جمهرة مقالات أحمد شاكر

أحمد شاكر

الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة للمؤلف رقم الْإِيدَاع: 14784/ 2005 دَار الرياض 40 ش مُحَمَّد كَمَال - غرب أَرض اللِّوَاء خلف مَدِينَة المهندسين - جيزة ت: 7158100 يُطْلَب مِنْ: هَاتِف: 0505470260 الرياض بريد إلكتروني: [email protected]

الإهداء

الإِهْدَاءُ إلى حضرة سيدى الوالد .. عبد العزيز بن حماد بن عبد الله العقل حُبًّا وَبرًّا وَإِجلالًا وَتَقْدِيرًا لأَفضَالِه الَّتِى طَوَّقَتْ عُنُقِى اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ ذَنْبه كلَّه وأَسعِده وَارفَعْ دَرَجَتَهٌ فِي الدَّارَيْنِ اللَّهُمَّ آمين

طلائع الجمهرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طلائع الجَمْهَرة الحمد لله القاهر فوق عباده، بيده ملكوت السموات والأرض، لا إله إلا هو الكبير المُتعال. وصلى الله على البشير الدَّاعينا بترغيبه إلى جنته، والنذير المُبْعِدِنا بترهيبه عن ناره صلاةً تُبْلِغُنا رضاه سبحانه، وتحفُّنَا برَفْرَف رحمته يوم لا ظل إلا ظله، وتُصّفي كَدَرَ أعمالنا يومَ لا يشفع شافع إلا من بعد إذنه، وهو الغفور الرحيم، يُقيل عثرة عباده برأَفته، ويتغَّمد إساءتهم بإحسانه. وبعد، فقد كان العلّامة المصري الشيخ أحمد محمد شاكر مُتفننًا وعالمًا مُبرَّزًا في علوم كثيرة؛ فهو إمام أهل عصره في علم الحديث، وفقيه مجتهد، ومُفسر رَكين، وعالم باللغة، وبحاثّة ثَبْت مع فكر درّاك وعلم واسع، وريادة فذّة في ميدان تحقيق التراث ونشره. وقد انتقل إلى رحمة الله في يوم السبت 26 من ذي القعدة سنة 1377 هـ الموافق 14 من يونيه سنة 1958 م، ومضت الأيام، وصَمَتَ أصدقاؤه وتلاميذه ومحبوه فلم يخصوه بدراسة جَادّة، وظَلّ تراثه العلمي مُوزعًا في تَضاعيف المجلات والدوريات المختلفة مع نُدرته ونَفَاسته، واحتفاء العلماء بآراء الشيخ أحمد شاكر وتحقيقاته واضح كل الوضوح، ومع ذلك أطبقوا على العقوق، فلم يقضوا حق العلم والتاريخ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين (2/ 89).

حين ذلك صحَّت عزيمتي على جمع مقالات العلّامة أحمد محمد شاكر ونشْرها أداءً لهذا الدين. وجَعلْتُ بين يدي هذه المقالات ترجمة لحياته الشخصية ومسيرته العلمية. وقد رَتبتُ المقالات ترتيبًا موضوعيًا، على نحو ما يلي: ° تحقيق الترات. ° التعريف بالكتب. ° نقد الكتب والمقالات. ° بين أحمد شاكر وحامد الفقي. ° الدفاع عن الحق. ° مسائل علمية. ° تراجم وأعلام. ° مناسبات. وختمت الكتاب: بأهم تعقبات الشيخ على دائرة المعارف الإسلامية، وهذه الدائرة موسوعة علميّة كتبها لفيف من المستشرقين، رُتبت موادها على حروف المعجم، واشتملت على ألوان متفرقة من العلوم. وكان للمستشرقين فيها مغالطات ظاهرة، وشُبه وسموم نثروها في تضاعيف هذه الدائرة، وقد شارك الشيخ أحمد شاكر في التعقيب والمناقشة ودفع الشبه ما أمكن. ورغبتُ في إلحاقها بالمقالات لأَهميتها وغفلة أهل العلم عنها. الحقّ أنّ الشيخ أحمد شاكر حَمَلَ أمانة هذا القلم وصدع بالحق في غير جَمْجَمَة ولا إدْهان فصال وجال في الدفاع عن العربية والإسلام؛ قاوم الدعوة إلي كتابة اللغة العربية بحروف اللاتينية، وقاوم دعاة التجديد من شُذّاذ الآفاق، أولئك الذين يأتون كل حين

ببدعة يزينونها ويزعمون أنّ بها نجاح العرب والمسلمين؛ بدعة التبرج والسفور، وبدعة العامية، وبدعة اللادينية، والانبهار الأعمى بكل ما هو غربي، وكم ذا شغلت هذه البدع - وأمثالُها كثير - هذا الشرقَ المستبَدَّ به عن مطامحه العليا، وأضاعت من مجهوداتٍ جليلةٍ هي ذَوْب القلوب الملتاعة، وحرارة الإيمان الصادق؟ (¬1) وهذا الرجل الفذّ نَسِيج وحْدِه فقد كانت جهوده في نشر التراث بَعْثًا جديدًا لذخائر الأمة وإحياءً لثمرات عقولها، ويلحظ المُتَتبَّع لجهوده أن له يدًا باسطة في غير عِلْمٍ من عُلومِ الثقافةِ العربيةِ الإسلاميةِ من فقهٍ وأصولٍ وتفسيرٍ وحديثٍ وعربيةٍ (¬2). ويوم أن مضى أحمد شاكر لِطَيَّتِه توجّع أخوه محمود شاكر لفقده، وقد كان شريكه ودليله في تحقيق تفسير الطبري، فكتب كلمة عالية تفيضُ صدقًا وإحساسًا: "وبعد، فقد أبليت شبابي وصدرًا من كُهُولتِي، وأخي يومئذٍ رُكنٌ من العلم باذخٌ، آوي إليه إذ حزبني أمرٌ، أو ضاقَ عليَّ مسلك. فأصبحت فإذا الركنُ قد سَاخَ، وإذا أنا قد أُفْرِدْتُ إفرادَ الساري في فَلاة بغير دليلٍ. كان نُورًا يضيءُ الطريق، فلما طَفِئَ، أصبحتُ في ظلماءَ يَنهاني سوادُها أن أسير. وكنتُ أعمل في هذا التفسير وحدي بعيدًا عنه، هكذا كان. لم يكن يشاركني في قراءة نَصَّه، ولا في كشف مُبْهمِه، ولا في تقويم ما اعوَجَّ من نَهْجِه، ولا في تخِريج ما تولَّيتُه من رواية حديثه. وَقَضيتُ دهرًا وأنا أظنُّ أنَّ الأمر كُلَّه ثَمرةُ جُهْدي وعملي! ! فلمَّا قبضَ الله عبدَه الصالحَ - رحمة الله عليه - وبقيتُ أيضًا أعمل وَحدي بعيدًا عنه ¬

_ (¬1) انظر: انظر مجلة الزهراء رمضان وشوال سنة 1346 هـ. (¬2) انظر: محمود محمد شاكر الرجل والمنهج ص 32

أيَّ بُعْدٍ! ! فعندئذٍ وجَدتُ مَسَّ الحقَّ في فقده، وإذا هو كانَ يكون مَعِي وإن خِلْتُه بعيدًا، وكانَ يكونُ مُعيني وإن لم أسْتَعِنْه، وكان يكون نورَ طَريقي، وإن خلتُ الطريقَ مُضيئًا من ذات نَفْسِه! فأَيُّ هَدْي طُمِس عنَّي بفقْدِك! وأَيُّ دليلٍ نأى عنِّي برحيلك! وأَي نورٍ غارَ عني بغيابِك! وأَيُّ حُزْنٍ بَقِي لي بفَنائِك! فيا ابنَ أبي وأمَّي: لَوْ كَانَ يُنجِي من الرَّدَى حَذَرُ ... نَجَّاكَ مِمَّا أصابَكَ الحَذَرُ يَرْحَمُكَ الله من أَخِي ثِقةٍ ... لمَ يْكُ في صَفْوِ وُدَّهِ كَدَرُ فَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ ويَفْنَى العِلمُ فِيِه وَيدْرُسُ الأَثَرُ" (¬1) وسيظل هذا الرجل أثرًا ضخمًا في ضمير هذه الأمة بما أسداه للعربية والإسلام من آثار علمية ذاهبة في الندرة والنفاسة، وجهاد صادق في الدفاع عن الحق. رحمك الله يا أبا الأشبال رحمة واسعة، وبَرَّدَ مضجعك، وجعلَ ما قدمته في ميزان حسناتك يوم تلقاه. أسأل الله أن يمهد لي طريق الصواب، وأن يغفر لي زلتي، وأن يعينني بحوله وقوته، فقد برئت إليه سبحانه من كل حول وقوة، وهو وحده المستعان، وله الحمد والمنة، ومنه الجزاء والثواب، وإليه المرجع والمآب. عبد الرحمن بن عبد العزيز بن حمَّاد العقل ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة محمود شاكر لتفسر الطبري الجزء الرابع عشر.

العلامة أحمد محمد شاكر حياته الشخصية ومسيرته العلمية

العلّامة أحمد محمد شاكر حياته الشخصيّة ومسيرته العلميّة وفيه المباحث التالية: المبحث الأول: اسمه ونسبه وولادته وأسرته المبحث الثاني: حياته ورحلاته وصلاته المبحث الثالث: شيوخه وأساتيذه المبحث الرابع: مذهبه الفقهي وعقيدته المبحث الخامس: آثاره العلمية

المبحث الأول: اسمه ونسبه وولادته وأسرته

المبحث الأول: اسمه ونسبه وولادته وأسرته أحمد بن محمد شاكر بن عبد القادر، من آل أبي علياء، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - وسماه أبوه (أحمد شمس الأئمة أبو الأشبال). ولد بعد فجر يوم الجمعة 29 من جمادى الآخرة سنة 1309 هـ، الموافق 29 من يناير سنة 1892 م (¬1). إلماعة عَجْلى عن أسرة أحمد شاكر والده هو: الشيخ محمد شاكر، شخصية أزهرية كبيرة، ومن كبار علماء مصر، ولد بجِرْجَا (¬2) في منتصف شوال سنة 1282 هـ، وحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ التعليم، ثم رحل إلى القاهرة، إلى الأزهر الشريف، فتلقى العلم فيه عن كبار الشيوخ في ذلك العهد، وفي 15 رجب سنة 1307 هـ، عين أمينًا للفتوى مع أستاذه الشيخ العباسي المهدي (¬3)، مفتي الديار المصرية إذ ذاك. ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المجلة، العدد (19) سنة 1958 م (ص 120) من مقال كتبه محمود شاكر، بعنوان: (أحمد محمد شاكر إمام المحدثين). (¬2) قرية بصعيد مصر في غربي النيل لها نهر مفرد وليست بشارفة على النيل. انظر: معجم البلدان (3/ 224). (¬3) هو: محمد العباسي ابن الشيخ محمد أمين الحنفي ابن الشيخ محمد المهدي =

ثم ولي منصب نائب محكمة مديرية القليوبية في 7 شعبان سنة 1311 هـ، ومكث فيه أكثر من ست سنين. وكانت له جهود في إصلاح أحوال المحاكم الشرعية، ثم ولي منصب قاضي قضاة السودان في يوم 10 ذي القعدة سنة 1317 هـ. وفي سنة 1904 م صدر الأمر بتعيينه شيخًا لعلماء الإسكندرية، فبعث فيها نهضة علمية عمّت أرجاء مصر، فوضع أسس النظام في التعليم، وأحسن اختيار الكتب والمقررات في الدراسة، وجعل من المقررات بعض العلوم الحديثة مع علوم الدين والعربية. وفي أواخر سنة 1324 هـ، نُدب للقيام بأعباء منصب مشيخة الجامع الأزهر بالإضافة إلى عمله في مشيخة الإسكندرية، أربعة أشهر فقط. وفي سنة 1327 هـ صدر الأمر بتعيينه وكيلًا لمشيخة الجامع الأزهر فسار فيه سيرته في الإصلاح، وظَلَّ في منصبه إلى أن أنشئت ¬

_ = الكبير الشافعي، ولد بالإسكندرية سنة 1243 هـ، فقرأ بها بعض القرآن، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1255 هـ، فأتم حفظه واشتغل بالعلم وقرأ على الشيخ إبراهيم السقا، وخليل الرشيدي وغيرهما، وولي إفتاء الديار المصرية سنة 1264 هـ، وهو في نحو الحادية والعشرين من سنيه، ولم يتأهل بعد لمثل هذا المنصب الكبير. ثم أكب على الاشتغال بالعلم خصوصًا الفقه حتى نال منه حظًّا وافرًا، وجلس للتدريس بالأزهر، وباشر أمور الفتوى بعفة وأمانة وتدقيق وتحقيق، واشتهر بين الناس بالحزم والعزم، وعدم ممالأة الحكام، توفي - رحمه الله - سنة 1315 هـ. انظر: أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث للعلّامة أحمد تيمور باشا (ص 62 - 72).

الجمعية التشريعية سنة 1913 م، فعُيِّن عضوًا فيها، واعتزل وظائف الحكومة، وتوفي - رحمه الله - سنة 1358 هـ (¬1). وجده لأمه هو: العلامة الكبير الشيخ هارون بن عبد الرازق بن حسن بن أبي زيد البنجاوي الأزهري، ولد بقرية (بنجا) بالصعيد في يوم الخميس 25 جمادى الأولى سنة 1249 هـ، إمام من أئمة العربية، كان شيخ رواق الصعايدة في الأزهر، ثم من أعضاء مجلسه الأعلى، ومن مصنفاته: حسن الصياغة في فنون البلاغة، وعنوان الظرف في علم الصرف، والمبادئ النافعة في تصحيح المطالعة، توفي - رحمه الله - بالقاهرة سنة 1336 هـ (¬2). وأمه هي: أسماء هارون عبد الرازق، توفيت - رحمها الله - بعد ظهر يوم الأحد 22 شعبان 1344 هـ، بمنزل والده محمد شاكر بشارع رحبة عابدين بالقاهرة (¬3). وأشقاء الشيخ أحمد شاكر ثلاثة ذكور، وثلاث إناث: أَسنّ الذكور - بعد أحمد - عليّ، وُلد بالقاهرة وقت أذان العصر من يوم السبت 26 ذي الحجة سنة 1311 هـ، ونال شهادته العالِمية من ¬

_ (¬1) انظر: محمد شاكر، مقال كتبه أحمد شاكر في مجلة المقتطف، عدد أغسطس 1939 م؛ ومقال آخر للأستاذ محمد عبد الغني حسن بعنوان: محمد شاكر، في مجلة الكتاب عدد يولية 1946 م. (¬2) انظر: محمد شاكر، مقال كتبه أحمد شاكر في مجلة المقتطف، عدد أغسطس 1939 م، والأعلام للزركلي (8/ 61). (¬3) انظر: محمود محمد شاكر قصة قلم، لعايدة الشريف، (ص 223).

الجامع الأزهر في يوم الاثنين 14 محرم سنة 1339 هـ، وعين قاضيًا بالمحاكم الشرعية في رمضان سنة 1345 هـ (¬1)، ثم كان عضوًا عاملًا بالحزب الوطني (¬2)، وساهم مع أخيه أحمد في نشر عددٍ من كتب التراث العربي، وله من الأبناء: عبد الرحمن وزهير وعلي (¬3). وثاني الأشقاء محمد، ولا أعرف عنه شيئًا سوى أنه لم يُكمل تعليمه (¬4). وأصغرهم محمود، وقد تَسنَّم ذُرى المجد الأدبي، وطارت شهرته في الآفاق. ولد - رحمه الله - بالإسكندرية يوم الاثنين، العاشر من المحرم سنة 1327 هـ، وفي صيف ذلك العام الذي ولد فيه انتقل إلى القاهرة، حين عُيّن والده وكيلًا للجامع الأزهر. وحصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) القسم العلمي سنة 1925 م (¬5). وفي أثناء ذلك، وتحديدًا في بداية العشرينيّات، اتصلت أسباب محمود بأسباب اثنين من كبار أهل العلم بالأدب هما: سيد بن علي ¬

_ (¬1) انظر تقدمة أحمد شاكر لجامع الترمذي (1/ 10) (¬2) انظر: دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أديب العربية الكبير أبي فهر محمد محمود شاكر بمناسبة بلوغه السبعين (ص 14). (¬3) انظر: محمود محمد شاكر قصة قلم لعايدة الشريف (ص 161). (¬4) أفدت ذلك من العلامة أحمّد المانع، وكان ملحقًا ثقافيًا في مصر، ومن المقربين للأديب الكبير العلامة محمود شاكر - رحمه الله -. (¬5) انظر: تاريخ نشر التراث العربي، لمحمود الطناحي (ص 104).

المرصفي (¬1)، ومصطفى صادق الرافعي (¬2)، أما المرصفي فهو إمام العربية في زمانه، وكان له أكبر الأثر في تشكيل ملكة التذوق والنقد لدى محمود (¬3). أما الرافعي فقد ملك على محمود نفسه، ورأى فيه الأديب "الذي شارك الأوائل عقولَهم بِفكْرِهِ، ونَزعَ إليهم بحَنينه، وفَلَجَ أهل عصره بالبيان حين استعجمت قلوبُهم، وارتَضَختْ عَربيتُهم لُكْنَةً غير عربية" (¬4). وطَفَحَ قلب محمود بحب الرافعي فَطَفِقَ يقول: "وتبدت لي إنسانيةُ هذا الرجل كأنها نغمة تجاوب أختها في ذلك الأديب الكاتب الشاعر، وظفرت بحبيب يحبني وأحبه؛ لأن القلب هو الذي كان ¬

_ (¬1) هو: سيد بن علي المرصفي الأزهري، إمام من أئمة الأدب واللغة، مصري، كان من جماعة كبار العلماء في الأزهر، من آثاره: رغبة الآمل شرح الكامل. توفي سنة 1931 م. انظر: الأعلام (3/ 147). وألمع زكي مبارك إلى جوانب من شخصية المرصفي في كتابه البدائع (1/ 64 - 79). (¬2) هو: مصطفى صادق بن عبد الرازق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي، عالم بالأدب شاعر، من كبار الكتاب، أصله من طرابلس الشام، أصيب بصمم، وكان شِعْرُه نقي الديباجة على جفاف في أكثره، ونثره من الطراز الأول، توفي بطنطا سنة 1356 هـ، ومن كتبه: وحي القلم، تاريخ آداب العرب، المساكين، وغيرها. انظر: الأعلام (7/ 235)، و (حياة الرافعي) للعريان، ومقدمة كتاب الرافعي (على السّفود). (¬3) انظر: محمود محمد شاكر الرجل والمنهج، لعمر القيَّام (ص 39). (¬4) تقدمة محمود شاكر لكتاب حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان (ص 9).

يعمل بيني وبينه، وكان في أدبه مسُّ هذا القلب؛ فمن هنا كنت أتلقى كلامه فأفهم عنه ما يكاد يخفى على من هو أَمثلُ مني بالأدب، وأَقْومُ على العلم، وأبصَرُ بمواضع الرأي" (¬1). وفي سنة 1926 م، التحق محمود بالجامعة المصرية طالبًا في كلية الآداب: قسم اللغة العربية، لكن مكثه لم يَطُلْ في الجامعة، فقد نشب بينه وبين أستاذه طه حسين (¬2) خلاف حول منهج دراسة الشعر الجاهلي، وظهر له مدى انبهار أستاذه بالمناهج المنتزعة من ثقافات أخرى، واتكائه على نتائج البحث الاستشراقي دون إدراك صحيح للعلاقة بين المنهج والثقافة التي أَنْتجتْه (¬3). وأفضى ذلك الخلاف إلى هجرته إلى الحجاز سنة 1347 هـ - 1928 م، وفي جدة أنشأ بناءً على طلب من الملك عبد العزيز آل سعود مدرسة جدة السعودية الابتدائية، وعمل مديرًا لها، ولكن ما لبث أن عاد إلى القاهرة في أواسط عام 1929 م. وانصرف إلى ¬

_ (¬1) تقدمة محمود شاكر لكتاب حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان (ص 8). (¬2) هو: طه بن حسين بن علي بن سلامة، حصل على الدكتوراه من السوربون في فرنسا سنة 1918 م، ولما عاد إلى مصر عُين محاضرًا في كلية الآداب بجامعة القاهرة. ثم كان عميدًا لتلك الكلية، فوزيرًا للمعارف، وقد كان من دعاة التغريب، ومن ذيول الاستعمار في مصر، توفي سنة 1354 هـ. انظر: الأعلام للزركلي (3/ 231)؛ ومقال للدكتور زكي مبارك، بعنوان: الدكتور طه حسين بين البغي والعقوق، من كتاب البدائع (2/ 169)؛ والاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين (2/ 221). (¬3) انظر: محمود محمد شاكر الرجل والمنهج، للقيَّام (ص 47).

الأدب بكُليّته، فتأهل، وبلغ في العربية المبالغ. قال إحسان عباس (¬1): "معرفة محمود بالتراث، وإحاطته به، وتمثله لأبعاده المختلفة، وحضوره في وجدانه أمر كالنهار لا يحتاج إلى دليل" (¬2). وقد حارب أديب العربية الكبير محمود شاكر في جبهات كثيرة، وخاض معارك كثيرة؛ حارب الدعوة إلى العامية، وكتابة اللغة بحروف لاتينية، وكشف القناع عن وجه الاستشراق، وأهدافه الخفية في مصر (¬3). أما جهوده في نشر التراث فهي من أدل الشواهد على نبالة قدره، وعلو كعبه في العلوم التي عُني بنشرها، وتجلّى ذلك في ما نشره من ذخائر التراث: طبقات فحول الشعراء لابن سلام، وتفسير الطبري، وأجزاء من تهذيب الآثار، وجمهرة نسب قريش، وغيرها. وشقيقات أحمد شاكر: عزيزة، وصفية، وفاطمة الزهراء. وله من الولد ثلاثة بنين، وست بنات. ¬

_ (¬1) من تلاميذ محمود شاكر، وهو من كبار محققي التراث، ونقاد الأدب العربي المعاصر. انظر: سيرته الذاتية (غربة الراعي). (¬2) دراسات عربية (ص 9). (¬3) انظر: تاريخ نشر التراث العربي، لمحمود الطناحي (ص 105 - 109).

أَسنّ الذكور أسامة، وحصل على الشهادة الجامعية في تخصص العلوم السياسية من كلية التجارة بجامعة فؤاد سنة 1945 م، وعمل في المكتب الفني لوزير التجارة، ثم في وزارة الاقتصاد، ثم في مصلحة الشركات، ثم بديوان محافظة القاهرة، ووصل إلى منصب مدير عام الشؤون المالية إلى أن بلغ سن التقاعد. ويقيم الآن بالقاهرة. ويجيد اللغة الإنجليزية، واستفاد منه الشيخ أحمد في ترجمة مقدمة كتاب (الكامل للمبرد) للنسخة المطبوعة في أوربة (¬1). الثاني: فرناس، وحصل على الثانوية العامة، ثم التحق بكلية الهندسة، ولم يكمل دراسته، وسافر إلى ألمانيا، وجلس بها أربع سنوات، ثم التحق بهيئة قناة السويس، ووصل إلى منصب كبير مراقبي حركة قناة السويس، ثم انتقل إلى المعاش في سبتمبر 1991 م، ويقيم بالإسماعيلية. الثالث: سعود، وحصل على شهادة عليا، ويمتلك محلًّا تجاريًّا في القاهرة. وبنات الشيخ: كوثر، وتماضر الخنساء، وسبا شجرة الدر، ورباب، ونعمت الله، وفاطمة الزهراء. وتوفيت شجرة الدر في يناير سنة 1990 م، ونعمت الله في سنة 1935 م، عليهما رحمة الله (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة الجزء الثاني من كتاب الكامل الذي حققه أحمد شاكر. (¬2) انظر: العلّامة الشيخ أحمد شاكر وجهوده في السنة المطهرة للدكتور علاء عنتر (ص 10 - 11).

المبحث الثاني: حياته ورحلاته وصلاته

المبحث الثاني: حياته ورحلاته وصلاته لما صدر الأمر بإسناد منصب قاضي قضاة السودان إلى والده الشيخ محمد شاكر، في 10 من ذي القعدة سنة 1317 هـ، رحل بولده إلى السودان؛ فألحق ولده (أحمد) بكلية غوردون، فبقي تلميذًا بها حتى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية سنة 1322 هـ، فألحق ولده من يومئذٍ بمعهد الإسكندرية الذي يتولاه. وفي الإسكندرية توجهت همته لطلب العلم، وشغف في أول أمره بحب الأدب والشعر، ثم انصرف في سنة 1327 هـ، إلى دراسة علم الحديث بهمة لا تعرف الكلل. ولما انتقل والده من الإسكندرية إلى القاهرة وكيلًا لمشيخة الأزهر في ربيع الآخر سنة 1327 هـ، التحق أحمد شاكر بالأزهر، فكانت إقامته في القاهرة بدء عهد جديد في حياته، فاتصل بعلمائها ورجالها، وعرف الطريق إلى دور كتبها، وكانت القاهرة يومئذٍ مستردًا لعلماء البلاد الإسلامية. وهذا الإكباب الدائم على العلم، واللقاء المتتابع للعلماء؛ هو الذي مهَّد لظهور هذا العالم المتفنن، حتى استطاع أن يقف في منتصف القرن السابق علمًا مشهورًا في غير علم من علوم الإسلام من حديث وفقه ولغة وأدب.

