجيج الصاخب، ويرى أصابعه من خلال الغبار الثائر: ويرى غايته في الاحتيال على تحطيم إرادة الشعب، وتحطيم ثقته بنفسه، وتحطيم إيمانه، وتحطيم تفكيره، وتحطيم أخلاقه وتحطيم عزائمه، وتحطيم قدرته على العمل. والحكومة صنيعة له، فهي أداة من أدوات هذا التحطيم. وكل عاقل يستطيع أن يرى تماثيل الأبطال القدماء من صنائع الاستعمار، وهي تتهاوى في قبور الثرى، وفي حفر النسيان، وفي مصارع الشيخوخة، وفي مزالق العجز والفناء. وكل عاقل يستطيع أن يبصر في هذه الظلمة المتبلبلة أنامل الاستعمار -على اختلاف دوله وأجناسه وأهوائه- وهي تصنع للشعب دمى من الأبطال الكذبة، ليخرجوهم على أعين الناس في مسرحية مصارعة الاستعمار بأساليب الشعوب الوطنية، لكي ينخدع الشعب بهم ويطمئن إلى أعمالهم، وليحلوا بعد قليل محل الجيل الفاني من صنائعه. ويتم كل ذلك بأسلوب طبيعي، على التدريج، وبلا مفاجأة، حتى لا يكون الأمر مدعاة إلى الريبة، بل إلى الاطمئنان والرجاء تارة، وإلى الإعجاب والعذر تارة أخرى. فما الذي يرمى إليه الاستعمار إذن، بأن يدفع صنائعه التي استحدثها في هذا العهد الأخير، لكي يتولوا هم قيادة الشعب، بلسان كلسان الشعب، يستخدم كلمة يريد بها هؤلاء الصنائع معنى، ويريد الشعب معنى آخر؟ يريدون بها معاهدة تلغى وتحل محلها أخرى، ويريد الشعب بها أنه لا يعترف بأية معاهدة مع المستعمر، ولا يريد أن يسمع ذكر معاهدة أخرى، بل يريد الحرية كاملة بلا قيد ولا شرط، ينالها بالطريقة التي تنال بها كل حرية. هناك وجوه كثيرة لتفسير ما يريده بنا الاستعمار، ولكني سأقتصر الآن على أبشعها وشرها: تلغى المعاهدة، ويتولى الأبطال المزيفون قيادة الشعب إلى جهاد عنيف، هو راغب فيه لا يهابه ولا يتخوفه، ويصطدم بالاستعمار وجنوده بلا تردد، ويتقدمه بعض هؤلاء الأبطال صاخبين مهللين وما هي إلا خطفة البرق،

حتى نرى جيوش إسرائيل (فعلا) على الحدود، وينازلها الجيش المصري دفاعا عن أرضه، وتظاهر مصر دول صديقة كثيرة "حالها كحالنا ويراد بها مثل ما يراد بنا"، وتنبعث حركات كثيرة قد مهد لها في بلاد كثيرة من العالم العربي والإسلامي، وإذا الشرق الأدنى كله فورة متصلة من الاضطراب العنيف، وإذا نحن وهم جميعا في حاجة إلى سلاح ليس عندنا شيء منه، وإذا الصنائع الجبناء يمدون أيديهم مرة أخرى يطلبون الإنقاذ من بريطانيا وأمريكا وسائر دول الاستعمار، وإذا هذا الإنقاذ نفسه يصبح كالدليل على بطولة هذه الدمى، وإذا المعاهدات تعقد في كل مكان كخطفة البرق أيضا، وإذا الألسنة التي دعت لإلغاء المعاهدة، تقذف الجماهير بالألفاظ الغرارة الخداعة التي استعملت في سنة 1936، وإذا الشعب يسكن بعد هذه الجهود المضنية الطويلة، وإذا حرب أخرى تنبعث وإذا جنود الطغاة المستعمرين من كل جنس بين ظهرانينا تغدو وتروح: لها بيوتنا وأقواتنا وأرزاقنا وأخلاقنا ونساؤنا وأبناؤنا وتجارنا وموظفونا، وإذا كل طفيلى من صعاليك الأجانب يصير إلى الغنى بإفقار الشعب، وإذا الحياة كلها متاع لهم وخدم، وتذهب الأموال والأعراض والدماء لكي نعود بعد هذه الحرب الجديدة، إلى المطالبة بإلغاء معاهدة سنة 1951 (مثلا) التي "استنفدت أغراضها"، والتي "أصبحت غير ذات موضوع"، والتي "كانت نكبة"، والتي "وقعت تحت الضغط والتهديد" إلى آخر ما جاءت به ألسنة الأبطال القدماء الكذبة، الذين وقعوا معاهدة سنة 1936. أنه خطر داهم، فعلى المخلصين في هذه البلوى نظرة الأناة لا العجلة، وأن لا يدعوا قيادة الشعوب إلى جهاد المستعمر تفلت حتى تستقر في يد الأبطال الكذبة، كما أفلتت منذ سنة 1919 وما بعدها. وليعلموا أن ساعة الجهاد والنزال هي التي نحددها نحن لأنفسنا، لا التي تحددها سياسة الاستعمار على ألسنة الدجالين والكذبة والمنافقين من صنائعها. وطريق الحرية شاق طويل، ولكنه وحده هو الطريق.

في خدمة الاستعمار

في خدمة الاستعمار اقرأ أحاديث هؤلاء الذين تسميهم الصحافة "زعماء" تارة و"ساسة" تارة أخرى، فلا أدري من أي شئونهم أعجب؟ أمن حسن فهمهم لما يدور في عالم نعيش نحن فيه أداة مسخرة للاستعمار؟ أم من دقة بصرهم بما يرضى الدول التي استعمرت بلادنا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب؟ أم من براعة ألسنتهم في عرض قضايا الأمم المنكوبة بالاستعمار، عرضا لطيفا هينا رقيقا، يعين الشعوب المسكينة على أن تسكن إلى الأمر الواقع، وإلى الاطمئنان إليه والرضا به، أم من رشاقة اهتدائهم إلى حلول يزعمون أنها ترضى طرفي النزاع؟ وطرفي النزاع -كما هو معلوم بالضرورة- هما المستعمر الذي أهدر حرية الشعوب، وكرامة البشرية، والمستعبد الذي يريد أن يسترد حريته وكرامته. كلا، بل أخطأت، فأنا لا أعجب في الحقيقة، بل أتقزز وأشمئز، فإن الفرق بين التعجب وبين التقزز والاشمئزاز، هو من الدقة بحيث لا يعدو أن يكون فرقا في صورة التعبير عما تعانيه النفس تفاجئها المعاني المثيرة. ولعلها اختلطت عليّ، كما اختلط علينا كل شيء في هذه السنين السود. والذي يحمل النفس على التقزز والاشمئزاز، هو أن هؤلاء الزعماء والساسة، مفروض أنهم من أنفسنا، أسماؤهم كأسمائنا، وأنسابهم في الأمة كأنسابنا، ونشأتهم فيها كنشأتنا فكان ينبغي أن يكون إحساسهم بالذل والعار والمهانة كإحساسنا، ولكن يخيل إليك إذا تكلموا، أنهم من عالم غير عالمنا أو من أرض غير أرضنا، فلو طمس اسم أحدهم من حديث يتحدث به إلى الصحافة وثبت مكانه اسم أي انجليزى أو أمريكى أو روسى أو ما شئت، لما أحسست كبير فرق، يميز بينهم وبين أحد من هؤلاء، يكون الرجل منهم كأحسن ما يكون عقلاء الرجال، ولكن فقده للإحساس بالذل والعار والهوان الذي يتمرغ فيه هو وبلاده، يجعل الأمر من الفظاعة، بحيث لا ينفع فيه إحسان ظن ولا حسن تقدير. ¬

_ (*) اللواء الجديد، عدد 25 سبتمبر سنة 1951، ص 3.

ومن هذه الأحاديث، حديث على ماهر المنشور في الأهرام (السبت 22 سبتمبر الحالي) وقد سئل عن مشكلة السودان فكان جوابه: "ويخيل إلى أنه ينبغي أن نتدبر حقوق السودان وحقوق مصر، والمصالح البريطانية. ففيما يتعلق بالمصالح البريطانية، فإن الرأي عندي -حتى أثناء مفاوضات 1946 - أن تلك المصالح تلخص في مسائل اقتصادية، ومشاكل مواصلات ومطالب استراتيجية ويمكن الاهتداء إلى حل لكل من هذه المسائل يرضى بريطانيا" يا للعجب! "يرضى بريطانيا"! ! وتصوير المشكلة على هذا الوجه اللطيف البسيط غريب جدا! . ولو أنت جعلت آخر هذه الفقرة: "ويمكن الاهتداء إلى حل لكل من هذه المسائل يرضى مصر"، ثم نسبت الحديث إلى إيدن مثلا، لكان كلاما مستقيما مع السياسة البريطانية، لا لبس فيه ولا إبهام، وكلنا قد قرأ مثله للساسة البريطانيين، وفي الصحافة البريطانية، مصورا لهذه المشكلة بنفس الأسلوب، إن لم أقل بنفس الألفاظ. لم يقولوا قط أن السودان ملكا لهم، بل قالوا أن لهم فيه مصالح اقتصادية، واستراتيجية يحافظون عليها، بل هم زعموا أنهم يحافظون على رفاهية السودان واستقلاله. بل أقرب من ذلك أنهم زعموا منذ قديم أن بقاءهم في مصر نفسها ليس إلا للمحافظة على مصالحهم الاقتصادية والحربية والمواصلات البريطانية، وسلامة الأمن العالمى أخيرًا، وأن هذا البقاء ليس احتلالا بل هو بعض واجبات الصداقة المتينة بين مصر وبريطانيا! ! ولا أظن أن في الدنيا العاقلة مفكر يستطيع أن يفرق كثيرا بين الاحتلال وبين هذه الصداقة المتينة، إلا أن يكون قد زال من نفسه كل معنى من معاني الشعور بالعدل المجرد، ولا أقول أنه قد زال من نفسه كل معنى من معاني الشعور بالكرامة الإنسانية، وبالبلاء الماحق الذي نراه ماثلا في تاريخ الاستعمار، منذ انقض على بلاد الشرق كله، والعالم العربي والإسلامي، من أطرافها، حتى احتل القلب، في هذه النقطة التي يسمونها الآن: الشرق الأدنى. ولست أدري كيف يستطيع سياسي أن يجهل أن وجود المصالح الاقتصادية،

والاستراتيجية، في أرض معناه إهدار ما يماثلها من مصالح، هي حق أصيل لهذه الأرض وسكانها، وأن الأجنبى المعتدى على هذه المصالح، لا يعتمد في صيانتها إلا على أن يسلب سكان الأرض مقدرتهم على أن تكون لهم مصالح تنازع مصالحه، ومعنى هذا أنه يعتمد على استعباده، ويرتكب في سبيل ذلك كل وسيلة تؤدى إلى أن يجعل سكانها في مرتبة الخدم والأذناب والماشية، فإن لم يفعل، فمنطق الاستعمار يدل على أنه مستعمر شديد الغفلة، لو سمح لأي عنصر من عناصر القوة أن تنازعه في هذا المكان، وأكبر عناصر القوة، هي: الحرية. فتصوير المشكلة إذن خطأ كله، فمشكلة السودان أو مشكلة مصر -كما يحلو لك أن تسميها- ليست في هذه الصغائر، بل هي أكبر. هي مشكلة إهدار الحياة الإنسانية الصحيحة، والعمل على بث حياة إنسانية فاسدة منحطة، هي مشكلة ضياع الحرية، وسلب الشعوب كل مقوماتها التي تعينها على أن تكون أمما حرة، هي مشكلة تدليس الحياة على الشعوب، حتى تتصور الباطل القبيح، حقًّا جميل الصورة، هي مشكلة إحلال المنافع العاجلة التي تستهلكها الشعوب في حياتها اليومية، محل المنافع الباقية التي تحيى بها الأمم وتقوى وتستمجد. ونحن لا نطالب بضم السودان إلى مصر، بالمعنى الذي يفهمه ساسة هذا الجيل، ولا أن يحكم السودان من القاهرة أو الخرطوم، أو بالعكس، فإن هذه كلها معاني فاسدة في التعبير، إننا -مصر والسودان جميعا- نريد أن نتحرر من المصالح البريطانية. . . اقتصادية وسياسية واستراتيجية، لتنبعث من قبورها مصالحنا نحن، اقتصادية، وسياسية، واستراتيجية، ولن نصل إلى ذلك إلا باسترداد حريتنا، التي أهدرت في كل شيء، وإنسانيتنا التي أبيدت في كل عمل، وفضائلنا التي ألغيت في كل شأن من شئون الحياة، ونحن لا ندعو إلى هذا في مصر والسودان وحدهما، بل في كل أرض من أراضي بلاد العرب والمسلمين، وغير العرب والمسلمين، افترستها الوحوش الاستعمارية الطاغية في العالم، التي جعلت المصالح الاقتصادية والسياسة والحربية مسوغا تستحل به إهدار الحرية، وإهدار الكرامة، واستعباد البشر.

وإذن فالمشكلة أسمى بكثير مما يتصور هؤلاء الساسة والزعماء، أنها مشكلة إنقاذ ملايين البشر من الانحطاط الخلقي والعقلي والنفسي، واسترداد ما دمره الاستعمار من مقومات الحياة الإنسانية في هذه الرقعة المترامية من الأرض وإحياء المعاني الصحيحة للحرية والكرامة والشرف، وقتل الوحش الاستعمارى الذي يريد أن يفرض على البشر، أن يرضوا بسيادته ووحشيته، لكي يضمن هو مصالحه الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية التي يقتتل عليها بالليل والنهار، والتي توشك أن تدمر عليه حضارته التي يستعز بها، ويستعلى، في هذه الحياة الحاضرة. إنها ليست مشكلة ساسة وزعماء، كساستنا وزعمائنا بل مشكلة أحرار، يتولون حلها بأسلوب الأحرار، في حل مشاكل الظلم والاستبداد، واللؤم والجشع والخسة، والكذب على الناس، والتغرير بالبشر، أنها مشكلة الحق والباطل، مشكلة النور والظلام، مشكلة الذل والكرامة.

حكم بلا بينة

حكم بلا بينة يوشك تاريخ الإسلام أن يصبح لهوًا على الألسنة، ولغوًا في الصحف، ومرتعًا للظن المتسرع دون اليقين المتثبت، وهدفًا لكل متقحم (¬1) على الحق بمثل جراءة الباطل، ومخاضة يخوض فيها كل من ملك لسانًا ينطق، أو عقلا يفكر، أو قلما يخط. وإنما ابتلى زماننا بهذا لأسباب كثيرة، أولها: أن العصر الذي نعيش فيه يُعجل الناس عن تحقيق معنى الدين نفسه في حقيقة قلوبهم. وآخرها: أن المسلمين في زماننا بلغوا من العجز والقلة والهوان على أنفسهم مبلغًا مهد لشياطين الإنس والجنّ مسالك كثيرة إلى مقر الغرور في بعض الأفئدة، فسوّل لأصحابها فيما يسول أن فهموا الإسلام "فهمًا جديدًا"، فكان لهذه الكلمة سحرها حين مست مكان الغرور والكبرياء من نفوسهم، واحتملهم هذا الغرور على أن يسيئوا الظن بما يفهمون من ماضيهم، جله أو كله، وخيل إليهم سوء الظن أن ذلك هو طريق الحق لإحياء دين الله في نفوسهم وإقامة شريعته في أرضه. ثم خرج بهم مخرجًا أوقع في أوهامهم أنهم قادرون على أن يجددوا أمر هذا الدين، بمجرد النظرة الخاطفة المعتسفة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي تاريخ أسلافهم من المسلمين. ولا أظننى أخطئ شيئا في التقدير إذا زعمت أن هذه النابتة، لم يبتل الإسلام بمثلها قط، على كثرة ما انتابه من النوابت المتتابعة على مدى عصوره كلها؛ في حال بأسه وسطوته، رفي حال ضعفه وفترته. وهي عندي أخطر النوابت جميعا وأخوفها على دين الله، لأنها نجمت في عصر قد حطم جميع القيم الإنسانية العتيقة، ودمر تراث الأخلاق التي فطر عليها ولد آدم في الآباد المتطاولة. ولا أسيئ الظن فأدعى أنهم يأتون ما يأتون عن عمد، بل أقول إن وباء هذا العصر ¬

_ (*) المسلمون، العدد الأول 1371 هـ/ 1951، ص: 43 - 48 (¬1) يرد الأستاذ شاكر على ما كتبه سيد قطب في شأن بعض الصحابة. ولم يرد سيد قطب على نقد الأستاذ شاكر، ولكن تصدّى له أحد أصدقاء سيد قطب وهو الأستاذ محمد رجب البيومى، وانظر الجزء الأول، ص: 567 - 579

قد أصابهم، منذ نقله الاستعمار إلى الأرض المسلمة، فنشئوا فيه لا يكادون يحسون بالذي أصابهم من آفاته، فاتسم تفكيرهم من أجل ذلك بسمة التحطيم والتدمير، وسمة الغلو والجراءة، وسمة الإصرار على تحقيق معاني الغرور الإنساني في أعمال الإنسان، وأولها الفكر. وقد تفشت في أهل الإسلام منذ زمن قريب فاشية شديدة الخطر على تاريخ الإسلام كله، بل على دين الله نفسه. نظرت متعجلة في دين ربها، وخطفت خطفة في تاريخ أسلافها، ثم انتزعت من ذلك كله حكما يدمغ المسلمين جميعا منذ القرون الأولى من الهجرة، باطراح الدين واتباع الشهوات، فزعمت مثلا: أن الإسلام لم يطبق ولم يعمل به إلا مدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومدة أبي بكر خليفة رسول الله، ومدة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ثم مرج أمر الإسلام واضطرب! والخطأ في مثل هذا الحكم الدامغ يكبر عن أن يسمى خطأ؛ إنه الحالقة: حالقة الدين لا حالقة الشعر، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ تستأصل دين الصحابة والتابعين، وتستأصل أمانتهم في تبليغه، وتستأصل ما بذلوه في نشره في مشارق الأرض ومغاربها، وتستأصل تاريخهم، وتستأصل تاريخ الحياة الإسلامية كلها ثلاثة عشر قرنًا! فيا لها من بلوى تستهلك دين امرئ إذا نطق بها، وتخسف بتقوى سامع إذا لم ينكرها. ورَدُّ مثل هذه المقالة، يوجب على منكرها أحد طريقين: إما أن يسرد على القائل بها تاريخ الإسلام كله بجميع تفاصيله، ويقف به على كُلّ موضع منها، وهذا شيء لا يتيسر في كتاب واحد، فضلا عن مقالة، فضلا عن حديث. وإما أن يقفه على فسادها في صريح العقل، ويبين له ما تقضى إليه من بَهْت أمة كاملة، بل أمم بأسرها، بشيء لا يستطيع عاقل أن يحتمل وزره في فكره وتقواه ودينه. وهذا هو أيسر الطريقين، وأقربهما إلى تصحيح المقاييس، وإلى إقامة التفكير على أصل واضح وثيق. * * * وكلمة "الإسلام" كلمة شاملة لدين الله كله، وإذا دخلت في حكم قاطع

كهذا الحكم "إن الإسلام لم يطبق إلا مدة رسول الله وأبى بكر وعمر" صار حكما شاملا بطبيعته، فإذا ألقى إلى سامع، لم يجد عندئذ مناصا في العقل ولا في اللغة ولا في البيان، من تعميم الحكم في كل ما يتناوله لفظ "الإسلام". فإذا استمعه سامع كأهل زماننا الذين وصفنا قبل، كان هذا الحكم ظلا كثيفا قاتما كئيبا يلقى على العصور الأولى كلها من قتامه وكآبته، يدفع إلى الاستخفاف والتحقير والغلو في التهزؤ بأهل هذه العصور، والشك في أمورهم، ويعميه عن معرفة الحقائق، ويصرفه إلى البحث عن المثالب يتسرع إليها ويتقممها من كل كتاب ومن كل خبر، والناس أسرع شيء إلى سوء الظن، فإذا كان سوء الظن والثلب والتحقير مما يعينهم على نسبة القدرة والصلاح والعلم والفقه إلى أنفسهم فهم عندئذ أسرع إليه من السيل إلى الحَدُور (¬1). وإذا كانت نسبة الصلاح والعلم إلى أنفسهم مدعاة إلى صرف أنظار الناس إليهم بالتسليم والتبجيل والإعجاب، فسوء الظن والثلب والتحقير، أسرع في عقولهم وألسنتهم من النار المتضرمة في الهشيم اليابس. وماذا بعد هذه البلوى، إلا أن يصبح تاريخ الأمة المسلمة منذ اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة سنة 23 من الهجرة (منذ قتل عمر) إلى يوم الناس هذا في سنة 1371 وقودًا لكلمة يزل بها لسان، ويتبجح بها صوت، وتستخفها أذن؟ أي إنسان يرضى لنفسه هذه الظنة الجائحة، فضلا عن إنسان عاقل، فضلا عن مسلم، فضلا عن مسلم يتقى الله، يرجو رحمته، ويخاف عذابه؟ قتل عمر وخلف أئمة الصحابة، فعاشوا زمن عثمان، وزمن على، وزمن معاوية -رضي الله عنهم-، وبقيت منهم بقية في عصر الأوائل من بني أمية، ثم خلفهم الذين اتبعوهم بإحسان من علماء الأمة وفقهائها وأهل دينها، وهم متوافرون يومئذ إلى أوائل عصر بني العباس، وكانوا هم علماء الأمة، وورثة النبوة، القائمون ببثّ دين الله في الأرض، الآمرون بالمعروف والناهون عن ¬

_ (¬1) الحدور: الأرض المنحدرة.

المنكر، المبلغون عنَ نبي الله ورسوله، وعن أصحابه هذا الدين إلى الناس. وبهم بلَّغ المسلمون هذا الأمر كله، وبما بلغونا من أمر الدين قامت حجة الله علينا، وإلى ما بلّغوا كان مرجع أئمة المسلمين وفقهائهم وعلمائهم طول هذه القرون. ولولاهم، ولولا ما بلّغوا لدرست سنة رسول الله، ولذهب الفقه، ولفقد الناس الحجة والبرهان في دينهم، ولما وجدوا وسيلة لتحكيم الله وتحكيم رسوله في شيء مما اختلف فيه من أمر الدين، أفيمكن في العقل أن يوصف العصر الذي كان فيه هؤلاء الأمناء على دين ربهم، بأنه عصر لم يطبق فيه الإسلام؟ ! وأين غابوا جميعا إذا كان الإسلام لم يطبق في زمانهم؟ ولو شهدوا، وصحت هذه الكلمة على زمانهم، فكيف يؤتمنون على ما بلغوا من أمر الدين؟ بل إلى أي شيء يحتَكم قائل هذه الكلمة في الحكْم على عَصْرهم؟ أليس يحتكم ويرجعُ في الحكْم عليهم إلى ما بَلغَه هو من دين الله الذي بلّغوه هُمْ إليه؟ وأنّى له أن يعرفَ الإسلامَ إلّا بما عرَّفوه هُمْ له ولمن سبقه من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ بل كيف يُعْقَل أنْ يبلِّغوا هذا الشيء الذي يستند إليه هذا القائل، ويكونونَ هم أوَّلَ الناقضين والهادمِين بإغفالهم إقامته. بل بعملهم على إقامة خلافه؟ أفي العَقْل شئٌ بعد ذلك هو أَفْسَدُ معنىً ومدخلًا ومخرجًا من هذه الكلمة الجائرة، من هذا الحكم المستأصِل لدين هؤلاء الناسِ وعلمهم وَأمانتهم؟ كبرت كلمة وساء حكمًا. وأحبُّ أن أزيدَ الأسئلة: ما هو هذا الإسلام الذي لم يطبّق: أكفروا بأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؟ أتركوا صلاتهم وأضاعوها وسهوا عنها؟ أمنعوا زكاتهم واحتجنوها (¬1) فلم يؤدوا حق الله عليهم؟ أتركوا شهر صيامهم فأفطروه؟ أأبوْا أن يحجوا إلى بيت ربهم قانتين مسبحين مكبرين؟ أعتزلوا الجهادَ بأموالهم وأنفسهم رغبة عنه وحرصًا على الحياة؟ ! أأغفلوا أدبَ الله لهم وأدبَ رسوله؟ أنقضوا عهدَ الله فخانوا الأمانة وبغوْا في الأرض؟ أعطَّلوا أحكامَ الله ¬

_ (¬1) احتجنوها: خزنوها.

وفرضوا على الناس أحكامًا من عند أنفسهم؟ أشرَعوا في الدين ما لم يأذن به الله؟ أأبطلوا الحدود ونصروا الخارجين عليها والمعتدين؟ أأعرضوا بقلوبهم ووجوههم عن كل ما تضمَّنَه كتابُ الله، وما احتوته سُنَّة رسوله، وعادوا في جاهليةٍ لا يعرفُ فيها لله دين، ولا يطاعُ له فيها أمرٌ، ولا ينتهي فيها عن منكر، ولا يؤتى فيها معروف؟ أرتكَسُوا هم والأمة كلها قرنًا من بعد قرنٍ في تعطل الإسلامِ في أحكامهم، وفي أنفسهم، وفي أبنائهم، وفي الذين دخلوا في هذا الدين حتى شمل ما بين الهند فرقًا إلى المغرب الأقصى غربًا. ومن حدود الروم شمالًا إلى أقصى الأرض جنوبًا؟ أيّ عاقل يستطيع أن يقول: نعم، في جوابِ سؤالٍ واحدٍ من هذه الأسئلة، فضلا عنها كلها؟ ولو غلغَل المرءُ قليلًا فسألَ نفسه: أمن الممكن لأمّة تنقُض دينها هذا النقضَ، الذي استوجبَ ذلك الحكم، أن تفتح الأرَضين كلها، وتحدث فيها أكبرَ تغيير حدث في تاريخ الجنس البشري كله: تتغير بهمْ ألسنة الناسِ إلى العربية، ودينهم إلى الإسلام، وتنابُذُهم إلى الألفه، وتداعيهم باسم العصبية والجنسية، إلى شيء واحدٍ هو جماعة المسلمين، ويقومُ هذا الأمرُ في الأرض ثلاثة عشر قرنًا، مع شدة ما انتابَ المسلمين على مرّ القرون من النوائب، إلى أن كانت النائبة الكبرى في هذا العصر، وهي نائبة الاستعمار، ويَظَلُّ مع ذلك هذا الرباطُ الوثيق مشدودًا، لا ينحلُّ من ناحية، إلّا تداركته آلاف الأسباب من هذا التراث من نواح أخرى، أكان ممكنًا لهؤلاء الذين خافوا أمانة الله أن يبلغوا هذا المبلغ؟ اللهم اشهد، فإنها كلمة لو صحت لأزالتْ العقول من مستقرّها؟ وصدقَ الله رسولَه والمؤمنين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: 55]. وما من حرفٍ من هذه البشارة إلا أتمه الله على محمد وأصحابه وتابعيهم، إذ كانوا خيرَ أمةٍ أخرجتْ للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله في سرّهم وعلانيتهم.

ومن الحق على من وسوسَ في قلبه هذا الحكم الشامل: أن الإسلام لم يطبَّق إلا مدّةَ رسول الله، ومدةَ أبي بكر وعمر، أن يسأل نفسه: بم يصحُّ مثل هذا الحكم؟ إنّ بديهة العَقْل تجيبه بأنه لا يسوغُ لهُ أن يحكم على عصور كاملة بحكم شامِلٍ، إلا بدلائل بينة المعاني صحيحة الأصول؛ وشرطُ هذه الدلائل أن تكون مستقصية لأهل الإسلام جميعًا في كل أرضٍ، وأن تكون شاملةً أيضًا لكل ما يكون به إسلام الناسِ إسلامًا، وأن يكون ما يدّعى المدَّعى أنه قد أبْطِلَ أمرًا من أمور الإسلامِ التي لم يختلف عليها المجتهدون من العلماء والفقهاء، وأن يكون هذا الإبطالُ جاريًا مجرى الشريعة، ومأمورة به كلُّ جماعة يشملها الإسلام. فإذا فقد الحكم هذا الشرطَ، فإنما هو تحكُّمٌ محضٌ وبهتانٌ خالصٌ. ولست أظنُّ في العالم كله إنسانًا يوصف بالمعرفة يستطيع أن يؤيّد هذا الحكم، بمثل هذه الدلائل، على مثل هذا الشرط، مهما أوتى من العلم، ومن التتبُّع، ومن سوء النية، ومن براعة التخلُّص، ومن تمام القدرة على إظهار الباطِلِ في ثيابٍ مزوَّرة من الحق. وإلا فإن هذا الحكم الشامل، مظلمةٌ جائرة مُبِيرة لأهل العصور الأولى من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة، وقادحٌ بليغٌ في دينهم وأمانتهم، وجائحة طاغيةٌ تزيل كل ثقة بهم وبتاريخهم وأعمالهم، وناقضٌ مُدَمّر ينقضُ كل ما يشهدُ به التاريخ الذي كنا نحنُ آخرَ خلف له في هذا العَصْر. كلا، بل أتجاوز ولا أطالب من يقضى بهذا القضاء، أن يأتي بكل هذا الشمول بل أقتصر فأدعوه إلى أن يأتي بقضية مفردة عن الإسلام، تجتمع لها هذه الشروط، مصححة صادقة خالية من التوهم والغلو. وأنا على يقين من أن أحدًا لا يطيق أن يفعل، وأن الأمر أكبر من أن يحيط به بيان مبين وعلم عالم. وإنما يؤتى الغارز فكره في هذه الضلالة المتحكمة باتخاذه الحادثة الواحدة المجردة من الاستقصاء والشمول، ومن الاختلاف في أمرها، ومن شمول العمل بها وإنفاذها في جماعات المسلمين - أساسًا لاستقصاء مكذوب وشمول متوهّم.

ثم أتجاوز مرة أخرى وألتمس لهذا الحكم الشامل مخرجًا آخر، أزعم فيه أن العربية والبيان والعقل تبيح مجتمعة أن يكون المراد بالإسلام في هذا الحكم جزءًا من الإسلام، وأن يكون المراد بالذين لم يطبقوه فئة واحدة من المسلمين: فكيف يمكن أن يصح؟ إن المدعى لمثله مطالب عندئذ أن يستقصى هذا الجزء المعطل في تاريخ العصور التي يشملها حكمه، يومًا بعد يوم، وحادثة بعد حادثة. وأن يدل دلالة لا يأتيها الشك أن ذلك هو الذي جرى به العمل في كل جماعة من جماعات المسلمين؛ وأن يأتي بالبرهان على أن هذه الفئة أصرت على أن تجعل هذا الجزء ديدنها في كل زمان ومكان؛ وأنها استطاعت أن تجعل ما خالف حكم الله إلزامًا عامًا للناس كلهم بتشريع من عند أنفسهم يلزم الناس جميعًا العمل به والطاعة له. وهذه هي الشروط التي يقضى محض العقل أنها هي وحدها التي تبيح لامرئ أن ينطق بحكم شامل كهذا الحكم. فإذا لم تتم له هذه الشروط، فما هو إلا التعسف الغليظ الذي لا يبصر وجه الحق إلّا في ظلمات من الباطل، إن صح وأمكن أن يكون التعسف قادرًا عندئذ على أن يبصر. ثم أتجاوز مرة ثالثة، فأزعم أن من الممكن أن نلتمس شيئًا من الإسلام لا يدخله الخلاف، قد أطبق الخلفاء جميعًا منذ قتل عمر - رضي الله عنه - على تعطيله فما الشروط اللازمة لمثل هذا الممكن؟ ينبغي أن يثبت المرء أولا أن الخليفة قادر على أن يأمر علماء الإسلام وفقهاءهم ومفتيهم وأمراءهم وعامة الناس منهم بهذا الذي يريد تعطيله، وأنهم إن فعل أطاعوه جميعًا وعملوا بما أمر، وأن هذا الشيء من الإسلام قد عطل تمام التعطيل في الحياة الإسلامية كلها في زمنه. ومن البين أن الخليفة رجل من المسلمين، لا يملك أن يشرع للناس شرعًا يعمل به الفقهاء والقضاة والمفتون، ويخضع له عامة الناس علانية ويعملون به في أنفسهم سرًّا. وإذا بطل هذا الشرط، بطل الحكم كله، ولم يبق إلا أن الخليفة ربما قدر على أن يعطل حكما من أحكام الله، فيما يمكن أن تناله يده، وهو في بيته أو قصره أو بلدته، دون سائر بلاد المسلمين. وأن هذا الحكم لا يلزم أحدًا من القضاة ولا الأمراء أن يفعلوا

فعله، لأنه لا يملك أن يشرع لهم ما لم يأذن به الله. وأنا أقطع بأن تاريخ الإسلام كله ليس فيه حادثة واحدة: استطاع خليفة أن يأمر قضاة المسلمين وعلماءهم وفقهاءهم بأمر يخالف كتاب الله وسنة نبيه، فأطاعته الأمة كلها أو بعضها، وعملت بما أراد، وقضت على الناس بقضائه دون قضاء الله. وينبغي أن يثبت المرء ثانيا أن الخليفة -أو غير الخليفة من أمراء المسلمين في بلدان الأرض المسلمة- قد استطاع أن يجعل هذا التعطيل، بهذه الشروط، عملا متوارثًا في جيل بعد جيل، وأن الأمة قد اتفقت على قبول تعطيله أبدًا وأن هذا هو الذي جرى به العمل بلا ريبة ولا ادعاء ولا توهم ولا اعتساف، وأنا أقطع أيضًا بأن هذا شيء لم يكن قط إلا بعد أن ضرب الاستعمار على هذه الأمة الإسلامية حضارته وثقافته ولون تفكيره. فهذه الكلمة الباغية الجائرة منقوضة في شمولها وفي تخصيصها، ولا يستطيع منصف بعض الإنصاف أن يجد لها في العقل مخرجًا، ولا في التاريخ شاهدًا، ولا في الفرض المطلق وسيلة إلى تحقيق طرف منها. وهي لا تصح في أحد محمليها إلا كانت حكما على عامة الصحابة والتابعين والفقهاء وخاصتهم بالكفر البواح. فلينظر امرؤ أين يُنزل عقله؟ وفيم يورّط دينه وتقواه؟ وإلى أي قرار تهوى به كلمة تعجب هواه ويستخفها لسانه، ويتغذى بها غروره بنفسه؟ ولم أجعل همى في هذه الكلمات أن أسرد الحجج التي يحتج بها القائلون بهذا الحكم ولا أن أروى ما يعدونه مؤيدًا لهم من روايات التاريخ والكتب. فإني إن فعلت كان لزامًا على أن أقدم نفس هذه المقدمة في شروط الأحكام، ومقدمة أخرى في تمييز ما يعد تاريخًا، ومقدمة ثالثة في انتزاع الحكم العام من الحادثة أو الحوادث، وهل هو صحيح في نفسه أو غير صحيح. ثم آخذها واحدة واحدة فأبين وجه تأويلها أو فهمها أو ردها أو تجريحها إلى آخر ما ينبغي لكل من يتصدى للأحكام على أفراد في التاريخ، فما ظنك بأمم بأسرها في تاريخ كامل كتاريخ العصور الإسلامية أولها وآخرها، وكل ما رميت إليه أن أبين فساد مثل هذا الحكم الشامل، وأسباب فساده، وأن أكشف عن موضع المخافة وثقل الوزر، وجناية

التسرع في تعميم الأحكام بلا بينة من العقل أو الحجة أو التاريخ. وأرجو أن يتاح لي أن أتناوله مرة أخرى بالبيان والتفصيل حتى يتجلى فيه وجه الحق.

تاريخ بلا إيمان

تاريخ بلا إيمان أنا أعلمُ أنى استفتحتُ موضوعًا، لو شئت أن أستهلك فيه تلك الذُّبالة الخفاقة المترددة من بقيّة عمرى، لما استطعتُ أن أوفيه حَقه من البيان. فإن مادة التاريخ كلها تستقبلنى بقضها وقَضيضها، وتتذاءَبُ بين يديَّ أصنافُ الطبائع البشرية التي فطر الله الناسَ عليها -على ما علمَ هو سبحانه من اختلاف نفوسهم وساعاتهم وأيامهم وأجيالهم وعصورهم. وطبيعةُ رجُل واحدٍ حيّ، تعرفه وتعاشرهُ من ولد أبينا آدم صلى الله عليه، مشكلةٌ تعجز الفارس (¬1) البصيرَ أن يهتدى إلى ما يختبئ فيها من التناقض والتخَفي والتسرُّب. فما ظنُّك بإنسان لم يستبقِ لك الله منْه ما تعرفه به إلا نبذًا يسيرًا من أخبار تُروى، لا تستغرقُ سوى صفحة أو صفحات، ولقد قضى في الدنيا عُمُرًا من قبلُ، لو هو قُيّد وكتب بجميع ما أحدث فيه، لما وسعته المجلدات الضخمة؟ فانظر إذنْ أين ينتهي بك توهمك، وأنت تتحرَّى أن تتعرَّفَ خبءَ مؤلّفه من مثل هذا الإنسان، عاشت أعمارًا طوالا وقصارًا في طوايا الغيب الماضي، استنفدتها بأعمالها وخواطرها ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام -في تاريخ متقادِمٍ متطاول يمتدُّ في غيب الماضي سبعين سنة، وثلاثمائة سنة، وألف سنة، أو تزيد! ! هذا تصوُّرٌ مثبطٌ للفكر، ولكنه ضرورة لا غِنى عنها للمؤرخ، وهو أشد ضرورة لمؤرخ يكتب تاريخ أهل الإسلام، ثم هو أفدح ضرورة لأنه تاريخ -ما علمتُ- يختلف اختلافًا مبينًا صارخًا عن كل تاريخ عهده البشر في سائر تواريخهم، ثم هو الضرورة الراسخة لمن ورَّط نفسه في تاريخ أهل القرون الأولى من الإسلام. بيد أنّ المؤرخ المسلم وحده هو القادر على أن يكتب تاريخ أهل الإسلام، وغيرهم إن شاءَ، على وجه يمكن أن يوصف بالنبل والفهمِ والصدق والأمانة والثقة- إذا هو حرَصَ على أن يتأدّب بما أدَّبه به ربه من أخلاق تَلزمه في معاملته، كما تصحبهُ في ¬

_ (*) المسلمون، العدد الثاني، 1371 هـ / 1951، ص: 138 - 145 (¬1) الفارس هنا: صاحب الفراسة.

تفكيره وبحثه، وإذا هو مكن في قلبه ونفسه الطاعة لما تركه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدب كان يؤدب به أصحابه ممسكا بِحُجُزِهم أنْ: هلموا عن النار! وعلمُ ضمائر خلق الله علم قد استأثر به ربنا سبحانه علامُ الغيوب. ومع ذلك، فلست أغالى شيئًا إذا زعمتُ لك أن أكثر من ثلاثة أرباع تاريخ الدنيا، لم يجتمع ولم يتكوَّن ولم يصبح عملا في الأرض، إلا من خفيات هذه الضمائر. ونحن حينَ نرى نتائج أعمال البشر، والتي نزعمها أو نسميها تاريخًا، لا نرى إلا أثرًا شاحبًا متهافتًا مما استسرّ في جوانح خلق الله. وهذه الآثار ربما تشابهتْ عندنا تشابهًا غريبًا، مع أن الأسباب التي أحدثتها تختلف في حقيقتها وطبيعتها كل الاختلاف. فإذا خفيت الأسبابُ وتشابهت الآثار، فإجراءُ حكمٍ واحد على هذه الآثار المتشابهة خطلٌ وسوء رأي، وإعظامٌ في الفرية على الناس الماضين، وإغراقٌ في التضليل بالناسِ الحاضرين. وأنا لا أحيلك في معرفة مصداقِ ما أقول إلى التاريخ الماضي، بل إلى ما تشهدهُ بعينيك، وتسمعهُ بأذنيك، وتدركهُ ببصيرتك وفكرك من أحوال الناس الذين تعاشر، والتاريخ الذي يصنع الآن بمرأى منك ومسمع، ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم. فانظر كيف يحكُم الناس بعضهم على بعض، وكيف يفسر بعضُهم أعمالَ بعض، فإذا صح هذا عندك وتأملته، علمت لم أوثر أن أدعوك إلى تصوّر أزمنة التاريخ وخلائقه، تصوُّرًا طويلا عريضًا متراحبًا، يكاد يثبط الفكر الإنساني عن العناية به والإلحاح عليه. وهذا الأصلُ الذي يكادُ يبلغُ مبلغَ البديهيَّ، أصلٌ متروك في التأريخ الحديث. وذلك لأن حضارة هذا القرن العشرين المتحدّرةَ من عصور المدنية الأوربية الوثنية والمسيحية، قد انبثقت من ضرورات اجتماعية وأخلاقية ودينية، لا يمكنُ أن تدع لمثل هذا الأصل مكانًا في التصوُّر، إلا شعاعًا ميتَ النور، ربما انبثَّ في بعض ما يؤلفون، محاطًا بظلمات شديدة من الجرأة والتهجم والافتراء والرجم بالغيب، والمبالغة في اعتداد المؤرخ منهم بنفسه، والإفراط في ثقته بقدرة عقله، والغلو في تحكيم ما يدَّعيه وما يفرضه على مادَّة التاريخ ورواياته، بغير بينة ولا حُجة.

ثم زاد هذا كله بشاعة حين نجمت طائفة المستشرقين، بأحقادها وضغائنها وسفاهة ألسنتها وسرائرها، وبدأوا يكتبون تاريخ الإسلام على أصولهم الفاسدة، ثم قام في الشرق العربي والإسلامي طائفة أخرى من أصحاب الأهواء، من بين مسلم وغير مسلم، فاتبعوهم وناصروهم، وأذاعوا بعلمهم، وأشادوا بمقدرتهم في التقصَّى وكمال مناهجهم في البحث، فنقلوا إلى العربية ثمرة هذه الأحقاد والضغائن، في كتب ألفوها، ونشرُوها وطارت بين عامة المثقفين، يتلقفها الإعجاب بها، والإفتتانُ بأسلوب قصصها وحكايتها وتحقيقها! وجاء هذا مع غلبة الحضارة المسيحية الأوربية حين تم لها سلطانها في أرض الشرق والإسلام، بالغزو الحربى والسياسي والأدبى والعلمي والاجتماعى والأخلاقى والثقافي عامة، فعشش في القلوب ثم باض ثم فرَّخ كما يقول الجاحظ. وانتهى الأمر بالعرب والمسلمين أخيرًا إلى أن يكون مصدرُ ثقافتهم وفكرهم عدوًا لهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون -تجد ذلك في كتبهم ومجلاتهم، وصحفهم، ومدارسهم ومعاهدهم، وفي معاقل دينهم كالأزهر وغيره. فسادَ من يومئذ الافتراء الكاذبُ سيادة تامة في الحياة العقلية والأدبية، وأصبح تاريخ الإسلام وأدبه وعلمه، منظورًا إليه من صميم أهله المتحمسين بعين تبغضُ، وقلب يعرض، ونفس تزورُّ عنه، ولم ينج من غائلة هذا الفساد إلا من عصم الله، وهي قلة قليلة هي اليوم في طريقها إلى الفناء، إلى الانقراض، إلى مصارع الأولين من أهل العلم والفقه والمعرفة. من أجل ذلك البلاء المستفيض في حياتنا، وفي عقولنا، وفي دراستنا أقول دائمًا: إنه لا يغرنى من أحد دينه، ولا تقواه ولا علمه ولا جهاده ولا فضله ولا عقله، إذا لم يكن ذلك كله نابعًا من كتاب الله، ومن الحياة الإسلامية المهتدية بهدى الله ورسوله، غير مختلط ما استطاع بذلك الوباء الجائح الذي فرض علينا في صورة مدنية أو حضارة أو علم أو ثقافة. ومن أجل ذلك لم أزل أثور عند كل بثق ينبثق من هذا الشر، في شأن أبي بكر - رضي الله عنه - قديمًا، وفي شأن عثمان - رضي الله عنه -، وفي شأن صحابة رسول الله في أيام فتنة عثمان؛

لأن استشراء ضغائن المستشرقين، واستفحال منهج الحضارة الأوربية في الجرأة على عباد الله بالكذب المتهجم، وادعاء كل مدع ممن يحاول أن يكتب في التاريخ أو يقول: إن هذا هو حق الأسلوب التاريخي -كل ذلك قد مس النفوس والعقول، وأوقع فيها معاني لم تكن لتقع فيها، لو أن حضارة الإسلام وأخلاقه وآدابه وما نبع من هذه الأخلاق والآداب من أساليب العلم والبحث والفكر- بقيت هي السائدة في حياتنا الأدبية والعقلية والعلمية والاجتماعية. * * * إن المؤرخين الأوربيين، ثم المستشرقين خاصة، ثم من لفَّ لفهم من المتخطِّفين من فُتَات موائدهم من أهل هذا الشرق العربي والإسلاميّ -يزعمون أنّ للتاريخ منهاجًا أو منهاجين أو ثلاثة أو عشرة، هي كلّ ما يستطيع الباحثُ أن يعتمد عليه في دراسة كلّ تاريخ. وأنا أحبُّ أن أزعمَ أيضًا أن ليس فيها منهاج واحدٌ يصلح لدراسة تاريخ الإسلام، بل أشكُّ كل الشكّ في صلاحه لدراسة تاريخ أيّ الناس كانَ من غير المسلمين. وإذا احتاج المسلمون إلى إعادة كتابة تاريخهم، فحاجتهم لا تنتهي -أو ينبغي ألا تنتهي- إلى الشعور بفقرهم إلى إمام يقتدون به مقلدين، ثم يكونُ هذا الإمامُ منهجًا فاسدًا نشأ في تربة غريبة، ودعتْ إلى نشأته أسباب اجتماعية محدودة، وعلل أخلاقية وعقلية معينة. كلا، فإن تحكيم مثل هذا المنهاج، وفي هذا العصر الذي لوثت ثقافته منابع الفكر كلها وكدرتها، لا يؤدى إلا إلى شيء واحد: هو إفسادُ تاريخ أهل الإسلام إفسادًا يشقُّ إصلاحه. وفي الكتب الحديثة التي كتبها مسلمون متحمسون في هذا العصر، برهانٌ لمن تطلب البرهان، على مقدار ما ينجمُ من الضرر والفساد والعبث والتبديل والتحريف والافتراء، والجهل إن شئت -إذا انطلق كلّ حامل قلم، ليكتب تاريخ أهل الإسلام، على مثل هذه المناهج، وبمثل هذا القصور عن معرفة الحقائق الصريحة في الحياة الإسلامية، وبمثل هذا التقليد البشع للمستشرقين وأكثرهم من اليهود، وبمَثل هذا الإغفالِ الشديد للفرق بين الأصول التي قامت عليها حضارة هذا الإسلام وانفردت بها دون سائر الحضارات، والأصول التي

قامت عليها حضارة سائر أمم الأرض؛ وتناولها المؤرخون بالبحث والتنقيب والكتابة والتصوير. وإذا كان الهاتف الذي هتف بالناس أنْ: "افهموا الإسلام فهمًا جديدًا" قذف بالمسلمين وبعقولهم وأهوائهم في متاهة لا يعلم غايتها إلا الله وحده، فإنه حين هتف أيضًا بهم أن: "افهموا تاريخ الإسلام فهمًا جديدًا"، أوشك كما قلتُ أن يهوى بتاريخ أهل الإسلام وأئمته في ظلمات مطبقة لا يطلع على خبثها إلا عالم غيب السموات والأرض. وقد مارستُ دعوَى من اتبعوا هذا الهاتف سنين، ولا أزال أمارسها وأتتبعها، فأدركتُ أن شيمة هذا العصر الوبئ، هي الغالبةُ دائمًا على أصحاب هذا الهاتف: من تحطيم، وتدمير، وغلو، وجرأة، وإصرار على التحكم، وضراوة في التهجم، وإغراق في الرجم بالغيب، وإفراط في ثقة المرء بقدرة عقله واعتداده بنفسه. ومن أجل ذلك كرهتُ كلمة التجديد هذه، وأنفتُ لنفسي أن أثق بالألفاظ التي يلقيها كثيرٌ من المتحمسين للإسلام، إذا لم أجد عمل أحدهم وتطبيقه وسيرته ونهجهُ، تؤيد دائمًا دلالة هذه الألفاظ على معانيها. هذا، إذا صحّ عندي أن منبع هذه الألفاظ هو دين الله نفسه، كما نزل في كتابه، بسياقه وبيانه وعربيته غير مؤَوَّل ولا مصروف عن وجهه وكما أوحى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في سيرته وعمله وتأديبه وحديثه، وكما جرت به سيرة أصحاب رسول الله، الذين أقاموا دين الله في الأرض، ولزموا طاعة الله ورسوله، وارتضاهم ربهم خلفاء في أرضه، وألزمهم كلمة التقوي وكانوا أحق بها وأهلها. * * * ولعلك ترانى شديد الحرص على أن أجعل أخلاقَ الإسلام وآدابَه وسننه وسائر ما يكون به الإسلام إسلامًا، هي الأصلُ الذي لا غنى عَنْه لمن يتعرَّض لكتابة تاريخ أهل الإسلام. وترانى أكادُ أقطع بأن هذا هو المنهجُ لا غيرُه من مناهج البحث، كما تعرف مناهج البحث في العصر الحديث. وأقول لك: نَعَمْ، ونِعمة

عين (¬1)، فأنا أنكر أن يكون في الدنيا شئٌ يسمى منهاجًا للبحث والفكر أو أسلوبًا أو طريقة إلا وهو منبثق من سرّ النفس الإنسانية، من تصوُّراتها ومآلفها، من عِشرتها وعهدها بما يحيط بها، من أسباب تصرُّفها في خواطرها، من دوافع نقدها للأشياء وتقديرها، من استحسانها واستقباحها، من دَواعى حبها وبغضها، من كلّ ما تعيش به في دخيلتها، وتعاشر به ما يتصل بها، بل إن العقل المجرّد نفسه، لا يستطيع أن يدرك الحق وحده، ولا أن يستقلّ بمعرفته وبالبيان عنه ولا أن ينفرد بشيء يسمى تفكيرًا، متخليًا عن جاراته من الطائع والغرائز والسلائق ومن العادات والآداب، ومما تسخطه النفس أو تحمدُه، ومما تحبه أو تكرهه، بل إن أكثر علم الناس في هذه الدنيا لا ينشق لهم طريقه إلا بما استقرَّ فيهم من أخلاقٍ وآدابٍ وسننٍ متبعة، بل إن اختلاف الأخلاق والآداب والسنن، أصلٌ أصيل في اختلاف العلم، ومفهوم العلم، وطبيعة العلم، بل إنّ الحضارات المتباينة، بعلمها وفنونها وصناعتها وآدابها، لم تتباين كل هذا التباين، إلا من جراءِ تباين الآداب والأخلاق والسنن في كل حضارة. فإذا أنا حرصتُ على أنْ أجعل أخلاقَ الإسلام وآدابه وَسننه هي الأصلُ الذي لا ينفك منه مؤرخ الإسلام، فذلك لأن المنهاجَ الذي يتبعه الباحث، لا يمكن إلا أن يكونَ صَدى لما تقوم به حياته التي يعانيها في دخيلة نفسه بالليل والنهار، وفي السرّ والعلن، وفي المنشطِ والمكره، وفي الرضا والغضب. والتاريخ، في زماننا، ليس علمًا على الحقيقة، كما ترى في الكيمياء والحساب والهندسة، بل هو تفسيرٌ لحوادث خفية الأسباب، مطمورة الجذور، متعدّدَةِ الدوافع، كثيرة المحامل والوجوه، متعلقة كل التعلق بحياة كل فرد عاش في الفترة التي تريدُ أن تؤرخها، شديدةِ الخضوع لعوامل لا يحصيها إلا الله وحده سبحانه. فما كان هذا شأنه وتعقيده، واختلاف أسبابه، وخفاء علله ودوافعه، فإنّ منهاجَ دراسته لا يقوم أبدًا على مقاييس لا تختلُّ كمقاييس الرياضة أو التجربة؛ ¬

_ (¬1) تقول: نَعَمْ ونعْمَةَ (مثلثة النون) عَيْنٍ: أي أفعلُ ذلك كرامةً لك.

بل هو يلقى المؤرخ بقدر هائل من الطبائع الإنسانية المتآلفة والمتنافرة، والمتآخية والمتناحرة، والمتفقة والمتناقضة، والظاهرة والغامضة، فلا معدَى له عن لقائها بقدر مثله من نفسٍ تراحبَ إدراكها للطبائع والسجايا والأخلاق. ومادامَ الأمرُ قد انتقل من المقاييس المحدَّدة الضابطة، إلى إدراك الطبائع الإنسانية البعيدة الغوْر، الخفية السرِّ، المتباينة الصور، بقدْر تباين صور البشر وألوانهم وأشكالهم وألسنتهم وأصواتهم وأهوائهم ونوازعهم -فقد انتقل المنهاج كله من التحديد الضابط الى التشتت المفزع الذي لا تدْري ماذا تأخذُ منه أو تَدع. فلا مناص إذن لأي عاقل بعض العقل من الرجوع الى شيء لا يختلف، يقومُ على أصل صحيح من هذا التقدير المخيف لاختلاف الطبائع، ومهما التمس الإنسان شيئًا يَفي بضبط هذا القدْر من التباين المتفجر، فهو خليقٌ ألا يجده. فإذا أثبته العجز عنه فآثر أن يغفله لمجرد شهوة يشتهيها، وهي أن يكتب للناس ويؤرخ لهم، فهو عندئذ خليقٌ أن يضلَّ في تقديره، وفي تصوّره، وفي حكمه، وصار كل ما يأتي به رجمًا وظنونًا وأهواءً وعبثًا وافتراءً وتكذبًا واقتفاء لما ليس له به علم: وهذا الذي كان. وليس على الأرض العاقلة شيء يمكنُ أن يعدَّ ميزانًا عادلا لهذه الطبائع البشرية التي وصفنا، إلا ميزان واحدٌ لا غير، هو الذي أنزلهُ ربُّ العالمين إذ يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد: 25]. واهتداء البشر بالكتاب، وفقههم لمعانيه، واتخاذهم الميزان الذي أنزله الله على أنبيائه ورُسله، أصلا يتعايشون به في حياتهم ويتحاكمون إليه في النظر والفكر، وفي العلم والفقه، وفي المعرفة والتقدير، وفي القياس والاستنباط، هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن لصاحب الرأي أن يكون رأيه قريبًا من الحقّ، ويكون منهاجه قادرًا بعضَ القدرة على لقاء هذه الكثرة الجياشة من الاختلاف. فإن منزل الميزان للناس ليقوموا بالقسط، هو الذي خلق الناس مختلفين، وجعل لهم هذا الميزان بإزاء هذا الاختلاف.

ولم يبق على الأرض العاقلة تنزيلٌ لا يأتيه الباطلُ من يديه ولا من خلفه، سوى كتاب واحد لا غير، هو كتاب الله تبارك اسمه، ثم بيان هذا الكتاب، وهو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فهما بجميع ما نزل فيهما، وما يستنبطُ منهما، غير مؤول عن حقه، ولا مصروف عن وجهه ولا مضروب بعضه ببعض: أخرجا الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الظلمات إلى النور، فجعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدًا. فلما أطاعوا الله وأطاعوا رسوله، واتبعوا ما أنزل إليهم وساروا بما استطاعوا مما أوحي إليهم من البينات والكتاب والحكمة أثنى عليهم ربهم بأفضل ثنائه سبحانه فقال لهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران: 110]. ثم نبأهم بعد بما نعتهم به فيما نزل على موسى - صلى الله عليه وسلم -، وفيما نزل على عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - من قبل أن يكونوا هم شيئًا مذكورًا فقال لهم فيما يتلى عليهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [سورة الفتح: 29]. صدق الله وكذب القوَّالون. فهؤلاء الذين زكّاهم ربهم وعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وبشّرهم في أواخر ما نزل على نبيهم: بآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم، من سائر التابعين ومن تبعهم بإحسان، هم الذين كان بهم تاريخ الإسلام تاريخًا، وبما اتبعوا من آدابه وأخلاقه وسننه، وبما كانوا به بشرًا يتعاشرونَ فيتآلفون ويتنافَرون، وبما أخطأوا وأصابوا، وبما عدلوا وأسرفوا، وبما استغفروا إلى ربهم وتابوا، وبما اجتهدوا فأحسنوا أو اجتهدوا فأساءوا، وبكلّ ما تكون به الحياة الإنسانية حياةً مختلفة الأبدان والوجوه والصور والأعمار، مختلفة الطبائع والغرائز والنوازع، مختلفة الحاجات والدوافع، مختلفة المساخط والمحامد، مختلفة فيما يحبُّ وما يكره، مختلفةً فيما يغضبُ ويرضى، معدَّلة في كل ذلك

بضابط لم يوجد مثله في تاريخ البشر: تقوى الله، والتوبة إلى ربّ العالمين. فقاموا بذلك كله إذ ألزمهم ربهم كلمة التقوى في السر والعلن، وعادوا إليه من عند زلاتهم توابين مستغفرين بالأسحار، وعاشت هذه الأمة المنفردة في تاريخ الجنس البشريّ، وأنشأت تاريخها برضى الله عن بعض عملها، وغضبه على بعض، وبعقابه لبعض أهلها ومغفرته لبعضٍ، ولم يجعلهم ربهم أمة معصومةٌ من خطإ، ولكنهم يخطئون ويتوبون ما انفسحت آجالهم، يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة، فيرحمهم ربُّهم ويتوب عليهم، ويعاقبهم ببعض ذنوبهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [سورة فاطر: 45]. فمن غير الممكن، وأكادُ أقول إنه المستحيل، أن يطيق إنسانٌ لم يتأدَّبْ بما تأدبوا به في أنفسهم، وبما صار به تاريخهم تاريخًا فيه مشابه من تواريخ الأمم، ولكنه مختلفٌ عنها كل الاختلاف -أن يكون مصيبًا أو مقاربًا للصواب، أو خليقًا بأن يدرك بعضَ الصواب، إذا هو أرادَ أن يكتب تاريخهم على النهج الذي نعرفه اليوم من كتابة التاريخ، والذي تُرمى فيه الأحكام جزافًا بلا تقوى ولا ورع، ولا مخافةٍ من ظنّ السوء، ولا هيبة من بهت الناسِ بما ليس فيهم، ولا تأثم من الاجتراء على غيب لا يعلمه إلّا العليم الخبير. والذي لم يجرّبْ هذه الآداب في سريرة نفسه، غير مستطيع أن يدرك مأتَى أعمال هؤلاء الناس، ولا مقاطع أحكامهم، ولا سيرة حكامهم، ولا طبيعة حياتهم، بل هو خليق أن يخلط ما جرى في حياتهم وأيامهم، بما جرى في حياة غيرهم وأيامهم، وأن يحكم على الذي كان يجرى بينهم سهلا يسيرًا منظورًا إليه بما ينظر به إلى مجرد الاختلاف في الرأي، حكما جازمًا قاطعًا مدمرًا، كأن الله وَكَّلَ إليه الاطلاع على سرائر خلقه، وفوض إليه أن يقضى فيهم بقضائه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران: 129].

المسلمون

المسلمون المسلمون فما أَذَلَّهمو ... في هذه الدنيا وهم كُثْرُ جدُّوا فجدَّ زمانُهم بهمو ... وتغيَّروا فتغيَّرَ الدهرُ

"لا تسبوا أصحابي"

" لا تسبُوا أصحَابي" حسبُ امرئ مسلم لله أن يبلغه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبُّوا أصحابى! لا تسبُّوا أصحابى! فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفقَ مثل أحُد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه" (¬1)، حتى يخشع لربّ العالمين، ويسمع لنبيّ الله ويطيعُ، فيكفّ غَرْب (¬2) لسانه وضراوة فكره عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يعلم علمًا لا يشوبه شكٍّ ولا ريبةٌ، أن لا سبيل لأحد من أهل الأرض، ماضيهم وحاضرهم، أن يلحق أقلَّ أصحابه درجة، مهما جهد في عبادته، ومهما تورّع في دينه، ومهما أخلص قلبه من خواطر السوء في سرّه وعلانيته. ومن أين يشك وكيف يطمعُ، ورسول الله لا ينطقُ عن هَوًى، ولا يداهنُ في دينٍ، ولا يأمرُ الناس بما يعلم أن الحقّ في خلافه، ولا يحدّث بخبر، ولا ينعتُ أحدًا بصفة، إلا بما علمه ربه وبما نبأه؟ وربه الذي يقول له ولأصحابه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. [سورة الزمر: 33: 35]. ثم يبين - صلى الله عليه وسلم - عن كتاب ربه فيقول: "خير الناس قَرْنى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". ثم يزيد الأمر بيانًا - صلى الله عليه وسلم -، فيدل المؤمنين على المنزلة التي أنزلها الله أصحاب محمد رسول الله، فيقول: "يأتي على الناس زمانٌ، فيغزو فئامٌ من (¬3) الناس فيقولون: فيكم مَن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمانٌ فيغزو فئامٌ من الناس فيقال: هل فيكم من صاحبَ أصحاب رسول الله ¬

_ (*) المسلمون، العدد الثالث، 1371 هـ/ 1952، ص: 246 - 255 (¬1) المُدّ: رُبْع الصاع، وإنما قدّره به - صلى الله عليه وسلم - لأنه أقل ما كانوا يتصدّقون به. والنَّصِيف والنِّصف بمعنى. (¬2) غرب اللسان: حَدُّه. (¬3) الفئام: الجماعة الكثيرة.

- صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمانٌ فيغزو فِئَامٌ من الناس فيقال: هل فيكم من صاحبَ مَن صاحب أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم". فإذا كان هذا مبلغ صحبة رسول الله، فأي مسلم يطيق بعد هذا أن يبسط لسانه في أحد من صحابة محمد رسول الله؟ وبأي لسان يعتذر يوم يخاصمونه بين يدي ربهم؟ وما يقول وقد قامت عليه الحجة من كتاب الله ومن خبر نبيه؟ وأين يفر امرؤ من عذاب ربه؟ وليس معنى هذا أن أصحاب محمد رسول الله معصومون عصمة الأنبياء، ولا أنهم لم يخطئوا قط ولم يسيئوا، فهم لم يدّعوا هذا، وليس يدّعيه أحدٌ لهم. فهم يخطئون ويصيبون، ولكنّ الله فضّلهم بصحبة رسوله، فتأدبوا بما أدَّبهم به، وحرصوا على أن يأتوا من الحق ما استطاعوا، وذلك حسبهم، وهو الذي أمروا به، وكانوا بعدُ توَّابين أوَّابين كما وصفهم في محكم كتابه. فإذا أخطأ أحدهم، فليس يحلُّ لهم، ولا لأحد ممن بعدهم، أن يجعل الخطأ ذريعةً إلى سبهم والطعن عليهم. هذا مجمل ما أدبنا به الله ورسوله. بيد أن هذا المجمل أصبح مجهولا مطروحًا عند أكثر من يتصدى لكتابة تاريخ الإسلام من أهل زماننا، فإذا قرأ أحدهم شيئا فيه مطعنٌ على رجل من أصحاب رسول الله سارع إلى التوغل في الطعن والسبِّ، بلا تقوى ولا ورع. كلا، بل تراهم ينسوْن كل ما تقضى به الفطرة من التثبت من الأخبار المروية، على كثرة ما يحيط بها من الريب والشكوك، ومن الأسباب الداعية إلى الكذب في الأخبار، ومن العلل الدافعة إلى وضع الأحاديث المكذوبة على هؤلاء الصحابة. ولن أضرب المثل بما يكتبه المستشرقون ومن لف لفهم فهم كما نعلم. ولا بأهل الزيغ والضلال والضغينة على أهل الإسلام، كصاحب كتاب الفتنة الكبرى (¬1) وأشباهه من المؤلفين. بل سآتيك بالمثل من كلام بعض المتحمسين (¬2) لدين ربهم، المعلنين بالذبّ عنه والجهاد في سبيله. لتعلم أن ¬

_ (¬1) للدكتور طه حسين -رحمه الله-. (¬2) يعني الأستاذ سيد قطب، -رحمه الله-، في كتابه "العدالة الإجتماعية".

أخلاق المسلم هي الأصل في تفكيره وفي مناهجه وفي علمه، وأن سمة الحضارة الوثنية الأوربية، تنفجر أحيانًا في قلب من لم يحذر ولم يتق، بكل ضغائن القرن العشرين وبأسوأ سخائم هذه الحضارة المتعدية لحدود الله التي كتب على عباده -مسلمهم وكافرهم- أن لا يتعداها. أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هم أبو سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وهند بنت عتبة بن ربيعة، أم معاوية. -رضي الله عنهم- كيف يتكلم أحد الناس عنهم. 1 - "فلما جاء معاوية، وصيَّر الخلافة الإسلامية مُلكا عضوضًا في بني أميّة، لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وَحْى الجاهلية" ولم يكتفِ بهذا بل شمل بني أمية جميعًا فقال: "فأمية بصفة عامة لم يَعْمر الإيمان قلوبَها وما كان الإسلام لها إلا رداء تخلعه وتلبَسُه حسب المصالح والملابسات". 2 - ثم يذكر يزيد بن معاوية بأسوأ الذكر ثم يقول: "وهذا هو "الخليفة" الذي يفرضه معاوية على الناس، مدفوعًا إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام؛ دافع العصبية العائلية القبلية. وما هي بكثيرة على معاوية ولا بغريبة عليه. فمعاوية هو ابن أبي سفيان. وابن هند بنت عتبة، وهو وريث قومه جميعًا وأشبه شيء بهم في بُعد روحه عن حقيقة الإسلام. فلا يأخذ أحدٌ الإسلام بمعاوية أو بني أمية، فهو منه ومنهم برئ". 3 - "ولسنا ننكر على معاوية في سياسة الحكم ابتداعه نظام الوراثة وقهر الناس عليها فحسب، إنما ننكر عليه أولا وقبل كل شيء إقصاءه العنصر الأخلاقى، في صراعه مع على، وفي سيرته في الحكم بعد ذلك، إقصاءً كاملا لأول مرة في تاريخ الإسلام. . . فكانت جريمة معاوية الأولى، التي حطمت روح الإسلام في أوائل عهده هي نفي العنصر الأخلاقى من سياسته نفيًا باتًّا. ومما ضاعف الجريمة أن هذه الكارثة باكرت الإسلام ولم تنقض إلا ثلاثون سنة على سُننه الرفيعة. . . ولكى ندرك عمق هذه الحقيقة يجب أن نستعرض صورًا من سياسة الحكم في العهود المختلفة على أيدي أبي بكر وعمر، وعلى أيدي عثمان

ومروان. . . ثم على أيدي الملوك من أمية. . . ومن بعدهم من بني العباس، بعد أن خُنقت روح الإسلام خنقًا على أيدي معاوية وبنى أبيه". 4 - "ومضى على إلى رحمة ربه، وجاء معاوية بن هند وابن أبي سفيان! " (وأنا أستغفر الله من نقل هذا الكلام، بمثل هذه العبارة النابية فإنه أبشع ما رأيته! ) ثم يقول: "فلئن كان إيمان عثمان وورعه ورقته، كانت تقف حاجزًا أمام أمية .. لقد انهار هذا الحاجز، وانساح ذلك السد، وارتدّت أمية طليقة حرة إلى وراثاتها في الجاهلية والإسلام. وجاء معاوية، تعاونه العصبة التي على شاكلته، وعلى رأسها عمرو بن العاص. قوم تجمعهم المطامع والمآرب، وتدفعهم المطامح والرغائب، ولا يمسكهم خلق ولا دين ولا ضمير" (وأنا أستغفر الله وأبرأ إليه). ثم قال: ولا حاجة بنا للحديث عن معاوية، فنحن لا نؤرخ له هنا، وبحسبنا تصرفه في توريث يزيد الملك، لنعلم أي رجل هو. ثم بحسبنا سيرة يزيد لنقدّر أية جريمة كانت تعيش في أسلاخ أمية على الإسلام والمسلمين". 5 - ثم ينقل خطبة يزعم أنها لمعاوية في أهل الكوفة بعد الصلح يجئ فيها قول معاوية: "وكل شرط شرطته، فتحت قدميّ هاتين" ثم يعقب عليه مستدركا: "والله تعالى يقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} والله يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} فيؤثر الوفاء بالميثاق للمشركين المعاهدين، على نصرة المسلمين لإخوانهم في الدين. أما معاوية فيخيس بعهده للمسلمين، ويجهر بهذه الكبيرة جهرة المتبجحين! .. إنه من أمية، التي أبت نحيزتها أن تدخل في حلف الفضول! ". 6 - ثم يذكر خطبة أخرى لمعاوية في أهل المدينة: "أما بعد، فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم" ثم يعلق عليها فيقول: "أجل ما وليها بمحبة منهم. وإنه ليعلم أن الخلافة بيعة الرضى في دين الإسلام. ولكن ما لمعاوية وهذا الإسلام .. وهو ابن هند وابن أبي سفيان! ".

7 - "وأما معاوية بعد عليّ، فقد سار في سياسة المال سيرته التي ينتفي منها العنصر الأخلاقيّ، فجعله للرُّشى واللهى وشراء الأمم في البيعة ليزيد، وما أشبه هذه الأغراض، بجانب مطالب الدولة والأجناد والفتوح بطبيعة الحال". 8 - ثم قال شاملا لبنى أمية: "هذا هو الإسلام، على الرغم مما اعترض خطواته العملية الأولى، من غلبة أسرة لم تعمرْ روحُ الإسلام نفوسها. فآمنت على حرف حين غَلب الإسلام، وظلّت تحلم بالملك الموروث العضوض حتى نالته، فسارت بالأمر سيرة لا يعرفها الإسلام". هذا ما جاء في ذكر معاوية، وما أضفى الكاتب من ذيوله على بني أمية، وعلى عمرو بن العاص. وأما ما جاء عن أبي سفيان بن حرب فانظر ماذا يقول: 9 - "أبو سفيان هو ذلك الرجل الذي لقى الإسلام منه والمسلمون ما حفلت به صفحات التاريخ، والذي لم يسلم إلا وقد تقررت غلبة الإسلام. فهو إسلام الشفة واللسان، ولا إيمان القلب والوجدان. وما نفذ الإسلام إلى قلب ذلك الرجل قطّ، فلقد ظلّ يتمنى هزيمة المسلمين ويستبشر لها في يوم حنين، وفي قتال المسلمين والروم فيما بعد، بينما يتظاهر بالإسلام. ولقد ظلت العصبية الجاهلية تسيطر على فؤاده. . . وقد كان أبو سفيان يحقد على الإسلام والمسلمين، فما تعرض فرصة للفتنة إلا انتهزها. ." 10 - "ولقد كان أبو سفيان يحلم بملِك وراثى في بني أمية منذ تولى الخلافة عثمان فهو يقول: "يا بني أمية. . . تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنَّ إلى صبيانكم وراثة! ". وما كان يتصوَّر حكم المسلمين إلا ملكا حتى في أيام محمد، (وأظن أنا أنه من الأدب أن أقول: - صلى الله عليه وسلم -)، فقد وقف ينظر إلى جيوش الإسلام يوم فتح مكة، ويقول للعباس ابن عبد المطلب: "والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك أليوم عظيما"، فلما قال له العباس. إنها النبوّة! قال: نعم إذن! . . . "نعم إذن! وإنها لكلمة يسمعها بأذنه فلا يفقهها قلبه، فما كان مثل هذا القلب ليفقه إلا معنى الملك والسلطان". ثم يقول عن هند بنت عتبة أم معاوية.

11 - "ذلك أبو معاوية. فأما أمه هند بنت عتبة، فهي تلك التي وقفت يوم أحد، تلغ في الدم إذ تنهش كبد حمزة كاللبؤة المتوحشة، لا يشفع لها في هذه الفعلة الشنيعة حق الثأر على حمزة، فقد كان قد مات. وهي التي وقفت بعد إسلام زوجها كرها بعد إذ تقررت غلبة الإسلام تصيح. "اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه. قُبّح من طليعة قوم! هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم؟ ". * * * هؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يذكرهم كاتب مسلم، بمثل هذه العبارات الغريبة النابية! بل زاد، فلم يعصم كثرة بني أمية من قلمه، فطرح عليهم كلّ ما استطاع من صفات تجعلهم جملة واحدة، برآء من دين الله؛ ينافقون في إسلامهم، وينفون من حياتهم كل عنصر أخلاقى! كما سماه. وأنا لن أناقش الآن هذا المنهج التاريخى، فإن كلّ مدع يستطيع أن يقول: هذا منهجى، وهذه دراستى. بل غاية ما أنا فاعل أن أنظر كيف كان أهل هذا الدين، ينظرون إلى هؤلاء الأربعة بأعيانهم، وكيف كانوا -هؤلاء الأربعة- عند من عاصرهم ومن جاء بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم. وأيضًا فإني لن أحقق في هذه الكلمة فساد ما بُنى عليه الحكم التاريخيّ العجيبُ، الذي استحدثه لنا هذا الكاتب، بل أدعه إلى حينه. فمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، أسلم عام القضية؛ ولقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا؛ وكتم إسلامه من أبيه وأمه. ولما جاءت الردة الكبرى؛ خرج معاوية في هذه القلة المؤمنة التي قاتلت المرتدّين؛ فلما استقر أمرُ الإسلام وسير أبو بكر الجيوش إلى الشام سار معاوية مع أخيه يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنه -. فلما مات يزيد في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لأبى سفيان: أحسن الله عزاءك في يزيد. فقال أبو سفيان. من ولّيت مكانه؟ قال. أخاه معاوية. قال: وصلتك رحم يا أمير المؤمنين. وبقى معاوية واليا لعمر على عمل دمشق. ثم ولاه عثمان الشام كلها؛ حتى جاءت فتنة مقتل عثمان؛ فولى معاوية دم عثمان لقرابته؛ ثم كان بينه وبين على ما كان.

ويروى البخاري: (5: 28) أن معاوية أوتر بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: دعه فإنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال في خبر آخر: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه أوتر بواحدة، فقال ابن عباس: إنه فقيه. وروى أحمد في مسنده (4: 102) عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن معاوية أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصر شعره بمشقص (¬1). فقلت لابن عباس: ما بلغنا هذا الأمر إلا عن معاوية! فقال: ما كان معاوية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متهمًا. وعن أبي الدرداء: ما رأيت أحدًا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أميركم هذا يعني معاوية (مجمع الزوائد 9: 357). وروى أحمد في مسنده (4: 101) عن أبي أمية عمرو بن يحيى بن سعيد عن جده أن معاوية أخذ الإداوة (¬2) بعد أبي هريرة يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، واشتكى أبو هريرة، فبينا هو يوضئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع رأسه إليه مرة أو مرتين فقال: يا معاوية؛ إن وليت أمرًا فاتق الله -عزّ وجل- واعدل. قال معاوية: فما زلت أظن أنى مبتلى بعمل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ابتُليتُ. وروى أحمد في مسنده (4: 127) عن العرباض بن سارية السلمى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعونا إلى السحور في شهر رمضان: هلموا إلى الغداء المبارك! ثم سمعته يقول: اللهمّ علم معاوية الكتاب والحساب وقِه العذاب. وروى أحمد في مسنده (4: 216) عن عبد الرحمن ابن أبي عميرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر معاوية فقال: "اللهم اجعله هاديًا مهديًّا واهد به". هذا بعض ما قيل في معاوية - رضي الله عنه -، وفي دينه وإسلامه. فإن كان هذا الكاتب قد عرف واستيقن أن الروايات المتلقفّة من أطراف الكتب تنقض هذا نقضا حتى يقول إنّ الإسلام برئ منه، فهو وما عرف. وإن كان يعلم أنه أحسنُ نظرًا ومعرفة بقريش من أبي بكر حين ولّى يزيد بن أبي سفيان، وهو من بني أمية، وأنفذ بصرًا من عُمرَ حين ولّى معاوية. فهو وما علم! وإن كان يعلم أنّ معاوية لم ¬

_ (¬1) المشقص: نصل طويل عريض (المقص). (¬2) الإداوة: إناء من جلد صغير كالقربة.

يُقاتل في حروب الردّة، إلّا وهو يضمر النفاق والغدر، فله ما علم. وإن كان يرى ما هو أعظمُ من ذلك؛ أنه أعرف بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من رسول الله الذي كان يأتيه الخبر من السماء بأسماء المنافقين بأعيانهم، فذلك ما أعيذه مِنهُ أن يعتقده أو يقوله. ولكن لينظر فرق ما بين كلامه وكلام أصحاب رسول الله عن رجل آخر من أصحابه، ثم ليقطع لنَفسه ما شاء من رحمة الله أو من عذابه. ولينظر أيهما أقوى برهانًا في الرواية هذا الذي حدثنا به أئمة ديننا، أم ما انضمَّت عليه دفَّتا كتاب من عُرْض كتب التاريخ، كما يزعمون. ولينظر لنفسه حتى يرجّح رواية على رواية، وحديثًا على حديث، وخبرًا على خبر، وليعلم أن الله تعالى أدّب المسلمين أدبًا لم يزالوا عليه منذ كانت لدين الله الغلبة، حتى ضرب الله على أهل الإسلام الذّلة بمعاصيهم وخروجهم عن حدّ دينهم، واتباعهم الأمم في أخلاقها وفي فكرها وفي تصورّها للحياة الإنسانية. يقول ربُّنا سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ويقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ويقول {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}. ولينظر أنّى له أن يعرف أن معاوية كان يعمل "بوحي الجاهلية لا الإسلام"، وأنه بعيد الروح عن حقيقة الإسلام، وأن الإسلام لم يَعمُر قلبه، وأنه خنق روح الإسلام هو وبنو أبيه، وأنه هو وعمرو بن العاص ومن على شاكلتهم، لا يمسكهم خُلق ولا دين ولا ضمير، وأن في أسلاخ معاوية وبنى أمية جريمة أي جريمة على الإسلام والمسلمين، وأنه يخيس بالعَهد ويجهر بالكبيرة جهرة المتبجحين، وأنه ما لمعاوية وهذا الإسلام؟ وأنه ينفي العنصر الأخلاقى من سيرته ويجعل مال الله للرشى واللهي وشراء الذمم، وأنه هو وبنو أمية آمنوا على حرف حين غَلب الإسلام. * * * أما أبو سفيان - رضي الله عنه -، فقد أسلم ليلة الفتح، وأعطاه رسول الله من غنائم حنين كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم فقال له: والله إنك لكريم فداك أبي

وأمى، والله لقد حاربتك فلنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرًا. ثم شهد الطائف مع رسول الله، وفقئت عينه في القتال، ولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجران، ورسول الله لا يولى منافقًا على المسلمين، وشهد اليرموك، وكان هو الذي يحرض الناس ويحثهم على القتال. وقد ذكر الكاتب فيما استدلّ به على إبطان أبي سفيان النفاق والكفر أنه كان يستبشر بهزيمة المسلمين في يوم حنين، وفي قتال المسلمين والروم فيما بعد، وهذا باطل مكذوب. وسأذكر بعد تفصيل ذلك. أما قول أبي سفيان للعباس "لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما! " فقال العباس إنها النبوة! فقال أبو سفيان: فنعم إذن. فهذا خبر طويل في فتح مكة، قبل إسلامه، وكانت هذه الكلمة "نعم إذن" أول إيذان باستجابته لداعى الله، فأسلم - رضي الله عنه - وليست كما أولها الكاتب: "نعم إذن. وإنها كلمة يسمعها بأذنه فلا يفقهها قلبه، فما كان مثل هذا القلب ليفقه إلا معنى الملك والسلطان"، إلّا أن يكون الله كشف له ما لم يكشف للعباس ولا لأبى بكر ولا لعمر، ولا لأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار. وأعوذ بالله من أن أقول ما لم يكشف لرسول الله ونبيه - صلى الله عليه وسلم -. وعن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاثًا أعطنيهنّ. قال: نعم قال: تؤمرنى حتى أقاتل الكفار كما قاتلتُ المسلمين. قال: نعم. قال: ومعاوية تجعلُه كاتبًا بين يديك. قال: نعم. وذكر الثالثة، وهو أنه أراد أن يزوّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابنته الأخرى عزّة بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة فقال: "إن ذلك لا يحلُّ لي". وأما هند بنت عتبة أم معاوية -رضي الله عنهما- فقد روى عن عبد الله بن الزبير (ابن سعد 8: 171) قال: لما كانَ يوم الفتح أسلمت هند بنت عتبة ونساء معها وأتين رسول الله وهو بالأبطح فبايعنه، فتكلمت هند فقالت: يا رسول الله! الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه. لتنفعني رحمُك يا محمد! إني امرأةٌ مؤمنة بالله مصدقةٌ برسوله. ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة. فقال رسول الله: مرحبًا بك. فقالت: والله ما كان على الأرض أهل خباء

أحبّ إليّ من أن يذلُّوا من خبائك، ولقد أصبحتُ وما على الأرض أهل خباء أحبّ إليّ من أن يعزّوا من خبائك. فقال رسول الله: وزيادة. . . قال محمد بن عمر الواقدى: لما أسلمتْ هندُ جعلت تضربُ صَنمًا في بيتها بالقدوم حتى فلّذته فلذة فلذة وهي تقول: كنّا منك في غرور. وروى البخاري هذا الخبر عن أم المؤمنين عائشة (5: 40). فهل يعلم عالمٌ أن إسلام أبي سفيان وهند كان نفاقًا وكذبًا وضغينة؟ لا أدري. ولكن أئمتنا من أهل هذا الدين لم يطعنوا فيهم، وارتضاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتضى إسلامهم. وأمّا ما كان من شأن الجاهلية، فقل رجُلٌ أو امرأةٌ من المسلمين لم يكنْ له في جاهليته مثل ما فعل أبو سفيان، أو شبيهٌ بما يروى عن هندٍ إن صحَّ. وأما عمرو بن العاص، فقد أسلم عام خيبر قدم مهاجرًا إلى الله ورسوله، ثم أمّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سرية إلى ذات السلاسل يدعو بليًّا إلى الإسلام، ثم استعمله رسول الله على عمان فلم يزل واليًا عليها إلى أن توفيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم أقره عليها أبو بكر - رضي الله عنه - ثم استعمله عمر. وروى الإمامُ أحمد في مسنده (2: 327، 353، 354) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابنا العاص مؤمنان" يعني هشامًا وعمرًا. وروى الترمذي وأحمد في مسنده (4: 155) عن عقبة بن عامر الجهني: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص. وروى أحمد في مسنده (1: 161) عن طلحة بن عبيد الله قال: ألا أخبركم عن رسول الله بشيء؟ ألا إني سمعته يقول: عمرو بن العاص من صالحي قريش. ونعم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله. فإذا كان جهاد عمرو، وشهادة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتولية رسول الله ثم أبي بكر ثم عمر، لا تدل على شيء من فضل عمرو بن العاص، ولا تدل على نفي النفاق في دين الله عنه، فلا ندري بعد ما الذي ينفع عمرًا في دنياه وآخرته؟ ولست أتصدى هنا لتزييف ما كتبه الكاتب من جهة التاريخ، ولا من جهة

المنهاج، ولكني أردت كما قلت أن أبين أن الأصل في ديننا هو تقوى الله وتصديق خبر رسول الله وأن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليسوا لعانين ولا طعانين ولا أهل إفحاش، ولا أصحاب جرأة وتهجم على غيب الضمائر، وأن هذا الذي كانوا عليه أصل لا يمكن الخروج منه، لا بحجة التاريخ، ولا بحجة النظر في أعمال السابقين للعبرة واتقاء ما وقعوا فيه من الخطأ. ولو صح كل ما يذكر مما اعتمد عليه الكاتب في تمييز صفات هؤلاء الأربعة، وصفة بني أمية عامة، لكان طريق أهل الإسلام أن يحملوه على الخطأ في الاجتهاد من الصحابي المخطئ ولا يدفعهم داء العصر أن يوغلوا من أجل خبر أو خبرين في نفي الدين والخلق والضمير عن قوم هم لقرب زمانهم وصحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أولى أهل الإسلام بأن يعرفوا حق الله وحق رسوله، وأن يعلموا من دين الله ما لم يعلمه مجترئ عليهم طعان فيهم. وأختم كلمتى هذه بقول النووي في شرح مسلم (16: 93) "اعلم أن سبَّ الصحابة -رضي الله عنهم- حرام من فواحش المحرمات، سواء مَن لابَسَ الفتن منهم وغيره، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون. وقال القاضى: سب أحدهم من المعاصى الكبائر. ومذهبنا ومذهب الجمهور أن يعزر ولا يقتل. وقال بعض المالكية يقتل". وأسدى النصيحة لمن كتب هذا وشبهه أن يبرأ إلى الله علانية مما كتب وأن يتوب توبة المؤمنين مما فرط منه، وأن ينزه لسانه، ويعصم نفسه، ويطهر قلبه، وأن يدعو بدعاء أهل الإيمان {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة الحشر: 10]. من أجل هذا أقول: إن خلق الإسلام، هو أصل كل منهاج في العلم والفهم، سواء كان العلم تاريخًا أو أدبًا أو اجتماعًا أو سياسة. وإلا فنحن صائرون إلى الخروج عن هذا الدين، وصائرون إلى تهديم ما بناه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى جعل تاريخ الإسلام حشدًا من الأكاذيب الملفقة، والأهواء المتناقضة،

طلب الدراهم من الحجارة!

والعبث بكل شيء شريف ورثتنا إياه رحمة الله لهم وفتح الله عليهم، ورضاه عن أعمالهم الصالحة، ومغفرته لهم ما أساءوا، -رضي الله عنهم- وغفر لهم وأثابهم بما جاهدوا وصبروا، وعلموا وعلّموا. وأستغفر الله وأتوب إليه. * * * طلب الدراهم من الحجارة! قال أبو معاوية: لقد رأيتنى أنضح أول النهار، وأضرب آخر النهار على بطنى بالمعول. فقيل له: لقد لقيت مؤونة! قال: أجل، إنا طلبنا الدراهم من أيدي الرجال ومن الحجارة، فوجدناها من الحجارة أسهل علينا.