رحلاته

ولما حاز شهادة العالِمية من الأزهر في سنة 1917 م، عُين مدرسًا بمدرسة ماهر، ولكن لم يبق بها غير أربعة أشهر، ثم عُين موظفًا قضائيًا ثم قاضيًا، وظلّ في القضاء حتى أُحيل إلى المعاش في سنة 1951 م (¬1). رحلاته: في سنة 1347 هـ، سافر الشيخ أحمد شاكر إلى مكة لأداء فريضة الحج، وكان يتردد في مكة على المكتبات الخاصة والعامة، وعند الشيخ عبد الوهاب الدهلوي (¬2) وجد نسخة جيدة من كتاب (ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث) للعلّامة عبد الغني النابلسي (¬3)، مكتوبة بخط أحد أحفاد المؤلف، وتاريخ نسخها سنة 1215 هـ، وكتاب الذخائر من الكتب النادرة جدًا في زمن الشيخ أحمد شاكر، لذلك حرص الشيخ على استعارة النسخة من الشيخ ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المجلة، العدد (19) سنة 1958 م مقال كتبه محمود شاكر، بعنوان: (أحمد محمد شاكر إمام المحدثين). (¬2) قال أحمد شاكر عنه: "أحد كبار الأعيان والتجار من الهنود بمكة". انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتاب مفتاح كنوز السنة، صحيفة (ض) (¬3) هو: عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي، شاعر، عالم بالدين والأدب، مكثر من التصنيف، ولد ونشأ في دمشق، ورحل إلى بغداد، وعاد إلى سورية، وتوفي سنة 1143 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 4/ 32.

الدهلوي من أجل طبعها (¬1) وسافر إلى الرياض سنة 1368 هـ، وقابل فيها الملك عبد العزيز - رحمه الله - وعرض على مسامعه حاجة العلماء والطلاب إلى اقتناء المسند للإمام أحمد بقيمة ميسرة بعد نفاد الطبعة الأولى من الجزء الأول؛ فأمر بطبعه مرة أخرى (¬2). وسافر إلى الرياض في جمادى الأولى سنة 1373 هـ، والتقى بمفتي الديار السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - وأخيه فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم (¬3)، وطلبا منه تصحيح شرح الطحاوية لابن أبي العز وطبعه في مصر (¬4). ومن الرحلات المهمة في حياة الشيخ رحلته إلى دمشق، وزيارته للمكتبة الظاهرية، واطلاعه على ما فيها من نوادر الكتب المطبوعة، ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتاب مفتاح كنوز السنة، صحيفة (ض) (¬2) وقد وفق الله الشيخ محمود ربيع أحد علماء الأزهر، فشرع في طبع الكتاب. كما ذكر ذلك الشيخ أحمد شاكر. تقدمة شاكر للمسند، حاشية (1/ 16). (¬3) هو: عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في الرياض سنة 1351 هـ، وكان ملازمًا لأخيه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ونائبًا له في رئاسة المعاهد والكليات، توفي سنة 1386 هـ. انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون 3/ 553. (¬4) انظر: تقدمة أحمد شاكر لشرح الطحاوية لابن أبي العز (ص 6).

صلاته وصداقاته

ونفائس المخطوطات. وحفلت زيارته للمكتبة الظاهرية بلقاء عددٍ من العلماء وطلبة العلم؛ منهم الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - (¬1). صلاته وصداقاته: من الجوانب التي لا تُغفل في مسيرة الشيخ أحمد شاكر العلمية، تلك الصداقات التي انعقدت مع صفوة من الأدباء والعلماء والمحققين والناشرين، والصلات الفكرية مع ثُلّة من دعاة الإصلاح ورجال العلم والأدب في عصره. وتتبع هذه الروابط يكشف عن جوانب مهمة في شخصية أحمد شاكر. ومن الأعلام الذين وقفت على أسمائهم ما يلي: 1 - مصطفى صادق الرافعي: الشيخ أحمد شاكر شديد الإعجاب بالرافعي وبأسلوبه النثري، وكان يصفه بـ "الأستاذ الحجة البليغ" (¬2). 2 - محمد خميس هيبة: والشيخ محمد من أصدقاء الشيخ أحمد شاكر القدماء. قال أحمد شاكر: "صديقي وزميلي من أول طلب العلم، العالم ¬

_ (¬1) ذكر خبر هذه الرحلة صاحب كتاب الصبح السافر في حياة العلّامة أحمد شاكر (ص 17)، نقلًا عن شريط مسجل بصوت الشيخ ناصر الدين الألباني. (¬2) تقدمة أحمد شاكر لمفتاح كنوز السنة، صحيفة (د).

3 - الدكتور زكي مبارك

المتقن المتفنن، الشيخ محمد خميس هيبة" (¬1)، وقد قرأ عليه تحقيقه لكتاب الرسالة للإمام الشافعي حرفًا حرفًا، ورجع له في كل مشكلٍ عرض له في تحقيقه للكتاب. 3 - الدكتور زكي مبارك (¬2): وصفه أحمد شاكر بـ "الأخ الصادق الود" (¬3). وأخبرني أسامة بن الشيخ أحمد شاكر أن الدكتور زكي كان من أصدقاء الشيخ، وزاره في بيته مرات. ويرى أحمد شاكر أن زكي من الأدباء الكبار، وصاحب قلم بليغ في الكتابة، وإن لم يكن له معرفة بعلوم الشريعة، واطلاع على كتب المتقدمين منهم، وطرق تأليفهم (¬4). 4 - الشيخ محمد نور الحسن، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد: وعند تحقيق الرسالة أفاد الشيخ أحمد شاكر من أستاذي العربية - بكلية اللغة العربية بالأزهر - العالمين الجليلين الشيخ محمد نور ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 28). (¬2) هو: زكي بن عبد السلام بن مبارك، من كبار الأدباء والكتاب المعاصرين، وله شعر في بعضه جودة وتجديد، عاش في مصر، وتعلم في الأزهر، وحصل على رسالة دكتوراه في الآداب من الجامعة المصرية، ورسالة أخرى من فرنسا، ولا تخلو بعض كتاباته من مجون وعربدة. انظر: الأعلام للزركلي 3/ 47، وكتاب البدائع، والحديث ذو شجون لزكي مبارك. (¬3) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 10). (¬4) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 9).

5 - لويس سركيس

الحسن، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (¬1)، وقد عرض عليهما كثيرًا من مشكلات العربية في الكتاب (¬2). 5 - لويس سركيس: قال أحمد شاكر: "صديقي الفاضل الأديب لويس سركيس" (¬3). وقد عهد إلى أحمد شاكر بتصحيح كتاب "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ - رحمه الله - وقام بنشره في مكتبة سركيس. 6 - السيد محمد السنوسي الأنصاري: قال أحمد شاكر: "ابن عمتي السيد محمد السنوسي الأنصاري، والأخ المخلص البار" (¬4)، وكانت تربطه بالشيخ أحمد شاكر روابط علمية أيضًا؛ منها معاونته في إخراج كتاب الرسالة الذي اضطلع أحمد شاكر بتحقيقه. ¬

_ (¬1) من أعضاء المجمع اللغوي بالقاهرة، ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر، وكان عميدًا لكلية اللغة العربية، واشتهر بتصحيح المطبوعات وتحقيقها، توفي - رحمه الله - سنة 1393 هـ. انظر: الأعلام (7/ 92). (¬2) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 28). (¬3) تقدمة أحمد شاكر لكتاب "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ (ص 3). ولويس سركيس من نصارى العرب وصاحب مكتبة سركيس في القاهرة، وكانت له يد على أحمد شاكر بما عهد له من تصحيح كتاب "لباب الآداب" ونشره له. (¬4) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 28).

7 - الشيخ محمد نصيف

7 - الشيخ محمد نصيف: قال أحمد شاكر: "صديقنا الحبيب السلفي الكبير الكريم الأخ السيد محمد نصيف (¬1) - حفظ الله -" (¬2). والشيخ محمد نصيف من كبار وجهاء مدينة جدة في وقته، وكان مضرب المثل في الأخلاق والكرم، مع حُسن العقيدة، وقد جمع مكتبة كبيرة، وصار مرجعًا ومحطًّا لكثير من العلماء والأدباء والمهتمين بنشر كتب التراث، توفي - رحمه الله - سنة 1391 هـ (¬3). وكان الشيخ محمد نصيف يرى مكانة صديقه العلمية، وفي إحدى زيارات أحمد شاكر للحجاز رغب إليه الشيخ محمد نصيف أن يعيد طبع كتاب المسح على الجوربين للشيخ محمد جمال الدين القاسمي بعد أن صار نادر الوجود، وطلب منه مراجعة الكتاب قبل طبعه وكتابة مقدمة له (¬4)؛ فاستجاب الشيخ أحمد شاكر لرغبة صديقه ¬

_ (¬1) هو: أبو الحسين محمد بن حسين بن عمر بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد نصيف، ولد سنة 1302 هـ من أعيان الحجاز، كان مضرب المثل في الكرم والخلق والاحتفاء بأهل العلم، وله مكتبة نادرة حافلة بالمطبوعات والمخطوطات، وتوفي رحمه الله سنة 1391 هـ. انظر: محمد نصيف حياته وآثاره، لمحمد بن أحمد سيد أحمد وعبده العلوي. (¬2) تقدمة أحمد شاكر لكتاب المسح على الجوربين للقاسمي (ص 4). (¬3) انظر: كتاب: محمد نصيف حياته وآثاره، لمحمد بن أحمد سيد أحمد وعبده العلوي. (¬4) انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتاب المسح على الجوربين للقاسمي (ص 4).

8 - الشيخ محمد حامد الفقي

"الجليل النبيل .. محمد بن حسين نصيف" (¬1). 8 - الشيخ محمد حامد الفقي: محمد حامد بن سيد أحمد عبده الفقي، ولد سنة 1310 هـ، وحفظ القرآن في صغره، ودرس في الأزهر، وفي سنة 1345 هـ، أسس جماعة أنصار السنة المحمدية، وأخذ على عاتقه الدعوة للعقيدة السلفية، ثم سافر إلى مكة ودرس فيها زهاء ثلاث سنوات، ثم رجع إلى مصر، وأنشأ مجلة الهدي النبوي، ثم أنشأ مطبعة السنة المحمدية، وعُني بنشر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وبعض كتب الحنابلة، وتوفي - رحمه الله - سنة 1378 هـ. والإخاء بين الشيخين أحمد شاكر ومحمد الفقي امتد لأكثر من ثمان وأربعين سنة، وكانا أول العاملين على نشر العقيدة الصحيحة في مصر، وصدرا عن رأي واحد وعقيدةٍ سليمة صافية في الاستمساك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي نصرة العقيدة السلفية، والذب عنها (¬2). ومع أن الشيخين الكريمين كانا جليسين لا يكادان يفترقان، وصديقين متواصلين لا يكادان يتصارَمَان، إلا أنه في سنة 1374 هـ، شاب هذه المودة ما يُكدَّر صفوها، وكان ذلك حين كتب الشيخ حامد ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة أحمد شاكر لشرح الطحاوية لابن أبي العز (ص 7). (¬2) انظر: بيني وبين حامد الفقي (ص 11).

الفقي في مجلة الهدي النبوي تعليقًا على رسالة منشورة في المجلة، من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، فَهِمَ أحمد شاكر من هذا التعليق أنه يتضمن تكذيبًا لشيخ الإسلام، يكاد يكون صريحًا في ذلك، فكبُر عليه الأمر، فكتب مقالًا يوم الثلاثاء 3 رمضان سنة 1374 هـ، وأرسله بالبريد المسجّل، تبرئة لشيخ الإسلام من هذه التهمة، وأحفظ أحمد شاكر أن مقاله طُوي فلم ينشر، وأن عدد الهدي النبوي الجديد حمل مقالًا للشيخ حامد الفقي يبرأ فيه من رمي شيخ الإسلام ابن تيمية بالكذب، ويتأول كلامه لينفي عن نفسه التهمة بطريقة لم تعجب أحمد شاكر. فرأى أحمد شاكر أن يؤدي الأمانة التي اؤتمن عليها؛ فنشر كتابًا بعنوان (بيني وبين حامد الفقي)، أثبت فيه مقاله كاملًا، ومقال الشيخ الفقي كله، ثم تعقبه في بعض ما كتب. وبعد أن صدر الكتاب فزع كثير من محبي الشيخين وحزنوا أشد الحزن، فكتب الشيخ حامد الفقي مقالًا بعنوان: (بيني وبين أخي الشيخ أحمد شاكر)، ومما جاء فيه: "أقول وأؤكد القول إن الذي جرى بيني وبين أخي العمر: هو الذي عليه عشنا ما عشناه، في ظل هذا الإخاء، المتين العرى، الوثيق الأواصر؛ لأنه نسج - بحمد الله - على نوْل العلم، وحِيكَ من خيوط مذهب السلف الصالح - رضي الله عنهم - واليد التي نسجته وحاكته: يد الكتاب والسنة. ونحن - بحمد الله، رغم أنف كل حاسد وحاقد - لا نزال نكتسي

9 - عبد العزيز الميمني

بهذا الثوب الكريم، وننعم بزينته وتقاه. ونسأل الله سبحانه أن يديم علينا ذلك الثوب سابغًا حتى نلقاه على ذلك. ولن نترك ثغرة لأيًّ ممن حاول أن يسعى بالوقيعة لتأجيج نار الفتنة. وأخي الشيخ أحمد شاكر، يعلم علم اليقين: أن أخاه حامدًا أعرف الناس بفضله، وأشكر الناس لجميله، وأصبرهم على صداقته، وأحفظهم لعهده، وأحرصهم على وده، وأبعدهم عن مساءته، وأسرعهم إلى مسرته. ومهما نزغ الشيطان بيني وبينه، فالفيئة إلى معقِل الودِّ - إن شاء الله - سريعة، والإخاء السلفي كفيل بالإسراع إلى هذه الفيئة" (¬1). وتجاوب أحمد شاكر مع كلمة حامد الفقي السابقة، وفاء إلى المودة الراسخة، فقال - رحمه الله -: "أما وقد عتب عليّ الأخ الشيخ حامد الفقي فيما كتبتُ، فله العُتْبى. وما كنت لأرضى أن يكون بيننا اللدد في الخصومة. بل ما أرضى هذا بيني وبين أي إنسان، وليس من اليسير هدم الصداقة القديمة والأخوة في الله، وفي سبيل نصر الإسلام والحرب على أعدائه" (¬2). 9 - عبد العزيز الميمني: عبد العزيز الميمني الراجكوتي، باكستاني من كبار الباحثين ¬

_ (¬1) مجلة الهدي النبوي، المجلد 19، العددان 11 - 12 ذي القعدة وذي الحجة 1374 هـ، (ص 10). (¬2) مجلة الهدي النبوي، المجلد 19، العددان 11 - 12 ذي القعدة وذي الحجة 1374 هـ، (ص 11).

10 - عبد الوهاب عزام

والمحققين، له عناية بالأدب واللغة، خبير بالمخطوطات ونوادر الكتب، ومن أبرز تحقيقاته: "سمط اللآلي في شرح أمالي القالي" لأبي عبيد البكري، توفي - رحمه الله - سنة 1398 هـ (¬1). وكان الشيخ أحمد شاكر معجبًا بعلم الأستاذ الميمني وتحقيقه، أرسل إليه بعد أن قرأ كتابه (أبو العلاء وما إليه) رسالةً جاء في آخرها: "أرجو أن تقبل تهنئتي على ما أوتيت من بسطة في العلم، ومن سعة في الاطلاع، ومن قدرة على امتلاك ناصية القول، وأسأل الله أن يزيدك من فضله. وأن ينفع بك العرب واللغة العربية، والمسلمين والإسلام" (¬2). 10 - عبد الوهاب عزام: انعقد إخاء بين أحمد شاكر وعبد الوهاب عزام (¬3)، وقد اقتبس ¬

_ (¬1) انظر: تتمة الأعلام للزركلي، لمحمد خير رمضان يوسف (1/ 303). (¬2) جعل الميمني تقاريظ الكتاب في آخره. انظر: أبو العلاء وما إليه (الصفحة الأخيرة من الكتاب) (¬3) هو: عبد الوهاب بن محمد بن حسن بن سالم عزام، مصري عالم بالأدب، دخل الأزهر وتخرج بمدرسة القضاء الشرعي، ثم أحرز شهادة الآداب والفلسفة من الجامعة المصرية، ونال الدكتوراه في الآداب الفارسية من جامعة لندن، وحاز على شهادة الدكتوراه في الأدب من الجامعة المصرية، وتقلد مناصب وزارية، ويجيد عدد من اللغات، ومن مؤلفاته: الشوارد، والنفحات، ورحلات، والأوابد، توفي سنة 1378 هـ. انظر: الأعلام (4/ 186)، والحديث ذو شجون لزكي مبارك (ص 88)، ومقدمة أمم حائرة لعبد الوهاب عزام (ص 7 - 20).

11 - عبد السلام هارون

أحمد شاكر من كلمة عبد الوهاب عزام - التي أُعجب بها - في الرد على عبد العزيز فهمي (¬1) حين اقترح كتابة العربية بالحروف اللاتينية (¬2). وقدّم الدكتور عبد الوهاب عزام لكتاب المعرب للجواليقي الذي عُني الشيخ أحمد شاكر بنشره، وأظهر إعجابه بعلم الشيخ وجهده في تحقيق الكتاب (¬3). 11 - عبد السلام هارون (¬4): العلّامة المحقق الثبت من الأفذاذ الذين عُنوا بنشر التراث الإسلامي نشرًا علميًّا ممتازًا، وهو ابن خال الشيخ أحمد شاكر، وتوثقت الصلة العلمية بينهما يوم كان عبد السلام طالبًا في دار العلوم، والشيخ أحمد شاكر في مناصب القضاء، وكان إذ ذاك يعمل على تحقيق كتاب الرسالة للإمام الشافعي، الذي نهج فيه نهجًا ممتازًا ¬

_ (¬1) هو: عبد العزيز فهمي باشا ابن الشيخ حجازي عمرو، من رجال القضاء بمصر، أحد مؤسسي الوفد المصري سنة 1918 م، وانتخب رئيسًا لحزب الأحرار الدستوريين سنة 1924 م ثم كان عضوًا في مجمع اللغة العربية، وتوفي سنة 1370 هـ. انظر: الأعلام (4/ 24). (¬2) انظر: الشرع واللغة لأحمد شاكر (ص 46). (¬3) انظر: تقدمة كتاب المعرب. (¬4) هو: عبد السلام محمد هارون، مصري عالم باللغة والأدب، ومن كبار المحققين لكتب التراث في هذا العصر، وحاز على جوائز متعددة نظير جهوده الكبيرة في خدمة التراث. انظر: تاريخ نشر التراث العربي للطناحي (ص 97)، وتتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف (1/ 290).

لم يعهده الناس من قبل، في أمانة التحقيق وأمانة الأداء، وكان الشيخ أحمد شاكر يُطْلِعُ عبد السلام هارون على عمله في تحقيق الكتاب، فكان ذلك مما أدخل في روعه أن يقتدي به ويسير على منواله. وكان لأحمد شاكر فضل آخر على عبد السلام هارون، ذلك أنه عقد صلته بأسرة الناشرين؛ إذ قدمه إلى دار إحياء الكتب العربية لتحقيق كتاب (الحيوان للجاحظ)، وصلة أخرى عقدها له مع دار المعارف لنشر (همزيات أبي تمام) و (المفضليات الخمس). ولم يقف أحمد شاكر عند ذلك، حتى أشركه معه في تحقيق كتاب (إصلاح المنطق) لابن السكيت، ثم شاركه في إخراج (المفضليات) و (الأصمعيات) وهما الكتابان اللذان يحتلان مكانًا مرموقًا في الدراسات الأدبية المعاصرة للتراث (¬1). ولهذا ظلّ عبد السلام هارون وفيًّا لأحمد شاكر، عارفًا لفضله، وحين أخرج كتاب (مجالس ثعلب) كتب في مقدمته: "وأخص بالشكر والاعتراف بالفضل حضرة الأخ العلامة المحقق الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر الذي أفدت كثيرًا من رأيه وعلمه في إخراج هذا الكتاب" (¬2). وكتب في مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب (المفضليات) سنة 1383 هـ: "أستاذي المغفور له الشيخ أحمد شاكر الذي قاسمني ¬

_ (¬1) تقدمة عبد السلام هارون لكتاب كلمة حق (صحيفة د). (¬2) تقدمة عبد السلام هارون لكتاب مجالس ثعلب (1/ 27)

12 - السيد أحمد صقر

بذل الجهد والعناية بهذا الكتاب، فكان نعم العون، ونعم المرشد، ولست أملك إلا أن أستمطر له رحمة الله ومغفرته ورضوانه" (¬1). 12 - السيد أحمد صقر (¬2): تحدث الشيخ أحمد شاكر عن العلاقة بينهما، فقال: "الأستاذ السيد أحمد صقر مني بمنزلة الأخ الأصغر، نشأ معي، وعرفته وعرفني، وتأدبنا بأدب واحد في العلم والبحث، وفي فقه المسائل، والحرص على التقصي ما استطعنا" (¬3). ويتملّك أحمد شاكر الإعجاب بصديقه الأديب النابه السيد أحمد صقر، حين يرى أن له مدى مديدًا في الاطلاع والتقصي، ونفذات صادقة في الدقائق والمعضلات، يندر أن توجد في أنداده، بل في كثير من شيوخه وأساتيذه (¬4). أما الأستاذ السيد أحمد صقر فيرى أن أحمد شاكر في طليعة ¬

_ (¬1) مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب المفضليات للضبي، سنة 1383 هـ. (¬2) اسمه مركب (السيد أحمد) ووالده الشيخ أحمد صقر من فضلاء علماء الأزهر، وقد تخرج السيد صقر في كلية اللغة العربية عام 1944 م، وهو أديب من الطراز الأول، ولو أنه أطلق لملكاته الأدبية العنان، لكان من كبار أدباء العربية، ولكنه انصرف إلى تحقيق النصوص، متجهًا من أول أمره إلى الأصول، ثم كانت عنايته أخيرًا بعلوم الحديث ومصنفاته. انظر: مدخل إلى تاريخ نثر التراث العربي لمحمود الطناحي (ص 99 - 100). (¬3) تقدمة أحمد شاكر للشعر والشعراء (1/ 31). (¬4) انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتابي: الشعر والشعراء (1/ 31)، والمسند، حاشية (1/ 14).

13 - الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي

الناشرين المرموقين، وأنه أكثر منه خبرةً، وأوسع اطلاعًا (¬1). وتوطُّد العلاقة بين الرجلين لم تمنع السيد أحمد صقر من نقد تحقيق الشيخ أحمد شاكر لكتاب الشعر والشعراء في مجلة (الكتاب) حين رأى في عمله ما يستوجب النقد. ومما يذكر ويشكر أن الشيخ أحمد شاكر لم يتسامى على النقد، ولم يضق به ذرعًا، بل جعله في صدر كتاب الشعر والشعراء. 13 - الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: قال أحمد شاكر: "صديقي الفاضل محمد فؤاد عبد الباقي" (¬2). ولد - رحمه الله - سنة 1299 هـ، ونشأ في القاهرة، ودرّس في بعض مدارسها، ثم عمل مترجمًا عن الفرنسية في البنك الزراعي، ثم انقطع إلى التأليف. وضعف بصره إلى أن كف قبيل وفاته. وتوفي بالقاهرة سنة 1388 هـ، كان صائم الدهر، قوي العزيمة، له عناية كبيرة بوضع الفهارس للأحاديث النبوية ولآيات القرآن الكريم (¬3). وتوثقت الصلات العلمية بين الشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمد عبد الباقي في دار المنار فقد كانا يكثران الاختلاف إلى هذه الدار، وكثيرًا ما كان الأستاذ محمد عبد الباقي يستشير الشيخ أحمد شاكر ويَفيد منه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة الشعر والشعراء (1/ 8، 31). (¬2) تقدمة أحمد شاكر لكتاب مفتاح كنوز السنة. (¬3) انظر: الأعلام (6/ 333). (¬4) انظر: تقدمة محمد فؤاد عبد الباقي لموطأ مالك صحيفة (هـ)، وتقدمة أحمد =

14 - الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي

14 - الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي (¬1): حين تَهَدَ الشيخ أحمد شاكر لنشر كتاب المسند للإمام أحمد ناشد في شوال سنة 1366 هـ, علماء الحديث في أقطار الأرض بأن يرسلوا له كل ما يجدون من ملاحظة أو استدراك أو تعقيب أو بحث في أسانيد المسند، كلما وصل إليهم جزء من أجزائه. ووعد أن تكون هذه الملاحظات منهم موضع العناية والدرس. فاستجاب الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي لهذه الدعوة، فأرسل كتابًا لأحمد شاكر في ذي القعدة سنة 1375 هـ, وطواه على استدراكات وتعقبات دقيقة من الجزء الأول إلى الجزء الثامن، فَسُّرَ أحمد شاكر بهذه الأبحاث الدقيقة، ووفّى بما وعد، فنشر هذه التعقبات والاستدراكات في آخر الجزء الخامس عشر من المسند، ووافقه على أكثرها، وتعقبه في بعضها. والشيخ أحمد شاكر لم يكن يعرف الشيخ الأعظمي من قبل، وعرف من كتابه فضله وعلمه وتحققه بالبحث الدقيق، ولهذا وصفه بالأخ العالم الكريم العلامة (¬2). ¬

_ = شاكر لكتاب مفتاح كنوز السنة. (¬1) هو: حبيب الرحمن بن صابر بن عناية الله الأعظمي، عالم بحاثة محقق مدقق، أحد أبرز علماء الحديث في شبه القارة الهندية، نشر عددًا من كتب الحديث المخطوطة، توفي - رحمه الله - سنة 1412 هـ. انظر: تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف (1/ 125). (¬2) انظر: المسند (15/ 251 - 252).

15 - أبو السمح

15 - أبو السمح: قال أحمد شاكر عنه: "صديقنا العلّامة" (¬1). وأبو السمح هو: نور الدين محمد عبد الظاهر، إمام وخطيب الحرم المكي، ومدير ومنشئ دار الحديث بمكة المكرمة. نشأ في بيت علم ودين، فحفظ على والده القرآن، وطلب العلم في الأزهر، ثم اشتغل بالتدريس في القاهرة ثم انتقل إلى الإسكندرية معلمًا خاصًا. ثم انتقل إلى الحرم المكي فكان إمامًا وخطيبًا له بطلبٍ من الملك عبد العزيز - رحمه الله - وتوفي في مصر سنة 1370 هـ، رحمه الله (¬2). وكان أحمد شاكر على صلة وثيقة بأبي السمح، وصلى الجمعة خلفه مع الملك عبد العزيز في رحلته للحج سنة 1347 هـ (¬3). 16 - محمد أفندي محمد عبد اللطيف: قال أحمد شاكر: "صديقي محمد أفندي محمد عبد اللطيف صاحب المطبعة المصرية" (¬4). ولما شرع محمد أفندي صاحب المطبعة المصرية في طبع كتاب ¬

_ (¬1) انظر: تعليق أحمد شاكر على جامع الترمذي (2/ 378). (¬2) انظر: مجلة الهدي النبوي، المجلد 15، العدد 8 شعبان سنة 1370 هـ، (ص 408). (¬3) انظر: تعليق أحمد شاكر على جامع الترمذي (2/ 378). (¬4) انظر: تقدمة أحمد شاكر لجامع الترمذي (1/ 8).

17 - أحمد علي الطاهر

الترمذي: السنن، ومعه الشرح المسمى (عارضة الأحوذي) للقاضي أبي بكر بن العربي، استعار من الشيخ أحمد شاكر المجلد الأول من نسخته الخاصة من كتاب الترمذي طبعة بولاق؛ ليصحح الكتاب عليها، وخرج الكتاب في ثلاثة عشر جزءًا، طبع منها سبعة أجزاء بالمطبعة المصرية سنة 1350 هـ، وطبع الباقي بمطبعة الصاوي سنة 1352 هـ. قال أحمد شاكر: "وهذه الطبعة لا يوثق بشيء منها، لكثرة الغلط والخلط فيها من المصححين ثم لما رأيت الجزء الأول من المطبوع الجديد خشيتُ أن تكون لي يدُ في إفساد كتب السنة والتلاعب بها؛ إذ وجدت الأغلاط فيه لا حصر لها، حتى لقد وجدت مصححيه أدخلوا في متن الكتاب بعض التعليقات التي كتبتها بحاشية نسختي، وجعلوها من كلام الترمذي، فاستعدت ما أعرتُه إياهم، آسفًا متألمًا" (¬1). 17 - أحمد علي الطاهر: من أصدقاء الشيخ أحمد شاكر، ولد بنابلس، ونشأ بها وسافر صغيرًا إلى مصر، فلما كانت الحرب العالمية الأولى اعتقله الإنجليز مع عدد ممن كان لهم نشاط ظاهر، أصدر بعد الحرب جريدة أسبوعية باسم (الشورى) سنة 1924 م، وكان الشيخ أحمد شاكر يذهب إلى ¬

_ (¬1) تقدمة شاكر لجامع الترمذي (1/ 8).

18 - أحمد أمين

مقر الجريدة، ويلتقي بالأستاذ محمد الطاهر، وبعدد من الكتاب، وتدور بينهم الأحاديث والمناقشات العلمية (¬1). وكتب في جريدة الشورى كثيرون من كتاب العرب دفاعًا عن قضاياهم المختلفة في سوريا وفلسطين والعراق ومصر والمغرب، وأُقفلت الجريدة، وطورد الطاهر ففر مرات من وجه الشرطة، وقبض عليه سنة 1940 م، وسجن. وحياته مليئة بالكفاح، ولما كانت ثورة عبد الناصر سنة 1952 م غادر إلى بيروت سنة 1955 م، ومكث بها إلى أن توفي سنة 1974 م، رحمه الله (¬2). 18 - أحمد أمين: قال أحمد شاكر: "صديقنا الأستاذ أحمد أمين بك" (¬3) عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية سنة 1940 م، وهو معروف لدى الأوساط العلمية، وله مشاركات في الأدب، ومن أهم آثاره العلمية سلسلة: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام (¬4). 19 - فوزان السابق: قال أحمد شاكر: "سعادة الصديق الكبير والوزير الجليل الشيخ ¬

_ (¬1) انظر: مجلة الكتاب، السنة الثالثة المجلد الخامس (ص 304). (¬2) انظر: الأعلام (6/ 310). (¬3) مجلة الكتاب، عدد يولية سنة 1946 م، (ص 460). (¬4) انظر: السيرة الذاتية لأحمد أمين (حياتي).

20 - عبد الله المراغي

فوزان السابق حفظه الله" (¬1). والشيخ فوزان بن سابق بن فوزان آل عثمان البريدي القَصيمي الدوسري النجدي، من فضلاء الحنابلة، له مشاركة في السياسة العربية. ولد ونشأ في (بريدة) من القصيم، وتفقه. واشتغل بتجارة الخيل والإبل، فكان ينتقل بين نجد والشام ومصر والعراق، وناصر الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود أيام حروبه مع الترك العثمانيين في القصيم وتلك الأطراف، واتصل برجالات الشام، قبل الدستور العثماني. ولما كانت الدولة السعودية في بدء استقرارها عين فوزان (معتمدًا) لها في دمشق، ثم في القاهرة، وهو قائم بأعمال المفوضية العربية السعودية، وجُعل بعد ذلك وزيرًا مفوضًا نحو ثلاث سنوات، ثم انقطع للعبادة والتأليف، توفي في مصر سنة 1373 هـ، عليه رحمة الله (¬2). ونطق أحمد شاكر بفضل صديقه الشيخ فوزان، وذلك عند طبعه لكتاب: (القواعد) لابن رجب على نفقته الخاصة سنة 1352 هـ (¬3). 20 - عبد الله المراغي: ومن أصدقاء الشيخ أحمد شاكر الأستاذ الشيخ عبد الله ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لصحيح ابن حبان، من الهامش (ص 19). (¬2) انظر: الأعلام للزركلي (5/ 162). (¬3) تقدمة أحمد شاكر لصحيح ابن حبان، من الهامش (ص 19).

21 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي

المراغي، وهو صاحب كتاب الفتح المبين في طبقات الأصوليين، وله شغف بالعلم وحرص على البحث والاطلاع، وكان يُطلع الشيخ أحمد على بعض كتبه المخطوطة (¬1). 21 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: وهو علّامة القصيم الفقيه الأصولي المفسر، ومن أهم آثاره العلمية: (تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن)، وقد خلّف ما يزيد على أربعين مصنفًا في مختلف الفنون، توفي - رحمه الله - سنة 1376 هـ (¬2). وكان بينه وبين الشيخ أحمد شاكر صلة وإن لم يحصل بينهما لقاء (¬3)، وقد أهدى أحمد شاكر في سنة 1376 هـ, للشيخ عبد الرحمن السعدي الجزء الأول من عمدة التفسير الذي هو اختصار لتفسير ابن كثير، فتقبله الشيخ بقبول حسن، وأثنى عليه ثناءً كبيرًا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: مجلة الكتاب، السنة الثالثة المجلد الخامس (ص 467). (¬2) انظر: مقدمة الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة (الرسائل الشخصية العلمية المرسلة من الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي إلى تلميذه الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل) (ص 16)، والأعلام (3/ 340). (¬3) لم يحصل بين الشيخين الفاضلين لقاء كما أكد لي ذلك فضيلة الشيخ عبد الله ابن عبد العزيز بن عقيل - حفظه الله - والشيخ عبد الله من كبار تلاميذ الشيخ السعدي وأقرب الناس إليه. وكان سؤالي له في مساء يوم الأربعاء الموفق 17/ 7/ 1422 هـ. (¬4) انظر: الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة (ص 295 - 296).

22 - الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة

22 - الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة: ولد في مصر سنة 1311 هـ، وتعلم بالأزهر، ثم انتقل إلى المدينة إمامًا وخطيبًا بالحرم المدني سنة 1370 هـ، بطلب من الملك عبد العزيز - رحمه الله - وفي سنة 1370 هـ انتقل إلى مكة وتولى تدريس الحديث والتفسير بالحرم المكي، وتوفي - رحمه الله - سنة 1392 هـ (¬1). وأثنى أحمد شاكر على الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في مواضع متعددة، ووصفه بالأخ العلّامة. ولما اضطلع أحمد شاكر بشرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير - رحمه الله - حرص على أكثر الحواشي التي كتبها الشيخ محمد عبد الرزاق على الكتاب المطبوع في المطبعة الماجدية بمكة سنة 1353 هـ (¬2). 23 - أبو محمد عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي (¬3): من رجال الحديث، وعندما صدر أمر الملك عبد العزيز - رحمه الله - بطلب الشيخ عبد الحق الهاشمي إلى أم القرى ليكون بالمسجد الحرام مدرسًا ومحدثًا، تكرر اجتماع الشيخ بالشيخ أيام المواسم؛ ¬

_ (¬1) انظر: الأعلام (6/ 203). (¬2) انظر: تقدمة أحمد شاكر للباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (1/ 69). (¬3) هو: والد الشيخ أبي تراب الظاهري، وفي كتاب أوهام الكُتّاب نُتف من حياته.

24 - محب الدين الخطيب

لأنه كان كثير التزاور فيها، وكان مجلسهما حافل بدقائق مسائل الحديث والرجال (¬1). 24 - محب الدين الخطيب (¬2): كان للشيخ أحمد شاكر صلة بمحب الدين وإعجاب، وصفه ذات مرة بـ "الكاتب القدير" (¬3). أما السيد محب الدين الخطيب فيرى في أحمد شاكر الصديق والعالم والمحقق، وكان يُعجب كثيرًا بنشره لكتب التراث، وقد أشار لذلك في مجلة (الزهراء) (¬4)، وتمنى أن يُنشر على يديه كثير من الكتب المفيدة، وعندما عزم محب الدين على نشر كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي عهد إلى أحمد شاكر بتصحيح الكتاب والتعليق عليه، وطَبَعَه في المطبعة السلفية (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: أوهام الكتاب، لأبي تراب الظاهري (ص 70). (¬2) هو: محب الدين بن أبي الفتح محمد بن عبد القادر بن صالح الخطيب، من كبار الكتاب الإسلاميين، ولد في دمشق، وتعلم بها وبالآستانة، تنقل في عدد من البلاد منها صنعاء ثم دمشق ثم الآستانة ومنها قصد مصر ثم البصرة، ولما أعلنت في مكة الثورة العربية سنة 1916 م قصدها فحكم عليه الأتراك بالإعدام غيابيًا، واستقر أخيرًا في القاهرة، وأصدر مجلتيه: الزهراء والفتح، وكان من أوائل مؤسسي جمعية الشبان المسلمين، وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها. توفي سنة 1389 هـ. انظر: الأعلام (5/ 282)، ونموذج من الأعمال الخيرية (ص 94). (¬3) الشرع واللغة لأحمد شاكر (ص 38). (¬4) انظر: مجلة الزهراء، عدد رمضان سنة 1344 هـ. (¬5) انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتاب الخراج.

25 - عبد الرحمن الكواكبي

25 - عبد الرحمن الكواكبي: قال أحمد شاكر: "الزعيم الإسلامي المنسي المجهول السيد عبد الرحمن الكواكبي" (¬1). وعبد الرحمن الكواكبي - رحمه الله - رحّالة من الكتاب الأدباء، ومن رجال الإصلاح. ولد وتعلم في حلب، وأنشأ فيها جريدة (الشهباء) فأقفلتها الحكومة، وجريدة (الاعتدال) فعُطلت، وأُسندت إليه مناصب عديدة، ثم رحل إلى مصر، وساح سياحتين عظيمتين إلى بلاد العرب وشرقي إفريقية وبعض بلاد الهند. واستقر في القاهرة إلى أن توفي سنة 1320 هـ (¬2). والشيخ أحمد شاكر بَهرته كلمات الكواكبي البرّاقة في الإصلاح، وجهوده الحثيثة في استنهاض الشعوب ضد المستبدين الظالمين. ولم يفطن إلى أنه ينطلق في بعض جوانب الإصلاح من منطلقات خطيرة، ومن ذلك قوله - رحمه الله - (¬3): "يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين، أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد، وأنتم المتنورون السابقون، فهذه أمم أستراليا وأمريكا قد هداها العلم ¬

_ (¬1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر (ص 81). (¬2) انظر: الأعلام الشرقية لزكي مجاهد (2/ 908)، والأعلام للزركلي (3/ 298). (¬3) انظر: العلمانية، للدكتور سفر الحوالي (ص 580).

26 - محمد أحمد الغمراوي

لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري ... دعونا ندبر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط (! ) دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء" (¬1). 26 - محمد أحمد الغمراوي: قال أحمد شاكر: "صديقتا الأخ العلّامة الأستاذ محمد أحمد الغمراوي، المدرس بكلية الطب المصرية" (¬2). وحين ذكر الشيخ أحمد شاكر اغترار الناس بصناعة المستشرقين في الفهارس، ووقوعهم في الوهم حين ظنوا أنّ هذه الفهارس شيء لم يعرفه علماء الإسلام والعربية، وأن أنواع المعاجم كلها من ابتكار الإفرنج، وأن ما عندنا منها تقليد لهم واقتباس منهم. بيّن أحمد شاكر أن لهذا الصديق سبق وفضل في إبطال هذه الدعوى، قال - رحمه الله -: " وأول من علمناه نفى هذه الأسطورة، وأكذب هذا الوهم: صديقنا الأخ العلّامة الأستاذ محمد أحمد الغمراوي .. في كتاب (مرشد المتعلم) الذي ترجمه عن اللغة الإنكليزية، وألحق به فصلًا بقلمه في (كتب المراجعة في اللغة العربية) ¬

_ (¬1) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، لعبد الرحمن الكواكبي (ص 121). (¬2) تقدمة أحمد شاكر لجامع الترمذي (1/ 44).

27 - محيي الدين رضا

وصف فيه كثيرًا من المعاجم العربية، وذكر تاريخ مؤلفيها .. " (¬1). 27 - محيي الدين رضا: قال أحمد شاكر: "صديقي الفاضل السيد محي الدين رضا" (¬2) والسيد محيي الدين هو ابن أخ الشيخ محمد رشيد رضا، وكان أحمد شاكر يتحسس أخبار أستاذه رشيد رضا من خلال جلساته المتكررة مع صديقه محيي الدين رضا. 28 - محمد عبد الله دراز: قال أحمد شاكر: "أخي وصديقي الأديب الممتاز، العالم الكبير الشيخ محمد عبد الله دراز" (¬3). والشيخ دراز أزهري له اهتمام بالفلسفة والأدب، وحصل على (الدكتوراه) في الفلسفة من جامعة السربون بفرنسا، وكان من هيئة كبار العلماء بالأزهر، توفي سنة 1377 هـ. وكان دراز ينشر في مجلة الهدي النبوي مقالات، بعنوان: (الديانات والفلسفات: إلى أي حدٍّ تلتقي، وفيم تنفصل). وتعقّبه الشيخ أحمد شاكر في بعض ما كتب، فأحفظه ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لجامع الترمذي (1/ 44). (¬2) مجلة المقتطف، الجزء الثالث من المجلد السابع والثمانين، عدد 4 رجب سنة 1354 هـ، (ص 319). (¬3) مجلة الهدي النبوي، العدد الخامس، جمادى الأولى سنة 1370 هـ، (ص 35). (¬4) انظر: الأعلام للزركلي (6/ 246)، مجلة الهدي النبوي، العدد الرابع، ربيع الثاني سنة 1370 هـ، (ص 208).

المبحث الثالث: شيوخه وأساتيذه

المبحث الثالث: شيوخه وأساتيذه تَلْمذَ أحمد شاكر لطائفة من شيوخ عصره، وصرّح بأستاذية عددٍ من رجال ذلك الوقت. وإن كان المتأمل يرى أن تتلمذه للشيوخ والأساتيذ مختلف، فمنهم من لازمه أحمد شاكر وقرأ عليه وأجازه، ومنهم من اكتفى بسؤاله عمّا أشكل عليه من مسائل العلم دون القراءة والملازمة، كما جادت نفس أحمد شاكر ببعض الألقاب والنعوت على بعض رجال عصره يحسب الناظر أنهم أساتذة له، وليس الأمر كذلك. ومن الشيوخ والأساتذة الذين وقفت على أسمائهم ما يلي: 1 - الشيخ عبد السلام الفقي: قرأ عليه - أيام إقامته بالإسكندرية مع والده - أصول كتب الأدب، وكان الشيخ عبد السلام يُحرِّض أحمد، وأخاه عليًّا على طلب الأدب، وصناعة الشعر (¬1). 2 - الشيخ محمود أبو دقيقة: والشيخ محمود من علماء الأزهر، ودرّس في كلية أصول الدين بالأزهر (¬2)، وكان أول شيوخ أحمد شاكر في معهد الإسكندرية، وهو أحد العلماء الذين تركوا في حياته أثرًا لا يمحى؛ فهو الذي حبب إليه الفقه وأُصوله، ودرَّبه وخرَّجه في الفقه حتى تمكن منه. ولم يقتصر ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المجلة، العدد (19) سنة 1958 م (ص 120). (¬2) انظر: الأعلام للزركلي (7/ 169).

3 - الشيخ محمد شاكر

فضل الشيخ على تعليمه الفقه بل علمه أيضًا الفروسية، وركوب الخيل، والرماية، والسباحة، توفي سنة 1359 هـ, رحمة الله عليه (¬1). 3 - الشيخ محمد شاكر: وهو أعظم شيوخه أثرًا في حياته، وقد قرأ له في التفسير: تفسير البغوي، وتفسير النسفي، وقرأ له في الحديث: بعض صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، والشمائل. وقرأ له في الأصول: جمع الجوامع، وشرح الإسنوي على المنهاج. وقرأ له في المنطق: شرح الخبيصي، وشرح القطب على الشمسية. وقرأ له في البيان: الرسالة البيانية. وقرأ له في فقه الحنفية: "كتاب الهداية" على طريقة السلف في استقلال الرأي، وحرية الفكر، ونبذ العصبية لمذهب معين، وكثيرًا ما خالف والده في هذه الدروس مذهبَ الحنفية عند استعراض الآراء، وتحكيم الحجة والبرهان، ورجح ما نصره الدليل الصحيح (¬2). 4 - الشيخ محمد مصطفى المراغي وصفه أحمد شاكر بـ: "أستاذنا الإمام العظيم المصلح الحكيم، الأستاذ الأكبر" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المجلة، العدد (19) سنة 1958 م (ص 120). (¬2) انظر: محمد شاكر، مقال كتبه أحمد شاكر في مجلة المقتطف، عدد أغسطس 1939 م، (300 - 307)، ومقال كتبه محمود شاكر بعد وفاة أخيه أحمد في مجلة المجلة، العدد (19) 1958 م (ص 120). (¬3) تقدمة أحمد شاكر للطبعة الأولى من كتاب الباعث الحثيث (1/ 67).

5 - الشيخ إبراهيم الجبالي

ولد الشيخ المراغي في سنة 1298 هـ, وتعلم بالقاهرة، وتتلمذ للشيخ محمد عبده، وولي أعمالًا منها القضاء الشرعي، فقضاء القضاة في السودان سنة 1908 م، ثم عين شيخًا للأزهر سنة 1928 م، مكث عامًا، وأعيد سنة 1935 م، فاستمر إلى أن توفي بالإسكندرية، ودفن بالقاهرة سنة 1364 هـ (¬1). وحين شرع الشيخ المراغي في إصلاح مناهج الأزهر، وشكل لجنة المناهج في علوم التفسير والحديث للمعاهد الدينية، اختار الشيخ أحمد شاكر ليكون عضوًا مشاركًا في هذه اللجنة (¬2). 5 - الشيخ إبراهيم الجبالي (¬3) قال أحمد شاكر عنه: شيخي وأستاذي العلّامة الكبير الشيخ إبراهيم الجبالي، من أفذاذ العلماء الذين أنجبهم الأزهر الشريف (¬4). وقد ترأس الشيخ الجبالي لجنة المناهج في علوم التفسير ¬

_ (¬1) انظر: الأعلام (7/ 103). (¬2) انظر: تقدمة أحمد شاكر للطبعة الأولى من كتاب الباعث الحثيث (1/ 67). (¬3) هو الشيخ إبراهيم بن حسن الجبالي، ولد سنة 1295 هـ، من كبار علماء الأزهر في عصره، وانتقل في سنة 1905 م إلى مشيخة علماء الإسكندرية، وتسنم بعدها مناصب علمية متعددة. انظر: صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر لزكي فهمي (ص 529). (¬4) انظر: مقدمة الطبعة الأولى لكتاب الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، بتصرف يسير.

6 - الشيخ عبد الستار بن عبد الوهاب الدهلوي

والحديث للمعاهد الدينية التي شكّلها شيخ الأزهر محمد المراغي، وانضوى الشيخ أحمد شاكر إلى هذه اللجنة تحت رئاسة الشيخ الجبالي - رحمه الله - (¬1). 6 - الشيخ عبد الستار بن عبد الوهاب الدهلوي (¬2) كتب للشيخ أحمد شاكر إجازة طويلة ممتعة سمَّاها: (بغية الأديب الماهر بإجازة أحمد محمد شاكر) (¬3). 7 - العلّامة عبد الله بن إدريس السنوسي (¬4): عندما زار حافظ المغرب العلاّمة عبد الله بن إدريس السنوسي مصر سنة 1330 هـ, كان لأحمد شاكر شرف ملازمته والقراءة عليه، وقد قرأ عليه من مسند الإمام أحمد، ومن صحيح البخاري من نسخته الخاصة من الطبعة السلطانية (وهي التي أمر السلطان عبد الحميد - رحمه الله - بطبعها بالمطبعة الأميرية ببولاق في سنة 1311 هـ, ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة أحمد شاكر للطبعة الأولى من كتاب الباعث الحثيث (1/ 67). (¬2) هو: أبو الفيض وأبو الإسعاد عبد الستار بن عبد الوهاب الصدّيقي الدهلوي ثم المكي الحنفي، عالم بالحديث والتراجم، توفي بمكة سنة 1355 هـ، رحمه الله. انظر: الأعلام (3/ 354). (¬3) انظر: كتاب إمداد الفتّاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح، لمحمد آل رشيد (ص 321). (¬4) هو العلامة عبد الله بن إدريس بن محمد السنوسي، ولد سنة 1260 هـ، من أول من تظاهر في المغرب بالأفكار الحرة والاعتقاد الصحيح الخالي من الخرافات، وكان يجهر بالحق، ويميل إلى الاجتهاد، ولا يقول بكتب الفروع ومؤلفيها ... توفي سنة 1350 هـ، عليه رحمة الله. انظر: موسوعة أعلام المغرب (8/ 3005).

واعتمد مصححو المطبعة في تصحيحها على نسخة شديدة الضبط بالغة الصحة، من فروع النسخة اليونينية، المعوّل عليها في جميع روايات صحيح البخاري، وعلى نسخ أخرى خلافها، شهيرة الصحة والضبط. وبعد تمام الطباعة تولى ستة عشر عالمًا من أكابر علماء الأزهر مقابلة المطبوع على النسخة اليونينية). وأحمد شاكر شديد الاعتزاز بنسخته من الطبعة السلطانية، وله عناية خاصة بها، وأشار إلى ذلك بقوله: "هي جديرة بالإفراد، فقد عُني بها والدي ثم عُنيت بها سنين طويلة، والكتاب إذا عني به صاحبه، وجالت يده فيه، وكان من أهل العلم متحريًّا، زاد صحة ونورًا، وهكذا ينبغي لصاحب الكتب" (¬1). وخصصت بالذكر الطبعة السلطانية، ونسخة أحمد شاكر منها؛ لأن العلّامة السنوسي أجاز الشيخ شاكر على هذه النسخة، وكتب الإجازة بخط يده عليها. وإليك نص هذه الإجازة: "الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله. أما بعد: فقد أسمعني محلُّ ولدي الشاب النجيب الأديب الأريب أحمد ابن العلّامة الأجلّ الشيخ شاكر وكيل مشيخة الأزهر: من صحيح علم ¬

_ (¬1) النسخة اليونينية من صحيح البخاري، مقال كتبه أحمد شاكر في مجلة الكتاب، السنة السابعة، الجزء الثامن: المجلد الحادي عشر، شهر محرم 1372 هـ. (ص 986).