ألسنة المفترين

ألسنَةُ المفترين ممَّا يُسْتخرَج به الضَّحِك أن يحدّثك المحدّث أو الكاتب بشئٍ سخيفٍ لا يُعْقَل، وهو يُبْدى لكَ الجدّ كل الجدّ فيما يحدِّثُ أو يكتب. ولكنه عندئذٍ لا يريدُ إلّا إضحاكك. فإذا جاءَ امرؤ يفعَل ذَلك وهو لا يريدُ إلا الجدّ، لأنّه قد بَنَى حديثَه عليه عند نفسه وعند سامعه أو قارئه، فهذا هو المضحك المحزنُ معًا. ولكن من العجيب أن يَكون هذا السَّمْتُ الأخيرُ، هو سمْت أكثر الذين يكتبون اليوم في تاريخ الإسلام. ومن البلْوى أن يأتي هذا في زمنٍ أصبحنا فيه وأصبح الناس، وكلّ حرف مكتوبٍ يُعدُّ عندهم كأنه تنزيلٌ يتلقوْنه بالثقة والتسليم لا يكادُ امرؤ مِنهم ينظر في مأتاهُ من أين أتى، ولا في منتهاهُ إلى أين ينتهي. فإذا اجتمع إلى هذه البلوى بلْوى الهوى المخلوط بالغلوِّ، خرجَ الأمرُ كله من الضَّحِك والحزنِ، إلى الهلاكِ المطبق الذي يغتال العقول والنفوس جميعًا. يرى الكاتب ذو الهوى خبرًا أو أخبارًا، فلا يدفعه هواهُ إلا إلى أخذ أقربها موافقة لهواه، ويمنعُه الهوى من التمييز، ويحمله التعبُّد للحرف المكتوب أن يغمِض كل بصيرةٍ عن مواضع الدَّخل والغشّ والزَّيْف فيما كُتِب، وتشتدُّ البلوى حين ينتصب لهذا التزوير المدمِّر رجالٌ يلبسون للناس ثيابَ الغيرة على دين ربهم، والحمية لماضي أمتهم، والجهادِ في سبيل إعزاز هذا الدين بأنفسهم وألسنتهم. وتجتمع عليهم وعلى الناس صواعق الهلاك، حين يخدع عامة الناس أمرُهم، فيتلقوْن عنهم معاني وأحكامًا وأخبارًا، وما شئتَ من حصائد الألسنة، على غير هُدًى ولا بيّنةٍ. فيوشك أمر الناسِ أن ينتهي إلى الردَّةِ الماحقة، والكفر المستعلِن. كما مضى مثل الأوَّلين، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، حين استنصحوا الأحبار والرهبان فأطاعوهم على غير هدى ولا بينة ولا كتاب منير. وقبل أن أفضى إلى الأمثلة التي تبين عن الفساد والضلال، أحبُّ أن يعلم من ¬

_ (*) المسلمون، العدد الرابع، 1371 هـ/ 1952، ص: 351 - 359

لم يكن يعلم، أن أسلافنا -رضي الله عنهم- وغفر لهم، منذ ألفوا كتبهم، وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم، ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها، وبَرئِوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد، ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبرُ صحيحًا أو ضعيفًا أو زائدًا أو ناقصًا أو موضوعا مكذوبا؛ لأنهم كانو يعلمون حال الرُّواة ومنازلهم من الصدق والكذب، ومن الورَع والاستخفاف، ومن الأمانة والهوى. وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سجلا لما قد قيل في زَمانهم وما قبل زمانهم، وما كان يقوله قومٌ، وما كان يقوله آخرون، مهما تعارض القولان أو اختلفا أو تناقضا. وتركوا للعلماء تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب، على أساسهم المشهور، وهو معرفة الرجال الذين رووا هذه الأخبار أو تكذّبوها. هذا الطبري مثلا (توفي سنة 310) يقول في فاتحة كتابه في التاريخ: "فما يكن في كتابى هذا من خبر ذكرناهُ عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها صحيحًا، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدَّى إلينا". ومن عرف كتابه وكتب القوم، علم يقينًا صدق ما يقول، فإنه يأتي بالخبر لا يصحُّ أبدًا، وبالخبر الصحيح الذي لا شك فيه، ولا يعرض لهما. بتصديق أو تكذيب، ثم تراه في موضع آخر قد احتاج إلى البيان عن حال هذين الخبرين، فعندئذ يميز لك ما هو صحيح عنده وما هو باطلٌ من هذين الخبرين. فهو كما قال، إنما يؤدّى إلى الناس ما أدَّى إليه. وكان الناسُ على عهدهم أهل دين وتقوى، لا يستحل امرؤ منهم -إلا من ضلَّ- أن يحتج في دين الله، ولا في تاريخ الناس والحكم عليهم، بخبر لا يدري أصدق قائله فيما روى أم كذب. ثم جاء من بعدهم قوم خلطوا عامة الأخبار بلا إسناد إلى رواتها، فاجتمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، والصادق والمكذوب. ولكن لم يزل دين الناس يعصمهم من شر هذا الخلط المضل، فأمسكوا ألسنتهم عن الخوض في المطاعن والمثالب بلا بينة ولا حجة. فلما جاء

زماننا هذا، بَشِع الأمر وقبُح. فإن الناس قد هجروا أدب دينهم، ومروءة أسلافهم، وعلم كتبهم، واقتحموا بالجهالة على الظنون المردية، واستخفهم الهوى حتى أخذوا الباطل وعارضوا به الحق بلا تمحيص ولا رواية ولا فهم. وشابهوا زمن هذه الحضارة الغالبة عليهم؛ فاجترؤا وتهوروا واستغلظوا معاني وألفاظًا يتقاذفونها في ألسنتهم وكتُبهم، وقد نفى الشيطان من قلوبهم كلّ معاني الوَرَع ومخافة العذاب يوم القيامة، حتى قذفوا بالغيب من مكانٍ بعيدٍ، واجترأوا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوهامهم وأهوائهم فأفحشوا القالة فيهم وفيمن تبعهمِ، بلا معرفة ولا تخوّفٍ، وربّ العالمين ينذرهم فيما يتلون من كتابه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [سورة الأحزاب: 58]. أفتراهم يحسبون أنَّ الله حرّم عليهم أعراض عبادِه الأحياءِ، وأباحَ لهم أعراض عباده الموتَى، بعد أن أفضوا إلى ربهم بأعمالهم وغيبهم وما قدَّموا من حسنات وسيئات؟ ! ألا فليعلموا أن الميت أولى بأن تكفَّ عنه ألسنة المفترين مِنَ الحيّ، فإنه لا يدفع عن نفسه، وليتقوا عذاب ربهم، فإنّ الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه، يدفع عنه ربُّ العالمين الذي أحصى كل شيء خلَقه ثم يحكم بينهم بالعدل وهو العليم القدير. * * * وأعود إلى هذا الكاتب الذي طرح لسانه في معاوية بن أبي سفيان وأبيه وأمه، وفي عمرو بن العاص، وفي عامة بني أمية، ووصفهم وصفًا آذاهم بغير ما اكتسبوا. وأنا لن أجادله في صواب ما يدَّعى أو خطئه، ولن أتعرض لتزييف أحكامه وأحكام أشباهه من الطاعنين بألسنتهم في أعراض المؤمنين حتى يخرجوهم من الدين، وينسبوهم إلى التغيير والتبديل. بل أريد أن أعرض على الناس بعض ما يروى، حتى أعرف لم ترك خبرًا وأخذ آخر؟ ولم صدق رواية وأعرض عن أخرى؟ ولم وضع قاعدة في أمر ثم أغفلها في مثله؟ كان مما جعله من سيئات معاوية - رضي الله عنه - في سياسة الحكم توليته يزيد

ابن معاوية فروى أن يزيد "كان فتى شراب ولهو يبلغ فيه إلى حدِّ التفاهة، فيعني بتدليل القرود وتربيتها، أكثر مما يعني بسياسة الحكم ومصالح الرعية. . . إلى نزق وطيش وفتون". ومن المفيد أن أنقل مع هذا أيضا قول قائل آخر في صفة يزيد "ويزيد هذا شاب خليع لا يصلح أن يلى أمر مدرسة ابتدائية، بله أن يقف على منبر الرسول، ويحل مكان أبي بكر وصحبه". وما كنت أظن قط أن عاقلا يرتضى لنفسه مثل هذا الزلل، فإن معاوية عند هؤلاء إنما دبر الأمر تدبيرًا هو وعمرو بن العاص وأشباههما (كما يقول)، حتى يأخذ الخلافة فيجعلها ملكا عضوضًا لبنى أمية أو بني عبد شمس. فالذي يفعل ذلك، ويستخلص الملك لنفسه وأهله من جمهور أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليقيم عرش بني أمية على أكبر رقعة من الأرض متباعدة الأطراف، لا يفعل ذلك إلا وهو يريد المحافظة على هذا العرش وحياطته وتدبيره حتى يصبح ملكًا متوارثًا فيما يزعمون. هذا صريح العقل فيما أظن. فهب أن معاوية - رضي الله عنه - كان فاسد الدين مبدلا مغيرا مفتاتًا على أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، أفكان أيضا فاسد العقل والتدبير؟ ولو كان فاسد العقل والتدبير، فكيف استطاع أن يصل إلى حكم أهل الشام عشرين عامًا في ولايته وعشرين أخرى في خلافته؟ وأي فساد في عقل إنسان يجاهد بسوء نيته عشرين عامًا لإقامة ملك عضوض، ثم يورث هذا الملك شابا يصفه واصف بأنه فتى لهو وشراب يبلغ إلى حد التفاهة، يعني بتربية القرود وتدليلها أكثر مما يعني بسياسة الحكم ومصالح الرعية، إلى نزق وطيش! ! ويصفه آخر مثله بأنه شاب خليع لا يصلح أن يلى مدرسة ابتدائية بله أن يقف على منبر الرسول (- صلى الله عليه وسلم -)، ويحل محل أبي بكر وصحبه (-رضي الله عنهم-)! ! أليس هذا عجبًا عاجبًا؟ ولكن لا عجب في زماننا مع الأسف! ولا عجب مع اللجاجة والهوى وافتراء الألسنة وتهور الأقلام! ومن العبث عندي أن يجادل المرء أمثال هؤلاء. وسأتناول الآن كتابا للبلاذُرِى (توفي في نحو سنة 280)، ويقول عنه مؤرخوه إنه كان "عالمًا فاضلا شاعرًا راوية نسابة متقنا، وكان مع ذلك كثير الهجاء بذئ اللسان أخِذ الأعراض". فإذا البلاذرى هذا

الذي وصفوه بما وصفوه، يروى في أول ترجمته ليزيد بن معاوية عن رواة وصفهم علماء الرجال بأنهم من الكذابين والوضاعين ومن المتشيعين الغلاة فيقول: "كان يزيد بن معاوية أول من أظهر شرب الشراب، والاستهتار بالغناء والصيد، واتخاذ القيان والغلمان، والتفكه بما يضحك منه المترفون، من القرود والمعاقرة بالكلاب والديكة. ثم جرى على يده قتل الحسين وقتل أهل الحرة، ورمى البيت وإحراقه. وكان مع هذا صحيح العقدة فيما يُروى، ماضي العزيمة، لا يهم بشيء إلا ركبه" ثم ذكر أخبارًا في لعبه بالقرود وشربه الخمر. ثم ذكر بعد ذلك بإسناده قال: "قال رجل لسعيد بن المسيَّب: أخبرني عن خطباء قريش. قال: معاوية وابنه يزيد. . . .". ثم روى بعد أسطر عن المدائنى عن عبد الرحمن ابن معاوية قال: قال عامر بن مسعود الجمحي: إنا لبمكة إذ مر بنا بريد ينعى معاوية، فنهضنا إلى ابن عباس وهو بمكة وعنده جماعة، وقد وضعت المائدة ولم يؤت بالطعام. فقلنا له: يا أبا العباس، جاء البريد بموت معاوية. فوجم طويلا ثم قال: اللهم أوسع لمعاوية. أما والله ما كان مثل من قبله ولا يأتي بعده مثله، وإن ابنه يزيد لمن صالحي أهله. فالزموا مجالسكم، وأعطوا طاعتكم وبيعتكم. هات طعامك يا غلام". ويروى أيضًا: "أن سبب وفاة يزيد أنه حمل قرده على الأتان وهو سكران ثم ركض خلفها، فسقط، فاندقت عنقه، أو انقطع في جوفه شيء" ثم يعود بعد ستين صحيفة يروى أيضًا "وكان سبب موت يزيد أنه ركض فرسا فسقط عنه وأنه أصابه قطع، ويقال: إن عنقه اندقت". هذا ضرب من الرواية لا يشك شاك أن بعضه يناقض بعضًا في كتاب واحد، فابن عباس، وهو أعلم قريش بقريش، يقول عن يزيد إنه من صالحي أهله، والذي يروى خبر استهتاره بالغناء والخمر والقرود، يختم كلامه بأنه "كان مع هذا صحيح العقدة فيما يرى" أي صحيح الاعتقاد والإيمان، وأنه كان "ماضي العزيمة لا يهم بشيء إلا رَكِبه" فأين هذا من الذي استباح لنفسه أن يجعله بالغًا حد التفاهة والنزق والطيش، ومن الذي جعله "لا يصلح أن يلى أمر مدرسة ابتدائية"؟ وأين هذان من سعيد بن المسيب، الذي عده هو وأباه من خطباء قريش؟ أفيكون الفتى التافه الخليع

الطياش، خطيبًا معدودًا في خطباء العرب، إلا إذا كان سعيد يعد من الخطباء أولئك المتشدقين الثرثارين كخطباء عصرنا هذا! ثم يكون ماذا إذا وجدنا منا يروى كلام من يصف يزيد بما زعموه من شرب الخمر واللعب بالقرود، ثم يعقب فيروى أن أهل المدينة لما رجعوا من عند يزيد: "مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية (وهو محمد بن على ابن أبي طالب -رضي الله عنهما-)، فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشربُ الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدّى حكم الكتاب. فقال: ما رأيتُ منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحرِّيًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فيما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحقُّ وإن لم نكن رأيناه! فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف: 86]، ولست من أمركم في شيء. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتالَ على ما تريدوننى عليه تابعًا ولا متبوعًا. قالوا: فقد قاتلتَ مع أبيك؟ قال جيئونى بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه. فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا. قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقامًا تحضُّ الناسَ فيه على القتال. قال: سبحان الله! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه! إذنْ ما نصحتُ لله في عباده. قالوا: إذن نُكرهك! قال: إذنْ آمُر الناسَ بتقوى الله ولا يُرضون المخلوق بسُخْط الخالق. وخرج إلى مكة". فهذه شهادة رجُل قاتل معاوية نفسه، وخليق أن يُعدّ عدوًّا له ولملكه فيما يزعمون. فما الذي جعل هؤلاء يرجحون هذه الروايات عن فسق يزيد وفجوره، على صلاح أمره وتستُّره؟ لا أدري! فهذه الأخبارُ كلها موجودة مذكورة مروية في كتب التاريخ، فبأي حجة

يحتجُّ الآخذ فيما أخذ، والتارك فيما ترك؟ لست أدري أيضًا. فإما أن يفعل هؤلاء المتدسّسون إلى التاريخ ما فعل أوائلهم من جمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، ثم يكفوا ألسنتهم عن المعابة والإقذاع وسوء الأدب، وإما أن يأتوا الناس بحجة أو بيان يُرجّح أقوالهم فيما قالوا وما اختاروا من الروايات. وإلّا فإنَّ الله ربهم آخذهم فمحاسِبهم فمعطيهم نَصيبهم من العذاب الذي أنذر به من آذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا. وأنا أكتب هذا لقوم وصفتهم بأنهم يلبسون للناس ثياب الغيرة على الدين، والحمية لماضي سلفهم. ولو كنتُ أعلم أنى أكتب للزنادقة أو للمتبرئين من دين ربهم، لكان لما أكتب شأن آخر، وطريق غير هذا الطريق. ومع ذلك، فإني سوف أرتكبُ لهم فيما بعد طريقًا أنفي به الدَّخل والفساد والتزوير في تاريخ سلفي -رضي الله عنهم- وغفر لهم ما قدموا من سيئ وأثابهم بما فعلوا من صالح. ولستُ أكتب هذا دفاعًا عن يزيد، فإن يزيد نفسه دافع يومًا ما عن نفسه فيما ترويه كتب التاريخ التي ينقلون عنها، أو قُلْ يدلسون بالنقل عنها، إذ سمع قالة الخارجين عليه والكارهين لخلافته أو ولايته إذ قالوا: "إنه رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعبُ بالكلاب، ويُسامر الخرَّاب والفتيان". وبلغه أن المنذر بن الزبير، انطلق من عنده بعد أن أكرمه وأحسن إليه، فانحاز إليهم، فقال بمثل قولهم فأكثر وقال: "إنه يشربُ الخمرَ ويسكرُ، حتى يدع الصلاة". فقال يزيد: "اللهمَّ إني آثرته وأكرمته ففعل ما قد رأيتَ، فاذكرهُ بالكذبِ والقطيعة". لم يملك يَزيدُ إلّا أن يلجأ إلى ربه ليذكر هؤلاء بالكذب وقطيعة الأرحام. وماذا ينفع الدفاعُ عن النفس مع منْ لا يتورّعُ من كذب، ولا يتجافى عن قذفِ الناس بما يعلم أنه ليس فيهم؟ وأقول مرة أخرى أن ليس همى أن أدفع عن يزيد، ولا أن أصحح كتابة التاريخ. ولكني أكشف عن أصحابِ الأهواء الذين يتغلغلون بين الناس، وينفثونَ فيهم داءَ الهوى والعصبية، حتى يقعوا في أعراض عبادِ الله بالمذمّة والإقذاع وبسطة اللسان، فاتبعوا بذلك طريق الرافضة أهل الغلوّ والعداوة لأصحاب محمد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلو شاء هذا الكاتب أن يحقق معنى العدل والدينِ فيما يكتبُ، لوجد الطريق واضحًا لا يضطرب عليه، ولكنه ركب أهواء الرافضة حيث رَكِبوا، فأخذ ما حمله له الهَوى من الطعن في يزيد ليطعن أباه - رضي الله عنه - وغفر له، وهو يعلم أنه أحدُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. نعم ليس من أدب أهل المروءة، ولا أقول الدين أن يؤخذ الوالد بجريرة ولده، إلا ببينة لا تردُّ، ولكنه فعل. لا بل فعل أيضًا ما هو أكبر من ذلك في سبيل الطعن على رجل كان ينبغي أن يمسك لسانه عنه في الخطأ الظاهر، لأنه أحد أصحاب رسول رب العالمين، فإن لم يستطع أن يمسك لسانه فليطلقه بالاستغفار لهُ كما أمره ربه أن يستغفر لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. نعم ليس من أمانة التاريخ في شيء، بل ليس من أمانة العقل في شيء، بل ليس من أمانة الإنسان مجردًا من كل دين يتبعُه، أن يرفُضَ الروايات الصحيحة والأخبار المحكمة، لخبر مجهول لم يوجد إلا في كتاب طعَّان معروف بثلب عدوٍّ له، ويرفضها كلها لقاعدة أقامَ عليها رفضه، هي أن هذه الروايات الصحيحة والأخبار المحكمة إنما أشيعت بعد الظفر بالملك، أشاعها الأنصارُ والأتباع، كما يفعل سائر الدعاة. ثم لا يتوقى أن يكون الطعن والسلب من العدو، هو أيضًا من إشاعة الأعداء والمفترين، كما يفعلُ سائر الدعاة حين يريدون التشنيع على أعدائهم والوقيعة فيهم، وصرْف الناس عنهم، وهاك المثل. يقول هذا الكاتب: "بَقى ما اشتهر خطأ من أن معاوية كان كاتب الوَحْى لرسول الله. فالصحيح أنّ أبا سفيان حين أسلم، رجَا النبيّ (- صلى الله عليه وسلم -) في أن يسند إلى معاوية شيئًا يعتزُّ به أمام العرب، ويعوّض عن سُبّة التأخر في الإسلام، وأنه من الطلقاء الذين لا سابقة لهم في الإسلام، فاستخدمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الرسائل والحوائج والصدقات. ولم يقل أحدٌ من الثقات: إنهّ كتب للنبى شيئًا من الوحي، كما أشاعَ أنصارُه بعد استقرار الملك، كما يصنَعُ سائر الدعاة! ". سبحان الله! "لم يَقُل أحدٌ من الثِّقات"؟ فأين الثقات الذين قالوا إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - استخدمه "في الرسائل والحوائج والصَّدَقات"! ! وأنا لا أتعرّضُ هُنَا لفسادِ معنى هذا الكَلامِ من حيث هو كلامٌ عربيٍّ له دلالة على معانيه، بالألفاظ التي ذكرها هذا الكاتب، بل

أكشفُ له ولغيره من أين أخذَ كلامَه؟ ومن هو هذا "الثّقات" الذي يروى عَنْه؟ فهذا "الثقات" رجلٌ من الرافضة كان في زمن ابن تيمية. ألف كتابًا سمّاه "منهاج الكرامة"، فانبرى له ابن تيمية يردّ عليه في كتابٍ سماه "منهاج السنة" فكان ممّا نقله من نصّ كلامه (2: 201) "وسمّوه (يعني معاوية) كاتب الوحي، ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، بل كان يكتب له رسائل (وزاد كاتبنا هذا ما لا نعرف معناه، الحوائج والصدقات! ! ). وقد كان بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أربعة عشر نفسًا يكتبون الوحي، أولهم وأخَصُّهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، مع أن معاوية لم يزلْ مشركًا بالله تعالى في مدة كون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مبعوثًا يكذّب بالوحي ويهزأ بالشرع". ولستُ أدري لم ترك هذا الكاتبُ سائرَ ما ذكره الرافضيّ، فيزعم أيضًا أنّ معاوية ظل مشركًا لم يؤمِنْ مدّة بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كلا كلا فلعلّه استغنى عَنْه بأن جَعَله بطريق آخر "بريئًا من الإسلام والإسلامُ برئ منه"! وقد ردّ ابن تيمية في ص 214 بقوله: "هذا قول بلا حجة ولا علم، فما الدليل على أنه لم يكتب له ولا كلمة واحدة من الوحي، وإنما كان يكتب له رسائل". وأزيد أنا فأقول: أوَ من الهين عند هذا الكاتب وأشباهه أن يكتب امرؤ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسائله؟ ! أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملى رسائل لشغل فراغه، وقضاء حوائجه، ومجاذبة أصدقائه، والتلهي بإملاء صغائر الأمور التي يتعايش بها الناس في شئون دنياهم! ! عجيب! ولكن لا عجب في زماننا، ومن أين يأتي العجب، بل كيف يطيق إنسان أن يعجب بعد أن تبلد حسه بالعجائب تترى لا تنقطع، حتى صار المعروف منكرًا والمنكر معروفا! وأنا لن أدلّ الكاتب على حيث قيل إن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولكني أحب أن يأتي هو الناس "بثقات" آخر ينفي أن يكون معاوية كتب الوحي لرسول الله، وأنه إنما كان يكتب له في الرسائل. . . والحوائج والصدقات أيضا! وإذا كان قد استطاع بالأمانة والذمة أن يزيف قول من قال إنه كان يكتب الوحي لرسول الله، بأن ذلك من قول أنصار معاوية أشاعوه وأذاعوا به، أفلا

جرأة العلماء. . .

يستطع أن يزيف ولو مرة واحدة كل ما رواه في كتابه عن معاوية وعن أبيه، وعن أمه، وعن يزيد وعن بني أمية، وعن عمرو بن العاص، بأنه مما أشاعه وأذاع به أعداؤهم وأعداء بني أمية؟ أو ليس صريح العقل يقتضي أن يكون المهزوم المقهور، أحرص على ذكر مثالب عدوه ومعايبه، من الغالب المنصور على ذكر مناقبه وفضائله! ألا إن هذا الكاتب وأشباهه من أصحاب الألسنة الجريئة على الحق، يرتكب كل صعب وذلول في سبيل تحقيق معان تدور في نفوسهم، لا يجدون لها متنفسًا إلا في الهالكين الذين لا يدفعون عن أنفسهم، وهم لا يبالون في سبيل ذلك بتحقيق ولا علم، ولا بتمييز صحيح من سقيم، ولا يتخطفون من الكلام إلا ما قارب ما يريدون في أنفسهم أن يقولوه، ولا يعرفون للحجة حرمة، ولا للبرهان كرامة. وهم يتناولون ما يعرضون له من تاريخ أسلافهم، بل من أمر صحابة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بنفس الأسلوب الذي انحدر علينا من حضارة هذا القرن، في أدب منازعات الصحف والأحزاب. أسلوب يراد به تحقيق معاني العداوة وتقريرها في النفوس، لا أسلوب تحقيق مواطن الخلاف والكشف عنها بالبيان والبرهان. وهم يريدون أن يجعلوا هذا الأسلوب علمًا وتاريخًا. بل يريدون أيضا أن يجعلوه دينًا يتدين به الناس ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل؟ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}. جرأة العلماء. . . دخل عمرو بن عبيد على أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وكان أعظم ملوك الدنيا في عصره فقال: يا أمير المؤمنين: إنّ الله -عز وجل- يَقفك ويُسائلك عن مثقال ذرة من الخير والشر، وإن الأمة خصماؤك يوم القيامة، وإن الله -عز وجل- لا يرضى منك إلا بما ترضاه لنفسك؛ ألا وإنك لا ترضى لنفسك إلا بأن يُعدل عليك فإن الله -عز وجل- لا يرضى منك إلا بأن تعدل في الرعية. يا أمير المؤمنين إن وراء بابك نيرانا تتأجج من الجور، ووالله ما يحكم وراء بابك بكتاب الله، ولا بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

أحمد محمد شاكر إمام المحدثين

أنباء وآراء أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين في الساعة السادسة بعد فجر يوم السبت 26 من ذي القعدة سنة 1377 (14 من يونية سنة 1958)، فقد العالم الإسلامي إمامًا من أئمة علم الحديث في هذا القرن، هو الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر، المحدث المشهور، وهو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوى في زماننا، دراسة وافيه، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى. وكان له اجتهادٌ عُرف به في جرح الرجال وتعديلهم، أفضى به إلى مخالفة القدماء والمُحْدثين، ونصر رأيه بالأدلة البيِّنة، فصار له مذهب معروف بين المشتغلين بهذا العلم، على قلتهم. وقد تولى القضاء في مصر أكثر من ثلاثين سنة، فكانت له أحكام مشهورة في القضاء الشرعيّ، قضى فيها باجتهاده غير مقلد ولا متبع، وكان اجتهاده في الأحكام مبنيًّا على سعة معرفته بالسنة النبوية، التي اشتغل بدراستها منذ نشأته إلى أن لقى ربه. وهو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر من آل أبي علياء، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبوه الإمام العلامة الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقًا، وجدُّه لأمّه هو العالم الجليل الشيخ هارون عبد الرازق، وأبوه وأمه جميعًا من مديرية جرجا بصعيد مصر. وولد الشيخ أحمد، -رحمه الله-، بعد فجر يوم الجمعة 29 من جمادى الآخرة سنة 1309، الموافق 2 من يناير سنة 1892، بمنزل والده بدرب الإنسية، بقسم الدرب الأحمر، بالقاهرة. وسمَّاه أبوه: "أحمد شمس الأئمة، ¬

_ (*) مجلة المجلة العدد 19، يوليه سنة 1958، ص 119 - 122

أبو الأشبال"، وكان أبوه يومئذ أمينًا للفتوى مع أستاذه الشيخ العباسيّ المهديّ، مفتى الديار المصرية. فلما صدر الأمر بإسناد منصب قاضى قضاة السودان، إلى والده الشيخ محمد شاكر، في 10 من ذي القعدة سنة 1317 (11 من مارس سنة 1900)، عقب خمود الثورة المهدية، رحل بولده إلى السودان، فألحق ولده "أحمد" بكلية غوردون، فبقى تلميذًا بها حتَّى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية في 26 من أبريل سنة 1904، فألحق ولده من يومئذ بمعهد الإسكندرية الَّذي يتولاه. وكان السيد أحمد منذ عقل وطلب العلم، محبًّا للأدب والشعر، كدأب الشباب في صدر أيامه، فاجتمع في الإسكندرية وأديب من أدباء زمانه في هذا الثغر، هو الشيخ عبد السلام الفقى، من أسرة الفقى المشهورة بالمنوفية، فحرَّضه على طلب الأدب، وحرَّض معه أخاه عليًّا، وهو أصغر منه، وصار يقرأ لهما أصول كتب الأدب في المنزل زمنًا طويلًا. ثم أراد الشيخ عبد السلام أن يختبر تلميذيه، فكلفهما إنشاء قصيدة من الشعر، فعمل علي، أطال الله بقاءه، أبياتًا، أما أحمد فلم يستطع أن يصنع غير شطر واحد ثم عجز؛ فمن يومئذ انصرف أخوه عليّ إلى الأدب، وانصرف هو إلى دراسة علم الحديث بهمة لا تعرف الكلل منذ سنة 1909 إلى يوم وفاته. ولكنه لم ينقطع قط عن قراءة الآداب: حديثها وقديمها، مؤلفها ومترجمها، كما سيظهر بعد من الكتب التي تولى نشرها في حياته -رحمه الله-. وكان أول شيوخه في معهد الإسكندرية الشيخ "محمود أبو دقيقة"، وهو أحد العلماء الذين تركوا في حياة الفقيد أثرًا لا يمحى؛ فهو الَّذي حبب إليه الفقه وأصوله، ودربه وخرجه في الفقه حتَّى تمكن منه. ولم يقتصر فضل هذا الشيخ على تعليمه الفقه، بل علمه أيضًا الفروسية وركوب الخيل، والرماية والسباحة، فتعلق السيد أحمد بركوب الخيل والرماية، ولم يتعلق بالسباحة تعلقًا يذكر. أما أعظم شيوخه أثرًا في حياته، فهو والده الشيخ محمد شاكر؛ فقد قرأ له

ولإخوانه التفسير مرتين، مرة في تفسير البغوي، وأخرى في تفسير النسفي. وقرأ لهم صحيح مسلم، وسنن الترمذي والشمائل، وبعض صحيح البخاري. وقرأ لهم في الأصول: جمع الجوامع، وشرح الإسنوى على المنهاج، وقرأ لهم في المنطق: شرح الخبيصى، وشرح القطب على الشمسية، وقرأ لهم في البيان الرسالة البيانية، وقرأ لهم في فقه الحنفية كتاب الهداية على طريقة السلف في استقلال الرأي وحرية الفكر، ونبذ العصبية لمذهب معين. وكثيرًا ما خالف والدُه في هذه الدروس مذهبَ الحنفية عند استعراض الآراء وتحكيم الحجة والبرهان، ورجح ما نصره الدليل الصحيح. وهكذا قال السيد أحمد في ترجمة والده. وقد ظهر أثر والده هذا ظهورًا بينًا في دراسة الشيخ أحمد للحديث، وفي أحكامه التي قضى بها في مدة توليه القضاء بمصر. وكان لوالده أعظم الأثر في توجيهه إلى دراسة علم الحديث منذ سنة 1909، فلما كانت سنة 1911 اهتم، السيد أحمد، بقراءة مسند أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله-، وظل منذ ذلك اليوم مشغولا بدراسته حتَّى ابتدأ في طبع شرحه على المسند سنة 1365 من الهجرة (سنة 1946 من الميلاد)، كما بيَّن ذلك مختصرًا في مقدمة المسند. ولما انتقل والده من الإسكندرية إلى القاهرة وكيلا لمشيخة الجامع الأزهر في ربيع الآخر سنة 1327 (29 من أبريل سنة 1909)، التحق السيد أحمد، هو وأخوه السيد على بالأزهر، فكانت إقامته في القاهرة بدء عهد جديد في حياته، فاتصل بعلمائها ورجالها، وعرف الطريق إلى دور كتبها في مساجدها وغير مساجدها، وتنقل بين دكاكين الكتبية. وكانت القاهرة يومئذ مسترادًا لعلماء البلاد الإسلامية، وكان من التوفيق أن حضر إلى القاهرة من المغرب الأقصى السيد عبد الله بن إدريس السنوسى، عالم المغرب ومحدثها، فتلقى عنه طائفة كبيرة من صحيح البخاري، فأجازه هو وأخاه برواية البخاري، ورواية باقي الكتب الستة. ولقى بها أيضًا الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي، فأخذ عنه كتاب بلوغ المرام، وأجازه به وبالكتب الستة، ولقى أيضًا الشيخ أحمد بن الشمس

الشنقيطى، عالم القبائل الملثمة، فأجازه هو وأخاه بجميع علمه. وتلقى أيضًا عن الشيخ شاكر العراقى، وكان أسلوبه في التحديث أن يسأله أحد طلَّابه عن مسألة، فيروى عندئذ كل ما ورد فيها من الأحاديث في جميع كتب السنَّة بإسنادها، مع بيان اختلاف روايتها. فأجازه وأجاز أخاه علما بجميع كتب السنة. ولقى أيضًا في القاهرة من علماء السنة الشيخ "طاهر" الجزائرى عالم سورية المنتقل، والسيد "محمد رشيد رضا"، صاحب المنار، ولقى كثيرًا غير هؤلاء من علماء السنة، يطول ذكرهم بالتفصيل. وهذا اللقاء المتتابع للعلماء، هو الَّذي مهد لهذا العالم أن يستقلّ بمذهب في علم الحديث، حتَّى استطاع أخيرًا أن يقف في منتصف هذا القرن علمًا مشهورًا لا ينازعه في إمامة التحديث إلّا قليل. * * * ولما حاز شهادة العالمية من الأزهر في سنة 1917، عُين مدرسًا بمدرسة ماهر، ولكن لم يبق بها غير أربعة أشهر، ثم عين موظفًا قضائيًّا ثم قاضيًا، وظلّ في القضاء حتى أحيل إلى المعاش في سنة 1951 عضوًا بالمحكمة العليا، ولكنه لم ينقطع في خلال ذلك عن دراساته، وعن المشاركة في نشر التراث الإسلامي، في الحديث والفقه والأدب. وأول كتاب عرف به الشيخ أحمد محمد شاكر، وعرف به إتقانه وتفوقه، هو نشره رسالة الإمام الشافعي، عن أصل تلميذه الربيع بن سليمان، الَّذي كتبه بخطه في حياة الشافعي من إملائه. ونشره رسالة الشافعي يُعَدُّ من أعظم الآثار التي تولى العلماء نشرها في هذا العصر. ثم شرح سنن الترمذي شرحًا دقيقًا، ولكنه لم يتمَّه، وشارك في نشر شرح "سنن أبي داود"، ونشر كتاب جماع العلم للشافعي، وشارك أيضًا في نشر المحلى لابن حزم، وشرح صحيح ابن حبان، ولم ينشر منه غير الجزء الأول. * * * أما عمله الَّذي استولى به على الغايات فهو شرحه على مسند أحمد بن

حنبل، أصدر منه خمسة عشر جزءًا فيها من البحث والفقه والمعرفة ما لم يلحقه فيه أحد في زمانه هذا. ونشر من كتب الأدب والشعر، كتاب لباب الآداب لأسامة بن منقذ، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والمفضَّليات للمفضل الضبيّ، والأصمعيات للأصمعى، وشاركه في نشرهما ابن خاله الأستاذ عبد السلام محمد هارون، ونشر كتاب المعرَّب للجواليقى نشرًا علميًا دقيقًا. وشارك أخاه الأستاذ "محمود محمد شاكر" في نشر تفسير الطّبريّ، فتولى جزءًا من تخريج أحاديثه إلى الجزء التاسع، وعلق على بعضها إلى الجزء الثالث عشر، ثم وافته منيَّته، ولم ينظر بعد في أحاديث الجزء الرابع عشر. * * * وكان قبل وفاته، -رحمه الله-، قد شرع في اختصار تفسير القرآن لابن كثير، وسمَّاه "عمدة التفسير"، وصل فيه إلى الجزء الخامس من عشرة أجزاء. وقد قصد فيه الإبانة عن معاني القرآن، بما يوافق حاجة المتوسطين من المثقفين، مع المحافظة على ألفاظ المؤلف ما استطاع. أما سائر الكتب التي تولى نشرها فهي كثيرة يطول ذكرها. وله في جميع ما نشره وألَّفه تعليقات دافع فيها عن أحكام الإسلام وآدابه دفاعًا تفرَّد به، ونطق فيه بالحق الَّذي يراه، غير متهيب ولا متلجلج. وأما أهم ما ألفه فهو كتاب نظام الطلاق في الإسلام دلّ فيه على اجتهاده وعدم تعصبه لمذهب من المذاهب، واستخرج فيه نظام الطلاق من نصّ القرآن، ومن بيان السنَّة في الطلاق، وكان لظهور هذا الكتاب ضجة عظيمة بين العلماء ولكنه دافع فيها عن اجتهاده دفاعًا مؤيدًا بالحجة والبرهان، ومن قرأ الكتاب عرف كيف يكون الاحتجاج في الشريعة، وظهر له فضلُ هذا الرجل وقدرته على ضبط الأصول الصحيحة، وضبط الاستنباط فيها ضبطًا لا يختل. فرحم الله فقيدنا، وبعث في هذه الأمة من يخلفه للنهوض بما ابتدأه.

قرى عربية

" قُرَىَ عَرَبِيَّةَ" كلمة تقديم لعلامة الجزيرة المرحوم الشيخ حمد الجاسر [بلية البلايا في تراثنا القديم، التصحيف، وخاصة في أسماء المواضع، حيث لا توجد قرينة في الكلام توضح الوجه الصحيح، ولا أستثنى من ذلك سوى ما استثناه الله جل وعلا وهو القرآن الكريم، حيث قال جل ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فحفظه الله من كل ما قد يؤثر في بقائه على أصله الصحيح، الَّذي أنزله عليه. أما ما عداه -مما لا يتصل بأصول الدين الحنيف- فحسب الباحث أن يرجع إلى أي كتاب من الكتب القديمة، ليرى العجب العجاب من بلايا التصحيف في أسماء المواضع، ففي "صحيح البخاري" -وهو أصح كتاب بعد كتاب الله، أشياء من ذلك يجدها الباحث في اختلاف رواة ذلك الكتاب العظيم في اسم "العشيرة" الموضع الَّذي غزاه المصطفى، عليه الصلاة والسلام، وفي غيره من المواضع، وفي كتب سيرته - صلى الله عليه وسلم - لابن إسحاق، بتهذيب ابن هشام، و"طبقات ابن سعد" وغيرهما من المؤلفات، مما نكتفي بالإشارة إليه، إذ لا يتسع المجال للحديث عنه. وحسب القارئ أن يطلع على بحث أستاذنا العلامة الجليل أبي فهر، محمود بن محمد بن شاكر، هذا البحث الَّذي نقلل من قيمته حينما نقدمه للقارئ- حسبه أن يطلع على هذا البحث الممتع حقًّا، ليدرك كيف يسير بعض علمائنا -قدس الله أرواحهم- في بيداء من الأوهام والحيرة، من جراء ذلك الداء الوبيل، داء التصحيف والتحريف! وهم -أعلى الله ذكرهم في منازل الأبرار من عباده- لا يضيرهم أن يوصفوا بعدم الإحاطة، ولا يضرهم أن لا يوصفوا بأكثر مما يتصفون به من علم غزير، وخلق سام كريم، يتلاءم مع ما وهبهم الله، وما وصفهم به، لأنهم أرفع قدرًا، وأعلى مكانة من أن ¬

_ (*) مجلة العرب، الجزء التاسع - السنة الثانية، ربيع الأول 1388 هـ، 1968 م. ص 769 - 797

تبلغ بهم مطامح النفس، ومطامع الترفع إلى بلوغ منازل أخرى، لا ينقص من أقدارهم عدم بلوغها، ولا يسمو بغيرهم أن ينالوها، سموًا لا يبلغ درجة التفاضل، ومعاذ الله أن يوجد بين أمة تدين بهذا الدين الكريم، ممن يؤمن حق الإيمان بما قاله نبينا، عليه أزكى الصلاة والتسليم، ومن ذا الَّذي لا يؤمن بقوله، وهو الصادق الأمين: "خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وإنما الفهم موهبة إلهية، حباها الله أناسًا قد تبلغ منزلتهم منها من السمو والرفعة أعلاها؛ وإن لم يبلغوا في الفضل منزلة من فضلهم الله، لسابقتهم في الإسلام. وبمنزلتهم منه، قال جل ذكره: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}. وقديمًا قالوا: كم ترك الأول للآخر! ] (¬1) حمد الجاسر قرى عربية 1 - " قُرَى عَرَبيةَ"، اسم موضع في بلاد العرب، يأتي في بعض الكتب المطبوعة والمخطوطة مصحفًا. فهو في أكثر المواضع "قُرَى عُرَنية"، وفي مكان آخر "قُرَى عُيَيْنَة"، ومن قديم الاختلاف في ضبطه أيضًا "قُرى عَرَبِيَّة" بالتنوين، أو "قُرى عَرَبِيَّة" بالإضافة وترك التنوين، أما الإشكال الأكبر فهو في تحديد مكان "قُرَى عرَبِيَّةَ" وعلى أي شيء يدلّ اسم هذا المكان؟ * * * 2 - فأبو عبيدٍ البكريُّ في "معجم ما استعجم" (931 - 932)، لم يزد بيانُه على أنَّه قُرًى بالحجاز معروفة، ثم استدلّ ببعض الأخبار والآثار التي ستأتي (رقم: 10، 15، 23). ¬

_ (¬1) أقول: هذا عجز بيت لأبى تمام وصدره: * يقول مَن تَقْرَعُ أَسْماعَهُ *

3 - وأما ياقوت فلم يذكر لها مادة في معجم البلدان، ولكنه ذكر مادة "عُرَيْنَة" وقال: "بلفظ تصغير عُرنَة"، ثم قال: "وعرينة، موضع ببلاد فَزَارة. وقيل: قُرًى بالمدينة. و"عُرَيْنة" قبيلة من العرب". ولكن نقل بعد ذلك نصًا سيأتي (رقم: 20) وذكر فيه "قُرى عربيَّةَ" وأنه مضبوطٌ بخط العبدريّ في فتوح الشام، بفتح العين والراء، والباء الموحدة، وياء مشددة "قُرَى عَربيَّةَ" ولم يزد على ذلك شيئًا. * * * 4 - أما السمهوديّ، فقد جاء بالطامّة في كتابه "وفاء الوفا"، ففي الفصل الثامن من الباب السابع من كتابه، حيث ذكر بقاعَ المدينة وأعراضها مرتبة على حروف المعجم، ما نصه: "عُرَينة، كجهينة، قرى بنواحي المدينة في طريق الشأم". - وعن مُعاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قُرَى عُرَينة، فأمرنى أن آخذ حَظَّ الأرض (انظر ما سيأتي رقم: 5 و 6). - وقال الزهري، قال عمر: "ما أفاء الله على رسوله" هذه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة قُرى عُرينَة، وفَدَك وكذا وكذا (انظر ما سيأتي رقم: 7 - 10). - ووُجِدَ على حجر بالحِمَى كما سبق (¬1): "أنا عبد الله الأسود، رسولُ عيسى ابن مريم الى أهل قُرى عُرينة". وسيأتي ما يدلّ على تصحيفه في الخبرين الأولين. أما الخبر الثالث الَّذي أشار اليه فهو في كتابه في الفصل الأول من الباب الثالث، وسأذكر مكانا آخر وقع في كتابه ذكر "قُرى عُرَينة" (رقم: 43). * * * ولكى أصل الى الفصل في أمر "قُرى عربية" أسوق الأخبار التي وقفت عليها فيما بين يديّ من الكتب. 5 - روى يحيى بن آدم في كتاب الخراج ص: 619 - 622: - (619) قال يحيى، قلت لشريك: ذكرت عن جابر عن محمد بن زيد، ¬

_ (¬1) لم يسبق ذكر ذلك.

عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُرَى عَرَبِيَّة أقاسمهم حظّ الأرض. قال: قد ذُكر ذلك. - (620) حدثنا يحيى قال، حدثنا أبو حماد الحنفي، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن محمد بن زيد، عن معاذ بن جبل قال: بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُرَى عَرَبِيَّة، وأمرني أن آخذ حظَّ الأرض. - (621) حدثنا الأشجعى، عن سفيان بن سعيد، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن محمد بن زيد، عن مُعاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قرَى عَرَبيَّة، وأمرنى أن آخذ حظَّ الأرض، قال الأشجعى: قال سفيان: الثُّلث والرُّبُع. - (622) حدثني ابن مبارك، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله "قُرًى ظاهِرَة" (سورة سبأ: 118) قال: قُرَى عَرَبيَّةَ -قال يحيى: وأما "قُرَى عربيَّةَ" فإنه يعني أرضًا بعينها يقال لها "قُرى عَربِيَّةَ" (انظر ما سيأتي رقم: 13). * * * 6 - وروى أحمد في مسند معاذ بن جبل من المسند (5: 228/ ثم 5: 244) قال: - حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن محمد بن زيد، عن معاذ قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قُرَى عَربيَّةَ، فأمرنى أن آخذ حظَّ الأرض -وقال عبد الرزاق: يعني: عن سفيان، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن محمد بن زيد، في حديث معاذ (ص: 228). - حدثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن محمد بن زيد، عن معاذ قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُرى عَرَبِيَّة فأمرني أن آخذ حَظَّ الأرض -قال سفيان: حَظُّ الأرض الثُّلث والربع (ص: 244). * * * 7 - وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: 9 "وأما فَدك فان إسماعيل بن إبراهيم حدثنا، عن أيوب، عن الزُّهري في قوله: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ

عَلِيْه مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [سورة الحشر: 6] فقال: هذه لرسول الله خاصة، قرى عربية، فدك وكذا وكذا. قال أبو عبيد: وهي في العربية "قرَى عربيةً" بتنوين، إلا أن يكون كما قالوا "دارُ الآخرة" و"صلاة الأولى"، والمحدِّثون يقولون: "قرى عربية" بغير تنوين (انظر ما سيأتي رقم: 23، 24). * * * 8 - وروى البلاذرى في فتوح البلدان: 39 - حدثنا سريج بن يونس قال، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن الزهري في قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلِيْه مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [سورة الحشر: 6]، فقال: هذه قرى عربية، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدَك وكذا وكذا. * * * 9 - وقال ابن أبي حاتم في آداب الشافعي: 146 - قال الزهري، قال عمر، قال الله -عز وجل-: {وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلِيْه مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [سورة الحشر: 6]، فهذه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصّة، قرى عربية، وفدك وكذا وكذا. (سنن أبي داود، في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 3: 195 رقم: 2966، ومعالم السنن للخطابي 3: 17، ومختصر السنن لابن القيم 4: 214، وسنن النسائي الخبر بطوله 7: 136، 137). * * * 10 - ونقل البكرى في معجم ما استعجم: 929 - من حديث الزهري قال، قال عمر في قول الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلِيْه مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [سورة الحشر: 6]، قال هذه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة قرى عربية، وفدك وكذا وكذا -وهي قرى بالحجاز معروفة.

11 - وروى الطبريّ في تفسيره (28: 24 بولاق): - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمى قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الحشر: 6]. قال: أمر الله -عزّ وجل- نبيَّه بالسَّير إلى قُريظةَ والنضير، وليس للمسلمين يومئذ كثيرُ خيلٍ ولا ركاب، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكم فيه ما أراد، ولم يكن يومئذ خيلٌ ولا ركاب يوجَف بها: قال: "والإيجاف" أن يوضعوا السير -وهي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان من ذلك خيبر، وفدك، وقُرَى عربيَّةَ، وأمر الله رسوله أن يُعِدَّ لينبع. - وخرَّجه السيوطي في الدر المنثور: 6: 192، بمثله من طريق ابن مردويه عن ابن عباس، ولم ينسبه للطبريّ. * * * 12 - ووجدت في مختصر المزنيّ بهامش الأم للشافعي (3: 180): - "والفيء هو ما لم يُوجَف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "قُرى عربية" أفاءها الله عليه، أربعة أخماسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون المسلمين. - وفيه أيضًا (3: 183): - وفُتح في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوحٌ من قُرَى عربيّةَ وعدها الله رسوله قبل فتحها. . .". إلا أن رسم الكلمة في كتاب "الأم" من هذه الطبعة، في باب "جماع سنن قسم الغنيمة والفيء"، هو: - "قُرى عُرَينة"، وذكر الشافعيّ أنها هي التي أفاء الله على رسوله، وأنها خاصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون المسلمين (الأم 4: 64). - ثم جاء في الأم (4: 64) "وقد كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوح في غير "قُرَى عُرَينة التي وعدها الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - قبل فتحها. . . .".

- ثم قال "وقد كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيء من غير قُرى عُرينةَ، وذلك مثل جزية أهل البحرين". - وهذا الَّذي جاء في متن كتاب الأم للشافعي، يصححه ما جاء في مختصر المزني من نفس الطبعة، ويزيد تصحيفه ثبوتًا، ما ذكره ابن أبي حاتم في كتاب آداب الشافعي ومناقبه كما سلف (رقم: 9)، وكما سيأتي (رقم: 21)، وسائر الأخبار في تفسير آية "الفيء" (انظر رقم: 7 - 11). * * * 13 - وقال الطبريّ في تفسيره (22 - 58 بولاق) عند تفسير قوله تعالى: {قُرًى ظَاهِرَةَ} [سبأ: 18]: - يعني قُرى مُتَّصلة، وهي قُرى عَرَبيَّة. - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "قرى ظاهرة" يعني: قرى عربية بين المدينة والشام. - حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: {قُرًى ظَاهِرَةَ} يعني: قرى عربية، وهي بين المدينة والشام (انظر ما سلف رقم: 5، من حديث يحيى بن آدم في كتاب الخراج، في تفسير الآية عن سعيد بن جبير أيضًا). - ونقل هذا ابن كثير في تفسير هذه الآية، ثم عقب بقوله: "قرى ظاهرة" أي بينة يعرفها المسافرون، يقيلون في واحدة، ويبيتون في أخرى. * * * 14 - وروى أبو جعفر الطبري في تفسيره (6: 507، رقم: 7233، من طبعة دار المعارف). - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، حدثنا أسباط، عن السدى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة آل عمران: 72] كان أحبار

قرى عربية اثنى عشر حبرًا، فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمدًا حق صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا .. - وخرجه السيوطي في الدر المنثور (2: 42) من طريق ابن جرير، وابن أبي حاتم، وفيه "قرى عربية": أيضًا. - إلا أن البغوي نقل في تفسيره بهامش ابن كثير (2: 165): - "قال الحسن، وقتادة، والسُّدى: "تواطأ اثنا عشر حبرًا من يهود خيبر وقرى عيينة. - وهذا تصحيف غريب جدا، ولكنه غير مستنكر على مطبوعة المنار من هذين التفسيرين، ولم يأت ذلك في كتاب آخر وقفت عليه. بيد أن ما أتى به البغوي، ساق إلينا فائدة جليلة، بزيادته ذكر "خيبر" في هذا الأثر. * * * 15 - وفي التاريخ الكبير للبخارى (2/ 1/ 237): - "قال أحمد بن سليمان، أخبرنا حسين بن إسماعيل قال، حدثني درباس وعمرو، ابنى دَجاجة، عن أبيهما: أنَّه خرج فإذا عثمان، فقال عثمان: لا يسكن قرى عربية دينان". - رواه ابن أبي حاتم مختصرًا في الجرح والتعديل 1/ 2/ 441، ونقله البكرى في معجم ما استعجم: 930. * * * 16 - وفي المحبَّر لابن حبيب: 115: - "ثم سنة سبع، فيها خرج - صلى الله عليه وسلم - في المحرم إلى خيبر، فحاصرهم بضعة عشر يومًا، وارتحل منها إلى قرى عربية، فلم يلق كيدًا". * * * 17 - وفي المحبر أيضًا: 126:

- "أنَّه - صلى الله عليه وسلم - ولَّى الحكم بن سعيد بن العاص على قرى عربية" (انظر رقم: 48). * * * 18 - وفي جوامع السير لابن حزم: 24 (والتعليق عليه ص: 458) - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولَّى الحكمَ بن سعيد بن العاص بن أمية على قرى عُرينة، وهي فدكُ، وغيرها. (انظر رقم: 48). - وهذا تصحيف، يدلُّ عليه ما بعده وما قبله، وسائر الأخبار في أمر فدك. * * * 19 - وذكر ابن حزم في جمهرة أنساب العرب: 73، الحكم بن سعيد قال: (ولَّاه عليه السلام قُرى عَرَبية) (انظر رقم: 48). * * * 20 - وقال ياقوت في معجم البلدان، مادة (عرينة). - (وقرأت بخط العبدريّ في فتوح الشام لأبى حذيفة بن معاذ بن جبل (الصواب: عن معاذ) قال في كلام له طويل: (واجتمع رأي الملأ الأكابر منّا أن يأكلوا قرى عربية ويعبدوا الله حتَّى يأتيهم اليقين). - وقال في موضع آخر، في بعثة أبي بكر عمرو بن العاص إلى الشأم ممدًّا لأبى عبيدة: وجعل عمرو بن العاص يستنفر من مرّ به من البوادي وقرى عربية. - قال ياقوت: ضبط في الموضعين بفتح العين والراء، والباء الموحدة وياء مشددة). * * * 21 - وقال ابن أبي حاتم في كتاب آداب الشافعي ومناقبه: (145) - عن الربيع بن سليمان قال، قال الشافعي، وذكر (القرى العربية فقال: كانت اليهود في قرى العرب، والعرب حولهم، وهي فدك وخيبر وهي قرى اليهود بنوها في بلاد العرب، وهي أشراف (¬1) بلاد العرب، لأن العرب بعيدة المطلب. ¬

_ (¬1) يأتي تفسير "أشراف بلاد العرب" في رقم: 41.

- قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: يعني القرى التي أفاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا خيل ولا ركاب (انظر ما سلف: 7 - 12). 22 - ونقل البكرى في معجم ما استعجم: 15، عن يعقوب بن السكيت، عن الأصمعى: - وقرى عربية، كل قرية في أرض العرب، نحو خيبر، وفدك، والسوارقية (¬1)، وما أشبه ذلك .. * * * 23 - وقال الزبيديّ في طبقات النحويين واللغويين: 149، في ترجمة قتيبة النحويّ: - (وحدثنا محمد بن موسى بن حماد قال، حدثني سليمان بن أبي شيخ الخزاعي قال، حدثنا أبو سفيان الحميريّ قال: قال أبو عبد الله كاتب المهدي (صوابه: أبو عبيد الله): (قرَى عربية) فنوّن، فقال: شبيب بن شيبة، إنما هي (قُرى عربيةَ) غير منونة. فقال أبو عبد الله (أبو عبيد الله) لقتيبة النحوى الجعفي الكوفي: ما تقول؟ فقال: إن كنت أردت القرى التي بالحجاز يقال لها (قرًى عربيةَ) فإنها لا تنصرف، وإن كنت أردت قرى من قرى السواد، فهي تنصرف. فقال: إنما أردت التي بالحجاز. قال: هو كما قال شبيب). - وهذا الخبر نقله البكرى بنصه في معجم ما استعجم: 930، ونقله السيوطي مختصرًا في بغية الوعاة في ترجمة (قتيبة الجعفي) (انظر ما سلف رقم: 7). * * * 24 - وقال البكرى في "معجم ما استعجم": 929 ¬

_ (¬1) السوارقية: لا وجه لذكرها في (قرى عربية)، فهي تقع جنوب المدينة. ولا صلة لها بالقرى التي ذكرت هنا، هكذا عَلَّق الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله-. وانظر كلام الأستاذ شاكر -رحمه الله- على السوارقية في رقم 41 الآتي.

- (قرى عربية) على الإضافة لا تنصرف، منسوبة إلى العرب (انظر ما سلف رقم: 7). * * * 25 - وذكر ابن خرداذبه في "المسالك والممالك": (128، 129) أعراض المدينة، فعدَّها (وقد اختصرت كلامه)، ومثله في (الأعلاق النفيسة) لابن رسته: 177: (تيماء، وهي بين الشأم والحجاز، ودومة الجندل، وهي من المدينة على ثلاث عشرة مرحلة، والفرع، وذو المروة، ووادي القرى، ومدين، وخيبر، وفدك، وقرى عربية، والوحيدة، ونمِرة، والحديقة). * * * 26 - وفي النبذ الملحقة بالمسالك والممالك، من كتاب الخراج لقدامة (ص: 248): - وأعراض المدينة وأعمالها وعماراتها: ظبية (في الأصل طيبة) ويثرب، وتيماء، ودومة الجندل، والفرع، وذو المروة، وادي القرى، مدين، خيبر، فدك، قرى عربية، ساية، رهاط .. ) ثم انظر ما سيأتي من رقم: 48، إلى رقم: 53). * * * 27 - وبَيَّن من هذا الَّذي جمعته أن (قرى عُريْنة) لم ترد على هذا الوجه مضبوطة إلا في كتاب وفاء الوفا للسمهودى (انظر رقم: 4) واستدلّ على ذلك بخبر معاذ بن جبل (رقم: 5، 6) وخبر الزهري في الفيء (رقم: 7 - 10). والخبر الأول رواه يحيى بن آدم، من طرق، ورواه أحمد أيضًا من طريقين، وهو ثابت في المطبوع والمخطوط من أصولهما (قرى عربية (لا عرينة) وزاد يحيى بن آدم ما يؤكد ذلك، بخبره الَّذي رواه عن سعيد بن جبير (رقم: 622) في تفسير قوله تعالى: {قُرًى ظَاهِرَةً}، فجاء مطابقًا لما رواه الطبري في تفسير هذه الآية من طريقين آخرين (رقم: 13)، وهو ثابت على هذا الوجه في الطبري المطبوع والمخطوط.

- وأما الخبر الثاني من الزهري، فهو (قرى عربية) في كتاب الأموال لأبي عبيد، وفي فتوح البلدان للبلاذري، وفي آداب الشافعي لابن أبي حاتم، وفي معجم ما استعجم للبكرى، وفي تفسير الطبري، وفي الدر المنثور، وفي مختصر المزني، ويزيده ثبوتًا تعقيب أبي عبيد عليه (رقم: 7) بقوله: (هي في العربية (قرى عربية) بتنوين، والمحدِّثون يقولون (قرى عربية) بغير تنوين، فلو كانت (قرى عرينة) لم يكن لها سوى وجه واحد، وهو بالإضافة وترك التنوين، ويزيده ثبوتًا مرة أخرى إتيان ابن أبي حاتم به، بعقب ما نقله عن الربيع بن سليمان عن الشافعي في تفسير (القرى العربية) وهي التي بناها اليهود في بلاد العرب، وأنها هي التي أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - (رقم: 21). فبان بهذا أن السمهودى قد صحّف أو نقل عن كتاب مصحف لا خير فيه، ثم ضبط هذا الضبط (قرى عرينة)، كجهينة، من عند نفسه، لا عن أصل صحيح أو رواية ثابتة. * * * 28 - أما ياقوت في معجم البلدان (رقم: 3)، وأظن السمهودى قد نقل عنه، فإنه أغمض كلامه إذ قال: (وعرينة، موضع ببلاد فزارة، وقيل قرى بالمدينة. وعرينة قبيلة من العرب)، فهو لم يصرح بذكر (قرى عرينة، بل أتى في نفس المادة بعقب هذا الكلام بأنه رآها (قرى عربية) مضبوطة بخط العبدرى في فتوح الشأم (رقم: 20) فقد أبرأ الرجل ذمته، ودلَّ على توقفه وتشككه. * * * 29 - وأقدم ضبط في هذه الأخبار، هو ما جاء في خبر أبي عبيد الله كاتب المهدي، وشبيب بن شيبة وقتيبة النحوى الجعفي الكوفي (رقم: 23)، ونقله البكري في معجم ما استعجم، والسيوطى في بغية الوعاة، فأبو عبيد الله معاوية ابن عبد الله بن يسار الأشعرى، كاتب المهدي، ولد سنة 100، وتوفي سنة 170، وشبيب بن شيبة المنقرى توفي سنة 162. وهو خبر يقوم على الاختلاف في تنوين (قرى عربية) وترك تنوينها، على نحو ما كان من كلام أبي عبيد في الأموال (رقم: 7). وقد بنيت أنَّه لا وجه للاختلاف إذا كانت (قرى عرينة)

كما أسلفت (رقم: 27)، هذا على أن أبا عبيد القاسم بن سلام قديم أيضًا، فقد ولد سنة 154 وتوفي سنة 224. 30 - ويلي ذلك في الصحَّة والقدم، مع وضوح الضبط، ما رواه ابن أبي حاتم عن الشافعي (ولد سنة 150، وتوفي سنة 204) في تفسير (قرى عربية) (رقم: 21)، ودلَّ بذلك على أنها منسوبة إلى العرب، كما قال البكري في صدر كلامه عن (قرى عربية) (رقم: 24)، وزاد أيضًا أنها لا تنصرف، نفيًا لقول من يقول (قرى عربية) مصروفة، منونة. * * * 31 - ويلى هذا، على تأخره، ما رآه ياقوت مضبوطًا بخط العبدرى في فتوح الشام، إذ قال في مادة (عرينة) (رقم: 20)، بعد الخبرين اللذين ساقهما: ضبط في الموضعين بفتح العين والراء، والباء الموحدة، والياء المشددة). * * * 32 - وإذن، فإجماع هذه النصوص كلها، مما نشر مطبوعًا عن أصوله الصحيحة أو السقيمة، على أنها (قرى عربية) ثم تظاهُرُ الأدلة على أن (قرى عربيةَ) نسبة إلى (العرب)، ثم وضوح الدلالة على أنها لو كانت (قرى عرينة) فلا وجه للكلام في تنوينها وترك تنوينها كل ذلك قاطع على أن الصواب (قرى عربية) غير مصروف، وأن ما جاء في كتاب السمهودى وهم امرئ مصحّف غير ضابط، وقاطع أيضًا على أن ما جاء في نص الأم المطبوع (رقم: 12) وفي جوامع السير لابن حزم (رقم: 18)، وفي تفسير البغوي بهامش تفسير ابن كثير (رقم: 14)، بلفظ (قرى عيينة)، كل ذلك تصحيف لا خير فيه، وثبت أنها (قرى عربية) لا غير. * * * 33 - ولكن يبقى إشكال آخر، هو ما يدل عليه (قرى عربية) فإن كتاب ياقوت، وكتاب البكرى، وكتاب السمهودي، وكتاب ابن خرداذبه، لا تكاد

تأتي بشيء شافٍ يحدد رسم (قرى عربية) من أعراض المدينة، والأخبار تأتينا أيضًا بشيء لا يكاد يعتمد عليه في تحديد موقع ما يسمى (قرى عربية) فمن أجل ذلك آثرت أن آخذ دلالة الأخبار خبرًا خبرًا، حتَّى أرى ما يُفضى إليه الرأي في تحديد مدلول (قرى عربية). * * * 24 - فأول شيء خبر الفيء، فالذي في كتاب الأموال (الخبر: 7)، والبلاذري في فتوح البلدان (رقم: 8) فتفسير (قرى عربية) فيهما أنها (فدك، وكذا وكذا) ومثلهما ما جاء في جوامع السير (رقم: 18). فهذه الأخبار دالة على أن (قرى عربية)، كانت تطلق على فدك، وقرى أخرى غيرها، وهي التي أفاء الله على رسوله خاصة دون المسلمين. * * * 35 - ولكن خبر الفيء نفسه روى بزيادة "واو" تجعل الأمر مختلفًا بعض الاختلاف، وذلك ما رواه ابن أبي حاتم (رقم 9)، وما نقله البكري (رقم: 10) ففيهما أن الفيء: (قرى عربية، وفدك وكذا وكذا) وهذه الزيادة إن لم تكن خطأ في أصل هذه الكتب، فهي دالة على أن (قرى عربية) موضع بعينه غير فدك. ويعضد ذلك ما جاء في خبر الطبري (رقم 11) في شأن الفيء أيضًا: (فكان من ذلك خيبر، وفدك، وقرى عربية). ويعضده مرة أخرى ما ذكره ابن خرداذبه، عند ذكر أعراض المدينة (رقم: 25) وقدامة أيضًا (رقم: 26)، فقالا: (. . . خيبر وفدك وقرى عربية). - ويعضده أيضًا ما رواه أبو جعفر بن جرير في تفسير آية الفيء (28: 24 بولاق) قال: - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري في قوله: {أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [سورة الحشر: 6] قال: صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل فدك، وقرى قد سماها لم أحفظها، وهو محاصر قومًا آخرين، (يعني محاصرة خيبر، كما في رقم: 16)، وأرسلوا إليه بالصلح. قال: (أَؤجَفْتُمْ

عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}، يقول: بغير قتال، قال الزهري: فكانت بنو النضير للنبي خالصة لم يفتحوها عنوة بل على صلح". وقوله: (وقرًى قد سماها لم أحفظها) من كلام معمر، وجائز أن يكون (قرى عربية) نفسها، وجائز أيضًا أن يكون ما جاء مبهمًا مكنيًّا عنه في حديث الزهري كله (رقم: 7 - 10) في قوله: (فدك وكذا وكذا) - وكل ذلك دال على أن (فدك) غير (قرى عربية). * * * 36 - وفي الأخبار التي ذكرتها ما يدل أيضًا على أن (خيبر)، غير (قرى عربية) وذلك خبر ابن عباس في الفيء (رقم: 11)، حين عدّ خيبر مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فقال: (فكان من ذلك خيبر، وفدك، وقرى عربية). - ثم ما رواه البغوي عن الحسن وقتادة والسديّ (رقم: 14) (بعد تصحيحه)، إذ قال: (تواطأ اثنا عشر حبرًا من يهود خيبر، وقرى عربية). - ثم جاء في المحبر (رقم: 16). خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر .. وارتحل منها إلى قرى عربية). - ثم ما جاء أيضًا في ابن خرداذبه (رقم 25) في قوله: { .. خيبر، وفدك، وقرى عربية). - ثم ما جاء في الخراج لقدامة (رقم: 26) في قوله ( .. خيبر، فدك، قرى عربية). * * * 37 - وتلخيص هذا أن (قرى عربية) في بعض الأخبار هي (فدك) وقرى أخرى غيرها -وفي بعضها الآخر أن (قرى عربية) غير (فدك) وغير (خيبر) وأنها اسم مكان بعينه. * * * 38 - وأيا ما كان، فإن تتبع صفة هذا الموضع، لا غنى عنها في طلب الدليل على مكانه من أرض العرب.

- فمن ذلك أنها أرض بعينها يقال لها (قرى عربية) كما سلف (رقم: 5)، في بيان يحيى بن آدم. وأنها (قرى الزهري بالحجاز معروفة)، كما قال البكري في حديث (رقم: 10)، وفي خبر قتيبة النحوى وشبيب بن شيبة (رقم: 23). - وأنها (قرى متصلة) بين المدينة والشام، كما روى الطبري عن ابن عباس والضحاك، كما مضى (13) وزاد ابن كثير أنها: (بينة يعرفها المسافرون يقيلون في واحدة، ويبيتون في أخرى). - وأنها قرى بالمدينة، كما قال ياقوت (رقم: 3) - وأنها من أعراض المدينة، كما دل عليه كتاب "المسالك والممالك" (رقم: 25)، وكتاب قدامة (رقم: 26). - وإنها قرى بنواحي [المدينة] (¬1) في طريق الشام، كما ذكر السمهودي (رقم: 4). * * * 39 - وهذه الصفات لا تكاد تحدد شيئًا، ولكنها تدل في مجموعها على أن (قرى عربية) كانت تطلق أحيانا على (فدك) وقرى غيرها، وأن هذه القرى من الحجاز، وأنها من أعراض المدينة، وأنها قرى متصلة بين المدينة والشأم: وإذا صح ما قاله عرَّام في حد الحجاز "معجم ما استعجم: 10" من أعمال المدينة هي فدك، وخيبر، ووادي القرى والمروة، والفرع، والجار" - وما قاله محمد ابن عبد الملك الأسدى "معجم ما استعجم: 10" من أن (الحجاز) اثنتا عشرة دارا هي المدينة، وخيبر، وفدك، وذو المروة، وداربليّ، ودار مزينة، ودار جهينة. ." ثم قارن ذلك بما قاله ابن خرداذبه (رقم: 25)، وما قاله قدامة (رقم: 26) فظاهرُ الرأي أن تكون "قرى عربية" تخص أحيانا قرى بعينها من الحجاز من أعمال المدينة، وأحيانا أخرى تعم ما بين المدينة والشام من القرى المتصلة، كما ذكر الطبري عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق، انظر رقم 4 في كلام السمهودي.

40 - والذي يرجح هذا، ويزيده عندي يقينا، ما رواه ابن أبي حاتم (50) عن الشافعي (رقم: 21) في تفسير "قرى عربية" وأنها هي قرى اليهود التي بنوها في بلاد العرب، وهي أشراف بلاد العرب -وما قاله الأصمعي في تفسير "قرى عربية" (رقم: 22)، من أنها كل قرية في أرض العرب، نحو خيبر، وفدك، والسوارقية، وما أشبه ذلك- وإن كان نص الأصمعى أعم، لأنه يدخل في تفسير "قرى عربية": (السوارقية) وهي ليست في الطريق بين المدينة والشام، بل في طريق بين مكة والمدينة، ولا أعلم أكانت من قرى اليهود أم لم تكن؟ 41 - وفي خبر الشافعي (رقم: 21) أنها أيضًا (أشراف) جمع (شرف)، وهو ما أشرف من الأرض، أي ما علا حوله، أو دنا منه، وكأن الشافعي أراد بالأشراف (المشارف) و (مشارف الأرض) أعاليها، وهي أخصب الأرض، ولذلك قيل: "مشارف الشام" وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، والريف عندهم: ما قارب الماء، من أرض العرب، فكان فيها خصب وزرع ونخيل. فإذا صح ذلك، وهو صحيح، كان كل ما سكنه يهود من أرض العرب، وأقاموا به وسكنوه، جائزًا أن يكون (قرى عربية) كما قال الشافعي. وقد قال ياقوت في معجمه مادة (الشرف): (والمشارف من قرى العرب، ما دنا من الريف، وهي مثل خيبر، ودومة الجندل، وذو المروة)، فالأشراف والمشارف واحد، فيما أرجح. - و"دومة الجندل" كما قال السمهودى وغيره: "من القريات، من وادي القرى، وأنها "قرى بين الشام والمدينة" وذكر ابن سعد (1/ 1/ 44) أنها طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة". و"ذو المروة"، أيضًا، من وادي القرى، فهذا يشبه أن يكون داخلا في قول الشافعي "أشراف بلاد العرب" وأن "دومة الجندل" و"وادي القرى"، وغيرهما من القرى التي سكنتها يهود وازدرعتها، هي داخلة في حدّ "قرى عربية".

42 - هذا على أنى لم أجد تحديدًا شافيًا لما كان يسمى (وادي القرى)، فالبكرى لم يذكره محددًا، ولم يعقد له بابًا في كتابه "معجم ما استعجم". أما ياقوت، فقد ذكره في (القرى) وفي (وادي القرى) وأحال على ما كتبه في (القرى). وكل ما قاله في صفته هو ما يلي: (ووادي القرى، واد بين الشام والمدينة، وهو بين تيماء وخيبر، وبه قرى كثيرة، وبها سمى وادي القرى. قال أبو المنذر: سمى (وادي القرى) لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة، وكانت من أعمر البلاد، وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة، إلا أنها في وقتنا هذا كلها خراب، ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد). ثم قال: (قال أبو عبيد الله السكونى: وادي القرى، والحجر، والجناب، منازل قضاعة، ثم جهينة وعذرة وبليّ، وهي بين الشام والمدينة، يمر بها حاج الشام، وكانت قديمًا منازل ثمود وعاد، وبها أهلكهم الله، وآثارها إلى الآن باقية، ونزلها بعدهم يهود، واستخرجوا كظائمها، وأساحوا عيونها، وغرسوا نخلها، فلما نزلت بهم القبائل، عقدوا بينهم حلفًا، وكان لهم فيها على اليهود طعمة وأكل في كل عام، ومنعوها لهم من العرب، ودفعوا عنها قبائل قضاعة) - وهذا مختصر مما في "معجم ما استعجم": 1: 43). ويوهم سياق الكلام أن اليهود هم الذين منعوا وادي القرى من العرب، والصواب أن الذين منعوها لليهود هم بنو عذرة، للحلف الَّذي بينهم وبين يهود. وقد ذكر ذلك النابغة الذبياني في شعره، فقد أراد النعمان بن الحارث الغساني أن يغزو بني عذرة بوادي القرى، وكان النابغة لهم محبًّا ومادحًا، فنهاه عن ذلك، وقال في أبياته: تجَنب بني حُنّ فإن لقاءهم ... كريه، وإن لم تلق إلا بصابر و(بنو حُنّ)، هم بنو عُذْرة، ثم قال: وهُمْ منعوا وادي القرى من عدوهم ... بجمْع مُبِير للعدو المُكاثِرِ وهُمْ منعوها من قضاعة كلُّها ... ومن مُضَرِ الحمراء، عند التغاوُرِ

43 - وأما السمهوديّ في "وفاء الوفاء"، فإنه عقد باب (وادي القرى)، وليس فيه تحديد شاف بل قال: (واد كثير القرى بين المدينة والشام)، ثم نقل عن الحافظ ابن حجر: (هي مدينة قديمة بين المدينة والشأم، وأغرب ابن قُرقول فقال: إنها من أعمال المدينة). (قال السمهودي): ولا إغراب فيه، بتصريح صاحب "المسالك" به، كما سبق في تبوك، وسبق أن (دومة الجندل) من أعمال المدينة، وأنها بوادي القرى (انظر ما كتبته رقم: 41) ثم قال: (وسبق في (ذي المروة)، أن بعضهم عدّه من وادي القرى، وأنه إن ثبت فهو غير (وادي القرى) المذكور، وسبق في (بلاكث) و (برمة) ما يؤيده. وعليه أهل المدينة اليوم، لأنهم يسمون ناحية ذي المروة، وناحية ذي خشب (وادي القرى)، ولعلها (قرى عرينة) الصواب: (قرى عربية، كما أسلفنا). - وهذا نص مهم جدًّا، لأن السمهودي تنبه هنا إلى أن (قرى عربية) توشك أن تكون دالة على هذه القرى جميعها. * * * 44 - وصفة (وادي القرى) كما جاء في صفة أبي المنذر (رقم: 4) (سمى وادي القرى) لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة (هو نفس صفة (قرى عربية) التي ذكرها الطبري (رقم: 13)، ويطابق ما لخصته آنفًا (رقم: 38، 39)، وذلك كما قال الطبري: قرى متصلة بين المدينة والشام). * * * 45 - وشيء آخر يدل على مثل ذلك، فقد قال ابن حبيب في "المحبّر" (رقم: 16): (ثم سنة سبع، فيها خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، فحاصرهم بضعة عشر يومًا، وارتحل منها إلى (قرى عربية) فلم يلق كيدا). وإجماع أهل السير، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من أمر خيبر، ارتحل

متوجهًا إلى (وادي القرى) قال ابن إسحاق (سيرة ابن هشام: 3: 353): (فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر، انصرف إلى وادي القرى، فحاصر أهله ليالى، ثم انصرف راجعًا إلى المدينة). وكذلك قال البلاذري في "فتوح البلدان": 41، الطبري في تاريخه: (3: 96)، وابن سيد الناس في "عيون الأثر" (2: 143)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (4: 212)، والمقريزى في "إمتاع الأسماع" (1: 331)، وغيرهم. فصح بذلك أيضًا أنهم كانوا يطلقون (قرى عربية) على (وادي القرى) أيضًا. * * * 46 - وبقى نص آخر، يحتاج إلى بعض التفصل، ذلك ما نقله ياقوت في معجمه عن خط العبدرى (رقم: 20) في بعث أبي بكر - رضي الله عنه - عمرو بن العاص، إلى الشأم مُمِدًّا لأبي عبيدة: - (وجعل عمرو بن العاص يستنفر من مرّ به من البوادي وقرى عربية) وقد ذكر البلاذرى في فتوح البلدان (114، 115) أن أبا بكر عقد ثلاثة ألوية لفتح الشأم، منها لواء عمرو بن العاص، ثم ذكر عن أبي مخنف: أن عمرو ابن العاص إنما كان مددًا للمسلمين، وأميرًا على من ضم إليه) و (أن يسلك طريق أيلة عامدًا لفلسطين). وجاء في الطبري (في سنة ثلاث عشرة) أن أبا بكر بعث عمرًا قِبَل فلسطين، فأخذ على طريق (المعرفة) إلى (أيلة). وطريق (المُعرفة) هو الَّذي كانت تسلكة عير قريش إلى الشام، وفيه سلكت عيرهم حين كانت وقعة بدر، وهذه الطريق، كما استظهرت من صفة ابن خرداذبه في "المسالك والمالك" (150، 191) للطريق من دمشق إلى مكة هي: (من المدينة، إلى ذي خشب، إلى السويداء، إلى المرّ، إلى ذي المروة، إلى الرحيبة، إلى وادي القرى، إلى الحِجر).

و (ذو خشب) يعد من وادي القرى، و (السويداء) بعد ذي خشب على ليلتين من المدينة على طريق الشام، و (مُرّ) واد في بطن إضم، وهو كما قال ابن سعد 1/ 96/1: (بين ذي خشب وذى المروة)، وهو من منازل جهينة، وجهينة كما سلف (رقم: 39، ثم رقم: 42) بوادي القرى، ثم (الرُّحيبة) وكأنها (الرحبة)، إلا أن يكون تصغيرًا، من بلاد عذرة، قرب وادي القرى. وأيضًا، فقد روى ابن عساكر في تاريخه (1: 446 - طبعة المجمع العلمي بدمشق: (أن أبا بكر قال لعمرو بن العاص في فتح الشام: إني قد استعملتك على من مررت به من بليّ، وعذرة، وسائر قضاعة، ومن سقط هنالك من العرب، فاندبهم إلى الجهاد في سبيل الله .. ). وقد سلف في (رقم: 39، ورقم: 42) أن منازل بليّ، وعذرة وقضاعة، هي (وادي القرى)، بين المدينة والشام، وإذن فالذين استنفرهم من البوادي و (قرى عربية) فيما ذكره العبدرى، هم أنفسهم من استعمل عليهم عمرو بن العاص من بليّ وعذرة وقضاعة، واستنفرهم في طريقه إلى فلسطين، كما قال ابن عساكر، وهم أنفسهم أصحاب (وادي القرى). - فهذا إذن، دليل آخر على أنهم يريدون بقولهم: (قرى عربية)، وادي القرى، وسائر القرى الممتدة المتصلة بالشام. * * * 47 - وأما صدر الكلام الَّذي وجده ياقوت بخط العبدرى (رقم: 20) فقد أوجدنيه الأستاذ عبد الله الوهيبى، في أخبار الردة في "فتوح البلدان" 101، وتاريخ ابن الأثير 142، وهو بإسناده في فتوح البلدان. - حدثني عبد الله بن صالح العِجْلي، عن يحيى بن آدم، عن عوانة بن الحكم، عن جرير بن يزيد، عن الشعبى قال: قال عبد الله بن مسعود: "لقد قمنا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مقامًا كدنا نهلك فيه، لولا أن من الله علينا بأبي بكر. اجتمع رأينا جميعًا على أن لا نقاتل على بنت مخاضٍ وابن لبون، وأن نأكل قرى عربية، ونعبد الله حتَّى يأتينا اليقين".

ومعني هذا الخبر أن العرب لما ارتدت، وتنازع الصحابة أمرهم بينهم، كادوا يجمعون على المقام في المدينة وما حولها، وهي قرى عربية، يأكلون مما تنبت أرضها، ويعبدون الله حتَّى يأتي أمر الله، وهذا واضح الدلالة على أن المراد بقوله: "قرى عربية"، أعراض المدينة وهي خيبر، وفدك، ووادي القرى، كما سلف من قول ابن خرداذبه، وابن رسته (رقم: 25). * * * 48 - هذا، وبعد الانتهاء مما سلف، تفضل الأخ الأستاذ عبد الله الوهيبى، فأوقفني على عدة نصوص فاتتنى وأنا أسردها هنا: - في الاستيعاب لابن عبد البر، في ترجمة "عمرو بن سعيد بن العاص"! "واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن سعيد، على قرى عربية، منها تبوك وخيبر وفدك. . . .". ومثله في ترجمته أيضًا في أنساب الأشراف للبلاذرى (4: 128)، وانظر ما سلف (رقم: 17 - 19). - ثم جاء في الاستيعاب أيضًا في ترجمة "خالد بن سعيد بن العاص": "وكان خالد على اليمن، وأبان على البحرين، وعمرو على تيماء وخيبر وقرى عربية، وكان الحكم يعلّم الحكمة" انظر ما سلف (رقم: 17 - 19). 49 - وقال أبو حيان في "البحر المحيط" في تفسير سورة الحشر (8: 245). - "وقال ابن عطية: أهل القرى المذكورون في هذه الآية، هم أهل الصفراء، وينبع، ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية". قلت: وهذا يشبه أن يكون تفسيرًا واضحا مطابقًا لقول الأصمعى والشافعي وبيانهما فيما سلف (رقم: 21، 22). 50 - وفي كتاب "البدء والتاريخ" لابن طاهر المقدسي (5: 25) في ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميراثه، قال:

- (وله - صلى الله عليه وسلم - من الضياع: قرى عربية، وفدك، والنضير، وكثير من خيبر). * * * 51 - وفي كتاب الخراج لأبي يوسف: 70: - (وأما الخوارج، فإنهم أخطأوا الحجة، وجعلوا (قرى عربية) بمنزلة (قرى عجمية)، ولم يأخذوا بما اجتمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول عمر وعلى). ويعني بذلك أنّ أرض الحجاز والمدينة ومكة واليمن وأرض العرب كلها، أرض عُشر، وإن فتحت عنوة، أما (قرى عجمية)، وهي قرى العجم، فإن ما افتتح منها فهو أرض خراج. قال أبو يوسف: (وقد بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح فتوحًا من الأرض العربية، فوضع عليها العشر، ولم يجعل على شيء منها خراجًا). - وهذه الفتوح هي التي ذكرها الشافعي -رحمه الله- فيما سلف (رقم: 12) وأبان عنها فيما نقله آنفا (رقم: 21). فقول أبي يوسف أن الخوارج جعلوا (قرى عربية) بمنزلة (قرى عجمية)، إنما يعني هذا، ويعني أيضًا ما أشار إليه الشافعي في بيانه، وما قاله الأصمعي آنفا (رقم: 22) من أن (قرى عربية) كل قرية في أرض العرب) فكذلك (قرى عجمية) هي كل قرية في أرض العجم. * * * 52 - وفي "شرح ابن الأنبارى" للقصائد السبع (106 - 107) في شرح قول امرئ القيس: وتيماء لمْ يترك بها جِذْع نخلةٍ ... ولا أجما إلَّا مشيدًا بجندلٍ قال: (وتيماء، من أمهات القرى، قرى عربية). - وهذا واضح الدلالة على أن (تيماء)، من قرى عربية، فهو لذلك دال

على أن قرى عربية اسم جامع لقرى العرب التي كانت شمال المدينة، والتي سكنها يهود. * * * 53 - وبقى خبر عن أبي هريرة رواه ابن عساكر "مختصر تاريخ ابن عساكر" 1: 350)، والسيوطى في دلائل النبوة (1: 25): - (عن أبي هريرة: بلغنى أن بني اسرائيل، لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بخت نصر عليهم، وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون محمدًا منعوتًا في كتابهم، وأنه يظهر في بعض (القرى العربية)، في تربة ذات نخل، فلما خرجوا من أرض الشأم، جعلوا يقترون (¬1) كل قرية من تلك القرى العربية بين الشأم واليمن، يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم، ويرجون أن يلقوا محمدًا فيتبعونه، حتَّى نزل من بني هرون ممن حمل التوراة بيثرب منهم طائفة، فمات أولئك الآباء وهم مؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنَّه جاء، ويحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدركه من أدركه من أبنائهم، وكفروا به وهم يعرفون). - وصفة هذه القرى العربية، شبيهة بصفة (قرى ظاهرة) (سبأ: 18) فيما ذكرته آنفًا من خبر سعيد بن جبير (رقم: 5)، وما جاء في تفسير الطبري (رقم: 13)، وأنها هي (قرى عربية). 54 - وعندي أن هذا كله يوشك أن يدل على أن (قرى عربية) كانت تشمل القرى العربية ما بين الشأم إلى المدينة، كما فسرها الطبري في تفسير قوله تعالى: (قرى ظاهرة) (سبأ: 18)، وأن (قرى عربية) و (وادي القرى) كانا يستعملان أحيانا، ولاسيما في القديم من الرواية، للدلالة على معنى واحدٍ، وأن هذه الدلالة عند عمومها تشمل خيبر، وفدك، ووادي القرى، وبرمة التي بين خيبر ووادي القرى، (وفاء الوفا)، وذا المروة وذا خشب، والهمج، وهو ماء بين خيبر وفدك (ابن سعد 2/ 1/ 65، "وفاء الوفا" في (فدك) وهمج - وظبية، والصفراء، ويثرب، وتيماء، ودومة الجندل، ومدين، وينبع، وبلاكث، ¬

_ (¬1) اقترى البلاد: إذا تتبعها وخرج من أرض إلى أرض وسار فيها ينظر أحوالها.