8 - الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي

العلماء، وقدوة المحدثين الأتقياء، أوله وآخره، وكذلك أسمعني من مسند إمام الأئمة، وقدوة أتقياء أهل السنة، الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، رحمهما الله تعالى وجزاهما عما أديا من نصيحة الأمة. وطلب مني الإجازة في صحيح الإمام البخاري، المكتوب هنا على أول أجزائه، فأجزته بروايته عنّي بسندي فيه وفي باقي كتب السنة، وأوصيه بتقوى الله تعالى، وقوله فيما لا يدريه: لا أدري. وفقني الله وإياه لما فيه رضاه. كتبه بيده عبد الله بن إدريس السنوسي الحسني، كان الله له وتولاه، في تاسع جمادى الأولى سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف" (¬1). 8 - الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي (¬2): أخذ عنه كتاب بلوغ المرام. وأجازه بالكتب الستة. 9 - الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي (¬3): عالم القبائل الملثمة، وأجازه بجميع علمه. ¬

_ (¬1) النسخة اليونينية من صحيح البخاري، مقال كتبه أحمد شاكر في مجلة الكتاب، السنة السابعة، الجزء الثامن: المجلد الحادي عشر، شهر محرم 1372 هـ. (ص 979 - 987). (¬2) وهو غير صاحب كتاب (أضواء البيان). (¬3) هو أحمد بن الشمس الحاجي الشنقيطي من أكبر تلاميذ ماء العينين توفي بالحجاز. انظر: موسوعة أعلام المغرب (8/ 2937).

10 - العلامة طاهر الجزائري

10 - العلّامة طاهر الجزائري (¬1): قال أحمد شاكر: "أستاذنا الجليل الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي - رحمه الله -" (¬2) 11 - الشيخ جمال الدين القاسمي (¬3): قال أحمد شاكر: "أستاذنا عالم الشام السيد جمال الدين القاسمي رحمه الله" (¬4): "كنا في مطلع الشباب متشوفين إلى العلم الصحيح، علم الكتاب والسنة. وكنا أحرص ما نكون على كتب ¬

_ (¬1) هو: طاهر بن صالح (أو محمد صالح) ابن أحمد بن موهوب السمعوني الجزائري ثم الدمشقي، أصله من الجزائر، ومولده ووفاته في دمشق. بحاثة من أكابر العلماء باللغة والأدب في عصره، وكان يحسن أكثر اللغات الشرقية كالعبرية والسريانية والحبشية والزواوية والتركية والفارسية، كان كلفًا باقتناء المخطوطات والبحث عنها، انتقل إلى القاهرة سنة 1325 هـ، وتوفي رحمه الله سنة 1338 هـ. انظر: المعاصرون (ص 268)، والأعلام (3/ 221)، وتاريخ علماء دمشق (1/ 366)، والشيخ طاهر الجزائري رائد التجديد الديني في بلاد الشام في العصر الحديث لحازم زكريا محيي الدين. (¬2) تعليق أحمد شاكر على دائرة المعارف الإسلامية (7/ 340). (¬3) هو: أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر، المعروف بالقاسمي، ولد بدمشق وبها نشأ وحضر مجالس الشيخ عبد الرزاق البيطار، وصحب الشيخ طاهر الجزائري، وبرع في الحديث والفقه والأصول واشتغل بالإصلاح والتربية، توفي سنة 1332 هـ. انظر: تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري (1/ 298). (¬4) تعليق أحمد شاكر على دائرة المعارف الإسلامية (7/ 340).

12 - أبو الوفاء بن أحمد بن شرقاوي

السلف الصالح، وكتب من نهج منهجهم من المتأخرين، الذين يتمسكون بالهدي النبوي، ويتبعون الدليل الصحيح، دون تعصب لرأي وهوى، ودون جمود على التقليد. وكان في مقدمة من سار على النهج القويم أستاذنا القاسمي - رحمه الله - وقد زار مصر قبل وفاته، وكنت ممن اتصل به من طلاب العلم، ولزم حضرته، واستفاد من توجيهه إلى الطريق السويّ، والسبيل القويم" (¬1). 12 - أبو الوفاء بن أحمد بن شرقاوي قال عنه الشيخ أحمد شاكر: "أستاذنا الكبير الحجة .. أعلم من رأيت بكتاب الله وسنة رسوله" (¬2). وقد راسله الشيخ أحمد شاكر سنة 1330 هـ، يسأله عما ذهب إليه كثيرون من الاستدلال بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬3) على منع مس المصحف إلَّا للمتوضئ، فكتب إليه كتابًا في هذا، يدل على سعة دائرته في العلم (¬4). 13 - الشيخ محمد رشيد رضا: قال أحمد شاكر: "أستاذنا الإمام حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا" (¬5). ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لكتاب المسح على الجوربين للقاسمي (ص 4). (¬2) تعليق أحمد شاكر على كتاب التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (1/ 98). (¬3) سورة الواقعة، آية 79. (¬4) انظر: تعليق أحمد شاكر على كتاب التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (1/ 99). (¬5) عنوان مقال كتبه أحمد شاكر في ترجمة الشيخ محمد رشيد رضا، مجلة =

ولد الشيخ رشيد رضا في يوم الأربعاء 27 جمادى الأولى سنة 1282 هـ، بقرية (القلمون)، وهي قرية من قرى جبل لبنان، ونظم الشعر في صباه، وكتب في بعض الصحف، وبعد أن جاوز الثلاثين من عمره، ونال الشهادة العالِمية سافر إلى مصر سنة 1315 هـ، ولازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له، وأصدر مجلته السائرة (المنار)، ومكث قريبًا من أربعين سنة يدافع في مجلته عن الإسلام، ويدافع عن العقيدة السلفية، ويحارب البدع والخرافات والشركيات المنتشرة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي. ومن أبرز آثاره العلمية تفسيره للقرآن العظيم، وقد أتم تفسير اثني عشر جزءًا طُبعت كلها، وفسرّ بعض آيات من أول الجزء الثالث عشر، ثم توفي - رحمه الله - فجأة بسكتة قلبية سنة 1354 هـ (¬1). والشيخ أحمد شاكر يرى أن شيخه محمد رشيد رضا جمّ العلم، وصاحب اطلاع واسع على كتب الحديث، ولا شك أن عناية الشيخ رشيد رضا بعلم الحديث كان لها أبلغ الأثر في انصراف همة أحمد شاكر إلى الاشتغال بالحديث (¬2). ¬

_ = المقتطف، المجلد السابع والثمانين، الجزء الثالث: 4 رجب سنة 1354 هـ. (¬1) انظر: الأعلام للزركلي (6/ 126)، ومقال في ترجمة الشيخ محمد رشيد رضا، كتبه أحمد شاكر في مجلة المقتطف، المجلد السابع والثمانين، الجزء الثالث: 4 رجب سنة 1354 هـ. (¬2) انظر: تقدمة محمد رشيد رضا لكتاب مفتاح كنوز السنة صحيفة (ق).

14 - الشيخ بسيوني بن بسيوني بن حسن عسل

14 - الشيخ بسيوني بن بسيوني بن حسن عسل: قال أحمد شاكر: "شيخنا وسيدنا وأستاذنا العالم العامل العلّامة محيي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشيخ بسيوني بن بسيوني بن حسن عسل" (¬1). والشيخ بسيوني ولد ونشأ في مديرية المنوفية، وتفقه على مذهب الشافعي، تخرج من الأزهر، واستقلّ بالتدريس فيه، وله عناية بعلم الحديث، وعنده نزعة تصوف، وجَمَعَ مكتبة كبيرة بيعت بعد وفاته (¬2). وأجاز الشيخ بسيوني أحمد شاكر برواية صحيح البخاري عنه بسنده فيه من طريق الحافظ ابن حجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعد العصر يوم الأربعاء ثالث عشر شهر ربيع الثاني سنة ألف وثلاثمائة وتسعة وعشرين من هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). 15 - الشيخ عبد الوهاب النجار: قال أحمد شاكر: "أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار" (¬4). ولد سنة 1278 هـ، وتخرج بمدرسة دار العلوم سنة 1315 هـ، ¬

_ (¬1) انظر: صورة خطية بإسناد الشيخ أحمد شاكر لصحيح البخاري من طريق ابن حجر العسقلاني. ملحقة بآخر كتاب نظام الطلاق في الإسلام لأحمد شاكر. (¬2) انظر: الأعلام الشرقية، لزكي مجاهد (1/ 286). (¬3) انظر: صورة خطية بإسناد الشيخ أحمد شاكر لصحيح البخاري من طريق ابن حجر العسقلاني. ملحقة بآخر كتاب نظام الطلاق في الإسلام لأحمد شاكر. (¬4) تعليق أحمد شاكر على دائرة المعارف الإسلامية (2/ 631).

16 - الأستاذ علي الجارم

واشتغل بالمحاماة الشرعية، وتقلب في وظائف تعليمية متعددة إلى أن كان أستاذًا للشريعة في دار العلوم، فناظرًا لمدرسة عثمان ماهر باشا، وتوفي - رحمه الله - سنة 1360 هـ (¬1). وأحمد شاكر شديد الإعجاب بالشيخ عبد الوهاب النجار، ويعدّه من أساطين العلم وحماة الإسلام الذين تخرجوا من دار العلوم الأزهرية (¬2). 16 - الأستاذ علي الجارم: قال أحمد شاكر: "أستاذنا الكبير العلّامة أمير الشعراء علي بك الجارم" (¬3) والجارم أديب كبير، من رجال التعليم في مصر، له شعر ونظم كثير، ولد سنة 1299 هـ، وتعلم في القاهرة وإنجلترا. وجُعل كبيرًا لمفتشي اللغة العربية بمصر، فوكيلًا لدار العلوم، حتى سنة 1942 م، ومثّل مصر في بعض المؤتمرات العلمية والثقافية، وكان من أعضاء المجمع اللغوي، توفي - رحمه الله - سنة 1368 هـ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الأعلام (4/ 182). (¬2) انظر: كتاب الشرع واللغة، مبحث: الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر، (ص 68). (¬3) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 24). (¬4) انظر: الأعلام للزركلي (4/ 294)، ومقدمة عباس العقاد لديوان علي الجارم (ص 7).

وقد كان أحمد شاكر يعرض على الأستاذ الجارم بعض عمله في تحقيق كتاب الرسالة للإمام الشافعي، ويستنير برأيه ويأنس به. ومن ذلك أن الشيخ أحمد شاكر نشر كتاب الرسالة عن أصل بخطّ الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، وكتبه في حياته. وهذه النسخة التي كتبها الربيع بن سليمان غاية في الدقة والضبط، كما بين ذلك أحمد شاكر بقوله: "وأما الثقة بها فما شئت من ثقةٍ، دقةٌ في الكتابة، ودقة في الضبط، كعادة المتقدمين من أهل العلم الأولين. فإذا اشتبه الحرف المهمل بين الإهمال والإعجام، ضبطه بإحدى علامتي الإهمال: إما أن يضمع تحته نقطةً، وإما أن يضع فوقه رسم هلال صغير، حتى لا يُشَبَّهَ فيتصحف على القارئ. ومن أقوى الأدلة على عنايته بالصحة والضبط، أنه وضع كسرةً تحت النون في كلمة (النَّذارة) .. وهي كلمة نادرة، لم أجدها في المعاجم إلا في القاموس، ونصَّ على أنها عن الإمام الشافعي، وهي تؤيد ما ذهبت إليه من الثقة بالنسخة، وتدل على أن الربيع كان يتحرَّى نطق الشافعيّ، ويكتب عنه عن بينة. ومن الطرائف المناسبة هنا أني عرضت هذه الكلمة على أستاذنا الكبير العلامة أمير الشعراء علي بك الجارم، فيما كنت أعرض عليه من عملي في الكتاب، فقال لي: كأنك بهذه الكلمة جئتَ بتوقيع الشافعي على النسخة. وصدق حفظه الله" (¬1). ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 24).

17 - الشيخ عبد الحي الكتاني

17 - الشيخ عبد الحيّ الكَتَّاني: قال أحمد شاكر: "شيخنا الحافظ الكبير السيد عبد الحيّ الكتاني" (¬1). عُرف بعبد الحيّ الكتاني، واسمه محمد عبد الحيّ بن عبد الكبير ابن محمد الحسني الإدريسي: من كبار علماء الحديث بالمغرب، ولد وتعلم بفاس، وكان منذ نشأته على غير ولاء للأسرة العلوية المالكة في المغرب، واعتقل سنة 1327 هـ في دار المخزن ببلده. وحج فتعرف على رجال الفقه والحديث في مصر والحجاز والشام والجزائر وتونس والقيروان. وعاد بأحمال من المخطوطات، وكان جمّاعة للكتب، ذخرت خزانته بالنفائس، توفي - رحمه الله - سنة 1382 هـ (¬2). والذي يظهر أن لقاء أحمد شاكر بعبد الحيّ الكتاني كان في أحد مواسم الحج، والله أعلم. 18 - الدكتور منصور فهمي: قال أحمد شاكر: "أستاذنا العظيم العلّامة الفيلسوف الدكتور منصور فهمي بك، المدير العام لدار الكتب المصرية (¬3). ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لجامع الترمذي (1/ 14). (¬2) انظر: الأعلام (6/ 187). (¬3) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 28).

والدكتور منصور فهمي من خطباء مصر، له علم بالفلسفة والتربية والأدب، ومن أعضاء المجامع العربية الثلاثة، وكان أُرسل في بعثة إلى باريس لدرس الفلسفة، وبعد عودته دَرّس في جامعة القاهرة، وتدرج إلى أن كان عميدًا لكلية الآداب، ثم مديرًا لدار الكتب المصرية، فمديرًا لجامعة الإسكندرية إلى سنة 1946 م، وكان كاتب السر للمجمع اللغوي المصري إلى أن توفي سنة 1378 هـ (¬1). ومما يذكر أن الدكتور منصور فهمي فُصل من الجامعة سنة 1913 م، بسبب رميه النبي - صلى الله عليه وسلم - بحب الشهوات - والعياذ بالله - وأمام هذا العدوان الصُراح ثار العلماء والعامة في وجهه؛ واستجابةً لهذه الضغوط فُصل من الجامعة، وظلّ بعيدًا عن الجامعة بضع سنين، ثم عاد فتقلّد مناصبها! ! (¬2). والذي يظهر أن الشيخ أحمد شاكر لم يتتلمذ للدكتور منصور فهمي بأي وجه من الوجوه، ويؤكد ذلك الأطوار التي مرَّ بها الدكتور، إضافة إلى أن تخصصه في الفلسفة، وهذا العلم ليس من اهتمامات الشيخ البتة. ¬

_ (¬1) انظر: الأعلام (7/ 302). (¬2) انظر: الأخلاق عند الغزالي، لزكي مبارك (ص 362). وما صدر من الدكتور منصور فهمي كان بعد عودته من فرنسا بأشهر. ولكنه بعد ذلك تاب ورجع إلى الله، وثناء أحمد شاكر عليه كان بعد توبته. انظر: مذكرات سائح في الشرق العربي لأبي الحسن الندوي (ص 174 - 175)، ومجلة المقتطف المجلد (100) عدد يناير سنة 1942 م (ص 48).

تلاميذه

وغاية ما في الأمر أن الشيخ أطلق هذه الكلمات مبالغةً في الثناء والشكر نظير الخدمات الجليلة التي كان يؤديها الدكتور منصور للباحثين والمحققين، بحكم إدارته لدار الكتب المصرية، وأحمد شاكر من أهم المستفيدين، وذلك عند تحقيقه لكتاب الرسالة للإمام الشافعي، ولهذا قال: "واليد البيضاء التي لا تُنسى، ما لقيت من معونة أستاذنا العظيم .. أَمر حفظه الله بأن تُصور لي نسخةُ الربيع كلُّها، وأمر بإعارتي نسخةَ ابن جماعة، وبأن يُسهَّل لي كلُّ ما أريد من مصادر ومراجع، أحسن الله جزاءه، ووفقه لخدمة الدين والعلم" (¬1). وثمة يدٌ أخرى لمنصور فهمي، ذلك أن أحمد شاكر لمّا علم بوجود نسخة عتيقة كاملة من كتاب (مسائل الإمام أحمد) لأبي داود، في المكتبة الظاهرية بدمشق رجا الدكتور منصور أن يأمر باستحضار نسخة منها مصورة بالتصوير الشمسي، فأجاب رجاءه (¬2). تلاميذه: انقطع الشيخ أحمد شاكر للتأليف وتحقيق كتب التراث، ولم ينصب نفسه لتدريس الطلاب، ولكن الذين تتلمذوا على كتبه، ونهلوا من علمه في مصر وخارجها لا يحصون كثرة. ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر للرسالة (ص 28 - 29). (¬2) انظر: تقدمة أحمد شاكر لجامع الترمذي (1/ 56).

المبحث الرابع: مذهبه الفقهي وعقيدته

المبحث الرابع: مذهبه الفقهي وعقيدته * مذهبه الفقهي: تفقه أحمد شاكر على مذهب أبي حنيفة في بداية طلبه للعلم، وكان الشيخ محمود أبو دقيقة أول شيوخ أحمد شاكر في معهد الإسكندرية، وعليه تخرج في الفقه الحنفي وتدرَّب (¬1). وقرأ على والده العلّامة محمد شاكر كتاب الهداية في الفقه الحنفي، وكان من طريقة والده في الشرح؛ نبذ التعصب لمذهب الحنفية، وتحكيم الحجة والبرهان، وترجيح ما نصره الدليل الصحيح وإن خالف مذهب الحنفية، وكان لهذه الطريقة في التدريس أبلغ الأثر في استقلال رأي أحمد شاكر، وحرية فكره، ونبذه التعصب لمذهب معين (¬2). ونال الشيخ أحمد الشهادة العالمِية من الأزهر الشريف حنفيًا، ومكث في القضاء زُهاء ثلاثين سنة يحكم بما أُذن له في الحكم به من مذهب الحنفية. ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المجلة، العدد (19) سنة 1958 م (ص 120). وللشيخ محمود أبو دقيقة - رحمه الله - عناية بكتب الفقه الحنفي ومن ذلك تعليقه على كتاب: الاختيار لتعليل المختار. (¬2) انظر: محمد شاكر، مقال كتبه أحمد شاكر في مجلة المقتطف، عدد أغسطس 1939 م، (300 - 307)، ومقال كتبه محمود شاكر بعد وفاة أخيه أحمد في مجلة المجلة، العدد (19) 1958 م (ص 120).

وفي سنة 1328 هـ، بدأ بقراءة السنة النبوية قراءة جادة استفرغت عليه جهده ووقته، وكان من أثر عكوفه على دراسة السنّة رفض التقيد بمذهب معين من غير نظر في الأقوال والأدلة، قال - رحمه الله -: "فسمعت كثيرًا وقرأت كثيرًا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحدٍ منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي، فإن أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجل. أحترم رأيي ورأي غيري، وأحترم ما اعتقده حقًّا قبل كل شيء وفوق كل شيء" (¬1). ومما رفضه الشيخ أحمد شاكر دعوى وجوب اتباع مذهب من المذاهب الأربعة، قال - رحمه الله -: "ليس هناك أي دليل على وجوب اتباع مذهب من المذاهب الأربعة، وإنما هذه كلمة شاعت عند العوام في عصور ضعف فيها العلم، واشتدت العصبية بين العلماء لمذاهب الأئمة الذين اتبعوهم، وقد كانت هناك أيام العصبية مذاهب أخرى يتعصب لها أتباعها؛ كمذهب داود الظاهري ومذهب ابن جرير - صاحب التفسير - ومذهب الأوزاعي وغيرهم. ثم ضعف العلماء فقلدوا العوام والجهال في العصبية للمذاهب الأربعة، ومن عجب أن يقلد العالم الجاهل. وأما الأئمة - رضي الله عنهم - فما كان أحد منهم ليرضى أن يقلده أحد، بل كانوا يعلمون العلم ويظهرون الناس على أدلته، ويجادلهم تلاميذهم وأتباعهم، ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لكتاب الرسالة (ص 8).

ويوافقونهم ويخالفونهم، ولم يجعل الله قول أحدٍ من العلماء حجة على الناس؛ بل الحجة في الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الصحيحة والاستنباط منهما، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فما علمه العالم من الدليل واقتنع به وجب عليه اتباعه، وحرم عليه أن يخالفه لقول أحدٍ كائنًا من كان، في كل عصر وحين" (¬1). ومع رفض أحمد شاكر - رحمه الله - للتقليد إلا أن ذلك لم يمنعه من التصريح بإعجابه الكبير بالإمام الشافعي - رحمه الله - وملكته الفقهية. قال الشيخ أحمد شاكر: "لو جاز لعالم أن يُقلَّدَ عالمًا كان أولى الناس عندي أن يُقلَّد الشافعي. فإني أعتقد - غير غالٍ ولا مسرف - أن هذا الرجل لم يظهر مثلُه في الإسلام، في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره. فصيح اللسان، ناصع البيان في الذروة العليا من البلاغة" (¬2). وقد اتسم فقه الشيخ أحمد شاكر بالتحرر المذهبي، ولا غَرْوَ فإن دراسته المتخصصة في علم الحديث، واحتكاكه بقضايا العصر، ومعايشته لأحوال الناس من خلال ثلاثين سنة قضاها في القضاء، كل ¬

_ (¬1) تعليق أحمد شاكر على دائرة المعارف (5/ 416). (¬2) تقدمة أحمد شاكر لكتاب الرسالة (ص 5).

* عقيدته

هذا أورثه مرونة وتوسعًا في الخلافات الفقهية (¬1). * عقيدته: سار الشيخ أحمد شاكر على طريقة ومنهج السلف - من الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان - من حيث الالتزام بالنصوص والفهم الذي فهموه. كتب أحمد شاكر في 8 شوال سنة 1374 هـ - قبل موته بثلاث سنوات - إلى صديقه القديم محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية، كتابًا جاء فيه: "تزاملنا وتآخينا منذ أكثر من خمس وأربعين سنةً، لله وفي سبيل الله، نصدر عن رأي واحد وعقيدةٍ سليمة صافية في الاستمساك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا نحيد عنها ما استطعنا، وفي نصرة العقيدة السلفية، والذب عنها ما وسعنا ذلك، لم يصرفنا عما قمنا له وبه، واضطلعنا بالذب عنه ما لقينا وما نلقى من أذًى أو عنت. ولعلنا - فيما قمنا به معًا - من أول العاملين على نشر العقيدة الصحيحة في بلادنا هذه، وما أريد فخرًا بعملي ولا بعملك، فما كنّا نعمل إلّا لله. وكان من أعظم المصادر العلمية التي استضأنا بنورها - بعد الكتاب الكريم والسنة المطهرة - كتبُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام الحافظ ابن القيّم، ثم كتب شيخ الإسلام (مجدد القرن ¬

_ (¬1) انظر: مذكرات سائح في الشرق العربي لأبي الحسن الندوي (ص 40).

الثاني عشر) محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله جميعًا" (¬1). وبهذا يتضح أن الشيخ أحمد شاكر سلفي العقيدة، ومن أوائل الداعين لها في مصر، وقد جرى على هذه العقيدة في مصنفاته وحواشيه على الكتب. ومن ذلك: قوله في باب الصفات: "ونحن على النهج الصحيح الذي كان عليه السلف الصالح نؤمن بما ورد في الصفات كما ورد من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا خروج عن معنى الكلام بالتأويل" (¬2). وقوله فيما جرى بين الصحابة: "الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، وهذه الفتن قد تُنسي الحليم حلمه، والذكي عقله، فلا ندري عذر من كان مع معاوية من الصحابة - رضي الله عنهم - وظهور الحجة وقيام الأدلة على أن الحق بجانب علي - رضي الله عنه - لا يُسيغ لنا أن نحكم بالبغي على الصحابة الذين خالفوه، فقد تكون لهم أعذار لا نعلمها، ومآل الجميع إلى مولاهم يحاسبهم ويقضي بينهم يوم الفصل" (¬3). ومن أكبر الدلائل على حُسن عقيدة الشيخ أحمد شاكر واتباعه لمذهب السلف الصالح عنايته بجملة صالحة من كتب الاعتقاد التي ¬

_ (¬1) بيني وبين حامد الفقي (ص 11 - 12). (¬2) عمدة التفسير (2/ 80). (¬3) انظر: تعليق أحمد شاكر على الروضة (2/ 361).

كتبها علماء أهل السنة والجماعة، ومن ذلك كتب شيخ الإسلام ابن تيمية: الرسالة التدمرية، والفتوى الحموية، والعقيدة الواسطية. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة، وعقيدة أهل السنة والجماعة لابن الجوزي، وكتب الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب: التوحيد، والأصول الثلاثة، والقواعد الأربع.

المبحث الخامس: آثاره العلمية

المبحث الخامس: آثاره العلمية المتتبع لآثار الشيخ أحمد شاكر العلميّة يلحظ أن له يدًا باسطة في غير علمٍ من العلوم من فقه وأصول وتفسير وحديث ولغة وأدب، ومصنفاته وتحقيقاته شاهدة على سَعَة دائرته في هذه العلوم، وإليك بيان آثاره مرتبة على الفنون (¬1). أولًا: آثار الشيخ في القرآن وعلومه: 1 - تفسير الطبري المسمى (جامع البيان عن تأويل آي القرآن): يعتبر هذا التفسير من أعظم التفاسير قال عنه الشيخ أحمد شاكر: ¬

_ (¬1) اجتهدت ما استطعت في جمع كل آثار الشيخ أحمد شاكر العلمية، وأفدت من وثيقة فيها حصر لكثير من آثار الشيخ العلمية، وهذه الوثيقة مطبوعة في ثلاث ورقات كتبها الشيخ أحمد شاكر في حياته وذيلها باسمه وتوقيعه، وله عليها تعليقات بالقلم، ومن فوائد هذه الوثيقة أنها عُنيت بذكر جهة النشر، وسنة الطبع، وطبيعة عمل الشيخ شاكر في الكتاب، وكنت أخذت هذه الوثيقة الهامة من الأستاذ أسامة ابن الشيخ أحمد شاكر عند زيارتي له في بيته. وأفدت أيضًا من رسالة ماجستير قدمت لجامعة الأزهر سنة 1412 هـ، بعنوان: العلّامة أحمد شاكر وجهوده في السنة المطهرة، للشيخ علاء عنتر. ومما يشار إليه أن رجب عبد المقصود ذكر طرفًا من آثار الشيخ العلمية في كتابه: الصبح السافر في حياة العلامة أحمد شاكر. وكذلك إبراهيم الأثري في مقال بعنوان: ترجمة العلامة أحمد محمد شاكر وبيان جهوده العلمية. الذي نشره في مجلة الحكمة (العدد الرابع، سنة 1415 هـ، بريطانيا). وكلا البحثين ينقصهما الاستيفاء، والدقة أحيانًا.