وسائر ما كان من القرى في شمال المدينة، وما نزلت به هو من أرض العرب فسكنته وغرسته وبنت فيه بيوتها وآطامها وأسواقها. 55 - وقد بقى خبران لم أتعرض لهما، أولهما: خبر الطبري، وشبيهه الَّذي جاء في تفسير البغوي (رقم: 14) في شأن النفر الاثنى عشر من أحبار يهود، الذين جاءوا من خيبر وقرى عربية، وقد تواطأوا على الدخول في دين الله أوّل النهار، ثم يكفرون آخره، وهذا الخبر لم أجده مفسَّرًا مبسوطًا في مكان آخر، وقد ذكر أصحاب السير اجتماع نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان من أمرهم. وقد ذكر ابن اسحق أن (سورة آل عمران) التي ذكر الله سبحانه فيها مقالة أحبار يهود: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [سورة آل عمران: 72]، إنما نزلت خاصة في الذين كانوا يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتعنتونه، وعدَّ منهم (أبا ياسر بن أخطب)، وأخاه (حيى بن أخطب)، وهما من بني النضير (ابن هشام 2: 160 - 2: 194، 197)، وعبد الله بن صيف، من بني قينقاع، وعدى بن زيد، والحارث بن عوف، من بني قريظة (ابن هشام 2: 161، 162 وتفسير الطبري 6: 504، رقم: 7223)، وهؤلاء الثلاثة من الذين تواطأوا على أن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره. فأما (حيي بن أخطب) وأخوه، فهما من بني النضير، و (صفية أم المؤمنين)، هي بنت (حيي بن أخطب) سيد قريظة والنضير (صحيح مسلم -كتاب النِّكَاح- باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها). وإذ كان ذلك كذلك، فأرجِّح أن أموال (حيى بن أخطب) ومنازله كان بعضها في فدك، وقرى عربية (وهي التي نزلت فيها آية الفيء، كما أسلفنا، فهذه الآية نزلت في بني النضير، بلا شك، و (سورة الحشر) التي منها هذه الآية، كان ابن عباس يقول هي (سورة بني النضير). ولما أجلى بنو النضير إلى خيبر، كانت لحيي أيضًا أموال بها، لأن (صفية

أم المؤمنين) كانت يوم خيبر عند (كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق) فصارت من سبايا خيبر، وكانت يومئذ في حصن بني أبي الحقيق، وهو القموص). و (كنانة) هذا، كان أيضًا من بني النضير (ابن هشام 2: 160). فأنا أرجح أن اليهود، من بني قريظة، وبني قينقاع، وبني النضير، وسائر طوائفهم كانوا مفرقين شتى متداخلين في القرى التي كانت شمال المدينة، في خيبر، وفدك، ووادي القرى، وقرى عربية وغيرها، فأظن لذلك أنّ المذكورين في خبر ابن هشام، هم أنفسهم المذكورون في خبر المتواطئين من يهود خيبر وقرى عربية، كما جاء في خبر الطبري (انظر ما سيأتي رقم: 56). وقد رأيت ما يصحّح هذا القول في شأن قريظة والنضير، وأنهم كانوا خارج المدينة في كتاب ابن القيم "أحكام أهل الذمة" ص: 839 قال: (وأما قريظة والنضير، فكانوا خارجًا من المدينة، وعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشهر من أن يخفي على عالم). * * * 56 - وأما الخبر الثاني، فهو خبر دجاجة، عن عثمان - رضي الله عنه - (رقم: 15) وقول عثمان: (لا يسكن قرى عربية دينان)، وهذا الخبر لم أجده في أخبار عثمان - رضي الله عنه -، والذي عندنا في أمر إجلاء اليهود، هو إجلاء عُمر يهود خيبر، وغيرها لقوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)، فأجلاهم عمر إلى (تيماء). فإذا صح أن عثمان قال: (لا يسكن قرى عربية دينان) فإنه لا يعني خيبر بلا شك، ولا يعني أيضًا (فدك)، ولا منازل بني النضير القريبة من شمال المدينة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خرج إلى بني النضير سنة أربع، فسار بعضهم إلى (خيبر) فكان منهم (سلّام بن أبي الحقيق)، و (كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق) و (حيي بن أخطب) (ابن هشام 3: 201). وإذا لم يكن يعني هذه القرى القريبة من شمال المدينة، فأرجح أن قول عثمان: (لا يسكن قرى عربية دينان)، إنما يراد به بعض الأماكن البعيدة عن شمال المدينة إلى حد الشام من القرى الظاهرة المتصلة التي ذكر الطبري أنها

(قرى عربية) (رقم: 13)، نحو (تيماء) ودومة الجندل، ومدين، وما قارب ذلك (¬1). * * * 57 - فمن هذا كله، من الَّذي علقته في هذه الكلمات، وعما أغفلته من الاستنباط والمراجعة، يتبين لي أن أدق تفسير لقولهم (قرى عربية) هو أقدم تفسير، وهو قول الشافعي في ذلك: (هي قرى اليهود بنوها في بلاد العرب، والعرب حولهم، وهي أشراف بلاد العرب، (أي مشارفها)، وهي فدك وخيبر)، وقول الأصمعى، وهو أوضح: قرى عربية، كل قرية في أرض العرب، نحو خيبر، وفدك، والسوارقية، ما أشبه ذلك) (رقم، 21، 22) وذلك ما فسّرته آنفًا (رقم: 54). وظني أن اليهود لما نزلوا أرض العرب، وانساحوا ما بين المدينة والشأم، كانوا يسمون بلاد جزيرة العرب يومئذ "عربية" أي أرض العرب، ثم قالوا للقرى التي سكنوها في مهبطهم من الشأم إلى يثرب "قرى عربية" اسمًا جامعًا، أي قرى أرض العرب، وقولهم (عربية) وهم يعنون بلاد جزيرة العرب، أشبه بأن يكون من كلامهم ونهج لسانهم، وإذ كانوا غرباء على لسان العرب، فقد سموها على سليقة لسانهم بلفظ عربي مستجلب. ثم لما طال عليهم الأمد، وسموا كل قرية باسم أنشأوه أو ورثوه ممن كان معهم من العرب نحو (تيماء) و (دومة الجندل) و (خيبر) و (فدك)، ظل قولهم (قرى عربية) اسما جامعًا لهذه الأرض كلها من شمال المدينة إلى الشأم: ولكن العرب لما جاوروهم وعقدوا بينهم حلفًا، بدأوا يضيقون بهذه التسمية التي تشبه أن لا تكون عربية خالصة ¬

_ (¬1) وذكر خليفة بن خياط في تاريخه (المطبوع في بغداد ج 1 ص 62 وفي دمشق ص 72 والمخطوط سنة 479 ص 238 - في سياق ذكر عماله عليه الصلاة والسلام: وعمرو بن سعيد بن العاص على قرى عربية، خيبر، ووادي القرى، وتيماء، وتبوك، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرو عليها. اهـ. والنسخة الخطية موثقة ومصححة، وقرأها علماء أعلام. أقول: هذا الهامش علقه الشيخ حمد الجاسر، -رحمه الله-.

(قرى عربية) وإن احتملها لسان العرب، فقالوا لهذه القرى (وادي القرى)، إذ كانت أكثر هذه القرى تقع في الوادي الطويل الممتد المتفرع ما بين الشأم إلى المدينة. فلما أخذت كل قرية تتسع وتكبر، ويزداد عدد أهلها، وتكون لها شهرة بثمر أو سوق أو تجارة، انفردت كل واحدة منها باسمها وطار صيتها، وجعل لفظ (وادي القرى) أو (قرى عربية) يضيق أحيانًا فيطلق على مكان بعينه، يجمع عدة قرى متقاربة، وربما جاء وقت بعد ذلك، لا أستطيع أن أحدده، وإن كنت أرجح أنَّه كان بعد الإسلام بدهر، فخص (وادي القرى) و (قرى عربية) بناحية بعينها أو ناحيتين من هذه القرى الممتدة المتصلة ما بين الشأم إلى يثرب. ومن أجل ذلك كما رأيت، اضطرب قول المؤلفين في تحديد ما كان يسمى (وادي القرى) أو (قرى عربية) وصارا بذلك اسمين مبهمين يدلان دلالة مبهمة غير محددة تحديدًا شافيًا. هذا غاية ما أحببت أن أقيده، وعسى أن أكون قد بلغت بعض التوفيق في جمع هذه الأخبار وتصحيح دلالاتها، والبيان عن معنى (قرى عربية) وتمحيصه، والحمد لله وحده.

كانت الجامعة. . . هي طه حسين

كانت الجامعة. . . هي طه حسين ما هو دور طه حسين في رأيك (¬1)؟ سؤال ضخم الإجابة عنه في أسطر قلائل، تكليف بما لا يطاق. ومع ذلك فسأحاول أن أقول لك شيئًا أتمم به ما تناثر في بعض ما كتبت، حين كانت الضرورة تدعونى إلى التحدث عن الدكتور طه حسين وآرائه في الأدب. كان -رحمه الله- ينشر "حديث الأربعاء" في صحيفة السياسة، وذلك في حدود سنة 1923، وكنت يومئذ فتى صغيرا في المدارس الثانوية، فكنت أقرأ ما يكتب وأتتبعه. وكنت قبيل ذلك أيضًا أقرأ كتاب "الكامل" للمبرد وكتاب "الحماسة" لأبى تمام على شيخى وأستاذى -رحمه الله- إمام العربية في زمانها "سيد ابن علي المرصفي" في بيته، وكان الشيخ لا يكاد يقرأ الصحف، ففي بعض حديثي معه ذكرت له ما كان يكتبه الدكتور طه حسين. فعرفت يومئذ منه أن الدكتور طه حسين قرأ عليه أيضًا ما شاء الله أن يقرأ من كتاب الكامل للمبرد. فحفزنى ذلك على أن أسعى إلى لقاء الدكتور طه حسين وإلى السماع منه. فمن يومئذ عرفته معرفة عن قرب. عرفته محبا لعربيته حبا شديدا، حريصا على سلامتها، متذوقا لشعرها ونثرها أحسن التذوق، وعلمت أن هذا الحرص وهذا التذوق كان ثمرة من ثمار قراءته على المرصفي. فإني لم أر أحدا كان يحب العربية ويحرص على سلامتها، ويتذوق بيانها، كشيخنا المرصفي رحمة الله عليه، ولم أر لأحد تأثيرا في سامعه كتأثير الشيخ في سامعه. ومضت الأيام منذ سنة 1923 إلى سنة 1925، فيومئذ صدر المرسوم بإنشاء "الجامعة المصرية" مكونة من عدد من الكليات إحداهن "كلية الآداب" ¬

_ (*) مجلة الكاتب، السنة الخامسة عشرة، العدد 168 - مارس 1975، ص 28 - 35. (¬1) السائل هنا هو الأستاذ سامح كريم في مقابلة أجراها مع الأستاذ شاكر -رحمه الله- في فبراير 1975، وقد أشار الأستاذ إلى هذه المقابلة في مقاله الأول عن "المتنبي ليتني ما عرفته" انظر 2: 1123

وصار الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي في "قسم اللغة العربية" في "كلية الآداب". ولكن لم تكد تمضي سنة على إنشاء الجامعة حتَّى صرنا إلى أمر غريب جدا: لا يكاد يذكر اسم "الجامعة" حتَّى ينصرف ذهن كل سامع إلى "كلية الآداب" وحدها، ثم إلى الدكتور طه حسين وحده، هذا مع أن عدد طلبة "كلية الآداب" كان يومئذ يعد بالعشرات، وكان عدد طلبة "قسم اللغة العربية" من هذه الكلية يكاد يعد على الأصابع. أي أنك تستطيع أن تقول بلا تجوز كثير: أن طه حسين كان عند الناس هو الجامعة، وكان الجامعة عندهم هي طه حسين! وهكذا أيضًا كنا نراها نحن طلبة كلية الآداب، وقسم اللغة العربية من هذه الكلية خاصة. وبين أن الفضل في ذلك راجع كله إلى الدكتور طه حسين، وإلى ما أثاره يومئذ من صراع عنيف في الحياة الأدبية لذلك العهد. ولا تتوهم أنى أريد بهذا أن أثنى على الدكتور طه حسين، بل أنا شاهد أقرر لك حقيقة كانت مصورة حية في الأذهان منذ خمسين سنة لا أكثر ولا أقل. وهي صورة غريبة قل أن تتكرر. وقد بقيت حية على عنفوانها بضع سنوات، ثم بدأت في الركود شيئًا فشيئا بضع سنوات أخر. حتَّى انسلخت عنه الجامعة واستقلت بصورتها المعروفة اليوم عند الأمة العربية وانسلخ الدكتور طه أيضًا عنها .. وصار هو طه حسين بصورته المعروفة اليوم عند الأمة العربية لا مصر وحدها. واصبر على قليلا ولا تتعجل. إن هذا السؤال الضخم الَّذي سألتنيه بغتة، كان ينبغي أن أتهيأ للرد عليه أياما طوالا جدا، لأني امرؤ أحب الكلمة المعبرة عن حقيقة المعنى القائم في نفسي، ولكني مع حبى لها أخافها وأتهيبها ويأخذنى عندها من الذعر، ما يأخذ المحمول في يد جبار يريد أن يلقى به في نار متضرمة. ولقد رميتنى أنت في أشد الحرج، لأنى أجد أن هذه الألفاظ القلائل التي حرصت آنفا على أن أؤدى بها شهادة شاهد عيان، لم تبلغ عندي الغاية التي أحسها في قرارة نفسي، وأريد الإبانة عنها. ويا للعجب! سؤال من سبع كلمات تلقيه علي عفوا، يريد أن يبعث الحياة في صورة غربية مذهلة، مضى عليها خمسون سنة! خمسون سنة بقيظها

وزمهريرها، وبنورها وظلامها، وبصحوها وغيومها، وبصفاء أيامها وغبارها، لا تمشي على صورة ناضرة حتَّى ترد نضرتها إلى ذبول كئيب وتحيل إشراق لونها إلى شحوب مفزع. ومع ذلك فأنا مطالب اليوم أن أرفع إلى عينيك وإلى أعين الأجيال الحديثة بعد خمسين سنة، صورة كانت على إبانها صورة حية غربية مذهلة! ومن لي بأن أؤدى ما أنا مطالب بأدائه؟ ولكن لا مناص ولا مهرب. وهل تدري لماذا أقطع حديثي وأقول لك هذه الكلمات؟ لا أظنك تدري، لأنك لم تكن حيا منذ خمسين سنة، ولو كنت حيا يومئذ، ولم تكن قادرا على استيعاب زمانك استيعابَ يقظة، لا استيعاب لجاجة ودعوى وسفسطة لبقيت أيضًا لا تدري شيئًا، وسأحاول أن أقرب لك الأمر ما استطعت حتَّى تعلم لم قلت لك هذه الكلمات. أن هذه الصورة الغريبة المذهلة، التي توهجت بألوانها في مصر، ثم في أضيق من ذلك: "في كلية الآداب"، ثم في أضيق من ذلك. في "قسم اللغة العربية" من كلية الآداب، ثم في سنوات قلائل: سنة 1925 وما بعدها، لم تكن صورة على رقعة أفردت لها خاصة، بل كانت صورة صغيرة جدا، صغيرة جدًّا لا تكاد ترى من بعد قريب، وهي في حيز رقعة واسعة مترامية الأطراف، ما بين تخوم المغرب الأقصى، إلى النهاية حدود الصين، ومن أعلى حدود تركية إلى أقاصي الأطراف في بلاد أندونسية أي في الرقعة التي يقع عليها اسم "العالم العربي" و"العالم الإسلامي" معا، وليس هذا فحسب، فهناك أبعاد أخرى غير أبعاد المكان وهي أبعاد الزمن أي أقصى تاريخ هذه الرقعة منذ بدأت إلى العصر الجاهلي، إلى عصور الإسلام الَّذي نعيش فيه. ودعني أسألك كما سألتنى: هل أكون صادقا إذا أنا اقتصرت على أن أرفع لعينيك هذه الصورة الغريبة المذهلة، مقتطعة من جوف هذه الرقعة المترامية الأطراف في الزمان والمكان، لا لشيء إلا لكي أحيي ذكر طه حسين في هذه المناسبة التي حدثتنى عنها، مؤديًا بذلك بعض حقه على؟ وستقول: لا بلا ريب.

فأقول لك: وإذن فقد شققت عليَّ كل المشقة، ورميت بي في أشد الحرج، حين سألتني عما سميته "دور طه حسين" في حياة هذه الأمة المنساحة في أبعاد الزمان والمكان كما وصفتها لك. وإذا كان جواب هذا السؤال عسيرا محرجا لي كما ترى، فهل تراه حسنا أن أدفع عن نفسي المشقة والحرج، وأفزع بالهرب منهما إلى ما هو أيسر وأروح، فأتعلق بما انتهى إليه أمر طه حسين من الشهرة في هذا العالم الرحب، فأقول لك كما قال من يحمل العلم: إن ضخامة أثر طه حسين في حياة العالم، خليق أن يجعلنا نسمى الزمن الَّذي عاشه طه حسين بيننا "عصر طه حسين"؟ ليس هذا هزلا محضا! بل هو شر من الهزل المحض؟ ومع ذلك كله فأنا أستعفيك من ركوب هذا المركب الصعب، ولكني لن أخذلك وسأحاول أن أستبقى هذه الصورة الغريبة المذهلة في مكانها، غير مقتطعة من رقعتها المتراحبة، فأبين لك لم توهجت هذه الصورة؟ وكيف كان توهجها في حيزها الصغير جدا؟ ثم أحدثك عن أثر هذا التوهج على الرقعة التي هي جزء منه، ولكني في الحقيقة لا أدري من أين أبدأ، ولكن لا مفر من بدء. في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) انتفض هذا العالم الرحب الَّذي حدثتك عنه وهو العالم العربي والعالم الإسلامي، وبدأت أول انتفاضة في مصر في مارس 1919، وتتابعت الانتفاضات على درجات مختلفة في جميع بلاد العرب والإسلام، وحدثت الدرجة العظمى، بالحرب التركية في سنة 1922، على عهد مصطفى كمال، ثم زلزل هذا العالم كله، حين ألغى الخلافة الإسلامية في سنة 1924، وبإلغائها صار هذا العالم الَّذي كانت فيه الخلافة تجمعه أو تشده إليها بحبال واهية .. ولكنها حبال على كل حال! صار خلائق مشتتة في يم متلاطم، تمد أيديها إلى شيء تتعلق به طلبا للنجاة وخوفا من الغرق، وكانت مصر خاصة والبلاد العربية عامة، ملتقى أنظار العالم الإسلامي في طلب النجاة والخوف من الغرق، مع أنهم جميعا غرقى في هذا اليم المتلاطم. وفي هذا الذهول الغامر، ما بين سنة 1919 إلى 1924 نزع العالم العربي

بفطرته السليمة إلى التشبث بالحبال الباقية التي تربط بعضه ببعض، وهي اللسان العربي الممثل في الشعر والنثر، لأنه لا أمة بلا لغة، وصار مفهوما واضحا عند الجماهير، أن إحياء اللغة العربية هو إحياء الأمة العربية، وإحياء اللغة العربية وإحياء الأمة العربية هو إحياء البلاد الإسلامية. كان هذا واضحا جدا لمن يريد أن يبصر. ولكن ثورة مصر .. انفرط عقدها بصدور تصريح 28 فبراير 1922، ويتولى سعد زعلول الوزارة في سنة 1924، ولكنها لم تخمد بعد، فكان الجيل الَّذي عاش تلك الأيام يتشبث بلغته، ويقاوم عناصر الهدم الخبيثة التي أطلقتها وزارة الاستعمار البريطاني، وهيئات المبشرين (وهما شيء واحد) ويتولى العمل لها رجال من أهل جلدتنا معروفون بأسمائهم. وفي هذا الجو الَّذي أحببت أن أوجزه لك في هذا الحديث الملهوج أنشئت الجامعة المصرية في سنة 1925، وألقى الدكتور طه حسين كلمته "في الشعر الجاهلى" وهاجت الحياة الأدبية كلها في مصر ثم في سائر بلاد العرب والمسلمين. والذي هاج الحياة الأدبية وأثارها هو في الحقيقة ما سماه "المنهج"، والذي ذكر أنَّه أحد مذهبين في البحث بقوله: "نحن بين اثنتين .. أما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء .. وأما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث"، ، ثم يقول هذه الكلمات المفزعة: "والفرق بين المذهبين في البحث عظيم، فهو الفرق بين الإيمان الَّذي يبعث على الإطمئنان والرضى، والشك الَّذي يبعث على القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان، إلى الإنكار والجحود. المذهب الأول يدع كل شيء تركه القدماء لا يناله بتغيير ولا بتبديل، ولا يمسه إلا مسا رفيقا، أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسا على عقب، وأخشى إن لم يمح أكثره، أن يمحو منه شيئًا كثيرًا"، ثم ما انتهى إليه فيما سماه بحثا، إلى أن: "الشعر الجاهلي" أو كثرة هذا الشعر الجاهلى لا تمثل شيئًا، ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال". هذا نص كلام الدكتور طه حسين بألفاظه، فوضع علم المتقدمين كله موضع

البحث والإنكار والجحود، وقلب العلم القديم رأسا على عقب، والانتهاء إلى محو أكثر العلم القديم، وبطلان الشعر الجاهلى وهو عماد اللسان العربي كله بعد القرآن والحديث، كل ذلك أفزع القلوب التي كانت تحس وتسمع وترى وتقرأ ما يكتبه أعوان الاستعمار والتبشير يومئذ، فاختلط الأمر، وصار طه حسين عند عامة الناس، واحدا ممن يمثل هذا الاتجاه الَّذي يتولاه فلان وفلان من خبثاء المبشرين الذين يكتبون بالقلم العربي. لقد لقى طه حسين يومئذ ما لقى، ونسب إليه ما أقطع بأنه برئ منه، والدليل على براءته عندي هو أنَّه منذ عرفته في سنة 1924، إلى أن توفي في 28 أكتوبر 1973، كان كما وصفته في أول حديثي؛ محبا للسانه العربي أشد الحب، حريصا على سلامته أشد الحرص، متذوقا لروائعه أحسن التذوق، فهو لم يكن يريد قط باللسان العربي شرا، بل كان من أكبر المدافعين عنه، المنافحين عن تراثه كله إلى آخر حياته. ومحال أن يحشر من هذه خصاله في زمرة الخبثاء ذوى الأحقاد من ضعاف العقول والنفوس، الذين ظهروا في الحياة العربية لذلك العهد، بظهور سطوة "الاستعمار" وسطوة "التبشير" وهما صنوان لا يفترقان. ودليل آخر، وذلك أنَّه حين انجلى غبار ما أثاره طه حسين بكتابيه: "في الشعر الجاهلى" في سنة 1926 و"مستقبل الثقافة في مصر" سنة 1939، وهما كتابان لا قيمة لهما من الوجهة العلمية، انجلت بعد ذلك نفسه، وناقض به ما كتبه وما قاله كل ما في هذين الكتابين من فساد. ومرد ذلك إلى هذه الخصال التي كادت تكون في نفسه، وفي حبه للعربية وحرصه على سلامتها، وما هداه الله إليه من حسن التذوق لروائع البيان. ولهذه الخصال الثلاثة، ولمكانه في "الجامعة"، ولمجيئه في تلك الحقبة من حياة الأمة العربية والإسلامية، وللمخاوف التي أثارها بما قاله في الجامعة، يعود الفضل كله في شهرة طه حسين، وفي ارتباط حياته بحياة هذه الأمة العظيمة من العرب والمسلمين، وفي توهج هذه الصورة الغربية المذهلة التي وصفتها لك.

ولكن يبقى شيء واحد ينبغي أن أختم به هذا الحديث. وهو هذا التوهج الَّذي كان في تلك الحقبة من الزمان، وأثره على سائر الرقعة التي وقع فيها. لم تكد تمضي عشر سنوات على ظهور كتاب "في الشعر الجاهلي" أي في سنة 1935 حتَّى أدرك طه حسين إدراكا واضحا جدا أن اللسان العربي قد صار في محنة، لا في نفسه، بل في هذه الأعداد الهائلة من المثقفين الذين رفضوا الأدب العربي كله، ورفضوا القديم كله شعره ونثره، لا في مصر وحدها، بل في كثير من البلاد العربية، وأن أعدادهم إلى تكاثر كلما تقدمت الأيام، فأخذ يعبر عن ذلك بألفاظ محزنة باكية، وحاول أن يتألف هؤلاء النافرين ويردهم إلى الطريق القديم، وإلى أدبهم القديم "لكي يظل قواما للثقافة، وغذاء للعقول، لأنه أساس الثقافة العربية. فهو إذن مقوم لشخصيتنا محقق لقوميتنا، عاصم "لنا من الفناء في الأجنبى، معين لنا على أن نعرف أنفسنا". هذه بعض كلماته -رحمه الله-. ومعنى ذلك أن طه حسين في تلك السنوات، قد فزع فزعا شديدا لانصراف الناس عنه وعن عربيته التي يحبها، وعن لغته التي يحرص على سلامتها، وعن بيانها الَّذي يعتز به، ومعنى ذلك أيضًا أن الدكتور طه حسين في سنة 1935، عَلِمَ عِلْمَ اليقين أن الَّذي أثاره بألفاظه المفزعة سنة 1925، قد خرب البنيان الَّذي كان يظن يومئذ أنَّه سوف يبنيه بعد أعوام قلائل، وبلا مجاز ولا تشبيه. أدرك طه حسين أن الَّذي قاله في سنة 1925 مفض إلى ضعف اللغة العربية، وإلى أن تصير الأمة العربية أمة لا لسان لها إلا العامية السوقية، بلا تاريخ، وبلا علم، وبلا ماض. ثم شهد الدكتور طه حسين بعد ذلك في أواخر أيامه تقوض القديم كله، مع تكاثر أعداد المثقفين، فكان يقول الكلمة بعد الكلمة معبرا عن حزنه وعن لوعته، بل قل مكفّرا عن خطه العظيم، الَّذي قدر الله أن يقوله في ساعة عظيمة من حياة هذه الأمم فكان له أثر عظيم في تدمير أمانيه وأماني كل مخلص لأمته.

مواقف. .!

مواقف. .! قبل كل شيء، ولكى أكون واضحا؛ وحتى لا يختلط الأمر على قارئ، أحب أن أقص القصة على وجهها. كنا في ذوات الثلاثين، نكتب معا في مجلة الرسالة في أول عهدها، فنشأت بيننا مودة ومحبة، ومضت الأيام، وهجر صاحبي الأدب؛ وانصرف إلى دراسة الفلسفة وتدريسها والكتابة فيها، فلم أنقطع عن متابعة ما يكتب، كان له في الأدب طريق متميز، وصار له في الفلسفة أيضًا طريق متميز؛ ولم يفتنى فيما يكتب إلا القليل فيما أظن. وتطاولت الأيام، حتَّى قرأت لأخي وصديقي الدكتور زكي نجيب محمود مقالة في مجلة "العربي". وكان يومئذ في الكويت، فلم أصبر حتَّى كتبت إليه رسالة أسأله فيها عما أراد بما كتب؟ كانت مقالة غربية على، لأنى وجدتها غامضة الأسلوب غامضة المعاني، وعهدى به كان أبدا واضح الأسلوب واضح المعاني، في الأدب وفي الفلسفة معا. فتفضل الصديق الكريم، ورد على برسالة يقول فيها: "ما دمت أنت قد رأيت المقالة غامضة غير مفهومة، فهي إذن غامضة غير مفهومة" أو كلاما هذا معناه؛ فعجبت لقوله، وساءني، فآثرت أن أسكت عنه! ومضت الأيام؛ وهيأ الله لي أن أزور الكويت، وهو مقيم يومئذ، وقبل أن ألقى الصديق الكريم، وقع في يدي كتابه "تجديد الفكر العربي"، فأخذت أقرؤه حتَّى فرغت منه، وتعجبت ما شاء الله أن أتعجب، فهو بهذا الكتاب قد ردنى إلى زمان قديم جدا؛ أبي زمان المراهقة الفكرية، أيام كنا نقرأ ونفكر بلا مبالاة. عجبت له كيف استطاع أن يعود القهقرى إلى صدر الشباب، بعد هذا الزمان الطويل من مفارقة الصبا! ثم سعيت إلى لقاء الصديق القديم؛ فلما لقيته كدت أسأله عن سر ذلك، ولكني طويت فجأة كل ما قام في نفسي، كما طويت ذلك الكتاب منذ ساعات، وقنعت بلذة المودة واللقاء بعد دهر طويل من الفراق. ومنذ أيام، أخذت كتابه الجديد "المعقول واللا معقول في تراثنا الفكري"؛ ¬

_ (*) مجلة الكاتب، السنة الخامسة، العدد 170، مايو 1975 - ص 22 - 36.

وقرأته، فازددت تعجبا، لأنى رأيته يزداد مع الأيام بعدا عن وضوح الأسلوب ووضوح المعاني، في مواضع كثيرة. ولكن لم تكد تمضي أيام، حتَّى جاء الدكتور زكي يفسر لي، وللناس، سر هذا الغموض في الأسلوب والمعاني، فإنه نشر في صحيفة "الأهرام" (الجمعة 7 مارس 1975) مقالة عنوانها: "نريدها ثورة فكرية"، يدعو فيها الدولة (فيما أظن؛ أو فيما فهمت) الى إحداث هذه الثورة الفكرية ويختمها بقوله: "شيء في مناخنا الفكرى؛ يردنا عن إحداث هذه الثورة. فما زالت الكلمة المسموعة هي لغير الراغبين في ثورة فكرية كالتي أتصورها، فعليهم أن يراوغوا في التعبير عما يريدون، اجتنابا منهم لوجع الدماغ، تاركين لقرائهم أن ينزعوا المعاني من بين السطور". وهذا بيان كاف! وإذن فبُعْدُ الدكتور زكي، في هذه الأيام، عن وضوح الأسلوب ووضوح المعاني؛ مرده الى هذه "المراوغة في التعبير عما يريد"، اجتنابا لوجع الرأس والدماغ! وهذا موقف غير مفهوم في الحقيقة، وهو أيضًا موقف غير لائق به. غير مفهوم، لأنه منذ سنوات يقف على منبر لا يزاحمه فيه أحد في صحيفة "الأهرام"، لا، بل يقف هو ومعه آخرون على هذا المنبر غير مزاحمين، بلا حرج عليهم أن يعلنوا رأيهم في صراحة وعلانية. وغير لائق، لأن أسوأ ما تصاب به أمة، أن يكون كتابها وأدباؤها ومفكروها على مثل هذا المذهب البغيض: "أن يراوغوا في التعبير عما يريدون، تاركين لقرائهم أن ينزعوا المعاني من بين السطور"! ! هذا إهدار لكرامة القراء، وإهدار لشجاعة العقل، وإهدار لأمانة القلم. وأي ثورة هذه التي يدعو إليها، إذا كان الداعى نفسه لا يملك إلا المراوغة في التعبير عما يريد! ثم لا يستنكف أن يعلن أن ما يكتبه إنما هو "مراوغة في التعبير". هذا أعجب العجب! هذا موقف غير مقبول من رجل حرفته، كما يقول هو: "هي الأستاذية في الفلسفة؛ التي تقتضيه ألا يرسل القول إرسالا مهملا بغير تحديد" (المعقول واللامعقول ص: 30). وأنا بطبيعتى أكره هذا الطريق. لا من حيث أنا إنسان عاقل مفكر حر

وحسب، بل أيضًا لأنى منذ آمنت بأن الله وحده لا شريك له، وأنه أرسل إلى الناس رسولا يبين لهم طريق الهدى من طريق الضلال، علمت أن هذا البلاغ الَّذي هو القرآن، وهو الحق، لم يكره أحدا على الإيمان؛ لأن الإكراه والسيطرة خليقة أن تدعو الناس إلى المراوغة، والمراوغة مفسدة للحياة البشرية؛ ومتلفة للعقل الإنساني -ومن أجل ذلك نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن ارتكاب طريق الإكراه والسيطرة، فقال له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، وقال له، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، ثم زاد فأمره أن يدع الناس أحرارا في اختيار طريق الإيمان وطريق الكفر فقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، كل ذلك كان طريقا مستقيما ومنهجا متبعا، لأن سلامة الحياة الإنسانية، وسلامة العقل؛ وسلامة النفس؛ لا تنال ولا تدرك إلا بالوضوح: وضوح اللفظ، ووضوح الرؤية، ووضوح التعبير، ووضوح المعاني، ووضوح الطريق، وبهذا وحده فارقت حضارة أهل الإسلام سائر الحضارات؛ ما سبق منها وما أتى بعدها. ومن أجل ذلك كان الأسلوب الَّذي أبان عنه الدكتور زكي كريها إلى نفسي. وكنت أتمنى، بعد هذا العمر الطويل، أن يكون كريها أيضًا إلى نفس صديقي الدكتور زكي، مهما لقى في سبيل ذلك من عنت، ومن وجع الرأس والدماغ. وعلى كل، فهذا موقف لا أحبه له ولا أرضاه. * * * موقف ثان، فيه نفس السمات؛ سمات الإبهام والغموض؛ بلا داع يدعو إلى ذلك، فأنا حين قرأت كتابه الأول "تجديد الفكر العربي" وفرغت منه، أحسست، (ولا أدري كيف! ) أنَّه كتبه وفي نفسه مرارة مؤذية من شيء لقيه في حياته. وبهذه المرارة أطلق أحكاما قاطعة على "أسلاف" هذه الأمة، فهو يقول مثلا (التجديد ص: 59 وما بعدها): "إني إذ أقرن ما أطالعه من حكايات الخرافة الساذجة عند أسلافنا، وخصوصا في عصور ضعفهم، بما أسمعه بأذنى من حكايات الخرافة يرويها بعض رجال العلم فينا اليوم؛ تأخذنى الدهشة العميقة:

هل زاد هؤلاء الرجال الذين ظفروا في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية بأعلى الدرجات العلمية، على أولئك الأسلاف السذج شيئًا في درجة التصديق؟ هل زاد هؤلاء على أولئك شيئًا إلا صفحات من علوم "حفظوها" ليلقنوها لطلابهم تلقينا، لقاء الرواتب التي ينفقونها على مظاهر الحياة، فيبدون للأعين وكأنهم اختلفوا عن سائر العامة العوام في نظرتهم اللاعلمية إلى تسلسل الأحداث. . . فهل أقول إننا في حياتنا الثقافية ما زلنا في مرحلة السحر التي تعالج الأمور بغير أسبابها الطبيعية وإننا لولا علم الغرب وعلماؤه، لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيرا عن حياة الإنسان البدائى في بعض مراحلها الأولى". وبهذه المرارة أيضًا يصف جماهير الأمة العربية قديما بأنهم "دراويش بالوراثة"، ليسقط هذه الصفة على "جماهيرنا اليوم"، مشيرا إلى محنة يعيشها اليوم في حياتنا الثقافية والفكرية، بلا إبانة عما يقصد بذلك كله (التجديد ص: 163 وما بعدها). وتنتقل هذه السمة من الكتاب الأول إلى الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول ص: 185 - 187)، فإذا هو يتناول هؤلاء أنفسهم بالرمز الغامض، وذلك في الفصل الَّذي كتبه عن "إخوان الصفا"، يقول: "نمضى مع إخوان الصفا في حديثهم الممتع، الَّذي هو جدير بأن يذكر لمعاصرينا -لا أقول من عامة الناس- بل لمعاصرينا الأجلاء أساتذة الفلسفة في الجامعات، الذين شالوا الدنيا وحطوها من الغضب، حين ساير كاتب هذه الصفحات شعبة من الفلسفة المعاصرة. . . هكذا ربما صاح في وجهي أنصار "الجوانية" من أساتذة الفلسفة المعاصرين لنا في مصر بالذات. . . فإذا رأينا هذا، عجبنا أشد العجب من نفر من الزملاء؛ سواء منهم من جعل تدريس الفلسفة في الجامعات العربية حرفته؛ أو من اكتفى بثقافة عامة، سمعوا من مؤلف هذا الكتاب دفاعا عن موقف كهذا، فاتهمه بالكفر من اتهم، وبالجهل آخرون. .". كلام مر متفجر. وكنت أتمنى ألا تكون المرارة التي يجدها صديقي الكريم، مدعاة إلى مثل هذا الغموض في التعبير وفي الإشارة لأنى أرى البيان أولى بالعلماء من الكناية.

وأنا أخشى أن يكون صديقي إنما كتب هذين الكتابين بمرارة: للرد على هؤلاء الذين آذوه، لا للبحث الصادق عن طريق لتجديد الفكر العربي، وللبيان عن الجزء المعقول واللامعقول في تراثنا الفكرى، فهذا أيضًا موقف لا أحبه، لأنه عندي غير معقول! وكان أولى به عندي أن يصرح. ولقد أحس هو نفسه، بأن هذا الغموض مرغوب عنه، فإن حديثه الجميل عن "عبد القاهر الجرجانى"، أنَّه كان قد أبدى رأيا في النقد الأدبي، فهاجمه من هاجمه؛ قال: "فما هو إلا أن مرت على ذلك بضعة أعوام، واذا بعجيبة من عجائب الحياة الثقافية المعاصرة في مصر؛ تظهر في الأفق بلا حياء، وهي أن نسبت هذه الفكرة عينها، للرجل عينه الَّذي كان قد تصدى لكاتب هذه الصفحات أول الأمر بالمعارضة والمجادلة"، وهذا شيء قبيح بلا ريب وظلم مفزع ثم أدرك الدكتور زكي أن هذا الغموض في الإشارة لا داعى له، فلجأ إلى التصريح فقال: "ولماذا أخفي الأسماء؟ أنَّه الدكتور محمد مندور، ومات الدكتور مندور، ونهض له مناصرون يبرزون أهم ما استحدثه في النقد الأدبى، فإذا بينه فكرة "القراءتين" هذه: قراءة أولى للتذوق، وقراءة ثانية للتحليل والتعليل! ! "؛ ثم عقب على هذا بكلمات حزينة مؤلمة قال: "لكن ما فائدة الندم على لبن مسكوب! لنمض في طريقنا، طاوين الصدر على ضروب من العنت والإهمال لقيناها، ولم يعد لنا في هذه المرحلة من العمر أن نرد ونعترك؛ وإنما هي ذكرى أليمة تنزو". أي مرارة من الظلم أو أي حيف لقى في حياته! ومع ذلك كله فقد أحب له أن تكون مواقفه كلها كهذا الموقف من التصريح والإبانة عن مواطن الفساد في حياتنا الأدبية، بلا غموض وبلا رموز. وموقف ثالث، أعجبنى من ناحية، ولم يعجبنى من نواح أخرى. أعجبنى لأنه بعد قليل من التأمل يبدو واضحا جدا. لأنه موقف انحياز كامل من جميع نواحيه إلى ما يسميه "ثقافة الغرب"، كقوله آنفا: "لولا علم الغرب وعلماؤه؛ لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها"، ومواضع أخرى متفرقة، صرح فيها بهذا الانحياز التام. وهذا أمر مريح، ولا غضاضة عليه في التصريح به.

ولكن هذا فيه كل الغضاضة أن يقول في (المعقول واللامعقول: ص: 28): "وأنى لأقرر عن نفسي أنى حين هممت بهذه الرحلة (أي رحلة المسافر الغريب في أرض غريبة، كما يقول في ص: 10، 16) في دنيا تراثنا الفكرى، لم أجعل غايتى تقويم التراث، ومن أكون أنا حتَّى أجيز لنفسي مثل هذا التقويم، لتراث كان بالفعل أساسا لحضارة شهد لها التاريخ؟ لكني جعلت غايتى شيئًا آخر، أظن من حقى إذا أردته، وهو البحث في تراثنا الفكرى عما يجوز لعصرنا الحاضر أن يعيده إلى الحياة، ليكون بين مقومات عيشه، ومكونات وجهة نظره. وبهذا يرتبط الحاضر بذلك الجزء من الماضي الَّذي يصلح للدخول في النسيج الحي لعصرنا الَّذي يحتوينا راضين به أو مرغمين". ومع كل هذه الصراحة المحمودة، فقارئ الكتابين ينتهي إلى شيء واحد، هو أن كاتبهما لم يفعل شيئًا سوى أن نصب نفسه مقوما لجميع ما سماه "التراث"، رافضا لأكثره، قابلا لشيء قليل جدا منه. فهو يقول مثلا في (تجديد الفكر العربي: 294 - 299): "إني لأنظر فأرى سلسلة الخصائص التي يراد لها أن تقتلع من جذورها من تربتنا الثقافية، قبل أن يتاح لنا استنبات زرع جديد، إنما تترابط حلقاتها، فإذا سلمت بالأولى، كان لزاما أن تسلم بالثانية فالثالثة فالرابعة. وأولى هذه الحلقات، وأعمقها جذورا، وأكثرها فروعا، هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق؛ لين الواقع والمثال؛ بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول -هذه كلها ظلال من موقف واحد وحقيقة واحدة. ونظرة العربي في صميمها هي أن السماء قد أمرت، وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط، وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدى ثابت، وعلى الواقع أن يقسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا تعارضت الدنيا والآخرة؛ كانت الآخرة أحق بالاختيار؛ وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول. . . ." ثم يمضي في احتجاجه حتَّى يقول: "جذور ينبغي أن تقتلع من أصولها، إذا أردنا للمواطن العربي أن يولد من جديد، فإذا خلت التربة من هذه الشوائب، بذرنا بذورا أخرى لتُنْبِت نبتا آخر".

وهذا كله كلام محفوف بالغموض، وبالإشارات المبهمة لشيء مبهم، إنه هو نفس الأسلوب الَّذي اختاره الصديق الكريم: "اجتنابا لوجع الرأس والدماغ". وأنا لا أحب أن "أنزع معانيه من بين السطور". كما أمر، ولكن أقل التأمل يدل دلالة واضحة على أنَّه قد قوم "أصل التراث" كله تقويما لا مرية فيه، فوجده غير صالح. بل هو أيضًا مضر بالتربة، فقضى أن يقتلع من جذوره، لأنه "أعمقها جذورا، وأكثرها فروعًا"، وإذن: فما معنى تواضعه الخادع؛ حين استنكر أن يكون قد أجاز لنفسه تقويم التراث؟ هذا طريق محفوف بالخطر، وهو أيضًا موقف غير لائق. وموقف رابع: ذلك أن الدكتور زكي أستاذ متميز في الفلسفة، والمذهب الذي يتبعه مذهب قائم على تحليل الألفاظ والقضايا، وهو قد لقى العنت والظلم في سبيل مذهبه. وقد كان حريصا في مواضع من كتابه المذكورين أن يحلل بعض الألفاظ ويحددها على الوجه الَّذي يريده. من ذلك لفظ "العقل" (تجديد الفكر العربي: 308 وما بعدها)، فإنه قال: "وأول التوضيح أن نبين في جلاء ماذا نريد بقولنا "عقل"؟ فلا يجدينا شيئًا أن نقذف بهذه الكلمات المحورية قذفا، لنبنى عليها أقوالا على أقوال، كأنما هي من الوضوح بحيث لا يسأل عن تحديدها، مع أنَّه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟ ". فهذا التزام صريح بالمذهب. بل إنه في الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول: 159، 160)، كان أشد التزاما بالمذهب، فإنه تناول الجاحظ في فصل مهم جدا، أحسن في أكثره، فجعل يتنقل بنا من موضع إلى موضع في كتب الجاحظ: حتَّى انتهى إلى رسالته "في الجد والهزل". فاتفق أن جاء في هذه الرسالة معنى كان الدكتور زكي قد استعمل له نفس اللفظ الَّذي استعمله الجاحظ. وذلك أن صديقي الدكتور زكي كان قد شبه بعض الألفاظ التي يتداولها الناس "بالظرف الخالى"؛ وهي ألفاظ يظن الناس أنهم قد فهموا دلالتها، مع أنها إذا حللها الفيلسوف ليرى ما في جوفها، إذا هي فارغة. وكان الجاحظ قد ذكر أمر آدم عليه وعلى نبينا السلام،

وذكر قول الله تعالى: {وَعَلَمَ آدَمَ الأَسْمَاْءَ كُلَّهَا}، ثم قال الجاحظ في بيان ذلك: "ولا يجوز أن يعلمه الاسم ويدع المعنى، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه. والاسم بلا معنى لغو: كالظرف الخالى، والأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح، اللفظ للمعني بدن، والمعني للفظ روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معان، لكان كمن رهب شيئًا جامدا لا حركة فيه، وشيئا لا حِسَّ فيه، وشيئا لا منفعة عنده". فلما وقف صديقي على هذا الَّذي قاله الجاحظ، علق عليه تعليقًا ثائرا مثيرا؛ وملتزما بمذهبه، لأنه وجد ما يؤكده في كلام الجاحظ؛ فقال: "كان كاتب هذه الصفحات قد أخذته الحماسة المشتعلة ذات حين، معتقدا أن الناس عامة، والأمة العربية خاصة، قد ملأت لغتها بألفاظ لا تدل، وبأسماء لا تسمى، فكانت النتيجة أنهم كتبوا، وقالوا ثم قالوا: لكن حصيلة الفكر أضأل جدا من هذا الدوى الهائل الَّذي أحدثوه. ولقد أورد هذا الكاتب تشبيه "الظرف الخالي" في كتاب صدر له سنة 1953 وعنوانه: "خرافة الميتافيزيقا" فأقامت جماعة من الناس ظنت أن في جماجمها ثقافة، وكتب أحدهم، وقد ظن أن أعواما قضاها في أوربة قد زودته بالسلاح المرهف الَّذي يرد به على "الكفرة"، فكان أن علق هذا الرجل على التشبيه بعينه، ليبين للناس إلى أي حد ذهب الضلال بصاحب "خرافة الميتافيزيقا". . . مسكين أنت يا عثمان (¬1)، يا ابن بحر، يا جاحظ! لو كان حظك قد شدك من زمنك في القرن التاسع (يعني في القرن الثالث الهجرى) لتعيش مع المعاصرين لنا في القرن العشرين"! ! كلام مرير لاذع. وهذا؛ وإن كان يدخل في "الموقف الثاني" الَّذي لا يعجبنى، إلا أنَّه يدل على مقدار حرص الدكتور زكي على تحليل الألفاظ وتحديدها، وعلى التزامه بمذهبه الفلسفي، وما لقى في سبيل ذلك من الظلم المبرح. فبأي معنى يكون له ¬

_ (¬1) كذا بالأصول، الصواب: يا أبا عثمان.

كل هذا الحرص، وكل هذا الالتزام، ثم يدع قراء كتابيه في حيرة من أمر ألفاظ أخرى "محورية" كما يقول؟ . وهذه الألفاظ "المحورية" كثيرة في الكتابين، ولكن هناك ثلاثة ألفاظ يدور عليها ما في الكتابين جميعا؛ وهي أيضًا من أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة الناس في أيامنا هذه، وهي أيضًا ألفاظ محدثة، ينطبق عليها أشد الانطباق، ما قاله الدكتور آنفا "كأنما هي من الوضوح بحيث لا يسأل عن تحديدها، مع أنَّه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟ ". وهذه الألفاظ هي: "التراث" و"الثقافة" و"الحضارة" فلو التزم الدكتور زكي بمذهبه الفلسفي، لكان من حق قرائه عليه أن يعرفوا؛ على الأقل، ماذا يريد هو باستعمالها؟ لم يغب هذا عن الصديق الكريم، ولكنه أتى بشيء عجيب جدا في سبب إغفالها، فإنه أشار في (تجديد الفكر: 66) إلى أن في ذهنه معاني كلية، يريد التحدث عنها، كمعني "الثقافة" ومعني "التراث"، وقال: "فما أسهل أن أسوق ألفاظا كهذه بمعانيها المجردة الخالية من التفصيلات والعناصر" -ومع ذلك فلم يكلف نفسه مشقة تحديدها أو تحليلها، بل العجب العاجب أنَّه لما بلغ (ص: 69) ذكر "الثقافة" ثم قال: "إن سؤالا ليفرض علينا نفسه قبل هذا السؤال، وهو: ماذا تعني بالثقافة؟ ولقد طرح هذا السؤال؛ وتنوعت الإجابات عنه؛ حتَّى أصبح موضوعا تمجه النفس، ولذلك فلست أنوى الوقوف عنده لا طويلا ولا قصيرا، وسأترك للقارئ حرية كاملة في أن يفهم من الكلمة ما يشاء". كيف يكون هذا؟ وأي معنى إذن لالتزام المرء بمذهب فلسفي يقوم على تحليل الألفاظ والقضايا؟ وهل يصح أن يضرب الفيلسوف عرض الحائط بمذهبه، لأن تنوع الإجابات، جعل اللفظ أو القضية "موضوعا تمجه النفس": هذأ أمر غريب جدا. وهل تحل المشكلة، بأن يبيح الفيلسوف للقارئ أن يكون حرا حرية كاملة في أن يفهم من "الكلمة" ما يشاء؟ هذا هدم لأصول المذهب، وهو حرى أن يوقع القراء في التخبط والخلط؛ ولاسيما إذا كان "اللفظ" هو

المحور الَّذي يدور عليه كل ما في الكتابين. وأنا أنقل إليك مواضع منهما، تغير فيها معنى "الثقافة" تغيرا مبنيا. من ذلك قوله في (تجديد الفكر ص: 71): "فحياة الناس هي ثقافتهم، وثقافتهم هي حياتهم، لا حين ننسلخ عن الحياة، ليضطلع بها محترفون يطلقون على أنفسهم اسم: المثقفين". هذا معنى مبهم، ثم يقول بعد قليل في الكتاب نفسه (ص: 81). "لم تكن اللغة في ثقافة العرب، "أداة" للثقافة؛ بل كانت هي الثقافة نفسها"، فهذا معني ثان أشد غموضا وإبهاما من الأول. ثم يقول في الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول ص: 105)؛ عند ذكر مقتل أبي مسلم الخراساني، وما أعقب ذلك من أمر بعض الخوارج على الدولة كالراوندية، يقول: "لا يعقل أن يكون مقتل رجل كأبى مسلم الخراساني، مبررا كافيا لمثل تلك الردة إلى ديانات الفرس فيما قبل الإسلام، وبمثل تلك السرعة وذلك الاتساع (وهذه كلها مبالغات مضنية مع الأسف! ) مما يدل دلالة قوية على أن الإسلام لم يكن عند القوم أكثر من غطاء خارجى، أبعد ما يكون عن ثبات الجذور؛ فكانت تكفيه أقل هبة من هواء ليطير، فتنكشف العقائد الراسخة من تحته (وهذا أوغل في المبالغات المضنية أيضًا)، وإذا قلنا "العقائد"؛ فقد قلنا "الثقافة" أيضًا"، وهذا معنى ثالث غارق في الابهام والغموض. وهي ثلاث صور مختلفات لمعنى "الثقافة"، وفي الكتابين صور أخرى أعجب وأغرب! وأنا لا أدري لم هان على صديقي الدكتور زكي مذهبه الفلسفي الصارم، في مسألة "الثقافة" و"التراث" و"الحضارة"، على وجه الخصوص؟ ولا أدري ما معنى الحرية التي تركها لقارئه، حتَّى يقع في حيرة مضللة؛ وهو يتحسس المعاني التي يريدها بهذه الألفاظ؟ هذا موقف لا يرضى ولا يليق من رجل "حرفته هي الأستاذية في الفلسفة، والتي تقتضيه ألا يرسل القول إرسالا مهملا بغير تحديد" (المعقول واللامعقول ص: 30). وموقف خامس: وأنا كما ترى، لا أريد أن أناقش الدكتور زكي فيما قاله،

أو فيما انتهى إليه، في هذين الكتابين، فهو حر في أن يقول ما شاء، وأن يختار مما يسميه هو "ثقافة" أو "تراثا" ما شاء أيضا. ولقد شاء أن يجعل رحلته الأولى في "التراث"، في ميدان المعركة التي نشبت بين أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، وبين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - (المعقول واللامعقول ص: 29 وما بعدها). وأنا لا أريد هنا أن أصحح له وقائع التاريخ كما رواها في كتابه، ولا أريد أيضا أن أحجر عليه القول فيما اختاره، أو فيما انتهى إليه، أو في الطريقة التي عالج بها هذا المشهد الذي رآه. ولكن الشيء الذي لا أستطيع أن أغفل الإشارة إليه، لأنه واجب كل مفكر، هو الالتزام التام بالتحري والفحص، قبل مشيئة القول ومشيئة الاختيار. فهو قد اختار كتاب "نهج البلاغة"، ليتخذ ما فيه من الأقوال المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي ينبوعا يستخرج منه صورة للإمام على في القرن الأول من الهجرة، يقول: "ولننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة وفروسية وسياسة" (المعقول واللامعقول ص: 30). فإذا كان ذلك كذلك، أفليس من وسائل "العقل" أن يتثبت المرء من أن هذا الكلام المنسوب إلى علي - رضي الله عنه - هو كلامه، بلا ريب في ذلك؟ هل يختلف في مثل هذا عاقلان؟ لا، بلا ريب، وإذا كان الدكتور زكي، كما وصف نفسه: "بعيدا عن التخصص الدقيق الكامل في تراثنا العربي" (المعقول واللامعقول ص: 115)، ألم يكن أسلم له في طريقه أن يسأل، وأن يحاول أن يفكر على الأقل، حتى يتثبت من صحة نسبة ما في هذا الكتاب من الأقوال إلى علي - رضي الله عنه -؟ إنه إذا بطل أن يكون هذا الكلام صحيح النسبة إلى عليّ، كان استخراج صورة عليّ منه ضربا من العبث، لا أكثر ولا أقل. وكتاب "نهج البلاغة"، هو مجموع أقوال وخطب، جمعها الشريف الرضى المولود سنة 359 من الهجرة والمتوفى سنة 406 من الهجرة، أو جمعها أخوه الشريف المرتضى المولود سنة 355 من الهجرة والمتوفى سنة 430 من

الهجرة، ونسب ما فيه إلى أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، الذي توفي سنة 40 من الهجرة. ومعنى ذلك أن بين جمع هذه الأقوال وبين وفاة علي - رضي الله عنه - نحو أربعة قرون. وهذه الأقوال لم يروها الرضى أو أخوه المرتضى بإسناد متصل ينتهي إلى على فكيف نثق بهذه الرواية المرسلة بلا إسناد صحيح، مع هذه الدهور المتطاولة التي تفصل بين علي أمير المؤمنين، وبين جامع هذه الأقوال؟ وأنا أستطيع أن أؤكد لصديقي الكريم أن النظرة الأولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام، تقطع بأن كثرته الكاثرة لم تجر على لسان علي - رضي الله عنه - قط، وأنه، بعد الفحص الأول المدقق، لا يكاد يسلم منه لعلي - رضي الله عنه - إلا أقل من العشر. فإذا كانت النسخة التي طبعها الشيخ محمد عبده، تقع في نحو 400 صفحة، فلا يكاد يصح منها إلا أقل من أربعين صفحة. وهذا القدر المنسوب إلى على، يكاد يكون كله في السنوات الأخيرة من حياته، منذ بويع بالخلافة لخمس ليال بقين من ذي الحجة سنة 36 من الهجرة، إلى أن قتل - رضي الله عنه - لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة 40 من الهجرة، أي في أقل من أربع سنوات. وهذا أمر لا يكاد يصدق: أن يكون قيل كله في هذه الفترة القصيرة من الفتنة والاضطراب، وأن يكون الرواة قد استطاعوا أن يجيدوا روايته في هذه الفترة من الفتنة والاضطراب. هذا فضلا عما في الكتاب من أقوال لا يليق صدورها عن رجل مثل عليّ في دينه وعلمه وتقواه. ودليل آخر، فإن هذا الكتاب "نهج البلاغة"، فيه من غريب ألفاظ اللغة قدر كبير جدا، وقد أفرد علماء الأمة كتبا تسمى "كتب الغريب"، عنيت بتفسير غريب ما في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغريب ما روى عن كبار الصحابة. فمن ذلك مثلا كتاب "الغريب" لأبي عبيد القاسم بن سلام (توفي سنة 224 من الهجرة)، فإن شرح حديث أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، يقع في نحو مئتى صفحة من المطبوع، ويقع شرح حديث أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - في خمسين صفحة من المطبوع، أي أن حديث على فيه ربع حديث عمر، فإن صحت نسبة ما في "نهج البلاغة" إلى على، لكان شرح غريبه من اللغة، يقع في

أضعاف أضعاف ما روى عن عمر، على الأقل. ومعنى ذلك أن علماء الأمة الذين تتبعوا شواهد اللغة، قبل مولد الشريف الرضى أو أخيه المرتضى، لم يقفوا على هذا القدر المفرط الموجود في "نهج البلاغة". ولو كان تحت أيديهم مثل هذا القدر، لما أغفلوه البتة. وهناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين. وحسبى هنا أن أختم القول في "نهج البلاغة"، بذكر ما قاله الحافظ الذهبى (673 - 748 هـ)، حيث ذكر الشريف المرتضى فقال: "وهو المتهم بوضع كتاب "نهج البلاغة"، وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه "نهج البلاغة"، جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين، ففيه السّب الصراح والحطّ على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وفيه من التناقض، ومن الأشياء الركيكة، والعبارات التي من كان له معرفة بنفس القرشيين من الصحابة، وبنفس غيرهم من المتأخرين، جزم بأن أكثره باطل". وهذا أهون ما يقال في هذا الكتاب. فكتاب كهذا الكتاب، يدل صريح العقل والنظر، وصريح النقل والتثبت، على أنه كتاب قريب النسب، كان غير لائق بالدكتور زكي أن يتسرع إلى التقاطه، دون أن يفحصه، ويتحرى عنه، فيجعل ما فيه من كلام كثير الغثاثة، وقد كتب أكثره بعد دهور متطاولة، ممثلا لعلي بن أبي طالب وممثلا أيضا للقرن الأول من الهجرة، وهو القرن الذي يجمع أجلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ألوف، وليس على إلا واحدا منهم، وإن فاقهم بما فضله الله به وكرمه، من العلم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإغفال تحديد معنى "التراث" عند الدكتور، وترك التثبت من صحة الأقوال والأفعال المنسوبة إلى الرجال، ثم الإقدام مع ذلك على الأحكام القاطعة في المعاني والصور، موقف لا أرضاه لمفكر عريق متميز، كأخي الدكتور زكي، أراد أن يضع لنا منهجا، ويمهد لنا طريقا يفضى إلى الفصل والتمييز بين "المعقول واللامعقول في التراث العربي". وموقف سادس: وذلك أنى كنت دائم التخوف على أخي الدكتور زكي، وأنا أقرأ كتابيه، من أن تكون له أفكار أعدها إعدادا قبل قراءة "التراث"، وقبل

الغوص في "الثقافة"، فبجانب ما هو معروف به من سلامة النظر، ومن الأستاذية التي لا تنكر في الفلسفة. وهذا الذي خفته هو الذي وقع، ولولا ذلك لما كان معقولا أن يقول في (المعقول واللامعقول ص: 117) إنه يستند فيما يكتب "إلى انطباعات أحسستها، إذ كنت أقلب صفحات التراث، أكثر مما استندت إلى مقدمات موثوق بصحتها، لتنتج نتائج موثوقا بصدقها أيضًا". ولا أدري كيف يغيب عن الدكتور أن مرتكب هذا الطريق يسير على غرر، ويضيع وقته ووقت الناس في كتابة ما يكتب، وأن التزام مثل هذا الطريق يفضى بالكاتب إلى التسرع في فهم الكلام وفي الاستنباط منه، وإلى صرف الكلام عن وجهه الصحيح إلى الوجه الذي أعده إعدادا قبل القراءة، وإلى ترك التثبت من صحة النص الذي بين يديه، مع قدرته، لو تأنى إلى معرفة وجه الخطأ فيه، أو إلى ما دخله من تصحيف أو تحريف. مثال ذلك أنه يقرر تقريرا لا يشك هو في صحته، وبلا دليل يدل عليه، أن "الثقافة" العربية التي عاش بها العربي، تجعل له موقفا واحدا في الحياة: "وقفة من يجعل الثبات للسماء، والفناء للأرض. ففي السماء الأصول، وعلى الأرض الأشباح والظلال. أنها ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله. . . فإذا كانت هذه هي الصورة الكونية، فلابد أن تكون كذلك هي الصورة لحياة الإنسان في مجتمعه، فلصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يطيعوا. الكلمة عندنا لصاحب القوة، والقول النافذ لصاحب الجاه" (تجديد الفكر ص 294 - 296). وهذه الفكرة التي لا نجد دليلا واحدا يدل عليها، إنما هي فكرة ثابتة سابقة على قراءة "التراث"، وهي أيضا منتشرة في الكتابين جميعا. فلننظر الآن كيف طلب الدليل على صحتها من "التراث" في الكتابين جميعا. قال في (تجديد الفكر ص: 46 - 48). "لم يكن في ساحة الفكر عند الأسلوب حوار حر إلا في القليل النادر"، لماذا؟ يقول: لأننا "قوم على الفطرة، فأي عجب إذا سلكنا أنفسنا مع الفطرة فيما فطرها عليه فاطر السماء والأرض! ". وكيف كان ذلك؟ يقول: "قد ورد

في التراث أن من الكائنات ما لا يصلح إلا بأمير يؤمر عليه، وتلك هي -كما ورد في العقد الفريد: الناس، والفأر، والغرانيق، والكراكى، والنحل، والحشرات. . . كلها تأبى بحكم فطرتها أن يكون الأمر حوارا بين أفرادها، وتريده أوامر ونواهي وزواجر تهبط من الأعلى ليصدع بها الأسفل، وطوبى لمن كان لهم الأمر، ناسا كانوا أو حشرات". ولماذا كان ذلك كذلك يقول: "لأن الأمر والنهي -كما يقول الجاحظ- لذة أين منها الحواس .. فسرورك إذا كنت صاحب أمر أو نهي، سرور من طراز فريد، حين ينحدر أمر من شفتيك، فإذا هو نافذ، وحين توقع بخاتمك، فإذا الطاعة على الناس قد وجبت، بل، فإذا الحجة "العقلية" قد ألزمت كل ذي حجة. ولا تقل إنْ لم يَكُن في الأمر إلا بصمة الخاتم .. لا تقل ذلك، لأنك إنما تقوله لجهلك باللذة الكبرى .. إذا جلست من الناس مجلس الأمر والنهي، (اقرأ الحيوان للجاحظ 1: 205). إنه إذا نزلت الأوامر والنواهي من أهل الطوابق العليا إلى أهل الطوابق السفلى، ". . فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم (البداية والنهاية لابن كثير 1: 5) "، انتهى باختصار. ولأنى لم أنصب نفسي لمناقشة قضايا الكتابين، فإني سأصرف النظر عن موضوع "الفطرة"، وعن استدلاله بما جاء في "العقد الفريد": وعن الأسلوب الذي ساق فيه حكما غريبا عن "الأسلاف" وجعله شيئا مقررا مفروغا من صحته وسلامته. وإنما عملى هنا أن أنظر فيما نسبه إلى الجاحظ وإلى الحافظ ابن كثير، والكلام السالف الذي نقله عن الجاحظ، إنما هو استخراج وتأويل للفظ كلامه، جعله حجة مؤيدة للفكرة السابقة التي اعتقدها، وفسر كلامه على مقتضاها. ولكنه أتى بنص كلام الجاحظ في الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول ص: 168)، قال: "أأقول إنه خلق عربي متأصل -لا فرق بين أقدمين ومحدثين .. أن يتحكم بعضنا في رقاب بعض؟ .. إننا نسأل ههنا عن "العلة"، لأنه هو الوضع الشاذ الذي يتطلب التعليل، يقول الجاحظ: "أين تقع لذة درك الحواس، الذي هو

ملاقاة المطعم والمشرب، وملاقاة الصوت المطرب، واللون المونق، والملمسة اللينة، من السرور بنفاذ الأمر، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة، ويلزم من الحجة" (الحيوان 1: 205)، وأرجو أن يلاحظ القارئ معنى الجملة الأخيرة من هذه العبارة، جملة: ". . يلزم من الحجة" أن الحجة تكون ملزمة إذا وقعها صاحب الأمر والنهي فينا، وختم عليها بخاتمه، وليذهب إلى جهنم عقل يقيس إلزام الحجة بمقاييس منطقه، ليرى أين تكون المقدمات العقلية التي تلزم بالنتيجة"، انتهى، مع بعض الاختصار. ومرة أخرى أقول: إني لست بصدد المطالبة بالدليل على صحة ما جعله "خلقا عربيا متأصلا"، من تراث العرب وثقافتهم، ولكني أحب أن ألفت النظر إلى هذا الأسلوب المتوهج الثائر الفرح بما ظفر به في كلام الجاحظ، مما ظن أنه يؤيد فكرته السابقة عن "التراث العربي"، وإلى تكرار ما ظفر به في الكتابين جميعا. والسؤال الآن هو: هل أراد الجاحظ هذا المعنى الذي فهمه من عبارته؟ هل يصح في سياق نص كلام الجاحظ: أن الحجة العقلية في تراثنا تكون ملزمة للعقلاء من الناس، إذا وقعها صاحب السلطان، وختمها بخاتمه؟ هل هذا صحيح أن يكون الجاحظ قال ذلك أو عناه؟ وهذه الجملة التي قالها الجاحظ، مأخوذة من "كتاب الحيوان". في هذا الكتاب نشره وحققه الأستاذ عبد السلام هارون، وبذل فيه من الجهد قدرًا بالغًا. ومع ذلك فقد قال في مقدمة الكتاب ما نصه: "ليس يوجد في عصرنا من يستطيع أن يخرج هذا الكتاب مبرأ من العيب، سليما من التحريف"، وصدق فيما قال. ومن أجل ذلك تجده قد ألحق بكل جزء من أجزاء الكتاب، استدراكًا لما فاته، مما تجاوزه النظر، أو غمض الطريق إلى تصحيحه. وهذه الجملة التي نقلها الدكتور زكي، هي مما وقع فيه التحريف والتصحيف، بدلالة العقل، ثم بدلالة السياق، ثم بدلالة تاريخ هذه الأمة العربية، ومعلوم أن الجاحظ لم يكن ممن يلقى القول على عواهنه. فهو يتحدث عن كل صاحب سلطان في هذه الدنيا، في كل ملة من الملل، وفي كل زمان ومكان، وفي كل طائفة أو أمة،

وفي القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، وعما يجده صاحب كل سلطان من لذة خفية بنفاذ أمره في الناس -ويقول إن كل من ولى أمرًا من أمور الناس، فبحق هذه الولاية يأمر وينهى، (بلا غضاضة في ذلك على عربي أو أعجمي أو أوربى! ). وصار بهذه الولاية مستوجبا أن يطاع في الأمر والنهي، وإلا بطلت الولاية ولم يكن لها معنى، ولم يكن للناس حاجة إلى حاكم أو وال أو رئيس أو وزير. وبهذا الحق المفروغ من التسليم به في جميع أمم الدنيا منذ كانت إلى أن تنقضى مدتها، وجب على كل مرءوس أن يطيع رئيسه في الأمر والنهي، فلفظ "الطاعة". عند الجاحظ لا يزيد على هذا: أن ينفذ أمر الرئيس، وأمر الرئيس لا يكون صحيحا موجبا للطاعة إلا بتوقيعه على الأمر، وعبر الجاحظ عن ذلك فقال: "بما يوجب الخاتم من الطاعة". ويبقى الجزء الآخر بعد صدور الأمر والتوقيع، وهو "التنفيذ"، كما نقول اليوم. وهذا "التنفيذ" هو الذي عبر عنه بقوله: "ويلزم من الحجة"، كما جاءت في نسخ كتاب الحيوان، ولكن كلمة "الحجة" وقع فيها تحريف النساخ، لأن صوابها هو "الخدمة"، وصواب العبارة كلها إذا هو: "من السرور بنفاذ الأمر، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة، ويلزم من الخدمة". ولفظ "الخدمة"، بمعنى السعي في إنفاذ ما أمر به السلطان، أو صاحب الولاية، لفظ دائر في جميع كتب "التراث"، كما يسمونها، وهو يأتي في كل كتاب مقرونا بلفظ "الطاعة"، والجاحظ، والأمر لله وحده، جزء من "التراث"، يجرى كلامه على عادة أهل هذه اللغة، وعلى ما ألفته الأمة التي هو منها. والجاحظ أحرص من أن يقول أن "خاتم الولاة" يلزم الرعية التسليم لهم فيما سماه الدكتور "الحجة العقلية"، ولولا أن الدكتور زكي كان قد اعتقد في نفسه هذا الاعتقاد، بأن الأمة العربية يمكن أن توصف بأنها تسلم لولاة الأمر ما قالوا وأن أمرهم يصبح بتوقيع خاتمهم "حجة عقلية" يلزم الناس التسليم لها، ولو ناقض الأمر حجة العقل -لولا ذلك، لكان الدكتور خليقا أن ينتبه إلى موطن

التصحيف والتحريف في هذه الكلمة. والدليل على أنه يقرأ ما يقرأ، وهو قادر على النظر في وجوه التصحيف والتحريف في الكلام أنه نقل نصا عن كتاب "الخصائص" لابن جنى (1: 215)، وذلك في (المعقول واللامعقول ص: 236)، يقول فيه: "ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعيا جلفا، أو عبدا عسيفا، تنبو صورته، وتمج جملته" فتوقف عند قوله "جملته"، وكتب معلقا عليها: [ربما كان الصواب: خلقته]، ومع الأسف، فإني أقول أن الذي في "الخصائص" هو الصواب المحض، وأن التغيير الذي اقترحه لتصويب عبارة ابن جنى لا محل له. ولو لم يكن الدكتور قادرًا على النظر في النصوص وتصويبها، وأنه شديد العناية بالألفاظ الدالة على المعاني، لما كتب هذا التصويب. فكيف حرص على تصويب ما لا خطر له في بحثه، وكيف فاته ما كان خليقا أن يحرص على تصحيحه؟ لا شيء، إلا أنه فرح بكلمة تؤيد رأيه السابق فصرفه الفرح عن التأمل وتصحيح ما هو خطأ محض. هذه هي القضية في شأن نص الجاحظ -وبقيت القضية الأخرى في شأن نص ابن كثير، وهي قضية غريبة جدا؛ فإن الدكتور زكي نقل جملة من كلام الحافظ ابن كثير في سياق تدليله على أننا، نحن العرب، قوم على الفطرة، وأن الفطرة توجب علينا أن الكائنات كلها لا تصلح إلا بأمير يؤمر عليها، وحكم هذه الفطرة يوجب ألا يكون بيننا حوار، بل تريد أوامر ونواهي تهبط من الأعلى إلى الأسفل ليصدع بها، فإذا نزلت الأوامر من أهل الطوابق العليا إلى أهل الطوابق السفلى" .. فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد والنواهي بالتعظيم (البداية والنهاية لابن كثير 1: 5) فجعل الدكتور هذه الجملة حجة لتأييد رأيه في أنه "خلق عربي أصيل -لا فرق بين أقدمين ومحدَثين، أن يتحكم بعضنا في رقاب بعض". وحقيقة الأمر، هي أن هذه الجملة مقتطعة من مقدمة الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" حين ذكر منن الله على عباده، بأن "أرسل رسله إليهم"، وأنزل كتبه عليهم، مبينة حلاله وحرامه، وأخباره وأحكامه، وتفصيل

كل شيء في المبدأ أو المعاد إلى يوم القيامة، فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد؛ والنواهي بالتعظيم". وبين أن الحافظ يتحدث عن تصديق أخبار الله تعالى في كتابه، وعن أوامره سبحانه في كتابه؛ وعن نواهيه تعالى جده في كتابه القرآن العظيم. وهذا بمعزل عن توقيع سلطان أو أمير أو حاكم بخاتمه- ولا يمكن أن يقال إن التصديق بأخبار الله تعالى في كتابه، والانقياد والتعظيم لأوامره ونواهيه ينسحب على أوامر خليفة أو أمير أو صاحب سلطان أو عالم أيا كان. فإن في تراثنا أن عدى بن حاتم الطائيّ كان نصرانيا، فوفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب: فقال: يا عدي، اطرح هذا الوثن عن عنقك! قال عدى: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة. فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم"، فدل هذا على أن الانقياد والتسليم والتعظيم، إنما هي لله وحده، ولرسوله الذي أرسله بهذا الكتاب مبلغا له، ومبينا عنه، وأنه لا أحد بعد ذلك يجب علينا الانقياد والتسليم لأوامره، حتى يصح أمره "حجة عقلية" ملزمة إذا وقعها وختم عليها بخاتمه. هذا حق كلمة الحافظ ابن كثير، وهذا هو معناها، فنقل هذه القضية من طاعة الله؛ إلى طاعة البشر؛ أمر لا يعقل ولا يقال: ولا يصح نسبته إلى "التراث". إن صاحب "خرافة الميتافيزيقا"، وصاحب المذهب المعروف بالتدقيق في تحليل الألفاظ والقضايا، كان خليقا ألا ينقل هذه الجملة من معنى بعينه، إلى معنى آخر، لولا أنه فارق طريقه ومذهبه؛ ولجأ إلى الاستناد إلى "الانطباعات"، وإلى "مقدمات غير موثوق بصحتها، تنتج نتائج غير موثوق بصحتها أيضا"؛ كما قال عن نفسه. هذا موقف غريب جدا، وأغرب منه أن يكون طريقا إلى البحث عن "تجديد الفكر العربي"، وعن "تمييز المعقول واللامعقول في تراث العرب". وهذا هو

ما خفته عليه، وأنا أقرأ الكتابين: أن تكون له أفكار أعدها إعدادا قبل قراءة "التراث" وقبل الغوص في "ثقافة" العرب، فيحمله ذلك على أن يجانب ما هو معروف به من سلامة النظر؛ ودقة التحليل؛ ومن الأستاذية التي لا تنكر في الفلسفة. وفي الكتابين بعد ذلك مواقف كثيرة جدا، مردها إلى هذه الأفكار السابقة قبل القراءة، التي تلوى النظر عن الصواب، وتفسير النصوص على غير معناها. وقد اقتصرت على "المواقف" دون النظر في صحة قضايا الكتابين، ودون التحليل لهذه القضايا، لأنى أكره أن أناقش قضايا كتبت على أسلوب غامض غير مكشوف، يترك للقارئ أن "ينتزع المعاني من بين السطور"؛ فأنا أحب المكاشفة، ولا أرضى إلا المصارحة بالرأي، والاستقامة في التعبير. هكذا موقفي وموقف تراثى وثقافتى وحضارتى من تراث اليونان والغرب وثقافتهما وحضارتهما. وليس بين الحق والباطل، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين العلم والجهل، ولا بين الصواب والخطأ- من حاجز، إلا ترك الاستقامة، وإلا تغليب الهوى على العقل، وإلا مفارقة التثبت، وإلا إيثار السلامة على المعاناة.