"وهو أعظم تفسير رأيناه، وأعلاه وأثبتُه. استحقَّ به مؤلفه الحجة أن يسمى (إمام المفسرين) " (¬1). وقد قام الشيخ أحمد شاكر بمراجعة الكتاب وتخريج أحاديثه ودَرْس أسانيده. أما الأستاذ محمود شاكر فقد اضطلع بتحقيق الكتاب، والتعليق عليه، وصنع الفهارس له، وهو خير من يستطيع أن يحمل هذا العبء، ويقوم بهذا العمل حقَّ القيام كما ذكر الشيخ أحمد شاكر (¬2). وتمنّى الأستاذ محمود مشاركة أخيه أحمد في كل أجزاء العمل: "وكنت أحبُّ أن يكون العمل في نشر هذا الكتاب مشاركة بيني وبين أخي في كل صغيرةٍ وكبيرة، ولكن حالت دون ذلك كثرة عمله وليته فعل، حتى أستفيد من علمه وهدايته، وأتجنب ما أخاف من الخطأ والزلل في كتاب - قال فيه أبو عمر الزاهد، غلام ثعلب (¬3): "قابلت هذا الكتاب من أوله إلى آخره، فما وجدت فيه حرفًا خطأً في نحو أو لغة"، وأنَّى لمثلي أن يحقق كلمة أبي عمر في كتاب أبي جعفر ونحن أهل زمانِ أُوتوا من العجز والتهاون، أضعاف ما أوتي ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لتفسير الطبري (1/ 7). (¬2) تقدمة أحمد شاكر لتفسير الطبري (1/ 6). (¬3) هو: أبو عمر محمد بن عبد الواحد، يعرف بغلام ثعلب، من أكابر أهل اللغة وأحفظهم لها، توفي ببغداد سنة 345 هـ. انظر: طبقات النحويين واللغويين للزُّبيدي (ص 209).

أسلافهم من الجد والقدرة! فتفضل أخي أن ينظر في أسانيد أبي جعفر، وهي كثيرة جدًّا، فيتكلم عن بعض رجالها، حيث يتطلب التحقيق ذلك، ثم يخرِّج جميع ما فيه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجدَ بعد ذلك فراغًا نظر في عملي وراجعه واستدرك عليه، فشكرتُ له هذه اليدَ التي طوّقني بها، وكم له عندي من يدٍ لا أملك جزاءها، عند الله جزاؤها وجزاء كل معروف، وحسبُه من معروف أنّه سدّد خُطاي صغيرًا وأعانني كبيرًا" (¬1). وعمل الشيخ أحمد شاكر في الكتاب يتجلّى في ما يلي: أ - تخريج ما فيه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ب - النظر في أسانيد أبي جعفر والكلام على بعض الرجال جرحًا وتعديلًا، وكان هذا في الأجزاء الثمانية الأُول، وقد شارك الأستاذ محمود شاكر منذ الجزء الرابع في بيان حال بعض رجال أسانيد الآثار دون الأحاديث، ثم انفرد محمود في الجزء التاسع وما يليه بالمراجعة وتخريج الأحاديث (¬2). وطبع الكتاب بدار المعارف سنة 1956 م، وصدر منه ستة عشر جزءًا. ¬

_ (¬1) تقدمة محمود شاكر لتفسير الطبري (1/ 12 - 13). (¬2) مقدمة محمود شاكر لتفسير الطبري (4/ 6، 10/ 7).

2 - عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير

2 - عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: استشعر الشيخ أحمد شاكر القيمة العلمية لتفسير ابن كثير - رحمه الله - فطفق يقول: "تفسير الحافظ ابن كثير أحسن التفاسير التي رأينا وأجودها وأدقها، بعد تفسير إمام المفسرين أبي جعفر الطبري. ولسنا نوازن بينهما وبين أيّ تفسير آخر مما بأيدينا، فما رأينا مثلهما ولا ما يقاربهما" (¬1). لذا صحت عزيمة الشيخ أحمد شاكر على العناية بهذا التفسير العظيم؛ فشرع في اختصاره بعد طول تردد، وعمق تفكير، وكثرة استشارة. وكان الباعث لذلك عدم انتفاع الناس بهذا التفسير العظيم، لما امتلأت به طبعاته من غلط وتحريف، وقد أشار الشيخ في مقدمة الكتاب لهذه الطبعات وما فيها من أغلاط، وأفرد الشيخ أحمد مخطوطة الأزهر بالوصف وجعلها أصلًا لتصحيح نصوص الكتاب، ثم كشف عن منهجه في هذا الاختصار، وهو منهج متميز متفرد، حافظ فيه على نَفَس ابن كثير - رحمه الله - قال أحمد شاكر - رحمه الله -: "حافظت على آراء الحافظ المؤلف وترجيحاته في تفسير الآيات، مجتهدًا في إبقاء كلامه بحروفه ما استطعت" (¬2). ومن ¬

_ (¬1) مقدمة أحمد شاكر لعمدة التفسير (ص 3). (¬2) مقدمة أحمد شاكر لعمدة التفسير (ص 6).

منهجه في الاختصار نفي كل الأخبار الإسرائيلية وما أشبهها، ثم اختار من الأحاديث التي يذكرها ابن كثير أصحها وأقواها إسنادًا، وأوضحها لفظًا، وحذف من الكتاب أسانيد الأحاديث، وكل حديث ضعيف أو معلول إلا أن يكون إثباته في موضعه ضرورة عملية لرفع شبهة، وحذف المكرر من أقوال الصحابة في التفسير، وكثيرًا من آراء التابعين، اكتفاءً ببعضها، وتحلّى في ذلك كله بالأمانة العلمية، وترجم للحافظ ابن كثير وذكر مصادر ترجمته، وأثبت ثلاث صور من مخطوطات الكتاب، وقد صنع في آخر كل جزء فهرسًا للأحاديث المرفوعة وما في حكمها على مسانيد الصحابة، وفهرسًا ثانيًا لموضوعات الكتاب، ولكن المنية اخترمت الشيخ قبل إتمام هذا المختصر، حيث انتهى فيه إلى الآية الثامنة من سورة الأنفال {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}. وقد طُبع الكتاب في دار المعارف بمصر فيما بين سنة 1957 - 1958 م في خمسة أجزاء. قال الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله -: " .. ومَوقِفًا من قبل للعالم المتفنن المتقن الشيخ أحمد شاكر المتوفى في سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - الذي سماه: (عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير) هو عمدة لدى أهل العلم، وما زالوا يستمعون في كل حين وآخر، نبأ من يجري الله على يديه إتمام هذين الكتابين الجليلين (¬1)، على ¬

_ (¬1) أحدهما: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للعلامة الشيخ محمد الأمين =

3 - تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي

الجادة: بصيرة العالم المتفنن، وأمانة المفسر، ونفس المحدث، وفقه النفس ... هذا ولم نسمع ولم نر أن واحدًا من أهل الأرض استطاع أن ينال منهما بحق، ومن فعل فقد شان نفسه، وأزرى عليها، والعصمة لرُسل الله عليهم الصلاة والسلام" (¬1). 3 - تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي: فسر العلامة المحلي من سورة البقرة إلى سورة الإسراء، وأكمل السيوطي التفسير إلى سورة الناس. وعمل الشيخ أحمد فيه تحقيق النصّ وتصحيحه، وشاركه أخوه علي محمد شاكر في ذلك، وقد طَبَعْتهُ دار المعارف سنة 1954 م. 4 - جامع البيان في تفسير القرآن: للإمام معين الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الإيجي الصفوي الشافعي - رحمه الله - وطبع الكتاب أول ما طبع في الهند، ثم طبع في مصر في مطبعة حجازي سنة 1355 هـ، في ثلاثة أجزاء، ووقف على تصحيحه الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله - وقام الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - بمراجعة الجزء الثالث منه، ويبدأ من سورة لقمان، وينتهي بسورة الناس. ¬

_ = الشنقيطي المتوفى سنة 1393 هـ، والآخر: عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر. (¬1) التحذير من مختصرات محمد الصابوني في التفسير للشيخ بكر أبو زيد (ص 34 - 35).

5 - هداية المستفيد في أحكام التجويد للشيخ أبي ريمة

5 - هداية المستفيد في أحكام التجويد للشيخ أبي ريمة: وهي رسالة احتوت على غالب علم التجويد في صورة سؤال وجواب مختصر، وعمل الشيخ فيها التصحيح والضبط بالشكل، وأول طبعة صدرت لها بتصحيح الشيخ - رحمه الله - في دار المعارف سنة 1373 هـ، والطبعة الثانية طبعتها مكتبة السنّة سنة 1407 هـ، والثالثة أيضًا مكتبة السنة سنة 1408 هـ، وتقع الرسالة في سبع وثلاثين صحيفة. 6 - منجد المقرئين ومرشد الطالبين للإمام محمد بن محمد الجزري: ويحتوي على سبعة أبواب: الأول في القراءات، والمقرئ، والقارئ وما يلزمهما. الثاني: في القراءات المتواترة والصحيحة والشاذة واختلاف العلماء في ذلك، وإيضاح الحق منه. الثالث: في أن العشرة ما زالت مشهورة من لدن قرئ بها وإلى اليوم، لم ينكرها أحد من السلف ولا من الخلف. الرابع: في سرد مشاهير من قرأ بها، وأقرأ في الأمصار إلى يومنا هذا. الخامس: في حكاية ما وقفت عليه من أقوال العلماء فيها. السادس: في أن العشرة بعض الأحرف السبعة، وأنها متواترة فرشًا وأصولًا، حال اجتماعهم وافتراقهم، وحل مشكل ذلك.

ثانيا: آثار الشيخ في الحديث وعلومه

السابع: في ذكر من كره من العلماء المقتصر على القراءات السبع، وأن ذلك سبب نسبتهم ابن مجاهد إلى التقصير. وعمل الشيخ فيها التصحيح والمراجعة. ونشرت الكتاب مكتبة القدسي سنة 1931 م. ثانيًا: آثار الشيخ في الحديث وعلومه 1 - المسند للإمام أحمد بن حنبل " وفي سنة 1946 م نَهَدَ أحمد شاكر لنشر ديوان السنة الأعظم: مسند الإمام أحمد، وهو العمل الذي استفرغ فيه جُهْدَه، وأَقدم عليه بعد أن آنس من نفسه نار القيام بأعباء هذا العمل الجليل، فالمسند كتاب تحاماه الرجال، وقديمًا تمنى الحافظ الذهبي - وهو من هو - "أن يُقَيَّض الله لهذا الديوان العظيم من يرتبه ويهذبه، ويحذف ما كرر فيه، ويصلح ما تصحف، ويوضح حال كثير من رجاله، وينبه على مرسله، ويُوَهَّن ما ينبغي من مناكيره" (¬1) فأقدم أحمد شاكر على هذا العِلْق النفيس، وتفنن في العناية به: ضبطًا وتحقيقًا، وشرحًا وتخريجًا، ثم شفع ذلك بفهرست دقيق فنشر منه سبعة عشر مجلدًا، ثم اعتاقَه ما اعتاقَهُ دون المدى فلم يتمّه" (¬2). قال الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله -: "ولعل دعوة ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 525). (¬2) محمود محمد شاكر الرجل والمنهج لعمر حسن القيّام (ص 35).

الذهبي قد أُجيبت بما صنع الشيخ أحمد شاكر في نشر هذه الطبعة الممتازة التي كانت أمنية حياته، وغاية همّه سنين طويلة. فقد جعل لأحاديث الكتاب أرقامًا متتابعة كانت كالأعلام للأحاديث بنى عليها فهارس ابتكرها، منها: فهرس للصحابة رواة الحديث مرتب على حروف المعجم، وفهرس الجرح والتعديل، وفهرس للأعلام والأماكن التي تُذكر في متن الحديث، وفهرس لغريب الحديث. أما الفهارس العلمية فهي الأصل لهذا العمل العظيم، وما نظن أحدًا سبق الأستاذ المحقق إلى مثلها (¬1)، وقد بناها على أرقام الأحاديث، فذلل الصعوبة التي يعانيها المشتغلون بالسنة، فإن الحديث الواحد قد يدل على معان كثيرة متعددة في مسائل وأبواب منوعة، مما ألجأ البخاري - رضي الله عنه - إلى تقطيع الأحاديث وتكرارها في الأبواب، فصار من الميسور للباحث - بعد هذا الجهد البالغ الذي قام به الأستاذ المحقق - أن يجد الباب الذي يريده أو المعنى الذي يقصده بالاستقصاء التام والحصر الكامل. ¬

_ (¬1) (وما نظن أحدًا سبق الأستاذ المحقق إلى مثلها) هذه العبارة أثارت حفيظة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي ورأى أن فيها غَمْطًا لجهود الآخرين، فكتب على نسخته الخاصة من المسند تعليقًا - جارحًا - على هذه العبارة: "وهل كان مفتاح كنوز السنة إلا فهارس علمية لمسند أحمد، وكتب السنة، والصحيحين، والسنن، وكتب السيرة؟ ؟ ولكنّها الأغراض والتزلف وعمى العين عن رؤية الحق الذي هو أبهى من طلعة النهار" وكان التعليق في 31/ 3/ 1950 م، وأحتفظ بصورة منه.

وبعد: فهذا العمل العظيم حقًا، ليس وليد القراءة العاجلة، أو إزجاء الفراغ فيما يلذ ويشوق ويسهل، وإنما هو نتاج الكدح المتواصل، والتنقيب الشامل، والتحقيق الدقيق، والغوص العميق في بطون الكتب وثنايا الأسفار. وقد أنفق فيه صديقي نحو ربع قرن من الزمان، لو أنفقه في التأليف أو في نشر الكتب الخفيفة لكان لديه منها الآن عشرات وعشرات، ولجمع منها مالًا جزيلًا، وذكرًا جميلًا، ولكنه آثر السنة النبوية، وتقريبها لطالبيها على كل ذلك، فحقق الله أمله، وبارك عمله" (¬1). وتعليقات الشيخ أحمد شاكر على الأجزاء التي حققها من المسند تعليقات نفيسة من الناحية الحديثية، ومن الناحية الموضوعية، حيث إن بعضها من السعة والشمول والقوة بحيث يكون كتابًا مستقلًا في موضوعه. ومع شهادة غير واحد من أهل العلم ببلوغ الشيخ أحمد شاكر في معرفة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روايةً ودرايةً، مبلغًا لم يُجاره أحدُ به من معاصريه ممن يَنْتَحل صناعة الحديث، إلا أنهم لاحظوا أن في أحكامه على الأسانيد والرواة تسامحًا كما هو مَقُوْل بحق الإمام صاحب المستدرك، وبحق الإمام ابن حبان صاحب الصحيح وغيرهما (¬2). ¬

_ (¬1) المسند للإمام أحمد (2/ 373 - 374). (¬2) انظر: تقدمة المسند بتحقيق الشيخ شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد (1/ 148)، والصبح السافر في حياة العلامة أحمد شاكر (ص 97 - 98).

2 - جامع الترمذي

ولئن قال هذا من قاله في حق الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر فله في هؤلاء سلف وأسوة، وإنما المسألة مسألة منهج يختطّه الإمام في النظر في أحوال الرواة وما قيل فيهم من جرح وتعديل، والنظر في الأسانيد واتصالها أو انقطاعها أو شذوذها أو نكارتها، والنظر في تعدد الطرق؛ وهل يكسب الحديث قوة .. إلى غير ذلك مما يختلف فيه الاجتهاد (¬1). 2 - جامع الترمذي: هذا الكتاب من أنفع كتب الحديث لطالب العلم حيث جمع فيه مؤلفه فقه الحديث ومتنه، فبعد أن يسوق الأحاديث والطرق في كل باب يذكر اختلاف الفقهاء وأقوالهم في المسائل الفقهية، وكثيرًا ما يشير إلى دلائلهم، ويذكر الأحاديث المتعارضة في المسألة. وهذا مقصد من أعلى المقاصد وأهمها؛ إذْ هو الغاية الصحيحة من علم الحديث، تمييز الصحيح من الضعيف، للاستدلال والاحتجاج، ثم الاتباع والعمل، ويتكلم عن درجة الحديث صحةً وضعفًا، ويذكر ما اشتمل عليه السند من العلل، ويفصِّل القول في التعليل والرجال تفصيلًا جيدًا، وعن ذلك صار كتابُه هذا كأنّه تطبيق عملي لقواعد علوم الحديث، خصوصًا علم العلل، وصار أنفع كتاب للعالم والمتعلم، وللمستفيد والباحث في علوم الحديث. ¬

_ (¬1) انظر: الصبح السافر في حياة العلامة أحمد شاكر (ص 98).

والترمذي بصنيعه هذا جمع بين غرض البخاري، وهو: بيان الفقه في المسألة. وغرض مسلم، وهو: جمع أحاديث الباب، وذكر الطرق في مكان واحد (¬1). ولمكانة جامع الترمذي بين كتب السنة المطهرة نَهَضَ أحمد شاكر لنشر هذا الديوان العظيم، وكان تلقاه كله عن والده سماعًا، وله به شبه اختصاص وكبير عناية (¬2)، فحققه وأخرجه على أحسن وجوه الضبط والتصحيح: ببيان روايات نُسَخِه وضبط ألفاظه، وتفصيل جُمله، وشرح معانيه، وتحقيق مسائله، والتعليق عليه لاكتمال فوائده (¬3). وجعل في طالعة الكتاب مقدمة حافلة ضمّنها بحثًا عن تصحيح الكتب، وصنع الفهارس المعجمة، وجهود المستشرقين في نشر التراث، وقبل ذلك ذكر النُّسخ التي اعتمد عليها، ووصفها، وأشار إلى الاختلاف بينها. وقد أبان الشيخ أحمد شاكر في تحقيق هذا الكتاب عن شخصية مستقلة في التصحيح والتضعيف والحكم على الرجال، وكانت ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة كتابَي: جامع الترمذي للشيخ شاكر (1/ 67 - 70)، ومعارف السنن شرح سنن الترمذي للبنوري (1/ 45 - 46). (¬2) انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتاب مفتاح كنوز السنة لفِنسِنك (صحيفة ج). (¬3) انظر: تقدمة عبد الفتاح أبو غدة لما كتبه أحمد شاكر في طالعة تحقيقه لجامع الترمذي التي استلّها الشيخ عبد الفتاح، ووضعها في جزء منفرد، وأسماها: تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة وكيفية ضبط الكتاب وسبق المسلمين الإفرنج في ذلك.

حواشيه على الكتاب نفيسة من الناحية الحديثية والفقهية إلا أنه مع الأسف الشديد لم يكمل الكتاب، وأخرج منه مجلدين، وبلغت الأحاديث التي حققها وعلّق عليها (616) حديثًا. ولَحَظ غير واحد من أهل العلم أن الشيخ شاكر تسامح حينما أثبت على وجه الكتاب: (الجامع الصحيح، وهو: سنن الترمذي)، وتابع في هذا من تساهل في إطلاق هذا الوصف على كتاب الترمذي (¬1)، كالحاكم حين أطلق عليه اسم (الجامع الصحيح)، والخطيب حين أطلق عليه اسم (الصحيح) (¬2). قال ابن الصلاح: "وهذا تساهل؛ لأن فيها ما صرحوا بكونه ضعيفًا أو منكرًا أو نحو ذلك من أوصاف الضعيف" (¬3). واسم الكتاب على التحقيق كما وضعه مؤلفه، هو: (الجامع المختصر من السُّنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل) (¬4). وقد طبعت مكتبة مصطفى البابي الحلبي هذين المجلدين سنة ¬

_ (¬1) انظر: تعليق أحمد شاكر على دائرة المعارف الإسلامية (5/ 230). (¬2) انظر: مقدمة ابن الصلاح (ص 35). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 35). (¬4) حقق ذلك الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، في جزء أسماه: تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي. وانظر منه (ص 53) وما بعدها.

3 - صحيح ابن حبان

1948 م. ثم طبعته دار الحديث بالقاهرة في خمسة مجلدات. 3 - صحيح ابن حبان: وقد أُشتهر بهذا الاسم، ويترجح عند أحمد شاكر أن الاسم الصحيح للكتاب الذي سماه به مؤلفه، هو: (المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقليها). وقال أحمد شاكر في التنويه بقيمة الكتاب: "كتاب نفيس، جليل القدر، عظيم الفائدة، حرَّره مؤلفه أدق تحرير، وَجَوَّدَه أحسن تجويد، وحقق أسانيده ورجاله، وعلل ما احتاج إلى تعليل من نصوص الأحاديث وأسانيدها، وتوثّق من صحة كل حديث اختاره على شرطه، ما أظنه أخل بشيء مما التزم، إلا ما يخطئ فيه البشر، وما لا يخلو منه عالم محقق" (¬1). وامتدح أحمد شاكر - رحمه الله - صنيع علاء الدين الفارسي، حيث رتب صحيح ابن حبان على الكتب والأبواب، قال - رحمه الله -: "كان ترتيب الأمير علاء الدين الفارسي إياه على الكتب والأبواب عملًا جليلًا حقًّا، قرب الكتاب لطالبيه، وحافظ على أصله بدقة الرجل العالم الثقة الأمين، وخير ما فيه أنه أثبت عناوين الأحاديث التي كتبها ابن حبان بنصها كاملة، وفي هذه العناوين فقه ابن حبان ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لصحيح ابن حبان (ص 11).

وعلمه بالسنة، على المعنى الكامل التام، وأثبت أيضًا كل ما كتب ابن حبان بعقب الأحاديث وهو شيء كثير، بعضه في الكلام على الرجال، وبعضه تفسير دقيق لمعاني الحديث، وبعضه تعليل فني من وجهة النظر الحديثية، إلى غير ذلك من النفائس والطرائف" (¬1). وكان للشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - الفضل في إخراج هذا الكتاب وإظهاره للباحثين والعلماء، وقد صنع له مقدمة اشتملت على منزلته وأصله، ووصف الإحسان، وترجم لابن حبان، وترجم للأمير علاء الدين، ووصف النُّسَخَ التي اعتمد عليها وصفًا دقيقًا متقنًا، وذكر الأقسام التي قسمه إليها ابن حبان وتكلم عن شرطه واصطلاحه وما يتعلق بذلك وغيره. وقد أصدر الشيخ - رحمه الله تعالى - الجزء الأول، ويشتمل على ثمانية وثلاثين ومائة حديثًا، وحلَّاه بتعليقات نفيسة مما يتصل بحياتنا المعاصرة، من نقد لبعض الأوضاع الشاذة، كما فعل في كثير من حواشيه التي بثّها في كتب التراث التي تولّى نشرها. وربما كان هذا المنهج من أهم ما يمتاز به أحمد شاكر، فهو يبث الحياة في النصوص القديمة، ويوجه الدلالات على ما تقتضيه المعايير الشرعية بحسب ما يؤديه إليه اجتهاده (¬2). وطبع هذا الجزء في دار المعارف سنة 1952 م، ثم طبع في مطبعة مكتبة ابن تيمية سنة 1986 م. ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لصحيح ابن حبان (ص 17). (¬2) انظر: محمود محمد شاكر الرجل والمنهج، لعمر القيَّام (ص 33).

4 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري مع معالم السنن لأبي سليمان الخطابي وتهذيب الإمام ابن قيم الجوزية

وأخيرًا نَهَضَ الشيخ شعيب الأرنؤوط لنشر الكتاب كاملًا؛ فأخرجه في ثمانية عشر مجلدًا، وكذلك أخرجه كمال يوسف الحوت في سبع مجلدات، وطبعته دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1987 م - 1497 هـ. 4 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري مع معالم السنن لأبي سليمان الخطابي وتهذيب الإمام ابن قيم الجوزية: وقد حقق الشيخ منه ثلاثة مجلدات بالاشتراك مع الشيخ محمد حامد الفقي، وعملهما فيه تحقيق النص مع التعليق عليه أحيانًا (¬1)، وطبع بمطبعة أنصار السنة المحمدية سنة 1948 م. 5 - صحيح البخاري بشرح الكرماني: قام أحمد شاكر بتصحيح الجزء الثاني فقط، وطبع بمطبعة محمود توفيق بمصر. 6 - الأربعون النووية: أَملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - مجلسًا سماه الأحاديث الكلية، جمع فيه الأحاديث الجوامع التي عليها مدار ¬

_ (¬1) شارك الشيخ شاكر محمد الفقي في نشر الكتاب إلا أنه نفض يده من الاشتراك في إكماله عند نهاية الجزء الثالث؛ وسبب ذلك عدم رضاه عن التعليقات التي كان يكتبها الشيخ محمد الفقي، خوفًا من أن تُنسب إليه بحكم الاشتراك في العمل، حتى اضطر الشيخان إلى الاتفاق على أن يوقع كل واحد منهما على ما يكتب. انظر: بيني وبين الشيخ حامد الفقي (ص 38).