في الطريق إلى حضارتنا

في الطريق إلى حضارتنا ألقيت في جامعة الملك عبد العزيز بجدة في يوم الأربعاء 23 ربيع الآخر سنة 1394/ 15 مايو سنة 1974 إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. لا أملك إلا الشكر الجزيل على هذه الدعوة التي جاءتني من جامعة الملك عبد العزيز، موجهة من صاحب المعالى وزير المعارف والرئيس الأعلى للجامعة الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ. وقد عشت أكثر من أربعين سنة في عزلة ضربتها على نفسي حتى استحكمت، وصارت كأنها طبيعة فطرت عليها، أنظر إلى العالم من حولى وأحس به من خلالها. فلما جاءتنى هذه الدعوة الكريمة أحدثت في إلفي الطويل لهذه العزلة انتقاضا ناسفا لما أبرمته السنون الطوال فتصدعت أسوار العزلة التي اخترتها ورضيتها لنفسي، تصدعت على غير توقع، فلم يخطر ببالى قط أن يدعونى أحد لأنى منذ هجرت الكتابة في المجلات والصحف أكثر من عشرين عاما، كنت قد وضعت اسمى في صندوق مغلق، لا يعرف ما فيه إلا عدد قليل من قدماء القراء. أما الأجيال الحديثة، فهي تمر عليه بلا مبالاة، ثم لا تجد ما يحفزها على الكشف عما يحتويه هذا الصندوق المغلق، والكاتب إذا وضع قلمه صدئ القلم، وإذا حجب اسمه عن القراء، نسى اسمه، وانطمس رسمه، ودخل في حيز الموتى، وإن كان يعد في الأحياء. فلما جاءتنى هذه الدعوة الكريمة، فكأنها فرضت عليَّ أن أجلو ما صدئ من قلمى، وأن أسترد لنفسي صورة أبدو فيها حيا بعد طول الرقاد في حيز الموتى من الماضين. . . وحب الحياة شهوة خفية في كل قلب، فإذا كان اللسان معبرا عن ظاهر الشكر لهذه الدعوة إلى الحياة فإن الباطن شكر لا يكاد ينتهي إلى غاية. ¬

_ (*) مجلة الثقافة، العدد العاشر - يولية 1974، ص 4 - 10

من العسير على أن أضمن هذه الدقائق القليلة، قدرا كافيا من الحديث عن أهم ما يدور في العالم العربي والإسلامي. فإن هذا العالم قد مضى عليه أكثر من قرن كامل وهو يموج بالحركة ويغلى بالفكر، حتى تجمعت في هذه السنوات الأخيرة دلائل كثيرة على أن هذا العالم لن يهدأ حتى يحتل مكانته التي يستحقها بتراثه العظيم، وبمساحته المترامية الأطراف، وبسكانه الذين يزيد عددهم على ثمانمئة مليون من البشر، وبما أودع الله في أرضه من الذخائر والكنوز، ما استغل منها وما لم يستغل بعد -ولا يستطيع أحد أن يغمض عينيه عن قوة عالمنا هذا مرة أخرى، بعد المعركة التي هزت قواعد العالم الآخر، العالم المتفوق الذي كان يستغل غفلتنا منذ أكثر من قرنين، استغلالا لا شرف فيه ولا أمانة ولا رحمة ولا إنسانية. ومع ذلك فواجبنا نحن اليوم أن نعلم علم اليقين أن هذه القوة التي فاجأت العالم وهزته هزا عنيفا، لم يكن مصدرها تفوقنا نحن بحضارتنا الموروثة، على هذا النوع الغريب من الحضارة الممثلة في القوى الحربية والصناعية والعلمية التي يمتلك زمامها العالم الذي نسميه عالم المستعمرين. بل كل الذي حدث هو أننا استطعنا أن نستفيد فائدة جليلة من حركة الصراع بين القوى الكبرى في عالم الاستعمار، فاشترينا بأموالنا السلاح المتفوق من إحدى القوتين العظيمتين في العالم، لنواجه به سلاحا متفوقا أيضا يستمده عدونا من القوة الأخرى، ثم بلغنا درجة كاملة من حسن الاستعداد للمعركة، ومن دقة التوقيت لساعة اللقاء. هذه واحدة. أما الأخرى فهي أننا استطعنا أيضا بالجرأة والاتحاد أن نحبس عن عالم الاستعمار أهم مصدر من مصادر قوته وتفوقه، أو على الأصح، أهم مصدر من المصادر التي يعتمد عليها تفوقه الحربى والصناعى، وهو النفط. ومنذ عهد غير بعيد لم يكن في قدرتنا أن نفعل هذا الذي فعلناه، ولا أغالى إذا قلت أنه كان يعد ضربا من الأحلام التي لا مكان لها في عالم الحقيقة. ورب قائل يقول، وهو صادق فيما يقول: إننا لم نصل إلى (شراء السلاح المتفوق) ولم نبلغ القدرة على (حبس النفظ) إلا بجهود متواصلة طويلة الأجل، بلغت غايتها من التدبير والحزم ومن الفكر والعزم، وبأسباب كثيرة من وسائل

المعرفة والعلم. وأقول: نعم، وصدقت ولكن ينبغي أن نكون على بينة من أن هذا القدر من الجهود، لا يستطيع أن يدفع حقائق مخيفة (ظاهرة) كل الظهور. أهمها أن العالم العربي الإسلامي والعالم الإفريقى والآسيوى اللذين يرتبطان به ارتباطا يكاد يكون ارتباطا عضويا، لا يعيش اليوم في حضارة متفوقة ينبع تفوقها من داخله، بل يعيش مستهلكا لإنتاج حضارة عدو متفوق، عدو ماكر يأخذ من هذا العالم بلا حساب، ويعطه بحساب دقيق مقتر لا يرحم، ولا يتعفف عن ارتكاب أخبث الجرائم في حق الإنسان وفي حق الإنسانية. نحن من أجل ذلك ينبغي أن نكون على حذر دائم اليقظة، حتى لا تغرر بنا هذه الجهود المتواصلة التي بذلناها حتى تطمس الحقيقة الظاهرة الأخرى، وهي أن (شراء السلاح المتفوق) يتوقف على أمرين: على مال متوافر، وعلى رغبة البائع في بيع هذا السلاح المتفوق. فإذا كان مالنا لا يفي بشرائه، أو كان يفي به إلى أجل محدود، ولكنه لا يضمن المدد المستمر الذي يعوض ما يستهلك منه في الحرب أو في الاستعداد لها، فإننا نكون عندئذ على شفا جُرف هار يفضى بنا إلى التمزق والضياع. فهذا خطر لا ينبغي لعاقل أن يسقطه من حسابه، ونحن إن شاء الله قادرون على حسابه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لأن المال مالنا وفي أيدينا القدرة على تدبيره وتصريفه. ولكن يبقى خطر آخر لا نستطيع أن نملكه قادرين عليه، وهو رغبة البائع الذي يبيعنا السلاح المتفوق، فهذه الرغبة متعلقة بمصالحه، ونابعة من إرادته، ونحن لا نستطيع أن نملك مصالحه إذا رأى هو أن بيعه السلاح لنا ضار بهذه المصالح، ولا نملك أيضا أن تستمر إرادته طبقا لما نريده نحن. فإذا علقنا حياتنا على إرادة لا نملكها، فقد وقعنا في براثن خطر لا يرحم، هو أن تكون إرادة بائع السلاح هي التي تملكنا وتملك مصيرنا، وتملك تدميرنا بين القبض والبسط في أي ساعة يشاء هو، ونحن عندئذ في قبضته بلا إرادة ولا مشيئة. أما (حبس النفط) وهو الذي هز العالم الاستعمارى هزة دكت كثيرا من قواعده، وأذهلته فترة طويلة، وأحدثت في خططه ومقاصده اضطرابا شديدا، فإنه قوة مخوفة، كان عالم الاستعمار يحاول جاهدا منذ سنين طويلة أن يثبط عزائمنا،

ويضرب على آذاننا وعلى أبصارنا غشاوة حتى لا نسمع دويها أو نبصر مدى ما هي قادرة على بلوغه، والأمر الذي لا شك فيه أننا قادرون على (حبس النفط) ما صحت عزائمنا على حبسه قهو قوة نملكها ولا تملكنا، ولكن ينبغي أن لا يغيب عنا أن حبس النفط وحده قوة سلبية من ناحية، وقوة ذات أثر إِيجابى من ناحية أخرى. قوة سلبية لأنها لا تنتج بمجردها إنتاجا صحيحا في حياتنا، وهي قوة ذات أثر إيجابى في عالم الاستعمار، لأنها توجب عليه أن يخفض من تفوقه الحربى والصناعى لأن عالم الاستعمار استغفلنا دهرا طويلا، يأخذ المقادير الوافرة من نفطنا بأبخس الأثمان، لكي يستخدمها في تصعيد هذا التفوق المذهل في أدوات الحرب وإنتاج الصناعة لبيع ذلك كله بأفحش الأثمان، وليعيش هو في رغد مترف لا نهاية له ولا لآثاره السيئة في الحضارة، وليتركنا نعيش في قيود من المهانة والضنك والاضطراب والتفكك، تحول بيننا وبين ما هو حق لنا في أن نمارس الحياة الصحيحة وأن نعطى العالم حضارة شريفة بريئة من آثام هذه الحضارة الباغية التي تريد أن تنفرد بالبقاء والخلود في عالم لا يضمن البقاء ولا الخلود للحضارات إذا هي ضلت الطريق السوى. وقد ضلت حضارة الاستعمار ضلالا بعيدا عن كل طريق سَويّ، وهي اليوم تبذل كل جهودها في اتقاء المصير المكتوب عليها بضلالها بيد أنها لن تستطيع ذلك، لأن داءها داء عضال، يعميها عن علاجه ودوائه ما هي فيه من التفوق ومن الغنى ومن السطوة ومن الترف الذي أصبح هدفا لجماهيرها لا تستطيع أن تتخلى عن طلبه طلبا ملحا لا ينقطع ولا يفتر. وعالم الاستعمار يعرف هذه الحقيقة معرفة واضحة، وهو يعيش أيامه الباقيات في خوف وفزع من هذا المصير المرهوب، المفضى إلى تقوضه ودماره. وهو يعرف أيضا أن الحضارة دول، يتداولها الجنس الإنساني مرة بعد مرة، وأقواما بعد أقوام، فما من حضارة بادت إلا قامت على أنقاضها حضارة أخرى جديدة الشباب، تملك أسباب التفوق والاستمرار. وهو يعلم أيضا علم اليقين، أن عالمنا العربي والإسلامي يرتبط به العالم الإفريقى والأسيوى ارتباطا عضويا، هو المؤهل

للقيام بأعباء تجديد عمارة الأرض، بحضارة متميزة بنقائها وبراءتها من الأدواء الكامنة التي أدت إلى تقوضه ودماره. وعالم الاستعمار عالم غير غافل، وهو متمكن كل التمكن من وضوح الرؤية، ومن تملك أسباب العمل ووسائله، فهو لا يتردد في سعيه سعيا حثيثا باستخدام أخبث الوسائل، إلى استبعاد شبح التقوض والدمار. فمن أفحش وسائله حرصه المتتابع البين حينا، والغامض حينا آخر على أن يخرب حياتنا وذلك بإدخال عناصر الفساد إلى عالمنا: بإفساد إرادتنا وإفساد عقولنا، وإفساد ثقافتنا، وإفساد ضمائرنا، وإفساد أذواقنا، وإفساد صورة ماضينا، وإفساد حاضرنا، أي بإفساد حياتنا كلها ليفسد مستقبلنا، ويحرص أيضًا على أن يوهمنا إيهاما مستمرا بأن مصيرنا مرتبط بمصيره، لكي يبلغ بنا حدا من العجز والتردد وتشتت القوى، يضمن له إطالة مدى بقائه غالبا متسلطا مسيطرا على هذا العالم كله بتفوقه الحربى والصناعى والعلمي. وإذا كنا قد استطعنا، في هذه الفترة الأخيرة، أن نحدث في فكر عالم الاستعمار رجة شديدة الدوى باقتدارنا على (شراء سلاح متفوق) وعلى (حبس النفط) فإن هذا غير مُغن على طول المدى، وهو غير مضمون ضمانا مستمرا، لأنه غير متعلق بإرادتنا تعلقا صحيحا من جميع الوجوه وأثره في حياتنا أثر موقوت بميقات. ونحن مكلفون تكليفا محتوما أن نصحح وضع السلاح والنفط تصحيحا يقوم على أساس لا يختل، نملكه ولا يملكنا. وذلك بأن نصبح قادرين، في عالمنا نحن، على صنع السلاح المتفوق، حتى لا يكون مصيرنا معلقا على إرادة بائع السلاح الذي يملك القبض والبسط في ساعة العسرة = وأيضا أن يتخطى نفطا كل السدود التي ضربت عليه لكي يظل في حياتنا سلعة فحسب، سلعة تدر المال الوفير علينا، دون أن تكون لنا قدرة على استخدامه في الوجوه التي يستخدمها فيه عالم الاستعمار، ومعنى ذلك أن نحاول بالعزم والحزم والقوة أن نحرج نفطنا من حيزه المضروب عليه، لكي يصبح عاملا إيجابيا منتجا، يتيح لنا التسلط على أسباب التفوق الصناعى والحربي معا. وهذا بلا ريب

هدف لا غنى لنا عنه، وينبغي أن يكون واضحا كل الوضوح في أفهامنا وفي نظرنا، وفي تخطيطنا، وأن تتعلق به إرادتنا تعلقا لا يتخلله عجز أو تردد. عالم الاستعمار يعلم علم اليقين أن عالمنا نحن، سوف ينتهي عاجلا أو آجلا إلى الإصرار على محاولة تحقيق هذا الهدف، فمن الغفلة أن نظن أنه سوف يتركنا اليوم نعمل بإرادة طليقة تكفل لنا بلوغ ما نريد. وهذه قضية واضحة، وإن كان بعض الصخب واللجاجة قد أخفى عنا كثيرا من معالمها البينة، وسوف تزيدها الأيام جلاء وبيانا. وإذن، فنحن نعيش اليوم في حومة الصراع، صراع لن يفتر ولن ينقطع. صراع إرادة كانت مغلولة اليدين زمنا طويلا، وقد آن لها أن تفض أغلالها بالحزم والعزم حتى تتحرر، وإرادة ظلت طليقة دهرا طويلا، ولكن دُولَة تاريخ الحضارات قاضية عليها أن تلحق بأخواتها من الحضارات التي بغت في الأرض وضلت الطريق المستقيم. وقد أَلِف كثير من الكتاب أن يعدوا هذا الصراع المستمر، صراعا بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية، أي بين الحضارة التي يتصور عالمنا أنه يمثلها، وبين الحضارة التي يمثلها اليوم عالم الاستعمار. ولكني لا أرتاب في أن وضع القضية في هذه الصورة خطأ بيَّن، ساقنا إليه قلة احتفالنا بتحديد معاني الألفاظ، وغفلتنا عن دلالاتها الصحيحة، وكل تهاون في تحديد معاني الألفاظ وفي تحديد دلالاتها، مؤد إلى تيه لا ينتهي الضلال في فيافيه. وليس من الحكمة ولا من العقل أن نعود أنفسنا وأبناءنا عادة مميتة قاتلة، وهي عادة التهاون في العمل أو في الفكر. وإذن فلا مناص لنا من أن نعرف على وجه التحديد معنى هذا اللفظ المألوف الذي نستعمله في غير مكانه. وكل ما نسميه (حضارة) مما تداولته أمم الأرض منذ أقدم الأزمان دال على أن (الحضارة) بناء متكامل، لا تستحقه أمة إلا بعد أن تجتاز مراحل كثيرة معقدة التركيب، حتى تنتهي إلى أن يكون لأهلها سلطان (كامل) على الفكر، وعلى العلم، وعلى عمارة الأرض، وعلى أسباب هذه العمارة من صناعة وتجارة، وعلى أسباب

كثيرة من القوة، ترغم سائر الأمم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة، وإذا صح هذا، وهو صحيح إن شاء الله، فالذي لا شك فيه أن عالمنا نحن اليوم ليس له سلطان (كامل) على هذه الأصول والشروط التي يستحق حائزها أن يسمى ما هو فيه (حضارة)، والذي لا شك فيه أيضا أن عالم الاستعمار الذي نصارعه، هو المستحق اليوم، والى أجل محدود، أن يسمى ما هو فيه (حضارة) لأنه يملك هذا السلطان على الفكر والعلم وعمارة الأرض وعلى الصناعة والتجارة وعلى أسباب قوة باغية ترغم العالم على أن يعترف له بالغلبة والسيادة. وإذن فمن المغالطة المعيبة أن نلهج نحن بوصف هذا الصراع الذي لا شك في أنه كائن ومستمر بأنه صراع بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية. ومن الضرر البالغ أن نظل في غيبوبه تحول بيننا وبين الفهم الصحيح لطبيعة هذا الصراع الذي لا خفاء فيه ولا لبس في أنه واقع ومستمر. وإذا كنت قد استطعت في هذه الألفاظ القليلة أن أوضح ما يكتنف قضية الصراع من الغموض الذي نتورط نحن فيه بسلامة نيتنا، والذي سعى عالم الاستعمار بأساليب مختلفة أن يجعلنا ننغمس في أمواجه المضطربة بمكره وبسوء نيته، فإني أعلم أنى قد أثرت بهذا الوضوح سؤالا ينبغي أن يردده كل من يسمع كلامي أو يقرؤه .. وهو سؤال لا مفر منه، ولا غنى عنه أيضا. يقول السائل: فخبرنا إذن، ما هي حقيقة هذا الصراع الذي يدور في عالمنا بيننا وبين عالم الاستعمار؟ وجواب هذا السؤال أمر "عسير" كل العسر. لأنه في زماننا هذا أصبح محتاجا إلى حيطة مضنية في إزالة كل لبس يخالط معنى (الحضارة) وفي تحديد حقيقتها تحديدا صارما في أذهان عالمنا هذا -وأصبح محتاجا أيضا إلى دقة بالغة في تفسير ما عنيته بقولي آنفا: (إن الحضارة بناء متكامل، لا تستحقه أمة إلا بعد أن تجتاز مراحل كثيرة معقدة التركيب) وسأحاول في جمل قليلة مفيدة، إن شاء الله أن أبلغ بالوضوح إلى مطلع ينير لنا الطريق. أما لفظ (الحضارة) فعسى أن أكون قد حددته تحديدا واضحا مجزئا حيث قلت: (إن الحضارة بناء متكامل،

يمكن أصحابه من أن يكون لهم سلطان (كامل) على الفكر والعلم وعمارة الأرض، وعلى الصناعة والتجارة وأسباب القوة التي ترغم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة. وهو على إيجازه واختصاره لا يحتاج إلا إلى استدراك ضرورى، وهو أن حضارة الأمة مرتبة لاحقة، لابد أن يسبقها أساس ترتبط به ارتباطا لا فكاك منه البتة. وبهذا الأساس تتميز حضارة من حضارة تميزا جوهريا وتتميز به غلبتها وسيادتها حتى يصح أن توصف بأنها حضارة شريفة كريمة، أو حضارة لئيمة المنبت خسيسة الأصل. وهذا الأساس هو الذي عنيته بقولي آنفا "إن الحضارة بناء متكامل لا تستحقه أمة إلا بعد أن تجتاز مراحل كثيرة معقدة التركيب". فأساس الحضارة هو هذه (المراحل الكثيرة المعقدة التركيب) وهذه المراحل هي الشيء الذي يحتاج إلى تفسير دقيق صحيح. وقد وقع أهل زماننا على اصطلاح سموا به هذه المراحل المعقدة وهو لفظ (الثقافة) وينبغي أن أكون واضح العبارة عند هذا الموضع لأنه هو منبع الخطر الذي لم نزل نعانيه في هذا القرن الأخير، وهو المدخل الخبيث إلى كل وسائل التدمير التي يُكاد بها لعالمنا هذا. فأول كل شيء، أجده لزما على أن أعيد ما قلته مرارا منذ حملت هذا القلم الذي طال صدأه بانقطاعى عن الكتابة، وهو وجوب الفصل فصلًا تاما بين (العلم) بمعناه الحديث وبين (الثقافة)، لأن العلم تراث إنساني ممتد من أقصى الجهود التي نعرف تاريخها إلى يوم الناس هذا، وإلى غدهم فيما يستقبل، ولكن الذي ينبغي أن نحذره فهو أن ندخل نحن أو أن نقبل من عدونا أن يدخل، على مفهوم "العلم" شيئا وهو عنه بمعزل، ومع ذلك فأنا لا يمكن أن أدعى أن هذا الفصل سهل يسير لأن التداخل بين (الثقافة) وبين (العلم) واقع لا شك فيه، ولكن أكثر فروع (العلم) يسهل فيها تميز هذا التداخل، وبعضها يحتاج إلى جهد -وصبر وتبصر، حتى يخلصها الدارس البصير شيئا فشيئا، لتصير علما خالصا يستحق أن يقال فيه أنه تراث إنساني مشترك دائم النمو، ودائم التغير أيضا، طبقا للمناهج التي يهتدى إليها العقل الإنساني وما يتبع ذلك من مناهج التطبيق التي تجعل العلم قادرا على المشاركة

في صياغة الحضارة في صورة أو في صور متحركة دائبة السعي إلى أهداف الإنسان في هذه الحياة. فإذا صار بينا هذا الفصل بين "العلم" الذي تسيطر عليه قوى (الحضارة) وبين المراحل المعقدة التركيب، والتي لا تقوم الحضارة إلا على أساس منها، وهي "الثقافة" فالذي لا شك فيه أن عالم الاستعمار إنما يدير الصراع كله بيننا وبينه على هذا الأساس الذي هو شرط ضرورى لقيام أية حضارة وهو الثقافة، وإذن فالصراع بيننا وبين عالم الاستعمار صراع بين "الثقافة العربية الإسلامية" وبين "الثقافة الأوربية المسيحية الوثنية"، هذه هي القضية على وجهها الصحيح. وسبب هذا الصراع وهدفه: هو الحيلولة بيننا ويين أن تتجدد "الثقافة العربية الإسلامية" حتى تصبح قادرة أو حتى نصبح نحن قادرين بها على أن نسير في الطريق الصحيح الذي يصل بنا إلى أن تكون ثقافتنا حاملة للقوة المتحركة التي تدفعنا إلى أول الطريق الذي تلتقى عنده "الثقافة" وحركتها الدافعة الدافقة، بالأسباب التي تجعلها قادرة على تملك السلطان الكامل على الفكر والعلم وعمارة الأرض، وعلى الصناعة والتجارة، وعلى القوة التي سيتاح لنا نحن أن نصنعها بأيدينا، فنرغم العالم على الاعتراف لنا بالغلبة والسيادة، أي بالأسباب التي تجعل (الحضارة) شيئا واقعا في حياتنا، أنشأناه نحن، وفي أيدينا الحق الكامل في إنمائها حتى تتفوق، ونحن وإن كنا لا نعيش اليوم في "حضارة عربية إسلامية" نمثلها تمثيلا صحيحا يكفل لنا أو يؤدى بنا إلى هذا السلطان، إلا أننا بلا شك ورثة لحضارة عربية إسلامية كانت فيما مضى تملك هذا السلطان، ونحن بلا شك أيضا ورثة لثقافة عربية إسلامية أصولها قائمة بصورة ما في عالمنا هذا، وفي قدرتنا أن نجلوها ونحييها ثم نحيى بها مرة أخرى ونضع بعد ذلك أقدامنا على الطريق إلى "حضارة عربية إسلامية" جديدة نستطيع أن نحققها للعالم، كما حققناها من قبل على هذه الأرض بلا ريب في ذلك. وشرط ذلك أن لا ندع لحظة أو خطرة تمر، إلا ونحن عاملون دائبون على تأسيس حياتنا على أصل محكم من فهم المراحل المعقدة التركيب، التي ينبغي أن نمر بها ونزيل الركام

والأنقاض والتراب الذي غطى على (ثقافتنا) حتى نملك ثقافتنا ونأخذها بقوة واقتدار، في هذه الفترة الحرجة التي تعانيها حضارة عالم الاستعمار في ساعة تقوضها ودمارها. وقبل كل شيء ينبغي علينا، ولاسيما ناشئتنا، أن نعرف تمام المعرفة أن الشعار الذي ترفعه الحضارة الغربية، وتلح على إذاعته وبثه في العالم كله، بادعائها أنها "حضارة عالمية" إنما هو شعار مزيف وغش فاضح، تريد أن تفرضه فرضا على العقول حتى تستسلم، وتنفذه إلى غيب الضمائر حتى تتخدر. وحقيقة الشعار، كما هو واضح في دنيانا، أنها حضارة خاصة بأقوام بأعيانهم، يرون أن لها الحق كل الحق في السيطرة على العالم، وإذلاله وترويضه واستغلاله لتطيل بناءها على الأرض. هذه هي الحقيقة المجردة من الزيف والغش. والحقيقة الأخرى أنها تريد أن تبيد (ثقافة) كل شعب من شعوب عالمنا هذا، لتحل محله قشورا مزيفة من ثقافتها هي، بشعار آخر يتولى إذاعته وبثه أصحاب دعوات خبيثة، بكثرة إلحاحهم على إقناع جماهير قرائنا وناشئتنا في عالمنا العربي الإسلامي وهو شعار (وحدة الثقافة الإنسانية). وتعريف (الثقافة) ليس سهلا ميسورا كما نتوهم عند أول النظر. لأن مفهوم الثقافة لا يتم إلا بعد مراحل متداخلة متطاولة الأزمان، يقطعها الشعب بين مئات من فترات الارتفاع والانخفاض والتقدم والتأخر والحركة والسكون، والوضوح والغموض وهو في خلال ذلك يجيش ويتجمع حتى يتحقق له أسلوب حياة مركب شديد التعقيد يكاد يستعصى على التحليل الصحيح الواضح لمقوماته المميزة، التي ترى، ولكن لا يحيط بها الوصف إحاطة كاملة. وأضرب مثلا قريبا. فأنت ترى رجلا بعينه، فتعرفه وتميزه، ولكنك إذا أردت أن تصفه لصديق لك لم يره قط من قبل، فإنك لا تستطيع أن تبلغ بالألفاظ التي تصف بها ملامح وجهه وحدها إلى درجة تجعل هذا الصديق قادرا على معرفة هذا الرجل إذا رآه في مكان ما، فيقول: هذا هو الرجل بعينه، الذي وصف لي. ولكنك إذا زدت مع وصف ملامح الوجه صفة بعض الأشياء المميزة لحركته في مشيته مثلا، ولون

ثيابه، وما يحمله في يده، وما شئت من أمثال هذه المميزات، كان خليقا أن يعرفه لأول وهلة يراه فيها: هذا مثل أردت به تقريب تصوير هذه الصعوبة في الحديث عن (الثقافة). ولفظ الثقافة مستحدث في لغتنا، بل في لغات العالم أجمع، وقد وقع الاختلاف في تحديدها وتعريفها حتى صار اختلافا يخرج من النقيض إلى النقيض، وكأنها ليست لفظا قابلا للتحديد والتعريف. بل رمزا غامضا لحركة دائمة في حياة كل شعب، في أحواله المختلفة، في حالة تفجره وغليانه حتى يصبح مؤسسا لحضارة في طريقها إلى العمل والتميز والتفوق، أو في حالة سكونه حين يصبح وارثا لحضارة قد فقدت قدرتها على العمل والتميز والتفوق. وهذه الحالة الأخيرة، هي الحالة التي تكون فيها ثقافة الشعب قد تفككت بتفكك أفراد الشعب في أنفسهم وما يتبع ذلك من تفكك المجتمع المكون من هؤلاء الأفراد. ومع كثرة الاختلاف في تحديد لفظ (الثقافة) في زماننا فنحن نجد أنهم يحاولون أن يضعوا مميزات تميز ثقافة شعب من ثقافة شعب آخر، وتكاد تنحصر هذه المميزات في (العقائد) و (الأخلاق) و (العادات) و (التقاليد) و (الأفكار) و (اللغة) ولا شك في صحة هذه المميزات من ناحية النظر المجرد، ولكنها مميزات مبعثرة. وقد أراد بعض الغربيين أن يجمعها في سياق واحد فقال: إن ثقافة الشعب ودين الشعب، مظهران مختلفان لشيء واحد لأن الثقافة في جوهرها تجسيد لدين الشعب. وقال أيضا: (إن السير إلى الإيمان الديني عن طريق الاجتذاب الثقافي ظاهرة طبيعية مقبولة)، وهو تعبير صحيح في جوهره يجمع هذه المميزات المبعثرة في إطار واحد، ويجعل تمييز ثقافة من ثقافة واضحا من خلال النظر في أصول التدين الذي هو فطرة في طبيعة الإنسان حامل الثقافة ومؤديها إلى من بعده. ومع ذلك فإني أحب أن أوضح هذا بعبارة أخرى فأقول إن ثقافة كل شعب هي تراثه البعيد الجذور في تاريخه المنحدر مع أجياله ينقله خلف عن سلف. وهذا التراث مكون من أفكار ومبادئ يحملها أفراد الشعب على اختلاف طبقاتهم

وطبائعهم، في زمن ما من حياتهم، ومن تطبيق هذه الأفكار والمبادئ حتى تصبح أسلوبا لحياة المجتمع المكون من هؤلاء الأفراد. ولم أرد بهذا تعريف الثقافة ولكني أردت تحديد حركتها في جيل بعينه يعيش زمنا محدودا وفي خلال هذا الزمن نفسه تكون حركة الثقافة دائمة التغير في تطبيق الأفكار والمبادئ، وينشأ في أحضان هذا الجيل جيل آخر من أبنائه يتلقى عن الأفراد وعن المجتمع، فيتأثر بما تلقى، ولكنه لا يزال ينمو وتنمو معه أفكار أخرى تزيد أفكار الجيل السابق غنى أو تعدلها، أو تنقص منها، أي أنه يجدد أسلوب حياة مجتمعه فيصير مجتمعا ثانيا يمثل مجتمع الآباء من وجوه، ويعطى مجتمعه هو لمحة جديدة تميزه بعض التمييز عن مجتمع الآباء. وهكذا دواليك على طول امتداد حياة هذا الشعب. ورحم الله عمر بن الخطاب ورضى عنه. فإن هذا العبقري الدقيق النظر قال فيما قال: (الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم) -وهذه من جوامع الكلم التي جرت على لسان هذا العبقري - رضي الله عنه - وضمنها تجربته هو التي مر بها: فإنه حين انتقل من الجاهلية إلى الإسلام في صدر شبابه، مارس هذا التحول الثقافي في نفسه ثم مد الله عمره حتى ولى الخلافة، ورأى ناشئة جديدة من أبناء الصحابة لم تشهد الجاهلية (أي لم تشهد ثقافة المجتمع الجاهلي الصرف) ولكنها نشأت في مجتمع مسلم جل أفراده قد انتقلوا من ثقافة الجاهلية إلى ثقافة الإسلام، ثم رأى هذه الناشئة التي تلقت عنهم وتأثرت بهم، وهي تتحرك وتنمو وتطبق أفكار الإسلام الحي، لتنشيء مجتمعا جديدا وارثًا لمجتمع الصحابة ورآه وهو يتميز من مجتمع الصحابة بعض التميز، لكي يتهيأ بحركته وفورانه واندفاعه إلى إنشاء حضارة جديدة في أرض العرب وسائر الشعوب التي دانت يومئذ بالإسلام ودخلت دخولا تاما في ثقافته، حضارة جديدة سوف تسود بعد قليل وتملك السلطان المطلق على الفكر وعلى العلم وعلى عمارة الأرض، وعلى الصناعة والتجارة وعلى أسباب القوة التي سوف ترغم العالم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة. وهكذا كان. فهذه الكلمة التي قالها عمر، من أروع الكلمات

الدالة على عمق النظر وبعده في حركة دين الإسلام في نشأته، ثم في انتشاره، ثم في تحقيقه عن طريق ثقافته، حضارة نسميها اليوم (الحضارة الإسلامية): بمفهومها التاريخي الواسع المتراحب. ولعل هذا الاستطراد البسيط قد كشف شيئا من فكرة المفكر الغربي الذي قال: (إن ثقافة الشعب ودين الشعب مظهران لشيء واحد، وإن الثفاقة في جوهرها تجسيد لدين الشعب). ودين الإسلام يزيد هذه الفكرة وضوحا وجلاء لأنه هو الدين الوحيد في هذه الدنيا الذي يشتمل على جميع الأصول التي تقوم الثقافات الإنسانية على بعضها دون جميعها، فإن الله تعالى جده أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، على اختلاف قبائلهم وشعوبهم، وعلى اختلاف ألسنتهم وألوانهم وهيأ للجنس البشري كله أن ينتقل به من فوضى الملل والعقائد والعادات والتقاليد، أي من فوضى الثقافات، إلى ثقافة هي في جوهرها قابلة لتصفية سائر الثقافات القديمة، ثم احتوائها لتكون ثقافة متعددة الوجوه على غير اختلاف في الأصول. ومعنى ذلك أن الله تعالى قد ضمن كتابه الذي جاء للناس كافة، أصولا جامعة للعناصر الحية التي تقوم عليها ثقافات البشر المختلفة، من عهد أبينا آدم -عليه السلام- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وضمن هذا الكتاب، وضمن الحكمة التي هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميع الأسباب التي تحرك "الثقافة" وتعدها للنمو المتجدد الذي يتيح لها إنشاء الحضارة المتميزة الشاملة. وذلك أن أن الله جلا جلاله قد اصطفي لكلامه سبحانه اللسان العربي المبين، فأنزل به كتابا عربيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلام الله، وهو القرآن، واصطفي من البشر نبيا عربي اللسان فأنزل على قلبه هذا الكتاب وآتى هذا النبي العربي الحكمة المبينة عما أجمله القرآن، وآتاه جوامع الكلم التي هي حديثه وسنته - صلى الله عليه وسلم -. واختار لتحقيق هذه الأصول التي اشتمل عليها كتابه واشتملت عليها سنة رسوله، مجتمعًا عربيًا مستخلصا مستصفى من المجتمع العربي الجاهلي وهم -أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، ثم وصفهم سبحانه في محكم كتابه

فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، فحدد بذلك مكانهم في معترك ثقافات العالم التي عاصرته أو سبقته، ثم وصف عملهم في تصفية الثقافات كلها بقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}. وكانت هذه الأمة العربية الجاهلية أمة ذات ثقافة منحدرة من عهد أبيهم إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام-، وما كان إبراهيم ولا ولده إسماعيل يهوديًا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، أي أن الحنيفية التي طبقها أبناء إبراهيم وإسماعيل قرونا طوالا وتداولها التغيير والتبدل حتى انتهت الى العصر الجاهلي الذي أظله الإسلام، كانت قد صارت تراثا ثقافيا لهذا المجتمع الجاهلي يعبر عنه أسلوب حياته عند نزول القرآن. فجاء الله بالإسلام لينفي من هذا التراث الحنيفي كل ما دخله من الفساد والتغير على تطاول القرون، وليتم مكارم أخلاق هذا المجتمع الجاهلي الوارث للثقافة الحنيفية، وليحمل هذا الجيل الذي اصطفاه من جيل الجاهلية أمانة حمل هذا الكتاب بقوة، وأمانة حمل السنة باقتدار وفهم، وأمانة تطبيقه في مجتمع جديد، وأمانة تبليغه ذلك كله لأبنائهم ولسائر من يدين به من البشر من غيرهم، ليحملوه أيضا ويبلغوه ويطبقوه في مجتمع متجدد تتسع رقعته، وتتجدد حاجاته زمانا بعد زمان. وهذا الدين قد انفرد بخصائص لم تكن قط في ملة سبقته، باشتماله على تفاصيل كل ما يحتاج إليه الجنس البشري في كل عصر وزمان، لم يقتصر على العقائد والعبادات وحدها، بل اشتمل على كل صغيرة وكبيرة في حياة الفرد الخاصة، وعلى آدابه في معاشرة الأهل والولد والعشرة والزوج والصديق والقريب والبعيد، وفي جميع معاملاته الخاصة والعامة واشتملت على أصول ما يحتاج إليه في تشريعه واقتصاده وسياسته وعلمه وفلسفته، وحروبه وجهاده، وعلى أصول حياة الجماعة وعلى روابط هذه الجماعة بسائر الجماعات التي تجاورها أو تهادنها أو تحاربها، لكل شيء من ذلك هدى هو نص في الكتاب والسنة، وهدى هو

دليل عقلي للاستنباط من الكتاب والسنة، مع تجدد حاجة كل مجتمع إلى هدى يهتدى به، حتى لا يخرج عن الطريق السوى الذي اختاره الله لعباده الذين أسلموا له وآمنوا به وبرسوله ثم لم يرتابوا. إن الله سبحانه قد جاءهم بالدين الجامع الذي فيه صلاح أمر الدنيا وصلاح أمر الآخرة. ومعنى هذا أن دين الإسلام قد ضمن لكل شعب يدين به عناصر جامعة شاملة للحياة الإنسانية، تتضمن أصولا جامعة في الكتاب والسنة يجب عليه أن يتحرى أفراده العمل بها في ذوات أنفسهم، ويجب عليه أيضا أن يطبقها في مجتمعه، ويجب عليه أيضا أن يلتمس لكل ما يجد في حياته ومعاملاته هديا مستنبطا من الكتاب والسنة، ويجب عليه أيضا أن يلتمس فيها ضوابط تصحح طريق آدابه وعلومه وفنونه وأفكاره ومعارفه. وكذلك ترى أن ثقافة كل أمة مسلمة هي دينها بهذا المعني الجامع لحقيقة هذا الدين الذي انفرد عن سائر الملل بخصائص لم تشاركه فيها ملة من قبل. ولكن هذا الأمر كله لم يترك سدى، يتناوله كل من دان بهذا الدين على اختلاف شعوبهم وألسنتهم، بلا ضابط يضبطه، كلا فإن كتاب هذا الدين هو كلام الله الذي لا يتبدل في نصه حرف واحد، والسنة المبينة لجمله بجوامع الكلم، هي كلام رسوله الذي لا ينطق عن الهوى. بل هو وحي يوحى وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أوتيت الكتاب ومثله معه)، فهما بمنزلة واحدة في وجوب الطاعة لهما، والعمل بهما والاحتكام إليهما عند اختلاف المختلفين. وكلاهما جاء بلسان عربي مبين، فمن آمن بهما وبما جاء به، فهو يعلم علم ضرورة أنه لا مفر له من أن يكون متقيدًا بلفظ كلام الله سبحانه ومتقيدا بلفظ حديث رسوله - صلى الله عليه وسلم -، في طلب الهدى منهما، وفي استنباط المعاني والأفكار والمبادئ والأحكام من كليهما، وفي الاحتكام إلى نفس ألفاظهما عند الاختلاف، كل ذلك واجب في كل زمان ومكان. وإذن فاللغة التي نزل بها كلام الله وجاء بها حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الأصل الأول الذي لا يمكن أن ينفصل عن ديننا ولا عن ثقافتنا، وعن طريقها

وحده، يستطيع الفرد المسلم، من أي جنس كان، أن يتخذ من الأصول الجامعة في هذا الدين نبراسا لنمو الأفكار والمبادئ عن طريق النظر والاستنباط من نصوص هدى الكتاب والسنة، وعن طريقها أيضا يتم الاحتكام إِلى الكتاب والسنة عند اختلاف العقول في نظرها واستنباطها، وعن طريقها أيضا نستطيع أن نخلص الثقافة العربية الإسلامية التي نحن ورثتها من كل ما شابها أو خالطها، ونجلوها ونحييها ونحيى بها ونجدد ونتجدد بها، ولا طريق لنا غير هذه اللغة المذهلة التي نحن ورثتها، فإن لم نفعل، وإن لم نعرف طريقنا إِلى إِحياء هذه اللغة في قلوبنا وألسنتنا وحواضرنا وبوادينا ولهوتنا ومدارسنا، فإن أقدامنا ستقودنا إلى طريق مهلكة وضياع. وقد أبان الإمام الشافعي -رحمه الله- عن هذا المعنى أحسن إبانة، فيما رواه الخطيب البغدادي عنه في كتاب (الفقيه والمتفقه) قال: (لا يحل لأحد أن يفتى في دين الله، إِلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن = ويكون بصيرا باللغة، بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه منه للسنة والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفا (أي مطلعا) على اختلاف أهل الأمصار = وتكون له بعد هذا قريحة. فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتى في الحلال والحرام. وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتى). ولا تحسبن أن هذا الكلام البارع الذي قاله الإمام الشافعي قاصر على الفتيا في الحلال والحرام، بل هو خاص يراد به العام، كما يقول الأصوليون، فالذي قاله شرط لازم لكل ناظر في كتاب الله وسنة رسوله ولكل مهتد بهديهما، فقيها كان أو فيلسوفا، أو متكلما، أو أدبيا، أو كاتبا أو مؤرخا، أو داعيا أو واعظا، أو ما شئت من العلوم والفنون التي تجمعها (ثقافة) أو (حضارة). واللغة والشعر -اللذان ذكرهما. الشافعي، وجعلها شرطا للناظر المتكلم في كتاب الله وسنة رسوله، هي لغة العرب الجاهليين الذين تحداهم القرآن بلفظه،

وفوض إليهم الحكم على أنه كلام مفارق لكلام البشر بهذا اللفظ العربي المبين، وإن هذه المفارقة التي فوض إليهم الحكم بها ظاهرة في لفظ القرآن، وجعل هذه المفارقة هي القاضية عليه بأن يقولوا أنه (كلام الله سبحانه) لا كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهي القاضية عليهم بأن يعلموا أنه معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يؤمن أحدهم حتى يقر بأن القرآن هو كلام الله المنزل من عنده وأن مبلغ هذا القرآن نبى مرسل أرسله إليهم بلسانهم وجعل هذا شرط الإيمان بالله وبرسوله ولم يجعل سائر معجزاته التي أوتيها كما أوتيها الأنبياء من قبله شرطا للتسليم بأن هذا الرجل نبى مرسل، - صلى الله عليه وسلم -. والشعر الذي جعل الشافعي البصر به شرطا أيضا للناظر والمتكلم في كتاب الله وسنة رسوله، هو شعر هذه الجاهلية التي اختار الله من رجالها صفوة آمنت لتحمل أمانة هذا الدين بلسانه العربي المبين لا على معنى المعرفة به بل على معنى البصر النافذ في إدراك وجوه الشعر المختلفة، لأن الشعر هو محصلة البيان الإنساني الذي مَنَّ الله به على الإنسان فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} فجمع سبحانه (القرآن) و (البيان) في سياق واحد لأن بيان القرآن هو المعجز لبيان الإنسان، ومجرد التحدى ببيان القرآن، دال على أن هذه الجاهلية التي أظلها الإسلام قد بلغت أقصى حدود القدرة الإنسانية على البيان، ولذلك فوض الله إليها أن تكون هي الحكم على أن بيان القرآن مفارق لبيان البشر، وأنه معجز للخلق جميعا على اختلاف ألسنتهم واختلاف القدر المكنونة في طبائعهم في الإبانة عن أنفسهم، في كل زمان ومكان. وإذن، فهذه اللغة الشريفة النبيلة التي كرمها الله بكلامه المنزل من فوق سبعة أرقعة هي بلا ريب حاملة ديننا، وحاملة ميراثنا من ثقافة الأمة الإسلامية وحضارتها على امتداد أربعة عشر قرنا، وهي اللغة التي ينبغي أن نجدد حياتها، ونحييها على ألسنتنا وأقلامنا بلا هوادة في ذلك ونمحو بها أمية الشعوب العربية والإسلامية، ونرفع بها غشاء الجهل عن جماهير الأمة المسلمة، لكي نستطيع أن نصفي بنقائها وصفائها ميراث ثقافتنا السالفة وحضارتنا الغابرة، ولكي نستطيع أن نجدد ثقافتنا مرة أخرى في زماننا، حتى نجتاز المرحلة الصعبة المرهقة العنيفة التي ينبغي

أن نقطعها حتى نبلغ الحد الفاصل بين الثقافة والحضارة، وتتمكن مرة أخرى من أن تسيطر بسلطانها على الفكر والعلم، وعلى هداية الأمم، وعلى عمارة الأرض وعلى الصناعة والتجارة، وعلى كل أسباب القوة التي ترغم العالم مرة أخرى على أن يعترف لنا بحضارة مجددة شريفة لها الغلبة والسيادة، بلا بغى ولا عدوان ولا إذلال ولا ابتزاز ولا مهانة ولا تحقير لمن يجاورنا أو يعايشنا أو يهادننا أو يعادينا. والصراع الدائر اليوم بين الثقافة العربية الإسلامية التي نحن ورثتها وبين الثقافة الغربية المسيحية قد جمع أكبر همته في ميدان اللغة لأنه يعرف هذه الحقيقة التي بينتها، فبدأ دعوة هذه الأمم العربية المتفرقة إلى اتخاذ العامية الإقليمية لغة سائدة في كل إقليم عربي لكي يحطم هذا الأصل الحامل لثقافتنا وديننا، وليزيد في تمزيق حياتنا وتدميرها، وبلغ دعاته بعض مأربهم. ولا يتسع الوقت لبيان حقائق هذه المعركة، ولكني أذكر لكم أن كاتبا مسيحيا (¬1) كتب منذ سنوات يتمنى أن يرى عاملا عسكريا سياسيا يفرض اللغة العامية على العرب، ثم قرأت لكتاب عرب مسلمين كلاما يطالبون فيه بإسقاط اللغة الفصحى. فهذا نذير، من نذر، بأن قيام "العامل العسكري السياسي" الذي يرجوه الكاتب المسيحي ليس بالأمر البعيد. هذه النذر المخيفة التي أحببت أن أختم بها كلمتى، تدل على جزء من هذا الصراع المر بين ثقافتنا وثقافة عالم الاستعمار (¬2)، يوجب علينا جميعا أن نعيد النظر في أساس التعليم كله من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة، كما فعلت كل أمم الحضارة الحديثة وكما فعلت كل الحضارات السالفة، لكي نجدد حياة هذه اللغة الحاملة لتراث ثقافتنا العربية الإسلامية والتي لا نستطيع بغيرها أن نجدد ثقافة عربية إسلامية تقطع الطريق إلى حضارة عربية إسلامية متجددة. ومعنى ذلك أن ¬

_ (¬1) هذا الكاتب -الذي لم يفصح الأستاذ -رحمه الله- عن اسمه- أظن ظنا أشبه باليقين أنه سلامة موسى. (¬2) انظر مزيدا من تصوير هذا الصراع في كتاب "أباطيل وأسمار".

تكون هذه العربية الشريفة لغة العلم والفكر بلا تردد في ذلك، وعلى المثقفين اليوم منا أن يلتزموا بجعلها لغة الدراسة في كل فرع من فروع المعرفة، مهما لاقوا من صعوبات في سبيل ذلك. وكلما عظم التحدى عظم الحافز، وطلب السهولة والتخفف من الأعباء أكبر عدو مهلك للثقافات وللحضارات. هذه مهمتكم، فخذوها بقوة، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واعلموا أن الذي حققناه مرة، نحن قادرون على تحقيقه مرة أخرى بإذن الله. واللهم أنا نبرأ إليك من كل حول وقوة، فأعنا بحولك وقوتك.

الأندلس تاريخ اسم وتطوره

تعقيبات أدبية ولغوية الأندلس تاريخ اسم وتطوره كتب الدكتور الطاهر أحمد مكي في عدد الثقافة (22 - يوليه 1975)، كلمة جيدة عن "الأندلس: تاريخ اسمه وتطوره"، ذكر فيها أن الباحثين المحدثين من العرب، يرون أن اسم "الأندلس"، قد أخذه العرب من كلمة (Vandalos) وهم "الوندال" وأن كتابتها بالجرمانية (Wandal) وجمعها (Wandalos) وأن الحرف الأول منها وهو (W) ينطق بما يشبه الواو في اللغة العربية، فيكون نطق هذا الجمع بالعربية "وندلس"، ثم قال: وانقلاب الواو همزة لا تعرفه اللغة العربية أبدا، ثم عقب على ذلك بقوله: "إن تصور أن يكون لفظ Wandalos قد أخذ طريقه إلى اللغة العربية مباشرة، أمر بعيد الاحتمال". فمن أجل ذلك، بحث لها عن مدخل، فانتهى إلى أن هذا اللفظ قد انتقل إلى العربية عن طريق اللغة البربرية، ثم أفاض في توجيه دخول هذا اللفظ إلى البربرية وعن افتراض تحوله في اللسان البربرى من الواو إلى الهمزة طبقا للقواعد الصوتية في اللغة البربرية، ثم ختم ذلك بقوله: "فهي إذن دخلت اللغة العربية عن طريق اللغة البربرية، وليس من اللاتينية، أو الجرمانية، أو اللاتينية المتكلمة في أسبانية مباشرة. وبذلك يمكن حل المشكلة صوتيا وتاريخيا، فإن غياب حرف V أو W من كلمة أندلس، لا يمكن تفسيره إلا في ضوء هذا الفهم". كان الدكتور الطاهر في غنى عن كل ما كتبه عن اللغة البربرية، وعن اتجاهاتها الصوتية، وعن افتراض ما افترضه في تحول الواو همزة في اللغة البربرية. بيد أن الذي حمله على ارتكاب هذا الطريق البعيد، هو ما اعتقده اعتقادا جازما، من أن "انقلاب الواو همزة لا تعرفه اللغة العربية أبدا". والأمر في الحقيقة على خلاف ما اعتقد، وذلك أن قلب الواو همزة قياس مطرد في العربية بلا شك. ¬

_ (*) مجلة الثقافة -السنة الثانية- العدد 23، أغسطس 1975، ص 9 - 10

وتلخيص القول في ذلك: أن "الواو" إذا كانت في أول الكلمة، فلها ثلاثة وجوه: إما مضمومة، وإما مكسورة، وإما مفتوحة، فإذا كانت الواو مضمومة، فيكاد يكون قياسا مطردًا في العربية أن تقلب الواو همزة. فمن ذلك في القرآن العظيم، في سورة المرسلات: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ}، وهي من "الوقت"، وقرأ أبو عمرو وابن ورداك: {وَإِذَا الرُّسُلُ وقِّتَتْ} بواو مضمومة، وهو الأصل. وقالوا في "وجوه" جمع "وجه" "أجوه"، وغيرها كثير. وإذا كانت الواو الأولى مكسورة، فقياس مطرد أيضا أن تقلب همزة، نحو قولهم في "وسادة" "إسادة" وفي "وشاح"، "إشاح" وغيرهما كثير أيضا. وأما إذا كانت الواو الأولى مفتوحة، وهو الذي عندنا هنا في "وندلس" و"أندلس"، فقلب الواو المفتوحة قليل في العربية، وليس قياسا مطردا، ومع ذلك فهو كثير أيضا على الوجهين، أي أن تقلب الواو الأولى المفتوحة همزة، وأن تقلب الهمزة المفتوحة واوا. وذلك نحو: قولنا "وحد" فتقول "أحد" بفتحتين، وهو من "الوحدة" بلا ريب، وقولهم أيضا: "امرأة وَناة"، أي كسول، بطيئة القيام فيها فتور من طول النعمة، فقالوا: "امرأة أناة"، وقالوا للجبل الصغير "وَجَم" بالواو، فقالوا فيه "أَجَم" وقالوا: "وَسِنَ الرجل" و"أَسنَ"، إذا غُشِىَ عليه من نتن ريح البئر، وقالوا: "وَكدت العهد" و"أَكدته"، وقالوا "وَلَته حقه" و"أَلَته حقه" أي نقصه حقه، وقالوا: "ورَّخْتُ الكتاب"، و"أَرخته"، وقالوا "وَرشْتُ بين القوم، وأرشت بينهم"، أي أفسدت ما بينهم وحَرَّشت بعضهم على بعض، وقالوا: "ما وَبَهْت له، وما أَبَهْت له" أي ما فطنت له، أو ما باليت به لقلته وتفاهته، وقالوا "وج" وهو اسم بلدة الطائف بالحجاز و"أج" بفتح الهمزة، وقالوا "وَجْه، أَجه" لوجه الإنسان، وغير هذا كثير، فضلا عن قلب الواو همزة إذا كانت في وسط الكلمة أو في طرفها. وإذن فالأمر على خلف ما يعتقد الدكتور الطاهر، من إنكاره قلب الواو همزة، وأن العربية لا تعرف هذا القلب أبدا.

وإذن فأقرب شيء إلى الاحتمال، هو ما رآه الدكتور الطاهر بعيد الاحتمال، أن يكون لفظ "وندلس" قد دخل إلى العربية دخولا مباشرا بقلب الواو الأولى المفتوحة همزة. والذي ألجأ سلفنا الفاتحين من العرب أصحاب اللسان العربي إلى إبدال الواو الأولى المفتوحة همزة، أنها جاءت بعدها نون ساكنة، ومخرج الواو من طرف الشفتين، ومخرج النون الساكنة من الخياشيم، فثقل ذلك على ألسنتهم لقرب المخرجين، ولارتداد النفس من الشفتين عكسا إلى الخياشيم، ولأن الواو المفتوحة أخفى من الواو المضمومة والمكسورة في النطق، ولأن الهواء المندفع من الحلق عند نطق الواو المفتوحة آت من عند مخرج الهمزة في أقصى الحلق، فمن أجل ذلك كله آثروا أن يقلبوها همزة صريحة من أقصى الحلق، ليندفع هواؤها إلى مخرج النون الساكنة من الخياشيم سهلا بلا مؤونة على أداة النطق. ولهذه الأسباب نفسها، رأيت أصحاب اللسان العربي فيما استظهرته وتتبعته، قد كرهوا أن تجتمع الواو والنون متجاورتين في أول الكلمة الواحدة من عربيتهم، وتكون الواو أصلا في الكلمة، والنون التي تليها أصلا أيضا في الكلمة. وإذن، فالذي لا شك فيه، هو أن لفظ "وندلس"، قد دخل اللسان العربي مباشرة، بعد إخضاعه للقانون الصوتى العربي، ليدخل بعد أن يصقله الذوق العربي دخولا سهلا ساريا على أصول لغته. وللأخ الدكتور الطاهر أجزل الشكر على الفوائد الكثيرة التي تضمنها مقاله عن "الأندلس".

المتنبي ليتني ما عرفته 1

المتنبي ليتني ما عرفته - 1 - أخي الدكتور عبد العزيز الدسوقى . . . . وبعد، فكاذب أنا إن قلت لك أن ثناءك على لم يهزنى، فأنا كأنت وكهو وكهي، كلنا مما يغره الثناء، أو تأخذه عنده أريحية وابتهاج أو تغمره فيه نشوة ولذة. ولكن غرورى وأريحيتى وابتهاجى ونشوتى ولذتى، سرعان ما تنقلب علي غما لا أجد متنفسا يفرج عني لأنى أعلم من حقيقة نفسي ما يجعلني دون كل ثناء وإن قل، أعلمه عيانا حيث لا يملك المثنى علي أن يراه عيانا كما أراه. وليت شعرى، أكان شيخ المعرة صادقا حيث يقول عن نفسه. إذا أَثْنَى على المرءُ يوما ... بخير ليس فيَّ فذاك هاجِ وحقى أن أُساءَ بما افتراه ... فلؤمٌ في غريزتىَ ابتهاجِى وعسى أن يكون الشيخ قد صدق عن نفسه بعض الصدق. لقد عد ثناء المثنى عليه بما ليس فيه افتراء، ثم أقر مع ذلك أنه يبتهج لما افتراه وكان حقه أن يستاء، لولا لؤم الغريزة. فمعنى هذا إذن: أن الشيخ كان إذا جاءه ثناء عليه بما هو فيه، فإنه يبتهج له، ولا يعد ابتهاجه هذا لؤما في غريزته. أما أنا فأعد ابتهاجى بالثناء على بما هو في وبما ليس فيَّ، لؤما في الغريزة لأنى أعلم أن الذي فيَّ من الخير مغمور في بحر طام من النقيصة والعيب. ومع ذلك، فأنا أشكر لك ثناءك، لأن الشكر واجب لا مصرف عنه. وترك الشكر لؤم آخر في الغريزة. أشكره لك لأنك بثنائك على، ذكرتنى عيبى وتقصيري ونقيصتى لأستغفر الله وأتوب إليه هذه هي الأولى. أما الثانية: فإني وجدتك في مواضع متفرقة من كلامك في شأن كتابي وكتاب الدكتور طه عن المتنبي تكثر من أن تتنصل من إرادة إغضابى أو إرادة ¬

_ (*) الثقافة، السنة الخامسة - العدد 60، سبتمبر 1978 ص 4 - 19

إساءتى. فمن الذي أنبأك أيها العزيز الكريم أنى أعد الذي يظهرنى على أخطائى، أو الذي لا يعجبه ما أكتب، مريدا لإساءتى، مثيرا لغضبى، طالبا للغض مني أو من كتابي؟ من أنبأك هذا، حتى تبالغ في التنصل من اعتماده، وفي البراءة من إرادته؟ لقد قدمت بين يدي كتابى عن المتنبي قصة هذا الكتاب. وبينت أنها: "لمحة من فساد حياتنا الأدبية". فكان مما أشرت إليه أنه كان من عادة "الأساتذة الكبار"، وهي عادة بثت في حياتنا الأدبية إلى هذا اليوم فسادا ساحقا: أنهم كانوا يخطئون في العلن. ويتبرأون من أخطائهم في السر. (المتنبي 1: 42). وأشرت أيضا إلى أنهم كانوا لا يصبرون على من يدلهم على الخطأ، ويستنكفون كبرا أن يؤوبوا إلى الصواب. ثم أزيدك الآن أيضا: أنهم كانوا لا يتورعون عن الإيقاع بمن يدلهم على الخطأ، ويتعقبونه بالأذى من وراء حجاب: ومَنْ طلب الأمثلة على هذا وجدها على مَدّ يده! بيد أنى، من يوم عقلت أمر نفسي، قد أنكرت جميع السنن التي سنها "الأساتذة الكبار"، أنكرتها كفاحا ومواجهة وبلا مواربة. فبئس المرء أنا إذن، إذا أنا أنكرت سنة كريهة ثم ركبتها! كانوا، رحمهم الله جميعا، لا يحبون إلا الثناء المحض المصفّى الخالص من كل شائبة. فإذا جاءهم غير ما يحبون، تنمَّروا لمن أتاهم به تنمُّرَ من لا بيت على دِمنة - (والدمنة: الحقد الدفين المضمر الملتهب بالغيظ). وهم يتخلّقون، في غير موضع التخلُّق، بما قاله بشار الأعمى في صفة عمر بن العلاء، فاتح طبرستان في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور. وكان عمر قبل ذلك جزارا، ولم تعبه الجزارة، بل كانت له أسوة حسنة بفاتح مصر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فإنهم يزعمون أنه كان جزارا في الجاهلية، قبل أن يسلم. قاتل عمر بن العلاء الديلم قتالا مريرًا حتى كسر شوكتهم وأخضعهم، فلذلك ولاه المنصور ثم المهدي من بعده، طبرستان مرات، منذ سنة 141 من الهجرة إلى سنة 167، كان عمر عاقلا داهية جوادا شجاعا شديد البأس، فقال بشار للخليفة في شأنه: فقلْ للخليفة إن جئته ... نَصيحا ولا خير في مُتَّهَمْ

إذا أيقظتْكَ حروبُ العِدَى ... فنَبهْ لها عُمَرًا، ثم نَم فتى لا يبيِتُ على دمنة ... ولا يشربُ الماء إلا بِدَمْ! "لا يشرب الماء إلا بدم"، هذه حقيقة أخرى أيضا، تستطيع أن تجد عليها الدلائل الكثيرة في تاريخ صراع "الأساتذة الكبار". فالأمر كما ترى تخلُّق منهم بما قال بشار، ولكنه تخلُّق في غير موضع التخلُّق. ولا تحسبنى أريد بهذا الاستطراد أن أبشع إليك "أمر" "الأساتذة الكبار" تبشيعا أو أنفرك منهم تنفيرا لا! ليس يعنينى أن تستبشع أو تستسيغ، ولكني أعبر عن نفسي، ثم أقول لك: إني شهدت فأجفلتُ، فعرَفت، ففزِعتُ، فهالنى الأمر، فأنكرتُ .. أنكرت جميع هذه السنن التي كانوا يسنونها لنا في حياتنا الأدبية. فمن أجل ذلك أجدنى لا أغضب إذا دلنى أحد على خطأ قارفته، ولا أستنكف أن أعترف بخطأ ارتكبته، ولا أستتر من عيب اجترحته. ولا يسوؤنى أن ينقدنى ناقد ظالمًا أو غير ظالم، ولا أعده غضًّا لشأنى ولا وضيعة تحط مني أن يقول قارئ أو كاتب أو ناقد جهارا وعلانية ووجها لوجه: إن كتابى لا يعجبه، أو إنه كتاب لا قيمة له. لم أكتب شيئا قط، وأنا أتلفت يمينا وشمالا، أراقب ما يُعقِبه على كلامي من رضى أو سخط ولم أخط حرفا إلا وأنا على ثقة ويقين من أن الناس مختلفون فيه لا محالة بين قادح ظالم، وبين مادح ظالم يظلمني ويظلم نفسه بالغلو في الثناء. واعلم إذن، إن كنت لا تعلم، أن أحب الأمرين إليّ: أن تنقدنى مخالفا لي، أو مظهرا لخطأ كان مني، أو دالا لي على طريق جُرْت عنه غرورا بنفسي أو اتباعا لهواى. ثم اعلم بعد ذلك أيضا أنى لا أبيت ليلة طاويا ضلوعى على حفيظة تؤرقنى، من إساءة أحد يسئ إلي متعمدا أو غير متعمد. هكذا كنت، وهكذا كانت سيرتى، ولا ينبغي لي غير ذلك، لأنى منذ قديم، منذ ريعان شبابي، أنكرت سنة "الأساتذة الكبار" وكرهتها مستبشعا لها، كراهة لم تزل قائمة في نفسي، وإن قصر قلمي، أو تورع، في الدلالة على خبثها وبشاعتها وعلى فسادها أيضًا وإفسادها للناس

لن تستقيم لنا حياة أدبية، ولن تصح، ولن يرجى لها صلاح حتى تقوم على قواعد راسخة ثابتة من طلب الحق صرفا، ثم الإبانة عن الحق بلا مداجاة، ثم الإفصاح عن حقيقة ما في النفس بلا مواربة، بلا تخوف، بلا ترقب. القائل بالحق لا يحتاج إلى التنصل من إرادة الإساءة. فإن المخطئ مخطئ وإن جل شأنه، والمصيب مصيب وإن خفي في الناس مكانه، هذه هي الثانية. أما الثالثة: فجملة قرأتها في كلمتك الثالثة، (الثقافة: مارس 1978)، حيث تقول: "إنه لشيء محزن أن يصل (اللدد في الخصومة) حدا يجعلنا نسلب طه حسين أخص خصائصه، ونتجاهل أجمل قدراته، ونصفه بأنه (رجل جاهل)، (ليس له بصر بتذوق الشعر) ". هذا النص كلامك. شيء محزن حقا، ولكن هل هذا صحيح؟ ذكر خبر الخصومة أنت بلا شك تعنينى، وتعني أنى فعلت ذلك وقلته: فهل تأذن لي أن أقف على كلماتك هذه وقفة، لا يحبسنى عليها ولع بجدل أحسنه، أو صراع عقلي أجيده، كما وصفتني، لا، بل تجلية للحقيقة كما كانت، وكما جاءت في كل ما كتبته قديما وحديثا وذكرت فيه الدكتور طه وهذا لا يضيرك، ولا يفيد أحدا إن شاء الله، وإن كنت أعده مملا! ! ذكرتَ "اللدد في الخصومة" بيني وبين الدكتور طه، ورتبتَ عليه ما رتبتَ، فأحب أن تعلم، قبل كل شيء، إنه لم تكن بيني وبينه (خصومة) قط، حتى يكون فيها (لدد) وأنت الآن تضطرنى الى تعقب هذه (الخصومة) من عند جذورها الأولى، الى أن كتبت كتابى عن المتنبي، ثم ما كان بعد ذلك بيننا إلى أن قضى الدكتور طه نحبه. وهذا الذي ألجأتنى إليه، يقتضينى أن أتحدث عن نفسي ويقتضينى مرة أخرى أن أعيد ما استفتحت به "قصة هذا الكتاب" حيث قلت (المتنبي 1: 10، 11): "الحديث عن النفس شيء أكرهه، ولكنه يكون أحيانا ضرورة لا غنى عنها. فالجيل الذي يستقبل اليوم هذا الكتاب، لم يشهد تلك الأيام الغابرة، ولا يعلم

عنها علما يغنى أو يفيد. بل لعله يعلم عن هذا الغابر أشياء قليلة، على غير الوجه الصحيح الذي كانت عليه، وإنما اكتسبها الجيل الحاضر من الثرثرة التي تنشر أحيانا في بعض الصحف والمجلات. وقد التزمت في هذا الحديث أن أقص ما لا مناص منه: على الوجه الذي كان، بلا إخفاء للحقائق التي وقفت عليها يومئذ، لأنها هي التي أثرت فيما أكتب، وهي التي كونت رأيي في الجيل الذي عاصرته، وفي آثار هذا الجيل في الأجيال التي جاءت معه أو بعده، متأثرة به أو وارثة له". هذا ما قلته وما فعلته، وكذلك أنا فاعل الآن: عرفت الدكتور طه عن قرب، وهو يكتب بحديث الأربعاء في صحيفة السياسة (سنة 1923، 1924) وذلك قبل أن أفارق المدارس الثانوية، واحدة. ثم فارقتها، عند أول إنشاء الجامعة، فكانت له عندي يد لا تنسى يوم تقدمت إلى الجامعة أحمل شهادة (البكالوريا) من القسم العلمي، لألتحق بكلية الآداب، قسم اللغة العربية، وبإصراره هو استطاع أن يحطم إصرار مدير الجامعة يومئذ أو أحمد لطفي السيد الذي كان، كعادته، ملتزما بظاهر الألفاظ ويرى أن لا حَقَّ لحامل بكالوريا القسم العلمي في الالتحاق بالقسم الأدبى، فبفضل الدكتور طه صرت طالبا عنده في قسم اللغة العربية بالجامعة، ثانية. وكان الدكتور طه في السابعة والثلاثين من عمره، وأنا في السابعة عشرة من عمرى، فهو بمنزلة أخي الأكبر، وكان توقير السن، فيما مضى من زمننا نحن، أدبا نرتضعه مع لبان الطفولة، ثالثة. ثم عرفت الدكتور طه عن قرب أشد قرب، كنت طالبا، وكان أستاذا، وكانت هيبة الأستاذية وتوقيرها أدبا ننشأ عليه منذ نعومة أظفارنا، رابعة. وقصصت القصة كلها واضحة في كتابي (المتنبي 1: 17 - 26)، ولكن كلمتك التي كتبتها، تضطرنى الآن أن أرجع على نفسي باللائمة. لعلى أسأت العبارة عما أريد. لعلى أوقعت في سياق القصة خللا مضللا. لعلى أجملت حيث كان ينبغي التفصيل. فهل تأذن لي أيها العزيز، أن أجعل القصة أشد وضوحا؟ منذ بدأ الدكتور طه محاضراته في الجامعة، في شأن الشعر الجاهلى، إلى أن

انتهى منها، نشأت عندى أنا قضيتان: وأرجو أن تقرأ هذا بشيء من التدقيق، ومعذرة أيضا من هذا التوسل: القضية الأولى القضية الأولى: "قضية الشعر الجاهلى": وهي قضية قد أكثرت من ترديد ذكرها في مواضع مختلفات في أكثر ما أكتب، لأنها هي القضية التي أحدثت في حياتي، وفي طلبى للعلم، تغييرا حاسما، فيما بعد سنة 1926، وأنا يومئذ في السابعة عشرة من عمرى. وهي بلا شك، مرتبطة ارتباطا ما بالدكتور طه، وبسماعى محاضراته في الشعر الجاهلى، وأظن أن هذا "الارتباط"، وخاصة بعد أن قطعت دراستى في الجامعة فجأة، هو الذي أوهم أنه كانت بينى وبين الدكتور طه (خصومة)، ظلت تنسحب، عند كثير من الناس، على كل ما أكتبه وأذكر فيه الدكتور طه. وليس هذا بصحيح البتة، لأن "قضية الشعر الجاهلى" كانت، ولم تزل إلى اليوم، "هي قضيتي أنا وحدي، بيني وبين نفسي، ليس لأحد فيها ذنب ولا جريرة. ومن أجل ذلك لم أكد أفرغ من قصتى في الجامعة، ومن قصة انقطاعى عن الجامعة وفراقها بعد سنتين، (المتنبي 1: 9 - 36)، حتى قلت بعد ذلك مباشرة في أول ص: 27: "ومرت بي الأيام والليالى والسنون، ما بين سنة 1928 وسنة 1936، التي كتبت فيها هذا الكتاب "المتنبي"، وهمى مصروف أكثره إِلى قضية الشعر الجاهلى إِلى طلب اليقين فيها لنفسي، لا لمعارضة أحد من الناس (وأعني الدكتور طه بلا شك)، مشت بي هذه القضية في رحلة طويلة شاقة، ودخلت بي في دروب وعرة شائكة، وكلما أوغلت انكشفت عني غشاوة من العمى". ثم عدت فذكرتها في كتابى مرة أخرى زدتها وضوحا فقلت: ". . وفي خلال ذلك، لم يكن لي مطلب سوى مطلب واحد: أن أجد برد اليقين في نفسي، في شأن "الشعر الجاهلى". وفي شأن ما نسميه "إعجاز القرآن"، (المتنبي 1: 47، 48). ثم عدت فذكرتها ونكرت فراقى للجامعة، وذكرت ما كان من سبب طلبى

للعزلة فقلت: ". . . حتى أستبين وجه الحق في "قضية الشعر الجاهلي": بعد أن صارت عندى قضية متشعبة كل التشعب"، (المتنبي 1: 24). فالأمر إذن، كما ترى بين جدا. "قضية الشعر الجاهلي"، هي قضيتى أنا وحدي. ومعناها عندي معنى قائم في نفسي أنا وحدي. ومهما يكن من شأن المآزق المهلكة، والمتالف المبيرة التي لم أنج من شرها وعقابيلها إلا بتوفيق من الله وحده وعصمته، فأنا وحدي أشقيت نفسي بها، ولم يكن للدكتور طه فيها جريرة، ولا كان له فيها ذنب جناه على حتى أخاصمه على هذه الجناية. أما الذي قلت لك من أن للدكتور طه بهذه القضية "ارتباطا ما": فسأبينَه، لأزيل الضباب الذي يخلط بين معنيين متباينين، ولتعَلم أيضا أن هذا الارتباط لا يمكن أن يكون سببا في (خصومة)، ولا كان فيه ظل من (خصومة)، مع أنى أظنه كان واضحا في مقدمة كتابي "المتنبي". ما علينا أيها العزيز. الأمر وما فيه هو أن الدكتور طه أراد أن يثيرنا نحن طلبة الجامعة يومئذ، بمسألة غربية، هي "مسألة الشعر الجاهلي". وهذه "المسألة" من حيث هي مسألة شك في صحة الشعر الجاهلي وفي صحة نسبته إلى أهل الجاهلية، ثم الإفضاء منها إلى أن الشعر الجاهلي منحول موضوع، وأنه شعر إسلامي صنعه الرواة في الإسلام، هذه "مسألة" كنت أعرفها قبل أن أدخل الجامعة، وقبل أن يلقى علينا الدكتور ما ألقى، لأنى كنت قرأتها في مقالة الأعجمى مرجليوث، وقصصت القصة في كتابى ثم قلت: "إني لم ألق بالا إلى هذا الذي قرأت: وعندي ما عندي من هذا الفرق الواضح بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي"، (المتنبي 1: 16). ثم قلت أيضا في شأن هذا الأعجمى وزمرته "لم يكن لمثل هذه الآراء في الشعر الجاهلي وقع في نفسي يثيرنى اللهم إلا ما يثير تقززى. فما أسرع ما أسقط كلامهم جملة واحدة في يم النسيان"، (المتنبي 1: 18). ثم جاءنا الدكتور طه يردد أقوال مرجليوت وآراءه وحججه، بجوهرها ونصها، أستغفر الله، بل زاد عليها تعليقاته وحواشيه، فلم يزد الأمر عندي على أن يكون ما أسمع من المحاضرات "حاشية" على متن من المتون، ولكنها

"حاشية" من نوع مبتكر مبتدع جديد مباين للحواشي التي كانت مألوفة يومئذ عند طلبة الأزهر. ولما كان "المتن" معروفا عندي من قبل قرأته ولم ألق إليه بالا، بل قذفته في يم النسيان، كما قلت: فإن "حاشية الدكتور طه على متن مرجليوت" (وهي المعروفة عند الناس باسم كتاب: في الشعر الجاهلي)، كانت خليقه أن تلقى نفس هذا المصير، لولا شيء سأحدثك عنه فيما بعد. وهذه "الحاشية" لم تكن تتضمن شيئا ذا بال سوى "مسألة الشك في صحة الشعر الجاهلي"، وإذن فهي لم تكن قادرة في ذاتها على إثارتى أو إثارة خصومة بيني وبين صاحبها الدكتور طه ولم يكن لها عندي أثر سوى ما بينته في كتابى حيث قلت: "تتابعت المحاضرات، وكل يوم يزداد وضوح هذا السطو العريان على مقالة مرجليوث، ويزداد وضوح الفرق لكن طريقتى في الإحساس بالشعر الجاهلي وبين هذه الطريقة التي يسلكها الدكتور طه في تزييف هذا الشعر" (المتنبي 1: 21). وانظر أيضا ذكر حواشي الدكتور طه في كتابي (المتنبي 1: 20، 144، 145). إذن، فبين أن "مسألة الشعر الجاهلي" بهذا القدر الذي وصفته لك آنفا، هي أولا وقبل كل شيء، مباينة تمام المباينة للذى أسميه "قضية الشعر الجاهلي"، ثم هي ثانيا بهذا القدر نفسه، مسألة كانت في ذاتها غير قادرة على أن تنشيء بيني وبين الدكتور طه (خصومة). وأيضا، لم يكن لها، لا بالفعل ولا بالقوة في نفسي أو في قلبي أو في عقلي، أو في شيء مما أكتب، أثر يمكن أن يحرك (خصومة) وإذا كنت ممن يخاصم الناس على آرائهم، لا ممن يخاصم الآراء نفسها: وكان لمثل هذه "المسألة" قدرة على إنشاء (خصومة): فأولى الناس كان بخصومتى هو مرجليوث نفسه صاحب "المسألة" وصاحب "المتن". أما الدكتور فلم يكن سوى ناقل لهذه "المسألة" وصاحب "حاشية" على هذا "المتن"، لا أكثر ولا أقل. وببديهة العقل، لا ينال الناقل صاحب الحاشية من خصومتى عندئذ، إلا قدر ضئيل كتاب لا يستحق أن يسمى (خصومة). وإذا كان ذلك كذلك، فالدكتور طه ينبغي -بلا شك، أن يكون بنَجوَة من خصومتى، أو من ضراوتها، أو من جَوْرها على الأقل.

وأحب أن أصدقك القول عن نفسي. لو أن الأمر في "مسألة الشعر الجاهلي" لم يكن كما كان: لكان يكون ممكنا، على وجه من الوجوه أن تقع بيني وبين الدكتور طه (خصومة ما) وذلك إن صح فعلا أنه شك أولا من عند نفسه: ثم أداه شكه إلى "مسألة" إبطال صحة رواية الشعر الجاهلي. ولكن هذا لم يصح البتة: ولن يصح لأنه لم يزد على أن جاء فنقل مسألة إبطال صحة رواية الشعر الجاهلي، من الإنجليزية إلى العربية، نقلا لا يستره ساتر، ولا يقبل في شأنه تأويل أو انتحال عذر، وببطلان هذا، بطل أيضا معنى (الخصومة) بيني وبينه. ومن الدليل أيضا على بطلان كل (خصومة) بيني وبين الدكتور طه، جرتها "مسألة الشعر الجاهلي"، أنى لم أكتب يومئذ، ولا بعد ذلك اليوم، وإلى يوم الناس هذا: شيئا يمكن أن يعد ردا مباشرا على ما تضمنته "حاشية الدكتور طه على متن مرجليوث"، وذلك لأن هذه "المسألة" برمتها كما هي في المتن والحاشية، كانت، ولم تزل، هي عندي مسألة فارغة بذرتها ثرثرة، وشجرتها ثرثرة، وثمرتها ثرثرة، أي هي مسألة لا طعم لها. وهذا حسبك: إن شئت متفضلا، في نفي كل شبهة تؤدى إلى الظن بأنه كانت بيني وبين الدكتور طه (خصومة) قديمة، من أجل آرائه التي كان يرددها في "مسألة الشعر الجاهلي" وهو حسبك أيضا في إزالة كل وهم عن (خصومة) كانت، يحدثها اقتران هذه "المسألة" بما كان من أمر مفارقتى الجامعة، بعد سنتين من بدء حديثه فيها. فهذا بيان موجز عن القضية الأولى، ومعذرة إن أطلت أو كررت. القضية الثانية أما القضية الثانية التي نشأت عندي أنا، أي عندي أنا وحدي مرة أخرى، وكانت محاضرات الدكتور طه سببا في نشأتها يوم كنت طالبا عنده في الجامعة، فهي "قضية السطو" على أقوال الناس وآرائهم وأعمالهم، ثم ادعاء تملكها تملك عزيز مقتدر، ثم الاستعلاء بهذا الملك المغصوب والاستطالة به على الناس. وأبشع من ذلك: أن ينكشف أمر هذا الغصب والسطو. ويتسامع به الناس:

ويدل الكتاب والعلماء على الأصل المغصوب كتابة موثقة منشورة، فلا يبالى الساطى بشيء من ذلك كله: بل يزداد جرأة وتيها وادعاء واستعلاء واستطالة، كأن الذي قيل عن سطوه لم يُقَل، وكأن ظهور سطوه فضيلة ترفع من قدره تنوه به في المجامع، أما أنا، مع أسفي واعتذارى، فلم أزل أعد هذا المسلك احتقارا للناس أي احتقار، وإزراء بهم وبعقولهم أي إزراء، وإنزالًا لهم منزلة من لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل ولا يحس. هكذا نظرى أنا، كان، ولم يزل إلى هذا الأمر. هذه هي "القضية" كانت، ولم تزل، حية في نفسي منذ خمسين سنة: (وانظر كتابي المتنبي 1: 25). وقبل أن أحدثك بخبر هذه "القضية" وأنا في الجامعة سنة 1926، أجدنى مضطرا أن أخبرك بشيء كان قبل ذلك، يجعل "القضية" أوضح وأبين. كنت في سنة 1923، وسنة 1924، أقرأ على شيخى سيد بن على المرصفي إمام العربية في زماننا، وهو شيخ الدكتور طه أيضا. وكنت في ذلك الوقت أقرأ ما كان يكتبه الدكتور طه في صحيفة السياسة، وهو "حديث الأربعاء"، فجاء يوما على لساني وأنا عند الشيخ ذكر الدكتور طه، فعرفت من الشيخ أنه كان يقرأ عليه بعض ما كنا نقرأه عليه. وبهذا النسب القريب، كما يقول أبو تمام (¬1)، تاقت نفسي إلى معرفة الدكتور طه. فسعيت إليه سعيا، وعرفته من يومئذ عن قرب. كنت صغيرا، وكان هو في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، ومع هذا التفاوت في السن: فقد قربنى الرجل إليه حتى اطمأن قلبي وانطلق لساني، فبجرأة الشباب كنت أخالفه أحيانا كثيرة فيما يكتب، وبجهل الشباب أيضا أحاوره وأجادله بقليل علمي. وكان بينًا عندي، وعنده أيضا، أن مقالاته في "حديث الأربعاء" كانت تنطوى على "استلهام" شديد مفرط من آراء طائفة الأعاجم المستشرقين، على حد تعبيرك أنت أيها العزيز، أو على "استعارة" منهم مغرقة ملتهمة، على حد ¬

_ (¬1) وذلك في قوله: أو يَخْتَلِفْ نَسبٌ يؤلفْ يَيننا ... أدَبٌ أقمناهُ مقامَ الوالِد

تعبير شاعرنا القديم الذي هجر الشعر وتفرغ للكتابة، الأستاذ كمال النجمى، أو على "استلال في خفة" على حد تعبير الأستاذ كمال أيضا. ومع كل ذلك: فقد استمرت مودتى لأستاذتا الدكتور طه صافية، لم يكدرها خلافي عليه، أو جهل شبابي عليه أحيانا. ولم يكن لهذا "الاستلهام"، أو لهذه "الاستعارة" أو لهذا "الاستلال في خفة": أثر يبلغ من قوته أن يحدث بيني وبينه (خصومة)، لا في نفسي ولا في نفسه هو أيضا. وظل الأمر بيننا سهوا رهوا (أي ساكنا لينا كنسيم الصبا)، حتى جاء عهد التحاقى بالجامعة، فغمرنى الدكتور طه بفضله، وقيدنى يإحسانه، وأحسن الشهادة لي عند مدير الجامعة، ثم أصر إصرارا حتى غلبه، فبإصراره صرت طالبا في الجامعة، وقصصت بعض القصة آنفا وفي كتابى (المتنبي 1: 20، 21). وهكذا كان الأمر بيني وبينه قبل دخولى الجامعة وقبل إنشائها، والدكتور طه يومئذ لم يكن سوى كاتب أديب يكتب في الصحف والمجلات، وأنا يومئذ قارئ لما يكتبه، أقرؤه في البيت أو الشارع، أو على ظهور المقاهي. ولكن الأمر سوف يختلف اختلافا بينا حاسما حين ضمتنى وإياه أسوار الجامعة. في الجامعة كنت يومئذ فتى شابا غض الإهاب: فلما أنشئت الجامعة والتحقت بها، كان للفظ الجامعة معنى في نفسي، أنا الآن، بعد أكثر من خمسين سنة، يغلى بي ارتيالى وشكى: أأنا مخطئ في هذا المعنى أم مصيب؟ أقولها لك، ودمعة من عيني تنحدر على الخدين من ألم الذكرى! وقاتل الله النابغة الذبيانى الشاعر الجاهلي، ما أصدقة حيث قال، وكأنه إنما عنانى أنا، يقرعني تقريعا يوغل بي في مهاوى اليأس: إن يكُ عامر قد قال جَهْلا، ... فإن مَظِنة الجهلِ الشباب ولا تذهبْ بحِلْمك طامِيات ... من الخُيلاء ليس لهن بابُ فإنك سوف تَحلُمُ، أو تَناهي ... إذا ما شِبتَ أو شاب الغرابُ لقد شبتُ وما شاب الغراب بعد، فكيف وأني وأيان لي الحِلْم أوْ التناهي عن

الجهل! وإني لأسأل نفسي اليوم: أبجهل مني لا حلم فيه، كان يومئذ للفظ "الجامعة" هذا المعنى في نفسي أخالنى لست أدري، بعد طول التجريب وبعد المشيب. ولكن هكذا كان، واحسرتاه! "أم كان شيئا كان، ثم انقضى"، كما يقول العرجى. دخلت الجامعة ومعي هذا المعنى يتسع ويتراحب يوما بعد يوم، حتى بلغ مبلغا يرتد عنه البصر خاسئا وهو حسير. دخلتها ومعى فورة الشباب وأحلامه وتهاويله. دخلتها ومعى كل ما قرأته وسمعته من أدب أمتى وتاريخها وأخلاق علمائها وعظمة رجالها. . . والآن أقول لك ما لم يكن يخطر لي يومئذ على بال: دخلتها ومعى أيضا "متن مرجليوث" في "مسألة الشعر الجاهلي" مطروحا في قرارة يم النسيان. ألقيت بكل سمعى مصغيا إلى أستاذنا الدكتور طه، وهيبة الأستاذية تملأ قلبي وهو يردد كلماته، وأنا واقع أيضا في أسر كلماته، ولكني في الأسر كنت أعرف وأنكر، وينبسط قلبي وينقبض، ثم يوما بعد يوم. وبغتة، ومن قرارة يم النسيان، طفا "متن مرجليوث" كتابا مفتوحا، اقرأ "المتن" بعيني، وأسمع "الحاشية على المتن" بأذنى، وأخذنى ما أخذنى من الحيرة والدهشة والارتياح، ثم انقشع عني الظلام. . . فأصبحتُ والغولُ لي جارة، ... فيا جارتا، أنتِ، ما أَهْولَا! "والغول لي جارة"، ليست رمزا ولا مجازا بل كانت عندي حقيقة (¬1) مفزعة، تدخل معى قاعة المحاضرات يوما بعد يوم، وكل يوم أقول لنفسي عسى، ولعل! وأتوقع أن يذكر الدكتور طه، اسم مرجليوث مرة، وينسب إلى الرجل رأيه في "مسألة الشعر الجاهلي"، مجرد إشارة! وذهب توقعى باطلا هذرا. لم أسمع منه إلا: "انتهى بي البحث"، ثم "انتهى بي البحث"، ثم "انتهى بي البحث" وإذا كل شيء منه هو يبدأ، وإليه هو ينتهي! كيف يكون هذا، "والمتن" أمامى أقرؤه بعينين مبصرتين، وكل شيء يقوله الدكتور طه من هذا "المتن" وحده يبدأ، وإلى "المتن" وحده ينتهي، يا لحيرتى وعجبى! ¬

_ (¬1) كما كانت عند تَأبط شرا، صاحب البيت الذي استشهد به الأستاذ شاكر.

لو مرة واحدة ذكر الدكتور طه اسم مرجليوث، لنجوت بها من هذه "الغول" التي كانت تفزعني وتتشبث بي "جارة" لي في قاعة المحاضرات وخارج هذه القاعة! "فيا جارتا أنا ما أهولا! "، ويومئذ، ومن هذا الهول الذي كان يصحبنى ويتهددنى، نشأت عندي "القضية الثانية" "قضية السطو" التي ذكرتها وأن أكشف عن "لمحة من فساد حياتنا الأدبية" في كتابي (المتنبي 1: 17 - 26). * * * تفاقم أمر "قضية السطو" في نفسي، واستبدت بي جارتى "الغول" حتى لم تدع لي ولا لقلبي سكينة، وسِرتُ على الجمر حافيا، وأنا أسمع يوما بعد يوم قعقعة معنى "الجامعة" في نفسي وهو يتقوض، يريد أن ينقض. وفي خلال ذلك كان مني ما كان. يوم وقفت أجادل الدكتور طه في "المنهج" و"الشك"، حتى انتهرنى، ثم استدعانى فدخلت عليه، فعاتبنى "وأنا صامت لا أستطيع أن أرد. لم أستطع أن أكاشفه أن محاضراته التي نسمعها مسلوخة كلها من مقالة مرجليوث، لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير، ولكني كنت على يقين من أنه يعلم أنى أعلم، من خلال ما أسمع من حديثه، ومن صوته، ومن كلماته، ومن حركاته أيضًا" هكذا قلت في كتابي (المتنبي 1: 22). ثم قلت أيضا: "ومن يومئذ لم أكف عن مناقشة الدكتور في المحاضرات أحيانا بغير هيبة، ولم يكف هو عن استدعائى بعد المحاضرات، فيأخذنى يمينا وشمالا في المحاورة، وأنا ملتزم في كل ذلك بالإعراض عن سطوه على مقالة مرجليوث: صارف همى كله إلى موضوع "المنهج والشك"، وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموى والعباسى قراءة متذوقة مستوعبة ليستبين الفرق بين الشعر الجاهلي والإسلامي .. ولكني من يومئذ أيضا لم أكف عن إذاعة هذه الحقيقة التي أكتمها في حديثي مع الدكتور طه وهي أنه سطا سطوا كريها على مقالة المستشرق الأعجمى. فكان بلا شك، يبلغه ما أذيعه بين زملائى. وكثر كلامي عن الدكتور طه نفسه، وعن القدر الذي يعرفه من الشعر الجاهلي، وعن أسلوبه الدال على ما أقول. واشتد الأمر حتى تدخل في ذلك، وفي مناقشتى، بعض الأساتذة كالأستاذ "نلينو"

والأستاذ "جويدى" من المستشرقين، وكنت أصارحهما بالسطو، وكانا يعرفان، ولكنهما يداوران. وطال الصراع غير المتكافيء بيني وبين الدكتور طه زمانا، الى أن جاء اليوم الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها، لا الجامعة وحدها"، (المتنبي 1: 23، 24) أخشى أن يكون هذا هو الذي أوقع في نفسك أيها العزيز، أنه كانت بينى وبينه (خصومة) قديمة منذ ذلك الزمان وأنا في الجامعة. سوف أتمم لك التاريخ الغابر خطوة خطوة. نعم ظل أمرى كما وصفت آنفا، سنتين، وأنا لم أفارق الجامعة بعد. وأزيدك الآن أيضا، أنى، مع كل ذلك، لم أنقطع عن زيارة الدكتور طه في بيته خلال هاتين السنتين المرة بعد المرة والذي بينى وبينه "سهو رهو"، كما حدثتك عن شأنى وشأنه قبل أن يكون أستاذا في الجامعة. أما "قضية السطو" فكانت قضيتى أنا وحدي، تعمل عملها في هدم معنى "الجامعة" في نفسي فلا أنا أجترئ على مصارحته بها، ولا هو يفاتحنى في شأنها وهو يعلم علما ليس بالظن ماذا أقول في فناء الجامعة، وماذ أقول للأساتذة لم كان يفعل ذلك ويصبر على؟ أمر يحتاج إلى تفسير، وأنا لست بصدد التفسير ولكني ملتزم برواية التاريخ لا غير. وأيا ما كان الأمر فهل ترى في هذا ظلا من (خصومة)؟ وكذلك، فأنا أزيدك أيضا من أخبار هاتين السنتين يوم قبل مدير الجامعه أن التحق بكلية الآداب، وبمحضر الدكتور طه نفسه، أخذ على عهد: أن أدرس اللغة الفرنسية، لأن طلبة القسم العلمي في الثانوية، كانوا لا يدرسون سوى الإنجليزية، وزملائى في كلية الآداب كلهم من طلبة القسم الأدبى الثانوى وقد درسوا هذه اللغة سنتين، فكان لزاما على أن أحصل ما حصلوه فيها: وأن أحضر أيضا معهم دروس اللغة الفرنسية في كلية الآداب، لكي أمتحن فيها كما يمتحنون، ومرت الأيام والشهور، ودنا موعد الامتحان، وأنا في حيرة من أمرى، أي حيرة استنكفت أن أسأل الدكتور طه أن يشير على ماذا أفعل؟ وذات يوم دعانى وقال لي: غدًا تمر علي في بيتى. فعلتُ: وبقيتُ معه طويلا في حديث

متشعب. وأخيرا سألني: ماذا فعلت في دروس الفرنسية؟ قلت: الآن أستطيع أن أقرأ قراءة مقاربة، وأن أفهم فهمًا لا بأس به ولكني لا أستطيع البتة أن أعبر عن نفسي في الامتحان الشفوي، لا ينطلق لساني. فقال وبعدين يا محمود! قلت الأمر اليك. فأطرق يفكر. ثم قال: إذا كنت لا تستطيع أن تجيب عما تسأل عنه بالفرنسية، فهل تستطيع أن تجيب بالإنجليزية؟ قلت: نعم بلا شك. قال: إذن فعند الامتحان الشفوي تعالى إلي. ولم يزد، وانصرفت. فلما جاء الامتحان ودنا دروى، ذهبت إليه في مكتبه، فأخذ بيدي، وسار بي إلى لجنة الامتحان، ووقف الأستاذ الفرنسي إجلالا له، وبعد تقدمة قدمها قال: إنه يقرأ بالفرنسية ما شئت فإذا سألته عن شيء مما يقرأ، فأرجو أن تقبل منه أن يجيبك بالإنجليزية. وأخذت الأستاذ الدهشة، وبعد تردد ومحاورة قبل، وامتحنني. فهل ترى، أيها العزيز، في هذا ظلا من (خصومة)؟ * * * ودارت الأيام وأنا أغدو وأروح إلى الجامعة وجارتي "الغول" لا تفلتني ولا تفارقني، وصليل المعاول وهي تضرب في معنى "الجامعة" يتردد في نفسي، واسمع هدة انهيارها. وبغتة تهاوي كل شيء وهلكت قدرتي على الصبر فانقطعت عن الدراسة واستحصدت (¬1) عزيمتي على أن أهجر مصر كلها لا الجامعة وحدها، غير مبال بإتمام دارستي الجامعية، طالبا للعزلة، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في "قضية الشعر الجاهلي"، بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعب، (المتنبي 1: 24) هكذا قلت. انقطعت عن الذهاب إلى الجامعة فجأة. لم أر أحدًا من زملائي البتة. وعزمت على أن أسافر إلى مكة والمدينة طلبًا للعزلة، ولم أخبر أحدًا فقط بعزيمتي إلا رجلا واحدا، كان قد أطال المقام في مصر، وصار بعد سفيرا للسعودية، وهو الشيخ "فوزان السابق"، -رحمه الله- كان صديقًا لأبي وإخوتي، وكان يعرفني ¬

_ (¬1) استحصدت: اشتدت وقويت.

أوثق معرفة. استمع الرجل إلى وكان وديعا طيب النفس، فبعد لأي قَبل أن يُعِيننى، وأخذت عليه العهد أن لا يخبر أحدا من أهلى بما عزمت عليه. ورحت أسعى سعيا حثيثا حتى استخرجت شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية، بعد دفع رسوم "البدلية"، كما كانوا يسمونها. وأعانني الشيخ فوزان حتى استخرجت جواز سفر بعد جهد جهيد. فلما وضعت الجواز في جيبى واطمأن قلبي، ذهبت إلى أبي -رحمه الله- فكاشفته بجلية أمرى .. لم تأخذه دهشة المُنْكِر، خيل إلي أنه كان يعرف! ظللت أياما بين يديه، يحاورنى ويحاول أن يقنعني بالإقلاع عما عزمت عليه. لا هو يقتنع بما أقول وبما أمنى النفس به مختالا ولا أنا أقتنع بما يقول، وأخيرا ذكر لي بيت النابغة الذي مر آنفا: ولا تَذْهب بحِلْمكَ طامِياتٌ ... من الخُيلاء ليس لهن بابُ وقال: ستجد الأبواب مغلقة دون أمانيك بالضبة والمفتاح وستعود إلينا، بعد أن تضيق كما ذهبت، فافعل ما تشاء. وأَلْقَى حَبلى على غاربى، ووافق على سفرى، وبدأت أعد العدة وجمعت جميع كتبى وعبأتها. ولكن من الطريف أنى أقصيت منها جميع كتب الدكتور طه، وهبتها لصديق لي -رحمه الله- .. فلم أكد استقر في مدينة جدة بالحجاز، وهدأت نفسي، حتى عدت فاشتريتها جميعا من مكاتب جدة. كان سخفا مني، ولكن هكذا كان! ! وذات يوم في الصباح الباكر دخل على زميلى وصديقي الأستاذ محمد الخضيرى، يستطلع أمر غيبتى عن الجامعة. وكان قد سأل عني مرات بالهاتف ولم يجدنى. فلما جلس، أفضيت إليه بالأمر كله، ففزع قائما، وكاد يبكى. فلما أخبرته بجميع ما في نفسي، أطرق وسكن، وبقى قليلا ثم انصرف. وفي العشية فوجئت بمقدم الأستاذ نلينو، ولكن هدوءه وبشاشته وهو يسألنى عن أبي كعادته كما جاء يزوره نفت الشك عن قلبي. فأخبرت أبي بمجيئه. فلما التقيا وجلسا، فوجئت بالأستاذ يتكلم ويذكرنى وصوته يتهدج ويتقطع من الغضب والأسف، فرجف قلبي رجفة وقمت من فورى ذاهبا على وجهي أحث الخطى، من دارنا في الحلمية الجديدة، ولم أنتبه إلا والمؤذن يوذن لصلاة المغرب، من

مسجد قريب في منطقة الدقي فصليت المغرب ثم انقلبت راجعا إلى البيت بعد صلاة العشاء. أخبرني والدى أن الأستاذ نلينو جاء نائبا عن الدكتور طه، وأن الدكتور طه استحسن ذلك لأنه كان أستاذه وهو اليوم أستاذى أيضا، وقال: إنه دعا الأستاذ نلينو والأستاذ جويدى على الغداء عندنا بعد غد. جاء هذا الغد، وعدت إلى البيت بعد الظهر، لأجد الأستاذين نلينو وجويدى ومعهما أكثر من عشرين ضيفا، كلهم كان يعرفني، وهم من الأساتذة في دار العلوم، ومدرسة القضاء الشرعى، وفي الأزهر، وآخرين من أساتذتنا الكبار في ذلك العهد. وبعد الغداء وقعت بين المطرقة والسندان. كل يتكلم مُسَفِّها لي ضِمنا أو علانية، وأنا أرد مرة وأسكت مرات حتى بلغ مني الجهد. وأخيرا وقف الأستاذ نلينو فجأة، ووجه الحديث إلى أبي، وقال إن واجبه ديانة (غريبة! ) أن يمنع ولده من السفر. فقال له أبي -رحمه الله-: لا آمر ولدى في شيء، وقد حاولت أن أقنعه بالحجة بعد الحجة فلم يقتنع. وها هو ذا بين يديك، فإن استطعت أن تبلغ في إقناعه ما لم أبلغ، فقد شفيت صدرى وأرحتنى، أما القسر فلا قسر عندي يا أستاذ نلينو. فالتفت إلى نلينو، وأطبق على إطباقا خانقا، فلم أجد لي مخلصا من قبضته إلا المصارحة. فقلت له: نعم أنا مقتنع بكل ما تقوله عني وعن تسرعى وتهورى ومخاطرتى بمستقبلي، ولكني لم أكن كما وصفت إلا لشيء واحد، هو أن معنى "الجامعة" في نفسي قد أصبح أنقاضا وركاما، فإن استطعت أن تعيد لي البناء كما كان، فأنا أول ساكن يدخله لا يفارقه. قال: ما هذا؟ ماذا تعني؟ قلت: أنت تعلم أنى بقيت معك في الجامعة سنتين لم أبرح، وتعلم ما كنت أقوله عن "مسأله الشعر الجاهلي" التي نسمعها في محاضرات الدكتور طه، وأن هذا الذي نسمعه ليس إلا "سطوا" مجردا على مقالة مرجليوث، وأنت وجميع الأساتذة تعلمون صحة ذلك. وفي خلال السنة الماضية، نُشرت كُتُب ومقالات في الصحف تكشف ذلك أبين كشف -ولكن لم يكن لهذا الكشف عندكم في الجامعة صدى إلا الصمت. فهدا الصمت إقرار من الجامعة وأساتذتها بهذا

المبدأ، مبدأ "السطو". قد مضت على سنتان صابرا، أما الآن، فلم أعد قادرا على التوفيق بين معنى "الجامعة" في نفسي، وبين هذا المبدأ الذي أقررتموه، فتقوض معني "الجامعة" وأصبح حطاما. فكيف تطالبوننى بأن أعيش سنوات أخرى بين الحطام والأنقاض؟ وأي خير أرجوه، أو ترجونه مني، إذا أنا فعلت ذلك راضيا أو غير راض؟ شيء واحد: أن يعلن الدكتور طه أن الذي يقوله في "مسألة الشعر الجاهلي"، هو قول مرجليوث بنصه، وليقل بعد ذلك أنه يؤيده ويناصره ويحتج له، أو لا يقل. فإذا فعل، فستجدنى غدا أول طالب يرابط في فناء الجامعة قبل أن تشرق الشمس. أما مع هذا الصمت، فإن نفسي لا تطيق أن تسكن الديار الخربة! وجم نلينو، وأحسست بنظرات العيون تنفذ كالسهام في جميع أعضائى، وبغتة قال الشيخ عبد الوهاب النجار -رحمه الله-: إن هذا الفتى كان في رأسه أربعة وعشرون برجا، فطارت ولم يبق إلا برج واحد، عسى أن ينتفع به يوما ما، فيسترد الأبراج التي طارت! وسكت. وحيرتنى كلماته. ولم أدر ما عناه، أهو راض عما قلت أم غير راض؟ ثم بدأ نلينو يتكلم مرة أخرى هادئا معرضا عني، وعرض على والدى حلا آخر لإنقاذى ولكني لم أستجب لهذا الحل. وبعد يومين كنت على ظهر الباخرة التي تقلنى إلى مدينة جدة، فنزلتها، وشددت الرحال إلى بيت الله الحرام، فقضيت عمرتى، ثم عدت إلى جدة بعد أيام، فأجد أول رسالة تلقيتها من أبي وفي آخرها يقول: "زارنى في عصر اليوم الذي سافرت فيه إلى السويس، الأستاذ نلينو والدكتور طه حسين"، ولم يزد على ذلك شيئا، وختم الرسالة. لقد أضنيتنى، أيها العزيز، وحملتنى على أن أقص قصة طويلة أنا راغب عنها، ولا خير فيها لأحد. ولكن .. أنتَ قطعت اللجام بالحسام، فلم يبق في يدي ما أكبح به جماح القلم، وقد كنت من قبل قادرا على كبح جماحه وأنا أكتب "لمحة من فساد حياتنا الأدبية" هي مقدمة كتابى "المتنبي" حيث قصصت بعض القصة كارها، ولكن ما أبشع قصة (الخصومة) وأكرهها إلى

نفسي. فالآن هل ترى من (خصومة) كانت بينى وبين الدكتور طه منذ عرفته إلى أن فارقت مصر كلها، لا الجامعة وحدها، في سنة 1928؟ بعد الجامعة مضت السنوات منذ سنة 1928، وأمر الجامعة وكل ما فيها لا يعنينى. وكان ما توقعه أبي، فعدت أدراجى من الحجاز إلى مصر، لم أر الدكتور طه ولا أحدا من زملائى في الجامعة أو أساتذتى منذ ذلك اليوم إلى أن كان يناير سنة 1936، التي خرج فيها كتابي "المتنبي". ثم جاء أسبوع الاحتفال بمرور ألف سنة على وفاة أبي الطيب، بدار الجمعية الجغرافية في النصف الثاني من سنة 1936، فلقيت الدكتور طه مرتين متتابعتين، فقابلنى بالحفاوة والبشاشة، "ثم أخبرني أنه قرأ كتابي كله، وجاء بثناء لم أكن أتوقعه، وأطال وأفاض: (على مشهد من جميع أساتذتى في الجامعة) وغمرنى ثناؤه حتى ساخت بي الأرض، فمات لساني في فمى، فلم أستطع أن أنبس بحرف واحد، وهو آخذ بيدى لا يرسلها، إلى أن ركب، وافترقنا"، قلت ذلك وذكرت تمام القصة في كتابي، (المتنبي 1: 133، 134، 137، 138) -ثم في يناير سنة 1937، أي بعد أقل من عام، ظهر كتاب الدكتور طه "مع المتنبي"، وساءني الكتاب، وردنى إلى سنة 1928 وما قبلها، وإلى كل ما عنيته يومئذ من غوائل جارتى "الغول" وكذلك عادت "قضية السطو" على أعمال الناس في قلبي جَذَعَةً أي نارا حية بعد أن طفئت وخبا أُوارها. كتبت اثنتى عشرة مقالة في صحيفة البلاغ بعنوان: "بيني وبين طه" بنيت الكلام فيها، منذ فاتحة المقالة الأولى على قول صريح بلا مواربة ولا مداهنة، أن كتابه "مع المتنبي"، "سطو" على كتابي أولا وتقليد لمنهجه، ثم على كتاب الدكتور عزام، ثم على كتاب الأعجمى بالاشير، وعلى كتب أخرى متفرقة. وكنت على نية متابعة هذه المقالات، فحدث ما بغَّض إلى هذا الأمر كله، فطرحت كتابي وكتاب الدكتور طه جانبا، وضقت بهما وبالمتنبى نفسه ذرعا. فكففت عن متابعة الكتابة، وذكرت سبب ذلك في كتابى "المتنبى 1: 142،

143". وكنت أنوى في ختامها أن أثير "قضية السطو على أعمال الناس برمتها، لأن أمرها كان قد استشرى في ذلك الوقت، وإلى اليوم، بين أسوار الجامعة وخارج الأسوار". بعد أيام، منذ كففت، اتصل بي الأستاذ نلينو مرات بالهاتف: يسأل عن أبي، وكان مريضا، ويسأل عني فلم يجدنى. كانت وفاة الرافعي -رحمه الله-، وهو أستاذى وصديقي، قد بلغت مني، فنسيت نلينو أو تناسيته -وبينما أنا أفارق محطة مترو مصر الجديدة، وكانت في شارع عماد الدين يومئذ، لقيت نلينو وجها لوجه، وتصافحنا وسرنا حتى جزنا الزحام إلى الرصيف الهادئ، فابتدرنى قائلا: قرأت كتابك ثم مقالاتك في صحيفه البلاغ. ثم ضحك كعادته حتى استغرب (¬1) وقال: لم تتغير أنت، ولم يتغير الدكتور طه، (يعني ما كان من أمرى وأمره في الجامعة). ثم قال: إنه سألنى عنك مرات، وهو يحب أن يراك، فواجب عليك أن تزوره، قلت: نَعَمْ، ونِعْمَة عَيْن (¬2)، وسوف أفعل إن شاء الله. ولم يذكر كتاب الدكتور طه بكلمة، فسألته: وهل قرأت كتابه؟ قال: نعم. قلت له: فما رأيك إذن؟ وكنت أعني رأيه فيما كتبته أنا في صحيفة البلاغ، إلا أنه فاجأنى قائلا: كان ينبغي للدكتور طه أن يحتفظ به في درج مكتبه بضع سنوات، وهو يعيد النظر فيه، ثم ينشره بعد ذلك. قنعت بهذا، وسرنا نتحادث حتى افترقنا. ولكني لم أف بما وعدته به من زيارة الدكتور طه. ومضت ثلاث سنوات أو أكثر، وفي يولية سنة 1940، دق جرس الهاتف، وإذا المتحدث هو الدكتور طه نفسه، فعاتبنى عتابا مُرا على انقطاعى عنه، ثم حدثني عن مقالة كان قرأها قبل أيام في الرسالة، كتبتها بعنوان: "ويلك آمن! "، وحرضنى على أن أتابع القول على هذا المنهج، ثم دعانى إلى زيارته، فزرته بعد ذلك مرات. ثم توفيت زوجة صديق لي، كان أديبا كاتبا، ومدرسا أيضا، وتركت امرأته صغارا في المهد وفوق المهد قليلا، فلم يطق من يومئذ أن يذهب ¬

_ (¬1) استغرب: أغرق في الضحك حتى بدأت أواخر الأسنان. (¬2) أي أفعل ذلك وكرامة، وقد مر شرحه.

إلى المدرسة ويرى أشباههم الصغار، وأراد أن ينقل إلى الوزارة نفسها ويترك التدريس كان الدكتور طه يومئذ مستشارا لوزارة المعارف، فرأيت لزاما على أن أقضى حق صديقي، فاتصلت بالدكتور في بيته لأزوره، واتفقنا على الموعد. كان هذا الصديق قد تناول الدكتور طه تناولا شديدا في بعض ما كتب من قبل، وأنا أعلم من خلائق الدكتور طه ما أعلم، فأخذت لذلك حذرى. لم أفاتحه فيما جئت له إلا بعد أن أنبأته أنى جئت في حاجة قضاؤها في سلطانه وناشدته أن يستجيب لي مهما بلغ أمرها من الصعوبة. فقال خيرا، حتى استوثقت من الأمر لم أذكر اسم الصديق، ولكني حدثته عن نكبة صديق لي مدرس في المدارس، وبلغتُ الجهد في نَعْت نَكْبته، وأحسنت وصف أخلاق صديقي وقدرته وامتيازه ومعرفته وخبرته وسألته أن يأخذه معه في مكتب المستشار، أي في مكتبه هو. فقال: سأفعل، لكن من هو هذا الذي حدثتنى عنه؟ فذكرت له اسمه، فانتفض غاضبا وقال: لا، كيف يكون هذا؟ محال! غير ممكن، إنك خدعتنى! فقمت غاضبًا وقلت لقد أعطيتنى العهد، وإذ لا عهد، فالسلام عليكم، ووليت منصرفا ولم أعقب. فنادى سكرتيره بأعلى صوته، وأمره بأن يردنى: فرجعت. فأجلسنى وقال: مالك أيها الصعيدى! فقلت مسرعا ببقية الغضب التي في نفسي: إنك ترفضه، لا لأنه كتب عنك، بل لأن ما كتبه ذكَّرك بما كتبت أنا عنك! (وأعني مقالاتى عن المتنبي). فقال: لا، يا شيخ، أتظن هذا؟ وانفثأ غضبه وظل يضحك ملء فيه. بدأ يحدثني عن هذه المقالات، وكيف كان يقرؤها؟ وعما كان يحدث بينه وبين بعض أصدقائه كلما ظهرت مقالة في البلاغ، وقال ما قال عن هذه المقالات، فأدهشنى ما قاله، وعلى كل حال لعله رأى فيها غير ما رأيت أنت أيها العزيز. ثم ختم الحديث بأن قبل شفاعتى في صديقي واستجاب لكل ما طلبته على بعض المضض. وصار موظفا عنده في مكتبه. وبعد أسبوعين أو ثلاثة زرته في مكتبه، فصارحنى بأنى قد أخلصت له النصيحة في هذا الصديق، وأثنى عليه ثناء مذهلا.

حسبنا هذا القدر من التاريخ الممل، ذكرته واضحا لمن يتأمله، وفيه من جوانب فضل الدكتور طه ما ينفي كل (خصومة) متوهمة، ولم أنس قط يدا كانت للرجل عندي. ومنذ سنة 1940 ظل الود بيني وبينه إلى أن أفضي إلى ربه غفر الله لنا وله. وكان في حياته يقرأ كل ما أكتبه وأذكر فيه "قضية الشعر الجاهلي"، فلم أجد عنده ولا عندي (خصومة) تبلغ بي أو به حد "اللدد في الخصومة". وإذا كان، أيها العزيز، بعض ما في كلامي وألفاظي، وأنا أذكره قد ارتفع بك إلى إستخراج (خصومة) تنسبها إلي، فهذا ليس يجرى عندي على هذا الوجه. و (الخصومة) على الوجه الذي دل عليه كلامك، ليست مما أتعامل به فيما أكتب. فما من شيمتى أن أخاصم أشخاص الرجال على آرائهم أو أفعالهم، فإذا خاصمت فأنا أخاصم الآراء والأفعال نفسها، ولا أتجاوز بخصومتى إلى أصحابها والفاعليها. . نعم، إن "الأساتذة الكبار" قد سنوا في (الخصومة) سننا جرت عليها حياتنا الأدبية، فألفها الناس حتى لم يعد أحد ينكرها أو يعيد النظر فيها، فكأنك معذور كل العذر، إذ جعلت تقيس سُنَّتى في الكتابة على سُنَّتهم، ولكني لست من "الأساتذة الكبار" في شيء بحمد الله. قضية السطو كذلك. . "قضية السطو"، وهي إلى هذا اليوم قضية جارية في حياتنا الأدبية، حاولت في مقدمة كتابى "المتنبي" أن أكشف عن جذورها وأصولها وبعض أساليبها، ثم قلت: "والقصة تطول، ومع ذلك فليس هذا مكان قصتها على وجهها، إذا أنا أردت أن أقيد ما كان كما شهدته فيما بين سنة 1928 وسنة 1936، بل إلى ما بعد ذلك إلى يومنا هذا"، (المتنبي 1: 38) وإذا كان طول إلفها قد جعلها مستساغه، أو بعيدة عن التناول، أو في ضل وارف يسترها عن أعين الناظرين، فذلك لا ينفيها، أو لا يحجبها عن العين الفاحصة التي تتدسس إلى الأعماق. ومع ذلك، فأنا أحب أن أجعلك على بينة من أمرها عندي. فقد ذكرت لك أنها إحدى قضيتين نشأتا عندي، وأنا في الجامعة،

أستمع الى محاضرات الدكتور طه في "مسألة الشعر الجاهلي"، وكانت هذه القضية قضيتى أنا وحدي، فيما بيني وبين نفسي. ففارقت الجامعة سنة 1928 وهي معى حية مبصرة. ثم عشت منذ ذلك الحين زمنا طويلا إلى يومنا هذا، وأنا أرقبها وأشاهد آثارها، وأتتبع وسائلها وأساليبها في كل ما أقرأ أو أسمع. ولكني لم أنصب نفسي لدلالة الناس على هؤلاء الذين يسطون على أعمال الناس بجرأة خارقة، ولا أنا حاولت أن أتعقب هؤلاء فأكشف أمرهم علانية، كان ينبغي أن أفعل، ولكني لو فعلت ذلك، لكان على أن أستهلك أيامى وليالى وعمرى كله، ولأحفيت إذن آلافا من الأقلام في تسطير هذه الخبائث على آلاف من القراطيس والأوراق. لم أصبر نفسي على كشف الأساليب الملتوية البارعة في السطو على أعمال الناس، لأننى كنت يومئذ في شغل عنها، بما هو أجدى على: من تقويم نفسي، ومن تخليصها مما داخلها من الفساد بفساد الزمان الذي نشأت فيه. كانت "قضية السطو"، فيما قبل سنة 1928، تسير على استحياء، وكان ما بقى من أخلاق الناس في الناس، يكف من خطواتها في حياتنا الأدبية. ولكن لما ثارت "مسألة الشعر الجاهلي" في الجامعة، وعلم من لم يكن يعلم أن الذي قيل فيها إنما هو سطر مبين على مقالة مرجليوث اختلف الأمر اختلافا شديدا. فالجامعة وجميع أساتذتها يومئذ، قد علموا علما يقينا أن كتاب "في الشعر الجاهلي" قائم على "السطو" على مقالة مرجليوث بحذافيرها. ومع ذلك، فقد ابتلعت الجامعة وأساتذتها هذا "السطو"، ثم تستروا عليه، لا بل حاطوه بالرعاية وبالعصبية. فكان ذلك إقرارا بالصمت، لهذا المبدأ، فمن يومئذ، أخذ من كان بالأمس يستحي أن يوصم بالسطو، يخلع برقع الحياء عن وجهه شيئا بعد شيء. واستحدث كل منهم وسيلة من الوسائل، وأسلوبا من الأساليب، تجعل هذا "السطو" يبدو ضربا من "التجديد" في دراسة الأدب وفي إنتاج الأدب. وبدأ السطو من بعض "الأساتذة الكبار" تزداد أساليبه خبثا ونكرا، ودهاء ومكرا، يوما بعد يوم، تحت سيطرة "الإرهاب الثقافي" الذي تولى كِبْرَهُ "الأَساتذة

الكبار" (¬1). وتُسَهِّل من أمره ما كان يَسْتصعب، وبدأ الكبار يستغلون الصغار أيضا، ويدربونهم على السطو الصريح بأساليب تخفي شيئا من معالمه، ودارت العجلة. . ورحم الله أبا العلاء إذ قال: ولا تُعَلِّم صغيرَ القوم معصيةً ... فذاك وِزْرَ إلى أمثاله عَدَلَكْ فالسِّلْكُ، ما اسطاع يوما ثَقْبَ لؤلؤةٍ! ... لكنْ أصاب طريقًا نافِذا فسَلَكْ دارت العجلة، ولم تزل تدور، وجاء جيل بعد جيل، أصاب طريقا نافذا فسلك! واستقر الأمر على ذلك في حياتنا الأدبية إلى اليوم، لا أقول لك في البحث الأدبي، بل في الفن كله وفي الموسيقى أيضا، وفي الإنتاج الأدبي والعلمي بلا استثناء، إلا من عصم الله، وهم قليل. وليت الأمر وقف عند ذلك القدر من المكر والدهاء في "السطو"! ليته وقف، ولكن انحدر بعد إلى هوة "السطو الحر" وقرارته، (الحر! غريبة، كيف جاءت هذه الصفة هنا؟ ). انحدر إليها بلا قناع، إلا قناع الزمن الذي يُشْدِلُه على أعمال الناس بالتقادم! مثال ذلك: كتاب كان صاحبه يحميه حيا، فلما هلك هلكت معه الحماية، وأسدل الزمن عليه قناعه. يأتي أستاذ فيعيد نشره بنصه كما كان، ولكن عليه اسمه هو، ويرتفع الأمر الى المحكمة، فتحكم بأنه "سطو"، دون أن تلجأ الى خبير من أهل هذا العلم، لأن الأستاذ قد أغنى المحكمة عن إرهاق الخبير! كان سطوا حرا، سطرا سطرا. ثم مات الأمر، وابتلعته حياتنا الأدبية ابتلاعا حرا؟ بلا استنكار، لا باليد ولا باللسان ولا بالقلب. وإذا بلغ الأمر هذا المبلغ. فلا ريب في أن "السطو" الخفي المتقن، الذي يلبس طيلسان الجامعة، أو برد الأستاذية، أو يختال في ثياب موشاة من البحث العلمي = خليق أن يعد عندنا في حياتنا الأدبية، تسابيح عبادة في محراب الفنون والآداب. من أجل ذلك، لا أجدني منصفا، إذا توقفت عند مقالتك الثانية، وعند ¬

_ (¬1) كِبْر الأمر: مُعْظَمه.

ما ذكرته فيها من استنكارك على أن أجعل في كتابي "المتنبي" فصلا بعنوان "كتابان في علم السطو"، متهما فيه الأستاذين الجليلين: الدكتور طه والأستاذ عبد الوهاب عزام بالسطو على ما في كتابي وعلى كتب غير كتابي عن المتنبي. فهذه قضية لا أحب أن أناقشها هنا، بأكثر مما سطرته في المقدمة (المتنبي 1: 106 - 165)، وفي مقالاتى التي نشرتها في الجزء الثاني من كتابي بعنوان "بيني وبين طه"، فإذا كان ما كتبته لم يقنعك، فأنا وأنت كما قال المقنع الكندى: وإنَّ الذي بَيْنِي وبَيْنَ بَنِي أبي ... وبَيْنَ بني عَمِّى، لَمختِلفٌ جِدًّا! وحسبي أن أختم القول "قضية السطو" بكلمتين أقتبسهما عرضا. الاقتباس الأول من صحيفة الأخبار في 27 فبراير 1978، من كلمة كتبها الأستاذ جلال الدين الحمامصى "دخان في الهواء". يقول: "لصوص الفكر: عندما تحدثتُ عن لصوص الفكر الذين يسطون على الكتب، ويأخذون بعض أفكارها ويؤلفون منها القصص السينمائية، لم أكن أظن أن هذا الموضوع يشغل بال الكثيرين، لا في مجال السينما وحدها، بل وفي كل المجالات، فأساتذة الجامعة يشكون من أن اللصوصية امتدت إلى بعض الطلبة، فيسطون على مؤلفاتهم بكاملها ويصورونها، ويبيعون النسخ لزملائهم بأرباح طائلة. والدكتور صليب بطرس يقول: "إن الإنتاج الفكرى المصري أصبح في معظم الأقطار العربية نهبا للصوص الفكر، يسَّرت لهم السرقة فنون الصنعة الطباعية الحديثة التي انتشرت على نطاق واسع في السنوات الأخيرة كما يسرت لهم تفادى أغلى الأجزاء في صناعة الكتاب، وهي حق المؤلف، وعملية الجمع. فلا يبقى بعد ذلك إلا التصوير والورق والحبر وهي تقل عن نصف التكلفة الكلية بكثير. ومن ثم يصبح اللص في مركز يمكنه من بيع الكتاب المزور بأقل مما يبيعه ناشره الأصلى بكثير جدا". وردود الفعل لكلمتى كثيرة، وهكذا نجد أن اللصوصية لم تعد مقصورة على

مجال واحد، بل أنها تمتد. وتمتد وتصبح القاعدة في كل شيء. وما ذلك إلا لأن الاعتداء على حقوق الآخرين لا يجد من يمنعه. على أنى أقول إن أخطر أنواع هذه اللصوصية، هي السطو على فكر الآخرين وتقديمه في أفلام لأن المفروض أن مؤلف القصة أو كاتب السيناريو والحوار، إنما يحاضر المشاهدين في موضوعات عامة وترتكز على المبادئ، والقيم الأخلاقية. وما أتعس شعبا يكون المحاضر فيه من أقطاب لصوصية الفكر". هكذا قيل في (فبراير سنة 1978). فهذا كما ترى، أيها العزيز، داخل دخولا ما في "السطو الحر" الذي حدثتك عنه، ولكنه خسيس! الاقتباس الثاني من كتاب جيد للدكتور فؤاد زكريا، عنوانه "التفكير العلمي"، نشره في شهر (مارس سنة 1978)، عقد في أواخره بابا بعنوان "شخصية العالم"، وجعل الفصل الأول في "الروح النقدية" فقال (ص: 288، 289): "والوجه الآخر لموضوع النقد هذا هو أن نعترف بفضل الآخرين على أعمالنا. فنحن ندين لمن نقرأ لهم بقدر كبير من معارفنا بل أن كثيرا من أفكارنا الشخصية التي يبتدعها كل منا وفي ذهنه أنه مصدرها الوحيد، لا تثار في أذهاننا إلا لأن قراءة بحث أو كتاب معين، قد أوحي إلينا بها، ولو بصورة غير مباشرة، أو أثار فينا حاسة النقد والهجوم، فيكون له الفضل في هذه الحالة بدورها، حتى ولو كان ذلك فضلا سلبيا. ومن هنا: فإن العلماء والكتاب في البلاد المتقدمة التي رسخت فيها التقاليد العلمية، يحاولون بقدر ما في وسعهم، رد الفضل إلى أصحابه. وربما رأيت المؤلف منهم يعدد في مقدمة كتابه أسماء مجموعة ضخمة من الأشخاص، بعضهم ناقشه مناقشة قصيرة حول الموضوع، وأحيانا يذكر الأستاذ فضل تلاميذه الذين ألهموه بأسئلتهم واستفساراتهم كثيرا من أفكاره. أما الإشارة إلى الاقتباسات من المراجع الأخرى، فقد أصبحت تقليدا ثابتا لا يخالف فيه أحد. وفي هذه الحالة بدورها، نجد أن هذا التقليد الجليل لم يستقر في بلادنا تمام

الاستقرار، بل أن مخالفته قد تتخذ في بعض الأحيان أبعادا مؤسفة، كما يحدث في حالات "السطو" على أعمال الآخرين التي ينسبها المرء إلى نفسه دون وازع من ضمير. ومن المؤكد أن حياتنا العلمية لن تستقيم إلا إذا أصبح الاعتراف بفضل الآخرين، حتى في الأمور البسيطة، قاعدة لا يخالفها أحد. وربما احتاج الأمر في البداية إلى قدر من الشدة، بحيث يَلْقَى من يرتكبُ عملا من أعمال السرقة العلمية جزاء رادعا. وبعد ذلك يمكن أن يتحول السلوك العلمي القويم إلى عادة متأصلة في النفوس، فلا نحتاج إلى فرض جزاءات. ولكن النظرة المدققة إلى أوضاع التقاليد العلمية في العالم العربي لا توحي بالتفاؤل، إذ يبدو أن الأجيال الجديدة أقل تمسكا بهذه التقاليد حتى من الأجيال السابقة. ومن ثم فإن الخط البيانى للروح النقدية السليمة، وللأخلاق العلمية بوجه عام، يتجه إلى الهبوط. وهو أمر مؤسف ينبغي أن نتداركه حتى لا تتسع الهوة بيننا وبين البلاد المتقدمة التي يزداد علماؤها تمسكا بالتقاليد العلمية جيلا بعد جيل". هكذا يقول أستاذ من أساتذة الفلسفة بعد مضى أكثر من خمسين سنة على إِنشاء الجامعة! وأنا أقتصر على هذين الاقتباسين بلا تعليق، فإن ما أسلفته هنا وفي كتابي دال عليه، وصدق أبو العلاء، فإن الجيل بعد الجيل "أصاب طريقا نافذا فسَلَكْ"، وغفر الله للأساتذة الكبار! ! ولكن الأمر أجل وأفحش مما يتصور الأستاذ الحماصى والدكتور فؤاد، كالذي قال الشاعر في هجاء رجل يقال له "الأشنعى": لَعَمْرُكَ إن الأَشْنَعِيَّ وشَأْنهُ، ... لكالصُّبْحِ، ما يزداد غَيْرَ بياضِ أو كالذي قال أبو تمام: أيقظت هاجِعَهمْ، وهل يُغْنِيهمْ ... سَهْرُ النواظرِ والعقول نيامُ أو كالذي قال ابن الرومى: يرى الموارط ذو عين فيحذرها ... والعمى فيها إلى الأذقان والركب وحسبي أن أختم هذه القضية، "قضية السطو" هنا، بما قلت في ختامها في كتابي

"أتلفت اليوم إلى ما أشفقت منه قديما من فعل "الأساتذة الكبار". لقد ذهبوا بعد أن تركوا، من حيث أرادوا أو لم يريدوا، حياة أدبية وثقافية قد فسدت فسادًا وبيلا على مدى نصف قرن، وتجددت الأساليب وتنوعت، وصار السطو على أعمال الناس أمرا مألوفا غير مستنكر، يمشي في الناس طليقا عليه طيلسان (البحث العلمي) و"عالمية الثقافة" و"الثقافة الإنسانية"، وإن لم يكن محصوله إلا ترديدا لقضايا غريبة، صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية، واختلط الحابل بالنابل. قُلْ ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت، فإنه صادق صدقا لا يتخلف. فالأديب مصور بقلم غيره، والفيلسوف مفكر بعقل سواه، والمؤرخ ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنان نابض قلبه بنبض أجنبى عن تراث فنه"، وارحمتاه! ! كذلك. . . وهذه هي القضية! ولم أزل أقول عن كتاب الدكتور طه، والأستاذ عزام، أنهما "كتابان في علم السطو" لا جَرَم! وسَمِّهما أنت بعدئذ ما شئت: "استلهاما" أو "استعارة" أو "استلالا في خفة"، أو بابا من أبواب "الاجتهاد" الذي تصورت أنى خُلِقْت لأغلقه، فالمهارة البارعة في تغيير بعض معالم المتاع المسروق أو أكثرها لا تخرجه ولا سارقه من حد السرقة. وطال الأمد على لُبَد (¬1). . . ونحن لم نزل في الثالثة، فأنت أيها العزيز، تقول: "إنه من المحزن أن يبلغ بنا اللدد في الخصومة حدا يجعلنا نسلب طه حسين أخص خصائصه، ونتجاهل أجمل قدراته، ونصفه بأنه (رجل جاهل)، ليس له بصر بتذوق الشعر". بطلت (الخصومة) آنفا، فالآن كيف؟ أنت تعرفني بلا شك، وتعرف الدكتور طه أيضا، أليس كذلك؟ فهل تتصور أنه لو كان الدكتور طه عندي (رجلا جاهلا)، هل تتصور أنى كنت أخاطبه أو أبالى به؟ لعلك قست أمرى وأمر الدكتور طه، على ما كان مني يوم حملت القلم بعد هجر له طويل، ¬

_ (¬1) هذا مثل، وأكثر ما يروى: طال الأبَد على لبد، ولبد آخر نسور لقمان بن عاد السبعة، وكان أطولها عمرا، فضربت به العرب المثل.

فذكرت في مقالاتي إنسانا ينطبق عليه هذا الوصف انطباقا كاملا (¬1)، فأوغلت في كتابة اسمه إيغالا يوهم إني أخاطبه أو أبالى به، لا، يا سيدي، فأمر الدكتور طه غير أمر هؤلاء الذين يشترون قلما بقرش من الخردواتي، فيكتبون، فيكثرون، فيعدون في الكُتَّاب! ! أمران مختلفان جدا، وزمنان مختلفان كل الاختلاف أيضا. ومع ذلك، فأنا قد نبهت مرارًا في مقالاتى أن هذا الذي أكثرت ذكر اسمه ليس إلا دمية يحركها محرك، وأن الدمية في ذاتها ليس لها قيمة تذكر، وأن اسمه الذي أذكره لا يعنينى، بل الذي كان يعنينى هو "هيئات التبشير" و"دوائر الاستعمار" التي تحرك هذه الدمى في حياتنا الأدبية وترشدها إلى الطريق. كان همى هو كشف الغطاء عن هذه الحقيقة لا غير. فإذا كنت قست هذا على هذا فالقياس فاسد: كما يقول أصحاب المنطق. (رجل جاهل)! لم أستعمل هذا قط في حديثي عن الدكتور طه: فليس لك بحق أن تقول إني قلته، لا استخراجا من فحوى كلماتى ولا استئناسا بأنى خاطبت مرة (رجلا جاهلا)! يقول أبو عثمان الجاحظ: "طلبتُ علم الشعر عند الأصْمَعِى، فوجدته لا يحسن إلا غريبه. فرجعت إلى الأَخْفش، فوجدته لا يتقن إلا إعرابه. فعطفت على أبي عبيدة، فوجدته لا يحسن إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهَبْ ومحمد بن عبد الملك الزيات. أفيحل لأحد منا أن يستخرج من كلام أبي عثمان أن الأصمعى (رجل جاهل)، وأن الأخفش (رجل جاهل)، وأن أبا عبيدة (رجل جاهل)؟ أو على الأقل أن كلا منهم (رجل جاهل بالشعر)؟ ونعم أنا ذكرت الدكتور طه وكتابه "مع المتنبي" فقلت فيه أحيانا: "إنه يتهجم على غير بصيرة في الرأي، وأن في بعض كلامه فوضى وإطالة وتهويلا وثرثرة، وفي بعض كلامه اضطراب وفساد ¬

_ (¬1) يعني لويس عوض انظر ما كتبه عنه في "أباطيل وأسمار".

مفسد، وفيه تعسف غليظ وفيه تحميل للفظ ما لا يحتمله اللفظ، وفيه سوء نقل عن الكتب، وأنه كثير المغالطة: شديد اللدد، غير مستقيم الرأي، وأنه في بعض المواضع متخلف النظر، وأنه يجهل نفسية المتنبي كل الجهل، وأنه لا يعلم أسرار الألفاظ التي يستخدمها الرجل في شعره"، إلى آخر ما قلت في مواضع متفرقة من مقالاتى التي تضمنها الجزء الثاني من كتابي. كل هذا قلته وأشد منه، ولكني لا أقول إنه (رجل جاهل) كل ما قلت من ذلك محدود بمواضع نقدى لنصوص من كلامه، لا ينسحب شيء منه انسحابا مطلقا على كل كلام يكتبه، ولا على شخصه من حيث هو أستاذ من الأساتذة الكبار. وما من أحد من الناس يخلو من عيب في بعض شأنه، فإطلاق العيب على كل شأنه مجازفة، ولكن الأساتذة الكبار قد سَنُّوا من السنن سنة المجازفة، فكأنك أيضا معذور لأنك لم تملك إلا أن تقيس سُنَّتى في الكتابة على سُنة "الأساتذة الكبار" وأنا لست منهم في شيء بحمد الله وتوفيقه. * * * نحن لم نزل في الثالثة. فسياق كلامك أنى وصفت الدكتور طه بأنه " (رجل جاهل)، (لا بصر له بتذوق الشعر) ". وظاهر عندي أن مسألة "التذوق" مما تشغلك شغلا حتى ترددها تردادا، ولذلك، فأنا أظنها انزلقت منك في خلال هذه الجملة، حيث كان ينبغي أن تكفها وتحبسها. نعم، أنا قلت مرارا لا أحصيها في كتابي وفي مقالاتى عن كتاب الدكتور طه "مع المتنبي" أن الدكتور: "لا بصر له بالشعر"، ولكني لم أقل قط أنه "لا بصر له بتذوق الشعر"، والجملتان غير متكافئتين في المعني، حتى تغنى إحداهما عن الأخرى أو تقوم مقامها. وأنا أعلم أن أهل زماننا يتساهلون في كل شيء، ويتساهلون خاصة في التعبير، بلا تحديد ولا تحليل لألفاظ اللغة. وكنت أحب لك أن لا تتابعهم على هذا التساهل. ولكني أعلم أيضا أن هذه هي أيضا إحدى السُّنن التي سنّها "الأساتذة الكبار"، فغلبت على الناس وعلى ألسنتهم، فأصابت منهم موقعا أغفلهم عن حقيقة الفساد الذي يجره هذا التساهل. فهل تأذن لي أن أبين عن نفسي؟

في شهر فبراير سنة 1975، جاءني الأخ الأستاذ سامح كريم مندوبا عن مجلة الكاتب يسألنى سؤالا بمناسبة المشاركة في الاحتفال بذكرى وفاة الدكتور طه. وكان السؤال: "ما هو دور طه حسين في رأيك؟ ". وقد أجبته ونشرت الإجابة في مجلة الكاتب عدد مارس 1975 بعنوان "كانت الجامعة هي طه حسين". بدأت الإجابة بالقصة التي ذكرتها آنفا عن قراءتى على الشيخ المرصفي، وما عرفته منه من قراءة الدكتور طه عليه من قبل، قلت في مجلة الكاتب: "فحفزنى ذلك على أن أسعى إلى لقاء الدكتور طه وإلى السماع منه (وذلك في سنة 1923)، فمن يومئذ عرفته من قرب. عرفته محبا لعربيته حبا شديدا، حريصا على سلامتها، (متذوقا) لشعرها ونثرها أحسن (التذوق). وعلمت أن هذا الحرص وهذا (التذوق)، كان ثمرة من ثمرات قراءته على المرصفي، فإني لم أر أحدا يحب العربية ويحرص على سلامتها كشيخنا المرصفي رحمة الله عليه. وكررت ذكر تذوقه في موضع آخر وقلت: ثم انتهى أمر الدكتور طه إلى أن صار من أكبر المدافعين عن اللسان العربي إلى آخر حياته، وأنه محال أن يحشر في زمرة الخبثاء ذوى الأحقاد من ضعاف العقول والنفوس الذين ظهروا في الحياة العربية لذلك العهد، بظهور سطوة "الاستعمار" وسطوة "التبشير"، وهما صنوان لا يفترقان ثم قلت: "ودليل آخر، وذلك أنه حين انجلى غبار ما أثاره الدكتور طه بكتابيه: "في الشعر الجاهلي" و"مستقبل الثقافة في مصر"، وهما كتابان لا قيمة لهما من الوجهة العلمية، انجلت بعد ذلك نفس الدكتور طه، وناقض بما كتبه وبما قاله كل ما في هذين الكتابين من فساد. وَمَرُّد ذلك إلى هذه الخصال التي كادت تكون طبيعة في نفسه: من حبه للعربية وحرصه على سلامتها، وما هداه الله إليه من حسن (التذوق) لروائع البيان". فهل تظن أن قائل هذا في الدكتور طه، يمكن أن يقول فيه "أنه (رجل جاهل)، ليس له بصر (بتذوق) الشعر هذا عجب أي عجب؟ ونعم أنا أقول

الآن وقد قلت مرارا كثيرة في مقالاتى "بيني وبين طه" وغيرها أن الدكتور طه "لا بصر له بالشعر، لأن البصر بالشعر يحتاج إلى أشياء كثيرا جدا، أظن (أي استيقن هنا) أن كثيرا منها يفتقر إليه أستاذنا الدكتور طه. وهناك فروق كبيرة بين "المعرفة بالشعر"، "العلم بالشعر"، و"البصر بالشعر" فالأمر كما ترى، درجات تفرق بينها فروق ظاهرة أحيانا ودقيقة أحيانا أخرى. وهذا رأي في معرفة الدكتور طه بالشعر تستطيع أن تقول فيه أنى مخطئ، بلا ضير عليك في ذلك. وسواء كنت مخطئا أو مصيبا، فإنه لا يتيح لك البتة، أن تستخرج منه -وهو بهذا القدر من التحديد- أنى أقول أن الدكتور طه رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر بإقحام "التذوق" إقحاما يخرج عبارتى عن معناها ومرماها. وبيان ذلك أن التذوق معنى عام مجمل مشترك الدلالة بين الناس جميعا: لكل واحد منها نصيب، وهو يقل ويكثر ويعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد ولكنه على كل حال حاسة لا غنى عنها للإنسان. وقد بينت بعض رأيي في "التذوق" في كتابي "أباطيل وأسمار"، حيث قلت: "كل حضارة بالغة تفقد دقة التذوق، تفقد معها أسباب بقائها. والتذوق ليس قواما للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضا قوام لكل علم وصناعة، على اختلاف بابات ذلك كله، وتباين أنواعه وضروبه. كل حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها، وتبلغ تمام تكوينها: إذا لم تستقل بتذوق حساس حاد مرهف نافذ، تختص به وتنفرد، لم يكن لإرادتها في فرض وجودها معنى يُعْقَل، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضربا من التوهم والأحلام لا خير فيه. فحسن التذوق، يعني سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات. فهو (أي التذوق)، لب الحضارة وقوامها، لأنه قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارة. وهذا شيء لا يكاد يختلف فيه اثنان فيما أظن"، (أباطيل وأسمار: 34). وإذن، فلفظ "التذوق" لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب يقل أو يكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام

والدربة، وترهفه جودة المعرفة، والصبر على الفهم، والمجاهدة في حسن الإدراك. فبهذا القدر من دلالة اللفظ المجمل المبهم حين نقول "التذوق"، أقول إن الدكتور طه كان حسن "التذوق" للشعر أو لروائع البيان. وبهذا القدر أيضا صار الدكتور طه أديبا كاتبا متميزا من سواه في التعبير عن نفسه، أخطأ أو أصاب، غالط أو استقام، أو جز أو ثرثر، صح كلامه أو فسد، رضينا عن أسلوبه أو كرهناه. فلو صح أن أقول في الدكتور طه: "أنه رجل جاهل لا بصر له (بتذوق) الشعر"، لكان معنى هذا إخراجه من حيزه الذي هو فيه إلى حيز لا يكون فيه أديبا أو كاتبا، أي في حيز من لا يعتد به في الأدب أو في الكتابة. وهذا بلا شك، شيء لا يخطر ببالى، ولا يدل عليه شيء من حديثي عن الدكتور طه في كتابي هذا، ولا في سائر ما كتبت. فانظر الآن، كيف فعل بنا أتباع سنة "الأساتذة الكبار" في التساهل في التعبير عن أنفسهم أحيانا، وفي نقل ما ينقلون بغير لفظه من كلام غيرهم؟ أنا لست من الأساتذة الكبار في شيء بحمد الله وستره، فأنا أرجو أن لا تُجْرِى عليَّ أو على كلامي سُنَّتهم، وأَجْرِ هذه السنة على كلامهم هم: "فأول راض سنة من يُسَيِّرها". ويحسن هنا أن أضع عبارتى التي أحزنتك، فاستخرجت منها عبارتك الحزينة عن رأيي في الدكتور طه، حين ذكرت المقالات التي كتبتها بعنوان: "بيني وبين طه"، فقلت: "وحين بدأت أكتب، كنت قد حددت طريقى تحديدا كاملا، وهو أن أواجه الدكتور طه بثلاث حقائق: = الحقيقة الأولى: أنه في أكثر أعماله "يسطو على أعمال الناس سطوا عريانا أحيانا، أو سطوا متلفعا بالتذاكى، والاستعلاء والعجب أحيانا أخرى". = الحقيقة الثانية: أنه لا بصر له بالشعر، ولا يحسن تذوقه على الوجه الذي يتيح للكاتب أن يستخرج دفائنه وبواطنه، دون أن يقع في التدليس والتلفيق.

= والحقيقة الثالثة: إن منطقه في كلامه كله مختل، وأنه يستره بالتكرار والترداد والثرثرة" (المتنبي 1: 140). فأنا أقول في الدكتور طه: "لا بصر له بالشعر، ولا يحسن تذوقه على وجه يؤدى إلى كيت وكيت -فصارت العاقبة، عاقبة التساهل: "رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر" وبالتساهل أيضا صار "التذوق" المقيد بقيد، "تذوقا" جامحا مطلقا بلا قيد، فاكتسح في طريقه أخص خصائص الدكتور طه، وأجمل قدراته"! غفر الله لنا ولك، أيها العزيز. وقبل أن أسلت نفسي من هذه الثالثة، أحب أن أقول لك: أنى كنت أتمنى أن تصدر مقالاتك الخمس هذه الجملة: "أنه لشيء محزن أن يصل اللدد في الخصومة حدا يجعلنا نسلب طه حسين أخص خصائصه، ونتجاهل أجمل قدراته، ونصفه بأنه رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر". لأنك لو كنت فعلت ذلك، كان أبين عن طريقك في النظر إلى كتابي وكتاب الدكتور طه، وعن فصلك في القضية بيني وبينه. فالرحي لا تدور إلا على قُطْب، وهذه الجملة هي القطب، فكان تقديمها أولى من تأخيرها، لأنه منك قضاء فاصِلٌ بأنى بنيت ما كتبته على خصومة تحملنى على الجور حملا. هكذا أظن. ولا أدري، منذ الآن هل تستطيع أن تصدقنى أو لا تستطيع، إذا أنا قلت لك: أنى منذ وقعت في المحنة، محنة "قضية الشعر الجاهلي" ورميت بنفسي في أهوالها التي كادت تفضى إلى الهلاك، لم يعصمنى فيها إلا آية سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. فمنذ خمسين سنة، قذفتنى القواذف في المعمعة، فأنا أخوض الغمرات في قضايا الفكر والنظر وأطأ على أشواك الاختلاف والتناقض، وتتخطفني خطاطيف الشكوك والريب، وأقف على شفا حفرة من النار، لو زلت بي قدم

لهويت على نار لا قرار لها سبعين خريفا. ولولا إخباتى لله بالطاعة فيما أمرنا به من القيام بالقسط، والاحتراز من الجور، وكف النفس عن تحكيم الشنآن (¬1) في كل قضية من آلاف القضايا التي يَعُبُّ عُبابها في بحار الفكر والنظر، لكنت قد هلكت منذ دهر طويل هلاكا لا مخلص منه. فهل تظن بعد ذلك أنى أكفر نعمة الله عليّ بنجاتى من ماحقات الدين، فأعمد إلى تحكيم الشنآن والخصومة في شيء هين لا خطر له، مثل كتابي وكتاب الدكتور طه عن المتنبي، فاتخذ الجور في الخصومة مذهبا، لا لشيء إلا لأسلب الدكتور طه بعض خصائصه وقدراته؟ ؟ هل تظن؟ رحم الله شيخ المعرة: أَطَلبتُم أدبا لديَّ؟ ولم أزلْ ... منه أُعانِى الحجر والتَّفْليسا وأردتمونى أن أكون مُدَلِّسا؟ ... هيهاتَ! غيري آثرَ التدليسا؟ ¬

_ (¬1) الشنآن: البُغْض.

المتنبي ليتني ما عرفته 2

المتنبي ليتني ما عرفته - 2 - أيها العزيز، كانت نيتى، كما تعلم، أن أجعل ما أكتبه، تعقيبا على مقالاتك الخمس، مقالة واحدة، ولكن القلم جمح بي جماحا أنا غير راض عنه، فاجتزأت بالقدر الذي نشرته، وأجلت الباقى. ومع التأجيل تتغير طبيعة سرد الأفكار. ومضت أيام، وحل ميعاد كتابة المقالة الثانية، فكعادتى، عدت أقرأ ما كتبته في المقالة الأولى، ولم أكد أنتهي إلى آخر ما ختمت به المقالة، وهو بيت شيخ المعرة: وأردتمونى أن أكون مُدَلِّسا؟ ... هيهاتَ! غَيْرى آثر التدليسا! حتى رأيتنى بما كتبت، قد وقعت في ردغة التدليس، (والردغة: الوحل الكثيف المتماسك الذي يعسر الخلاص منه). وذلك أنى من شدة إلحاحي على نَفْى كل (خصومة) بيني وبين الدكتور طه تظن أنت أنها أدت لي إلى الجور عليه في الكتابه عنه، كدت بفعلى هذا أن أوهم القارئ أن الخلاف بيني وبينه كان، ولم يزل، مقصورا على "مسألة الشعر الجاهلي"، وما ارتكبه هو في سبيلها، وما اقترفته الجامعة وأساتذتها يومئذ من التستر على فعلته التي فعل. وهذه هي ردغة التدليس التي وقعت فيها. ولكى أُزيل هذا التدليس الذي أوحت به مقالتي الأولى، رأيته واجبا عليّ أن أبين الأمر بيانا واضحا. لم تكن بيني وبين الدكتور طه نفسه (خصومة) ما منذ عرفته إلى أن أفضى إلى ربه. نعم، ولكن نَفْى هذه (الخصومة) لا يعني البتة إني راض كل الرضى أو بعضه عن سائر أعماله وآرائه، فالعكس هو الصحيح، الدكتور طه أديب كبير، له كتب كثيرة مختلفة الأنواع، وله آراء كثيرة مبثوثة في ثنايا كتبه، وله أساليب في البحث والنظر والاستنباط، وله قدرة متميزة على تصوير آرائه وأبحاثه وسائر ¬

_ (*) مجلة الثقافة، السنة السادسة - العدد 61، أكنوبر سنة 1978، ص 4 - 18.

ما يعالجه في كتبه ومقالاته. فأنا أحب أن تكون على بينة من رأيي، لكي تبنى حكمك وقضاءك بيننا على بصيرة. ليس الأمر أمر (خصومة)، ولكنه أمر خلاف، خلاف بعيد الجذور. يبلغ حد التباين الكامل في الأصول. وهذا التباين الكامل في الأصول يفضى إلى تباين كامل في الآراء التي تنبع من هذه الأصول. وهذا التباين كان معروفا واضحا عندي وعند الدكتور طه على السواء منذ عرفته إلى أن فرق بيننا الأجل المُسَمَّى. وأنا لم أكتب شيئا كثيرا في نقد أعمال الدكتور طه وآرائه مدة حياته، ولكن الذي كتبته على قِلَّته كان يحمل في ثناياه وجوه التباين في الأصول، وفي طريقة تناول الأدب والتاريخ، وفي أسلوب تكوين التفاصيل التي تبنى عليها الصورة التي يصورها الكاتب بقلمه وبيانه، فمن أجل ذلك كان حكمى واضحا صريحا على كثير مما كتبه في التاريخ والأدب، ككتابه "على هامش السيرة"، وكتابه "الفتنة الكبرى"، وسائر هذه الفصيلة، وأنها بُنِيَت بناء فاسدًا كل الفساد، بفساد التفاصيل التي أعدها ونظر فيها واستخرج منها مادة كتابته، ولما جئت إلى النظر في كتابه "مع المتنبي"، كان بينا فيما كتبت، مقدار الاختلاف بين الأصول التي يصطنعها الدكتور طه، وبين أصولى التي أبنى عليها ما أكتب. ودع عنك مسألة الاستلهام أو الاجتهاد، أو الاستعارة، أو "الاستلال في خفة" فإنها ليست كل المسألة. ليست الجوهر، بل هي العرض، كما يقول أصحاب المنطق. كنت أحب أن تتوقف عند هذا، لأن قضاءك كان محتاجا إليه، لتنصف في القضية. ولكنك أغضيت عن التباين في الأصول، فلم تجد تفسيرا لما تجده عندي إلا (الخصومة) الداعية إلى الجور. وعلى كل حال، فعسى أن أكون قد أزلت بهذه الكلمة القصيرة، ما أوقعتنى فيه المقالة الأولى، من التدليس عليك أو على القراء. لا (خصومة) بيني وبين الدكتور طه، نعم، ولكن بيني وبينه خلاف يبلغ حد التباين في الأصول، يجعل حكمى على كثير مما كتب أشد مما هو ظاهر فيما كتبته في كتابى "المتنبي" أو غيره من المقالات. وهذا حسبنا إن شاء الله. ونعود الآن إلى ما كنا فيه، بعد أن فرغنا من الثالثة.

أما الرابعة: فهي أيضا في مقالتك الثالثة، (الثقافة: مارس سنة 1978) والتي جعلت عنوانها: "قضية التذوق الفني بين شاكر وطه حسين". وقبل كل شيء، أحب أن أثبت هنا نص الحكم الذي قضيت به عليّ في أثنائها حيث قلت: "والأستاذ شاكر مولع بهذا الجدل، مولع بهذا الصراع العقلي". . ولا أدري هل أستطيع، إعتابا لك وترضية، أن أغسل عقلي ونفسي وقلبي من أوضار هذا الذي طُبِعت عليه وأُولِعتُ به؟ ولكني سأحاول ما استطعت، مستعينا بحول الله وقوته على تكذيب أبي الطيب في قوله: "وتأبى الطباع على الناقل"، وما ذلك على الله بعزيز. هذه المقالة الثالثة محيرة لي أنا. أربعة أسطر فيها لا أكثر، حركت فيّ تاريخا كاملا، حاولت أن أقص طرفا منه فيما مضى، حتى أطلت وأمللت. وكان الذي جر هذا أن ابتداء الأسطر الأربعة يتضمن لفظا مجلوبا من التوهم المحض، وهو (الخصومة)، وأنها بتمامها وختامها تتضمن ألفاظا بنيت صياغتها على التساهل في التعبير عن المعاني، فضلا عن التساهل في فهمها من كلامي، وذلك حين نسبت إليّ أنى وصفت الدكتور طه بأنه (رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر). أما الآن، فأنا في حيرة أشد حيرة، لأن موضع التعقيب مبثوث في أسطر المقالة كلها، أي في أكثر من ثلاثمئة سطر. فمن أجل ذلك رأيت أن ألخص ما فيها تلخيصا أرجو أن يكون معينا لي ولمن يقرؤه. 1 - ذكرت في رأس مقالتك هذا العنوان: "قضية (التذوق الفني) بين شاكر وطه حسين"، ثم قلت في فاتحته إن من أخطر القضايا التي تهمك قضية (التذوق الفني)، لأنها قضية جمالية -وأنك لا تهتم، في المقام الأول عند دراسة الشعر، إلا بهذا (التذوق الفني الجمالى)، ثم لما فرغت من عرض أصل القضية بيني وبين طه قلت: "وقضية التذوق الفني من أعقد القضايا في مجال الدراسات الإنسانية". ثم عرضت بعد ذلك ما تظن أنه رأيي أنا في (التذوق) من نص نقلته من كلامي، ثم قلت: "وقبل أن أناقش هذه (القضية الجمالية) أرجو أن لا يغضب أستاذنا الجليل محمود شاكر، وألا يعتبره دفاعا عن طه

حسين، فقد أفضى إلى ربه، ولا يحتاج إلى دفاع مني أو من غيري. . هذه واحدة. وأخرى، أننى لن أتناول تصور الدكتور طه يرحمه الله (للتذوق الفني) للشعر، ولا للأسس النظرية لمناهجه المتطورة في النقد، فهي معروفة للقراء، وفي كتب مطبوعة أكثر من طبعة". 2 - ثم قلت: "ونحن نلاحظ عيبا أساسيًا في منهج الأستاذ شاكر حول هذه القضية. فهو يتصور أنه المبتدع الأول لفكرة (التذوق الفني)، وأن تطبيقها على شعر المتنبي الذي تم على يديه، ليس له نظير في القديم ولا الحديث". ثم نقلت بعد ذلك نصا طويلا من كلامي، منتزعا من سياق استدلالى على سطو الدكتور طه على بعض ما في كتابي، وعلى تقليده لي في بناء كتابه، ثم في مواضع بعينها مما وقفت عنده من شعر أبي الطيب، وهذا النص مذكور في كتابي (المتنبي 2: 96، 97)، ثم عقبت عليه بقولك: "وبصرف النظر عن الغلو الذي يبدو في هذا الكلام، فإن وضع القضية على هذا النحو، هو الذي أوقع أستاذنا في هذا العيب الأساسى". 3 - ثم عقبت على هذا بما يأتي: "وفكرة التذوق الفني معروفة منذ أقدم العصور. . والأساس النظرى لعملية (التذوق) كما حددها الأستاذ شاكر معروف، منذ حدد ابن سلام الجمحي، المتوفى في الثلث الأول من القرن الثالث الهجري؛ في مقدمة كتابه "طبقات الشعراء" الأسس الموضوعية لتذوق الشعر". وجئت بنص ابن سلام. ثم قلت أيضا: "ويحدثنا ابن الأثير في المثل السائر. ." وجئت بنصه، ثم قلت: "وهذه كلها معروفة في القديم والحديث". 4 - ثم لما بلغت معى إلى التسليم جدلا بكل ما جاء في كتابي حول كتاب طه، قلت إنه لا يصدق إلا على 98 صفحة في الطبعة الأولى التي أربت على 700 صفحة، ثم قلت: "ومع ذلك، فمعظم الانتقادات التي جاءت في كتاب الأستاذ شاكر، يدور حول أمور بعيدة عن (التذوق الفني)، مثل الحديث عن نسب أبي الطيب، وعلاقته بجدته، وقرمطيته، أو الخلاف حول ترتيب القسم الأول من ديوانه، وهي أقرب إلى الجدل العقلي، منها إلى (التذوق الفني)،

والأستاذ شاكر مولع بهذا الجدل العقلي، مولع بهذا الصراع العقلي. ولقد صرفه هذا الولع في كتابه إلى مجموعة من الأقيسة المنطقية والقضايا العقلية، أخضع الشعر لسطوتها، ليثبت أمورا لا علاقة لها بقضية (التذوق الفني)، مثل علوية أبي الطيب، وسجنه لإظهار هذا النسب، وحبه لخولة أخت سيف الدولة، وترتيبه لقصائد القسم الأول. ثم جاء (التذوق الفني) شيئا ضئيلا على هامش هذه القضايا العقلية. وبذلك أصيب منهج الدراسة بالضمور في جانب، والتضخم في جانب آخر. أما كتاب طه حسين، فعلى العكس من كتاب الأستاذ شاكر، اهتم أولا بالدراسة (الفنية) و (التذوق الجمالى)، وجاءت القضايا الفكرية على هامش هذا (التذوق الفني)، وهو منهج "مستقيم في النقد والدراسة الأدبية". 5 - ثم قلت: "على أن تصور محمود شاكر (النظرى للشعر) يحتاج إلى مراجعات وملاحظات. فلو تأملنا النصوص التي سقناها في هذه الدراسة من كلامه، لاكتشفنا للوهلة الأولى أنه يتخذ الشعر وثيقة نفسية، يستخرج منها حياة أبي الطيب وطبائعه وعواطفه وآماله وآلامه وأحزانه -كما يتخذ منه وثيقة تاريخية تسهم في تعديل أخبار الرواة القدماء أنفسهم أو تجريحها، أو استخلاص الصدق من نصوصها، ونفي ما زيفه (التذوق). وهذا مفهوم غير خصب (للتذوق الفني)، يحول العمل الأدبي إلى وسيلة لخدمة غاية خارجية. وبذلك يتحول الأدب إلى وثائق تاريخية، أو اجتماعية، أو نفسية، أو يصبح انعكاسا مباشرا لحياة الناس وأهوائهم ونزواتهم، واصطراعهم في الحياة". انتهى التلخيص. وهذا التلخيص لا يغنى بطبيعة الحال، عن قراءة المقالة كاملة. وأنا لم آت بهذا التلخيص المخل لكلماتك، لكي أناقشها وأناقش الآراء التي تضمنتها المقالة: بل لأجعل القارئ على بينة صريحة من المحور الذي تدور عليه المقالة وما فيها من الآراء، والمحور كما هو ظاهر، هو لفظ "التذوق الفني الجمالى". والبلوى، أن لفظ (التذوق الفني والجمالى) عندك، ناشب نشوبا غريبا في جميع أسطر المقالة، وفي جميع الآراء التي تضمنتها، وفي جميع الأحكام التي

أصدرتها عليّ! والبلوى أيضا أن لفظ (التذوق) عندي أنا، ناشب هو الآخر نشوبا غريبا في مقدمة كتابي "المتنبي"، وفي كثير مما كتبت منذ زمان طويل. والفرق بين لفظى ولفظك، أن لفظى هو دائما عندي عار من كل زينة، (التذوق) لا غير، ولفظك عندك هو دائما في أتم زينة، (التذوق الفني والجمالى). وأنا أخشى أن أقترب من لفظك في زينته، لأنى إن فعلت ذلك، سقطت فجأة في جوف المنطقة الملتهبة، منطقة الجدل والصراع العقلي! فلم أجد لي مذهبا سوى الاقتصار على لفظ (التذوق)، كما استعملته أنا، ولم أزل استعمله. وواضح جدا أنى ملتزم بأن أقول "التذوق" عاريا، وأنك مغرى بأن تقول "التذوق الفني والجمالى" في أتم زينته. ولا بأس عليّ ولا عليك إن شاء الله، ولكن البأس يحتدم احتداما حين تعد معنى اللفظ العارى، وهو "التذوق" عندي، مطابقا تمام المطابقة لمعنى اللفظ المتأنق عندك، وهو "التذوق الفني الجمالى"، فالتماسا لبركة العلماء القدماء والمحدثين، وتعرضا لنفحاتهم، أسلك مسالكهم في تدبر معنى "التذوق"، ثم لا أمس لفظك المتأنق، إلا بقدر اشتراكنا في لفظ "التذوق". ثم صدقنى أنى لا أفعل ذلك إلا التماسا للبركة وتعرضا للنفحات، واتقاء للفحات اللهب، لا إيثارا للجدل، ولا ولعا بالصراع العقلي، معاذ الله الذي أسأله أن يحط عني وعنك الخطايا. و"التذوق" مصدر قولك "تذوقت الشيء تذوقا"، ومرده إلى "الذوق"، وهو مصدر قولك "ذاق الطعام أو الشراب ذوقا"، وهذا "الذوق" عمل من أعمال اللسان، حين يلتمس صاحبه تعرف طعم مأكول أو مشروب، وعمل اللسان في تبين طعوم الأشياء المختلفة أو المتشابهة، لا يختلف في ذاته ولا يتعدد. فالذوق، إذن، مصدر دال على حدث (أي فعل) معين متميز غير مبهم. وهو في هذا شبيه بقولنا: "جلس جلوسا" و"قعد قعودا" وأضرابهما. فالقعود والجلوس كلاهما دال على حدث معين متميز غير مبهم: لا يختلف أحدهما أو يتعدد، باختلاف الأفراد الذين يفعلونه، مهما تعددوا واختلفوا.

ولا يختلف ولا يتعدد أيضا باختلاف عمل الأفراد في الجلوس والقعود، أو بتعدد صور جلوسهم وقعودهم. والذي يقال في "ذاق الشيء ذوقا" يقال مثله في "تذوَّقْتُ الطعام أو الشراب تذوُّقا" ولا فرق، إلا أن هذه الصيغة الأخيرة تدل على تكرار عمل اللسان مرة بعد مرة، في طلب تعرف طعم المأكول أو المشروب، لا غير. هذه حقيقة معنى "الذوق والتذوق" في أصل اللسان العربي. ثم لما نقل هذان اللفظان من مدارج الحقيقة إلى معارج المجاز، تغيرت دلالتهما تغيرا تاما. بيان ذلك: أن معنى نقلهما من الحقيقة إلى المجاز، هو صرف اللفظين عن التعلق بالجارحة وهي اللسان، وعن الأجسام التي هي المأكول والمشروب وما يجرى مجراهما = ثم توجيههما إلى التعلق بالمعاني المجردة التي لا أجسام لها أو إلى التعلق بأجسام لا عمل للسان في تبين طعومها البتة. وفي الحالين تسقط الجارحة، وهي اللسان، عن لفظ "الذوق" و"التذوق"، ويسقط أيضا "الجسم" الذي يقع عليه فعل هذه الجارحة من المأكول والمشروب عند تعلقهما بالمعاني المجردة التي لا أجسام لها. فإذا تعلقا بجسم لا عمل للسان فيه، بل كان العمل فيه لجارحة أخرى غير اللسان، اكتسب لفظ "الذوق" أو "التذوق" معنى مبهما غير محدد من فعل هذه الجارحة الأخرى في ذلك الجسم بعينه، على وجه من الحقيقة لا المجاز. وفي الحالتين جميعا يصبح فقط "الذوق" أو "التذوق"، مصدرا يدل على حدث مبهم غير معين ولا متميز. وبذلك تغيرت دلالة اللفظين تغيرا تاما، وأصبحت قابلة للوقوع على أنواع متعددة مختلفة. فإذا قال القائل: "ذُقْتُ القوس" وهي الأداة التي يرمى بها الرامى بالسهام، فالقوس جسم، ولكنه لا يدخل في معنى شيء من الأشياء التي يحاول المرء أن يتعرف طعمها باللسان، فبديهة اللغة، وبديهة متكلميها، تُسقِط عندئذ عن لفظ "الذوق" جارحةَ الذوق، وهي اللسان، وتُكْسِبه قدرا غير محدد من فعل جارحة أخرى، وهي اليد، لأن مراد القائل بقوله: "ذقت القوس"، إنما هو ما يعمد إليه بيده من اختبار جسم القوس، من حيث خفتها وثقلها، أو خشونتها وملاستها،

أو لينها وشدتها عند نزع الرامى عليها بالسهم. بل ربما اشتركت العين أيضا في تبين طولها وقصرها، واستوائها واعوجاجها، إلى آخر ما يتطلبه اختباره جودة القوس وصلاحها لأحسن رَمْى الرامى بسهامه. فهذا هو المطلوب من "ذوق القوس". فلفظ الذوق في هذه الحالة، حين سقط عنه عمل الجارحة وهي اللسان، صار دالاًّ على حدث مبهم غير معين ولا متميز، ولكنه بوقوعه على "جسم" تعمل فيه جارحة أخرى، وهي اليد، اكتسب قدرا مقدورا من التحديد. أزالت عنه بعض الإبهام الذي أستغرقه وأكسبته قدرا مقدورا من التعين والتميز. ولكن الإبهام لم يزل عنه زوالا تاما. هذه هي الحالة الأولى. أما إذا قال القائل: "ذقت العذاب، وأنا أفعل كذا وكذا"، اختلف الأمر اختلافا فاصلا، فإن "العذاب" الذي وقع عليه "الذوق" إنما هو معنى من المعاني المجردة لا جسم له، ولا تعمل فيه جارحة اللسان ولا جارحة أخرى من الجوارح. هذا فضلا عن أن "العذاب" معنى من المعاني متعدد الحقائق، متعدد الصور فبديهة اللغة وبديهة متكلميها، تُسْقِط عندئذ عن لفظ "الذوق" عمل الجارحة إسقاطا تاما، لأنه تعلق بشيء ليس بجسم له طعم من مأكول أو مشروب. وبإسقاطها يدخل اللفظ في الإبهام دخولا صريحا. وزيادة على ذلك فإن "العذاب" المتعدد الحقائق والصور، يكسبه قدرة على التعدد والتنوع في مواقعه على ما يقع فيه، فإذا كان إسقاط الجارحة هنا قد جعل "الذوق" مصدرا دالا على حدث مبهم غير متعين ولا متميز، فإن وقوعه على "العذاب" وهو معنى من المعاني لا جسم له، يغرقه إغراقا في الإبهام وانعدام التعين والتميز. لا، بل إن تعدد الحقائق والصور التي يحملها لفظ "العذاب" تزيد زيادة كثيفة في إبهامه وعدم تعينه وتميزه، وهذا غاية الغايات في الإبهام إلا أن الذي حَسَّنه وجعله مقبولا أن "العذاب" على إبهامه مما تدركه الحواس إدراكا لا مرية فيه. ومن هنا أشبه الحالة الأولى بعض الشبه وهذه هي الحالة الثانية. ومن البين أن الذي قلته في لفظ "الذوق" عندما نقل من مدارج الحقيقة إلى معارج المجاز، يصدق كل الصدق على لفظ "التذوق" لأنه فرع عنه، جاء

للدلالة على تكرار عمل اللسان في "الذوق" مرة بعد مرة، طلبا لدقة التعيين والتمييز في الطعم والنكهة. و"النكهة" من عمل الأنف لأنها تتبين الرائحة مع الطعم. وهذا حسبنا من التماس البركات، والتعرض للنفحات. وعسى أن أكون قد وفقت بعض التوفيق فيما كتبت آنفا، فإن أحد أسباب كتابته أنى أردت أن أزيل الغموض عن الصفات التي وصفت بها لفظ "التذوق" في أواخر مقالتي السالفة، حيث قلت: "إن التذوق معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا، يعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد، ولكنه على كل حال حاسة لا غنى عنها للإنسان" = وحيث قلت أيضا: "إن التذوق لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب، يقل ويكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام والدربة، وترهفه جودة المعرفة، والصبر على الفهم، والمجاهدة في حسن الإدراك". فلعله صار واضحا بعض الوضوح ما أردته بقولي إنه "معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا"، وبقولي: "إنه لفظ مبهم مجمل الدلالة". وهذه الألفاظ التي تدل على حدث مبهم غير متعين ولا متميز، هي في طبيعتها ذات نماء سابغ متوهج، وذات غنى مفعم وثراء مكنوز، ولكنها أيضا، وهو ما يهمنى هنا، ذات خطر مرهوب على جميع مذاهب القول والفكر والنظر. فإن فيها من القوة الغامضة ما يجعلها قادرة قدرة مطلقة على تضليل المتكلم والسامع جميعا، وهي التي تتيح لفكرة "التأويل" (أعني تأويل اللفظ المفرد والكلام المركب، وإخراجه من معنى ظاهر إلى معنى باطن) = أن تسيطر سيطرة كاملة على العقل أحيانا. وهذه القوة الغامضة، والقدرة المطلقة على التسلط، كانت ولم تزل من أكبر أسباب ضلال المتصوفة والمتكلمين والفلاسفة وأشباههم، فيها ضلوا وأضلوا، وهي أيضا العامل الحاسم أحيانا في توسيع هوة الاختلاف بين المختلفين في الرأي وفي تفسير الألفاظ والتراكيب، لأنها تعين على تشقيق الكلام وتفريعه تفريعا يغرق الاختلاف في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض من الأهواء ونوازع النِّحَل

المختلفة. يضاف إلى هذا أننا، نحن البشر، لا نرتاب أقل ارتياب في أن "اللغة" هي أداة التفكير، وأداة البيان. هذه حقيقة واقعة لا يختلف فيها أحد. ولكننا بالتدبر والتأمل نعلم أن "ألفاظ اللغة"، أي لغة كانت، ليست محددة المعاني تحديدا قاطعا حاسما في كل لسان، وعند كل أحد، وفي كل زمن من أزمنة هذا اللسان = ونعلم أيضا أن "تركيب ألفاظ اللغة"، وهي الجمل وأساليب دلالتها المختلفة، ليست هي الأخرى محددة تحديدا قاطعا حاسما واضحا في كل لسان، وعند كل أحد، وفي كل زمن من أزمنة هذا اللسان. ومعنى ذلك أن ادعاءنا أن "اللغة هي أداة التفكير. وأداة البيان، قضية غامضة، قضية موهمة، قضية إذا امتحنتها وجدتها غير مطابقة للواقع"، ومع ذلك فنحن بهذه "اللغة" نفكر، وبها نتفاهم! قضية مشكلة! ولكن هكذا كان، وهكذا خلقنا! وأنا أحب أن أعفيك، أيها العزيز، من المشقة، فأحيلك على ما كتبته في كتابي "أباطيل وأسمار" (ص: 514 - 517 وما بعدها)، حيث قلت ذلك في حديث طويل عن "اللغة"، وعن لفظ "الدين" وغيره من الألفاظ، أحيلك أيضا إلى ما أشرت إليه في مواضع متفرقة من الكتاب، تقوم على هذا الأصل من الرأي. فلو أذنت متفضلا فاطلعت عليه، لكان ذلك عونا لنا على ما نتلمسه أنا وأنت من الحق تلمسا. وأنا أحدثك عن نفسي، فأنا منذ حاولتُ تلمُّس طريقى في المسالك الوعرة الشائكة التي قذفت بي فيها المقادير المقدرة، أطبقت عليّ الشكوك والريب في معاني الألفاظ التي نستعملها والتي استعملها من قَبْلُ أسلافنا، وفعلنا ذلك، وفعلوا بلا مراجعة، لوضوحها فيما نظن. يومئذ لم يكن لي مطلب سوى مطلب واحد، هو أن أجد برد اليقين في نفسي في شأن "الشعر الجاهلي"، وفي شأن ما نسميه "إعجاز القرآن"، كما قلت في كتابي، (المتنبي: 1: 47، 48). ويومئذ تبينت لي مشكلة "اللغة" ومتشابهاتها ومبهماتها تبينا كاملا، حين وقعت في حومة الاختلاف بين المختلفين، وأطبقت عليَّ الشكوك المدمرة، وتنازعتنى هذه المتشابهات المبهمات حتى كادت تمزقنى، فلم أجد لي سبيلا إلى النجاة

بنفسي، ولا منفذا إلى برد اليقين في نفسي، إلا طرح الاستهانة بخطر اللغة، وخطر الألفاظ والتراكيب التي تجرى على الأقلام والألسنة سهلة واضحة كل الوضوح فيما نتوهم. وهذه الاستهانة داء قديم عند البشر، ولكنها كانت عند أسلافنا -رحمهم الله-، محدودة بحدود صارمة من الجد والإخلاص للعلم والمعرفة، لم تمنع عنهم شر خطرها كل المنع، ولكنها كفت منه: وهيأت لفئة منهم أن تكون ظاهرة بالحق على سائر الفئات الأخرى التي استهانت بخطر المبهمات والمتشابهات، كالمتصوفة والمتكلمين وغيرهم فضلّوا وأضلوا، كما قلت. أما اليوم، فيؤسفني أن أقول لك، أيها العزيز، أن أكثر هذه الحدود الصارمة التي كانت عند أسلافنا، قد طمست وأمحت معالمها، بإعراضنا عما كان عتدهم، واستخفافنا بما كانوا يلتزمون به استخفافا مزريا بنا وبهم جميعا. ومن أخطر ذلك سُنَّة الاستهانة الجامحة باللغة، وبالألفاظ، وبالتراكيب ودلالاتها على المعاني، ثم إهدارها جميعًا إهدارًا كاملًا، واطراح التدبر والتأمل في المبهمات والمتشابهات اطراحا طائشا أحيانا. هذه السُّنة، هي إحدى السُّنن التي سَنَّها "الأساتذة الكبار" في حياتنا الأدبية، واستشرى الأمر وتفاقم على مر السنين، وتكاثرت الجراثيم الفتاكة، وعز الطبيب المداوى، وأصاب جيلنا "طريقا نافذا فسَلَكَ" (¬1)، وقد تخفف من كل عبء يعوق حركته من حد أو التزام أو معاناة، أي تحرر من كل قيد يقيده. وحين أقول "حياتنا الأدبية" فإني لا أعني الأدب وحده، أو الشعر وحده، بل أعني كل ما كانت "الكلمة" أصلا فيه من أدب وشعر ودين وفلسفة وعلم، إلى آخر هذه السلسلة المتشابكة. ولذلك، فهي قضية يطول شرحها، كما ترى أيها العزيز، ولكنك وقفت معى ولم يأخذك فيها الملل أو التبرم بي، ولم تستحوذ عليك سُنَّة من سُنن "الأساتذة الكبار" في إهدار الألفاظ ودلالاتها، والاستهانة بها وبخطرها، ¬

_ (¬1) جزء من عجز بيت لأيى العلاء، استشهد به الأستاذ -رحمه الله- في المقالة السابقة ص 1116.

القول في "تذوق الشعر"

واطراح التدبر في مبهماتها ومتشابهاتها تخففا من الأعباء، وتفلُّتا من القيود = فأنا عندئذ على ثقة من قدرتك على استبانة ما أوجزته هنا، استبانة تغنينى عن كل شرح وتفصيل. وقبل كل شيء، فأنا لم أكتب هذا إلا لك وحدك، أما قراء هذه المجلة، فلست على ثقة من أمرهم حين يقرأون هذا الكلام، على هذا السياق، لأنى لا أعلم عن أحد منهم شيئا يغنى. فإذا سخطوا عليّ، فهين سخطهم في مرضاتك، وإذا رضوا عني، فبفضلك أنت كان رضاهم، وهذا اعتذار مني إليهم. وأيا كان الأمر، فإني إنما اضطررت اضطرارا إلى ركوب هذا المركب، إذ ليس عندي ولا عند القراء مني، ما كان خليقا أن يعفيك ويعفيهم من كل مشقة. ليس عندي قليل ولا كثير مما عند الدكتور طه: الذي أعفاهم وأعفاك من أن "نتناول تصوره (للتذوق الفني)، أو الأسس النظرية لمناهجه المتطورة في النقد، فهي معروفة للقراء، وفي كتب مطبوعة أكثر من طبعة"، كما قلتَ آنفا في الفقرة الأولى مما لخصتُه من مقالتك الثالثة. ليس عندي شيء من هذا، ولا أنا بهذه المنزلة الموجبة لإعفائك وإعفاء القراء. القول في "تذوق الشعر" والمسألة الآن في تحرير القول في اللفظ المشترك بيني وبينك، حيث أقول أو تقول: "تذوَّقَ الشعر" أو "تذوَّقتُ هذا الشعر". وأبدأ هنا بلفظ "الشعر" الذي يتعلق به "التذوق"، متجنبا استعمال هذه التحف التي ألطفنا بها زماننا، من ألفاظ مشكلة غامضة غير مستقرة، مثل "الشكل" و"المضمون" وأخواتهما وبنات عماتها وبنات خالاتها. ولكى يكون حديثي عن "الشعر" واضحا في ففسك، فأسألك أن تكون على ذُكْر دائم غير متقطع من أن "الشعر" كلام، وأن "الكلام" أصلا هو اللفظ المسموع لا المكتوب، فإن أكثر حديثي هنا يتضمن ما يوجب أن يكون هذا المعنى حاضرا في الذهن، وإن لم أكتبه. وأنت بلا شك تدرك، لماذا سارعت فسألتك أن تفعل ذلك، وإن كان مثل هذا السؤال غير لائق أحيانا، ولكن لولا ذلك لما سألتك.

القول في "الشعر"

القول في "الشعر" ولفظ "الشعر" في لغتنا، وفي سائر اللغات التي عرف له فيها اسم متميز، قديم موغل في القدم، محدود الدلالة عند جميع واضعيه، قبل أن تكثر فيه لجاجة عصرنا وثرثرته، في لغتنا وفي غير لغتنا. هو لفظ موضوع وضعه الأوائل والأسلاف القدماء للدلالة على ضرب من ضروب "الكلام"، يفترق افتراقا ظاهرا واضحا عن سائر ضروبه التي تجرى على ألسنة المتكلمين باللغة. ولولا أنهم قد وجدوا هذا الفرق الظاهر وجدانا ظاهرا في أنفسهم لما كان بأحد منهم حاجة إلى تخصيص ضرب من "الكلام" الذي يجرى على ألسنتهم باسم متميز. . فإن الله تعالى حين خلق هذا الخلق، أنعم عليهم بالقدرة على "النطق" أي على "الكلام المسموع"، وأودعهم قدرة كامنة أخرى هي أجل وأعظم، وهي القدرة على "البيان" بهذا الكلام المركب، عن كل ما يمكن أن يجول في أنفسهم وفي ضمائرهم، وهذا الذي يجول في الأنفس والضمائر غيب مستور لا يمكن تحديده أو تفسيره تفسيرا واضحا، وكيف يجئ وكيف يذهب؟ وبهذه القدرة الكامنة قضى ربك أن يلتمسوا في بعض صور "الكلام"، قدرا من الكلام المركب أبلغ وأخفى وأغمض في الإبانة عن دخائل نفوسهم. أي هو قدر زائد على ما هم محتاجون إليه من "الكلام" في التفاهم والتعايش وقضاء الحاجات الحاضرة وكذلك فعلوا ما قضى ربهم عليهم. وصار في "الكلام" ما هو مطلوب بالضرورة للتفاهم والتعايش وقضاء الحاجات، وصار فيه أيضا ضرب آخر من "الكلام" موسوم بالتجويد في ألفاظ اللغة وتراكيبها، تعبيرًا عن أغمض ما يجول في أنفسهم، أو في أنفس بعضهم، من معان لا تلجئهم إليها الضرورة إلى الحاضرة في التفاهم والتعايش وقضاء الحاجات. وهذا الضرب الأخير، كما هو ظاهر، متضمن بطبيعته للمعاني المختلفة الوجوه والغايات، والتي تنبع أصلا من القلب والعقل والنفس ومن تجارب الحي في الحياة. وعلى مر الزمن، صار الفرق واضحا وضوحا لا يكاد يخفى بين كلامين: كلام التعايش والتفاهم، وكلام البيان عن النفس. وعلى مر

الزمان أيضا وصفوا هذا الأخير من الكلامين بأنه "كلام بليغ مبين"، وبأشباه لهذه الصفات، على ما في هذه الصفات من الغموض عند النظر، وإن كان معناها في الحقيقة ظاهرا في سر الأنفس ظهورا لا مرية فيه. ولو استمر أمر أصحاب كل لغة على هذا القدر من الفرق الذي تدركه السرائر بين الكلامين المسموعين لما كان بهم حاجة إلى زيادة ضرب ثالث من "الكلام" على هذين الضربين، يفردونه باسم متميز كما انفرد ما ينطقونه باسم متميز وهو "الكلام"، ولاقتصروا على "الوصف" المميز بين كلامين لا غير. ولكن ظهر على مر الأيام ضرب آخر منبثق من "الكلام البليغ المبين" المسموع، تميز بميزة زائدة ظاهرة تقع في الأسماع والأنفس موقعا آخر، فميزوه باسم متميز محدود هو "الشعر". وهذه الميزة الزائدة على ما في "الكلام البليغ المبين"، هي ما يدركه السمع فيه من التناسق والتوازن في وقع الكلمات المركبة، ومن تتابع تساقطها على سمع السامع تتابعا تستلذه الأذن أولا، وتنسرب ذبذبة من هذه اللذة تخامر القلب والعقل والنفس وسائر القوى التي يكون بها إدراك معاني "الكلام". وهذا موضع الفرق الحاسم لا غير، بين "الشعر" وبين كل "كلام بليغ مبين". مهما كثرت اللجاجة في زماننا، في البحث عن فروق أخرى، يراد لها أن تطغى على هذا الأصل العتيق المتقادم في إدراك البشر = الأصل الذي دعاهم، أو ألجأهم، إلى وضع لفظ "الشعر" للدلالة على ضرب متميز منبثق من "الكلام البليغ المبين"، ولا يفارقه إلا بهذا القدر من التناسق والتوازن، لا غير. وحديثنا عن لفظ "الشعر" على هذا الوجه، يصرفنا صرفا إلى قَسِيمه وضريعه، وهو لفظ "النثر". وهو في جميع اللغات التي عرفت لفظ "الشعر"، لفظ متأخر الوضع، أي هو اصطلاح متأخر لاحق، لم يكن بأحد حاجة إلى وضعه، لولا اهتداء الناس منذ أقدم عصورهم إلى تسمية ضرب خاص متميز من "الكلام البليغ المبين" باسم منفرد هو "الشعر" للدلالة على ميزته الظاهرة في تركيبه وبنائه ونظامه، ولذلك فقد أصاب أسلافنا حين عرفوه بأنه "كلام موزون مقفي" غاية الإصابة. فلما تقدم بهم الزمان، احتاجوا إلى وضع اسم للكلام البليغ

القول في "التذوق"

المبين المستجاد، فسموه "النثر"، اختصارا. ولذلك فلفظه في أكثر اللغات مأخوذ من لفظ يدل على نقض الشيء أو تفريقه وتغيير نظامه وحركته، لأنهم حين وضعوه اصطلاحا موجزا، كانوا ينظرون بعين إلى ما يتميز به "الشعر" من التناسق والتوازن والاتساق وإذا تأملت هذا بعض التأمل، لم تجد لما يسمونه في زماننا: "الشعر المنثور" معنى يفهم، لأن لفظ "النثر" مغن عن ذلك كل الغناء، ولأنه ممكن أن يحتمل "النثر" كل ما يحتمله "الشعر" من معان وخصائص، ولأنه لا يزيد عندئذ عن أن يكون "كلاما بليغا مبينا" قد استعار من ضريعه وقسيمه بعض ما جدَّ عنده، ثم ظل، كما كان، مفارقا ذلك الضرب من "الكلام" الذي يقتصر فيه الناس على التفاهم والتعايش وقضاء الحاجات. وإذا كان ذلك كذلك فلفظ "الشعر" إذن، ليس يدل دلالة صريحة على معنى من المعاني المجردة، بل هو في حقيقته: حروف مركبة في كلمات، وكلمات مركبة في جمل، جمل مقدرة التناسق والتوازن فيما بينها ولكنه ينفرد عن (النثر) بعدئذ، بضرب خاص من التناسق والتوازن مقدر محدود، يكمن في سره نَغَمٌ متساوق يتحدر في تركيب الحروف والكلمات والجمل. وهو بهذا التكوين المتميز الذي يفرق بينه وبين "النثر"، أي "الكلام البليغ المبين" تنتظم فيه المعاني المختلفة الوجوه والغايات، نابعة من أقصى أغوار القلب والعقل والنفس وتجارب الحياة. وهذا قدر كاف في الحديث عن "الشعر" بل لعل قليله كان يغنى عن كثيره. القول في "التذوق" فإذا عدنا إلى قولنا: "تذوقَ الشعر" أو "تذوقتُ الشعر"، فإن بديهة اللغة وبديهة متكلميها تسقط عن لفظ "التذوق" هنا عملَ الجارحة، وهي اللسان، فيغرق الحدث أي الفعل الذي يدل عليه عندئذ في الإبهام، وينعدم معه التعين والتميز، وتعلقه هنا بلفظ "الشعر"، وهو على كل حال أشبه بأن يكون معنى من المعاني لا جسم، ولا تعمل فيه جارحة بعينها من الجوارح، فهو بذلك لا يستطيع

أن يكسب لفظ "التذوق" شيئا يعين على توضيح بعض إبهامه، أو يَسْتَحْيي شيئا مما انعدم من تعينه وتميزه. وكذلك ترى أن "التذوق" هنا حدث (أي فعل) واقع في صميم الحالة الثانية التي ذكرناها آنفا، أي في صميم الغموض والإبهام الذي انعدم معه التميز والتعيين. وأصبحنا نحتاج إلى إعادة النظر في دلالة هذا التركيب. ويحسن هنا أن نتوقف قليلا عند وقوع "الذوق" و"التذوق" على معنى من المعاني المجرَّدة وتعلُّقه به. فإن "العذاب" مثلا معنى من المعاني المجرَّدة، ولكن تعلُّق "الذوق" به في قولنا: "ذقت العذاب"، إنما صح وحسن، لأن "العذاب" معنى تدركه الحواس إدراكا لا مرية فيه. كما قلت آنفا، ولكنك إذا قلت: "ذقت الفهم" أو "ذقت الكذب" أو "ذقت الإيمان"، وثلاثتها معان مجردة، فهو كلام ساقط مرذول، لأنه فقد التجانس والتطاعم بين طرفيه. ولا يخرجه من رذالته وسقوطه إلا أن تجلب إليه عاملا آخر يعين على التجانس والتطاعم بين طرفيه، فتقول "ذقت لذة الفهم"، و"ذقت وبال الكذب" و"ذقت حلاوة الإيمان"، وما أشبه ذلك من صريح اللفظ أو متشابهه، فيعتدل الكلام عندئذ ويستقيم ويتطاعم طرفاه بهذه الواسطة، وتذهب عنه رذالته وسقوطه. وهذا أمر بين إن شاء الله. ولنطرح الآن الإلف جانبًا، لأن الإلف يضلل كما يضلل الهوى، ولنُقْبِلْ بأنفس بريئة من سطوة جواذبه ونوازعه، على النظر والتدبر فيما نقوله: "تذوقت هذا الشعر"، أو "تذوق الشعر". و"التذوق" هنا ببديهة اللغة وبديهة متكلميها: حدث مبهم غير متميز ولا متعين، إذ سقط عنه عمل الجارحة، وهي اللسان، سقوطا لا رجعة فيه، وبقى خِلْوا من كل بديل يقوم مقام هذه الجارحة في كشف الإبهام عن صاحب هذا الحدث (أي الفعل)، وينجده بعض النجدة بإكسابه شيئا يدنيه من التعين والتميز. وبيان ذلك أننا حين قلنا: "ذقت العذاب"، فإن "الذوق" صار خِلْوا من الجارحة صاحبة الحدث، وهي اللسان، وصار حدثا مبهما غير متعين ولا متميز، وبلا صاحب يُحْدِثه. ولكن "العذاب"،

وهو معنى من المعاني المجردة، أكسبه صاحبا مبهما بعض الإبهام، يقوم مقام الجارحة الساقطة عنه، وهو الجسم المحس للعذاب، أو النفس المحسة للعذاب، أو ما شئت = وأكسبه أيضا بعض ما يميزه ويعينه، بالذي هو مضمر في لفظ "العذاب" من إدراك الحواس للوجع والألم واللذع وأشباه ذلك. فهل استطاع "الشعر" هنا، أن يكسب "التذوق" صاحبا يقوم مقام الجارحة التي سقطت عنه؟ ! أو أن يمنحه بشيء مضمر فيه (أي في الشعر) تدركه الحواس، بعضِ ما يدنيه من التعين والتميز؟ أظن أن لا. فإذا كان لفظ "الشعر" غير قادر بنفسه على شيء من ذلك، كما نرى حتى الآن، فقد وقعنا اضطرارا في حيز هذه المعاني العاجزة عن إحداث التجانس والتطاعم بين طرفي الكلام، مثل "الفهم" و"الكذب" و"الإيمان"، ودفعنا النظر دفعا إلى طرح "تذوقت هذا الشعر" على ركام من الكلام الساقط المرذول الذي فقد التجانس والتطاعم بين طرفيه. ولا تجزع أيها العزيز، لهذا المصير، فقد تعاهدنا أن نقبل على هذا الأمر بأنفس بريئة من جواذب الإلف ونوازعه، أي أن ننخلع انخلاعا من "دروشة" الصوفية وأشباههم. هل ينفع "الشعر" أنه، كما قلنا أحرف مركبة في كلمات، وكلمات مركبة في جمل، وأنه على الجملة "كلام" بليغ مبين، وأنه لولا "اللسان" لما كانت الأحرف والكلمات والجمل والكلام البليغ المبين وأن "اللسان" هو أداة إبلاغه إلى سمع السامع؟ ونعم، هذا عمل اللسان بلا ريب ولكنه عمل لا ينفع "الشعر" شيئا، لأنه، قبل كل شيء، عمل مباين كل المباينة لعمله الأول وهو "التذوق". ثم يزيد الأمر خبالًا أننا، بلا شك حين نقول "تذوقت الشعر" مجرد تذوق أنفس الأحرف، وأنفس الكلمات، وأنفس الجمل، ونفس الكلام المركب منها مجردة جميعها من المعاني. ثم يزيده خبالا على خبال: أن الأحرف والكلمات والجمل والكلام المركب من جميعها، ليس اللسان سببا في إحداثها وتكوينها وتركيبها بل المُحْدِث والمُكَوِّن والمركب فاعل آخر غيره، وإنما اللسان واسطة للأداء والتبليغ، ليس غير، وإذن فعمله هذا في "الشعر" فضلة زائدة معينة للفاعل

الأول، فهو عمل مموه غير صريح الفعل، ولا أصيل النسبة إلى "الشعر". وعندئذ، فقد بقى لفظ "التذوق" هنا حدثًا لا صاحب له، فاقدا للعامل الذي يحدث التجانس والتطاعم بين طرفي الكلام، أي لما يُكْسِبه التعين والتميز ويخرجه من الإبهام المطلق. وأخرى، هل ينفع "الشعر" أن أحرفه وكلماته وجمله ومعانيه أيضا، يجرى فيها جميعا تناسق أو توازن مقدر، ويكمن في سرها نغم مُتَساوِق يتحدَّر في تكوينها وتركيبها تحدُّرا يدركه السمع، حين يتتابع تساقُطها على سمع السامع تتابعًا تستلذه جارحة السمع، وهي الأذن؟ عسى أن يكون ذلك نافعا بعض النفع، إذا كان لفظ "الشعر" مقصور الدلالة على ما يميز كلاما من كلام من هذا الوجه ليس غير. فكون لفظ "التذوق" معلقا بلفظ "الشعر" من حيث هو نغم مستكن في أحرفه وكلماته، لا أكثر ولا أقل. فبهذا المعنى وحده يتجانس طرفا الكلام ويتطاعمان، ويخرج قولنا "تذوق الشعر" من الرذالة والسقوط، لأن صريح معناه هو "تذوقت نغم هذا الكلام"، لا غير، بلا عمل للتذوق في معانيه ولا في تركيبه. وهذا بلا ريب، ليس إلّا جزءا يسيرا جدا مما نعنيه حين نقول: "تذوقت الشعر" وإذن فهو غير مُغْنٍ ولا نافع كل النفع. وأشياء أخرى كثيرة يمكن أن تقال أيضا، إذا نحن أمعنا إمعانا في التأمل والتدبر والتحليل ونحن في حالة البراءة من سطوة الإلف الذي يملك القدرة على أن يضللنا كما تضللنا الأهواء. وأيًّا ما كان، فهذا القدر كاف في أن يدلنا منذ الآن على أننا مهما جئنا به من وجوه التبرير والتحليل فسوف ننتهي إلى شيء واحد مصمت محدد، وهو أن قولنا: "تذوقت الشعر"، لفظ مشكل مجمل مبهم الدلالة غارق في الإبهام لأن صاحبه الأول، أي فاعله على الحقيقة؛ وهو جارحة "اللسان"، قد سقط عن هنا سقوطا لا رجعة فيه: ولأن لفظ "الشعر" لفظ عاجز عجزا عن أن يُكْسِبه صاحبا جديدا معينا متميزا، يمكن أن يتولى إحداث هذا الفعل يكون بديلا من صاحبه الذي سقط عنه، والذي كان معلوما مفهوما وإن لم يُذْكَر لفظه الذي يدل عليه حين نقول: "تذوقت العسل أو الطعام" وهو

جارحة "اللسان" التي هي جزء لا ينفصل عن الفاعل الذي أسند إليه ههنا "التذوق"، وهو أنا أو أنت أو هي، الذي تدل عليه "التاء" الأخيرة في "تذوقت". وإذن، فقد أصبح قولنا "تذوقت الشعر" قولا مهددا تهديدا مخوفا، بأن يُؤخَذ، بمرة واحدة وبِرُمَّته، فيُلْقَى على ركام مطروح بعضه فوق بعض من الكلام الساقط المرذول الذي فقد التجانس والتطاعم بين طرفيه، وليس ينجيه من هذا المصير الكئيب، إلا أن نتلمس صاحبا شهم الشمائل نافذ الجراءة يخف إلى نجدته، لا لينتشله من الغرق في معاطف الإبهام والغموض بل لينتاشه قبل كل شيء من دنس الهلاك قبل أن يهوى في قرارة السقوط والخساسة. وهذا مطلب شريف، لأنه لفظ عزيز على وعليك أيها العزيز. ولكي نهتدي إلى هذا "الصاحب" الذي يملك من النخوة والشهامة والجراءة، ما يحفزه ليثب مسرعا إلى استنقاذه من التهلكة الموبقة، أراه لزاما أن نريح هذين اللفظين "تذوقت الشعر" من كل عناء يوجبه التنقير والتفتيش عن هذا "الصاحب"، وذلك يقتضينا أن نرفه عنهما بتنكُّب طريق التدبر والتأمل والتحليل: الذي يؤدى بنا إلى إنهاكهما إنهاكا مفضيا بهما إلى التلف والبوار. وتنكبُ هذا الطريق، فيما أرى، واجب على كل ذي مروءة، لأنه طريق مسدود على سالكه، في نهايته هوة لا ينجو عليها ناج، مهما حاول وأراغ المهرب. أما الطريق الآخر، فلست أحب أن أشق عليك فتشدّ رحالك بأنس الصحبة، فأغرر بك في سلوكه معى، فإن للصاحب في السفر ذمة ينبغي أن يرعاها صاحبه، بأن يكاشفه بغوائل الطريق وجوائحه (¬1) قبل ارتكابه. فهذا طريق قديم كنت قد سلكته منذ دهر طويل، في زمن محنة "الشعر الجاهلي"، التي ألقت بي بغتة في الأمر المخوف المهوب الذي تنخلع عنده القلوب، وهو إعادة النظر في شأن "إعجاز القرآن". نعم، قد نجوت قديما، بحمد الله وبرحمته، من غوائله ولمَّا ¬

_ (¬1) الجوائح: المصائب المهلكة.