7 - السمع والطاعة

الدين، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة، فاشتمل مجلسه على ستة وعشرين حديثًا. ثم جاء الإمام النووي - رحمه الله - فأخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح وزاد عليه تمام اثنين وأربعين حديثًا، ثم شرحها. وعمل الشيخ أحمد شاكر في الكتاب التصحيح والمراجعة، وطُبع الكتاب في دار المعارف سنة 1954 م. 7 - السمع والطاعة: جزء صغير، استهله الشيخ أحمد شاكر بحديث ابن عمر المرفوع: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" (¬1)، ثم شرع في بيان صور الطاعة الواجبة والطاعة المحرمة، وخص بالذكر القوانين التي تأمر بما يخالف كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وطبع هذا الجزء أولًا في دار المعارف، ثم طبع في مكتبة السنة عام 1410 هـ. 8 - العمدة في الأحكام: للحافظ عبد الغني المقدسي، وهو من نصوص أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما اتفق على إخراجه أصح الكتب الصحاح: صحيحا البخاري ومسلم. وقد جمع فيه مؤلفه أكثر من خمسمائة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (4/ 329) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها (3/ 1469).

9 - أربع رسائل حقق فيها ثمانية أحاديث من جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي

حديث عليها مدار أكثر أصول الأحكام، ورتبها على الكتب والأبواب، وأعانه على ذلك شقيقه الشيخ علي محمد شاكر. قال أحمد شاكر - رحمه الله -: "وقد حققته بالمقابلة بمخطوطات من شرح ابن دقيق العيد. أحدها مصوَّر عن أصل نفيس معتمد حجة، نقل عن نسخةٍ عمدةٍ، وصفتها بإسهاب في مقدمة الشرح الذي طبعه الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي سنة 1372 هـ بمطبعة السنة المحمدية" (¬1). وقد طبع الكتاب ثلاث طبعات أولاها في دار المعارف سنة 1373 هـ - 1954 م، والثانية والثالثة طبعتهما مكتبة السنة بالاشتراك مع مؤسسة الكتب الثقافية 1407 هـ. 9 - أربع رسائل حقق فيها ثمانية أحاديث من جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي: قال محب الدين الخطيب - رحمه الله -: "جامع العلوم والحكم لابن رجب طبع في الهند طبعة كثيرة التحريف، فرأى حضرة الأستاذ العالم الفاضل الشيخ أحمد شاكر القاضي الشرعي أن يخدم السنة بطبع هذا الكتاب طبعًا مصححًا، وأن ينشره أجزاء صغيرة تسهيلًا لاقتنائه. وبين أيدينا الآن الرسالتان الأولى والثانية منه جميلتي الطبع جيدتي الورق، مُعتنى بتصحيحهما، مع التعليقات ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لعمدة الأحكام (ص 5).

10 - حكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد

المعتادة التي لا غنى عنها" (¬1). 10 - حكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد: وهو شرح الإمام ابن دقيق العيد لكتاب عمدة الأحكام لعبد الغني المقدسي. وقد قدم له الشيخ أحمد شاكر وراجع نصوصه، وتولى الشيخ محمد حامد الفقي تحقيقه، وقد طبع أولًا في مطبعة السنة المحمدية وكانت في سنة 1374 هـ - 1955 م، والطبعة الثانية في سنة 1407 هـ - 1987 م، ونشرتها عالم الكتب بالاشتراك مع دار الكتب السلفية سنة 1407 هـ - 1987 م. 11 - نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني: صنع الحافظ ابن حجر - رحمه الله - نخبة الفِكَر على تبويب ابن الصلاح مع اجتهاده في التقديم والتأخير، والنخبة تشكل عصارة ذهن الحافظ ابن حجر في اختياره الراجح من الأقوال في مسائل المصطلح حتى ولو كان فيها شيء من الخلاف. ثم شرح الحافظ هذه النخبة في كتاب (نزهة النظر)، وهو شرح موجز جيد (¬2). وقد حقق الشيخ - رحمه الله - نصها، وطبعت الطبعة الأولى في دار المعارف سنة 1954 م، والثانية بدار الكتب السلفية سنة 1406 هـ. 12 - الخراج ليحيى بن آدم القرشي: وهو كتاب يعرض فيه مؤلفه للمسائل المتعلقة بالخراج والغنيمة ¬

_ (¬1) مجلة الزهراء، لمحب الدين الخطيب، عدد صفر 1344 هـ، المجلد الثاني. (¬2) انظر: شرح نخبة الفكر للدكتور سعد آل حميد (ص 8).

13 - شرح ألفية السيوطي في علم الحديث

والزكاة وغير ذلك مما يندرج تحت هذا الباب. نشر هذا الأثر النفيس أحد المستشرقين في سنة 1869 م - 1314 هـ، بمطبعة بريل في مدينة ليدن، نقلًا عن نسخة عتيقة قرئت مرارًا، عدد صفحاتها خمس وتسعون صحيفة، ويرجع تاريخها إلى أواخر القرن الخامس. وعمل الشيخ أحمد شاكر في الكتاب التصحيح والتعليق، وتناول في تعليقه: الحكم على الأحاديث من حيث الصحة والضعف، والكلام على بعض الرجال والعلل، وضبط الأسماء، وصُنع الفهارس العلمية، واستهل عمله في الكتاب بترجمة متوسطة ليحيى بن آدم، رحمه الله (¬1). وطبع الكتاب في المكتبة السلفية بمصر سنة 1347 هـ، ثم طبع الثانية في دار التراث بمصر بدون تاريخ، ثم طبعته المكتبة العلمية بباكستان سنة 1395 هـ. 13 - شرح ألفية السيوطي في علم الحديث: قال الشيخ أحمد شاكر بعد شرحه لألفية الحافظ جلال الدين السيوطي: "هذه تعليقات من رأس القلم على ألفية المصطلح للحافظ السيوطي - رحمه الله - لم أقصد بها أن تكون شرحًا، ولكنها طالت في بعض المواضع فكانت أكثر من شرح .. وأتممت كتابتها عصر يوم ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتاب الخراج (ص 1 - 14).

15 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث

الجمعة 5 صفر الخير 1353 هـ .. والحمد الله رب العالمين" (¬1). والطبعة الأولى صدرت عن دار إحياء الكتب العربية، وأما الطبعات الأخرى فهي طبعة نشرتها دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت وهي غير مؤرخة. وطبعة أخرى نشرتها مكتبة ابن تيمية بمصر، وطبعة طبعتها مطبعة البوسفور بمصر سنة 1332 هـ، وهي طبعة عليها تعليق مختصر جدًّا للشيخ في بعض المواضع وكتب على غلافها (وقف على طبعة أحمد محمد شاكر)، وأخيرًا طبعة المكتبة التجارية في مكة، وهي غير مؤرخة. 15 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير - رحمه الله - وقد اختصر في كتابه هذا مقدمة ابن الصلاح، ووصفه أحمد شاكر بقوله: "هو كتاب فذُّ في موضوعه، ألّفه إمام عظيم من الأئمة الثقات المُتَحَقِّقين بهذا الفن" (¬2). وسبب عناية الشيخ بهذا الكتاب أنه اختير من قبل شيخ الجامع الأزهر الإمام المراغي للمشاركة في لجنة المناهج في علوم التفسير والحديث للمعاهد الدينية، وكان مما اختارت اللجنة في علم مصطلح الحديث كتاب (اختصار علوم الحديث)، وقررت دراسته كله في كلية أصول الدين، ودراسة بعض أنواعه في كلية الشريعة، ولما كانت ¬

_ (¬1) شرح ألفية السيوطي (ص 252). (¬2) مقدمة الطبعة الأولى لكتاب الباعث الحثيث (1/ 68).

16 - ضبط وتصحيح ألفية العراقي

نُسخ الكتاب نادرة الوجود، أشار بعض الإخوان على الشيخ أحمد شاكر إعادة طبع الكتاب في مصر، مع تصحيحه وتحليته بشرح لأبحاثه، مع تحقيق بعض المسائل الدقيقة في علم المصطلح، فبادر الشيخ إلى النزول عند إرادتهم؛ فكان هذا الشرح الموسوم بـ (الباعث الحثيث) (¬1). وطبع للمرة الأولى سنة 1937 م بمطبعة محمود توفيق، والطبعة الثانية سنة 1370 هـ - 1951 م بمطبعة محمد صبيح وأولاده، والثالثة سنة 1979 م بمكتبة دار التراث، ثم طبع بمكتبة المعارف بالرياض سنة 1417 هـ، بعناية علي حسن عبد الحميد مع تعليقات للشيخ المحدث ناصر الدين الألباني. 16 - ضبط وتصحيح ألفية العراقي: نَظَمَ الإمام العراقي - رحمه الله - هذه الألفية، وهي حاوية لعلوم الحديث المتنوعة، وقد صححها الشيخ وضبطها بالشكل، وطبعت الطبعة الأولى بدار المعارف سنة 1954 م، والثانية بمكتبة السنة بالقاهرة غير مؤرخة. 17 - خصائص مسند الإمام أحمد للإمام أبي موسى المديني. 18 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد لابن الجزري: هذان الكتابان جعلهما الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - مقدمة ¬

_ (¬1) مقدمة الطبعة الأولى لكتاب الباعث الحثيث (1/ 68 - 69).

19 - التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي

لمسند الإمام أحمد، وصنعة الشيخ في الكتابين: التحقيق، والتصحيح، والتعليق أحيانًا. وطُبع الكتابان في دار المعارف سنة 1946 م، ثم طبعا بمكتبة السُنَّة سنة 1410 هـ -1990 م. 19 - التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي: قال أحمد شاكر - رحمه الله -: "كتاب (التحقيق في أحاديث الخلاف) للإمام الحافظ الكبير أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ، كتاب نفيس من أهم الكتب التي أُلفت في مسائل الاختلاف بين المذاهب؛ لأنه اقتصر على المواضع التي فيها بين الأئمة الأربعة اختلاف، وترك ما اتفقوا عليه، وأفاض في بيان أدلة كل مذهب وساق الأحاديث بأسانيدها. وقد كنت منذ اثني عشر عامًا أو أكثر (¬1) رأيت (التحقيق) في دار الكتب المصرية وأعجبت به جدَّ الإعجاب، ورغبت في نشره .. " (¬2). وقد حقق الشيخ أحمد شاكر الجزء الأول منه دون بقية أجزائه، واعتمد على النسخة الوحيدة بدار الكتب المصرية، وهي نسخة عتيقة، وأغلاطها قليلة، وصححت تصحيحًا جيدًا. ¬

_ (¬1) كتب أحمد شاكر هذا الكلام في سنة 1346 هـ. (¬2) التحقيق لابن الجوزي، مقال في مجلة الزهراء، الربيعان 1346 هـ، المجلد الرابع، الجزء الأول (ص 90).

وأما جهده في نشر الكتاب فتحدث الشيخ عنه بقوله: "ولما عزمنا - بحول الله وقوته - على الشروع في طبعه، بدأت في التعليق عليه، وتدارك ما فاته أداءً لأمانة العلم؛ فجمعت بين يدي كل ما طبع من كتب السنة وتراجم رجالها، وأكثر كتب الفقه والأصول واللغة وغير ذلك، وبذلت جهدي في تصحيحه والتوثق من كل كلمة فيه بالرجوع إليها في أصولها - إلا ما ندر - وذكرت مذاهب كثير من الأئمة المجتهدين غير الأربعة: مثل الأوزاعي، وإسحاق، وداود، وأشرت إلى أدلة كل إمام منهم. وتكلمت على الأحاديث التي ذكرها فبينت من روى كل حديث، وذكرت درجته العلمية، ووجه صحته إن كان صحيحًا، أو ضعفه إن كان ضعيفًا على طريق الإنصاف. وما ألوت أن أبين ما يرجحه الدليل في مواضع الخلاف والنظر متبعًا سبيل من هدى الله غير مقلد لأحد ولا متعصب لمذهب. وما أدّعي أني صنو أي مجتهدٍ منهم، ولكني امرؤ أمرني ربي أن آخذ ما آتاني الرسول فأَطَعْتُ، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمن نفسي. وما توفيقي إلا بالله. وحققتُ فيما كتبته - بعون الله سبحانه وتعالى - بعض مسائل على مثالٍ لم أره فيما وصل إلي من كتب الخلاف. وحسبي هذا فقد أخشى إن استرسلتُ أن يصل بي القلم إلى التغالي في مدح كتابي، وما كان هذا من خلقي. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني إلى إتمامه، وأن يهديني إلى الحق، وأن يرزقني

ثالثا: ما يتعلق بالفقه وأصوله

الإخلاص في قولي وعملي إنه سميع عليم" (¬1). وقد نشرت مكتبة الخانجي الجزء الأول سنة 1344 هـ، ثم طبع بمطبعة السنة المحمدية سنة 1373 هـ - 1954 م. ثالثًا: ما يتعلق بالفقه وأصوله: 1 - المحلي لابن حزم: وهو كتاب في الفقه الظاهري، وعمل الشيخ فيه تصحيح النصّ والتعليق عليه وتخريج بعض الأحاديث والحكم عليها، وقد حقق الشيخ ستة أجزاء، خرجت في ثلاثة مجلدات وهي ثلث الكتاب تقريبًا، وصدرت طبعته الأولى سنة 1348 هـ - 1349 هـ عن المكتبة المنيرية ثم صورته دار التراث. 2 - الروض المربع للبهوتي بشرح زاد المستنقع لأبي النجا الحجاوي: وهو كتاب في الفقه الحنبلي، صححه وراجعه الشيخ - رحمه الله - بمشاركة أخيه الشيخ علي محمد شاكر، وطبعته دار المعارف سنة 1954 م، ثم نشرته دار التراث بعد ذلك مصورًا على الطبعة السابقة. 3 - أخصر المختصرات في فقه الإمام أحمد: عمل الشيخ في الكتاب التصحيح والمراجعة بالاشتراك مع ¬

_ (¬1) التحقيق لابن الجوزي، مقال في مجلة الزهراء، الربيعان 1346 هـ، المجلد الرابع، الجزء الأول (ص 93).

4 - مختصر المقنع في فقه الإمام أحمد للحجاوي

الشيخ علي محمد شاكر وطبعته دار المعارف سنة 1954 م، ثم طبع في دار عالم الكتاب سنة 1986 م - 1406 هـ، ثم في مكتبة السنة. 4 - مختصر المقنع في فقه الإمام أحمد للحجاوي: وعمل أحمد شاكر فيه التصحيح والمراجعة بمشاركة الشيخ علي محمد شاكر، وطبعته دار المعارف سنة 1954 م، ثم طبع في عالم الكتب سنة 1986 م ضمن مجموعة كتب صححها الشيخ، رحمه الله. 5 - الرسالة للإمام الشافعي: وسميت بالرسالة لإرسال الشافعي إياها إلى عبد الرحمن بن مهدي، وهي أول كتاب ألف في أصول الفقه. و (الرسالة) للإمام الشافعي أول كتاب نشره أحمد شاكر سنة 1358 هـ - 1939 م، وفيه أبان عن علم غزير بنصوص الشافعي ولغته الغامضة ودلالات ألفاظه، وكشف عن أداة متينة في قراءة التراث وشرحه، واستغلال مبدع لإمكاناته في اللغة والفقه والحديث في تنوير النَّصِّ القديم، وإماطة اللثام عن أسراره وخفاياه (¬1). ولقد كان ظهور (الرسالة) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر إيذانًا ببدء مرحلة جديدة تمامًا من النشر العلميَّ العربيّ، المستكمل لكل أسباب التوثيق والتحقيق. وقد جرى الشيخ - رحمه الله - في تحقيق (الرسالة) على أعدل ¬

_ (¬1) انظر: محمود محمد شاكر الرجل والمنهج، لعمر القيَّام (ص 32).

6 - جماع العلم للشافعي

المناهج وأقومها من حيث التنبُّهُ الشديد لفَرْق ما بين النسخ، وإضافات النُسَّاخ فيما خفي ودق، وربط كلام الشافعي - رحمه الله - في هذا الكتاب بكتبه الأخرى، وتوثيق النقول، وتحرير المسائل، ثم العناية الفائقة بالضبط - وأسلوبه في الضبط هو الغاية والمنتهى - وصنع الفهارس الفنية، التي شملت آيات القرآن الكريم، وأبواب الكتاب على ترتيبها، والأعلام، والأماكن، والأشياء؛ من حيوان، ونبات، ومعدن، ونحو ذلك، والمفردات المفسَّرة في الكتاب، والفوائد اللغوية المستنبطة منه، ومواضيع الكتاب ومسائله في الأصول، والحديث، والفقه، على حروف المعجم (¬1). وطبع هذا العِلْق النفيس أولًا بمكتبة مصطفى البابي الحلبي سنة 1939 م، ثم طبع بمكتبة دار التراث سنة 1399 هـ - 1979 م، ثم طبع بالمكتبة العلمية ببيروت طبعة غير مؤرخة. 6 - جماع العلم للشافعي: قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في وصف الكتاب: "دُرَّةٌ كريمة من دُرر الشافعي، وطرفة من أبدع طُرَفِه. حكى فيه مناظرات بينه وبين بعض أهل العلم في عصره، في أصول الاستدلال، أو إن شئت: في بعض مسائل من أصول الفقه، وأكثر ما يدور الجدال فيه ¬

_ (¬1) انظر: مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، للدكتور محمود الطناحي (ص 92 - 93).

في الاحتجاج بالأخبار، وحجة الإجماع وحقيقته، والأمر والنهي، ونحو ذلك" (¬1). وألحق الشيخ أحمد شاكر بهذا الكتاب كتيبًا للشافعي، يسمى (كتاب صفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم)، وقد طُبِعا (جماع العلم) و (صفة نهي النبي) ضمن كتب الشافعي التي جمعت في الكتاب (الأم) بالمطبعة الأميرية سنة 1326 هـ. وتحدث الشيخ أحمد شاكر عن منهجه في نشر الكتاب، فقال: ثم لم آلُ وسعًا في التحري والتوثيق، لتصحيح الكتاب وتحقيقه، وخالفت مصحح الطبعة الأولى في كثير من المواضع بما عرفت من علم الشافعي، وبما فَقِهت من طريقته في الإبانة عمَّا يريد، وبمقارنة كلامه هنا بكلامه في كتبه الأخرى؛ خصوصًا كتاب (الرسالة). وحرصتُ على الأمانة العلمية، فأثبت ما في الطبعة الأميرية بالحاشية، رامزًا إليها بحرف (ط) حتى يكون القارئ على بينة مما في النسختين، وليرجح ما شاء منهما إنْ بدا له الترجيح. ولم أسهبْ في شرح الكتاب، كما أسهبت في شرح (الرسالة)، رومًا للاختصار" (¬2). وصنع الشيخ لهذا الكتاب أربعة فهارس: ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لجماع العلم (ص 7). (¬2) تقدمة أحمد شاكر لجماع العلم (ص 9 - 10).

7 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم

- فهرس مواضيع الكتاب. - فهرس آيات القرآن. - فهرس الأعلام. - فهرس الأماكن. وطبع الكتاب في دار المعارف سنة 1359 هـ - 1940 م، ثم طبعته مكتبة ابن تيمية طبعة غير مؤرخة. 7 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: وهو كتاب عظيم في الأصول، بل هو من أنفس كتب الأصول. وقد توجهت همّة أحمد شاكر لنشر هذا السفر القيم؛ فحقق نصه، وعلق عليه، فكان ثمانية أجزاء في أربعة مجلدات، وصدر عن مطبعة الخانجي ما بين سنة 1927 - 1930 م، ثم طبعته دار الآفاق الجديدة ببيروت سنة 1400 هـ - 1980 م، مع مقدمة للدكتور إحسان عباس. 8 - قواعد الأصول ومعاقد الفصول (مختصر تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل) لصفي الدين عبد المؤمن الحنبلي: وهو كتاب في أصول فقه الحنابلة، وعَمل أحمد شاكر فيه التصحيح والمراجعة، وطبعته دار المعارف سنة 1954 م، ثم صدرت طبعة أخرى عن عالم الكتاب سنة 1406 هـ - 1986 م. 9 - نظام الطلاق في الإسلام يتميز منهج الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - بأنه منهج متحرر

من قيود التقليد، وأغلال التعصب المذهبي، الذي كان سببًا في الفرقة، والتأخر، والاختلاف. ومنهجه واضح صريح في اتباع الدليل من الكتاب والسنة الصحيحة والاستنباط منهما. وقد تجلى هذا المنهج المتميز في هذا الكتاب مع طول نفسه - رحمه الله - في الاستدلال والاستنباط والمناقشة؛ فكان في طليعة الكتب التي ألفها. يقول في مقدمة كتابه (نظام الطلاق في الإسلام): "هذه الأبحاث ليست من أبحاث الجامدين المقلدين كلا، إنما هي أبحاث علمية حرة، على نهج أبحاث المجددين الصادقين؛ من السلف الصالح، رضوان الله عليهم" (¬1). قال الأستاذ محمود شاكر - رحمه الله -: "وأما أهم ما ألفه فهو كتاب نظام الطلاق في الإسلام، دلّ فيه على اجتهاده، وعدم تعصبه لمذهب من المذاهب، واستخرج فيه نظام الطلاق من نصّ القرآن، ومن بيان السنَّة في الطلاق، وكان لظهور هذا الكتاب ضجة عظيمة بين العلماء، ولكنه دافع فيها عن اجتهاده دفاعًا مؤيدًا بالحجة والبرهان، ومن قرأ الكتاب عرف كيف يكون الاحتجاج في الشريعة، وظهر له فضل الرجل وقدرته على ضبط الأصول الصحيحة، وضبط ¬

_ (¬1) نظام الطلاق في الإسلام (ص 3).

الاستنباط فيها ضبطًا لا يختل" (¬1). "وقد نصر في بحثه لهذه المسألة رأي القائلين بأن الثلاث واحدة، بأسلوب جزل، وعبارة بليغة، بل ذهب إلى تخطئة من ظن من المتأخرين - في حكايته للخلاف في المسألة عن المتقدمين - التسوية بين صيغة التكرار بالوصف (أنت طالق ثلاثًا)، وبين صيغته بالعدد: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق)، وقرر أن الصيغة الأولى لا وجه لإدخالها في صورة المسألة، وأن هذا خطأ صرف، وانتقال نظر غريب تتابع عليه كل من حقق في هذه المسألة. وصرح بمخالفة هؤلاء جميعًا، وأن قول القائل: ثلاثًا. لغو من القول فلا يقع إلا واحدة أصلًا" (¬2). ومما يشار إليه أن الشيخ محمد زاهد الكوثري (¬3) قد صنف في الرد عليه كتابًا أسماه (الإشفاق على أحكام الطلاق). وقد صدرت الطبعة الأولى عن مطبعة النهضة سنة 1931 م، ¬

_ (¬1) ترجمة مبتسرة كتبها محمود شاكر بعد وفاة أخيه أحمد في مجلة المجلة، العدد (19) 1958 م (ص 120)، ثم جُعلت هذه الترجمة في طلائع كثير من الكتب التي ألفها أحمد شاكر. (¬2) تسمية المفتين: بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة، للدكتور سليمان العمير (ص 94). (¬3) هو: محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري فقيه حنفي، جركسي الأصل له اشتغال بالأدب والسير، وله اهتمام بالحديث والرجال، توفي بالقاهرة سنة 1371 هـ. انظر: الأعلام (6/ 129).

10 - كلمة الفصل في قتل مدمن الخمر

والطبعة الثانية عن مكتبة الخانجي سنة 1389 هـ، ثم طبعته مكتبة السنّة مرتين، الثانية كانت في سنة 1418 هـ - 1998 م. 10 - كلمة الفصل في قتل مدمن الخمر: في هذا الكتاب تحقيق علمي لحديث الأمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، خلص منه إلى أن هذا الأمر محكم ثابت لم ينسخ، وأنه هو العلاج الصحيح للإدمان الذي يكاد يقضي على الأمم الإسلامية، ويكاد يذهب بتشريعهم السامي وآداب الإسلام العالية النقية. وقد جمع الشيخ أحمد شاكر كل ما ورد في هذا الباب؛ من الروايات التي فيها الأمر بقتل الشارب في الرابعة، وكل الروايات التي استدل بها من ادعى نسخه، ووجه ما ذهبوا إليه من النسخ، ونتيجة لهذا الاستقصاء والتتبع، قال أحمد شاكر - رحمه الله -: "فكان البحث - كما ترى - بحثًا مستوعبًا على ما في الاستطاعة والوسع، لم آلُ جهدًا في التتبع والتنقيب، ولم أكتم شيئًا مما وجدت مما يدل لهذا الوجه أو ذاك، أداءً لأمانة العلم، واحتياطًا لديني، وتحريًا للصدق والتوثق ما استطعت - إن شاء الله -" (¬1). وقد صدرت الطبعة الأولى منه عن دار المعارف سنة 1370 هـ، والثانية عن مكتبة السنّة سنة 1407 هـ. ¬

_ (¬1) انظر: كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر (ص 3 - 5).