أَكَدْ، ولكني لم أكد أفارقه حتى انطرحت وحيدا، لاهثا داميا قد أثخنتنى الجراح، عند طرف منه قد أفضى بي إلى محجة واضحة المناهج بعض الوضوح. ولذلك فأنا أوثر اليوم أن أعاود السير فيه وحدي، بيني وبين نفسي لأنى أخشى أن يكون معالمه عندي قد درست وامحت، وخفي عني مدب أقدامى قديما فيه، وتهدمت بعض الصُّوَى (¬1) التي كنت نصبتها منارا حيث سرت، لكي أهتدى بها وأستدل على مذاهبى التي بلغت لي يومئذ طريقا قاصدا، كان لي موئلا ومفازا ونجاة وسلامة. ولذلك فأنا أخشى عليك أن تكون لي فيه صاحبا، بل كن لي مراقبا يرقب خطاى من بعيد، فإن وجدتنى قد أشرفت على تهلكة، فنادنى حتى ينقذنى من الضياع صوتك، فهذا معروف تفعله بأخيك، ليس عندي جزاؤه، ولكن عند ربك جزاؤه. وكل ما أملك أن أدعو الله أن يجنبك كل محنة كمحنتى التي بدأت أَصْلَى نارها منذ سنة 1928. كانت "محنة"، وكان على أن أنجو أو أهلك فيمن هلك. تناهشتنى الشكوك والريب، ووجدتنى يومئذ مخذولا لا معين لي من داخل نفسي ولا من خارج نفسي. لا عِلْمَ عندي ينصرنى، ولا كتاب أعرفه يغيثنى. غدرت بي نفسي، ونكثت عهدها الكتب، وأحاطت لي الشكوك القواصم، وأطبقت على ظلمات بعضها فوق بعض، أخرج يدي فلا أكاد أراها. وكدت ساعة أن أنفض كل شيء نفضة واحدة، ضنا بنفسي على الهلاك، وطلبا للنجاة، ولكن لاح لي في الظلمات بصيص من نور، فامتثلت للحكمة المضيئة التي جرت على لسان الشاعر الجاهلي، الحُصَين بن الحُمام المُرِيّ: تأخرتُ أسْتبقى الحياةَ، فلم أجدْ ... حياةً لنفسي مثل أن أَتقَدَّما فلم أبال شيئا وتقدمت، "فأما لهذا وأما لذا"، كما يقول أبو الطيب. أحسبنى قد وقعت مرة أخرى منساقا إلى رواية تاريخ قديم غَبَرَ، لا يغنى ولا ينفع، ولكن عذرى أن كلامك قد صادف قلبا محزونا فتذكر: ¬

_ (¬1) الصوى: معالم تنصب في الطريق يهتدى بها المسافر.

تذكر شيئا قد مضى لسبيله، ... ومن حاجة المحزون أن يتذكرا كما يقول النابغة الجعدى، فاعذرنى مشكورا. كان عليّ يومئذ، فيما رأيت، أن أنبذ علما كثيرا علمته، لا نبذ استخفاف به، أو إغفال له، أو استهانة بمن علَّمنيه، بل نبذ تخوُّف عليه مما أنا مقدم عليه، وتخوف على نفسي من مغبة سطوته عليّ، وهو على كل حال حاضر عتيد (¬1) لا يغيب عني وضعه، إن وجدت إليه حاجة فإنه يسعفني. ومحال أن يتخلى المرء عن كل علم، فهذا غرور بالعقل والنفس موغل في الجهالة، وكذب مغموس في لجج الباطل. فلابد إذن من علم أستعين به وأهتدى، وأنا موقن بسلامته من كل آفة، فلم أجد علما يقينا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: إلا القرآن العظيم، فبه وحده اهتديت، وقصتى بعدئذ تطول وتتشعب، وتختلف فيها المسالك، وتتعدد عندي المطالب. وأخيرا وجدتنى ملتمسا مطلبا واحدا لا أستطيع أن أتجاوزه، حتى أجد في نفسي عنه بيانا شافيا أطمئن إليه. . ما هو هذا "الكلام" الذي ميزنا الله به عن سائر خلقه وهم من حولنا صموت لا ينطقون؟ من أين يأتي؟ وكيف؟ ومم يتكون؟ وكيف يتخلق ويتصور؟ فإذا الجواب عن هذه الأسئلة مطلب مستعص على الغوص، مفض الى الحيرة، لأن حقيقته غائرة في قلب الأسرار المحجبة، أسرار "الخلق" التي لا يعلم علمها وخَبْأَها إلا الذي له وحده "الخلق والأمر" سبحانه. بيد أن "الكلام" شيء كائن بأمره كسائر ما هو كائن بأمره، فهو إذن آية كسائر آيات خلقه في السموات والأرض. فإن يك مستعصيا جواب هذه الأسئلة جوابا حاسما كاشفا عن حقيقته وأسراره، فإنه، من حيث هو آية من آيات الله، غير مستعص على التأمل والتدبر، بل هو واجب علينا أن نوفي هذه الآية حقها من التدبر والتأمل، لأنه هو سبحانه أمرنا أن نفعل حيث قال: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، فامتثالا وطاعة فعلت ما أمر الله به. ¬

_ (¬1) عتيد: حاضر قريب.

ومنذ قليل قلت: "إن الله سبحانه حين خلق هذا الخلق، أنعم عليهم بالقدرة على "النطق"، أي "على الكلام المسموع" وأودعهم قدرة أخرى هي أجل وأعظم، وهي القدرة على "البيان" بهذا الكلام المركب عن كل ما يمكن أن يجول في أنفسهم وفي ضمائرهم. وهذا الذي يجول في الأنفس والضمائر غيب مستور لا يمكن تحديده أو تفسيره واضحا، كيف يجئ؟ وكيف يذهب؟ ". وعلى طول التأمل وجدت هاتين القدرتين توأمين لا يملكان أن يفترقا، لأن عمل الأجل الأعظم، وهو القدرة على "البيان"، معتمدا اعتمادا كاملا شاملا على أدناهما، وهو القدرة على "النطق" بالكلام المركب. ثم وجدت أيضا أنهما قدرتان متداخلتان لا سبيل إلى تمييز إحداهما من الأخرى إلا بآثارهما فيما يصدر عنهما من الكلام، أما تخليص إحداهما من الأخرى، فأمر ممتنع امتناعا حاسما على كل طامع. وكل قدرة يملكها الإنسان، فلها في بنائه مكمن تستقر فيه، هو أداة صالحة لإظهار فعلها وعملها، كاللسان والأذن والأنف والعين واليد، والعقل أيضا على ما يكتنفه من الغموض = إلا هاتين القدرتين التوأمين المتداخلتين، فقد رأيته معجزا أن نلتمس لهما في هذا البناء الإنساني مكانا تستقران فيه، أو تنتسبان إليه انتسابا صريحا لا يشوبه تردد أو ارتياب. وفوق ذلك، فهاتان القدرتان العجيبتان الغامضتان قد انفردتا بخصائص غريبة كل الغرابة، تميزها بها عن سائر القُدَر الإنسانية. الأولى: أن لهما من خارجهما مترجم يترجم عنهما، وهو "اللسان" صاحب القدرة على "الذوق" وفاعل "الذوق"، فهو مؤد عنهما ما تفعلان، لا غير. والثانية: أن لهما من خارجهما مستقبلا يستقبل ما يؤديه عنهما "اللسان"، وهو "الأذن" صاحبة القدرة على "السمع" وفاعلته، فهي مستقبلة لما تفعلان لا غير، والثالثة: أن لهما مددا لا ينقطع يأتيهما من خارجهما، أي من جميع القوى الإنسانية المُدْرِكة المُحِسَّة، وعلى رأسها العقل والقلب والنفس. وهذا المدد وحده هو الذي يحركهما لأداء عملهما. ولولا هذا المدد المستمر، لبقيتا عاجزتين خامدتين لا تملكان قدرة على فعل شيء البتة. وطبيعة

هذا المدد الذي لا ينقطع، وطبيعة تكون مادته، عمل غريب جدا، مستعص على التحديد والتفسير، ولكننا نجد آثاره كائنة ظاهرة في كل ما يمكن أن يسمى "كلاما" قابلا للإدراك والفهم. وأعجب من ذلك وأغرب: أن جميع قوى الإنسان المدركة والمحسة، مقصور أثر ما تفعله وتحدثه وتدركه وتحسه على صاحبها وحده. وليس لقوة واحدة منها حافز يحفزها على تبليغ ما تحدثه أو تحسه إلى غير صاحبها البتة، ولا لإحداهن وسيلة قادرة على التبليغ والأداء. فالذوق واللمس والشم والسمع والبصر، جميعهن قوى تفعل أفعالها، وتدرك الطعم والجسم والرائحة والصوت والصورة، ولكن غير مستكين في طبيعة إحداهن حافز يحفزها إلى تبليغ شيء مما تجد إلى غير صاحبها، ولا تملك إحداهن وسيلة إلى هذا التبليغ. ومعنى ذلك إنه ليس عند أحد من أصحابها مترجم يترجم عنها، وليس عند أحد من البشر مستقبل يستقبل ما يمكن أن ينقله عنها مترجم. أي هي قُوى صُمّ بُكْم لا تبين، ولا تستطيع أن تفصح بما عندها إلا لصاحبها وحده، دون سائر إخوانه البشر. وإذا اختصرنا الطريق اختصارا، ونظرنا في الأمر من وجه آخر، فسوف ننتهي إلى ما هو أعجب. فنحن نجده وجدانا ظاهرا لا شك فيه: أن هاتين القدرتين الغامضتين الكامنتين في مكان مبهم من أنفسنا نحن البشر، هما وحدهما القادرتان على احتمال كل ما تعمله قوى الإنسان أو تدركه. وأيضا، هما وحدهما القادرتان عن الإفصاح عما تفعله أو تدركه هذه القوى الصم البكم المقصورة على صاحبها وحده. وأيضا، هما وحدهما المالكتان لشيئين: مالكتان لوسيلة عند صاحبها مُترجِمة مُبْلِغة عن هذه القوى الصُّم البُكْم، تؤدى عنها بعض ما تدركه إلى إنسان آخر غير صاحبها = ثم مالكتان لمستقبل عند غير صاحبها يستقبل الترجمة ويبلغها ويؤديها إلى هذا الإنسان الآخر، وهذان هما "اللسان" و"الأذن"؟ . وعندئذ ينشأ سؤال محير بالغ الخطر، محفوف جوابه بالمبهمات من كل جوانبه. هذا المستقبِل، وهو الأذن، إلى أي قوة كامنة في الإنسان الآخر، تؤدى ما تحمل، أو تبلغها ما حملت؟ إلى أخوات هذه القوى

الصُّم البُكْم نفسها في الإنسان الآخر؟ وبقليل من النظر، يظهر بُطْلان الجواب عن ذاك السؤال، إذا أجبت بنعم. فليس معقولا أو ليس موجودا أصلا: أن السمع يؤدى ما يسمعه من صفة الرائحة أو الطعم، يؤدى إلى أنفس السامع نفس الرائحة، أو يؤدى إلى لسانه نفس الطعم! ! وقس على ذلك سائر القوى الصُّم البُكْم التي يستعصى عليها إدراك شيء مما يحمله السمع من الأسماء والصفات. كل هذا الوجه باطل لا يعرج عليه. وإذا بطل هذا، لم يبق إذن إلا أن السمع يؤدى ما يسمع إلى العقل أو القلب أو النفس، وثلاثتهن جميعا قوى مركبة معقدة مبهمة الأفعال غامضة التصرف، وإن كنا نجد آثار أفعالها وتصرفها واضحا وضوحا لا نشك فيه. كيف يكون ذلك؟ هذا سر من أسرار "الخلق" التي استأثر بعلمها خالق هذا الخلق، ومُودِعه من حكمته وتدبيره ما أودع. وإن كان هذا التفويض إليه سبحانه لا يعجب أهل زماننا و {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}. وعلى كل حال، فقد ألفنا أن نسند إلى ثلاثتهن إدراك جميع ما نسمعه (القلب والنفس هنا رمزان جامعان لقوى كثيرة معقدة خفية في الإنسان). والذي اصطلح البشر على تسميته "العقل"، أخطر الثلاثة شأنا، وأجهرهن صوتا. و"العقل" على غموض أفعاله وتصرفه، هو أظهر العوامل، بل لعله العامل الأول الذي يمد هاتين القدرتين الغامضتين الكامنتين، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان)، بالمدد الذي يحركهما إلى أداء عملهما في تركيب ما نسميه "الكلام". ولكن هل هذا الذي نقوله أو نتصوره صحيح من كل وجه صحة تنفي عنه كل شك أو تردد أو ارتياب؟ هل يستطيع "العقل" مثلا أن يدرك ثم يبين إبانة ما عن "حلاوة الطعم" التي يجدها اللسان، مجردة من هذين اللفظين اللذين أنشأتهما عندنا "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان"؟ هل يستطيع "العقل" معزولا عزلا تاما عن هاتين القدرتين أن يقول: هذا أبيض، وهذا أسود، قبل أن يوجد عنده لفظ يدل على السواد أو البياض؟ هل هذا أو ذاك

من عمل "العقل" منفردا بالإدراك؟ وعشرات من الأسئلة عن المعاني المفردة والمعاني المركبة، وكلها أسئلة لا يملك امرؤ أن يجيب عنها بقولٍ فَصْل جوابا غير قابل للقوادح التي تفسده أو تبطله، مهما ادعى ذلك المرء لنفسه من البسطة في العلم، ومهما سولت له نفسه أنه قادر على التغلغل في أسرار "الخلق" التي استأثر بها فاطر السموات والأرض ومن فيهن. ومع كل هذا الغموض الذي يحيط بعمل العقل من نواحيه، فالتأمل يضطرنا اضطرارا إلى أن نسلم مرة بأن هاتين القوتين الغامضتين، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان) عاجزتان عجزا مطلقا عن أداء عملهما في إنشاء الكلام وتركيبه، لولا مدد العقل = وأن نسلم مرة بأن هذا "العقل" غير مطيق لأداء عمله في التفكير والتبين والتمييز إطاقة ندركها، لولا ما تمده به هاتان القوتان الغامضتان، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان)، من الألفاظ التي عنهما وحدهما تنشأ، وبفعلهما وحدهما تتركب، فيما نتوهم. فإذا سلمنا بذلك، فهذا إذن تداخل بين هذه القوى الثلاث ممتنع على الفصل، أي هو تداخل يدور في حلقة مفرغة، لا ندري من أين يبدأ، ولا إلى أين ينتهي. وكذلك يمكن أن يقال عن "القلب" و"النفس" ما قيل في العقل، وإن كان عملهما أشد غموضا من غموض عمل العقل وتصرفه. وهما، من ناحية أخرى، أشد تعلقا بالعقل، والعقل أشد تعلقا بهما. وإذن، فهذه خمس قُوى: القدرة على النطق، القدرة على البيان، العقل، القلب، النفس، جميعهن قوى متداخلة تداخلا ممتنعا على الفصل، وجميعهن قوى متعانقة تعانقا ظاهرا، ولكن أعمالها جميعا تدور في حلقة مفرغة، وجميعها متغلغل بعضها في بعض تغلغلا باطنا لا يمكن تفسيره أو توضيحه أو تحديده. ويبقى شيء آخر أن هذه القوى المتداخلة بجميعها تتلقى عن الحواس الخمس الظاهرة أفعالها، في ذوق وملمس وشم وسمع وبصر، وتشترك جميعا في إدراك معناها وتبينه وتميزه. وهذا واضح كل الوضوح بعد الذي قلناه آنفا في شأن تداخل هذه القوى تداخلا ممتنعا على الفصل.

ولكن يبقى بعد ذلك شيء مهم جدا، وهو الذي يعنينا هنا أول ما يعنينا. فأي هذه القوى الخمس المتداخلة المتعانقة المتغلغل بعضها في بعض، أيها أعظم شأنا، وأجل خطرا. ولكى نفضى إفضاء سريعا نافذا إلى جواب هذا السؤال، نأخذ هذه الخمس المتداخلات، فنعزل منها القوتين الغامضتين، وهما "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان". فماذا يكون مصير الثلاث الأخر؟ يسقطن جميعا من فورهن هاويات من ذُرَى الشَّرَف (¬1) التي استوت عليها، لكي تلحق بالقوى الصُّم البُكْم التي لا تطيق أن تفصح لنا عن عملها، بل عن وجودها، أي إفصاح. وإذا أرادت، فإننا نحن أنفسنا لا ندري عندئذ كيف ندرك ما تريد أن تفصح به، ولا ندري أيضا ما هي الوسيلة التي يمكن أن تملكها لتكون مترجمة مبلغة عنها، ولا من يكون المستقبِل الذي يستقبل الترجمة ويؤديها إلى إنسان آخر غير صاحبها. ومعنى ذلك أن "العقل" و"القلب" و"النفس" جميعا ينقلبن إلى قوى مصمتة صامتة عاجزة لا تبين، ولا نطيق نحن البشر عندئذ إدراك شيء من عملها هي، ولا تستطيع أن تبلغنا شيئا مما تدرك، بطل عمل "العقل" و"القلب" و"النفس" بطلانا لا رجعة فيه! وإذن، فهاتان القدرتان النفيستان الغالبتان الغامضتان الكامنتان فينا حيث لا ندري ولا نعلم، "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان"، هما أشرف القوي وأنبلها وأعظمها سلطانا في بناء الإنسان، لولاهما لخرب البنيان: لولاهما لالتحق الإنسان التحاقا مطلقا لا رجعة فيه ولا مخلص منه بسائر خلق الله من الأنعام والبهائم العجماوات أو الجماد. لولاهما لسقط عنه التكليف، ولأشفق الشيخ أبونا آدم إشفاق السموات والأرض والجبال، حين عرض عليهن ربهن الأمانة، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، و {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، ومع ذلك، وبما حمل من الأمانة، كرم الله بنيه، وجعل منهم الأنبياء والصديقين والشهداء وأولى العلم الذين يشهدون مع الله قائما بالقسط ومع ¬

_ (¬1) الشرف: المكان العالى.

ملائكته أنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فأي شرف هذا وأي تكريم؟ سبحانك، تباركت ربنا وتعاليت. وما بلغتُ هذا المبلغ من ظهور سلطان هاتين القدرتين الغامضتين على جميع ما في الإنسان من قُوى، حتى استبان لي أن حياة هذه القُوى حياة يمكن أن نتبينها نحن، متوقف كل التوقف على وجودهما في الحلقة المفرغة التي اندمجن فيها جميعا، والتي لا تقبل الفصل وتستعصى على التقسيم. وإذن، فهاتان القدرتان أحقهن جميعا أن تكون أول من يبلغه السمع من الكلام المسموع. أحق من العقل، ومن القلب، ومن النفس، أي هما أحق قُوَى الإنسان جميعها بذلك. فهذا جواب السؤال عن "الأذن": إلى من تبلغ ما تسمع؟ والذي نجده في أنفسنا عند سماع الكلام البليغ المبين من الشعر وغيره، شاهد على صحة ذلك مقبول الشهادة إن شاء الله. يسمع أحدنا البيت المستجاد من الشعر فتأخذه بغتة عند سماعه هِزَّة وأريحية، ثم يردده في نفسه مرة بعد مرة، فربما مضت الأيام والليالى وهو لا يزال يتوغل في استحسان لفظه وما يتفجر منه من المعاني، ثم ينتبه مرة إلى عيب يشوبه أو يشينه. فالهِزَّة والأريحية توشك أن تكون من وقع هذه الألفاظ المركبة جملة واحدة على أوتار هاتين القدرتين الغامضتين الساريتين في الحلقة المفرغة، وهما صاحبتا السلطان فيها = أما الاستحسان وتفجُّر المعاني من الألفاظ، فيوشك أن يكون من اشتراك قُوَى الحلقة المفرغة جميعا، وهي تحت سلطان هاتين القدرتين في تقليب الألفاظ المركبة وتفليتها والتدسس في ثناياها وأغوارها مرة بعد مرة = وأما ظهور ما يشوبها من عيب أو يشينها، أي الحكم عليها، فيوشك أن يكون إعلانا لسطوة العقل وقدرته المطلقة على التبين والتمييز، حين استوى له، بعد لأي، أن يظهر سلطانه على جميع قُوى هذه الحلقة المفرغة. وهذه المراتب الثلاث في تجربتى، كادت تكون واضحة عندي كل الوضوح. ولما بلغتُ هذا المبلغ، وجدته ظاهرا عندي أن "القدرة على النطق"، "والقدرة على البيان"، تعتمد إحداهما على الأخرى اعتمادا شاملا كاملا، كما

قلت آنفا، وأنهما قدرتان توأمان متداخلتان لا سبيل إلى تمييز إحداهما من الأخرى إلا بآثارهما فيما يصدر عنهما من الكلام، وأن تخليص إحداهما من الأخرى أمر ممتنع امتناعا حاسما على كل طامع. فعندئذ آثرت أن أدمجهما معا في كلام واحد دال على قدرة مركبة، وأن أُغلِّب الأجلَّ الأعظم، وهو لفظ "القدرة على البيان"، اختصارا، وفرارًا أيضا من التثنية لغير ضرورة ملزمة، وأكبر من ذلك، إيثارا لما امتن الله به على عباده حيث قال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [سورة الرحمن: 1 - 4]. ولما بلغت هذا المبلغ تأملت المراتب الثلاث التي ذكرتها آنفا، فوجدت أن لهذه القدرة المركبة الخفية المندمجة في الحلقة المفرغة، وهي "القدرة على البيان"، عملين يتجاذبانها: الأول عملها في إنشاء الكلام وتركيبه وإذاعته، وهذه هي "الإبانة"، والثاني عملها في استقبال الكلام المسموع الآتي من خارج، ثم تقليبه وتفليته والتدسس في ثناياه وفي أغواره مرة بعد مرة، وهذه هي "الاستبانة". وهي تعمل هذين العملين، والسلطانُ في الحلقة المفرغة سلطانُها الأعظم. فإذا ما أصابت هذا السلطان فترة أو وَهْن، انبعث العقل بسطوته يبسط سلطانه على الحلقة المفرغة مستقلا بالتبين والتمييز، منتهيا لإصدار أحكامه على هذا الكلام: وصارت هي من أعوانه في عمله كما كان هو من أعوانها قبل في عملها. فإذا أصدر حكمه فهي بإحدى المنزلتين: إما أن تقبل حكمه بالاستحسان أو الاستهجان طائعة راضية مستبشرة = وإما تسخط هذا الحكم بالاستحسان، أو الاستهجان وتألف أن تطيعه، وتستعلى عليه أحيانا بكبريائها، متهمة إياه بالتقصير في التبين والتمييز. لما بلغتُ هذا المبلغ رأيتنى محتاجا إلى التوقف طويلا، متثبتا من أمرى في شأن "الإبانة" و"الاستبانة". أما "الإبانة"، فلها عندي حديث طويل متشعب، وفي الحديث عن "الاستبانة" طرف منه مجزئ، و"الاستبانة" كما قلت "هي العمل الثاني الذي تزاوله القدرة على البيان"، حين تتهيأ هذه القدرة لاستقبال الكلام المسموع الآتي من خارج، وتهتز له حين تتلقاه، ثم تشرع من

فورها في تقليبه وتفليته والتدسيس في ثناياه وفي أغواره مرة بعد مرة. تتحسس ما أنشأه غيرها من أحرف وكلمات وجمل وتراكيب، بما أنست هي من القدرة والدربة على إنشاء مثله وتركيبه. وهذا عمل خفي غامض موغل في الغموض، تَعْسُر الإحاطة به أو تفصيله -ولكن أحدنا، إذا هو أطال تأمل ما يختلج في نفسه حين يسمع، مثلا، شعرا بارعا، أو يعيد ترديده في نفسه، أو يقرؤه على مُكْث مرة بعد مرة، فإنه واجد وجدانا خفيا حركة خفية من عمل هذه القدرة، نابضة في أقصى حسه. فإذا ألح، استبان له بعض عملها استبانة لا تكاد تخفى أحيانا. فما الذي تطلبه هذه القدرة حين تشرع في "استبانة" الكلام الذي جاءها من خارج؟ هي الآن لمَّا تزل صاحبة السلطان الأعظم على جميع قُوى الحلقة المفرغة التي تعمل معها تحت سلطانها، وعلى رأسها "العقل". أكبر الظن أنها تطلب أول ما تطلب، أثر أختها وضريعتها عند الإنسان الآخر في هذا الكلام، في أحرفه وكلماته وجملة وتراكيبه التي تم التعبير بها عن معان متعانقة جالت في نفس صاحبها. وصاحبتنا تعلم علما ليس بالظن: أن الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب تنشأ عندها هي عن آلاف مؤلفة، وحشود حاشدة، وجماهير غفيرة، وموج لُجّى من أعمال الغرائز والطبائع والسجايا والشيم والشمائل والعواطف والشهوات والأهواء والنوازع، جموع بعد جموع تجيش في نفس صاحبها، من بين ثائر متفجر، وهامد الأنفاس. كلهم له عليها حق لازم، لأنه جزء لا يتجزأ من ضمير صاحبه وغيبه وحقيقته التي يتميز بها وينفرد عن سائر إخوانه من البشر. كلهم يطالبها أن تستعد للبيان عنه إثباتا لوجوده. وهي لا تملك إلا أن تستجيب لكل طالب حق. واستجابتها أن تتهيأ هيئة تعين على تميز صاحبها وانفراده عن غيره، وتعبئ قدرتها على الإنشاء والتركيب تعبئة تجعلها عند الحاجة صالحة للدلالة على كل منهم، وعلى وجوده أو حضوره. فكذلك تصبح "قدرة على البيان" متميزة بالدلالة على ضمير صاحبها وغيبه وحقيقته التي ينفرد بها عن غيره من البشر.

معنى ذلك، أنها حين تمارس إنشاء الكلام وتركيبه، تحمل الأحرف والكلمات والجمل والتركيب ومعاطف المعاني التي تبين عنها أمشاجا متداخلة من الدلالات، ثم تفصل عنها حاملة آثارا مفصحة، أو مستكنة، أو عالقة، أو ناشبة في ثنايا الكلام وفي طواياه وفي أغواره، دالة دلالة على ما يتميز به صاحبها من أعمال الغرائز والطبائع والسجايا والعواطف والأهواء والنوازع، قديمة أو متجددة، ظاهرة أو باطنة. لا، هذا جزء يسير من عملها وخصائصها. فأكبر من ذلك أن هذه القدرة الخارقة الغامضة الغريبة المطيقة للتشكل، قادرة على أن تعبئ نفسها تعبئة صالحة للدلالة -بالأحرف والكلمات والجمل والتراكيب- على هيئة صاحبها وحركته وشمائله وسمته وعلى مئات من السمات الظاهرة والخفية التي يتميز بها صاحبها، تفصل عنها مغروسة في الكلام، ومغروسة أيضا في المعاني أحيانا. وإذن، فهذه القدرة حين تلتمس هذه الآثار في كلام أتاها من خارج، فهي تمارس عملا خاطفا لأول وهلة في الاهتزاز له، ثم تبدأ تقلب وتفلى وتتدسس في الثنايا والأغوار، وتتحسس ذلك مرة بعد مرة، فترتاح ارتياحا لمهارة أختها الأخرى، أو ترضى رضا، أو ترفض، أو تنفر. فإذا فتر سلطانها في الحلقة المفرغة، اهتبل "العقل" هذه الفترة، فجاء بسطوته ليفرض سلطانه على الحلقة المفرغة، وشرع يفصل ويبين ويميز، ثم حكم، مستقلا بالحكم. فإما رضيت صاحبتنا عن حكمه أو أنكرته. فهذا طرف من حديث "الاستبانة"، حين توقفت يومئذ عنده متثبتا. ولكني وجدت اللفظ غير كاف في الدلالة، ووجدت أهل زماننا قد أكثروا من ذكر "تذوق الجمال" و"تذوق الموسيقى"، "تذوق الشعر"، و"تذوق الفن"، فرأيته أحسن دلالة على ما تفعله "القدرة على البيان" من لفظ "الاستبانة" فآثرته عليه. وقد سألتنى أن أجد مكانا صالحا أقف عنده من حديثي هذا، فكأنه الآن أصلح مكان للتوقف، ثم أتابع القول في "التذوق" فيما بعد إن شاء الله. وأنا أرجو أن أكون قد استطعت أن أتبين بعض مدب أقدامى في هذا الطريق الموحش القديم، وأرجو أيضا أن أكون صادقا فيما عبرت عن نفسي، أو قصصته.

وأنا أقول "أرجو أن أكون صادقا"، تخوفا على نفسي من أن أكون قد كذبت أو لفقت فإني رأيت القصاص المبدع والكاتب المطبوع، الأستاذ إبراهيم الوردانى قد فزع فزعا شديدا حين قرأ كلمتى السالفة، ثم أبدى عن فزعه في صواريخه، في صحيفة الجمهورية، يوم الخميس (19 من شوال 1398/ 21 من سبتمبر 1978، فقال إنه قرأ شيئا "مرعبا مخيفا، تدوخ له النفس، بل تتطاير". ولعل فزعه كان لما وجد فيه من ذكر "عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين"، وما كان من سطوه على أعمال الناس وادعائها والاستطالة بها استطالة باذخة، ثم نقل بعض كلامي وختم كلمته بقوله: "عزيزى القارئ، أنقل عن الكاتب، ويأخذنى الدوار. فالكاتب هو "الأستاذ محمود محمد شاكر - 70 سنة". ورغم قلة شهرته، وعدم ذيوع صيته، إلا أن له في الأروقة الأدبية، ومنذ زمان، لقب الإمام الزاهد، بل الإمام الكبير الزاهد، حتى ولو لمحناه دائما يؤم للصلاة، ولا أحد من خلف ظهره). . . نعم. . نعم. . تهلع النفس أن يكون كذوبا ملفقا، ولكن الهلع الأكبر أن يكون صادقا أمينا". وأنا أقول لأخى إبراهيم: لا تهلع أن أكون كذوبا ملفقا، فإن أكن ما تخاف، فإنما أنا رجل من الناس، فإن أك كاذبا فعليّ كذبى. وما عليك إلا تدخلنى في غمار الناس وتستريح، فلست "إماما" حتى تهلع، إنما الإمام من يتخذ المؤذنين يؤذنون له على المنائر وأسطح المنازل وأفواه الطرقات. لا مؤذن لي. فإن أكن مصليا، فصلاتى في غار ضيق لا أخافت بها ولا أجهر، والغار لا يتسع لمأموم واحد، فضلا عن زحام المأمومين! وإن يكن هلعك الأكبر لما يصيب "عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين" إذا كنت أمينا وصدقت، فاكفف من هلعك: فإنه غير مجد عليك شيئا، وخذ نفسك بما أمر به الفرزدق "النوار" أم ولديه، حين ماتا ابناها منه، فجزعت عليهما حتى كادت تتلف، فقال لها ضنًّا بها على التلف:

فما ابناكِ إلا مِن بني الناس، فاصْبرِي ... وهل يُرْجِعُ الموتى حنينُ المآتمِ؟ رفِّه، يا أخي، عن نفسك، فالأمر كله أهون من ذلك، فإن الدكتور طه حسين في نفوس الناس أعظم وأجل من أن يصاب بشيء تكرهه، ولا يعمل فيه قدح قادح كذب ولفَّق، أو صدق وأدَّى الأمانة.

المتنبي ليتني ما عرفته 3

المتنبي ليتني ما عرفته - 3 - في سحيق الأزمان والآباد التي لا يعلم مدتها إلا عالم الغيب والشهادة سبحانه، كان أبونا الشيخ، آدم -عليه السلام-، منجدلا في طينته، حتى إذا ما نفخ الله فيه من روحه، قام على رجليه حين قام، طيع الشفتين، مطلق اليدين، ممشوق القوام معتدله، مصورا في صورة تباين كل ما يحيط به من خلقه سبحانه. قام منذ أول نهضة نهضها على الأرض، و"القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة"، مودعة فيه مُعَدَّة، مهيأة للعمل من فورها، ليتلقى "التكليف" منذ أول وهلة. هذه هي النشأة الأولى في لحظة خاطفة مضيئة، شهدها رجل واحد، ثم ضاعت وأظلمت في غمرة الآلاف المؤلفة من الدقائق والساعات والأيام والليالى والشهور والسنين والقرون الغوابر والأحقاب. أسدل عليها الحجاب، واستسرت في أعماق الأزمان والآباد والدهور السحيقة. لحظة انتهت، وانتهى بانتهائها كل ما وجده آدم في نفسه، حين أدرك نفسه، إذ أبصر وسمع وعقل واستجاب للتكليف. انقطع كل أمل أن تبقى هذه اللحظة ميراثا متجددًا حاضرا واضحا في نفوس أبنائه إلى آخر الدهر. لم يكن لنا سبيل إلى علم شيء عنها بوسيلة من الوسائل، ولولا الخبر الصادق الذي لم يبق على ظهر هذه الأرض خبر صادق غيره لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لعجز العقل عن تصورها أو توهمها عجزا قاطعا لكل رجاء. والذي نقرؤه عن "نشأة اللغة" عند البشر، بحثا عن اليقين الذي يعين على تصور هذه اللحظة الخاطفة المضيئة، موسوم كله بالقصور والبطء والتردد والتسكع، مُغلَّف كله بالغموض والعجز والحيرة وتكاثف الظلمات. ولذلك، فكل تفسير يراد به الوصول إلى حقيقة هذه "القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة"، سوف يظل محفوفا بأسباب الزلل، ¬

_ (*) الثقافة، السنة السادسة، العدد 63، ديسمبر سنة 1978، 4 - 17.

مهددا بالمجازفة على غير هدى. ولكن أبناء آدم -عليه السلام- كلما فتح لهم باب من المعرفة فتح لهم به باب من الغرور، وكلما فتح لهم باب من العلم فتح لهم به باب من البغي والجدل، هكذا نحن، إلا من عصم الله. وأنا أحدِّث هنا عن نفسي، فمنذ بدأت قديما في تدبر هذه الآية من آيات الله في أنفسنا، لم أزل أزداد على تدبرها وتأملها دهشة متصلة وحيرة لا تنقطع. وبين الدهشة المتصلة والحيرة التي لا تنقطع آثرت منذ قديم أن لا أتكلم، لا مبينا عن دهشتي وحيرتي ولا مفسرا لأسباب دهشتي وحيرتي. ولذلك، فلم أكد أقف في مقالتي السالفة عند حديث "الإبانة" و"الاستبانة"، (وهما العملان اللذان تتولاهما آية الله فينا، وهي "القدرة على البيان") لم أكد أقف، ثم أسلم ما كتبت الى رئيس التحرير حتى عدت على نفسي باللائمة والتقريع. فأنا حين كتبت ما كتبت، لم ألتزم بأن أكتب مبينا عن دهشتى وحيرتى، أو مفسرا لدهشتى وحيرتى. ولو كنت فعلت ذلك لكان أدنى إلى الصواب، وإن كنت عندئذ قد خرجت خروجا عما ألزمت به نفسي هذا الدهر الطويل. فالآن جاوز الحزام الطبيَين كما يقال في المثل (¬1) وأطعت من كان ينبغي على أن أعصيه. سولت لي نفسي أن تجاوز هذا القدر الذي كان لزاما على أن أمسك نفسي عليه، فأرمى بنفسي في تيه ملتبس المعالم من النظر والاستنباط وتقرير الحقائق. ليتني ما فعلت! ولكن هي النفس! والنفْس كالطفل، إنْ تُهمله شبَّ على ... حُبّ الرضاع، وإنْ تَفْطِمْهُ ينفطمِ كما يقول البوصيرى، وأنا في خلوتى لم أفطم قط نفسي عن شيء من النظر والاستنباط .. كان الأمر مقصورا على الخلوة، فالآن صرت إلى العلانية. من الذي أضل خطاى فأخرجنى من خلوتى؟ المتنبى؟ ليتني ما عرفته! ولكن، ¬

_ (¬1) يُضْرَب عند بلوغ الشدة منتهاها. والطبى للحافر والسِّباع: كالضرع للشاة والناقة وغيرهما.

تتمة القول في التذوق

ما جدوى التمنى! لابد مما ليس منه بد. فلنعد، إذن إلى حديث "الإبانة" و"الاستبانة" و"التذوق"، وإن كان التوقف والانقطاع، فلنعد إلى بعض التكرار، لأريح القارئ من بعض العنت والمشقة. تتمة القول في التذوق خليط هائل يموج بعضه في بعض من الحب والبغض، والصدق والكذب، والشك واليقين، والعفة والدعارة، والود والمداهنة، والاستقامة والمراوغة، والغضب والرضى والتقوى والفسق، والشجاعة والجبن، والنشاط والسأم، والطمع والقناعة، والصبر والجزع، والألم واللذة، والحزن والفرح، والغش والأمانة، والأنفة والاستكانة، والطيش والحلم، والطلاقة والعبوس، والسفه والوقار، والخسة والنبل، والعقل والجنون، والحقد والصفاء، والجفاء واللين، والفطنة والغفلة، والسكينة والهلع، والحياء والقحة، والدماثة والشراسة، والقسوة والرقة، والزهو والتواضع، والخبث والطيبة .. وألوف مؤلفة من الخواطر والهواجس، والهواتف والوساوس، والنوازع والشهوات والغرائز والطبائع، والأهواء والعواطف، والشيم والشمائل. وبحور متلاطمة من أفكار مركبة، وصور مصورة، متجددة الظهور والاختفاء، والثورة والخمود، تتصادم وتأتلف، وتتزاحم وتنفض، تضيئ وتنطفيء، وتثب وتغوص، وتعدو وتدب، وتعوى وتغمغم، وتقدم وتهرب .. هول هائل يجول في النفس ليلًا ونهارا، في مستقر قوى الحلقة المفرغة، (المكونة من العقل والقلب والنفس والقدرة على البيان) .. كل منها يطالب "القدرة على البيان" أن تهيئ نفسها وتتشكل، وأن تعبئ نفسها تعبئة صالحة عند الحاجة للدلالة على وجوده وحضوره في الضمير قديما أو متجددا، ظاهرا أو باطنا، مجملا أو مفصلًا. حتى إذا ما جاء وقت "الإبانة"، وهو أول عمل لهذه القوة الغريبة الغامضة المطبقة للتشكل، مارست إنشاء الكلام وتركيبه على أسلوب مطبق لأن تحمل أحرفه وكلماته وجمله وتركيبه ومعاطف معانيه أمشاجا متداخلة مما تتميز به نفس

صاحبها أو ضميره، ثم تفصل عن لسانها حاملة آثارا مفصحة، أو مستكنة، أو عالقة، أو ناشبة، في ثنايا الكلام، وفي طواياه، وفي أغواره، دالة على صاحبها دلالة مميزة له من سائر إخوانه من البشر. حتى إذا ما جاء وقت "الاستبانة"، وهو العمل الثاني لهذه القوة الغريبة الغامضة تلقت "الكلام" الذي يأتيها من خارج، والذي أنشأته أخت لها عند إنسان آخر، انبعثت هذه القوة تمارس عملها الثاني ممارسة خاطفة لأول وهلة، فتهتز لما تلقته، ثم تبدأ تقلب "الكلام" وتفليه بسرعة مذهلة، متدسسة في الثنايا والطوايا، والأغوار، طالبة باحثة عن الآثار التي علقت بالأحرف والكلمات والجمل والتراكيب التي جاءتها من خارج، يعاونها في ذلك جميع صواحباتها في الحلقة المفرغة، (وهي العقل والقلب والنفس). وهذه "الاستبانة" نجدها في أنفسنا وجودا ظاهرا لا خفاء فيه، إذا ما أحسن أحدنا التنبه لهذه اللحظة الخاطفة التي يتم فيها عمل "القدرة على البيان"، إذ هي عندئذ صاحبة السلطان الأعظم على قوى الحلقة المفرغة، وقبل أن تتراخى قبضتها عن صولجانها، ليتاح للعقل أن يهتبل الفرصة ليبسط سلطانه على قوى الحلقة المفرغة، وليتولى عمله في التبين والتمييز ليقضى فيما سمعن جميعًا قضاء فاصلا، ثم يحكم مستقلا بالحكم. وهذه "الاستبانة" التي تتولاها "القدرة على البيان"، وهي مسيطرة على قوى الحلقة المفرغة، تتطلب ما تتطلب في كل كلام تتلقاه من خارج، هذه الآثار التي ذكرتها آنفا. وهي تفعل ذلك في سرعة خاطفة خارقة لكل مدى تبلغه السرعة، وفي "زمن" مختطف كومضة البرق لا يمكن إدراكه أو تثبيته، ثم تتراخى قبضتها على صولجانها، لكي يمارس أخوها العقل سلطانه القاهر على قوى الحلقة المفرغة، في تبين الكلام وتمييزه. وهو أيضًا يفعل ذلك في سرعة مذهلة، وفي زمن مختطف أيضًا كومضة البرق لا يمكن إدراكه أو تثبيته. ولكن طبيعة العملين: "عمل العقل في التبين والتمييز، وعمل القدرة على البيان في الاستبانة"، وطبيعة السرعة عند كل منهما، مختلفان اختلافا صريحا، نجده في

أنفسنا بالتأمل المستغرق، ولكننا نعجز عن أن نحدده تحديدًا قاطعًا ظاهرًا يبين عن قدر هذا الاختلاف أو نوعه. ولذلك يقع التداخل والخلط عندنا بين أحكام "القدرة على البيان" في "زمن" الاستبانة، وبين أحكام العقل عليه في "زمن" التبين والتمييز لأنهما زمنان مختطفان متلاحقان متداخلان غير قابلين للإدراك والتثبيت. بل يبلغ الأمر مبلغا أبعد من ذلك بكثير، وهذا عجب وفوق العجب: إن الكلام المركب من الأحرف والكلمات والجمل، تحمل في تركيبها أشياء أخرى غير آثار الطبائع والغرائز والأهواء والنوازع التي يطول جولانها من السرائر والضمائر المغيبة. نعم هي قادرة بفضل هذه القوة الغريبة النفسية العجيبة المنشئة للكلام، أن تُحَمِّل الأحرف والكلمات والجمل ضروبا أخرى من الدلالات الخفية والظاهرة، والكامنة والمنسابة، تدل على هيئة صاحبها، وعلى حركاته عند إنشاء الكلام، وعلى شمائله الظاهرة، وعلى سمته، وعلى صوته، حتى كأنك ترى صاحب الكلام ماثلًا أمامك، يشير، أو يتحرك، أو يهمس، أو يصرخ، أو يتلوى، أو يثنى جيده، أو يرفع رأسه فعل المندهش أو المستنكر، أو يميل جانبا كفعل الذي يسرّ إليك سرا، أو يغضى، أو يطرق، أو يسكت سكتة كالمتردد بين أن يتم كلامه أو يكف عن الكلام، أو يشيح بوجهه فعل المستنكف .. مئات لا تعد من السمات الظاهرة والخفية التي يتميز بها متكلم عن متكلم. كل ذلك ممكن أن تراه أو تحسه وهو يطل ملثما أو سافرا من خلل الأحرف والكلمات والجمل، مغروسا في حافاتها وحواشيها، بل مغروسا أيضًا في معاطف المعاني التي يدل عليها هذا الكلام المركب. عجب وفوق العجب! وهذا شيء تحسه أحيانا إحساسا خاطفا في الشعر وفي غير الشعر، ولكنا لا نطيل الوقوف عليه متأملين، بل نتجاوزه تجاوز المستهين الغافل. هذه جملة من القول. حاولت أن أصورها لك، أيها العزيز، بهذه اليراعة (¬1) ¬

_ (¬1) اليراعة: القلم هاهنا.

المتقصفة العاجزة عن ملاحقة حركة هذه اللحظات الخاطفة من عمل "القدرة على البيان" في زمن "الاستبانة". ولا أدري، هل أنا متعجل مسئ، تدفعنى العجلة إلى الإخلال بسياق حديثي، أم ترانى عصيبا إذا أنا قلت لك الآن، هاهنا: إني أعد "القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة" حاسة سادسة في بناء الإنسان، هي أولى بالتقديم من الحواس الصُّم البُكْم المقصورة على صاحبها وحده، أولى من السمع، ومن البصر، ومن الذوق، ومن اللمس، ومن الشم، بالإثبات .. بل لعلها أولى بأن تعد جارحة كامنة في البناء كله، أشرف وأكرم من اليدين والرجلين والأذن والأنف والعينين واللسان، وهي الجوارح الظاهرة. لا يعيبها أن لا مَكْمَن لها تستقر فيه نعلمه وندركه، ويكون أداة صالحة لإظهار فعلها وعملها، كاللسان والأذن، مثلا، في السمع والبصر، لا، بل لعل مكمنها في الحقيقة هو هذا البنيان كله الذي يسمى "الإنسان"، والأداة الصالحة لإظهار عملها وفعلها هو بناء الإنسان نفسه، وكل ما في هذا البنيان خدم لها. ولأن "الإنسان" لو سلب هذه "القدرة على البيان" سلبا تاما، لعاد من فوره بهيمة من البهائم، لا معنى لإطلاق يديه، ولا لقدرة شفتيه على الحركة، ولا لاعتدال قوامه واستوائه، ولخرج يمشي على أربع، بلا فرق ظاهر بينه وبين سائر إخوانه من البهائم، وإذن، فقد خرب البناء كله، وسقط عنه "التكليف"، وزادت السوائم سائمة ترعى ما أخرج لها ربها من الأرض. وإن شئت الآن فتدبر هذه الآية: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، ثم هذه الآية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، ثم هذه الآية: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ}، آيات ثلاث فيهن الحديث عن "خلق" الإنسان وإنشائه، ويقترن بذكر "الخلق" ذكر "البيان"، و"الأسماء" و "القلم"، وتأمل قوله سبحانه "علّم" في ثلاثتهن، فسترى الخبر الصادق يلوح كأنه نور ساطع يكشف عن حقيقة هذا "الإنسان" التي طمستها القرون والكتب، وعسى أن تقول معى: لولا البيان، لخرب هذا البنيان!

وعسى أن يكون صوابا أن أدمج السياق الأول في هذا السياق الثاني. فإن تكن كل حاسة من الحواس الخمس الصُّم البُكْم المقصورة على صاحبها وحده، (وهي الحواس المشتركة بين الإنسان والبهائم)، لها مَكْمَن وأداة صالحة لظهور عملها، هو جارحتها. فإن هذه الحاسة السادسة الخفية المبهمة المفصحة البريئة من الصَّمَم والبَكَم، لها هي أيضًا مَكْمَن هو بناء الإنسان، وهو أيضًا جارحتها، أي هو بجملته الأداة الصالحة لإظهار عملها، وعملها هو "البيان"، الذي يتميز به الإنسان من سائر البهائم. ومن أجل هذا المميز الغريب الحاسم، فارقها كل المفارقة في إطلاق يديه، وفي طواعية شفتيه للحركة، وفي استواء قوامه واعتداله ولأن هذا البناء كله هو الأداة الصالحة لإظهار عمل هذه الحاسة السادسة، صار ممكنا أن يكون كل ما تنشئه هذه الحاسة إنشاء، وهو "الكلام"، قابلا لظهور كل فعل باطن أو ظاهر من أفعال هذا البناء العجيب، وهو "الإنسان"، ويظل الأمر بعد ذلك عجبا وفوق العجب! ولأنى حددت هذه القدرة النبيلة الغربية المذهلة حاسة من الحراس وجارحة من الجوارح، لم أبال بأن استبدل لفظ "التذوق"، الذي هو أصلا من عمل جارحة اللسان، مكان لفظ "الاستبانة" الذي هو أحد عملين تتولاهما هذه الحاسة السادسة، بل هو جزء لا يمكن أن يتجزأ من عملها الآخر "الإبانة" أي إنشاء الأحرف والكلمات والجمل، وتركيبها تركيبا دالا على المعاني الجائلة في الضمير المستور، على الهيئات الظاهرة التي يشف عنها هذا البناء الذي تكمن فيه، ثم تخرج جميعها حاملة آثارا مفصحة عن صاحبها المتميز عن إخوانه من البشر، بخصائصه الدالة عليه وعلى تفرده. وهذه الآثار موجودة حاضرة في "الكلام المركب" حضورا مستكِنًا في غضونه، أو عالقا بأحرفه وتركيبه، أو ناشبا في ثنايا الكلام، وفي طواياه، وفي أغواره القريبة والبعيدة. ولم آخذ هذه الكلمة، وهي "التذوق"، عن تراث أسلافنا -رحمهم الله-، ولكني أخذتها عن المحدثين من كتابنا وأدبائنا، حيث وجدتهم يقولون: "تذوق الشعر"، و "تذوق الجمال" و"تذوق الموسيقى" و"تذوق الفن". والذي

حملنى على أن أوثر هذا اللفظ وأجعله دالا على العمل الثاني من أعمال "القدرة على البيان" وهو "الاستبانة" هو أنى وجدت في نفسي أن عمل "الاستبانة" عندي وأنا أتأمله أشبه بعمل جارحة اللسان في تذوق الطعوم مرة بعد مرة، ثم أشبه بما يتسم به عمل اللسان في التذوق من سرعة الفعل، وسرعة انقضاء الفعل، وسرعة الحكم على الشيء الذي وقع عليه الفعل، أي هذا الشعور الخاطف بالحلاوة أو المرارة، أو الملوحة، أو الغضانية أو اللذع، وسائر ما يتولى اللسان الحكم عليه من طعوم الأشياء. حسبنا هذا القدر من المسير في الطريق الموحش المهجور الذي رمت بي فيه، كما قلت، "محنة الشعر الجاهلي"، حين أخذتني قديما فقذفتنى قذفا في الأمر المخوف المهوب، الذي تنخلع عنده القلوب، وهو إعادة النظر في شأن "إعجاز القرآن" .. والآن، ليت شعرى هل استطعت أن أثير فيك بإلحاحي على التجزئة والتقسيم والتوضيح والتكرار، إحساسا ما يعمق هذه الأعجوبة التي أودعت في بناء الإنسان، ملثمة بالأسرار المتلونة بألوان من البوح والكتمان، تحجبه بالوميض المتتابع الذي يُعْشِى نظر المتأمل من تعاقب الإضاءة والإظلام، لا أدري، ولكني أجد في إحساسى عجزا فادحا عن ملاحقة هذه البروق الخاطفة المتواترة التي تنشأ على التأمل، ثم أحس عجزا أفدح عن تثبيت ما أراه في كلمات. بيد أنى أشعر الآن، مخطئا أو مصيبا أنى قد جعلت أمر "الاستبانة" التي تتولاها حاسة "القدرة على البيان"، ظاهر المعالم بعض الظهور فيما أتوهم، وأن بلوغي هذا المبلغ في تبين بعض معالمها، هو الذي جعلني أوثر أن أستبدل لفظ "التذوق" مكان لفظ "الاستبانة". ولما فعلت ذلك، كنت قد أصبت للفظ "التذوق" صاحبا يمكن أن يقوم مقام صاحبه الأول، وهو جارحة اللسان. وهذا الصاحب الجديد هو أيضًا جارحة أخرى (أو حاسة أخرى)، هي "القدرة على البيان"، وكذلك أوشك أن يسلم قولنا: "تذوقت الشعر" من الهلاك، بعد أن كان مهددا بأن يرمى على ركام من الكلام الساقط المرذول الذي فقد التجانس والتطاعم بين طرفين.

والذي يجعل قولنا "تذوقت الشعر" يسلم كل السلامة من المعاطب والمتالف، أن الشعر "كلام"، وهذه الحاسة السادسة هي التي تنشيء كل "كلام"، وهذا عملها الأول وهو "الإبانة". ثم هي نفسها التي تتلقى كل "كلام" يأتيها من خارج لتستبينه، وهذا هو عملها الثاني، وهو "الاستبانة". وهي وحدها، دون سائر الحواس الصم البكم المقصورة على صاحبها وحده، ودون سائر أخواتها في الحلقة المفرغة، هي وحدها المالكة لوسيلتين: مالكة لوسيلة عند صاحبها مترجمة مبلغة عنها هي نفسها وعن جميعهن، وهذه الوسيلة هي جارحة "اللسان" صاحب التذوق. ومالكة أيضًا لمستقبِل عند صاحبها وعند إنسان آخر غير صاحبها، يستقبل "الكلام" ويؤديه إلى أخت لها كامنة في بناء الإنسان الآخر، وهي جارحة "الأذن" صاحبة السمع. وهذا "اللسان" جارحة من جوارح الحواس الخمس الصُّمّ البُكْم المقصورة على صاحبها، المشتركة بين الإنسان والبهيمة. ولكنه حين تم بناء الإنسان، وصار البناء بجملته مكمنا لهذه القوة العجيبة النبيلة التي لولاها لخرب البناء، صار لهذا "اللسان" نفسه عمل آخر حاسم الدلالة، هو الترجمة عن هذه القوة المركبة من توأمين متداخلين لا يمكن الفصل بينهما، هما "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان". وعندئذ صار "اللسان" بهذه القوة الغريبة النبيلة ألصق وألزم، وسما بالتصاقه بها سموا حاسما باذخا، حين صار صاحب "النطق" عنها، وصاحب الترجمة، وصاحب التبليغ، حتى كاد يخرجه سموه بها عن أن يكون هو صاحب التذوق، في أصحاب خمس من الحواس الصُّمّ البُكْم! ولذلك سموا اللغة نفسها "اللسان"، وقالوا: "إنما المرء بأصغرية قلبه ولسانه"، أي بيانه. اشتد لصوق "اللسان" بالقدرة على البيان لصوقا يستعصى على الفصل والانفصام، لأنه هو الآن مترجمها الوحيد في البناء كله، ولأنه هو وحده المبلغ عنها كل ما تنشئه من "كلام"، ولأنه هو وحده مظهر عملها المنفرد بالدلالة على كمونها في هذا البناء. فكذلك صار عملاه في "النطق" و"التذوق" عملين أخوين شقيقين متعانقين ثاويين في وطن واحد، وكاد يكون هذا الوطن

مِلْكا خالصا للقدرة على البيان و"النطق" هو أسنى الأخوين شرفا، وأعلاهما سلطانا وغلبة على "اللسان" والنطق هو قرين "الإبانة" أحد عملي "القدرة على البيان" فلا جرم أن يكون أخوه الضعيف القاصر، وهو عمل "اللسان" في "التذوق" قرينا لعملها في "الاستبانة"، لشدة التشابه بين العملين، (التذوق، والاستبانة) في طلب التمييز بين الأشياء، وفي تبين الخصائص الكامنة فيها، ثم في سرعة الفعل، وفي سرعة انقضاء الفعل، وفي سرعة الحكم على الشيء الذي وقع عليه الفعل كما قلت آنفا. وإذن، فبحمد الله وتوفيقه، خرج قولنا: "تذوقت الشعر" من المأزق الذي كان فيه لفظا مشكلا مبهم الدلالة غارقا في الإبهام، كما قلت في المقالة السالفة، وخفت إلى نجدته صاحب له، شهم الشمائل نافذ الجراءة لم يكتف بأن ينتشله من الغرق في معاطب الإبهام والغموض أو بأن ينتاشه من دنس الهلاك هاويا في قرارة السقوط والخساسة، بل زاد فرفعه إلى مكان على من الشرف والسمو. وأي مكان أشرف وأسمى وأنبل، من أن يكون لفظ "التذوق" بديلا له الحق الخالص في النيابة عن لفظ "الاستبانة" وهي العمل الذي تتولاه أنبل قدرة في بناء الإنسان، وهي "القدرة على البيان". وقد أصاب كُتابنا وأدباؤنا المحدثون قدرا عظيما من التوفيق، حين جرى لفظ "التذوق" على ألسنتهم متأثرين بما يقابله في الأدب الأوربى الحديث. ولكن العجب العاجب عندي أن يقع هذا اللفظ في اللغات الأوربية الحديثة! من أين جاءهم؟ وأنا شديد الشك في أن يكون أغتام (¬1) الأعاجم وأجلافهم في القرون الوسطى قد أصابوا هذا القدر من التوفيق اللطيف الخفي من عند أنفسهم. ولا أظنه ينفعهم شيئًا زعمهم أنهم ورثة آداب اليونان الأوائل وورثة حضارتهم لأنى لم أقف في قراءتى على شيء يدل على أن عظماء اليونان قد قالوا في مباحثهم عن الشعر والخطابة واللغة: "تذوق الشعر" أو "تذوق الجمال" أو "تذوق الفن". ولو كان ذلك، لوجدنا أثره في كتب ¬

_ (¬1) أغتام: جمع أغتم، وهو الذي لا يُفْصِح شيئًا لعُجمَته.

قضية "التذوق" عندي

أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الفلاسفة، ولكن هذا على كل حال موضع توقُّف، لأن بضاعتى في شأن اليونان بضاعة مُزجاة، ولعلى أجد عند أخي الأستاذ الجليل الدكتور عبد الرحمن بدوي، أثارة (¬1) من عِلْم، فهو الخبير حق الخبير بهذا الشأن، وأقول له أن أكبر ظني أن هذا اللفظ قد انحدر إليهم مع ما انحدر إليهم من لسان العرب في الأندلس أو في غير الأندلس، حيث كان كُتابنا العرب القدماء، بل عامة الناس أيضًا، يكثرون من استعمال لفظ "الذوق السليم"، ثم يسندون إليه الفصل في أمور كثيرة منها الحكم على ألفاظ الشعر والنثر، كما سأبين فيما بعد. * * * قضية "التذوق" عندي وبعد، فأنت ترى أنى آثرت لفظ "التذوق" على لفظ "الاستبانة"، لكي أدل به على ما تتولاه تلك الحاسة السادسة فينا، من تطلب الآثار العالقة في الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني الناشبة في حواشيها وأغوارها، والتي تدل دلالة ما على ما في ضمير صاحبها الذي أنشأها من ألوف مؤلفة زاخرة من الغرائز والطبائع والأهواء والنوازع والعادات والأخلاق، بل تدل أيضًا على الهيئة والسمت والحركة وسائر السمات الظاهرة والخفية. ومعنى ذلك أن "الكلام" مُحَمَّل بدلالات مميزة، تجعل صاحبه متفردا بخصائصه عن سائر إخوانه من البشر المتكلمين. وأنا أدرك تمام الإدراك أن هذا كلام سهل أن يقال. ولكن ليس من السهل التسليم به، فإن من يبتغى الوصول إلى التثبت من صحته، أو إلى اختباره وتحقيقه، مكلف أن يخوض في العنت والمشقة والحيرة خوضا. . . وإذن فأنا لا أستطيع أن أنكر أنى أقول قولا ليس سهلا أن يقتنع المرء بصحته على وجه يعينه، أو يحثه على مراجعة نفسه، أو على محاولة اختباره في شيء مما يقرؤه أو يسمعه. ¬

_ (¬1) أثارة: بقية من عِلْم تُؤثَر وتُرْوَى.

وهذا عيب، ولكنه ليس عيبي أنا وحدي. ففي كل لغة ألفاظ كثيرة جدًا تدل على المعاني المجردة التي لا تتجسد. ولكننا إذا أدخلنا هذه الألفاظ في الجمل المركبة، لم نجد مناصا من استعمال ألفاظ أخرى من الأفعال والصفات، تجعل الحديث عن هذه المعاني المجردة حديثا عن متجسد يكاد يرى بالعين، ويمس باليد .. وهذا التجسيد يقربنا إلى إدراك مضمون الحديث عنها، نعم، ولكنه يباعد بيننا وبين القدرة على الاحتفاظ بالأصل الأول، وهو أننا نتحدث عن معان مجردة لا تتجسد ولا تُرَى ولا تُمَسّ. . . وغياب القدرة على الاحتفاظ بهذا الأصل الأول (المعنى المجرد)، يباعد هو أيضًا بيننا وبين الشعور بوجوب العودة إلى مراجعة ما نجده في أنفسنا، أو ملاحظة ما يجرى في أنفسنا، مما له علاقة بهذه المعاني المجردة التي لا تتجسد. وبذلك يصبح الطريق إلى الامتناع، أو إلى مراجعة النفس، أو إلى محاولة اختبار ما نسمع أو نقرأ، طريقا مسدودا في أغلب الأحيان. وكذلك كان فقد كان حديثي كله يجعل "القدرة على البيان" وهو معنى مجرد مغرق في التجريد، شيئًا متجسد الصورة، متجسد العمل، فصار ما قلته في شأنها سهلا في السياق، ولكن ليس من السهل التسليم به لأول وهلة. وهذا ليس عيبى ولكنه عيب اللغة، لأنها، اضطرارا، تُجسد ما لا يَتَجَسَّد. ومع ذلك، فالذي قلته على عيبه هذا، ليس أمرًا مجهولا لا يعرفه أحد: بل العكس هو الصحيح. فما من أحد منا إلا وهو يمارسه مرات بعد مرات. يمارسه حين يسمع من يكلمه (أو حين يقرأ شعرا، أو نثرا، أو رسالة). فيمس في دخيلة نفسه أن صاحبه كاذب، وإن كان ظاهر ألفاظه لا يدل على الكذب، أو أنه مراوغ، أو أنه حقود، أو أنه خبيث، أو أنه حيي، أو أنه عفيف، أو أنه رقيق، أو أنه منافق = فإذا سألته من أين عرف ذلك؟ لم يجد جوابا، ولم يدر ماذا يقول، وأحال الأمر كله إلى أنَّه: هكذا أحس! والعامة الذين لم يتعلموا قط، يفاجئونك أحيانًا كثيرة بالحكم على حديث رجل، بل على الرجل نفسه، حكما تنكره ويعيبك أنت المتعلم أن تعرف صحته، إلا بعد تجارب قد تطول، مع أنك كنت شاهده معهم. وكذلك طفلك الصغير، يكشف أحيانا ما تضمره في نفسك،

وأنت تتحدث حديثا عليه سمة الصدق كاملة فيما تظن، أما هو فقد يفاجئك باكتشاف ما لم تكن تتوقع أن يكشفه. ونحن الذين نتحدث عن الشعر وعن تذوق الشعر، نقول أن الشرط الأول في جودة الشعر (أو جودة الفن عامة) أن يكون الشاعر "صادقا". وهذا شرط صحيح بلا ريب. ولكن ما السبيل إلى معرفة ذلك؟ أن يقول لنا الشاعر بلسانه أنه صادق، أو يكتب على رأس كل قصيدة "أنا صادق"؟ أم أقنع أنا بأن أفترض افتراضا أنه صادق، فيكون عندئذ صادقا! كلا هذين باطل لأول وهلة. لم تبق، إذن، وسيلة لمعرفة صدقه إلا من خلال الشعر نفسه، أي من خلال أحرفه وكلماته وجمله وتراكيبه ومعانيه. ومن أين يعرف صدقه في هذا؟ وكيف؟ ينبغي هنا أن نحترس من الوَهْم الذي يجعل مجرد مطابقه ما يقوله الشاعر لما نعتقده نحن أو نتوهمه دليل على صدقه في شعره. فهذا باطل أيضًا، لأن مخالفته كل المخالفة في الاعتقاد أو التوهم، ممكن أيضًا أن يكون فيما قاله صادقا كل الصدق وإن لم يقع كلامه عندنا موقع الرضى والقبول والتسليم. فلم يبق إلا طريق واحد: أن يكون الكلام المركب من الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب، وما تؤدى إليه من المعاني، كلها حاملًا لآثار عالقة في جميعها، أستطيع أنا أو أنت بالاعتماد على "التذوق" الذي وصفته لك، وكما وصفته لك، أن نحسه إحساسا ما، وبطريقة واعية منظمة بصيرة، قادرة على الاعتماد على هذه الحاسة السادسة التي تنشيء "الكلام" فينا، والتي تطيق أن "تتذوق"، الكلام الآتى إليها من خارج. ومناقشة هذه القضية للتوصل إلى غاياتها البعيدة، وإلى كشف النقاب عنها، وإلى إزالة الإبهام المحيط بلفظ "التذوق"، كما استعمله أدباؤنا وكُتابنا المحدثون بمجرد التوفيق من الله، لا بالنظر والاستنباط والتحصيل والتقرير، مسألة تحتاج إلى إفاضة وتتبع واستيعاب. وقضية نشوب جميع الطبائع والعواطف والغرائز والأهواء وجميع السمات الظاهرة والباطنة، في الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني أيضًا، قضية صادقة عندي كل الصدق، بعد أن عانيت في سبيلها معاناة لا أستطيع أن

أسترجع أهوالها وأقيدها لك منه هذا المكان، ولذلك فسوف أنقل شيئًا مما كتبته قديما في مجلة المقتطف (المجلد 97، ص: 57، شهر يونيه 1940) (¬1) حين شرعت في كتابة مقالات لم أتمها بعنوان: "علم معاني أصوات الحروف: سر من أسرار العربية، نرجو أن نصل إلى حقيقة في السليقة العربية" قلت: "وأنا أريد بقول "معاني أصوات الحروف" ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف من المعاني النفسية التي يمكن أن تنبض بها موجة اندفاعه من مخرجه من الحلق أو اللهاة إلى الحنك أو الشفتين أو الخياشيم، وما يتصل بكل هذه من مقومات نعت الحرف المنطوق. وليست المعاني النفسية، أو العواطف، أو الإحساس، هي كل ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف. بل هو يستطيع أن يحمل أيضا صورا عقلية معبرة عن الطبيعة وما فيها من المادة، وما يتصل بذلك من أحداثها أو حركاتها أو أصواتها أو أضوائها، أو غير ذلك مما لا يمكن استقصاؤه، إلا بعد طول الممارسة لوحي الطبيعة في فطرة الإنسان. . . ." ثم قلت: "هذا جهد كنت بذلته قديما. والنفس ساكنة قارة هادئة .. ولكن الأيام انتزعتنى ورمت بي إلى حومة تتسعّر وتضطرب وتطغى بضجيجها على فترة النفس واجتماعها على الهدأة والهوينى والسكون، فكذلك ذهب أكثر ما تلقنته من المعاني نهبا ضائعا بين النسيان والغفلة وقلة المبالاة وطول الإهمال". وهذا الذي كتبته قديما، أشد إيغالا في أعماق القضية، من كل ما تناولته في كلماتى اليوم. ومع ذلك، فإن في الواقع مؤيدا هو أشد دلالة على صدق القضية عندي. فالخط، مثلا، (وهو عمل من أهم أعمال اليد في تقييد "الكلام" وتثبيته بالتسطير على الورق وغيره)، يحمل في طوايا رسمه دلائل كثيرة عميقة على صاحبه الذي كتبه بيده ويحمل دلائل على أخلاق الكاتب وعاداته وطبائعه وحالاته وهيآته وسماته المختلفة المتباينة. وقد استطاع المتخصصون في قراءة ما وراء "الخط"، أن يصيبوا صوابًا كثيرا موفقا في قراءتهم لهذه الدلائل العالقة الناشبة في ¬

_ (¬1) هكذا ذكر الأستاذ شاكر -رحمه الله-، والصواب: المجلد 96، مارس 1940، ص 320. انظر المقالات هنا 2: 708 - 709

حواشى الخط وفي طواياه، وفي أغواره، وفي تعيين بعض تكوينه الذي يتميز به من غيره من الناس، وفي تمييز صاحب خط من صاحب خط آخر، وإن تشابه الخطان كل التشابه، بل ميزوا التقليد المتقن الخفي البارع من أصله الذي قلده، أو ميزوا الصادق من الكاذب. ومعنى ذلك أن "الخط" المسطور قابل لحمل هذه الدلائل الخفية المغرقة في الخفاء، وأن التوصل إلى استخراج هذه الدلائل ممكن أيضًا لمن تطلبه على وجهه الصحيح. هذا على أن أحدنا، وإن لم يكن خبيرا بقراءة "الخط" خبرة المتخصص، قد يصله كتاب من صديق، فيقع في نفسه وهو ينظر في خطه: إن صديقه قد كتب ما كتب على عجل، وأن أحرفه محفوفة بالملل، وإنه كتبه مجرد إبراء للذمة، وإن كان الكلام الذي سطره وكتبه يعبر ظاهره عن أشد الاهتمام وأشد العناية، وأشد الحرص على الصداقة. فإذا لقى صديقه الذي كتب هذا إليه، فأعلمه بما وقع في نفسه من دلالة خطه، قال له نعم، صدقت، هكذا كنت حين كتبت إليك. وأنا أحدثك بهذا عن واقع لا عن توهم. فإذا كان هذا صادقا في شأن "الخط" وهو عمل من أعمال جارحة صماء بكماء لا تبين، فماذا تظن بأشرف قوة مبينة في بناء الإنسان، لم تستو لها قامته وتعتدل، ولم تطلق له يده، إلا لكي تكون اليد خادمة تقيد ما تنشئه هذه القوة العجيبة النبيلة، التي لولاها لَلَحِقَ من فوره بالبهائم على خلقتها وهيأتها يسعى على أربع. أيمكن أن يكون "الخط" -وسائر الفنون الدنيا: من نحت وتصوير وموسيقى جميعًا- قادرا على حمل آثار العواطف والأخلاق والشمائل، ثم لا تكون الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني التي تقيد بالخط، وهي الدالة على الفن الأعلى المتفرد بالسمو على سائر الفنون: الشعر والنثر والكتابة، غير قادرة على حمل هذه الآثار نفسها؟ أممكن هذا؟ كلا، هي على ذلك أقدر وأثبت وأقوم وأصدق شهادة. هي "الوثيقة الجامعة"، التي تميز إنسانا من إنسان (لا شاعرا من شاعر وبَس، أي، وحسب)، وعليها تنعكس صور حياته كلها ظاهرة وباطنة. و"التذوق" عندي هو الطريق إلى بعث هذه الصور، وإلى استنطاقها، وإلى حل رموزها المعقدة، وإلى بث الحياة في هامدها حتى تعود "إنسانا" يمشي ويتحرك ويتكلم ويغضب ويرضى، ويكذب ويصدق، ويخون

ويؤدي الأمانة، ويستقيم ويراوغ ويتهلل ويعبس، ويزهو ويتواضع، ويتألم ويبتهج، ويأنف ويستكين، ويسرق ويتصدق، ويعف ويفجر، إلى آخر ما لا يحصى مما يكون به الإنسان إنسانا، لا شاعرًا وبَس. هذا هو "التذوق" عندي، وقد أعفيت نفسي منذ بدأت من الحديث عما يريده الأدباء والكتاب بقولهم "التذوق"، ولكنه عندي معنى مغرق في الإبهام، قولا وتطبيقا. فأنا أسألك الآن، أيها العزيز، أن تقرأ هذا، إن شئت، ببعض التأمل والتدبر، وتراجع قولك في مقالتك الثالثة "على أن تصور محمود شاكر النظرى للشعر: يحتاج إلى مراجعات وملاحظات. فلو تأملنا النصوص التي سقناها في هذه الدراسة من كلامه، لاكتشفنا للوهلة الأولى أنه يتخذ الشعر وثيقة نفسية يستخرج منها حياة أبي الطيب وطبائعه وعواطفه وآماله وآلامه وأحزانه، كما يتخذ منه وثيقة تاريخية، تسهم في تعديل أخبار الرواة القدماء أنفسهم أو تجريحها، أو استخلاص الصدق من نصوصها ونفي ما زيفه التذوق. وهذا مفهوم غير خصب للتذوق الفني، يحول العمل الأدبى إلى وسيلة لخدمة غاية خارجية. وبذلك يتحول الأدب إلى وثائق تاريخية أو اجتماعية أو نفسية، أو يصبح انعكاسا مباشرا لحياة الناس وأهوائهم ونزواتهم واصطراعهم في الحياة". وأنا لا أنتفي من شيء مما قلت، بل هو الحق كل الحق كما قلته، ولا أعده عيبا، ولا خدمة لغاية خارجية، بل هي غاية في الصميم. ولكن، لو أنت فعلت ما سألتك، لاكتشفت للوهلة الأولى أيضًا أنك تستعمل لفظ "التذوق الفني" في أتم زينته، وأنى استعمل لفظ "التذوق" عاريا متجردا من كل زينة، وأنك تعد معنى اللفظ العارى المتجرد عندي وهو "التذوق" مطابقا تمام المطابقة للفظك المتأنق في أتم زينة عندك، وهو "التذوق الفني". ثم لاكتشفتَ أيضًا أنهما غير متطابقين في المعنى البتة، بل كل ما في الأمر أن لفظ "التذوق" لفظ مشترك بيني وبينك، له عند كل واحد منا معنى يصعب معه أن يتطابقا كل المطابقة. ثم لاكتشفتَ أيضًا أنك بذلك قد ظلمتنى حين جعلت معناتك في لفظ "التذوق" واقعة على معناته عندي .. وأنت أَلَبُّ وأَفْطَنُ من أن أدلك على الفروق بينهما، وأنا ممتنع عن الدلالة على ذلك، لأنى عاهدتك منذ

تاريخ "التذوق" عندي

أول الأمر قلت: "وأنا أخشى أن أقترب من لفظك في زينته، لأنى إن فعلت ذلك، سقطت فجأة في جوف المنطقة الملتهبة، منطقة الجدل والصراع العقلي". لن أفعل، فالأمر كله بعد ذلك إذن مفوض إليك ظلمتَ أو أنصفتَ. وهذا التفويض أقل ما يجب عليّ من حقوق صداقتك لي ومودتك. * * * تاريخ "التذوق" عندي أنت متذوق للشعر، وأنا متذوق للشعر، وآلاف مؤلفة من المثقفين وغيرهم، قديما وحديثا متذوقون للشعر، أوه، نسيتُ، وحتى لا أُعَدّ متجنيا أو مقصرا، والدكتور طه حسين أيضًا متذوق للشعر. و"التذوق" عند جميعنا قائم في النفس، ولا يجمع بيننا في الحقيقة إلا هذا اللفظ "التذوق". أما وسائل "التذوق" وأسبابه وطرائقه وأساليبه، فمختلفة بيننا اختلافا يكاد يبلغ من الكثرة عدد المتذوقين. ولا يستطيع أحدنا أن يلزم الآخر بما يجده قائما في نفسه من وسائل "التذوق" وأسبابه وطرائقه وأساليبه. هذا مستحيل إن شاء الله، وكل ما يمكن أن يكون، أن يقع من جميعنا، أو من بعضنا، اتفاق على مظهر أو أكثر من مظاهر "التذوق"، وعلى غير تواطؤ منا أو من بعضنا. أما الاتفاق على طبيعة "التذوق" وعلى وسائله ودرجاته وأبعاده، اتفاقا قاطعا لكل شبهة اختلاف أو تباين أو تضاد، فهذا ما لا يكون البتة. وهذا تفسير آخر يزيد ما قلته قديما وضوحا، إذ قلت في المقالتين السالفتين: "إن التذوق معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا، وهو يقل ويكثر، ويعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد، ولكنه حاسة لا غنى عنها للإنسان" (¬1)، وقلت أيضًا: "إن التذوق لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب يقل ويكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام والدربة، وترهنه جودة المعرفة والصبر على الفهم والمجاهدة في حسن الإدراك" (¬2). وقد فرغت في المقالة السالفة من الدلالة على أن لفظ "التذوق"، مصدر ¬

_ (¬1) انظر ص 1124 من هذا الجزء. (¬2) نفس الجزء ص 1124 - 1125

دال على حديث (¬1) (أي فعل) مبهم غير متعين، ولا متميز، قابل للتعدد والاختلاف والتنوع، أي أنه، كما قلت، كسائر أخواته من الأحداث المبهمة، هي ذات نماء سابغ متوهج، وذات غنى مفعم، وذات ثراء مكنوز -وأنها أيضًا ذات خطر مرهوب، لما فيها من قوة غامضة تجعلها قادرة قدرة مطلقة على تضليل السامع والمتكلم. وقد نشأت أنا في زمن كانت فيه هذه اللفظة "التذوق" شائعة كثيرة الاستعمال في الصحف والمجلات، فتَلَقَّنْتها تَلَقنا وأنا في أول الصبا وخفت على اللسان ونشبت فيه كسائر ما نتلقنه مع الصغر. فكان إبهامها وقبولها للتعدد والتنوع بنمائها وغناها وثرائها يثير في النفس لذة ونشوة واهتزازا ونحن نحاول أن "نتذوق" الشعر والنثر، ثم سائر الفنون الدنيا، كالتصوير والموسيقى. ولكن التفكير في حقيقة "التذوق" ما هو، لم يكن داخلا في منطقة الوعى، ولا غائبا أيضًا عن منطقة الوعى. (استطراد: أرجو أن لا تتذكر أن هناك شيئًا حادثا شبيها بهذا في مسألة "غيبة الوعى" و"عودة الوعى" (¬2)، لأننا هنا نتكلم في فن الأدب والشعر، لا في فن التمثيل والتهريج، وأيضا لأن الله عافانى من أن أسلك نفسي في عقد "الأساتذة الكبار"، فلذلك لم أتعلم هذه الفنون لا صغيرا ولا كبيرا، فليس بيني وبينها عمل. وكذلك لفظ "الوعى" هنا، ليس بينه وبين هذا اللفظ عندهم عمل. لا تنس ذلك أيها العزيز). فمنذ الآن، سأقص عليك القصة كاملة "قصة التذوق"، لأني رأيتك قد جُرت على فيها جَوْرا ما كان ينبغي أن يكون. جور هو أشد من جورى الذي زعمته على صاحبك الدكتور، سأبين لك تاريخ "التذوق" عندي، وبعض معانيه عندي أيضًا، ومنهجى الذي ملكته وطبقته في جميع ما كتبت. ومن خلال ذلك تعلَم، إن شاء الله، إني لم أظلم الدكتور طه حبة خردل في كل ما كتبته عنه أو وصفته به، بل لعلى أسأت أبلغ الإساءة، حين تغاضيت عن كثير مما كان ينبغي أن أقوله فيه قديما وحديثا. ¬

_ (¬1) كذا بالأصول، والصواب: حَدَث. (¬2) يشير الأستاذ شاكر -رحمه الله- إلى كتابى الأستاذ توفيق الحكيم، غفَر الله له.