11 - رسالة في شروط الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

11 - رسالة في شروط الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: وعمل الشيخ في الرسالة التصحيح والمراجعة، وطبعت في دار المعارف سنة 1954 م، ثم طبعت في دار عالم الكتب سنة 1406 هـ - 1986 م. 12 - أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي؟ وهو بحث علمي حر قائم على أساس الكتاب والسنة، والاستنباط منهما، والفقه فيهما، قال عنه الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -: لم أكتبه إلا بعد روية وفكر، وتدبر ونظر على طريقة سلفنا الصالح من العلماء، في الأخذ بالكتاب والسنة، ونبذ التقليد والعصبية، لعلي أصبت فيه وجه الصواب بعون الله وتوفيقه، أعرضه لأنظار العلماء الباحثين متقبلًا النقد أو التأييد بالشكر والثناء لتتمحص الحقيقة، ويكشف عن وجه الصواب، أما إلقاء القول على عواهنه بأقوالٍ جوفاء، مبنية على الرأي والهوى، فإنه يخرج البحث عن حده العلميّ الدقيق، ولا يُحق حقًّا، ولا يُبطل باطلًا. وأما الاستمساك بأقوال الفقهاء التي يسميها بعضهم (نصوصًا)، ويزعمونها حجة علينا وعلى الناس؛ فإنها أو أكثرها في متناول أيدينا وتحت أنظارنا، فلا نجادل من يحتج بها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي؟ (ص 29) بتصرف يسير.

13 - الروضة الندية شرح الدرر البهية للعلامة صديق حسن خان

ويذهب أحمد شاكر في هذا الكتاب إلى وجوب اعتماد الحساب الفلكي بعد أن وصل علم الفلك إلى ما وصل إليه من الحساب الدقيق الموثوق به. ويبقى الاعتماد على الرؤية في الأقل النادر ممن لا يصل إليه الأخبار، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر. وطبع الكتاب ابتداءً بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1358 هـ - 1939 م، ثم طبعته مكتبة ابن تيمية مرتين الأولى كانت في سنة 1359 هـ، والثانية في سنة 1407 هـ - 1986 م. 13 - الروضة الندية شرح الدرر البهية للعلامة صديق حسن خان: (الدرر البهية في المسائل الفقهية) من تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - وقصد بذلك جمع المسائل التي صح دليلها. ثم شرح الدرر البهية الشيخ صديق حسن خان، قال - رحمه الله -: "وسميت هذا الشرح الأنيس؛ بل العلق النفيس: الروضة الندية شرح الدرر البهية - صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّم -" (¬1). وقام الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - بمراجعة الكتاب وتصحيحه، وحلاه بتعليقات متنوعة مفيدة، وطُبع الكتاب في دار التراث بالقاهرة طبعة غير مؤرخة. 14 - المسح على الجوربين للعلامة محمد جمال الدين القاسمي: ألف هذه الرسالة القيمة عالم الشام الأستاذ الشيخ محمد جمال ¬

_ (¬1) مقدمة الروضة الندية (1/ 4).

15 - مذكرة في قضية الوارثين الشرعيين المحرومين من حقوقهم في أوقاف أهليهم مؤيدة بفتوى الإمام محمد بن عبد الوهاب

الدين القاسمي - رحمه الله - وطبعت بدمشق سنة 1332 هـ، وقد أفاد الشيخ أحمد شاكر منها علمًا جمًا، وروحًا قويًّا؛ لأنَّ مؤلفها ممن سار على نهج السلف الصالح في الاستمساك بالهدي النبوي، وتتبع الدليل الصحيح، دون تعصب لرأي وهوى، ودون جمود على التقليد (¬1). قال أحمد شاكر - رحمه الله -: "وقد رغب صديقنا الحبيب، السلفي الكبير الكريم، الأخ السيد محمد نصيف - حفظه الله - أن يعيد طبعها بعد أن صارت نادرة الوجود، وكثر الحرص على اقتنائها، رغبة في إذاعة الفائدة منها. وطلب مني أن أعيد قراءتها، وأكتب لها مقدمة، فأبنت له أني حريص على تحقيق بعض الأحاديث التي استدلّ بها المؤلف - رحمه الله - وأن أزيد بعض الدلائل التي تؤيد ما ذهب إليه، مما لم يكن بين يديه حين ألف رسالته. وقد اجتهدتُ فيما كتبت ما استطعت، وأسأل الله التوفيق والعون والسداد. إنه سميع الدعاء" (¬2). 15 - مذكرة في قضية الوارثين الشرعيين المحرومين من حقوقهم في أوقاف أهليهم مؤيدة بفتوى الإمام محمد بن عبد الوهاب: والمذكرة تقع في عشرين صحيفة، وهي من إنشاء الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - وفتوى الإمام محمد بن عبد الوهاب ملحقة بآخرها وهي في حدود عشر صفحات، بعنوان: (إبطال وقف ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة أحمد شاكر لرسالة المسح على الجوربين (ص 3). (¬2) تقدمة أحمد شاكر لرسالة المسح على الجوربين (ص 4).

16 - أبحاث في أحكام (فقه وقضاء وقانون)

الجَنَف والإثم) وقد صححها أحمد شاكر على ثلاث نسخ معتمدة، وحلّاها بتعليقات يسيرة. طبعت المذكرة في دار المعارف سنة 1372 هـ - 1953 م. 16 - أبحاث في أحكام (فقه وقضاء وقانون): كتاب نافع للقضاة والمحامين، وكل صاحب دعوى، والكتاب مجموعة من الأحكام التي حكم فيها الشيخ أحمد شاكر أيام عمله في المحاكم الشرعية. قال الشيخ - رحمه الله -: "بدا لي أن أجمع هذه الأحكام، لما فيها - أو في بعضها - من طرافة في البحث، أو جِدَّةٍ في الرأي، أو صراحة في القول. ولا أزعم أنّ ما قلتُ فيها صوابُ كلُّه، فما يكون هذا لأحد من الناس، حاشا الأنبياء. بل أثق أني لم أكتب إلا ما اقتنع به عقلي، واطمأن إليه قلبي، بعد أن تحريتُ الصواب من طريقه، وقلبت وجوه النظر في الأدلة ومقدماتها ونتائجها" (¬1). صدرت الطبعة الأولى عن دار المعارف سنة 1941 م، والثانية عن مكتبة ابن تيمية سنة 1360 هـ، والثالثة عن مكتبة ابن تيمية سنة 1407 هـ. رابعًا: ما يتعلق بالعقيدة: 1 - كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب: وهو كتاب عظيم النفع، بين فيه مؤلفه التوحيد وفضله، وما ينافيه ¬

_ (¬1) مقدمة الكتاب (ص 3).

2 - الأصول الثلاثة وأدلتها لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر والبدع، وقد اشتمل على ستة وستين بابًا. واعتنى الشيخ أحمد شاكر بالكتاب متنًا وشرحًا، وإليك بيان ذلك: أ - شَرَحَ كتاب التوحيد أحد أفاضل العلماء - كما كتب على صدره - وقد راجع الشيخ أحمد شاكر الشرح ونقّحه، مع تحقيق النص. وقد طبعته دار المعارف مرتين؛ الأولى سنة 1954 م، والثانية سنة 1974 م. ب - حقق الشيخ أحمد شاكر نص كتاب التوحيد من غير الشرح بالاشتراك مع أخيه الشيخ علي محمد شاكر. وطبع الكتاب في دار المعارف سنة 1954 م. 2 - الأصول الثلاثة وأدلتها لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب: والأصل الأول هو معرفة الرب، والثاني: هو معرفة دين الإسلام بالأدلة، والثالث: هو معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. وعمل الشيخ أحمد شاكر في الكتاب التصحيح والمراجعة. وطبع في دار المعارف مرتين؛ الأولى سنة 1954 م، والثانية في سنة 1974 م. 3 - القواعد الأربع لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: جزء صغير الحجم ضخم المعاني، تحدث فيه الإمام محمد بن

4 - العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية

عبد الوهاب عن أربعة قواعد ذكرها الله في كتابه: الأولى: أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله (مقرون بأن الله هو الخالق، ولم يدخلهم ذلك الإِسلام). والثانية: يقولون: ما دعوناهم إلا لطلب القربة والشفاعة. والثالثة: أن الرسول (قاتل المشركين ولم يفرق بينهم؛ ومنهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار وغير ذلك. الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركًا من الأولين. وعمل الشيخ أحمد شاكر في الرسالة التصحيح والمراجعة. وطبعت الرسالة في دار المعارف مرتين؛ الأولى: سنة 1954 م، والثانية: في سنة 1974 م. 4 - العقيدة الواسطية لشيخ الإِسلام ابن تيمية كتبها شيخ الإسلام في مجلس واحد بعد العصر من أحد أيام سنة 698 هـ، وسبب كتابتها أن بعض قضاة واسط من أهل الخير والدين شكى ما الناس فيه - ببلادهم في دولة التتر - من غلبة الجهل والظلم ودروس الدِّين والعلم، وسأل الشيخ أن يكتب له عقيدة .. فكتب له هذه العقيدة وهو قاعد بعد العصر (¬1). وعمل الشيخ أحمد شاكر فيها التصحيح والمراجعة فقط، وقد طبعتها دار المعارف سنة 1954 م، ثم طبعتها دار عالم الكتب سنة 1406 هـ - 1986 م. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (3/ 194).

5 - المناظرة في العقيدة الواسطية بين شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء عصره

5 - المناظرة في العقيدة الواسطية بين شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء عصره (¬1): وقد راجعها الشيخ أحمد شاكر وصححها، وطبعتها دار المعارف سنة 1954 م. 6 - لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد للإمام ابن قدامه المقدسي: جمع فيه مؤلفه خلاصة معتقد أهل السنة والجماعة، وعمل الشيخ أحمد شاكر في الكتاب التصحيح والمراجعة، وطبع الكتاب في دار المعارف سنة 1954 م. 7 - التدمرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية: وكتاب (التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وحقيقة الجمع بين القدر والشرع) من الكتب الجليلة القدر في باب الأسماء والصفات، والتي أجاد شيخ الإسلام فيها تقرير عقيدة السلف، ومناقشة الفرق المخالفة في باب الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعًا. وقام الشيخ أحمد شاكر بتحقيق النص وتصحيحه بالاشتراك مع ¬

_ (¬1) بعد أن كتب شيخ الإِسلام العقيدة الواسطية، حصل حولها مناظرة بين الشيخ وعلماء عصره في مجلس نائب السلطنة الأفرم بدمشق سنة 705 هـ، وعقد للمناظرة ثلاثة مجالس كتب ما استحضره منها بنفسه. انظر: مجموع الفتاوى (3/ 160).

8 - الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية

أخيه الشيخ على محمد شاكر. وطبع الكتاب في دار المعارف سنة 1954 م. 8 - الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإِسلام ابن تيمية كتبها شيخ الإِسلام - رحمه الله - سنة 698 هـ، جوابًا لسؤال ورد عليه من حماة ... وقام الشيخ أحمد شاكر بتحقيق النص وتصحيحه بالاشتراك مع أخيه الشيخ على محمد شاكر. وطبع الكتاب في دار المعارف سنة 1954 م. 9 - عقيدة أهل السنة والجماعة للحافظ أبي الفرج بن الجوزي وعمل الشيخ أحمد شاكر فيها التصحيح والمراجعة، وطبعتها دار المعارف سنة 1954 م. 10 - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -: وهو شرح نفيس للعقيدة السلفية التي كتبها الإمام الطحاوي - رحمه الله - وأبحاثه دقيقة عميقة، وتحقيقاته بديعة متقنة، وقد طبع للمرة الأولى سنة 1349 هـ، بمكة المكرمة في المطبعة السلفية، وكان لها فرع هناك إذ ذاك. وعُني بتصحيحه والإشراف على طبعه، لجنة من المشايخ والعلماء، برياسة العلامة الكبير الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ رئيس القضاة في الحجاز (حالًا)، فبذلوا جهدًا عظيمًا في تصحيحه، ولكنه لم يخل من أغلاط كثيرة، وكل عمل في أوله عسير،

وهم مشكورون على ما أتقنوا من تصحيح، مأجورون - إن شاء الله - على ما اجتهدوا. وقد قرأت الكتاب عند ظهوره قراءة عابرة، فلم أتقن معرفته، ولم أتعمق في دراسته. ثم كان من فضل الله عليّ حين كنت بمدينة (الرياض) في شهر جمادى الأولى من هذا العام سنة 1373 هـ، أن كلفني الأستاذ المفتى الأكبر العالم العلامة الجليل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وشقيقه الفاضل الأستاذ الكبير الشيخ عبد اللطيف ابن إبراهيم - مدير المعهد العلمي بالرياض - أن أعيد طبع هذا الشرح النفيس في مصر، وأُعنى بتصحيحه ما استطعت. فما إن شرعت في قراءته، والتحقق منه، حتى وجدت بين يديّ كتابًا يندر أن يؤلف مثله في دقته وعمقه، وتحقيقه وبيانه، والتزامه مذهب السلف الصالح من غير حيدة عنه، ولا تأول ولا تمحل. ووجدتني حُملت عبئًا عظيمًا من تحقيقه، إذ لم أجد منه مخطوطة معتمدة، بل لم أجد المخطوط الأصلي الذي طبع عنه الطبعة السالفة. فاجتهدت في تصحيح كلام الشارح ما استطعت، وعدت إلى الأحاديث والآثار والنصوص التي ينقلها فيما أجد من أصولها عندي. ولعلي - بهذا - أكون قد أدّيت الأمانة في حدود مقدوري واستطاعتي. ولكني لا أزال أرى هذه الطبعة مؤقتة أيضًا، حتى يوفقنا الله إلى أصل مخطوط للشرح صحيح، يكون عمدة في التصحيح؛ فنعيد

11 - الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

طبعه، ونتقنه ونخرجه إخراجًا سليمًا، إن شاء الله ذلك ويسَّره، وكان في العمر بقية (¬1). ومما يلاحظ على طبعة الشيخ أحمد شاكر أنه كان يعتمد في التصويب على المراجع والمظانِّ التي بين يديه مما نقل عنه المصنف، لكنه لم يُشِر إلى تلك التصويبات في التعليقات، ولا المصادر التي نقل التصويب عنها مما أفقدها قيمتها العلمية (¬2). وطبع الكتاب في دار المعارف سنة 1373 هـ، ثم طبع في دار التراث بالقاهرة طبعة غير مؤرخة. 11 - الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر رسالة صغيرة، أصلها محاضرة سبق للشيخ أحمد شاكر أن ألقاها، ثم لما تقدم عبد العزيز فهمي إلى مجمع اللغة العربية باقتراحه: كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وأخذ يُسفّه معارضيه الذين تناولوه بأقلامهم من كل جانب. وزاد الأمر ضِغثًا على إبَّالةٍ (¬3) بتطاوله على التشريع الإسلامي الخالد، والسخرية منه. ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة الشيخ أحمد شاكر لشرح الطحاوية لابن أبي العز (ص 5 - 7) بتصرف يسير. (¬2) انظر: تقدمة الشيخين عبد الله التركي وشعيب الأرنؤوط لشرح الطحاوية لابن أبي العز (1/ 107). (¬3) معنى المثل: بليَّة على أخرى. والإبّالة: الحزمة من الحطب، والضغث: قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس. انظر: مجمع الأمثال للميداني (1/ 419)، وجمهرة الأمثال للعسكري (2/ 6).

خامسا: ما يتعلق بالأدب واللغة

كل ذلك حرّك في نفس أحمد شاكر صدى دعوة سابقة؛ فجدد العزم على نشر محاضرته القديمة في كتاب مقروء. صدرت الطبعة الأولى عن دار المعارف سنة 1363 هـ - 1945 م، وطبع في دار الكتب السلفية مرتين؛ الأولى سنة 1406 هـ، والثانية سنة 1407 هـ. خامسًا: ما يتعلق بالأدب واللغة: 1 - الشعر والشعراء لابن قتيبة: قال أحمد شاكر - رحمه الله -: "هذا الكتاب من مصادر الأدب الأولى، ومما أبقى لنا حدثان الدهر من آثار أئمتنا الأقدمين. ألّفه إمام ثقة حجة من أوعية العلم، ترجم فيه للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جُلُّ أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب، وفي النحو، وفي كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم له مؤلفه بمقدمة تنطوي على أبواب في: أقسام الشعر وعيوب الشعر، والإقواء (¬1)، والإكفاء (¬2)، والعيب ¬

_ (¬1) عيب من عيوب القافية، وهو اختلاف المَجْرَى (حركة الرويّ) بالضم والكسر. انظر: معجم علوم اللغة العربية للدكتور محمد الأشقر (ص 69). (¬2) عيب من عيوب القافية، وهو اختلاف رويّ القصيدة بحروف متقاربة المخارج، كاللام والنون في قول الشاعر يصف الإبل: بَناتُ وُطَّاءٍ على خدِّ الليلْ لا تُشْكِينَّ عَمَلًا ما أنْقَيَنْ انظر: معجم علوم اللغة العربية للدكتور محمد الأشقر (ص 69).

في الإعراب، وأوائل الشعراء. وأول ميزة يراها القارئ المتأمل للكتاب أن اختيار المؤلف لبعض شعر الشاعر اختيار عالم بالشعر عارف به فقيه فيه؛ فهو يختار فيحسن الاختيار، وينقد فيحسن النقد ويجيد، ويوازن بين الشعراء فيقيم الوزن بالقسط لا يحيد ولا يميل" (¬1). وبعد نفاذ طبعات الكتاب السابقة، استشرف الناس إلى من يقوم بنشر الكتاب من جديد؛ فنهض الشيخ أحمد شاكر بهذه المهمة الشاقة، وأخذ على نفسه أن يُخرج الكتاب إخراجًا صحيحًا متقنًا. وبعد صدور الكتاب انتقد العلامة السيد أحمد صقر صنيع الشيخ أحمد شاكر في نشر الكتاب، حيث إنه اعتمد في التحقيق على طبعة ليدن اعتمادًا كليًّا، ولم يثبت اختلاف الروايات إلا قليلًا، مع أن طبعة ليدن أثبتت كل خلاف بين النسخ مهما كان شأنه. إضافةً إلى أنه أغفل الرجوع إلى النسخ المخطوطة للكتاب، واعتمد على نسخة ليدن فقط، مع وجود ثلاث نسخ مخطوطة في دار الكتب المصرية، ونسخة في مكتبة الأزهر (¬2). وهذا النقد لا يُنقص من قيمة التحقيق العلمية، وتعليقات الشيخ أحمد شاكر على الكتاب تدل على سعة علمه، ودقة نظره. ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لكتاب الشعر والشعراء (1/ 37). (¬2) انظر: نقد الأستاذ السيد أحمد صقر في مقدمة كتاب الشعر والشعراء (1/ 8).

2 - إصلاح المنطق لابن السكيت

قال الدكتور علي جواد الطاهر عن جهد الشيخ في الكتاب: "وهو تحقيق لا يمكن إغفاله، إنه من أجود التحقيقات، إن لم يكن أجودها" (¬1). وصدرت الطبعة الأولى بين سنتي 1364 - 1369 هـ عن دار إحياء الكتب العربية. والثانية عن دار المعارف بين 1958 - 1967 م. والثالثة عن دار الحديث بالقاهرة سنة 1417 هـ - 1996 م. 2 - إصلاح المنطق لابن السكيت (¬2): " هذا الكتاب أراد به ابن السكيت أن يعالج داءً كان قد استشرى في لغة العرب والمستعربة، وهو داء اللحن والخطأ في الكلام. فعمد إلى أن يؤلف كتابه ويضمنه أبوابًا يمكن بها ضبط جمهرة من اللغة، وذلك بذكر الألفاظ المتفقة في الوزن الواحد مع اختلاف المعنى، أو المختلفة فيه مع اتفاق المعنى، وما فيه لغتان أو أكثر، وما يعل ويصحح، وما يهمز وما لا يهمز، وما يشدد، وما تغلط فيه العامة" (¬3). وقد أخرج الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - هذا الكتاب بمشاركة العلّامة عبد السلام هارون، وحققاه تحقيقًا علميًّا متقنًا، ¬

_ (¬1) فوات المؤلفين للدكتور علي جواد الطاهر (ص 12). (¬2) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت، من أعلم الناس باللغة والشعر، توفي سنة 244 هـ. انظر: طبقات النحويين واللغويين للزُّبيدي (ص 202). (¬3) تقدمة العلامة عبد السلام هارون للكتاب (ص 12).

3 - كتاب المفضليات للمفضل الضبي

واعتمدا على أربع نسخ مخطوطة في تحقيق الكتاب وصنعا له فهارس علمية متنوعة. وقد طبع الكتاب في دار المعارف عدة مرات، الأولى سنة 1949 م، والثانية سنة 1956 م، والثالثة سنة 1970 م، والرابعة سنة 1987 م. 3 - كتاب المفضليات للمفضل الضبي: وهو كتاب يحتوي على قصائد مختارة من الشعر القديم، وقد حققه الشيخ أحمد شاكر بالاشتراك مع الشيخ عبد السلام هارون، وتحدثا عن منهجهما في الكتاب فقالا: "وقد حاولنا أن نعرض هذا الشعر على القارئ أجمل عرض وأوضحه وأوجزه، فلا نعرض لاختلاف الرواة في الرواية، إلا أن نضطر إلى ذلك اضطرارًا، وإنما نعرف الشاعر إلى القارئ تعريفًا موجزًا كافيًا، ثم نذكر جو القصيدة وما قيلت فيه من أغراض ومعان وتاريخ، ثم نخرجها فنذكر ما وصل إليه علمنا من مواضع وجودها، أو وجود أبيات منها في كتب الأصول المعتمدة. وقد رأينا أن كثيرًا من هذا الشعر أو أكثره مستشهد به في لسان العرب وفي معجم البلدان، فوجدنا أن لو نصصنا على موضع كل بيت منه فيهما طال الأمر جدًا، فتركنا النص على ذلك؛ لأن سهلًا على القارئ أن يجد ما يريد في هذين الكتابين المرتبين على الحروف، ثم نفسر كل بيت بشرح ما فيه من الغريب شرحًا بيّنًا لا إخلال فيه ولا إطناب، وإن كان في معنى البيت خفاء

4 - الأصمعيات للأصمعي

لا يكفي في بيانه شرح الغريب، فسرنا معناه تفسيرًا وسطًا، لا يتجاوز ما يجب لإيضاحه، مراعين في ذلك حال القارئ المتوسط؛ ليصل إلى معنى البيت من غير عناء ولا عنت، مع الحرص على أداء المعنى بأوجز قول وأدقه مطابقة للمراد" (¬1). وصنع المحققان للكتاب فهارس علمية دقيقة: الأول: فهرس الشعراء. الثاني: فهرس القوافي. الثالث: فهرس اللغة. الرابع: فهرس الحروف التي لم تذكر في المعاجم. الخامس: الفهرس الفني؛ ويشمل على أربعة أنواع: الأوصاف والتشبيهات والفخر والمعاني العامة. السادس: فهرس الأعلام. السابع: فهرس القبائل والطوائف. الثامن: فهرس البلدان والمواضع. وقد طبع الكتاب في دار المعارف عدة مرات؛ منها: الطبعة الأولى سنة 1942 م، والثانية سنة 1951 م، وطبعات أخرى في أوقات متفاوتة، ثم الطبعة السادسة سنة 1979 م. 4 - الأصمعيات للأصمعي: وهو كتاب يشمل على اثنين وتسعين قصيدة، وحققه الشيخ أحمد ¬

_ (¬1) مقدمة الكتاب (ص 6).

5 - لباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ

شاكر بالاشتراك مع الشيخ عبد السلام هارون، وما قيل في المفضليات يقال في الأصمعيات من حيث المنهج والفهارس الدقيقة للكتاب. وقد طبع الكتاب في دار المعارف عدة مرات، منها: الطبعة الأولى في سنة 1375 هـ - 1955 م، والثانية في سنة 1383 هـ - 1963 م، والثالثة في سنة 1387 هـ - 1967 م. 5 - لباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ: قال أحمد شاكر في وصف الكتاب: "هذا الكتاب من أجود كتب الأدب وأحسنها، وسيرى قارئه أنه ينتقل فيه من روض إلى روض، ويجتني أزاهير الحكمة، وروائع الأدب، ويقتبس مكارم الأخلاق. وفيه ميزة أخرى جليلة: أن فيه أقوالًا من نثر ونظم لم نجدها في كتاب غيره من الكتب المطبوعة" (¬1). وحقق الشيخ أحمد شاكر الكتاب على ثلاث نسخ مخطوطة؛ أهمها النسخة الأصلية التي كتبت للمؤلف سنة 579 هـ، وقد وهبها لابنه، وكتب ابنه عليها بيده يقول إن أباه وهبه إياها. فهي من أقدم كتب الخط العربية المحفوظة إلى الآن (¬2). ثم عُني الشيخ أحمد شاكر بوضع فهارس خمسة للكتاب: ¬

_ (¬1) تقدمة أحمد شاكر لكتاب لباب الآداب (ص 6). (¬2) انظر: تقدمة الدكتور يعقوب صروف لكتاب لباب الآداب (ص 7).

6 - المعرب للجواليقي

أولًا: أبواب الكتاب. ثانيًا: الأعلام. ثالثًا: الأماكن. رابعًا: أيام العرب. خامسًا: قوافي الشعر. وصدرت الطبعة الأولى عن مكتبة سركيس سنة 1354 هـ - 1935 م، والطبعة الثانية عن مكتبة السنّة، والطبعة الثالثة عن دار الكتب السلفية سنة 1407 هـ - 1987 م، والطبعة الرابعة عن دار الجيل ببيروت سنة 1411 هـ - 1991 م. 6 - المعرّب للجواليقي: هذا الكتاب أجمع الكتب التي ضبطت الألفاظ المعربة. جمع فيه مؤلفه ما عُرِّب من الألفاظ الأعجمية إلى عصره، وحرص على أن يبين اللغات التي أخذت منها الألفاظ، وأصول الألفاظ في هذه اللغات ما وسعه علمه، كما اجتهد أن يسند الأقوال إلى أصحابها من أئمة اللغة. ولم يأل جهدًا في الاستشهاد بالآيات والأحاديث والشعر، ورتب ما جمع على حروف المعجم، تيسيرًا للمستفيد (¬1). واعتمد الشيخ أحمد شاكر في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ مخطوطة، ونسخة رابعة مطبوعة سنة 1867 م. فَخَرَجَ متن الكتاب غاية في الصحة والإتقان، وتجلَّت شخصية أحمد شاكر الأدبية واللغوية من خلال تعليقاته النفيسة، ومعارضته للجواليقي ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة الأستاذ عبد الوهاب عزام للمعرب (ص 3).