لعلك تذكر أنى قد تحدثت في مقدمة كتابى (المتنبي 1: 11 - 15): وقلت إني حفظت "المعلّقات العشر الجاهلية" صغيرا، وإن معرفتى بها لم تزد قط على أن تكون زيادة في ثروة معرفتى بالعربية وبشعرائها وشعرها = وإن قراءتى بعض أصول كتب الأدب والشعر على الشيخ سيد بن علي المرصفي، شيخى وشيخ الدكتور طه من قبلى، نقلتنى من هذا الطور إلى طور آخر، أوغل بي في الحفاوة بالشعر الجاهلي، وفي الحرص على قراءته وتتبع قواصيه ونوادره = وإن قراءتى على الشيخ أوقفتنى على شيء مهم جدًا، شغلنى، واستولى على لبى وعلى نفسي، فعدت أدراجى أقرأ دواوين الشعراء الجاهليين، ديوانا ديوانا، شاعرا شاعرا، ومن لم أجد له منهم ديوانا جمعت لنفسي ما بقي من شعره وقرأت شعره مجتمعا. وهذا المسلك في ترتيب القراءة، جعلني أجد في الشعر الجاهلي شيئًا لم أكن أجده من قبل وأنا أقرأ الشعر الجاهلي متفرقا على غير نظام، مبعثرا بين الشعراء المختلفين: أو وأنا أحفظ هذه "المعلقات العشر الجاهلية"، وإدراسها (¬1) معاني ألفاظها، مع اختلاف معانيها وأغراضها". (المتنبي 1: 14). وهذا الذي وجدته فيه فاستولى عليّ، كان يومئذ شيئًا لا أملك التعبير عنه ولا أحسنه، لأنه كان شيئًا غامضا مستبهما يجول في نفسي لا أكاد أتبين معالمه. فلذلك صار أمر التعبير عنه تعبيرا واضحا متعذرًا على كل التعذر وقلت أصف ذلك: "فما هو إلا "التذوق" المحض والإحساس المجرد. وبهذا "التذوق" المتتابع الذي ألفته مرة بعد مرة، صار لكل شعر عندي مذاق وطعم وشذا ورائحة، وصار مذاق الشعر الجاهلي وطعمه ورائحته بينا عندي، بل صار يتميز بعضه من بعضه (¬2) دالا يدلنى على أصحابه" (المتنبي 1: 15). وأنا عند هذا الموضع أتلفت إلى الماضي التفاتة لابد منها. حق لازم في عنقى أن أفرد الفضل كله في تنبهي إلى أول الطريق، إلى شيخى سيد بن علي ¬

_ (¬1) كذا في أصول مجلة الثقافة، والصواب: وأدارِسها وأتتبع، كما في مقدمة كتاب "المتنبي" 1: 14. (¬2) كذا في أصول مجلة الثقافة أيضًا، والصواب: بَعض، بغير هاء.

المرصفي، فإنه، بعد الله سبحانه، هو الذي هدانى وسدد خطاى على أول الطريق. كانت للشيخ -رحمه الله- وأثابه عند قراءة الشعر وقفات، يقف على الكلمة، أو على البيت، أو على الأبيات، يعيدها ويرددها، ويشير بيديه وتبرق عيناه، وتضيئ معارف وجهه، ويهتز يمنة ويسرة، ويرفع من قامته مادًا ذراعيه، ملوحا بهما يهم أن يطير، وترى شفتيه والكلمات تخرج من بينهما، تراه كأنه يجد للكلمات في فمه من اللذة والنشوة والحلاوة يفوق كل تصور. كنت أنصت وأصغى وأنظر إليه لا يفارقه نظرى، ويأخذنى عند ذلك ما يأخذنى وأطيل النظر إليه كالمبهوت، لا تكاد عيني تطرف وصوته يتحدر في أقصى أعماق نفسي كأنه وابل منهمر تستطير في نواحيه شقائق برق يومض إيماضا سريعا خفيفا ثاقبا. أيام لم يبق منها إلا هذه الذكرى الخافتة! فإذا كف عن الإنشاد والترنم أقبل يشرح ويبين. ولكن شرحه وتبيينه لهذا الذي حركه كل هذا التحريك، كان دون ما أحسه وأفهمه ويتغلغل في أقاصى نفسي من هيئته وملامحه وهو يترنم بالشعر أو يردد، كان دون ذلك بكثير، وكنت أحس أحيانا بالحيرة والحسرة تترقرق في ألفاظه وهو يشرح ويبين، كأنه كان هو أيضًا يحس بأنه لم يبلغ مبلغا يرضاه في الإبانة عن أسرار هذه الكلمات والأبيات. هكذا كان شأن الشيخ -رحمه الله-، أي علَّامة ذوَّاقة كان! هكذا حال الشيخ كان في بيته، وأنا أقرأ عليه الأدب والشعر يومئذ وحدى. أما حاله وهو يلقي دروسه العامة التي يحضرها الجمع من طلبة العلم، والتي كان يحضر أمثالها من قبلنا الدكتور طه قديما فيمن يحضر دروسه في الأزهر، فكان مختلفا كل الاختلاف. كان ملتزما بالجد والوقار يتخللهما دور قليل من مزاح لاذع جارح أحيانا، ولكنه كان لا يقصر في الإبانة والشرح، ولا في التوقف عند الأبيات أو الكلمات الجياد الحسان المحكمة، فهذا موضع الفرق بين الذي أخذته أنا عن الشيخ، والذي أخذه عنه الدكتور طه، وما كان على كل حال بقادر أن يأخذ عنه ما أخذت، فإن الذي أخذته عنه وأحدث في نفسي ما أحدث، لا يبلغ السماع بالأذن منه شيئًا، لأنه وليد المشاهدة والعيان، لا وليد الألفاظ والكلمات! ما علينا أيها العزيز.

شيئًا فشيئا، منذ تلك الأيام الغوابر، بدأت أحس في الشعر الجاهلي، وفي غير الشعر الجاهلي، شيئًا ينبعث منه، دبيب حركة تترك في نفسي آثارا خفية غريبة. فإذا عدت استبطنه مترنما به، متأملا في طواياه، عاد دبيب الحركة، حركة لا أدري ما هي؟ فهذا هو الذي قلت إنه كان من ديدنى بعد ذلك أن أحدث عنه أساتذتي الكبار الذين خالطهتم وعرفتهم يومئذ وتأخذنى النشوة وأنا أفاوضهم فيما أحس به: "فكان يعرض منهم عني من يعرض. ويربت على خيلاء شبابى من ربت بيد لطيفة حانية"، كما وصفت ذلك في كتابى (المتنبي 1: 12، 15). ومن أغرب ما لقيت من الإعراض عما أقول، إعراض الشيخ المرصفي نفسه عن حديثي مرات، وهو نفسه الذي أثارنى إلى هذا وحركنى هو وحده دون سواه! ولكني لم أكف عن الإلحاح عليه، حتى كانت نهاية إعراضه عني، حين فهم عني ما كان لسانى يعجز عن بيانه وعن التعبير عنه. فإذا هو بعد ذلك راض عني مقبل عليّ، يفيدنى الفوائد، ويسدد لي خطاى في هذا الطريق الوعر المسالك والمضايق، المتشابك المناهج والشعاب. كان هذا أول ممارستى للذى سميته فيما بعد "التذوق"، مكان "الاستبانة"، ولكنها على ذلك كله، كانت ممارسة جاهلة جافية غامضة بلا منهج صحيح آوى إليه وأستعين به. كان ذلك في سنة 1925، وما بعدها. وبعد سنة دخلت الجامعة، وكان من أمر الدكتور طه وأمرى ما كان، حتى كان اليوم الذي اضطررت فيه اضطرارا أن أقف الموقف الذي دفعت إليه بغتة أجادل الدكتور وأناقشه في "مسألة الشعر الجاهلي"، صارِفا همي كله إلى موضوع "المنهج" و"الشك" وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموى والعباسى قراءة "متذوقة" مستوعبة لنستبين الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإِسلامى، قبل الحكم على الشعر الجاهلي بأنه شعر صنعته الرواة المسلمون في الإِسلام، كما بينت ذلك في كتابى (المتنبي 1: 23) ثم في مقالتي الأولى هنا أيضًا. وفي غضون هذا الموقف المتطاول بيننا حتى فارقت الجامعة. كان اللفظ الناشب في لسانى وفي ألسنة الكُتَّاب، وهو "التذوق" بمعناه المشهور الغامض

المبهم الدلالة القابل للتنوع والتعدد بلا شيء يعين على تميزه وتعينه -كان هذا اللفظ محور المفاوضة بيني وبينه، كما كان من قبل محور المفاوضة بيني وبين أساتذتى الكبار، على رأسهم شيخى المرصفي، فيعرض عليّ من يعرض، ويربت على خيلاء شبابى من يربت، ولكني كنت في خلال مفاوضتى لجميعهم، أغرق هذا اللفظ إغراقا في أشباه أقولها، هي "وراء التذوق"، بيد أنني كنت لا أحسن العبارة عنها إحسانا يعين عليّ. وقد حدثت الدكتور طه مرارا، وأنا أجادله يومئذ فأطيل، بالذي كنت أجده في نفسي ولا أحسن العبارة عنه، أي بما هو "وراء التذوق"، فكان يصغى إلى أحيانا كثيرة، ثم ينتهي إلى أن يمصمص بطرفه لسانه، وبزهوه وخيلائه وإفراطه في الإعجاب بنفسه، لا يكون رده عليّ إلَّا سخرية بي وبما أقول. كان زهوه يجعله لا يصبر، فلم يفهم عني مرة واحدة كل الفهم أو بعض الفهم. لم أكن أبالى بسخريته، فقد ألفتها منذ قديم، وألفت استخفافه بالناس جميعًا سوى نفسه، "شِنْشِنَة أَعرِفُها مِن أَخْزم"، كما يقال في المثل، (والشنشنة: الخليقة والسجية المغروزة في الطبيعة). هذا، على أنه كان له يومئذ كل العذر في خيلائه واستخفافه، لأن ذيوع صيته بفعل المعارضة التي لقيها كتابه "في الشعر الجاهلي"، بلغ مبلغا مثيرا، فهو طائر محلق في جو السماء، كل شيء يقع عليه بصره يتضاءل ويصغر، كلما أمعن في العلو والتصعيد وهو معذور أيضًا، لأنه كان يومئذ في الثامنة والثلاثين من عمره، وكان يحس أنه أصبح مشروعا معدا ناضجا، قابلا للتنفيذ، أي هو في طريقه إلى أن ينقلب أستاذا كبيرا، فلابد له من التشبع بسُنن "الأساتذة الكبار" في الزهو والعجب والاستخفاف. ومع الزهو والعجب والخيلاء" لم أجد عنده صبرا أو استجابة، أو محاولة، لفهم ما أقول، كاستجابة المرصفي شيخى وشيخه هو أيضًا. ذهب كل كلام بيني وبينه هذرا باطلا، هكذا ظننت يومئذ! ولكن. . ولكني قد قصصتُ قصة تذكُّره لهذا الحديث البعيد، وظهور أثره فيما كتبه في جريدة الجهاد سنة 1935، حين أحس أن العرش يهتز من تحته، قصصتها في كتابى (المتنبي 1: 41 - 47) وفي مواضع أخرى، ثم ما فوجئ به عند ظهور كتابى عن المتنبي سنة 1936، حيث استبان له أنى

طبقت في هذا الكتاب منهجا في "تذوق الشعر"، يشبه أن يكون قريبا من شيء سمعه قديما مني، ثم ذهل عنه في غمرة الأحداث والأزمان. ويومئذ بدا له أن يفعل ما فعل، مما قصصته أيضًا في مقدمة كتابى (المتنبي 1: 147 - 158)، وفيه قصة "السطو" كاملة على اختصارها، فإن شئت فأعد قراءتها، فعسى أن تجد فيها شيئًا يزداد وضوحًا بعد هذا الحديث. (انظر أيضًا المقالات في الجزء الثاني من ("المتنبى"). فارقت الجامعة سنة 1928، وانطوى الماضي كله بما فيه، وبمن فيه أيضًا. ذهبت بعيدا وحيدًا لا رفيق لي غير "قضية الشعر الجاهلي"، كما شرحتها لك آنفًا، والتي لم تلبث أن أنشأت لنفسها صاحبة لا تفارقها، هي إعادة النظر في شأن "إعجاز القرآن". كان لفظ "التذوق" فاشيا في الألسنة والأقلام. لا يكاد أحدنا يشك في أنه معنى مفهوم واضح مفروغ منه. ومع الأيام الطوال الموحشة، وشيئا فشيئا، بدأ ما كنت أجده في نفسي عند قراءة الشعر الجاهلي وغير الشعر الجاهلي، والذي سميته لك آنفا "ما وراء التذوق"، والذي كان ما أقوله عنه غير مبين ولا واضح، والذي أنكره على أساتذتى من قبل، ورفضه الدكتور طه رفضا كاملا -أخذ هذا يدفعنى إلى سلوك طريق آخر، يعتمد على جس الكلمات والألفاظ والتراكيب جسا متتابعا بالتأمل، ثم على الرجوع إلى أصولها في المعاجم مع التدقيق في مكنون معانيها المختلفة، ثم في دلالاتها وظلال دلالاتها عند كل شاعر أو كاتب، ثم دخلت في مقارنات كثيرة بين المتشابهات والمتباينات، وشيء كثير بعد ذلك كان يفرض نفسه على طريقي فرضا. يومئذ بدأ لفظ "التذوق"، بمفهومه الذي عهدته، بدأ يتزعزع من حيث نشب من نفسي ومن لسانى، ورأيته لفظا مبهما مجمل الدلالة، لفظ غامض مظلم، مضلل بتعدد صوره واختلافها وتنوعها، ولكني لم أستطع أن أطرق بعيدا، لأن الذي أجده في نفسي مما سميته "ما وراء التذوق"، كان لا يزال صاحب سلطان عليّ مطاع، فكان يقبضنى عن الطيش والمجازفة بطرحه، فبينهما صلة خفية أحسها، وإن كنت غير قادر على تبينها.

وهذا الذي استولى عليّ وخامرنى في شأن "التذوق"، رماني بغتة في حومة الارتياب وفوجئت بلفظ آخر هو لفظ "البلاغة" الذي يدور عليه القول في "إعجاز القرآن"، والذي يوصف به الكلام فيقال: "كلام بليغ"، فإذا هو أيضًا عندي الآن لفظ مبهم شديد الإبهام ونفرت جهنم، بين شدقيها تريد أن تبتلعنى. ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، بيد أنى كلما أعدت النظر، وجدت "الذوق" حقيقة كامنة في نفسي، ووجدت "البلاغة" أيضًا حقيقة ظاهرة تفرض سلطانها على نفسي، ولكني كلما حاولت أن أعرف لهما بيانا أو حدا، بلغ في الاعياء كل مبلغ. وبدا لي يومئذ أن أعيد قراءة عبد القاهر الجرجانى فيّ كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز". أكببت على قراءة الكتابين، وبغتة رأيت أو تبيَّنتُ أن عبد القاهر قد وقع في نفس ما وقعت فيه. رأيته قد وقع في الحيرة من لفظ "البلاغة"، ورآه لفظا مبهما شكلا ليس له بيان ولا حد يعين على تصور "البلاغة" ما هي؟ فيومئذ انبعث انبعاثا ليكشف عن إبهام "البلاغة"، فألف كتابه "أسرار البلاغة"، عمد فيه إلى تحليل الألفاظ المتصرفة بأمر المعاني، مبينا عن وجوه حسنها وقبحها، وخطئها وصوابها، وسموها وسقوطها غير مقطوعة عن أصلها في الكلام المؤلف المركب. ثم ألف أيضًا كتابه "دلائل الإعجاز"، عمد فيه إلى تحليل الجمل أي الكلام المركب الذي يحتمل تركيبه آلافا من الوجوه، فكان كتاباه هذان، أول كتابين في "تحليل اللغة" بلغ فيهما غاية قَصَّر عنها كل من جاء بعده، وهذان الكتابان هما أصل "علم البلاغة"، كما سميناه (وسترى ذلك مبينا في كتابى: مداخل إعجاز القرآن) (¬1). كان فضل عبد القاهر يومئذ عليَّ فضلا عظيما، لأننى حين فهمت حقيقة الدواعى التي حملته على وضع كتابيه الجليلين، أدركت من فورى أن مسألة "التذوق"، مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة "البلاغة" في الأمرين جميعًا، في إبهامهما، وفي أنهما حقيقتان متعلقتان بمدارك الفطرة في الإنسان. ولما رأيته قد ¬

_ (¬1) نشر بعد وفاته -رحمه الله-، مطبعة المدني، القاهرة 2002

استطاع بتحليل الألفاظ والجمل والتراكيب، أن يجعلها تكشف اللثام عن أسرار المعاني القائمة في ضمير منشئها، فأزال إبهام "البلاغة"، ظننت أنه من المستطاع أيضًا بضروب أخرى من تحليل الألفاظ والجمل والتراكيب أن أصل إلى شيء يهدينى إلى كشف اللثام عن أسرار العواطف الكامنة التي كانت في ضمير منشئها، فأزيل إبهام "التذوق". وإذا كان تحليله قد أفضى به أن يجعل نظم "الكلام" دالا على صور قائمة في نفس صاحبها، فعسى أن أجد أيضًا في ضرب أو ضروب من التحليل، ما يفضى بى إلى أن أجعل "الكلام" ونظمه جميعًا دالا على صورة صاحبها نفسه. والتبست على الطرق مرة، واستبانت مرة، ثم بدأت بعد زمن تتضح لي بعض المعالم. وكان مما أعاننى على وضوح هذه المعالم، ما كنت دخلت فيه من قبل، من جس الكلمات والألفاظ والتراكيب جسا متتابعا، إلى آخر ما وصفته آنفا. وعلى الأيام بزغ لي بعض الضياء، وأنارت بعض الشعل، ووضعت لنفسي منهجا، انتهيت إلى أن سميته "التذوق"، كما حدثتك آنفا، وجعلت أمارسه في جميع ما أقرأ من الكلام لا في الشعر وحده والأمر يطول، ولكن هذه خلاصته أكتبها على مشقة. ولم أجاوز حد تطبيق منهجى هذا في القليل الذي كتبته، مما نشرته وعما سوف أنشره بعد قليل إن شاء الله، ولكنه تطبيق لا أكثر ولا أقل. وما دمنا في حيز التاريخ فسأقفك على كلامين، أحدهما يصف الشعر الجاهلي في أول أمرى حين قرأت كما حدثتك، والآخر يصف الشعر الجاهلي بعد ذلك بزمان طويل، لما كتبت مقدمة كتابى المتنبي 1: 14) في سنة 1977، وضعت قديم إحساسى بالشعر الجاهلي في سنة 1927 وما قبلها فقلت: 1 - "وجدت يومئذ في الشعر الجاهلي ترجيعا خفيا غامضا كأنه حفيف نسيم، تسمع حسه وهو يتخلل أعواد نبت غميم متكاثف = أو رنين صوت شجى ينتهي إليك من بعيد في سكون ليل داج، وأنت محفوف بفضاء متباعد الأطراف وكان هذا الترجيح الذي آنسته مشتركا بين شعراء الجاهلية الذين قرأت شعرهم، ثم يمتاز شاعر "من شاعر" بجرس ونغمة وشمائل تتهادى فيها ألفاظه، ثم

يختلف شعر كل شاعر منهم في قصيدة من شعره، وبدندنة تعلو وتخف تبعًا لحركة وجدانه مع كل غرض من أغراضه في هذا الشعر". هكذا كنت أجد الشعر الجاهلي، قبل أن أنتهي إلى المرحلة التي وجدت عندها منهجا أستطيع أن أعيد عليه قراءة هذا الشعر، وإن كنت قد كتبته بعد انقضاء خمسين سنة. ولكني في سنة 1961، وصفت هذا الشعر نفسه في مقدمة كتاب صديق لي، -رحمه الله- (¬1) فقلت: 2 - ولقد شغلنى "إعجاز القرآن" كما شغل العصر الحديث، ولكن شغلنى أيضًا هذا "الشعر الجاهلي" وشغلنى أصحابه، فأدانى طول الاختبار والامتحان والمدارسة إلى هذا المذهب الذي ذهبت إليه، حتى صار عندي دليلًا كافيا على صحته وثبوته. فأصحابه الذين ذهبوا ودرجوا وتبددت في الثرى أعيانهم، رأيتهم في هذا الشعر أحياءً يغدون ويروحون، رأيت شابهم ينزو به جهله وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق وغاضبهم تربد سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه، والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس معه أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادى على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم ومحضرهم، فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت أنين باكيهم وهم للفراق مزمعون .. كل ذلك رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس، وبحة المستكين وزفرة الواجد، وصرخة الفزع، وحتى مثلوا بشعرهم نصب عيني، كأنى لم أفقدهم طرفة عين، ولم أفقد منازلهم ومعاهدهم، ولم تغب عني مذاهبهم في الأرض، ولا شيء مما أحسوا ووجدوا، ولا مما سمعوا وأدركوا، ولا مما قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شيء مما يكون به الحي حيا على هذه الأرض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم: جزيرة العرب". وأظن، أيها العزيز، أنك مستطيع أن تجد الفرق بين هذين النعتين للشعر الجاهلي ظاهرا علانية، وأن أولهما عليه وسم باد يلوح، يدل على أنه نعت من أثر ¬

_ (¬1) كتب الأستاذ شاكر هذه المقدمة لكتاب الظاهرة القرآنية، لمالك بن نبي سنة 1958

"التذوق المحض والإحساس المجرد"، كما قلت آنفا، وأن هذا "التذوق" يومئذ كان تذوقا ساذجا بلا منهج، كالذي هو ناشب في الألسنة وأقلام الكتاب المحدثين .. وأن ثانيهما عليه سمة واضحة تدل على أنه نعت من أثر "التذوق" أيضًا، ولكنه تذوق له معنى آخر غير المعنى المألوف، وأنه "تذوق" قائم على منهج مرسوم، له أسلوب آخر في استبطان الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، ثم في استدراجها ومماسحتها وملاطفتها ومداورتها حتى تبوح لنا بدخائل منشئيها ومخبآت صدورهم، بل حتى تكشف اللثام عن صورهم وملامحهم ومعارف وجوههم سافرة بلا نقاب. أظنه فرقا ظاهرا بين نعتين، في زمنين متباعدين، لكل زمن منهما طبيعة تميزه عن الزمن الآخر. أليس كذلك؟ ولمجرد الحذر مما يخاف على الحديث إذا هو اختلف سياقه وتباعدت أطرافه، فيصبح عندئذ مهددا بأن تخفي أسباب التشابك بين معانيه، أو متوعدا بأن تتهتك أو تسقط بعض الروابط الجامعة بين أوصاله فيتفكك أو ينتشر، أحب أن أختصر لك مجمل حديثي في نظام واحد، متدانى الأطراف محذوف الفضول. فهذه القوة المركبة الكامنة في بناء الإنسان، والتي سميتها "القدرة على البيان"، مندمجة اندماجا لا انفصام له في حلقة مفرغة مكونة منها ومن العقل والنفس والقلب. ولها في هذه الحلقة عملان متداخلان لا ينفصلان هما: "الإبانة" و"الاستبانة" و"الإبانة" هي قدرتها على إنشاء "الكلام" وتركيبه، بليغا كان أو غير بليغ. و"الاستبانة" هي قدرتها على تفلية "الكلام" وجسه والتدسس في طواياه، وحين تتلقاه من خارج، بليغا كان "الكلام" أو غير بليغ. وهذه "الاستبانة" بجملتها هي التي سميتها "التذوق". وكلامى، خفت، يوشك أن يوهم أن "التذوق" عمل آخر مستقل من أعمال هذه القدوة، مقصور على استبانة دفائن الكلام الدالة على آثار العواطف والنوازع والطبائع الناشبة فيه، وعلى التقاط الملامح العالقة التي يمكن بالملاطفة أن تحسر اللثام عن بعض معارف ضمير منشئها وصورته وهيئته، وخفت أيضًا أن

يظن ظان أن هذا عمل آخر هو غير عملها في استبانة صور المعاني القائمة التي كانت في نفس منشئها، والتي هي في الحقيقة ما نسميه "البلاغة". وخفت أيضًا أن يتوهم متوهم أن أحد العملين ممكن أن يتم بمعزل عن العمل الآخر. ليس كل ذلك صحيحا أو ممكنا، لأن صاحب "الإبانة" و"الاستبانة" واحد غير قابل للتجزئة، وهو "القدرة على البيان" ولأن طلب "الاستبانة" لجميع ما تطلبه في "الكلام" المتلقى من خارج متداخل ممتزج في حيز واحد هو نفس "الكلام" المتلقى من خارج، ولأن جميع ذلك حدث واحد متلازم أيضًا في زمن واحد مختطف متلاحق لا يمكن تثبيته أو تقسيمه. وإذن، فهو على التحقيق عمل واحد خاطف لا يتجزأ، وإنما نحن الذين نتولى الفصل بين شيء منه وشيء بعد تمام العمل الواحد جميعه، على قدر ما عندنا من الرغبة وتوجيه العناية إلى إبراز شيء منه دون شيء. وأظنه صار قريبا ممكنا أن نتخطى كلاما كثيرا ونفضى إلى نتيجة موجزة، هي أن "التذوق" يقع وقوعا واحدا، في زمن واحد، على كل "كلام"، بليغا كان أو غير بليغ. ثم يفصل عن "الكلام" ومعه خليط "واحد" ممزوج متشابك غير متميز بعضه من بعض. وفي هذا الخليط أهم عنصرين. العنصر الأول: ما استخرجه "التذوق" من العلائق الباطنة الخفية الناشبة في أنفس الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني. وهذا في جملته يجعلنا قادرين على أن نستخلص منه ما يحدد بعض الصفات المميزة التي تدل على طبيعة منشيء الكلام، أي على بعض ما يتميز به من الطبائع والشمائل، أو ما شئت من هذا الباب. والعنصر الثاني: ما استخرجه "التذوق" من العلائق الظاهرة بين أنفس الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، وهذا في جملته يجعلنا قادرين على أن نستخلص منه ما يحدد بعض الصفات المميزة التي تدل على طبيعة الكلام نفسه، أي على ما يتميز به من "السذاجة" و"البلاغة" أو ما شئت من هذا الباب.

والإحساس بهذين العنصرين الخليطين إحساس سريع، خاطف، ناقد، لطيف، دقيق، دفين، قائم في النفس لأول وهلة عند سماع كل كلام أو قراءته، من العسير عليّ أن أتقصاه هنا أو أعبر عنه تعبيرا واضحا في كلمات قلائل، ولكن كل أحد قادر على تبينه بالأناة والتوقف. وبالتأمل والدربة، فيما أظن. ولكنه على كل حال، إحساس خفي مكنون مقنع بقناع من الكتمان. يحتاج إلى ما يهتك عنه هذا القناع حتى يسفر ويستبين وينجلى، ثمَّ يبوح بما عنده. ولكن ليس أمر "التذوق"، في الحقيقة، محفوفا بمثل هذه القسوة والصرامة التي ألجأتنى إليها طبيعة حديثي عنه، وطبيعة اللغة التي تجعلنا "اضطرارا" أن نجسد ما لا يتجسد. فما من إنسان حي عاقل مدرك، صغير أو كبير، جاهل أو عالم، قَل علمه أو كثر، إلا و"التذوق" حاضر في دخيلته حضورا ما، لأنه "إنسان" قد أودع الله في بنائه هذه الأعجوبة النفيسة الغالية التي صار بها إنسانا، وهي "القدرة على البيان". فهو، إذن على هذا "التذوق"، لأنه ما من شيء يسمعه أو يبصره أو يحسه أو يذوقه، أو يتوهمه أيضًا، إلَّا وهو محتاج فيه إلى "القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة" أي "التذوق"، لأنه غير قادر على إدراك أي معنى أو تصوره، إلا عن طريق هذه القدرة وأدائها لعمليها أداء ما فالتذوق إذن، ضرورة لكل حي منا، منذ يولد إلى أن ينقطع أجله على هذه الأرض. وهذا الإلف الطويل لقيام "التذوق" فيه وأدائه لعمليه، منذ يولد إلى أن يكبر ويعقل يؤهله، بلا وعى منه حاضر فريد واضح الإرادة، أن يكتسب قدرة على سرعة استخلاص قدر لا بأس به من هذا الخليط الذي امتزج فيه العنصران جميعًا، وعندئذ، ولأول وهلة، ينفصل شيء بعد شيء من هذا الخليط وكأنه انفصل من تلقاء نفسه، ويبرز للمرء واضحًا جليا، ولا يحس البتة أنه بذل في تبينه جهدا أو تعمد بذله. وهذا هو "التذوق" الساذج الذي لم يتم عن منهج مرسوم أو قصد أو عناية. ولكن يبقى في الخليط الممزوج من العنصرين بعد ذلك شيء "كثير"، يحتاج إلى منهج وقصد وعناية أي يحتاج إلى إرادة واضحة، وإلى تنبه وبصر،

وإلى حرص على تمييز شيء من شيء، وإلى عناية متوجهة إلى غرض واحد أو أغراض متنوعة. وهذا غير ممكن أن يتم من تلقاء نفسه على وجه صحيح، ولا أن يتم كله دفعة واحدة. ويحتاج أيضًا إلى ترديد الكلام وترجيعه، وإلى إعادة النظر فيه مرة بعد مرة بعد مرة، وإلى التقاط شيء من هذا الخليط، وإلى فصل بعض من بعض، وإلى ضم شكل إلى شكل، وإلى ملاحظة الفروق بين المتشابهين أحيانا، أو تحديد ضرب من التشابه بين غير المتشابهين ظاهر أحيانا أخرى. وأشياء أخرى كثيرة لا يضبطها إلا المنهج والقصد والعناية. وهذا الذي وصفت هو "التذوق" بعنصريه "التذوق" الواقع على طبيعة الكلام نفسه، أي على ما يتميز به من "السذاجة" أو "البلاغة" أو ما شئت من هذا الباب، والذي كان مبهما كل الإبهام، فجاء عبد القاهر الجرجانى فألف كتابين: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، ليزيل الإبهام عن لفظ "البلاغة": أي عن أحد عنصرى "التذوق"، وهو نفسه "التذوق" الواقع على طبيعة منشيء الكلام، أي على بعض ما يتميز به من الطبائع والشمائل أو ما شئت من هذا الباب، وهذا العنصر الثاني هو الذي حاولت جاهدا أن ألتمس لنفسي طريقا إلى إزالة إبهامه، فإن أنا قد وفقت فيه إلى بعض الصواب، فبفضل الله وتسديده، وإن أكُ قد أخطأت الطريق وأسأت، فأسأل المغفرة واسع المغفرة سبحانه.

من هؤلاء!

من هؤلاء! الذي يسرى اليوم في حياتنا الأدبية من السموم الفتاكة شيء "كثير" لا يحاط به، ومع ذلك فالأطباء والصيادلة قليلون وهم مع قلتهم منصرفون كل الانصراف عن تتبع هذه السموم وعن تحليلها، وعن تنبيه الناس إلى خطرها وفتكها، وعن تحذيرهم من هذه الأقراص الجميلة الشكل الذكية الرائحة من خارج، وباطنها تفوح منه أخبث الروائح. وهي اليوم تباع في كل مكان ولا يسأل أحد عن مصدرها، أو عن الجهات التي تخصصت في صناعتها وتصديرها، أو عن التكنولوجيا الحديثة التي عبأتها أحسن تعبئة وهيأتها للاستئثار بإقبال الشباب والفتيات في هذا العالم العربي والإِسلامى الذي نعيش فيه، واتخذت وسائل الإعلام جميعًا للإعلان عنها يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة. لا أدري من يكون؟ ولكن هكذا يقول، عن رواية "أولاد حارتنا" للأستاذ نجيب محفوظ. وربما تبادر إلى الظن أن كتابة الحوار على الأقل باللغة العامية، إن لم نقل كتابة الرواية كلها، كانت تكون أقدر على تحقيق هذا الهدف (أي أن يشد اهتمام القارئ البسيط ويأسره ليتمكن بعد ذلك من إثارة تفكيره! هكذا يقول). ولكن نجيب محفوظ يقصر استخدامه للعامية على الأغنيات والأمثال الشعبية التي يقتبسها، بالإضافة إلى بضع كلمات ومصطلحات تجري على الألسنة في الحياة اليومية، ولو نقلت إلى اللغة الفصحى لبعدت عن هذه الحياة بعدا كثيرا (فالمائدة تظل طرابيزه، والأريكة كنبة، والعربة التي يجرها حصان عربة كارو. . . الخ). وكل ما خلا ذلك مكتوب باللغة الفصحى التي يتردد فيها أحيانا إيقاع قرآنى (مثل التعبير الوارد على صفحة 344: يؤدي الإتاوة صاغرا) أو في صيغ عتيقة مثل "فوه" بدلا من "فمه" و"فيه" بدلا من "فمه" و"فاك" بدلا ¬

_ (*) مجلة الثقافة، السنة السادسة، العدد 62، نوفمبر سنة 1978، ص 14 - 16

من "فمك" ص: 55، 69، 76، على عكس الصيغ المألوفة التي ترد على سبيل المثال ص 119، 507. وقد تعجب أيضًا لوجود تعبير عامى مألوف "مافيش فائدة" على هذه الصورة: "ما فيها فائدة" (أي الدنيا)، ص 448. وربما كأن هنا إشارة إلى تعبير منسوب إلى سعد زغلول (غريبة هذا علم واسع جدًا! ؟ ) ولكن النص في جملته -بصرف النظر عن المواضع القليلة- نص سهل ومقروء. وهذا أمر يتفق مع ما يقصده المؤلف. لقد طالما وجه اللوم إلى نجيب محفوظ بسبب تمسكه بالفصحى، ولكنه لم يحد عن رأيه أبدا، ولم يحاول أن يجعل منه مذهبا متزمتا (عيب عليك يا نجيب، لماذا لا تحيد عن رأيك! ). لقد وجد لغة الكتابة التي أمامه هي اللغة الفصحى (عجيبه: شوف إزاى)، ووجد من طبائع الأمور أن يستعملها فيما يكتب. والواقع أن استعمال العامية يمكن أن يصدم كثيرا من القراء بدلا من أن يؤثر فيهم تأثيرا مباشرا. إذ ليس من المألوف أن تتناول الموضوعات الجادة. أضف إلى هذا دور الفصحى بوصفها وسيلة التفاهم في العالم العربي كله. ونجيب محفوظ لا يكتب لمواطنيه المصريين وحدهم. وأخيرا فإن اللغة الدارجة تعد في رأيه علامة "على الجهل، وهي لن تصلح للاستعمال في عمل فني يهدف إلى نشر الروح العلمية" انتهى، (ونجيب محفوظ مخطئ في رأيه بلا شك! ) (انظر مجلة الثقافة، العدد 61، من ص 26 - 34). وظاهر أن هذا الأعجمي الألماني شديد الحب لنجيب محفوظ، وهو أشد حبا للمصريين، لأنه يريد أن يكون ما يكتبه نجيب عاملا مهما (يشد اهتمام القارئ البسيط ويأسره، ليتمكن بعد ذلك من إثارة تفكيره! ) -لا بل هو أشد حبا للمصريين من سلفه الألماني العظيم (الذي لا أظن أن أحدا يعرف اسمه في بلاد ألمانيا اليوم! ) وهو: "ولهلم سبيتا"، الخبير بتكنولوجيا اللغة في القرن التاسع عشر والذي ألف كتابا يدعو فيه المصريين بالشفقة والرحمة التي في قلبه، ليتخذوا العامية لغة للكتابة والتأليف. و"ولهلم سبيتا" هذا فدائى عظيم، عرض نفسه للمتالف في سبيل مصر! ولذلك قال في مقدمة كتابه:

"وأخيرا سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي يراودنى على الدوام طول مدة جمع هذا الكتاب، وهو أمل يتعلق بمصر نفسها، (انظر، ما أشد حبه لمصر)، ويمس أمرا هو بالنسبة لها وإلى شعبها يكاد يكون مسألة حياة أو موت (شوف إزاي) (فكل من عاش فترة في بلاد تتكلم العربية، يعرف إلى أي حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها، بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة). "راجع كتاب الدكتورة نفوسه زكريا: تاريخ الدعوة إلى العامية وكتابى: أباطيل وأسمار". وهذا الألماني الجديد، ليس أقل منه مجازفة وفدائية في سبيل مصر ونجيب محفوظ خاصة وإلا فلماذا جازف هو الآخر، بعد هلاك سلفه منذ مئة سنة (توفي ولهلم سنة 1883 م)؟ ودعنا من قصة "العامية" في البلاد العربية، ولكن المهم الذي ينبغي أن تعلمه، هو أن هذا الأعجمي الألماني الفاضل، مجاهد عظيم، فإنه من كبار الدعاة في لغته الألمانية نفسها، إلى طرح اللغة الألمانية الفصيحة التي كتب بها شعراؤها وعلماؤها وفنانوها وقصّاصوها، وإلى استبدالها باللغات العامية الألمانية المختلفة، وإلى إحياء ما مات منها منذ قرون! هكذا ينبغي أن يكون شأن فدائيته! ! من الغرائب أيضًا أن هذا الرجل العظيم شديد التنبه للعيوب الفادحة في "فصحى نجيب محفوظ"، فقد وقع على ما لم يقع عليه الأب جاك جومييه، ولا ساسون سومبخ اليهودي، ولا شومان، ولا فاتيكيوتيسى، وسائر العلماء والمفكرين العظماء الذين درسوا "أولاد حارتنا" دراسة مستفيضة. ونبهنا إلى أنه يتردد في "فصحى نجيب محفوظ" "إيقاع قرآنى" (مثل التعبير الوارد على صفحة 344: يؤدي الإتاوة صاغرا). ويعني بهذا الكشف الجديد (الإيقاع القرآنى لفظا واحدا وهو "صاغرا"، فوقوع هذا اللفظ وحده في أي كلام، يجعل في الكلام "إيقاعا قرآنيا"، والدليل على ذلك أن لفظ "الإتاوة" لم يرد في القرآن البتة، ولفظ "يؤدي" مع أنه جاء في بعض الآيات في ذكر "أداء الأمانة"، فإنه أيضًا لفظ يجرى في العامية قديمها وحديثها كقولهم "يؤدي له خدمة" أما

"صاغرا"، فهي وحدها التي جاءت في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة: 29]. فبالإحساس الدقيق المتوهج الذي يتمتع به هذا الخبير بتكنولوجيا اللغة العربية فصيحها وعاميها، وبتكنولوجيا الشعوب العربية والإِسلامية: استطاع أن يحس بما لم يحس به أحد، ولا نجيب محفوظ نفسه، أن هاهنا في هذه الكلمات الثلاث "إيقاعا قرآنيا"! مصدره لفظ واحد! لفظ واحد! هو "صاغرا! " (وبالذمة بقي، ده مش فكر تكنولوجى خفيف الدم! ! ). زلة كبيرة، كان على نجيب محفوظ أن يحترس كل الاحتراس في فصحاه. ليطرد من هذه الفصحى كل لفظ جاء في القرآن، فإن هذا الخبير بتكنولوجيا اللغة في القرن العشرين قد أفتاه بأن كل لفظ ورد في القرآن يوشك أن يجعل في كلامه "إيقاعا قرآنيا" غير مرغوب فيه. وأنا أحب أن أشارك في "لوم نجيب محفوظ بسبب تمسكه بالفصحى"، وخاصة بعد أن قامت في مصر منذ قديم جهة ذات اختصاص في هذا الأمر، وهي تبذل اليوم جهودا عظيمة في سبيل تنقية (اللغة العربية المعاصرة) من مثل هذه الألفاظ، ويتولى العمل في هذه السبيل أساتذة جلودهم عربية، وبين أشداقهم ألسنة عربية، وهم يتأهبون لإصدار معجم تكنولوجى يتضمن (اللغة العربية المعاصرة)، بعد طرد مثل هذه الألفاظ من لغة الكتابة والحديث. كان على نجيب محفوظ أن يستشير هذه الجهة قبل أن يقدم على استعمال ألفاظ في كتابته، تشينها شينا عظيما عند الخبراء التكنولوجيين المحدثين. والأستاذ نجيب قادر على الوصول إلى تلك الجهة المختصة، فإنها جامعة مشهورة معروفة (¬1)، تتدفق عليها الأموال والصدقات من كل المحبين للعرب وللغة العرب، وللإسلام، من جميع أقطار العالم غير العربي وغير ¬

_ (¬1) يعني الأستاذ شاكر الجامعة الأمريكية بالقاهرة. واسم المعجم الذي أصدرته هو: معجم اللغة العربية المصرية، من تأليف الدكتور سعيد بدوي والدكتور مارتن هاينز.

الإِسلامى. هناك سيجد نجيب من يرشده أيضًا إلى "الصيغ العتيقة" التي ينبغي أن يصون نفسه عن خبائثها، مثل: "فوه وفاه، وفيه"، فإن إخلاء كتابته من هذه الخبائث كفيل بأن يطفئ ظمأ الظامئين، وأن يحقق أماني المتمنين، الذين يتطلعون تطلعا إلى "ترجمة هذه الرواية إلى اللغات الأوربية"! هذا واجب عليه حتى لا يتكرر مرة أخرى ما حدث لألبرتو مورافيا، حيث بقي هذا العمر الطويل، وهو لا يعرف كاتبا عربيا واحدا، لأنه لم يُتَرجَم من أعمال هؤلاء الكتاب شيء إلى اللغة الفرنسية أو الإِنجليزية أو الإيطالية، أو كما قال مورافيا! . ملاحظة: ألبرتو مورافيا كاذب، لأننا نعرف كاتبا عربيا مشهورا على الأقل، ترجمت آثار حضرته إلى الفرنسية والإِنجليزية والروسية (¬1) .. إلخ، ولما ظهرت هذه الكتب أحدثت في عالم هذه اللغات ضجة تسامع بها كل حي ينتسب إلى هذه اللغات. وبترجمة آثار حضرته دخل أدب الأمة العربية في آداب "اللغات الحية" دخولا لا شك فيه! ! مورافيا كاذب، أو أصم لا يسمع، أو أعمى لا يقرأ. أما سائر المقالة (الثقافة، العدد: 61)، ففي أسطرها روائح كثيرة تفوح، روائح من صنف آخر، روائح لم أزل أشمها تفوح من تحت الثياب، منذ عرفت في شبابي عن قرب كبار هؤلاء الخبراء التكنولوجيين، منذ عهد المبشر البروتستانتى زويمر القس، إلى ويلككس، إلى أن تمصرت هذه الروائح في ثياب كثيرة ذكرتها في كتابى "أباطيل وأسمار". أما الآن فقد فشت هذه الثياب فشوا واسعا، وتجنست بجنسيات عربية وإسلامية كثيرة، وفيها الغَناء، إن شاء الله، عن جميع هؤلاء الغرباء الخبراء بتكنولوجيا اللغة العربية فصيحها وعاميها، وبتكنولوجيا العالم العربي والعالم الإِسلامى. ومع ذلك، فأنا أرى أن على نجيب محفوظ منذ الآن، أن يحيد عن رأيه في التمسك بالفصحي، وأن يدخل في عصر التكنولوجيا اللغوية الحديثة، وإلا فاته الركب، وبقي بقاء سرمدا مع ¬

_ (¬1) هذا الكاتب هو الأستاذ توفيق الحكيم -رحمه الله-.

مخلفات القرون البائدة. هل تقبل، يا أخي أن تكون عاجزا كل هذا العجز، حتى يقول لك الخبير الذي تجب عليك طاعته: "لقد وجد لغة الكتابة التي أمامه هي اللغة الفصحي، ووجد من طبائع الأشياء أن يستعملها فيما يكتب"، وجدت، فانسقت انسياقا! أهكذا يكون موقف الأساتذة الكبار مثلك! عار عليك باق، فاغسل عنك هذا العار. ولكن بيني وبينك يا أخي نجيب، المسألة كلها جاءتك وجاءتنا في ثياب الجد الركين، إلا أن اللغة العامية لا تعرف لهذه الثياب اسما إلا اسما واحدا هو: "تهميش"! وأظنه لفظا لا يغيب عنك مهما اشتد تمسكك بالفصحي، وإعراضك عن العامية. (كده ولا أنا غلطان! وشوف إزاى أنا باستعمل العامية)، لكي أدخل في عصر التكنولوجيا الحديثة! أليس هذا موقفا حضاريا! !

قضية اللغة العربية

قضية اللغة العربية جزء صغير من الحقيقة المفزعة * اللغة لست عِلمًا .. بل هي شيء فوق العلم * لغتنا في خطر داهم .. ونحن أيضًا دعت كلية الآداب بجامعة الإسكندرية إلى عقد مؤتمر للغة العربية، تم عقده في 30 صفر إلى 4 ربيع الأول سنة 1402 هـ "26 - 30 ديسمبر سنة 1981 م". اشترك في هذا المؤتمر نحو من ستين عضوا، يمثلون تسع عشرة كلية، تنتمي إلى عشر جامعات مصرية، وسبع جامعات عربية من السودان والسعودية ولبنان، ومعهم غيرهم من أساتذة العربية في مصر وغيرها من البلاد العربية. وكان مقرر المؤتمر الدكتور محمد مصطفى هدارة، وكيل كلية الآداب للدراسات العليا والبحوث. عدد ضخم، ولولا ما نحن فيه اليوم، لتضاعف العدد تضاعفا يذهل ويخيف! تناول المؤتمر قضية ضعف العربية على ألسنة أبنائها، من أول نشأة الطفل في بيت أمه وأبيه، ثم في المرحلتين الإبتدائية والثانوية، إلى أن ينتهي من دراسته الجامعية شابا، أو رجلا على الأصح، في نحو الخامسة والعشرين من عمره، ثم يلتحق بهيئة التدريس الجامعية، أو غيرها من الهيئات والأعمال. قدم أساتذة المؤتمر أربعة وأربعين بحثا .. درست في المؤتمر العام، ثم في لجانه الخمس المتخصصة، وتخللتها مناقشات طويلة كثيرة دارت بين أعضاء المؤتمر نفسه. منذ أول يوم في المؤتمر، كانت الصورة قاتمة جدًّا، ومفزعة جدًّا، وظلت كذلك حتى صدرت توصياته تحمل نذير الخطر، وتتلمس في الظلام الدامس سبيلا إلى النجاة منه. ويكفي أن تلم بمجمل الوصايا الخمس، بأبوابها الثمانية ¬

_ (*) مجلة الهلال، عدد مايو، سنة 1982، ص 24 - 31.

والأربعين، حتى تدرك فداحة الخطر الذي يهدد العربية، وأبناء هذا اللسان العربي: فالأولى، تتعلق بمرحلة التعليم قبل الجامعي، وفيها سبعة أبواب. والثانية، تتعلق بالمناهج وطرق التدريس في الجامعة، وهي أحد عشر بابا. والثالثة، تتعلق بتكوين الطالب الجامعي، وهي سبعة أبواب. والرابعة، تتعلق بتكوين المدرس الجامعي المتخصص، وهي ثلاثه أبواب. والخامسة، وهي أخطرهن، تتضمن وصايا جامعة شاملة لكل ما في حياتنا، وهي عشرون بابا. * * * إحساس غامض مبهم ممزق، ولكنه عميق مزلزل، أستشفه من وراء هذا المؤتمر، ومن تحت أكثر ما أقرؤه أحيانا في الصحف والمجلات والكتب، وما أسمعه في الإذاعات والمجالس. إحساس يرتجف ذعرا بما أصاب العربية اليوم على ألسنة أبنائها من الضعف والخلل والتفكك. "العربية في خطر داهم"، حقيقة واقعة .. نعم. ولكنها جزء يسير من الحقيقة المفزعة الكبرى. لأن الخطر الذي يحيط بالعربية، لا يحيط بها منفصلة عن أصحابها، أصحاب اللسان العربي نفسه وراثة وإنتماء، ثم هو لا يحيط بأصحاب اللسان العربي، منفصلا عن حاضرهم، ولا عن مستقبلهم في هذه الدنيا الواسعة المتصارعة، ولا عن تاريخهم العريق الغائر في أغمض الآباد المتقادمة على طول القرون ولا عن حضاراتهم الغابرة والباقية التي بسطوها على أوسع رقعة من الأرض، من أقصى المغرب غربا، إلى جوف الصين شرقا، ومن قلب أوروبا شمالا إلى أطراف القارتين الإفريقية والآسيوية جنوبا، واستقرت فيها عشرات من القرون، تضئ ثم تكمن ثم تضئ. "العربية في خطر داهم". جزء يسير من الحقيقة المفزعة الكبرى، ولكنه الجزء المهدد الذي ينهار البناء كله بانهياره، فإذا انهار، أصبح الحاضر كله، والمستقبل كله، ركاما وأطلالًا وملاعب يستبيحها من يشاء بما يشاء كما يشاء.

في زمان الغفلة

ومع أن هذا هو ما تجده مستكنا في صريح الدعوة إلى هذا المؤتمر وفي وصاياه، فإنه انعقد أياما ثم انفض، وتلقته بعض أجهزة الإعلام خبرا ضئيلا ينشر ثم يطوى، وكأنه كان لغوًا لا يحرك ساكنًا، ولا يثير أحدا، ولا ينذر بخطر، ولا يستحق أن ينال أسطرا قلائل من الآلاف المؤلفة من الأسطر التي تحوزها مشاكل الاقتصاد والإسكان والمرور، أو كرة القدم على الأقل. وهذا وحده نذير بشرّ لا يعلم إلَّا الله مداه. أمر محزن أن تبلغ الاستهانة بشأن اللغة هذا المبلغ. موقف لا مثيل له في تاريخ أمم العالم، لأنه يخالف طبيعة الإنسان الذي ميزه الله من سائر خلقه باللغة والبيان، في قصة طويلة معقدة، منذ دب على الأرض أبونا آدم -عليه السلام- .. وتكاثر أبناؤه حتى عمروا وجه الأرض، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، وصاروا شعوبا وقبائل وأممًا تتعارف وتتناكر على مر آلاف مؤلفة من السنين. ضعف في اللغة يستشرى جيلا بعد جيل، واستهانة بما يصيب اللغة تتفاقم جيلا بعد جيل. موقف فريد مناقض للطبيعة، تقفه أمة العرب ومن ينتمون إليهم بالدين الواحد والحضارة الواحدة، أو باللسان الواحد والحضارة الواحدة وإن خالفوهم في الدين. كيف تم هذا كله؟ لابد من تفسير لما حدث كيف حدث، وإلاّ فلا علاج لعلة لا يعرف الطيب أسبابها ولا نشأتها ولا تاريخها، وكفى بالطيب جهلًا أن يعالج أعراض الداء، والداء في مكمنه حي طليق مسيطر مستبد. في زمان الغفلة منذ أربعة قرون ماضية، كان العالم العربي والإِسلامى أرضا واحدة، تحيى حضارة واحدة، تمدها ثقافة واحدة، من أقصى المغرب إلى حدود الصين، ومن أطراف تركية دار الخلافة إلى أغوار أفريقية وآسية، أمة واحدة وارثة لأسلافها، ولكن الورثة كانوا في غفلة، استناموا إلى ميراثهم الجليل الضخم، فهمدوا همود الجمرة تحت الرماد. وفي زمان غفلتهم واستنامتهم، دبت الحياة دبيبها في ناحية أخرى على

أطراف دولتهم. حركة حياة لم يلقوا إليها بالا في أول الأمر، مع أن الله تعالى كان قد أنذرهم قبل ذلك بقليل، فسلَّط الهمج البرابرة على طرف من أطراف دولتهم في أرض الأندلس، بعد أن عمروها ثمانية قرون "93 - 897 هـ/ 712 - 1492 م" فأبادوا ملكهم، واستباحوا حضارتهم، ونهبوا ما في أيديهم من ثروة وعلم وبشر، ودمروا أكثر ما شيدوه من بنيان. عظة وعبرة، لم تجد مستمعا ولا مستجيبا. والآن، وهم في غفلة واستنامة، كان قدر الله سبحانه يعد لهم بعد المغل "المغول" والتتر الذين انصبوا عليهم من الشمال الشرقي. مغل العصور الحديثة وتترها من الشمال الغربى ليرسلهم عليهم .. لن يكونوا مغلا جهلة كأهل الشمال الشرقي، بل مغلا مدربين قد استفاقوا من جهالة ظلوا غارقين في مستنقعها اثنى عشر قرنا، "هي القرون الوسطى، كما يسمونها". بعد أن أيقظتهم حضارة العالم العربي والإِسلامي، وأمدتهم بما يحييهم. وبعد أن وضع لهم نيكولو مكيافيلى "874 - 933 هـ / 1469 - 1527 م" دستورهم الأخلاقى السياسي. الذي لا تزال تسرى شروره في شرايين الحضارة الأوروبية الحديثة إلى هذا اليوم. بدأ زحف المغل "المغول" المحدثين على دولة الخلافة الإِسلامية بحذر شديد، وبدأ تطويق العالم العربي الإِسلامى من سواحل البحار البعيدة في أفريقية وآسية والهند وجزيرة العرب. ثم بدأ التغلغل في حواشى الأرض اليابسة من أطراف العالم الإِسلامى. ومرت السنون، وشيئا فشيئا نفذت سطوة المغل المحدثين في كيان دولة الخلافة، وبدأت دولة الخلافة تفقد سلطانها على نفسها، وأحس العالم الإِسلامى بالنكبة إحساس التوجس المبهم، وخامر الآذان دوى خفي ينبعث من تقوض أركان دولة الخلافة، وخالط الفزع الغفوة، وبدأ التحدى الأكبر واضحًا في ناحية، مبهما في الناحية الأخرى. لن أقص تفاصيل تاريخ غريب مخيف، ولكني أشير إلى جزء يسير من حركة أمة فزعت من خطر، فأخذت تمسح النوم عن عيونها بأيد فيها فتور النعاس

هؤلاء الخمسة

الغالب. حاولت أن تهب من رقدتها، لتنفض عن نفسها غبار القرون، فماذا فعلت؟ ولم أخفقت؟ كان لدوى الأركان المتقوضة في مركز دولة الخلافة، ذبذبة تغلغلت في قلب العالم العربي الإِسلامى حتى بلغت أطرافه البعيدة. وبالتوجس المحض من الخطر المرهوب المحجوب، بدأت أمة كاملة مترامية الأطراف تحاول أن تواجه تحديا عن عدو مبهم، بدأ يقوض أركان دولتها. وبرد الفعل الفطرى، تحركت طائفة قليلة مبعثرة في أرجاء عالم متراحب. تحركت تدافع عن بقائها بلا تدبير سابق، ولا هدف واضح، وما هو إلا التوجس الغامض من شر خطر داهم مستطير، ولكنه محجوب لا يعرف ما هو على التحقيق. كان أول ما انبعث هؤلاء الأفراد القلائل بفطرتهم للدفاع عنه هو اللغة والدين، وهما أساس ثقافة الأمة، ثم سائر العلوم التي هي أصول الحضارة التي ورثتها، وعاشت بها وفيها قرونا طويلة. كان الطريق الذي هدتهم إليه الفطرة، هو بعث الأصول التي قامت عليها الثقافة والحضارة، بالرجوع إلى منابعها الصافية الأولى، بعد أن غمرها النسيان والغفلة بأتربة سفت عليها قرونا حتى طمرتها، وسلبتها بريقها ونضرتها. لا أستطيع هنا أن أسرد كل ما حدث عند هذا التوجس في كل ناحية من نواحي هذا العالم الضخم المتراحب، ولذلك رأيت أن أختار خمسة رجال عظام لا أكثر، أحسوا بذبذبة النكبة، فانتفضوا لها، وكان لهم في بقعة من قلب العالم العربي الإِسلامى طريق واضح في البعث والإحياء، دلت عليه كتبهم وأعمالهم دلالة واضحة. لن أستوعب تاريخهم أو آثار كتبهم وأعمالهم، وإنما هي الإشارة والتنبيه لا غير، إلى هذا الإحساس الغامض بالنكبة، وطريقهم الذي سلكوه لدفعها عن بلادهم وأمتهم، بلا تبين واضح للعدو أو للهدف. هؤلاء الخمسة قبل كل شيء، ينبغي أن نعلم أن حياة هذا العالم العربي الإِسلامى، كانت تسير على نمط مألوف معروف، لا يكاد يستنكره أحد: في العقيدة العامة التي

تسود الناس، وفي الدراسة في جميع معاهد العلم العريقة، وفي التأليف والكتابة، وفي حياة الناس التي تعيش بها عامتهم وخاصتهم من تجارة وصناعة. كل ذلك كان نمطًا مألوفًا متوارثًا، فجاء هؤلاء الخمسة (¬1)، ليحدثوا يومئذ ما لم يكن مألوفًا، وشقوا طريقًا غير طريق الإلف. وبيان ذلك يحتاج إلى تفصيل، ولكني سأشير إليه في خلال ذكرهم إشارة تعين على تصور موضع الخلاف. 1 - "البغدادي"، ولد عبد القادر بن عمر البغدادي ببغداد "1030 - 1093 هـ - 1620 - 1683 م". وفي الثامنة عشرة من عمره، "سنة 1048 هـ" خرج في إتمام طلب العلم، فرحل إلى الشام، ثم فارقها بعد سنتين "سنة 1050 هـ" قاصدا مصر. فلقى بها العلماء وتلقى عنهم وصحبهم، واتسع اطلاعه على ذخائر الكتب القديمة التي لم يكن يعني بها علماء زمانه، وفي سنة 1080 هـ، رحل إلى دار الخلافة بالقسطنطينية، لما فيها من ذخائر الكتب العربية التي حازتها، ولقى بها عالما جليلا، حاز مكتبة عربية من أجل المكاتب، وهو الوزير الأعظم أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد، المعروف بكوبرلى، ولا تزال مكتبته باقية بها إلى يومنا هذا، فأقام مع صاحبه سبع سنوات إلى أن عاد إلى مصر سنة 1092 هـ ثم وافاه أجله في أوائل سنة 1093 هـ. كان طريق البغدادي واضحا. لم يكن في أيدى طلبة العلم سوى ما ألفوه من كتب الفقه والنحو والبلاغة وحواشيها، فأداه اطلاعه إلى معرفة الضعف الغالب على أهل زمانه، وهجرهم شعر الشعراء الفحول وأخبارهم وتاريخهم. فعمد إلى ما في كتب النحو التي يعرفونها من شواهد الشعر العربي القديم، جاهليه وإسلاميه، فألف ثلاثة كتب تدور كلها على شرح شواهد الشعر، وضمنها روائع الشعر، وأخبار الشعراء، ونوادر التاريخ. فكان ذلك مقدمة لبعث التراث الأدبى وإحيائه، ووضعه بين أيدى الناس .. تتبين ذلك واضحا في كتبه الثلاثة: "خزانة الأدب، ولُب لُباب لسان العرب" .. وهو شرح شواهد الكافية للرضى في النحو، ¬

_ (¬1) تحدث الأستاذ شاكر عنهم أيضًا في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".

عدة مجلدات، وشرح شواهد الشافية للرضى أيضًا، وهو مجلد واحد، وشرح أبيات مغني اللبيب لابن هشام، في عدة مجلدات (¬1). * * * 2 - "المرتضى الزبيدى" ولد محمد بن عبد الرزاق الحسينى ببلدة بلجرام بالهند "1145 - 1205 هـ/ 1732 - 1790 م" درس العربية وسائر العلوم على علماء الهند. ثم رحل إلى الحجاز "سنة 1163 - 1166، ثم فارقها إلى مصر ولقى مَنْ بها مِنَ العلماء، ونفض ما في مكتباتها من الكتب العتيقة، وبقي بها إلى أن توفي -من سنة 1167، إلى سنة 1205 هـ. ولم يكن طلبة العلم يعرفون من كتب اللغة إلا قليلًا. كالمصباح المنير .. ومختار الصحاح، ثم القاموس المحيط للفيروزبادى على قلة، وكان الزبيدى محيطا بعلوم كثيرة، فكثر عليه طلبة العلم، وأدرك ضعف ما بأيديهم من كتب اللغة، فأراد أن يضع تحت أيديهم كتابا جامعا في اللغة فألف معجمه الكبير "تاج العروس"، وهو شرح لقاموس الفيروزبادى جمع فيه ما تفرق في الكتب، وأشار فيه إلى كثير من دواوين الشعر المحفوظة في المكاتب. وألف لهم أيضًا شرحا على كتاب متداول هو كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالى، فذاع صيته، وطارت شهرته في الآفاق، ووفدت عليه الوفود من بلاد الإسلام كلها، وكاتبه العلماء والملوك من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب والجزائر والسودان. فكان تأليفه وكانت دروسه بعثا للتراث اللغوى والدينى وإحياء لما خفي منه على الناس. * * * 3 - "ابن عبد الوهاب" ولد محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمى النجدى "1115 - 1206 هـ/ 1703 - 1792 م" ببلدة العيينة بنجد، ورحل إلى الحجاز والشام والبصرة، وفتح عينيه على ما يعم نجدا والبلاد التي زارها من البدع التي حدثت، وما غمر العامة والخاصة من الأعمال والعقائد الحادثة، والتي ¬

_ (¬1) وأضيف إلى ذلك: حاشية على شرح "بانت سعاد" في ثلاثة مجلدات.

تخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد، وهي ركن الإِسلام الأكبر فلما عاد إلى نجد، لم يقنع بتأليف الكتب. ورأى أن خير الطرق هو أن يتجه إلى عامة الناس في نجد، ليردهم عن البدع المستحدثة، ويسلك بهم طريق السلف في العمل والعقيدة، ولم يزل دائبا في دعوته، يدعو ويعلم ويكتب، حتى استجاب لدعوته أمير بلدة الدرعية بنجد، الأمير محمد بن سعود في سنة 1175 هـ. فمن يومئذ صارت دعوته قوة متحركة فاتحة في قلب جزيرة العرب، وأحدث ظهور هذه القوة رجة شديدة الدوى في جنبات العالم العربي والإِسلامى، وتلفت الناس يمينا وشمالا، في الهند ومصر والعراق والشام وتركيا والمغرب والسودان. ولشدة وقع هذا الدوى وعنفه، انقسم الناس في أمره بين مؤيد له لصواب ما أتى به، ومعارض له لمناقضته الإلف الذي ألفوه .. وكاد العالم الإِسلامى كله يتحرك ويندمج بعضه في بعض بكل تراثه الضخم، وبكل مواريث حضارته العظيمة، ولكن كان قدر الله أغلب، وحصرت اليقظة الإِسلامية كلها بلا معين، بين أركان الجزيرة العربية الفقيرة يومئذ، وسدت المنافذ، ومزقت الأوصال، وصار الاندماج حلما من الأحلام، يراود الأمة العربية الإِسلامية إلى يوم الناس هذا. ذلك، لأن مغل "مغول" العصر الحديث وتتره كانوا أكثر يقظة، وأوضح هدفا، وأسرع حركة، وأغنى غنى، وأقدر على النهب والسلب والفتك والتدمير، وفي أيديهم دستور حضارتهم الذي وضعه الخبيث مكيافيلى ينير لهم طريق العمل. * * * 4 - "الشوكانى"، ولد محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكانى ببلدة شوكان، من بلاد خولان باليمن، ونشأ بصنعاء، مقر حكم المذهب الزيدى، وهم ينتسبون إلى "زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، - رضي الله عنه -" .. وهم يعدّون من فرق الشيعة. تفقه الشوكانى على مذهب الإمام زيد، وبرع في علمه حتى آل إليه القضاء والإفتاء ولكنه عندئذ خلع ربقة التقليد، وانتصب للاجتهاد، فزيف ما لا يقوم عليه دليل من الكتاب والسنة، فثار

عليه جماعة من المقلدين في ديار الشيعة، فجادلهم وصاولهم، والتزم بعقيدة السلف، وحرم التقليد، وذهب في بيانه مذهب الحافظ ابن عبد البر حيث قال: "التقليد غير الاتباع، لأن الاتباع هو أن تتبع قول القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا تعرف وجه القول ولا معناه، وتأبى مَن سواه وإن تبيّن لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه، وأنت قد بان لك فساد قوله. فهذا يحرم القول به في دين الله. فكان قيام الشوكانى، في محيط الشيعة الزَّيدية، صبحا جديدًا يوشك أن يهز قواعد التعصب الذي درج عليه أصحاب المذاهب من أهل السنة، فضلا عن أتباع الفرق المختلفة وعلى رأسها الفرقة الغالية من الشيعة المعروفة باسم "الاثنا عشرية" المكفرة للصحابة وللأمة كلها، باختيارها أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان -رضي الله عنهم-، دون علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. أوجزت القول في هؤلاء الأربعة العظام، لأن استجابتهم للتحدى المبهم كانت مقيدة في كتب خلفوها، أو أعمال كان لها دوى لا تزال آثاره باقية إلى اليوم، ولأن بشائر البعث والإحياء في كتبهم وأعمالهم أظهر من أن تخفي على أحد، ولا يكاد يجادل فيها إلا من وقع في شرك الرفض لماضيه كله، أو من يغمض عينيه ويعمد إلى الاستخفاف بها بلا تدبر، بل بالتهور واللجاجة. وإذا كنا بالأمس منذ قرون قلائل، صرعى غفلة وفي وَسَنٍ غالب، وعلى الأبواب عدو مدرب، كان أكثر يقظة، وأسرع حركة، وأغني غني، وأقدر على السلب والنهب والتدمير والفتك كما وصفت، فنحن اليوم أيضًا صرعى غفلة أبشع من غفلتنا الأولى، لا نكاد نحس كما أحس أسلافنا، والعدو لا على الأبواب، بل هو متغلغل منتشر يسرح في صميم هذا العالم العربي الإِسلامى المترامى الأطراف، وقد تفوق على أسلافه تفوقا لا يكاد يصدق، في اليقظة المفترسة، وفي وضوح الهدف، وفي سرعة الحركة، وفي الغنى الباذخ، وهو أقدر قدرة ضارية على النهب والسلب والتدمير والفتك، ولا يزال بين يديه، بل ملء قلبه وعقله دستور

مكيافيلى، وقد اتسع وتطور به ونما واستفحل خبثه، وتوحشت ضراوته، وتشعب شره تشعبا لا يكاد يصدق. لذلك وجدت أن الرجل الخامس الذي اخترت أن أذكره في الخمسة العظام، يحتاج خبره إلى تفصيل لم أحتج لمثله وأنا أكتب عن أصحابه الأربعة العظام، فقد جاءوا جميعًا يومئذ ليُحدِثوا شيئًا لم يكن مألوفا، ولكى يشقوا بأنفسهم طريقا غير طريق الإلف، ولكنه انفرد عنهم بأن طريقه في عمله كان أخفى من طريقهم، ولأن تقييد عمله بالكتابة كان أشق، ولأن عمله كان تحت بصر العدو وسمعه لم يغفل عنه طرفة عين، فلما انقضّ علينا وظفر بنا، سار بنا مسارًا يزيد عمله علينا خفاء، بل يفضى إلى ما هو أعظم من الخفاء، أي إلى الطمس الكامل لجميع السبل المؤدية إلى استبانة ما كان من عمله، كيف كان؛ وستأتي القصة كلها واضحة إن شاء الله.

الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا تحدث الأستاذ محمود محمَّد شاكر في العدد الماضي من "الهلال" عن "قضية اللغة العربية" وأربعة من كبار العلماء والأدباء والمفكرين الإِسلاميين، كان لهم شأن عظيم في بعثها وإحيائها وحمايتها من أعدائها الغزاة .. ويكمل الأستاذ شاكر حديثه الشائق، بهذه الصفحات عن "الجبرتى الكبير" والد المؤرخ الجبرتى .. ويرى الأستاذ شاكر أن للجبرتى الكبير شأنا عظيمًا في العلم والأدب، وأنه أحد الورثة العظام لحضارة الأمة العربية، وتراثها العلمي والأدبى. * * * "الجبرتى الكبير" (¬1): ولد حسن بن إبراهيم بن حسن بن علي الجبرتى العقيلي بالقاهرة "1110 - 1188 هـ / 1698 - 1774 م"، وأصله من بلاد الجبرت، من بلاد الزيلع في أرض الحبشة. جاء جده الأعلى الشيخ عبد الرحمن الجبرتى إلى مصر، في أوائل القرن العاشر الهجرى "سنة 900 هـ، وما بعدها بقليل"، فاستوطن مصر، وصار شيخ رواق الجبرت بالأزهر، وتولى مشيخة الرواق أولاده وحفدته من العلماء من بعده وانتهت المشيخة إلى الشيخ العلامة إبراهيم بن حسن الجبرتى، فتوفي سنة 1110 هـ بعد شهر واحد من مولد ولده حسن". كفلت حَسنا جَدته أم أبيه، وكانت موفورة الحظ من الغني، وكان الوصى عليه رجل من ذوى الدين والمهابة، هو الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتى. فما أتم حسن العاشرة من عمره، حتى حفظ القرآن وجَوَّده، ودخل كآبائه في عداد طلبة العلم بالأزهر، فقرأ على أئمة عصره الكبار من العلماء والشيوخ، فأتقن علوم ¬

_ (*) مجلة الهلال، عدد يونيو، سنة 1982، ص 50 - 55. وهذه الفقرة الأولى من تقديم المجلة. (¬1) وتحدث عنه أيضًا في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".

العربية والدين، حتى برع في جميع علوم المعقول والمنقول، وفاق أقرانه، حتى زاحم شيوخ عصره فباحثهم وجادلهم، وصار معدودا في شيوخ الأزهر وعلمائه المتقنين. كان مما درسه وأجاده من العلوم المألوفة في الأزهر يومئذ علم الجبر والمقابلة والأعداد الصم والمساحة والحساب. ثم علت به همته فتعلم تجويد الخط بجميع أشكاله وصوره، ثم زاد فتعلم النقش على الفصوص والخواتم على أستاذ كبير من أساتذة عصره، ثم زاد أيضًا فتعلّم التركية والفارسية، وقرأ بهما وأقتنى الكتب المكتوبة بهما، وكانت غير متداولة، وفيها التصاوير البديعة الصنعة الغريبة الشكل كما سيأتي. . . وجاءت سنة 1144 هـ، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وكان قد صار معدودا في كبار علماء الفقه والعربية وعلم الكلام وسائر العلوم المألوفة في عصره، فحدث تحول غريب جدًا، غير مألوف في حياة أمثاله من الشيوخ يومئذ. وإن لم يفارق طريقه في الفقه والإفتاء وإقراء العلوم المألوفة لعلماء عصره إلى آخر حياته. شيء غريب غريب! ! في الرابعة والثلاثين من عمره، وبلا سبب ظاهر، بدأ هذا العالم الفقيه الجليل يولى وجهه شطر الرياضيات، فكان في زمانه رجل معروف بمدارستها هو الشيخ محمد النجاحي .. فاتجه إليه ولازمه وقرأ عليه ما كان يحسنه من كتب بعينها، وهي كتاب الرقائق للسبط الماردينى، وكتاب المجيب والمقنطر ونتيجة اللاذقى، وكتاب الرضوانية وكتاب الدر لابن المجدى، ومنحرفات السبط الماردينى، و"إلى هنا انتهت معرفة الشيخ النجاحي"، كما يقول ابنه الجبرتى المؤرخ. ولا شك في أن الشيخ حسن لم يكد يفرغ من تحصيل ما عند النجاحي، حتى استقل بأمر نفسه، وأقبل على ذخائر الكتب المحفوظة في مكاتب القاهرة العامرة يومئذ بالكتب، ووقف على أصول كتب الرياضيات وسائر الصناعات بهمة لا تفتر، كما يدل عليه ما سيؤول إليه أمره، ولكن ابنه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى، لم يحدثنا عن ذلك حديثا شافيا، لأنه كان يومئذ نطفه في صلب أبيه،

فقد ولد بعد ذلك بسنين في سنة 1168، أي بعد أربع وعشرين سنة. ولكنه قال ما يشعر بذلك وسأسوقه بلفظه: "وإلى هنا انتهت معرفة الشيخ النجاحي .. وعند ذلك انفتح له الباب، وانكشف عنه الحجاب، وعرف السمت والارتفاع، والتقاسيم والأرباع، والميل الثاني والأول .. والأصل الحقيقي والمعدل، وخالط أرباب المعارف، وكل من كان من بحر الفن غارف .. وحل الرموز، وفتح الكنوز، واستخرج نتائج الذر اليتيم، والتعديل والتقويم. وحقق أشكال الوسائط، في المنحرفات والبسائط، والزيج والمحلولات، وحركات التداوير والنطاقات، والتسهيل والتقريب .. والحل والتركيب، والسهام والظلال، ودقائق الأعمال، وانتهت إليه الرياسة في الصناعة، وأذعن له أهل المعرفة بالطاعة، وسلم له عطارد، وجيمشيد الراصد، وناظره المشترى، وشهد له الطوسي والأبهرى "وهما من أئمة علوم الرياضيات القدماء"، وتبوأ من ذلك العلم مكانا عليا، وزاحم بمنكبه العيوق والثريا". ولا تشغلك الآن هذه الألفاظ الغريبة عنك، فكلها من المصطلحات القديمة المتوارثة في علوم الرياضيات والفلك ورفع الأثقال والكيمياء، وسائر هذه العلوم، التي هجرها أهلها، ولكنها شغلت دوائر العلم في ديار عدوهم قديما وحديثا وإلى هذه الساعة. والأمر على كل حال ظاهر لا خفاء به. ظل الشيخ حسن فيما بعد سنة 1144 دائبا لا يفتر في كشف اللثام عن علوم مستكنة في بطون الأوراق والكتب، فبعد قليل قدم إلى مصر عالم متضلع من العلوم الرياضية والمعارف الحكمية والفلسفية، "كما يقول ابنه المؤرخ"، هو الشيخ حسام الدين الهندى، فنزل بمسجد مصر القديمة "مسجد عمرو بن العاص - رضي الله عنه -"، واجتمع عليه بعض طلبة العلم، فترامى خبره إلى الشيخ حسن في القاهرة، فذهب إليه للأخذ عنه: "فاغتبط به الشيخ وأحبه، وأقبل عليه بكليته". وذلك بلا شك لما وجد عنده من الفهم بعلوم قل أهلها، وبعد عهدهم بها. فلم يزل به الشيخ حسن حتى نقله إلى داره بالقاهرة وأفرد له مكانا، وأكرمه ورفهه، ثم قرأ عليه أمهات الكتب القديمة في الرياضيات والفلك والجغرافيا وعلم

المساحة والهندسة، وسائر علوم الحكمة. وبقي الحسام الهندى عنده إلى أن عزم على الرحلة عائدا إلى بلاده في الهند. وبعد قليل قدم إلى مصر من السودان، عالم بعلوم الرياضيات والحكمة، على مذهب المغاربة في هذه العلوم، وسكن أولا بدرب الأتراك في القاهرة، هو العلامة الإمام محمَّد بن محمَّد الغلاتى، فحمله الشيخ حسن إلى داره، وقرأ عليه أصول الكتب التي يحسنها في الرياضيات والآلات وغيرها، وبقي عنده إلى أن مات في داره سنة 1154، وكان قبل موته قد جعله وصيا على تركته وكتبه. * * * كانت هذه السنوات العشر، "1144 - 1154 هـ"، هي أخطر السنوات في حياة الشيخ حسن الجبرتى، فإنه سلك كل سبيل، وشقى شقاء طويلًا حتى استطاع بذكائه وإصراره وحسن تصوره لما يعانيه، أن يحل لنفسه رموز الكتب العتيقة وألفاظها، وبهذا الجهد والعنت استطاع أن يكشف اللثام عن أسرار العلوم القديمة التي لم يبق في أهل زمانه من يعرفها معرفة تحقيق صحيح كامل، أو قريب من الصحة والكمال. وينبغي أن نعلم أن هذه الكتب العتيقة كانت، بلا شك، هي السجل الأعظم الذي سطرت فيه أبحاث أسلافنا من علماء الحضارة العربية الإسلامية في عصور ازدهارها. فهي تمثل العلم النظرى من ناحية، والتطبيق العملي الذي أدى إلى ظهور أعظم حضارة باذخة رآها العالم الذي نشأت في قلبه وفي زمانه. وهذا التطبيق العملي، هو وليد العلم النظرى، وهو لب الحضارة ومظهرها الحي، وهو ما يسمونه اليوم "التكنولوجيا". وسترى بعد قليل، أن الشيخ حسن، لما فرغ من حل هذه الرموز التي تضمنتها ألفاظا الكتب العتيقة، دخل بيديه وبنفسه وبتلامذته في طور آخر، هو طور التطبيق العملي. وعسى ألا يكون تطبيقه الجديد هو التطبيق العملي الأول، ولكنه على كل حال، استطاع أن يستوعب أسرار العلم النظرى ومناهجه ويفهمها فهما دقيقا مقاربا للصواب، ثم انبرى بعد ذلك لتطبيقه، منتفعا بالبقايا الباقية في

النكبات الثلاث

زمانه من التطبيق القديم. وهذه البقايا متمثلة في أساتذة كل فن وصنعة ممن حوله من المعاصرين. وهؤلاء الأساتذة هم الذين كانوا يزاولون أعمالهم من طريق التوارث بدقة ومهارة أحيانا، وإن كانوا قد وقعوا في الجهالة، بعد أن انقطع الحبل بينهم وبين تراثهم العتيق المكتوب المسجل، وبلا قدرة أيضًا على أن يسجلوا شيئًا من براعاتهم ومهاراتهم التي اهتدوا هم إليها في خلال التطبيق المتوارث. وذلك لجهل أكثرهم بالقراءة والكتابة، فضلا عن اللغة التي يقيد ببها العلم النظرى الذي قيده بها أسلافهم العظام. النكبات الثلاث وأنا محتاج هنا أن أقف بك وقفة قصيرة المدى، ملتزمًا بالإيجاز، حتى تكون الصورة بعد ذلك واضحة عندك بعض الوضوح. على أوسع رقعة من الأرض عرفها الإنسان، من حدود الصين إلى الأندلس، ومن حدود الدولة البيزنطة شمالا إلى أواسط قارة أفريقيا وأقصى آسية جنوبا، انتشرت ثقافة واحدة ذات لغة واحدة، تأوى إليها جميع ألسنة أجناسها المختلفة، فأقامت هذه الأمة العربية الإِسلامية أعظم حضارة عرفها البشر، منذ عهد الحضارة العربية البائدة التي نسميها اليوم خطأ، حضارة الفراعنة. ومضت عليها خمسة قرون، وحيث سرت في هذه الرقعة المتراحبة، لم تزل تسمع أصوات الأساتذة المعلمين، وصرير الأقلام على الطروس، في كل قرية أو رستاق أو مدينة، ولم تزل ترى في كل مسجد أو بناء أو بيت مكتبةً تضم العشرات أو المئات أو الآلاف، أو الآلاف المؤلفة من الكتب المسطورة على اختلاف فنونها. فاجتمع لهذه الأمة من الكتب المدونة، ما لو وضع معه كل ما تركته أمم العالم القديم من الكلام المسطور، ما بلغ ركنا، في غرفة، من قصر فيه مئات الغرف. وأترفت جماهير من هذه الأمة بغناها وسطوتها وعلمها، فعصوا ربهم في بعض أمورهم به، فسلط عليهم من أنفسهم من سلط، ثم أنذرهم بثلاث نكبات عظام لعلهم يبصرون:

النكبة الأولى: زحوف حملة الصليب آتية إلى شمال دولتهم من سنة 489 - 690 هـ / 1095 - 1291 م، حتى سقطت دولتهم بفتح عكا آخر حصن للصليبيين في السابع عشر من جمادى الآخرة سنة 690 هـ. النكبة الثانية: وجاءت على أثرها وهي جحافل التتر آتية من الشمال الشرقي من سنة 638 هـ "1240 م"، فداست البلاد حتى بلغت وأسقطت الخلافة سنة 658 هـ "1258 م" حتى ارتدت على أدبارها عند عين جالوت بفلسطين سنة 658 هـ "1259 م"، ولكن شرها لم ينقطع جملة واحدة، في قصة طويلة. النكبة الثالثة الكبرى: وهي التي استمرت سنوات، حتى زال ملك الإسلام من الأندلس جملة بسقوط غرناطة في أيديهم سنة 897 هـ "1492 م". وكانت جحافل هذه النكبات الثلاث، جحافل من الجهلة الأغتام الغلاظ، فدمروا وقتلوا ونهبوا، فهدموا الآثار، وأفنوا البشر، وحرقوا الكتب، وأغرقوها في الأنهار، كما هو معروف معلوم. موجات طاغية من الجهلة المدمرين، استمرت أربعة قرون، تهلك آلافا مؤلفة من العلماء والأساتذة في كل علم وفن، وآلافا أخرى من الكتب في كل علم وفن، فضلا عما أبادته فتن الباطنية والشيعة وأشباههم في قلب الدولة فضلا عما أبادته المجاعات والطواعين والأوبئة المتتابعة فضلا عن الفقر والجهل الذي كان أثرا لابد منه، بعد هذا السلب والنهب والقتل في هذه الرقعة المترامية الأطراف. ولكن ما كادت تنقشع بعض سحب النكبتين الأولى والثانية، حتى انتفض العالم الجريح المثخن مرة أخرى، لا من قلبه، بل من عند طرفه الشمالى المزاحم لديار الدولة البيزنطة، أي من حيث انصبت جحافل حملة الصليب من قبل. فمنذ عهد الغازى عثمان خان "699 - 726 هـ / 1298 - 1326 م"، بدأت تتجمع هناك قوة جديدة، وقلب العالم العربي الإسلامي تمزقه النكبات الصغار المتتابعة. وتوطدت أقدام القوة الجديدة في أرض الدولة البيزنطية، حتى بلغت غايتها، فأسقطت الدولة كلها بدخول جيوش الغازى محمد الفاتح القسطنطينية، في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857 هـ/ 29 مايو

1453 م واكتسحت هذه القوة قلب أوربة، واتسعت رقعة العالم العربي الإسلامي اتساعا لا مثيل له، ولكن. . ولكن توالى النكبات الكبار والصغار على مدى أربعة قرون، كان قد قضى على جمهرة العلماء الكبار والأساتذة العظام في كل فن وصناعة، وأوشكت الحضارة أن تبقى بلا قادة من مثقفيها إلا ما قَلَّ. ومعنى ذلك أن حبال الصلة بين العقول التي كانت تسجل الثقافة وتنميها وتفسرها. . وبين العقول والأيدى التي كانت تقيم صروح الحضارة، قد بدأت تتهتك وتبلى، فلا الثقافة تمدّ الحضارة بما ينميها من البحث والتنقيب والتمحيص، ولا الحضارة تحرك الثقافة وتغذيها بما يزيد أبحائها وتنقيبها وتمحيصها حدة ونقاء وإشراقا، وكاد يذهب عصر الإبداع. وبدأ عصر العزلة، عزلة البقية الباقية من العلماء وتلامذتهم، فاقتصروا على محاولة المحافظة على التراث المسجل الذي انتهى إليهم، وعزلة البقية الباقية من الأساتذة الكبار الذين يعملون في بناء الحضارة، فاقتصروا على أن يورثوا تلامذتهم أسرار صناعاتهم وفنونهم بلا كتاب مكتوب. وكاد كلاهما يكون بمعزل عن الآخر، بمعزل عن الاستفادة الصحيحة من التراث الكبير المسجل، وعن إمداد التراث المسجل بشيء جديد يحرك المحافطين على التراث المكتوب إلى البحث والتنقيب والتسجيل. وبتفانى الأجيال جيلا بعد جيل في عصر العزلة، استبهم على المثقفين أنفسهم بعض ما يحافظون عليه من التراث المكتوب، وصار أشبه بالرموز التي تحتاج إلى مفسر، وكذلك تساقط أيضا في توارث الصناعات والفنون جزء مهم من أسرار هذه الفنون والصناعات، وصارت هي أيضا تحتاج إلى مفسر. وأوشك اللسان العربي أن يصبح وسيطا غير صالح لإيجاد التفاهم بين الطرفين. ولولا دوى القرآن في الأذان، ولولا كلمة التوحيد التي نزلت في جذر قلوب الأمة رجالا ونساء، لَتَفارَطَ عقد هذه الأمة العظيمة تحت النكبات كما تتفارط حبات عِقد وَهَى سِلْكُه وهلك. وهذا حسبى في هذه الوقفة. وإن كنت أجدني مقصرا.

الجبرتى الكبير

الجبرتى الكبير جاء زمن الشيخ حسن الجبرتى "1110 - 1188 هـ / 1698 - 1774 م"، بعد تدهور متتابع، وكاد اللسان العربي العظيم يفقد سلطانه على حضارته. أصبحت معاهد العلم ومدارس الثقافة محصورة في بضعة كتب هي وحدها الزاد الثقافي للأمة، ألفها الناس وتداولوها. ولكنها لم تكن سوى خلاصة منتقاة من زاد ثقافي متقادم متراحب كان نابضا بالحياة، وقد قضى على ما نجا منه تدمير البرابرة الجهلة، أن يظل حبيسًا أكثره بين الجدران وعلى الرفوف في خزائن الكتب، ومع ذلك فهذه الخلاصة تحملها أيدى نيام من الشقاء والنصب قد أنهكتهم النكبات، لا يدل على أنهم ينبضون بالحياة إلا ومضات تلوح وتخفى في تقارير وحواش يسجلونها على كتب هذه الخلاصة. ومضات مضيئة، تسجل فترات قصارا من اليقظة والذكاء والقدرة والتنبه. ومع ذلك أيضا، كان هذا النبض محصورا في طائفة محدودة من فحول علماء ذلك الزمان، ولكنه معزول أيضا عن أمة ضخمة جدا غارقة في الجهالة والفقر والضياع، يجهل جمهورها الأكبر القراءة والكتابة، إلا محفوظا يسيرا يتردد خافتا، بقية من ميراث عظيم يوشك أن يبيد. فإذا كان الشيخ الجبرتى، وهو أحد الورثة العظام لحضارة أمته العريقة العظيمة. . قد هب فجأة وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وانتبه عقله المتوقد بعد غفوة طويلة، فانبرى لهدفه بكل ما في قلبه من همة ودأب وذكاء. وآثر أن يقضى عشر سنوات "من سنة 1144 إلى سنة 1154 هـ". . متلددا متحيرا يحاول أن يفك رموز جزء يسير من ميراثه الضخم العظيم. . "حتى انفتح له الباب وانكشف عنه الحجاب" كما يقول ابنه المؤرخ العظيم في عبارة غير كاشفة إلا عن دهشة وحيرة. إذا كان هذا كما وصفت، فلا تعجب، فإنه جاء بعد قرون أهلكت آلافا مؤلفة من العلماء المسجلين والمفسرين، وآلافا تفرقها من الأساتذة الخبراء بأسرار فنونهم والحاذقين، وأيضا بعد أن فقد اللسان العربي سلطانه على حضارته أو كاد.

ومع ذلك، فهذه مشيئة الله وحده، جاء الشيخ الجبرتى متأخرا لقدر لا يعلمه إلا مقدر المقادير، فهذا الجهد الذي بذله عاكفا على حل رموز ميراثه العظيم المسطور في خزائن الكتب، والطريق الذي سوف يسلكه بعد ذلك للإحياء والبعث، كان قد سبقه إلى مثله منذ قرون من ليس وارثًا لهذا الميراث العظيم، وفي كهوفه المظلمة أكب على حل هذه الرموز إكبابا، فاستخرج منها ما أطاق أن يفهمه من عربيتها بأسلوب مختلف، ولكنه كان مفسرا خبيثا ينتهب كل شيء تحت الليل والظلام، ولا يدل أحدا على موضع الكنز الذي يأخذ منه ما يأخذ. ولكن هذه قصة أخرى مخزية دنيئة، سوف أقصها عليك وأنا أسرد قصة الشيخ الجبرتى. .

الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر الحديث هذه الأيام عن كتاب ألف ليلة وليلة، مؤسف ومحزن في الوقت نفسه، وفي ظنى أن المعلن حتى بهذه الكيفية المؤسفة المحزنة حول هذا الكتاب أقل بكثير إذا قيس بمثيله غير المعلن. والذي ربما يكشف عن جوانب سيئة رهيبة مخيفة. . تضاف إلى غيرها من الجوانب التي تندرج في النهاية تحت عنوان فساد حياتنا الثقافية بوجه عام. هذا الفساد الذي لم يكن وليد هذه الأيام وإنما يرجع تاريخه إلى عشرات السنين. لذلك أرى أن المسألة قبل أن تكون احتراما للتراث الذي ينبغي علينا احترامه والمحافظة عليه هي احترام لعقولنا التي تمتهن بمثل هذا الأسلوب. . الذي من صُوَرِه أن ينظر أحدنا إلى الأشياء نظرة مختلة. وفي الأغلب والأعم يعلم البعض كنه هذه النظرة. ومع ذلك نجد أن هذا البعض يشاء -قاصدًا أو غير قاصد- التأثر بهذه النظرة، ويستطيب له مواصلة السير مع صاحب هذه النظرة المختلة. وتكون النتيجة التي لا مفر منها هي أن تتسم أحوالنا بأنها ولدت في غيبة تامة من التفكير العقلي والنظرة الصحيحة، والرؤية الهادئة. وهكذا تكون أغلب أفعالنا، وتكون النتيجة المنتظرة. . فسادا وتضليلًا وزيفا وغشًّا لأمور واضحة أمامنا. مثلا إن ما يثار حول كتاب ألف ليلة وليلة، وخلاصته أن في هذا الكتاب من الألفاظ المكشوفة ما يمكن أن يفسد عقول شباب وشابات هذه الأمة. ولذلك يقدم الكتاب للمحاكمة. هذا الذي يثار حول هذا الكتاب يقدم دليلًا جديدًا لهذا السخف اخترناه لمسيرة حياتنا الثقافية. هذه القضية كانت تتطلب منا معالجة أخرى غير ما تعاملنا به معها. كانت ¬

_ (*) مجلة القاهرة، العدد الرابع عشر. الثلاثاء 7 مايو سنة 1985 م- 17 شعبان سنة 1405 هـ، ص 7.

تتطلب منا -إذا أردنا تحري الدقة- بحثا هادئًا يبدأ بقراءة أجزاء هذا الكتاب نفسه، والوقوف طويلًا عند صفحاته، وتأمل عباراته وسطوره، واستخراج هذه الألفاظ التي ترى أنها مفسدة للعقول، كل لفظ حسب موقعه من السطر والصفحة والجزء، ولنرى بعد ذلك حاصل ما يجتمع لدينا من هذه الألفاظ. عندئذ سوف نجد أن ما يجتمع لدينا لا يزيد عن الصفحة أو الصفحتين على أكثر تقدير من الألفاظ المتكررة منتشرة على صفحات المجلدات الأربعة من كتاب ألف ليلة وليلة. وتأتي الخطوة الثانية بأن نسأل عما لدينا من ألفاظ مكشوفة جمعناها من الكتاب وهل هذه الألفاظ المكشوفة معروفة لنا أم مجهولة؟ وهل لكوننا لا نستعمل هذه الألفاظ في كتاباتنا معناه اتهامها ومحاكمتها؟ بعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة وهي حول بحث درجة تأثير هذه الألفاظ المكشوفة كل على حدة. إذا فعلنا ذلك فسوف لا نجد لها أي تأثير. بل إننا إذا قمنا بمقارنة هذه الألفاظ المكشوفة التي نستهجنها ونطالب بمحاكمتها بغيرها من الصور والتراكيب التي تزخر بها كتابات هذا الزمان نجد أن هذه الألفاظ أرحم بكثير مما تقرأه من صور وتراكيب مصنوعة وموضوعة على الصفحات بأسلوب معين يجعل لها أكبر التأثير بالنسبة لأبنائنا وبناتنا. أقول ذلك بالنسبة للكلمة المقروءة أما بالنسبة للكلمة المسموعة أو المشاهدة فالأمر جد فادح وخطير. وإلا فليجلس أحدنا ساعة أو بعض ساعة أمام شاشة التليفزيون، ولا أقول الفيديو بالطبع، بعد هذه الساعة سوف يحكم أن ما جاء في كتاب ألف ليلة وليلة أرحم بكثير مما يشاهد. وإذا فعل هذا الأمر مع الإذاعة فأسلم أذنيه لما يصدر عن المذياع لاكتشف أن أمر ألفاظ ألف ليلة وليلة أرحم. وليس معنى هذا أن نلغي من حياتنا الفيديو أو التليفزيون أو المذياع ومن قبلها كتابات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم. بالقطع لا. والسبب أن الحياة مليئة بالأشياء المتلفة، وأنت لا تستطيع أن توقفها. فقط

ما يمكنك صنعه ألا تسمح لنفسك بالتعامل مع ما تراه متلفا من الأشياء أو تسمح بالتعامل وبالكيفية التي تريد. هذا هو الأسلوب نفسه الذي ينبغي أن نفعله بالنسبة لكتاب صدر منذ ألف سنة ككتاب ألف ليلة وليلة. من حق بعضنا أن يقرأه أو لا يقرأه. لكن الذي ليس من حقنا جميعا أن نحكم بإلغائه أو بحرقه! فالثابت أن هذا الكتاب وجد منذ مئات السنين، وخلال هذه السنين قرأه الناس، ولم يحدث مرة أن قيل إن هذا الكتاب أفسد عقل جيل أو عرض إلى انحلال مجتمع. إن غاية ما يراه البعض في اتهامهم لهذا الكتاب هو أن به ألفاظًا مكشوفة تنتشر على صفحاته! هذه الألفاظ في رأيي لا خوف منها. فهي ألفاظ العلم نفسه. وإذا كان لها تأثير ضار، فكيف يستخدمها علماء اللغة وأصحابها. أقول إنها ليست ألفاظا ضارة وإنها ألفاظ طبيعية وعادية يستخدمها البشر في كل مكان. وليس من مصلحة البشر أن يجهل مثل هذه الألفاظ. فهي ضرورة من ضرورات الحياة. . العلمية منها أو الاجتماعية. ومن هنا أرى أن ما يثار الآن حول كتاب ألف ليلة وليلة مثل من أمثلة فساد حياتنا الثقافية بوجه عام.

مقدمة كتاب (حياة الرافعي) لسعيد العريان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنْ كُنْتَ لَسْتَ مَعِى، فَالذِّكْرُ مِنْكَ مَعى ... يَرَاكَ قَلْبى وَإنْ غُيِّبْتَ عَنْ بَصَرِى الْعَينُ تُبصِرُ مَنْ تَهْوَى وتَفْقِدُهُ ... ونَاظرُ الْقَلْبِ لَا يَخْلُو منَ النَّظَرِ رحمك الله "أبا السامى" (¬1) ورضى عنك، وغفر لك ما تقدّم من ذنبك، وجزاك خيرًا عن جهادك {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}. * * * كتب "سعيدٌ" -لا أَخلَى الله مكانه وخُطِّئَ عنه السوء- هذا الكتابَ الذي يسعى بين يديه، يردُّ به إلى الحياة حياةً استدبرت الدنيا وأقبلت على الآخرة بما قدّمتْ من عمل، وثَمَّ الميزانُ الذي لا يخطئ، والناقد الذي لا يجوز عليه الزيف، والحاكم الذي لا يقدح في عدله ظلم ولا جور، والبصيرُ الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، قد استوت عنده دُجُنَّة السر ونهارُ العلانية. وقد فرغ الرافعي -رحمه الله- من أمر الناس إلى خاصة نفسه، ولكن الناس لا يفرغون من أمر موتاهم، ولو فرغوا لكان التاريخ أكفانًا تُطوَى على الرمم، ¬

_ (*) هذا المقال هو المقدمة التي كتبها الأستاذ شاكر وصدر بها كتاب سعيد العريان، عن الرافعي بعنوان "حياة الرافعي" رحمهم الله جميعا. وصدرت طبعته الأولى سنة 1938 (¬1) كذلك كانت كنيته. واسم ابنه البكر: محمود سامى الرافعي، وإنما سماه كذلك تشبيهًا له باسم الشاعر محمود سامى البارودى، وإليه كان ينظر في صدر أيامه (شاكر).

لا أثوابا تُلقَى على الميت لتنشره مرة أخرى حديثا يُؤْثر وخبرًا يُرْوَى وعملا يتمثل وكأنْ قد كان بعد إذ لم يكن. وهذا كتاب يقدّمه "سعيدٌ" إلى العربية وقرّائها، يجعله كالمقدّمة التي لابد منها لمن أراد أن يعرف أمر الرافعي من قريب. لقد عاش الرافعي دهرًا يتصرف فيما يتصرف فيه الناس على عاداتهم، وتُصَرِّفُه أعمالُ الحياة على نهجها الذي اقتسرتْه عليه أو مهدته له أو وطَّأت به لتكوين المزاج الأدبيِّ الذي لا يعدمه حيٌّ ولا يخلو من مسِّه بشرٌ. وأنا -مما عرفت الرافعي -رحمه الله- ودنوت إليه ووصلت سببًا مني بأسباب منه- أشهد لهذا الكتاب بأنه قد استقصى من أخبار الرافعي كثيرًا إلى قليل مما عُرِف عن غيره ممن فرَط من شيوخنا وكتابنا وأدبائنا وشعرائنا؛ وتلك يدٌ لسعيد على الأدب العربي، وهي أُخرى على التاريخ. ولو قد يَسَّر الله لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقًا وفيًّا ينقله إلى الناس أحاديثَ وأخبارًا وأعمالا كما يسَّر الله للرافعي، لما أضلَّت العربية مجدَ أدبائها وعلمائها، ولما تفلَّت من أدبها علمُ أسرارِ الأساليب وعلمُ وجوه المعاني التي تعتلجُ في النفوس وترتكض في القلوب حتى يؤذَن لها أن تكون أدبا يصطفى وعلما يتوارث وفنًّا يتبلّجُ على سواد الحياة فتسفر عن مكنونها متكشِّفة بارزة تتأنق للنفس حتى تستوى بمعانيها وأسرارها على أسباب الفرح ودواعي السرور وما قبلُ وما بعدُ. والتاريخ ضربان يترادفان على معناه، ولكل فضل: فأوله رواية الخبر والقصَّة والعمل، وما كان كيف كان وإلى أين انتهى؛ وهذا هو الذي انتهى إلينا من علم التاريخ العربي في جملته، وعمود هذا الباب صدقُ الحديث، وطولُ التحرّى والاستقصاء والتتبع، وتسقُّط الأخبار من مواقعها، وتَوخِّى الحقيقة في الطلب حتى لا يختلط باطلٌ بحق. وأما التاريخ الثاني فإيجاد حياة قد خرجت من الحياة، وردٌّ ميت من قبر مغلق إلى كتاب مفتوح، وضمُّ متفرق يتبعثر في الألسنة حتى يتمثل صورة تلوح للمتأمّل، وهذا الثاني هو الذي عليه العمل في الإدراك البيانى لحقائق الشعراء والكتاب ومَن إليهم؛ ومع ذلك فهو لا يكاد يكون شيئا إلا

بالأول، وإلا بقى اجتهادا محضا تموت الحقائق فيه أو تحيا على قدر حظ المؤرّخ والناقد من حسن النظر ونفاذ البصيرة، ومساغِه في أسرار البيان متوجها مع الدلالة مقبلا مدبرا، متوقيًا عثرةً تكبُّه على وجهه، متابعًا مَدْرجة الطبائع الإنسانية -على تباينها واختلافها- حثى يُشرف على حيث يملك البصر والتمييز ورؤية الخافي وتوهم البعيد، ويكون عمل المؤرخ يومئذ نكسة يعود بها إلى توهم أخبار كانت وأحداث يخالها وقعتْ، ويجهد في ذلك جهدا لقد غني عنه لو قد تساوقت إليه أخبار حياة الشاعر أو الكاتب واجتمعت لديه وأُلقيت إليه كما كانت أو كما شاهدها من صَحِبه واتصل به ونفذ إلى بعض ما ينفذ إليه الإنسان من حال أخيه الإنسان. وبعدُ، فإن أكثر ما نعرفه من أدب وشعر في عصور الاندحار التي مُنيت بها العربية يكاد يكون تلفيقًا ظاهرًا على البيان والتاريخ معًا، حتى ليضل الناقِدُ ضلال السالك في نفق ممتد قد ذهب شعابا متعانقة متنافرة في جوف الأرض؛ ثم جاء العصر الذي نحن فيه فأبطلت عاميتُه البيانَ في الأدب والشعر من ناحية، ودلسهما ما أُغرى به الكثرةُ من استعارة العاطفة واقتراض الإحساس من ناحية أخرى؛ فإني لأقرأُ للكاتب أو الشاعر وأتدبر وأترفق وأترقى. . . وإذا هو عَيْبة ممتلئة قد أُشْرِجَتْ على المعاني والعواطف فلو قُطع الخيط الذي يشدّها لانقطعت كلُّ شاردةٍ نافرةً إلى وطنها تشتدّ؛ وبمثل هذا يخوض المؤرخ في رَدَغة مستوحِلة يتزلَّق فيها ههنا وثمّ، ويتقطع في الرأي وتتهالك الحقائق بين يديه حتى يصير الشاعر وشعرُه والأديب وأدبه أسمالا متخرِّقة بالية يمسح بها المؤرّخ عن نفسه آثار ما وحِل فيه! وقد ابتُلى الأدبُ العربي في هذا العصر بهؤلاء الذين أوجفتْ بهم مطايا الغرور في طلب الشهرة والصيت والسماع، فخبطوا وتورّطوا ظلماءَ سالكُها مغترّ، وقد كان احتباسهم وإمساكهم عما نصبوا وجوههم له، واصطبارُهم على ذل الطلب، وممارستُهم معضلَ ما أرادوه، وتأنِّيهم في النية والبصر والعزم عسى أن يحملهم على استثارة ما ركبه الإهمال من العواطف التي تعمل وحدها إذا تنسمت روح

الحياة، واستنباط النبع القديم الذي ورثته الإنسانية من حياتها الطبيعية الأولى ثم طمتْ عليه أدرانُ المدنيات المتعاقبة. والشعر والأدب كلاهما عاطفة وإحساس ينبعان من أصل القلب الإنساني؛ هذا القلب الذي أُثبت من داخل بين الحنايا والضلوع ليكون أصفى شيء وأطهرَ شيء وأخفى شيء، وليمس كل عمل من قريب ليصفيه ويطهره ويسدل عليه من روحه شفًّا رقيقًا لا يستر، بل يصف ما وراءه صفة باقية بقاء الروح، ويبرئها من دنس الوحشية التي تطويها في كفن من بضائع الموتى؛ فأيما شاعر أو أديب قال فإنما بقلبه وجب أن يقول ومِن داخله كُتِبَ عليه أن يتكلم، وإنما اللسان آلة تنقل ما في داخل إلى خارج حَسْب؛ فإن كلفها أحد أن تنقل على غير طبيعتها في الأداء -وهي الصلة التي انعقدت بينها وبين القلب على هذا القانون- فقد أوقع الخللَ فيها ووقع الفسادُ والتخالف والإحالة والبطلان فيما تؤدّيه أو تنقله. وقد نشأ الرافعي من أوّليته أديبًا يريد أن يشعر ويكتب ويتأدّب، وسلخ شبابه يعمل حتى أمكنته اللغةُ من قيادها وألقت إليه بأسرارها فكان عالمًا في العربية يقول الشعر، ولو وقف الرافعي عند ذلك لدرج فيمن درج من الشعراء والكتاب والعلماء الذين عاصروه، ولو أنه استنام إلى بعض الصيت الذي أدركه وحازه واحتمله في أمره الغرور لخف من بعدُ في ميزان الأدب حتى يرجح به مِن بعدُ مَنْ عسى أن يكون أخفَّ منه؛ ولكن الرافعي خرج من هذه الفتن -التي لفّت كثرةَ الشعراء والأدباء والتقمتهم فمضغتهم فطحنتهم ثم لفظتهم- وقد وَجد نفسَه واهتدى إليها، وعرف حقيقة أدبه وما ينبغي له وما يجب عليه. فأمَرَّ ما أفاد من علم وأدب على قلبه ليؤدّى عنه، وبرئ أن يكون كبعض مشاهير الكتاب والشعراء ممن يُطيح بالقول من أعلى رأسه إلى أسفل القرطاس، وللقارئ من قنابله بعد ذلك ما يتشظَّى في وجهه وما يتطاير. لهذا كان الرافعيُّ من الكتاب والأدباء والشعراء الذين تُتخذ حياتُهم ميزانًا لأعمالهم وآثارهم، ولذلك كان كتاب "سعيد" عن حياته من الجلالة بالموضع الذي يسمو إليه كل مبصر، ومن الضرورة بالمكان الذي يلجأ إليه كل طالب.

عرفت الرافعي معرفة الرأي أول ما عرفته، ثم عرفتُه معرفة الصحبة فيما بعد، وعرضْت هذا على ذاك فيما بيني وبين نفسي فلم أجد إلا خيرًا مما كنت أرى، وتبدَّت لي إنسانيةُ هذا الرجل كأنها نغمة تجاوب أختها في ذلك الأديب الكاتب الشاعر، وظفرت بحبيب يحبنى وأحبه، لأن القلب هو الذي كان يعمل بيني وبينه وكان في أدبه مسُّ هذا القلب؛ فمن هنا كنت أتلقى كلامه فأفهم عنه ما يكاد يخفي على من هو أمثلُ مني بالأدب وأقْوم على العلم وأبصَر بمواضع الرأي. وامتياز الرافعي بقلبه هو سر البيان فيما تداوله من معاني الشعر والأدب؛ وهو سرُّ حفاوته بالخواطر ومذاهب الآراء، وسر إحسانه في مهنتها وتدبيرها وسياستها كما يحسن أحدهم مهنة المال ورَبَّه والقيامَ عليه؛ وهو سر علوِّه على من ينخشُّ في الأدب كالعَظْمة الجاسية تنشبُ في حلق متعاطيه، لا يُبقى عليه من هوادة ولا رفق، وبخاصة حين يكون هذا الناشب ممن تسامى على حين غفلة يوم مَرِج أمرُ الناس واختلط، أو كان مرهقًا في إيمانه مُتهمًا في دينه؛ إذ كان الإيمان في قلب الرافعي دمًا يجرى في دمه، نورًا يضئُ له في مجاهل الفكر والعاطفة ويسنِّى له ما أَعسر إذا تعاندت الآراء واختلفت وتعارضت وأكذبَ بعضُها بعضًا. هذا، وقد أرخيت للقول حتى بلغ، وكنتُ حقيقًا أن أغور إلى سرّ البيان واعتلاقه من العاطفة والهوى في قول الشاعر والكاتب والأديب لأسدِّد الرأي إلى مرماه، وقد يطولُ ذلك حتى لا تكفي له فاتحة كتاب أو كتابٌ مفرد، فإن البيان هو سرُّ النفس الشاعرة مكفوفا وراءَ لفظٍ، وما كان ذلك سبيله لا يتأتى إلا بالتفصيل والتمييز والشرح، ولا تُغني فيه جملة القول شيئًا من غناء. وحقيقٌ بمن يقرأُ هذا الكتاب أن يعود إلى كتب الرافعي بالمراجعة فيستنبئها التفصيل والشرح، وبذلك يقع على مادة تمدّه في دراسة فنون الأسلوب، وكيف يتوجهُ بفنّ الكاتب، وكيف يتصرف فيه الكاتب بحسٍّ من قلبه لا يخطئ أن يجعل المعنى واللفظ سابقين إلى غرض متواطئين على معنى لا يجوران فيجاوزانه أو يقعان دونه.

رحمة الله عليه، لقد شارك الأوائل عقولهم بفكره، ونزع إليهم بحنينه، وفلج أهلَ عصره بالبيان حين استعجمتْ قلوبهم وارتضخت عربيتُهم لُكنةً غير عربية، ثم صار إلى أن أصبح ميراثًا نتوارثه، وأدبًا نتدارسه، وحنانًا نأوى إليه. رحمة الله عليه!

مقدمة كتاب (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) للشيخ محمد عبد الخالق عضيمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله وَحْدَه لا شريكَ له، أَنْزَل الكتابَ بالحقّ، لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْه ولا من خَلْفِه. وصلّى الله على خِيرتِهِ مِنْ خَلْقِه، محمّدٍ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تسليما كثيرًا، بلَّغَ الرسالةَ، وأَدّى الأمانةَ، وتَرَكَ الناس على المَحَجّةِ الواضحة بِنُورِ القرآنِ الذي لا يَخْبو نُورُه، وضياء السنَّةِ التي لا يَخْفُتُ ضِياؤها. وبعدُ: فماذا يقول القائل في عَمَل قام به فَرْدٌ واحِدٌ، لو قامتْ عليه جماعةٌ لكان لها مَفْخَرة باقيةً؟ فمن التواضُع أَنْ يُسَمَّى هذا العملُ الذي يَعْرِضُه عليك هذا الكتابُ "مُعْجَمًا نَحْويًّا صرْفيّا للقرآن العظيم". فمعلومٌ أَنَّ جُلَّ اعتماد المعاجم قائمٌ على الْحَصْر والترتيبِ. أمّا هذا الكتاب، فالْحَصْر والترتيب مُجَرَّد صورةٍ مُخطَّطة يعتمِدُ عليها. أمّا القاعدة العُظْمى التي يقوم عليها، فهي معرفةٌ واسعةٌ مسْتوعِبةْ تامّةٌ لدقائِقِ عِلْم النحوِ، وعِلْم الصرف، وعِلْم اختلافِ الأساليب. ولولا هذه المعرفةُ لم يَتَيِسَّرْ لصاحبهِ أَنْ يوقِّع في حصْره من حروف المعاني وتصاريفِ اللغة على أبوابها من علم النحو، وعلم الصرف، وعلم أساليب اللغة. وهذا العملُ الجليلُ الذي تولّاه أستاذنا الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة والذي أَفْنَى فيه خمسةً وعِشرين عاما طوِالًا، والذي يَعْرِض عليك منه هذا القسمَ الأوّلَ إنما هو جُزْءٌ مِنْ عَملٍ ضَخْمٍ لم يَسْبقْه إليه أحدٌ، ولا أظنّ أنّ أحدًا من أَهْلِ زماننا كان قادرًا عليه بمفرده. فإنّ الشيخ قد أُوتى جَلَدًا وصبرًا ومعرفة، وأمانةً في الاطّلاع، ودِقَّةً في التحرِّى لم أَجدها متوافرةً لكثير ممّن عرفت. ¬

_ (*) هذا التصدير كتبه الأستاذ شاكر في الجزء الأول من "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" للشيخ العلامة محمد عبد الخالق عضيمة. طبع مطبعة السعادة، القاهرة 1972.

وحروف المعاني التي يتناولها هذا القسمُ الأوّلُ من جَمْهَرَةِ علم القرآن العظيم (¬1)، أَصْعَبُ أبوابِ هذه الْجَمْهرةِ، لكثرتها وتَداخُلِ معانيها. فقلّ أن تخلُوَ آيةٌ من القرآن العظيم من حرْفٍ من حروفِ المعاني. أمّا المشقَّةُ العظيمةُ، فهي في وجوهِ اختلافِ مواقع هذه الحروفِ من الْجُمَلِ؛ ثمّ اختلافِ معانيها باختلافِ مواقعِها، ثمّ ملاحظةِ الفروقِ الدقيقة التي يَقْتضيها هذا الاختلافُ في دلالته المؤثِّرةِ في معاني الآيات. وهذا وَحْدَه أساس عِلْمٍ جليل من علوم القرآن العظيم. وسترى في هذا القسم العَمَلَ المُتْقَنَ الذي تولّاه أستاذنا الجليل، مواضِع كثيرة من الاستدراكِ على النحاة منذ سيبويه إلى ابن هشام، ولكن ليس معْنَى هذا أن نَبْخَس الشُّيُوخَ الأوائلَ نَصِيبَهم من التَّفوُّقِ الهائلِ الذي يُذْهِل العقول، ولكن مَعْناه أنّ الأساس الذي أَسَّسوه في أزْمِنَتهِم المتطاولةِ كان ينْقُصُه هذا الْحَصْرُ الدقيق لكلِّ ما في القرآن العظيم من حروفِ المعاني، وكان هذا الْحَصْر خارجا يومئذٍ عن طاقَتهم، فإن الذي أعان عليه هو الطباعةُ التي استحدثت في زماننا. والناظر في كُتُبِ القدماء لا يُخطئه أن يرى أنّهمِ قاموا بِحَصْرٍ غير تامٍّ، بيْدَ أنّ هذا القَدْرَ الذي قاموا به هو في ذاته عَملٌ فوق الجليلِ وفوق الطاقةِ. ويظنّ أستاذنا الشيخ عضيمة أنّ الأوائلَ قد شَغَلَهم الشِّعْرُ عن النظَر في شواهدِ القرآن العظيم، وأظنّ أنّ الذي تولّاه أستاذنا من حصْرِ هذه الأشياءِ في القرآنِ العظيم، وتنزيلها في منازِلها من أبواب علْم النحو وعلْم الصرف، وعلْم أساليب اللغة، مقدّمة فائقةُ الدلالة، لعَمل آخر ينبغي أن تتولّاه جماعةٌ منظَّمةٌ في حصْرِ ما في الشِّعْرِ الجاهليّ والإسلاميّ من حروفِ المعاني، ومن تصاريفِ اللغة، ومن اختلافِ الأساليب ودلالتها. والذي ظنّ الأستاذ أنّ القدماء قد فَرَّغوا هِمَمَهُمْ له، هو في الحقيقة ناقصٌ يحتاج إلى تمامٍ، وتمامه أن يُهيِّئَ الله للناس منْ يقوم لهم في الشِّعْرِ بمثلِ ما قام به هو في القرآن العظيم. ¬

_ (¬1) "الجمهرة": هذه اللفظة وضحتها لما نسميه في هذا الزمان "دائرة المعارف" أو "الموسوعة" (شاكر).

وإذا تمّ هذا كما أتمّ الشيخ عَملَه في القرآن العظيم، فعسى أن يكونَ قد حان الحِينُ للنظَر في "إعجاز القرآن" نظرًا جديدًا، لا يتيسّر للناس إلا بعْد أن يَتِمّ تَحليلُ اللغة تحليلا دقيقًا قائمًا على حصْرِ الوجوهِ المختلفة لكلِّ حرْفٍ من حروفِ المعاني، وتصاريف اللغة. لأنّ هذه الحروفَ وهذه التصاريف، تُؤثِّر في المعاني، وتُؤثِّر في الأساليب، وتُحدِّد الفُروق الدقيقةَ بين عبارةٍ وعبارة وأَثَرها في النفْسِ الإنسانيّة وأَثَر النفْسِ الإنسانيّة فيها، وفي دلالاتها. وإذا كان أستاذنا الجليل قد تواضع فظنّ أنّه قد وضع أساسًا عِلْميًّا ثابتًا للحكْم على أساليب القرآن، وموقعها من النحو والصرف، فإني أظنّ أنّه قد فات ذلك وسبَقه، فهيّأ لنا أساسًا جديدًا للنظر في "إعجاز القرآن" نظرةً جديدةً تُخْرِجه من الْحَيِّزِ القديم، إلى حيِّزٍ جديدٍ يُعين على إنشاءِ "علم بلاغة" مسْتَحْدَثٍ. فإنّه مهما اختلف المختلفون في شَأْنِ "البلاغة" فالذي لا يمكن أن يدْخلَه الاختلافُ هو أَنّ تركيبَ الكلام على أُصولِ النحو والصرف، هو الذي يُحْدث في كلامٍ ما ميزةً يفوق بها كلامًا آخر. وهذا لا يتيسَّر معْرفَتُهُ إلّا بتحليل اللغةِ وتحليلِ مفرداتها وأدواتها، وروابطها، التي هي حروف المعاني، عَملٌ لا يُنْتَهى فيه إلى غاية، إلّا بعد الْحَصْرِ التامِّ للغة وتصاريفها، ولاسيما حروف المعاني، وبعد معرفةِ الفُروقِ الدقيقةِ التي تُحدثها هذه الحروفُ في مواقعها، وبعد معرفةِ أَثَر هذه الفروقِ في تفضيل كلامٍ على كلام. والشيخ -حفظه الله- لم يترك مجالا للاستدراك على عمله العظيم. فكلّ ما أستطيع أن أقولَه، إنّما هو ثَناءٌ مسْتَخْرَجٌ من عَمل يُثْنِى على نفْسِه، ولكن بقي ما نتهاداه في هذه الحياة الدنيا، وهو أن أَدعُو الله له بالتوفيق، وأن يزيدَه من فَضْله، وأن يُعينَه على إتمامِ ما بدأَ، وأن يجعل هذا العمل ذخيرة له يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون.

ذكريات مع محبى المخطوطات

ذكريات مع محبى المخطوطات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده، وصلى الله على سائر الأنبياء منذ آدم إلى عيسى بن مريم -عليهم السلام-. لست خطيبا ولا متكلما وإنما أنا كاتب. أعبر باللسان وأصوغ بالقلم. وقد جئت ولم أُعِدّ شيئا لأقوله في هذا المؤتمر. ولما بقيت أياما في تعب شديد -حاولت أن أكتب- والموضوع كما تعلمون متعلق بالمخطوطات -فجرى قلمى بما لا أستطيع أن أحدثكم عنه. بعد أن كتبت أوراقا وجدتنى أتحدث عن نفسي، لا عن المخطوطات. والمضطر يركب الصعب من الأمور. وأنتم قد جئتم هنا لتقعوا في الاضطرار؛ لأنكم تريدون أن تسمعونى، وأنا جئت مضطرا لأن الشيخ أحمد زكي يماني استخرجنى من بلادى، ومن بلاد أحبها، لا أحب أن أفارقها إلى بلاد بينها وبين أمتى العربية والإسلامية ثأر قديم جدا. جئت كارها، ولكن جئت أيضا مطيعا لصداقة عزيزة عليّ، لا أستطيع أن أتخلى عما تطلبه مني. والكلمة التي كتبتها لا تصلح للسماع، لأنى أستغرق صفحة أو صفحتين تقريبا في الحديث عن نفسي، وعن تاريخى، وعن نشأتى، لأقول أنى بالتجربة انتهيت إلى أننا في زمان الادعاء والتظاهر فيه هما الأصل. فإذا أنا تحدثت عن المخطوطات في حضرة الأساتذة صلاح المنجد والشيخ حمد الجاسر، ممن لهم خبرة، فإنما أنا مدع لا أكثر ولا أقل. وبضاعتى في شأن المخطوطات بضاعة مُزجاة. نعم نشأت من صغرى في الحادية عشرة والثانية عشرة، على يد رجل كان خبيرا بالكتب وهو أمين أفندى الخانجى. صحبته طويلا ولكنه لم يستطع لا هو ولا من سألتهم فيما بعد، لم يستطع أحد منهم أن يعدنى لأن أكون من ¬

_ (*) أهمية المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الافتتاحي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن 1992، ص 23 - 28

الرجال العاملين في ميدان المخطوطات العربية، لأن هذا الميدان محتاج إلى صفات معينة وأنا لا أملك من هذه الصفات شيئا. نعم قد نشترك في الأصل، ولكن طبيعتى لا تستطيع أن تخضع لغير ما أردته أنا وما اهتممت به. وسأدع الكلام الذي كتبته جانبا لأنه في الحقيقة لا يستحق أن يُقرأ فضلا عن أن يُسمع على ملأ من العلماء والفضلاء كانوا يتوقعون مني شيئا، ويطلبون مني فائدة، ويظنون بى علما، وأنا لست من العلم في شيء. بل أنا كما يقول أبو العلاء: مَن يَبْغِ عندي نَحْوا أو يُرِد لغةً ... فما يُساعف مِن هذا ولا هذِى يَكفيكَ شرا من الدنيا ومَنْقَصَةً ... ألا يَبينُ لك الهادِى من الهاذِى فأرجو وقد جئت من بلاد بعيدة أتوكأ على عصا بيمينى وأعتمد على ابنتى بشمالى -ولكن بين ضلوعى نار لم تنطفيء بعد من بقية شباب ذهب- وسأختصر كلامي وأقصره على رجال ممن عرفتهم في مجال المخطوطات. وهم جميعا يشتركون في صفة واحدة يعرفها صلاح المنجد وحمد الجاسر -يعرفونها في أنفسهم. ولأن طول مصاحبتى لهؤلاء الرجال لم تكن رغبة في الاستفادة من علمهم في المخطوطات ولكن كانت رغبتى في مراقبتهم: كيف يتعبون وكيف يعملون. فمن هؤلاء هذا الذي ذكرته لكم والذي نشأت على يديه، وهو أمين أفندى الخانجى. وقد حدثني أنه مِن حَىّ بحَلَب، وكان قد شَدا شيئا من العلم -قليلا جدا من العلم. وكانت له رغبة في أن يكون عالما، ولكنه كان صغيرا جدا، وعلى قدر بسيط جدا من المعرفة. ففي تجواله في المنطقة التي يسكنها رأي النساء يوقدن المواقد بأوراق الكتب- بل ببعض الكتب المجلدة. وفجأة استيقظت نفسه، فأراد منعهم (¬1) من أن يفعلوا ذلك، فاستحطب لهم حطبا يوقدون به مواقدهم، وأخذ منهم هذه الأوراق أو هذه الكتب التي كان بعضها مجلدا. واستمر على هذا دهرا، وإذا عاد إلى بيته بهذه الأوراق كان يقرؤها، وهو ¬

_ (¬1) الحديث عن النساء، ولكن الضمائر التي تشير إليهن جاءت بصيغة التذكير.

لا يستطيع أن يفك رموزها لكنه بالإصرار وبالحب وبالجذوة التي تتوهج في قلبه ظل يزداد حرصا على هذه الأشياء ويجمعها. ثم بعد أن شبّ عن الطوق، رأي نفسه مغرما بحيازة هذه المخطوطات وبقراءتها دون أن يكون قاصدا للعلم، وإنما هي محبة خالصة لهذا الذي يقرأه. فانتهى به الأمر بعد ذلك إلى أن أصبح أخبر الناس بالمخطوطات. عندئذ قرر أن يكون كُتْبيا أو ورَّاقًا. وأنا أشهدكم أن الجيل الذي نشأت فيه، قد اعتمد اعتمادا كاملا في كل فن على ما نشره أمين أفندى الخانجى. كل الكتب القديمة التي نشرها أصول لا يَستغني عنها طالب علم. فكانت صناعته في البحث عن المخطوطات، هي أن يأخذها وينشرها. وفي ذلك الوقت كانت ثروته لا تحتمل أن ينفق على طباعة هذه الكتب، فكان كلما طبع بضعة كتب أفلس. ثم تردد ذاهبا إلى تركيا، إلى أن جاء الى مصر. وبقيت أنا مع أمين أفندى الخانجى في جو أشعر أن هناك ضوءا في قلب هذا الرجل يضئ لي الطريق - لا طريق المخطوطات: بل أضاء لي طريق العلم. ولي معه تجارب كثيرة، منها تجربتى في كتاب طبقات فحول الشعراء. كان عندنا في مصر جمَّاع للكتب ثرِىّ تُركى لا يقرأ ولا يكتب اسمه طلعت باشا. كان يحب أن تكون له مكتبة كما لفاضل مكتبة، ولأحمد تيمور مكتبة. أنفق على أمين الخانجى ما يشاء، فجال في البلاد العربية، وجاء الى مصر ومعه كتب كثيرة أودعت الآن في دار الكتب المصرية. فحدث أن كان يوم من الأيام، كان معه صندوق فيه ورق دشت فأعطانى منه ورقة. وكنت حديث عهد بالعلم، ولكني كنت أيضا حديث عهد بكتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام، فأخذت الورقة. قال لي: "إيه الكتاب ده؟ " قرأتها، ثم قلت له: "هذه طبقات ابن سلام". وبدأنا نفرز هذا الورق الى أن استخرجنا النسخة التي آلت فيما بعد إلى تشستر بيتى؛ لأن أمين أفندى الخانجى باعها ليهودي كان يشترى منه الكتب، فباعها هو الآخر لمكتبة تشسشر بيتى. ولي معه قصص كثيرة ولكن هذه قصة تخصني؛ لأني نشرت هذا الكتاب

فيما بعد -بذلت فيه جهدى، وأنا لا أحب أن أُسَمَّى محققا لأسباب كثيرة، وإنما أنا قارئ كتب ولذلك لا أكتب على كتبى "حققه" فلان بل أكتب "قرأه" فلان؛ لأن المطلوب من نشر الكتب هو أن يكون الكتاب مقروءا حسب موضوعه، يهتدى الإنسان في قراءته إلى المعنى الذي أراده مؤلفه. أما طبقات فحول الشعراء فأنا في الحقيقة قرأته ثم شرحته شرحا وافيا. لأن هذا الكتاب عُمدة لا يَستغني عنه طالب علم. وهو أول كتاب أُلِّف في الإسلام في طبقات الشعراء وفي النقد أيضا. ثم ذهب أمين أفندى الخانجى -رحمه الله-، وشببت عن الطوق، وعرفت رجلا آخر كان عالما متمكنا من علوم لا يعرف أحد أنه متمكن فيها، وهو أحمد تيمور باشا. كان فيما عرفته متمكنا من علم النحو تمكنا كاملا ولكنه لا يكتب فيه شيئا. لم يكتب فيه كلمة واحدة. فأحمد تيمور باشا كما وصفته -وهو عالم ناهيك من عالم- كان أحرص الناس على اقتناء المخطوطات، يبذل في سبيلها مالا كثيرا، ولكن الذي لاحظته -ليس جمع الكتب- الذي لاحظته شيئا آخر وهو أنه إذا أخذ الكتاب بين يديه، تغيرت أسارير وجهه واستضاءت، وكأن نورا قد سطع بمجرد إمساكه المخطوط، إذا جاءه أمين أفندى بمخطوط جديد. شيء هائل، تحس أن هذا الرجل ليس إنسانا -تتغير صورته من إنسان جالس يتكلم، إلى إنسان مأخوذ ومضئ في وقت واحد، وتبرق عيناه وكأنها لؤلؤة مضيئة أو درة يتيمة. والرجل الثاني الذي عرفته ولقيته لماما هو أحمد زكي باشا شيخ العروبة. ولم يكن في مثل علم تيمور باشا. ولكنه كان أيضا محبا للكتب، فالصورة التي أراها في تيمور أراها في أحمد زكي. وكانا في حلبة المخطوطات يتسابقان، كلاهما يتتبع عمل الآخر وما اقتناه ويريد أن يفوقه. ولكن يختلف الخُلُقان: تيمور باشا كان سخيا لا يضن على أحد بشيء. أما أحمد زكي فكان ضنينا بالطبع -لا أريد المذمة- كان ضنينا وكان لا يتورع عن سرقة الكتاب. ومن الطرائف أنه في آخر حياته أوقف مكتبته ونقلت إلى مدرسة الغورى القريبة من الأزهر، وعُيِّن لها

صديق لنا كان أيضا محبا للكتب هو الشيخ محمود زناتى، فأخبرته عن خُلق زكي باشا أنه يسرق الكتب، فحاذِرْ. فقال: "كيف يعني؟ كيف يسرق الكتب؟ " قلت: "طَيِّب يا شيخ محمود، جرِّب بنفسك". فحدثني أن أحمد زكي باشا غافله في يوم من الأيام وأخذ كتابا ووضعه تحت إبطه وأخفاه -فقال له الشيخ محمود عند انصرافه: "تعالى يا باشا - طلع الكتاب". يسرق نفسه! كانت أخلاقا ظريفة. ولقيت رجالًا كثيرين ممن يحبون المخطوطات بشغف زائد ولكن كان أغربهم رجل طويل القامة مستقيم. هذا لم يكن متعلما تعلُّما كافيا لكنه كان يجالس العلماء. وممن جالسهم طويلا وأحبهم الشيخ زاهد الكوثرى -رحمه الله- وكان علّامة خبيرا بالكتب، حافظا أسماءها ومواقعها، فاكتسب منه رشاد (¬1)، لأنه كان أيضا محبا للكتب. كان رشاد فقيرا فكان يدور على المطابع كلما رأى كتابا يُطبع أخذ منه ملزمة، فأخيرا انتهى إلى حب الكتاب المطبوع -وكان أيضا له ذاكرة قابضة باسطة لا تترك شيئا أبدا ولذلك كان يمشي بيننا وكأنه فهرس كامل لمطبوعات العالم. وصحبناه طويلا الى أن قضى نحبه -رحمه الله-. وهكذا كان ينبغي أن أقدم رجلا عظيما أيضا وهو الشيخ محمد عبد الرسول. كان مديرا للمخطوطات في دار الكتب. وكان رجلا صامتا لا يتكلم. فإذا تكلم -إذا سألته سؤالا- تفجر بعلم واسع يستغرق كل هذه الكتب. لا يوجد في دار الكتب كتاب مطبوع لا يعرفه، ولا مخطوط لا يعرفه. وكان محبا أيضا للمخطوطات وحريصا عليها أشد الحرص، وأنا إلى الآن لا أمسك مخطوطا حتى أذكر هذا الرجل، لأنه علّمنى شيئا كثيرا جدا -أدناه أنه علمنى فروق الخطوط وأزمنتها سواء كانت مشرقية أو مغربية. لم يكن هذا همي، ولكن أحببت هذه المعرفة بحبي للشيخ عبد الرسول. تعلمت منه كيف أحكم على هذا المخطوط- كُتِب في القرن الكذا أو الكذا، خطوط متنوعة، خطوط البغداديين غير خطوط ¬

_ (¬1) يعني الأستاذ رشاد عبد المطلب، -رحمه الله-، توفي سنة 1975.

المصريين. وكل هذا يعرفه الشيخ عبد الرسول. تعلمت منه شيئا كثيرا أدناه هذا العلم: علم معرفة الخطوط وأزمانها، وشغلت به. ولكني كنت أيضا في شيء آخر، ولقد وصفت نفسي، ولا أحب أن أعيد ما كتبت، وصفت نفسي: ماذا كنت أريد أنا من هذه الدنيا أو من هذا العمل؟ فكان للشيخ عبد الرسول أثر عظيم في نفسي في معرفتى بالكتب وحبى للمخطوطات. لا حُبَّ جمع ولا شراء ولا اقتناء. مكتبتى من أكبر المكاتب الخاصة في مصر ولكن ليس فيها كتاب مخطوط. الأشياء التي أريدها أصورها من دار الكتب أو الجامعة العربية -والشيخ حمد أكرمنى كثيرا بصور من مخطوطات ودلنى عليها ولم أكن أعرفها، لأنى فعلا غير متتبع لشأن المخطوطات ولكن قرأت تراجم الأمة والعلماء وأعرف هذا كله- منها كتاب هنا في دار المتحف البريطاني. الشيخ حمد جاءنى بهذه النسخة لأحققها، وطبعتُ منها جزءا واحدا من "أنساب قريش" -وهي نسخة فريدة- مع أن صاحب فتح البارى، الإمام ابن حجر، رأيتُ في شرحه للبخاري أنه راجع ست نسخ من "جمهرة نسب قريش" ليقف على نسب جاء في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ست نسخ في القاهرة في القرن السابع، أين ذهبت هذه؟ هذه خطرات مفككة، ولكني عرفت هذه الأشياء كلها عن طريق رجال صحبتهم وعرفتهم -منهم الشيخ حمد- ومنهم علامتنا صلاح المنجد. عظام لم يبق منهم إلا هذه البقية. كان من أغرب الناس أيضا الشاعر الشيخ عبد المطلب الأستاذ بدار العلوم -كان له اهتمام غريب -وهو شاعر- سموه "الشاعر البدوي" من تقليده لشعر القدماء- ولكني حين زرته في بيته وجدت عنده صوانا كاملا من مخطوطات في علم القراءات فقط، مع أنه شاعر، وكان لا يُعْرَف عنه هذا- لا يعرفه عنه غيري. كان أكبر جزء من مكتبته في علم القراءات القرآنية وحده. ثم الفضل الأكبر للرجل الثاني فقد كان شيخى وأستاذى الذي علمنى العربية وهو الشيخ سيد بن على المرصفي. مات منذ دهر طويل، أكثر من خمسة

وخمسين سنة. كان عالما لا يُبارى، وكان في حالة فقر شديدة في أول أمره وهو عالم من علماء الأزهر. وكان في أول أمره فقيرا شديد الفقر. وكرهه الأزهريون لأنه كان لا يدرس إلا الأدب، كتاب "الكامل" للمبرد و"الحماسة" لأبي تمام، فأغفلوه إلى أن جاء والدى وكيلًا للأزهر، وكان يعرف فضل الشيخ المرصفي فبحث عنه. وأقص عليكم قصته كما رواها والدى: في غرفه أو غرفتين في حوارى الأزهر العتيقة عرف بيته وذهب إليه فوجده جالسا وحوله الكتب ومحيطا نفسه بدائرة من العسل حتى لا يزحف البق إليه. فعينه والدى مدرسا للأدب، وأنا أدركت الشيخ عندما كنت طالبا في المدارس الثانوية وصاحبته، وهو الذي علمنى العربية وقرأت عليه كتاب "الكامل" للمبرد و"الحماسة" لأبي تمام وفصولا من "أمالى" أبي على القالى. هذا الرجل اشتغل أول أمره مصححا في دار الكتب. وقد نشر كتابا واحدا وهو الجزء الأول من كتاب "الخصائص" لابن جنى، وهي الطبعة الأولى، قبل أن يطبعه كاملا الشيخ النجار في ثلاثة أجزاء. فهذا الرجل بقي في دار الكتب سنين يشتغل مصححا وكانت له خبرة بجميع كتب الأدب التي كانت في دار الكتب، وكان أيضا لا يحب أن يبوح بعلمه -أشياء معينه لا يخبر أحدا بها. مما قرأته عليه في شرح كتاب الكامل أنه رجع إلى مخطوطة في دار الكتب من ديوان ابن مقبل. لما توفي الشيخ، بحثت عن هذه النسخة في دار الكتب فلم أهتد إليها إلى هذا اليوم. عندي كلمة أقولها علانية أمامكم جميعا: إن هذه المخطوطات التي يراد فهرستها في مثل هذه الدول -الدول التي نحن فيها الآن- يصح أن تُسْتَرَدّ. فأنا عرفت من والدى -الذي جاء من الصعيد إلى القاهرة في أواخر القرن الثالث عشر الهجرى- أن مكتبة السلطان حسن كانت أكبر المكاتب في مصر، وكان الأمين الذي يحرسها واحد تاجر قصب، له دكان تحت درج المسجد، وكانت الأعاجم تأتيه في لباسهم وزيهم يعطون له ملاليم، فيدخل المسجد ويأتيهم بالكتب، إلى أن بقيت مكتبة السلطان حسن خاوية على عروشها. كنت أحب أن نبدأ فعلا في حركة لاسترداد هذه المخطوطات. لابد من استردادها اليوم

أو غدا. قال شوقى لكارنافون الذي سرق نصف ما أخرجه من قبور الملك توت عنخ آمون: - فمَنْ سَرَقَ الخليفةَ وهْوَ حَيٌّ ... يَعِفُّ عن الملوكِ مُكَفَّنِينا؟

[تعقيب]

[تعقيب] شيء مخجل، شيء مخجل جدا، أن يكون أول ما أكتبه لمجلة "العربي"، متعلقا بكلام نشر بها، وأن يكون هذا الكلام مما لا يُحسن السكوت عنه، لا لأنه يتعلق بى، بل لأنه يعطى قارئ هذه المجلة المتزنة الواسعة الانتشار، معلومات أقلّ ما يقال في شأنها إنها خطأ وإنها مضللة وقارئ مجلة العربي -كما أعلم- يثق ثقة مطلقة بما تمده به من معارف ومعلومات لأنه كان قد تعود ذلك منها منذ سنين، فأنا أخشى أن يكون كلامي هذا، مما يزعزع ثقة قارئها بها، فلذلك أحب أن أقدم بين يدي كلامي، عذر المجلة في نشر مثل هذه الأخطاء. فهذه المجلة، كما تحترم قراءها، تحترم أيضا كُتابها، وُتحسِن الظن بهم، وأن هؤلاء الكُتاب لا يقدمون إليها إلا خلاصة صحيحة لعلمهم. وأنا على ثقة من أن جهازها لا ينشر كل ما يكتبه إليها الكاتبون ممن هبَّ ودب، بل تتحرى أن تنشر ما يكتبه المعروفون المشهود لهم بالأمانة والتمحيص، وعلى رأس هؤلاء -بطبيعة الحال- حملة شهادة الدكتوراه، الذين قطعوا مرحلة طويلة في ممارسة علومهم، وتمرسوا بالدقة والأناة والأمانة فيما يبحثون، وفيما يكتبون. وكاتب هذه المقالة التي نشرتها مجلة العربي، حامل لهذه الدرجة العلمية الرفيعة، فجهاز المجلة لا يستطيع أن يفترض الشك فيما يكتب، بل إن التجربة، تدلهم على أن حَمَلة هذه الدرجة العلمية أمناء فيما كتبوا قديما، وفيما يكتبون لها اليوم، فأجازوا المقالة وهم على ثقة من أن كاتبها لم يخط حرفا مما كتب، إلا بعد أن مرّ ما كتبه بمرحلة التمحيص: الأمانة والإعداد السليم، كما عوّدهم بقية الأساتذة الكُتاب الذين ينشرون فيها ما يكتبون. . ولكن لكل جواد كبوة. فهذا عذر مقبول إن شاء الله. ¬

_ (*) مجلة "العربي"، العدد 284 - يوليو 1982، ص 18 - 24. ولم يضع لها الأستاذ شاكر عنوانا، فجعلته كما ترى. وحق موضع هذه المقالة أن يكون بعد مجلة "الهلال"، ولكننى لم أحصل على المقالة إلا بعد طبع جميع المقالات، ولو جعلتها في حاق موضعها لأدى ذلك إلى إعادة ترقيم صفحات المقالات التي تتلوها، وأيضا صفحات فهرس الأعلام، وهذا أمر فيه من المشقة ما فيه.

كلام منقول بنصه

كلام منقول بنصه كتب الدكتور عبد العزيز المقالح، مقالا في عدد شهر جمادى الآخرة سنة 1402 (إبريل سنة 1982)، بعنوان "دفاع عن العقل والضمير العربيين: طه حسين، والشك على الطريقة الأزهرية"، وهو يفتتح هذه المقالة، بأنها تحية للدكتور طه في ذكراه الثامنة، وأنها ليست دفاعا عنه ضد الاتهامات الباطلة الكثيرة، ولا دفاعا عن صمت تلاميذه المنتشرين على طول الساحة العربية إزاء هذا الهجوم، ولكنها محاولة متواضعة للدفاع عن العقل العربي والضمير العربي، وعن بوادر النهضة الفكرية والثقافية، وعن ذلك الرجاء الذي كاد يقترب ثم ابتعد، ويوشك الآن على الانطفاء! هذا نص مقدمته. وهذا كلام حسن، ونية أحسن من الكلام. (ص 54 من مجلة العربي). ولكنه لم يكد يتجاوز هذه المقدمات حتى قال (ص: 55 من المجلة) ما يأتي: "ومن بين الاتهامات المبالغ فيها، والمسئول عنها طه حسين التهمة الثقيلة التالية: (إذا كان هناك تخريب في الثقافة المصرية، فإن المسئول عن هذا التخريب هو طه حسين؛ لأن تشككه في الثقافة العربية، قد أحدث نوعا من التفريغ في العقل العربي) "، فوضع الدكتور المقالح هذا الاتهام بين قوسين، ومعنى ذلك عند كل قارئ أنه كلام منقول بنصه، أو على الأقل تلخيص أمين لكلام مكتوب منشور، قرأه الأستاذ الدكتور ولخصه بأمانة. هذا واضح فيما أظن، ولا يختلف عليه أحد. ثم قال بعقب هذا الكلام المحفوف بالقوسين: "الذي أطلق دخان هذه التهمة، أستاذ جليل، وباحث يحترم قراءه، ويحترمه قراؤه، وهو الأستاذ محمود محمد شاكر. وهي تهمة تعطى لطه حسين من التأثير السلبى والخطورة السلبية، أكثر مما تعطه للاستعمار والصهيونية وقوى التخريب المختلفة. وهي تمنح ذلك الشيخ الضرير قدرة خارقة لم تكن عفاريت الأساطير في القصص القديمة تمتلك بعضا منها، وفي تقديرى أن مثل هذه المبالغات في إلقاء التهم، وفي هدم الحسنات والسيئات معا، هي التي تشكل

في الطبعة الجديدة "للمتنبى"

بحق نوعا من التفريغ في العقل العربي المعاصر، وتجعل القارئ العربي الذي لم يعد يكتفي بتكوين معارفه الثقافية، من كتابة ما يكتبه الأستاذ شاكر وأمثاله، تجعله حائرا متشككا غير قادر على المقارنة بين فكر رافض لا يقوم على أساس من البحث والتمحيص، وبين فكر لا يتوقف عن الجدل حول أغلب الأفكار المطروحة من قبل العصر، بين الدعوة إلى الغربة الروحية والعقلية، وبين الاكتفاء بالخواء العقلي والروحي". وأنا قد نقلت هذا الكلام بنصه، لأنه كلام لا يحتمل التجزئة، لتناسقه أولا، ثم لأنها عادتى في وضع النصوص بين يدي من يقرأ كلامي، بلا عبث، بلا تحريف. عادة يعرفها عني كل من قرأ ما أكتب. في الطبعة الجديدة "للمتنبى" وقبل كل شيء، فليس من عادتى أيضا أن أرفع الناس فوق منازلهم، ولا أن أضعهم دون منازلهم، لا نصا بكلام أكتبه، ولا استنباطا يمكن أن يستنبطه قارئ لما أكتب، إلا أن يتوهم متوهم أشياء، فأنا بالطبع غير مسئول عن هذا التوهم. كل ما أملك هو قلم أعبّر به عن رأي أكتبه، أكتبه بألفاظ محددة صريحة، بلا رموز ولا إشارات ولا مخاتلة. هذا كل ما أملك، وهذا كل ما سأفعله هنا الآن، لأنه غاية قدرتى. فإذا جاء كاتب، كالدكتور المقالح هذا يقول إني أتهم الدكتور طه بتهمة تعطيه من التأثير أكثر مما تعطى للاستعمار والصهيونية وقوى التخريب المختلفة، وتمنحه قدرة خارقة لم تكن عفاريت الأساطير تملك بعضًا منها فهذا الجائى، بلا شك عندي، لم يقرأ لي شيئا قط، أو قرأ ولم يفهم، أو فهم شيئا عن طريق التوهم، لا عن طريق الاستنباط من لفظى وكلامى. فأنا قد عرفت الدكتور طه وقرأت له منذ كنت صغيرا في الرابعة عشرة من عمرى سنة 1923 م، إلى أن توفي سنة 1973 م، عرفته قارئا وتلميذا له في الجامعة، ثم رجلا بيني وبينه من المودة، مع بعد الشقة بيننا والاختلاف، زمنا أطول من مدة القراءة والتلمذة. فليس إذن بمستساغ ولا معقول أن أخالف عادتى فأرفعه فوق منزلته عندي،

ولا أن أضعه دون منزلته في نفسه، وأنسب إليه هذه الخوارق التي ذكرها الدكتور المقالح. لا أدري كيف توهم الأستاذ الدكتور هذا التوهم! هذا شيء! ! . أما "التهمة" التي ذكرها ووضعها بين الأقواس، فهي إشارة إلى ما كتبته في مقدمة كتابى "المتنبى"، الذي كتبته قديما سنة 1936، فلما أعدت طبعه سنة 1977، كتبت هذا المقدمة وسميتها "قصة هذا الكتاب -لمحة من فساد حياتنا الأدبية"، وتعرضت فيها لما سميته "التفريغ" وهو اللفظ الموجود في التهمة التي بين الأقواس. وأنا مضطر هنا أن أتعرض لبيان ما في هذه المقدمة، لأنها هي التي جلبت عليَّ هذا السَّيل من الألفاظ التي استعملها الدكتور المقالح، وأعطت قراء مجلة العربي، معلومات لا أصل لها عندي، أي فيما كتبت مطبوعا منشورا في كتاب! ! بدأت هذه المقدمة من ص 9 إلى ص 26، وفيها قصتى مع الدكتور طه، وكتاب الشعر الجاهلي، وأنا طالب في الجامعة وتلميذ للدكتور طه، حتى تركت الجامعة في سنة 1928 ووصفتُ الدكتور طه بألفاظ صريحة بلا عبث ولا مخاتلة، وليس في هذا القسم ذكر لما سميته "التفريغ". ثم قطعت هذا الجزء من المقدمة، وابتدأت في حديث آخر من ص 27 إلى أواخر ص 39 وبدأت هذا الفصل هكذا! "ومرت الأيام والليالي والسنون، ما بين سنة 1928، وسنة 1936، وهي السنة التي كتبت فيها هذا الكتاب "المتنبى"، وهمي مصروف أكثره إلى قضية الشعر الجاهلي، وإلى طلب اليقين فيها لنفسي، لا معارضة لأحد من الناس (وأعنى الدكتور طه بالطبع). ومشت بى هذه القضية في رحلة طويلة شاقة، ودخلت بى دروب وَعِرة شائكة، وكلما أوغلت، انكشفت عني غشاوة من العمى، وأحسست أنى أنا والجيل الذي أنا منه، وهو جيل المدارس المصرية، قد تم تفريغنا تفريغا يكاد يكون كاملا من ماضينا كله، من علومه وآدابه وفنونه. وتم أيضا هتك العلائق بيننا وبينه، وصار ما كان في الماضي متكاملا متماسكا،

"الجيل المفرغ"

مِزَقا متفرقة مبعثرة تكاد تكون خالية عندنا من المعنى ومن الدلالة، ولأنه غير ممكن أن يظل الفارغ فارغا أبدا، فقد تم ملء الفراغ بجديد من العلوم والآداب والفنون، لا تمت إلى الماضي بسبب، وإنا لنستقبله استقبال الظامئ المحترق قطرات من الماء النمير المثلج". وفي خلال هذه الأعوام تبين لي أمر كان في غاية الوضوح عندي، وهو قصة طويلة قد تعرضت لأطراف منها في بعض ما كتبت، ولكني أذكرها هنا على وجه الاختصار (مقدمة المتنبى ص: 27). " الجيل المفرغ" ثم انطلقت بعد ذلك أقص القصة منذ عهد محمد على. وحفيده إسماعيل، حتى جاء الاحتلال الإنجليزي في سنة 1882، وبمجيئه سيطر الإنجليز سيطرة مباشرة على كل شيء، وعلى التعليم خاصة إلى أن جاء دنلوب (في 17 مارس 1897) ليضع للأمة نظام التعليم المدمر الذي لا نزال نسير عليه مع الأسف إلى يومنا هذا (المقدمة ص 28)، ثم بينت وسائل التدمير التي ارتكبها الاستعمار في حياتنا، وما أدى إليه من التدهور المستمر المتتابع، حتى قلت: "وكذلك كان مقدرا لجيلنا -نحن جيل المدارس المفرغ- أن يتلقى صدمة التدهور الأولى، لأنه نشأ في دوامة دائرة من التحول الاجتماعي والثقافي والسياسي (المقدمة ص 26). ثم ختمت هذا الفصل بقولى: "وفي ظل هذا كله -كما قلت- انتعشت الحياة الأدبية انتعاشا غير واضح العالم. . . وأقول غير واضح المعالم، لأن الأساتذة الكبار الذي انتعشت على أيديهم هذه الحركة (ومنهم بالطبع الدكتور طه وغيره)، كانت علائقهم بثقافة أمتهم غير ممزقة كل التمزق، أما نحن -جيل المدارس المفرغ- فقد تمزقت علائقنا بها كل التمزيق، فصار ما يكتبه الأساتذة -فيما له علاقة بهذه الثقافة- باطلا أو كالباطل. فهو لا يقع منا ومن أنفسنا بالموقع الذي ينبغي له من الفهم ومن الإثارة، ومن الترغيب في متابعته، ومن إعادة النظر في ارتباطنا بهذه الثقافة. بل كان عند كثير من أهل جيلنا غير مفهوم البتة، فهو يمر عليه مرورا سريعا لا أثر له، أما الذي أخذه جيلنا عنهم، فهو

كتاب الشعر الجاهلي

الاتجاه الغامض إلى المعنى المبهم الذي تضمنته كلمة "التجديد"، وأنى هذا الرفض الخفي للثقافة التي كان ينبغي أن ننتمى إليها، وإلى الانحياز الكامل إلى قضايا الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ التي أولع الأساتذة بتلخيصها لنا، لكي نلحق بثقافة العصر الذي نعيش فيه، وبمناهجه في التفكير، كما صوروا لنا ذلك في خلال ما يكتبونه! ! وغاب عن الأساتذة الكبار أن الزمن الدوار الذي يشيب الصغير ويفني الكبير، هو الذي سيتولى الفصل بينهم وبين أبنائهم الصغار الذين كانوا يتعلمون اليوم على أيديهم. والقصة تطول، ومع ذلك فليس هذا مكان قصها على وجهها، إذا أنا أردت أن أقيد ما كان، كما شهدته فيما بين سنة 1928 وسنة 1936، بل إلى ما بعد ذلك إلى يومنا هذا". (مقدمة المتنبي ص 37، 38). فهذا كما ترى -هو الفصل الذي جاء فيه ذكر "التفريغ"، وهو شهادتى أنا على جيلى الذي أنا منه، وهو جيل المدارس الذي فرغ من ثقافة أمته، وتقطعت علائقه بينه وبين حضارتها على وجه بشع لا تزال آثاره هي الغالبة إلى يومنا هذا، وكما ترى وكما تستطيع أن تتحقق، ليس فيها ذكر للدكتور طه على الوجه الذي ذكره المقالح، ومن أحب من القراء أن يرجع إليه، فليرجع إليه، أقول ذلك مخافة أن يفقد الثقة بما أقول، كما سيفقد الثقة بأقوال الدكتور المقالح. وبعد أن فرغت قلت مباشرة: "ومع ذلك، فأنا أحب أن أقرر هنا حقيقة أخرى، تعين على توضيح هذه الصورة التي صورتها، وكنت أنا أحد شهودها سنة 1928 - 1936، فصورتها فيما سلف. فالدكتور طه حسين -وهو أحد الأساتذة الكبار- سوف يشهد في سنة 1935 شهادته هو، من موقعه هو، أي من موقع الأستاذية، من وجهة نظره هو، ومن دوافعه هو إلى الإدلاء بهذه الشهادة" (المقدمة ص: 39). كتاب الشعر الجاهلي ثم في (صفحة 40 من المقدمة) عدت فتعرضت لكتاب الشعر الجاهلي، وأثره على جيلنا نحن، جيل المفرغين، وما ألقاه علينا وقاله الدكتور طه، وزعم

أنه "منهج الشك" فقال فيما قال عن هذا المذهب بلفظه من كتاب الشعر الجاهلي "إن هذا المذهب سوف يقلب العلم القديم رأسا على عقب، وأخشى -إن لم يمح أكثره- أن يمحو منه شيئا كثيرا". وبينت ما قاله بعد ذلك مما يدل على الاستخفاف بكل شيء، وقيدته بنصه من كتاب الشعر الجاهلي. ثم شهدت بعد ذلك شهادتى على الجيل الذي أنا منه فقلت: "والاستخفاف الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه معروف، أما الذي كان يقوله في أحاديثه بين طلبته، فكان استخفافه عندئذ يتجاوز حده حتى يبلغ بنا إلى الاستهزاء المحض بأقوال السلف، وأما الذي كان يدور بين طلبته الصغار "المفرغين" من ثقافتهم -كما قلت- فكان شيئا لا يكاد يوصف، لأنه كان استخفاف جاهل واستهزاء خاو، يردد ما يقوله الدكتور، لا يعصمه ما كان يعصم الدكتور طه من بعض العلم المتصل بهذه الثقافة، وعلى مر الأيام، كانت العاقبة وخيمة جدا" (المقدمة ص: 40). ثم ذكرت كيف كانت العاقبة، حين كبر هؤلاء الصغار، وحاولو أن يزاحموا الاْساتذة الكبار (كالدكتور طه) في موقع الأستاذية فقلت: "ولكنهم لم يسيروا سيرة الأساتذة في معالجة القديم. . بل كان الغالب على أكثرهم هو رفض القديم والإعراض عنه، والانتقاص له والاستخفاف به، وعندئذ أحس الدكتور طه بالخطر، وهو الذي أضاء لهم الطريق بالضجة التي أحدثها كتابه، في الشعر الجاهلي" (المقدمة: 41). ثم قلت بعد ذلك مباشرة: "كان إحساس الدكتور طه بهذا الخطر الذي تولى هو كبر إحداثه، ظاهرا جدًا، ففي يناير سنة 1935 بعد تسع سنوات من صدور كتابه في الشعر الجاهلي -بدأ ينشر في جريدة الجهاد مقالات، . . كان محصلها رجوعا صريحا عن ادعائه الأول في سنة 1926، الذي أعلنه في كتابه، وهو قوله: إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأصداءهم، أكئر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا، لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء".

ثم عقبت على هذا الذي قلته بما يأتي: "قد بينت في بعض مقالاتى أن الدكتور طه قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي، بهذا الذي كتبه في سنة 1935، وببعض ما صارحنى به بعد ذلك، وصارح به آخرين، من رجوعه عن هذه الأقوال، ولكنه لم يكتب شيئا صريحا يتبرأ به مما قال أو كتب، وهكذا كانت عادة الأساتذة الكبار! يخطئون في العلن ويتبرءون من خطئهم في السر! ! ". ثم ذكرت ما قاله الدكتور طه في مفتتح مقالاته التي كتبها ونشرها بعد ذلك في حديث الأربعاء، في الجزء الأول منه، عن شعر الجاهلية، وذكر السبب الذي دعاه إلى كتابة ما كَتَب، وهو ما صاغه في محاورة بينه وبين صاحب له من جيلنا نحن، يرفض الشعر القديم كله، وصوّر إحساس هذا الجيل تصويرا كاملا، ثم قال: "وقد تحدث إليَّ المتحدثون بأن أمثال صاحبي هذا، قد أخذوا يَكْثرون، ويظهر أنهم سَيكْثرون كلما تقدمت الأيام"، فقلت أنا تعقيبا على ذلك: "وصدق ظن الدكتور طه، فقد كان ذلك، وكان ما هو أبشع منه" (مقدمة المتنبى ص 41، 42). ثم سقت شهادة الدكتور طه على جيلنا المفرغ، وما كان من أمره وأمرهم، منقولة من مقالاته في سنة 1935، والمنشورة في حديث الأربعاء (في ص 43 - 44) ثم قلت: "وليس من همي أن أفسر هذه الشهادة، ولا أن أوضح مدى صدقها حيث صدق توقع الدكتور طه في تكاثر عدد من وصفهم من "المثقفين" في شهادته. . ولكن الذي يجب على أن أقول إن شهادة الدكتور على اختصارها، إنما هي وجه آخر لشهادتى التي كتبتها هنا، قالها هو من موقع الأستاذيه وقلتها أنا من موقعى بين أفراد جيلى الذي أنتمى إليه، وهو جيل المدارس المفرغ من كل أصول ثقافة أمته، وهو الجيل الذي تلقى صدمة التدهور الأولى، حيث نشأ في دوامة من التحول الاجتماعي والثقافي والسياسي، الذي أشرت إليه آنفا (مقدمة المتنبى ص: 45، 46).

هل يبقى الاتهام؟

هل يبقى الاتهام؟ يستطيع الآن قارئ مجلة العربي أن يطمئن، لأنى وضعت بين يديه قضيتى أنا صغيرا، وقضية جيلى الذي سميته "الجيل المفرغ"، وأن أمر "تفريغ" هذا الجيل الذي أنا منه من ثقافة أمته ومن أسس حضارته التي ينتمى إليها، منسوب كله إلى الاستعمار وقوى التخريب المختلفة التي سيطرت عليه، وعلى مجتمعه، وعلى مدارسه، ونشأته مفرغا غير قادر على مجرد الفهم لثقافة أمته العظيمة التي صار هو خلفا، لا يطيق الصبر على ما تركه له السلف من آبائه، لا بل لعله يرفضه بتظاهر وتعالم وسخف أيضا. أليس هذا واضحا جدا فيما اختصرته لك بألفاظه من مقدمتى لكتابى عن "المتنبى"، والتي جعلتها أساسا لقصة هذا الكتاب الذي نشرته في يناير سنة 1936، وجعلتها أيضا صورة لفساد حياتنا الأبية؟ أليس واضحا؟ وهذا الجيل "المفرغ"، هو الجيل الذي تلقاه الدكتور طه في الجامعة منذ سنة 1925 وأنا واحد منه، فشهدت شهادتى عليه ثم قلت إن الدكتور -حين تلقى هذا الجيل المفرغ والأجيال التي تليه من المفرغين- أخطأ خطأ شنيعا، حين قال له ما قال في قضية الشعر الجاهلي، وبالصورة التي قالها مثبتة في كتابه الشعر الجاهلي، وفي كتابه المعدَّل الأدب الجاهلي، ثم تهوره (وأنا آسف لهذا التعبير، ولكني لا أجد غيره مناسبا)، ثم تهوره حين طالبهم باتباع ما زعمه مذهبا وأنه هو الذي سوف يقلب العلم القديم رأسا على عقب، "وأخشى -إن لم يمح أكثره- أن يمحو منه شيئا كثيرا"، كما قال في كتابه في الشعر الجاهلي ص: 3. ثم قلت بوضوح إن الدكتور طه قد تبين هذا الخطر الذي تولى كبره، بعد تسع سنوات لا أكثر، فكتب أو أملى، شهادة على هذا "الجيل المفرغ"، بعد أن فارق الجامعة، وبدأ يسامى الأساتذة الكبار، وفيهم الدكتور نفسه، ويجابهه برفض كل شيء. كتب الدكتور طه هذه الشهادة في سنة 1935 على هذه الأجيال المفرغة، فكانت شهادة من أستاذ كبير، شهدها من موقع الأستاذية،

وكانت فحواها مطابقة لشهادة واحد من هذه الأجيال التي تلقت "التفريغ" في نظام دنلوب ومدارسه، شهدها من موقعه في هذا الجيل "المفرغ". فهل في شيء من هذا ما يدل على أنى وصفت الدكتور طه واتهمته، بأنه هو الذي فعل ذلك "التفريغ"؟ وإذا كان الأمر الآن واضحا لقارئ مجلة العربي، فماذا يقول لهذا الكاتب الذي يحمل شهادة الدكتوراه، فيقول عني إني أول من أطلق اتهام الدكتور طه بتهمة وضعها بين قوسين، هي: (إذا كان هناك تخريب في الثقافة المصرية، فإن المسئول عن هذا التخريب هو طه حسين، لأنه بتشككه في الثقافة العربية قد أحدث نوعا من التفريغ في العقل العربي)؟ وهذا الكاتب -كما قلت- بين ثلاثة أمور: إما أنه لم يقرأ لي شيئا قط، وإما أنه قرأ ولم يفهم، وإما أنه فهم شيئا عن طريق التوهم، لا عن طريق الاستنباط من لفظى وكلامى. ولا أحب أن أدع قارئ مجلة العربي مترددا في اختيار خصلة من هذه الخصال الثلاث، فلذلك سوف آتيه بالدليل القاطع على أنه لم يقرأ ما كتبت عن الدكتور طه، وإنما هي ألفاظ تلقاها من تخاليط جالس على مقهي من مقاهي الثرثرة. وذلك أنه قال بعد ما نسبه إليّ مباشرة ما يأتي: "لقد كان طه حسين زميلا أزهريا للأستاذ شاكر، سبقه إلى ذلك المعهد العتيد، وتعلم على مشايخه الأجلاء أساليب الحوار، وطرائق الرفض والقبول، وكانت ظروفه الاجتماعية، وتكوينه النفسي، يهيئانه لغير ما تهيأ له الأستاذ شاكر". فالذي يقول مثل هذا الخلط، لا يمكن أن يكون قرأ ما كتبت ولم يفهمه، ولا أن يكون فهم شيئا عن طريق التوهم ولا عن طريق الاستنباط، لأنى قصصت في خلال كلامي عن "التفريغ" جزءا من تاريخ حياتى، منذ كنت طالبا صغيرا في مدارس دنلوب، ثم في القسم العلمي حتى نلت شهادة البكالوريا (الثانوية العامة)، ثم دخلت الجامعة، ثم فارقتها، وفارقت أرض مضر مدة سنتين، ثم عدت لأسير سيرتى التي أنا فيها من يومئذ إلى الآن، فهل هذا هو "الأزهر"؟ ولا أستطيع أن أتوهم أن حاملا للدكتوراه لا يستطيع أن يفرق بين "مدارس دنلوب" التي فرغتنى وفرغت جيلى، وبين لفظ "الأزهر".

تهمة أكبر

هل يليق بعد هذا أن يدلى هذا الحامل للدكتوراه، بمعلومات عن حي من الأحياء، تَحْمِل هذا القدر من العبث وقلة الاحتفال بالقراء. هل يمكن أن يكون هذا الحامل للدكتوراه قد قرأ شيئا وفهمه؟ بلا ريب، لا، فالذي في كتابى الذي يوهم القارئ أنه قرأه، وفي غيره من كتبى، قصصت ما أصابنى من "المدارس" التي سيطر عليها الاستعمار وشيطان "دنلوب" فكيف يأتي هذا الأتى، فيجعلني زميلا لأستاذى الدكتور طه في "الأزهر". وأنا أختم هذا التصحيح، بكلام ليس من كلامي، بل من كلام هذا الأستاذ، قدمه بين يدي الفقرة التي نقلها عند أول المقالة (العربي ص: 55) يقول: "كما أنه ليس من حق أحد بل لا يليق بأحد -أن يختلق على مخالفيه الرأي من الأقوال والأفعال، ما لم يقولوا، ولم يفعلوا كما يحدث وحدث في الكتابات التي تناولت آثار طه حسين وجهوده الفكرية والثقافية، فقد وصل الزيف والتضليل في بعض تلك الكتابات إلى درجة لا تسئ إلى طه حسين وحده فحسب، وإنما تسئ كذلك إلى الفكر العربي والضمير"، هكذا قال ثم عقب بذكرى وذكر التهمة الثقيلة التي بينت لقارئ مجلة العربي حقيقتها فيما سلف، وأنى لم أختلق شيئا على الدكتور طه، ولا نسبت إليه ما نسبه إليَّ هذا الحامل للقلم وللدكتوراه. تهمة أكبر ومع ذلك، فأنا لا أنفي عن نفسي أني اتهمت الدكتور طه حسين لا بتلك التهمة السخيفة بل بتهمة أشنع وأبشع من التهمة التي اختلقها هذا الكاتب، فإن مقدمة كتابى "المتنبى" (من ص 3، إلى ص 164) مبنية على شيئين: على قصة الكتاب كيف كتبته، وعلى ظواهر فساد حياتنا الأدبية، وأكبر ظاهرة تعرضت لذكرها، هي قصة "السطو" على أفكار الناس وأقوالهم، وقلت إنها سُنّة سَنَّها الأساتذة الكبار، وإن هذا "السطو" أتى على أيديهم في صورتين. الأولى: سُنَّة "تلخيص" أفكار عالم آخر "أعنى العالم الأدبى" ويقضى

الأستاذ منهم عمره كله في هذا "التلخيص"، دون أن يشعر أنه محفوف بالأخطار، ودون أن يستنكف أن ينسبة إلى نفسه نسبة تجعله عند الناس (أي عند العرب) كاتبا ومؤلفا وصاحب فكر، وهذا ضرب من التدليس كريه (مقدمة المتنبى ص: 163)، وهذه خصلة شنيعة. والأخرى: سُنَّة "السطو" المجرد، حين يعمد الساطى إلى ما سطا عليه فيأخذه ويمزقه، ثم يغرقه ويفرقه في ثرثرة طاغية، ليخفي معالم ما سطا عليه، وليصبح عند الناس صاحب فكر ومذهب يعرفه به، ونسب إليه كل فضله (مقدمة المتنبى ص: 163) وهذه خصلة أشنع من الأولى. ثم قلت: "أتلفَّت اليوم (سنة 1977) إلى ما أشفقت منه قديما من فعل الأساتذة الكبار، لقد ذهبوا بعد أن تركوا، من حيث أرادوا أو لم يريدوا، حياة أدبية ثقافية قد فسدت فسادا وبيلا على مدى نصف قرن، وتجددت الأساليب وتنوعت، وصارت "السطو" على أعمال الناس أمرا مألوفا غير مستنكر، يمشي في الناس طليقا عليه طيلسان "البحث العلمي" و"عالمية الثقافة"، "والثقافة الإنسانية"، وإن لم يكن محصوله إلا ترديدا "لقضايا غريبة، صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية، واختلط الحابل بالنابل، قُل ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت، فإنه صادق صدقا لا يتخلف، فالأديب "عندنا" مصور بغير قلمه والفيلسوف "عندنا" مفكر بعقل سواه، والمؤرخ "عندنا"، ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنان "عندنا" نابض قلبه بنبض أجنبى عن تراث فنه (مقدمة المتنبى ص 164). وهذه الخلاصة التي ختمت بها مقدمتى ومنذ أولها -نتيجة لأشياء ذكرتها، وأطلت في ذكرها وأسبابها ونتائجها، وعلى رأسها قصتى أنا مع الدكتور طه حسين في الجامعة، حين سمعت بأذنى من فم الدكتور طه كلاما كنت قد قرأته بالإنجليزية في إحدى المجلات، كتبه مستشرق غريب الشكل والعقل والأطوار يقال له "مرجليوث" فإذا الذي أسمعه، هو نفس ما قرأته قبل أن أسمع ما سمعت، ولكى سمعته بلفظ عربي مُسْتجاد، وبإلقاء أستاذ بارع تصغى إليه

ليس شكا أزهريا

فيأسرك لفظه وإلقاؤه، وهو الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي عند أول دخولى الجامعة، ولكن فتنة هذا الأستاذ الكبير، لم تمنعنى يومئذ (سنة 1926) -وأنا طالب صغير- أن أقول لزملائى وأساتذتى وللناس: إن هذا "سطو" غير لائق على مقالة المستشرق الأعجمي، وإن الجامعة مكان للبحث والمناقشة، لا مكان للسطو على أعمال الناس، واشتد الأمر عليَّ وعلى من يحيط بى "حتى تدخل في ذلك، وفي مناقشتي بعض الأساتذة الأجانب كالأستاذ نلّينو، والأستاذ جويدى من المستشرقين، وكنت أصارحهما بالسطو، وكانا يعرفان ذلك، ولكنهما يُداوِران، وطال الصراع غير المتكافئ بيني وبين الدكتور طه زمانا، إلى أن جاء اليوم الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها، لا الجامعة وحدها، غير مبال بإتمام دراستى الجامعية، طالبا للعزلة، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في قضية الشعر الجاهلي بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعب "مقدمة المتنبى ص 23، 24". ليس شكا أزهريا وقد قصصت القصة كلها واضحة في مقالاتى في مجلة الثقافة المصرية حين تفضل الدكتور عبد العزيز الدسوقى فكتب عن كتابى "المتنبى" في طبعته الثانية سنة 1977، وقلت فيها ما قلت، من اتهامى للدكتور طه بالسطو على عمل من الأعمال، واستنكرت أن يكون ذلك في "جامعة" "وأن الجامعة" "إذا قبلت هذا السطو" وسكتت عنه، فإنها تفقد هيبتها، وطالبت أساتذتى الذين أرادوا أن يحولوا بيني وبين ترك الجامعة، في قصة طويلة أن ينصحوا الدكتور طه أن يصرح بنسبة هذا الذي قاله إلى صاحبه مرجليوث، فإذا فعل عدت إلى الجامعة ونقضت عزمى على السفر، هذه واحدة. وبهذه الواحدة يتبين أن الذي قاله المقالح، من أن الدكتور طه شك شكا أزهريا! ! كلام لا أصل له، فهو ليس شكا أزهريا ولا ديكارتيا، ولا أرسطوريا (! ! ) بل الذي في كتاب (في الشعر الجاهلي) إنما هو "سطو" لا غير، وكان الله يحب المحسنين، ومن الدليل على ذلك أيضا أن الدكتور طه نفسه، لم يؤلف

بعد ذلك كتابا واحدا يحمل ذرة من هذا "الشك" الذي زعم أنه منهج، ويزعمه له أمثال الدكتور المقالح، وهذه بالطبع غريبة من الغرائب. أما "الثانية" فإني نشرت كتابى عن "المتنبى" أول مرة، في المقتطف (يناير سنة 1936)، وبعد سنة أو أكثر (سنة 1937) فاجأنى الدكتور طه بكتابه "مع المتنبى" فرأبت وأنا أقرؤه، أنه لم يفارق عادته التي اعتادها، وأنه وضعنى تحت إبطه وهو يملى كتابه، فيسألنى عن منهجى في كل قضية تخص المتنبى، فإذا فرغت سار على الدرب فرحا ومتفكها ومعاكسا ومستخرجا لغيظى، إلى آخر ما قصصت من القصة، قصة السطو على كتابى، وأيضا لم يؤلف بعد ذلك كتابا عن شاعر من الشعراء، غير كتابه "مع المتنبى" يحمل ذرة واحدة من هذا المنهج" الذي يزعم للناس أنه هو منهجه في دراسة الشعراء. وهذه بالطبع أيضا غريبة من أغرب الغرائب! ! ولكن يومئذ (سنة 1937)، لم أصبر عليه صبرى عليه في قضية سطوه على مرجليوث، بل نشرتُ مقالات متتابعة في جريدة البلاغ، مرة في الأسبوع من 3 فبراير سنة 1937 إلى مايو سنة 1937 واتهمته بالدليل والبرهان على أن عادته في "السطو" لم تزل قائمة في نفسه لا يستطيع أن يفارقها، وزدت الأمر وضوحا في مقدمة كتابى التي كتبتها سنة 1977، قلت ذلك في حياته، كما ترى مع وجود تهمة "السطو" بلفظها وبلا كناية، وسكت الدكتور طه حسين لأنه لم يستطع أن ينفي عن نفسه التهمة، ولا استطاع ذلك يومئذ "تلامذته المنتشرون على طول الساحة العربية إزاء هذا الهجوم الذي يُكال لأستاذهم العميد" كما يقول المقالح (مقالات البلاغ، منشورة في الجزء الثاني من كتابى المتنبى). وقلت في جميع ذلك إن الدكتور طه وسائر الأساتذة الكبار الذين تعودوا "السطو" هم الذين نشروا هذه السُنة، فصارت سُنة سيئة متبعة إلى يومنا هذا -بلا حياء- في جميع حياتنا الثقافية والأدبية والفنية وشرح هذه القضية يطول، وهي قضية أخرى غير القضية التي يذكرها المقالح، فلم أتعرض لها بتفصيل، لأنه

لم يذكرها في دفاعه عن "الدكتور طه" كما لم أتعرض لما حُشِيَتْ به مقالته من الأخطاء التي لا تخصنى. والآن، أدع لقارئ مجلة العربي حرية الحكم والتعبير، فهو حر في اختيار اللفظ الذي يناسبه، في وصف ما كتبه الأستاذ الفاضل حامل الدكتوراه وأشباهه. أما أنا فأكتفي بأن أقول إنه كلام خطأ كله، وإنه كلام مضلل، وأسأل الله العافية من البلاء، وأستعفي قارئ مجلة العربي، ليعفو عما جلبته عليه بالإكثار والإملال، ولكن عذرى أنى لا أحب العبث بعقول القراء، فأكثرت وأمللت لكي أوضح وأصحح، لا لكي أتباهى وأتبجح.

§1/1