7 - الكامل في اللغة والأدب للمبرد

والاستدراك عليه في بعض الأحايين. قال الأستاذ عبد الوهاب عزام - رحمه الله -: "وكل صفحة في الكتاب ناطقة بما حمل الأستاذ به نفسه من دأب على البحث، وعناء في المراجعة، شاهدة بأن دقته في الضبط والمراجعة يسرت الكتاب لقارئه، وهيأت له فوائد عظيمة، وقربت له مطالب بعيدة" (¬1). وساهم العلّامة الثبت عبد السلام هارون مع أحمد شاكر في تحقيق كثير من مشكلات الكتاب، كما شارك الأستاذ عبد الوهاب عزام في كتابة مقدمة ضافية بين يدي الكتاب. وأخيرًا ختم أحمد شاكر الكتاب بفهارس مفصلة دقيقة. وطبع الكتاب بدار الكتب المصرية ثلاث مرات: الأولى سنة 1361 هـ - 1942 م، والثانية سنة 1389 هـ - 1969 م، والثالثة 1416 هـ - 1995 م. 7 - الكامل في اللغة والأدب للمبرد: قال أبو العباس المبرد: "هذا كتاب ألَّفناه يجمع ضروبًا من الآداب، ما بين كلام منثور، وشعرٍ مرصوف، ومثل سائرٍ، وموعظة بالغة، واختيار من خُطبة شريفة، ورسالة بليغة"، وتفسير للغريب، وشرح للإعراب (¬2). ¬

_ (¬1) تقدمة الأستاذ عبد الوهاب عزام للمعرب (ص 3). (¬2) مقدمة الكامل (1/ 3)

وقد حقق الجزء الأول وملزمتين من الجزء الثاني الدكتور زكي مبارك، ثم عَهِد إلى الشيخ أحمد شاكر بإتمام تحقيق الكتاب، فاضطلع أحمد شاكر بذلك، واعتمد في التحقيق والتصحيح على النسخة المطبوعة في أوربة سنة 1864 م، وهي مطبوعة جيدة جدًّا، عمدة في تحقيق الكتاب، واعتمد أيضًا على شرح الكامل المسمى (رغبة الآمل) للعلّامة الكبير سيد بن علي المرصفي - رحمه الله - وعلى ما يُسَّرَ له من كتب اللغة والأدب والتفسير والحديث وغيرها (¬1). ثم ختم الكتاب بفهارس دقيقة متنوعة تهدي الباحثين. وثمة فرق آخر بين تحقيق زكي مبارك وأحمد شاكر، حيث اقتصر الأول في تحقيقه للكتاب على شرح الغريب من الألفاظ، وأغفل الفروق بين النسخ فلم يثبتها، وكانت دعواه عريضة في تصحيح بعض أغلاط المرصفي! أما تحقيق أحمد شاكر فقد تجلّى فيه روح النقد القائم على أصول علميّة؛ فنبه على أغلاط العلّامة المرصفي في مواضع متعددة، وتسامى فنقد المُبَرَّد في بعض حواشيه على الكامل، وضبط بعض الأعلام بالشكل وترجم لبعضهم، وأشار إلى فروقات النسخ، وأوجه القراءات، وحكم على بعض الآثار والأحاديث، ونقل عن معاجم اللغة في شرح الغريب. ¬

_ (¬1) انظر: تقدمة شاكر للجزء الثاني من الكامل، صحيفة (ب، ج).

سادسا: ما يتعلق بالسير والتراجم

وصدر الكتاب في طبعته الأولى عن مكتبة مصطفى البابي الحلبي سنة 1358 هـ - 1939 م. سادسًا: ما يتعلق بالسير والتراجم: 1 - جوامع السيرة لابن حزم: هذا الكتاب مختصر في سيرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - قريب المأخذ، سهل المتناوَل، قام بتحقيقه الدكتور إحسان عباس والدكتور ناصر الدين الأسد. قال المحققان: "وبعد أن تمّ لهذا العمل كله ما تم، من الأسباب التي تقدم وصفها، تقدمنا به إلى الأستاذ العلّامة، محدث العصر، الشيخ أحمد محمد شاكر، فتفضل مشكورًا بمراجعته، وأضاف إلى التعليقات ما رآه لازمًا، واستدرك ما فاتنا مما يجب التنبيه عليه" (¬1). وطبع الكتاب في دار المعارف سنة 1956 م. 2 - ترجمة الإمام أحمد من تاريخ الإسلام للذهبي: حين عزم الشيخ أحمد شاكر على طباعة المسند للإمام أحمد بن حنبل، رأى أن يتخير ترجمة للإمام أحمد من نفائس آثار علمائنا الأقدمين، مما لم يسبق طبعه، فوقع اختياره على ترجمة الإمام أحمد من كتاب (تاريخ الإِسلام) للحافظ الذهبي، وأثبتها في أوائل الجزء الأول من المسند بعد تحقيقها وتصحيحها، ثم أفردها في جزء خاص. ¬

_ (¬1) مقدمة المحققين للكتاب (ص 25).

3 - ترجمته لوالده الشيخ محمد شاكر

صدرت الطبعة الأولى عن دار المعارف سنة 1946 م، ثم طبع في سنة 1949 م، وطبع - أيضًا - في سنة 1989 م. 3 - ترجمته لوالده الشيخ محمد شاكر كتبها الشيخ أحمد شاكر ابتداءً في مجلة المقتطف، عدد أغسطس 1939 م، ثم طبعها في جزء مستقل في دار المعارف سنة 1953 م. سابعًا: ما يتعلق بالأنساب: 1 - جمهرة أنساب العرب لابن حزم: بتحقيق الدكتور ليفي بروفنسال، وقام الشيخ أحمد شاكر بتصحيح النص، وتحقيق كثير من الأعلام، والأنساب، وكتابة بعض التعليقات المفيدة، وقد صدرت الطبعة الأولى عن دار المعارف سنة 1948 م. 2 - نسب قريش للمصعب الزبيري: بتحقيق ليفي بروفنسال، وقام الشيخ أحمد شاكر بتصحيح النص، وتحقيق كثير من الأعلام، والأنساب، وكتابة بعض التعليقات المفيدة. وطبعته دار المعارف سنة 1953 م. ثامنًا: ما يتعلق بالردود العلميّة والمقالات الصحفية: 1 - الشرع واللغة: رسالة رد فيها الشيخ أحمد شاكر على عبد العزيز فهمي باشا في اقتراحه الميت السخيف: كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وفي عدوانه على التشريع الإسلامي الخالد والسخرية منه.

2 - بيني وبين الشيخ حامد الفقي

وصدرت الطبعة الأولى عن دار المعارف سنة 1363 هـ - 1945 م، والطبعة الثانية بالقاهرة سنة 1986 م، والطبعة الثالثة عن عالم الكتب ببيروت سنة 1987 م، وبضميمتها رسالة الشيخ - رحمه الله -: الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر. 2 - بيني وبين الشيخ حامد الفقي: وهي رسالة شرح فيها الشيخ أحمد شاكر أسباب الخلاف بينه وبين حامد الفقي، ابتداءً بتعليقات الفقي (¬1) على بعض الكتب التي تولى تحقيقها وشاركه فيها الشيخ أحمد شاكر، مما كان سببًا في أن ينفض شاكر يده عن إتمام العمل معه. وانتهاءً بما كتبه الفقي تعليقًا على رسالة من رسائل شيخ الإِسلام ابن تيمية منشورة في مجلة الهدي النبوي في عدد (شهري رجب وشعبان سنة 1374 هـ) فَهِمَ منها الشيخ أحمد شاكر تكذيبًا لشيخ الإسلام، يكاد يكون صريحًا في ذلك، فكتب أحمد شاكر مقالًا في تبرئة شيخ الإِسلام، وأرسله بالبريد، وأحفظ أحمد شاكر كثيرًا أن مقاله طُوي فلم ينشر في المجلة. إلى آخر ما جرى بينهما. وطبعت هذه الرسالة في دار المعارف سنة 1374 هـ - 1955 م. 3 - تعليقات في أبحاث دقيقة على دائرة المعارف الإسلامية: هذه الدائرة موسوعة علمية كتبها لفيف من المستشرقين، رُتبت ¬

_ (¬1) ومن النقد الذي وُجِّه للفقي تعليقاته على مدارج السالكين لابن القيم. انظر: أضواء المسارج لبيان جور التعليقات على المدارج، للشيخ عبد الكريم الحميد.

4 - مقالات أحمد شاكر في الصحف والمجلات

موادها على حروف المعجم، واشتملت على ألوان متفرقة من العلوم. وكان للمستشرقين فيها مغالطات ظاهرة، وشُبه وسموم نثروها في تضاعيف هذه الدائرة، وقد شارك الشيخ أحمد شاكر في التعقيب والمناقشة ودفع الشبه ما أمكن. وقد نقلت أهم تعليقات الشيخ أحمد شاكر على شبهات المستشرقين في آخر الكتاب. 4 - مقالات أحمد شاكر في الصحف والمجلات: كان للشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - مشاركات، جادّة في الصحف والمجلات منذ سنة 1911 م، إلى قبيل وفاته، وأبرز هذه المشاركات كانت في مجلة الهدي النبوي التي تصدرها جماعة أنصار السنة المحمدية. وطبعت بعض هذه المقالات بعد وفاة الشيخ في كتابٍ بعنوان (كلمة حق). ومن الصحف التي كتب فيها الشيخ أحمد شاكر: صحيفة المؤيد، والأهرام، والمقطم، والبلاغ اليومي، والوفد المصري. ومن المجلات: المقتطف، والرسالة، والثقافة، والكتاب، والزهراء، والفتح، والمنار. وجمعت نُتف من هذه المقالات، وشذْر من تعليقات الشيخ على بعض الكتب - بعد وفاته - في كتاب موسوم بـ (حكم الجاهلية).

جَمْهَرةُ مَقَالَاتِ العَلَّامَةِ الشَّيْخ أَحْمَدْ مُحَمَّد شَاكِرْ "1309 - 1377 هـ = 1892 - 1958 م" مَعَ أَهمِ تَعَقّبَاتِ الشّيخ عَلَى دَائِرةِ المَعَارِفِ الإِسْلَاميَّة

تحقيق التراث

تحقيق التراث 1 - النسخة اليونينية من صحيح البخاري. 2 - تصحيح الكتب. 3 - سير أعلام النبلاء (ترجمة عائشة أم المؤمنين). 4 - مقدمة الرسالة للإمام الشافعي. 5 - التحقيق لابن الجوزي.

النسخة اليونينية من صحيح البخاري

النسخة اليونينية من صحيح البخاري (*) منذ بضع عشرة سنة فكرتُ في طبع "صحيح البخاري" بطلب أحد الناشرين إذْ ذاك، ثم لم يقدَّر أن يتحقق ما أردنا. وكانت الفكرة مبنية على إخراج الكتاب إخراجًا صحيحًا متقنًا موثقًا عن أصح نسخة وأجلها، وهي الطبعة السلطانية، التي أمر بطبعها "أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد رحمه الله"، وطبعتْ بمصر في المطبعة الأميرية، في سني 1311 - 1313 هـ، ثم الطبعة التالية لها، التي طبعت على مثالها في المطبعة الأميرية سنة 1314 هـ. والطبعة السلطانية مطبوعة عن النسخة "اليُونينية"، وهي أعظم أصل يوثق به في نسخ "صحيح البخاري". والنسخة "اليونينية" هي التي جعلها العلامة القسطلاني (المتوفى سنة 923 هـ) عمدته في تحقيق متن الكتاب وضبطه حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة. وهذه هي أكبر ميزة لشرح القسطلاني المسمى "إرشاد الساري"، وهو شرح معروف مشهور عند أهل العلم. فكتبت حينذاك مقدمة أعددتها لتقديمها بين يدي الكتاب عند ¬

_ (*) مجلة الكتاب، المجلد الحادي عشر، السنة السابعة، الجزء الثامن، المحرم 1372 - أكتوبر 1952.

التقي اليونيني الكبير وأولاده

طبعه؛ تعريفًا بالنسخة "اليونينية"، وبما فيها من مزايا يحرص عليها طالب العلم المتوثق المتثبت، وتعريفًا بالحافظ "اليونيني" الذي اشتهرت النسخة بنسبتها إليه. وهذه هي: اليونيني: نسبة إلى قرية من قرى بَعْلَبَكَّ، اسمها "يُونين" بضم الياء وكسر النون الأولى. وسمّاها ياقوت في معجم البلدان والفيروزابادي في القاموس "يونان" بفتح النون الأولى، وقال الزَّبيدي في تاج العروس: "ويقال فيها يونين أيضًا، وهو المعروف". وفي هذه القرية نشأت أسرةُ الحافظ، قال الزبيدي: "وهم بيت علم وحديث". التقي اليونيني الكبير وأولاده: ورأسُ هذه الأسرة وأولها: الشيخُ الفقيه الحافظ، الإمام القدوة، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو عبد الله "محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن علي اليونيني البعلبكي الحنبلي" ولد سنة 572 بيونين، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: "ذكره الحافظ عمر ابن الحاجب، فأطنب في مدحه وصفته، فقال: اشتغل بالفقه والحديث إلى أن صار إمامًا حافظًا". إلى أن قال: "لم يُرَ في زمانه مثل نفسه، في كماله وبراعته، جمع بين علمي الشريعة والحقيقة، وكان حسن الخَلْق والخُلُق، نفَّاعًا للخَلْق، مطَّرِحًا للتكلف". ثم قال الذهبي: "وكان الأشرف يحترمه، وكذلك أخوه، وقدم في آخر عمره دمشق، فخرج الملك الناصر يوسف إلى زيارته بزاوية القزويني،

وتأدب معه، قلت: كان الشيخ الفقيه كبير القدر، ويذكر بالكرامات والأحوال". وقال ابن العماد في الشذرات: "نال من الحرمة والتقدم ما لم ينله أحد، وكانت الملوك تُقَبّل يده وتُقدَّم مداسَهُ، وكان إمامًا علامة زاهدًا خاشعًا لله، قانتًا له، عظيم الهيبة، منوَّر الشيبة، مليحَ الصورة، حسن السَّمت والوقار، صاحب كرامات وأحوال". توفي ببعلبك ليلة 19 رمضان سنة 658، وله ترجمة حسنة في تذكرة الحفاط للذهبي (4: 223 - 224)، وشذرات الذهب لابن العماد (5: 294)، وقد ذكر الزبيدي في شرح القاموس؛ أن هذا الحافظ اليونيني الكبير رزق أربعة أولاد، كانوا من المحدَّثين، وهم: شرفُ الدين عليٌّ، وقطب الدين موسى، وبدر الدين حسن، وأمَةُ الرحيم، أما البدرُ حسن وأمة الرحيم فإني لم أجد ترجمة لهما، وأما قطب الدين موسى فإنه مؤرخ معروف، اختصر المرآة في نحو النصف، وذَيَّل عليها ذيلا في أربع مجلدات، ولد سنة 640، وقال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: "كان عارفًا بالشروط كبير الصورة، عظيم الجلالة والمروءة والكرم، صار شيخ بعلبك بعد أخيه أبي الحسين علىّ، ثم شاخ وعُمِّر، ومات في شوال سنة 726". انظر الدرر الكامنة (4: 382) وشذرات الذهب (6: 73 - 74). وأما الشرفُ عليّ فإنه هو الذي نحن بصدد الترجمة له، وهو الذي عُني بتصحيح البخاري.

الحافظ شرف الدين اليونيني

الحافظ شرف الدين اليونيني: هو شرف الدين أبو الحُسَين (¬1) علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله اليونيني البعلبكي الحنبلي "الإمام العالم المحدث الحافظ الشهيد" كما وصفه الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ. ولد ببعلبك في 11 رجب سنة 621، سمع من الزبيدي والإربلي والزكي المنذري والرشيد العطار وابن عبد السلام وغيرهم. قال ابن العماد في الشذرات: "وقال البرزالي: وكان شيخًا جليلًا، حسن الوجه بهيّ المنظر، له سمت حسن، وعليه سكينة، ولديه فضل كثير، فصيح العبارة، حسن الكلام، له قبول من الناس، وهو كثير التودّد إليهم، قاض للحقوق. قال ابن رجب: سمع منه خلق من الحفاظ والأئمة، وأكثر عنه البرزالي، والذهبي". وذكر الذهبي في التذكرة؛ أنه انتفع به وتخرج، ثم قال: "ولزمته نيفًا وسبعين يومًا، وأكثرت عنه، وكان عارفًا بقوانين الرواية حسن الدراية، جيّد المشاركة في الألفاظ والرجال، وكان صاحب رحلة وأصول وأجزاء وكتب ومحاسن". وقال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: "عُني بالحديث وضبطه، وقرأ البخاريَّ على ابن مالك تصحيحًا، وسمع منه ابنُ مالك روايةً، وأملى عليه فوائد مشهورة (¬2)، وكان عارفًا بكثير من اللغة، حافظًا ¬

_ (¬1) القسطلاني يذكره بكنية "أبي الحسن" وتبعه على ذلك كثيرون، وهو خطأ، صوابه "أبو الحسين". (¬2) هي كتاب "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح، وسيأتي ذكره إن شاء الله".

النسخة اليونينية

لكثير من المتون، عارفًا بالأسانيد، وكان شيخ بلاده، والرحلة إليه، ودخل دمشق مرارًا، وحدَّث بها، وكان وقورًا مهابًا، كثير الودّ لأصحابه، فصيحًا مقبول القول والصورة، قال الذهبي: حصَّل الكتب النفسية، وما كان في وقته أحدٌ مثله، وكان حسن اللقاء، خيّرًا ديّنًا متواضعًا، منوَّر الوجه، كثير الهيبة، جَمَّ الفضائل، انتفعتُ بصحبته، وقد حدَّث بالصحيح (¬1) مرات". قال ابن العماد في الشذرات: "وكان موته شهادة؛ فإنه دخل إليه يوم الجمعة خامس رمضان، وهو في خزانة الكتب بمسجد الحنابلة (¬2)، شخص (¬3) فضربه بعصا على رأسه مراتٍ، وجرحه في رأسه بسكين، فاتّقى بيده فجرحه فيها، فأمسِك الضاربُ، وضُرب وحُبس، فأظهر الاختلال، وحُمل الشيخُ إلى داره، فأقبل على أصحابه يحدثّهم وينشدهم على عادته، وأتم صيامَ يومه، ثمَّ حصل له بعد ذلك حمّى واشتد مرضه، حتى توفي". وكانت وفاته ليلة الخميس 11 رمضان 701. وانظر تذكرة الحفاظ (4: 282) والدرر الكامنة (3: 98) وشذرات الذهب (6: 3 - 4). النسخةُ اليُونينيَّةُ: كان الحافظُ أبو الحسين شرف الدين اليونيني كثير العناية بصحيح ¬

_ (¬1) يعني صحيح البخاري. (¬2) في الدرر الكامنة أنه كان بخزانة كتبه. (¬3) في الدرر الكامنة "فقير يقال له موسى".

البخاري، طويل الممارسة له، مهتمًّا بضبطه وتصحيحه ومقابلته على الأصول الصحيحة التي رواها الحافظ، "حتى إن الحافظ شمس الدين الذهبيّ حَكَى عنه أنه قابله في سنة واحدة إحدى عشرةَ مرة". وقد عقد الحافظ اليونيني مجالس بدمشقَ؛ لإسماع "صحيح البخاري" بحضرة ابن مالك، وبحضرة "جماعة من الفضلاء"، وجمع منه أصولًا معتمدة، وقرأ اليونينيُّ عليهم صحيح البخاري في واحد وسبعين مجلسًا، مع المقابلة والتصحيح، فكان اليونيني في هذه المجالس شيخًا قارئًا مُسْمِعًا، وكان ابنُ مالك - وهو أكبر منه بأكثر من 20 سنة - تلميذًا سامعًا راويًا، هذا من جهة الرواية والسماع، على عادة العلماء السابقين الصالحين، في التلقي عن الشيوخ الثقات الأثبات، وإن كان السامعُ أكبرَ من الشيخ. وكان اليونيني، في هذه المجالس نفسها، تلميذًا مستفيدًا من ابن مالك، فيما يتعلق بضبط ألفاظ الكتاب، من جهة العربية والتوجيه والتصحيح. وقد أرَّخ القسطلانيُّ (¬1) في شرحه السنةَ التي عُقدت فيها مجالس السماع بحضرة اليونيني وابن مالك بأنها سنة 676 وكتبها بالحروف لا بالأرقام "ست وسبعين وستمائة" وهذا خطأ قطعًا؛ لأن ابن مالك مات سنة 672، وكنت ظننت أولًا أن هذا خطأ مطبعي، ثم رجعت إلى النسخ المخطوطة من شرح القسطلاني بدار الكتب المصرية، ¬

_ (¬1) نقل ذلك القسطلاني في شرحه (1: 34).

فوجدت هذا التاريخ فيها كما في النسخة المطبوعة، فأيقنت أنه خطأ من المؤلف، اشتبه عليه الأمر حين الكتابة، ولعل صوابه سنة 666 أو سنة 667، فتكون مكتوبة فيما نقل عنه "ست وستين" فقرأها "ست وسبعين" ونقلها كذلك، أو تكون مكتوبة أمامه بالرقم هكذا 667، فحين أراد أن ينقل انتقل نظره فقرأ رقم السبعة متوسطًا بين الرقمين الآخرين المتماثلين. والله أعلم بصحة ذلك؛ فإني قد بذلت جهدي في تعرف التاريخ الصحيح لذلك، فلم أجده منصوصًا عليه في شيء من المراجع التي وصلتُ إليها. و"جماعة الفضلاء" الذين كانوا حاضري هذه المجالس؛ للسماع والتصحيح والمقابلة، لم أجد أيضًا أسماءهم في شيء مما بين يديّ من المصادر، ولا أدري أكتبت أسماؤهم في ثبت السماع على النسخة اليونينية أم لم تكتب؟ وأما الأصول المعتمدة التي قابل عليها الحافظ اليونيني ومن معه، فقد بينها هو في ثبت السماع، الذي نقله القسطلاني في شرحه، ونقله عنه مصححو الطبعة السلطانية. وهذا مثال ما كتبه العلامة ابن مالك بخطه بحاشية ظاهر الورقة الأولى من المجلد الأخير، وهو النصف الثاني من النسخة اليونينية، فيما رآه القسطلاني فيها ونقله عنها. "سمعت ما تضمنه هذا المجلدُ من صحيح البخاري - رضي الله عنه - بقراءة سيدنا" "الشيخ الإمام العالم الحافظ المتقن شرف الدين

أبي الحسين عليّ بن محمد بن" "أحمد اليونينيّ - رضي الله عنه - وعن سلفه، وكان السماع بحضرة جماعة من الفضلاء" "ناظرين في نسخ معتمد عليها، فكلَّما مر بهم لفظ ذو إشكال بَيَّنتُ فيه الصواب" "وضبطته على ما اقتضاه علمي بالعربية، وما افتقر إلى بسط عبارة وإقامة دلالة" "أخَّرت أمره إلى جزء أستوفي فيه الكلام مما يحتاج إليه من نظير وشاهد؛ ليكون" "الانتفاع به عامًّا، والبيان تامًّا، إن شاء الله تعالى. وكتبه محمد بن عبد الله" "ابن مالك، حامدًا لله تعالى". وهذا مثال ما كتبه الحافظ اليونيني في آخر الجزء السابق ذكره، مما نقله القسطلاني أيضًا: "بلغْتُ مقابلة وتصحيحًا وإسماعًا بين يديْ شيخنا شيخ الإسلام، حجة" "العرب، مالك أزمة الأدب، الإمام العلامة أبي عبد الله بن مالك الطائي الجيّانيّ" "أمدَّ الله تعالى عمرَه، في المجلس الحادي والسبعين، وهو يُراعي قراءتي، ويلاحظُ" "نطقي، فما اختاره ورجَّحه وأمر بإصلاحه أصلحته وصححتُ عليه، وما ذكر أنه" "يجوز فيه الإعرابان أو ثلاثة فأعملت ذلك على ما أمر ورَجّح، وأنا أقابل بأصل" "الحافظ أبي ذر، والحافظ أبي محمد الأصيلي، والحافظ أبي القاسم الدمشقي" "ما خلا الجزء الثالث عشر والثالث والثلاثين فإنهما معدومان، وبأصل مسموع" "على الشيخ أبي الوقت بقراءة الحافظ أبي منصور السّمعاني وغيره من الحفاظ" "وهو وقف بخانكاه السميساطي، وعلاماتُ ما وافقت أبا ذرّ (هـ) والأصيلي (ص) "

"والدمشقي (ش) وأبا الوقت (ظ) فيعلم ذلك، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب في فرخة لتُعلَم الرموز، كتبه علي بن محمد الهاشمي اليونيني عفا الله عنه". وقد نقل العلماء بعد ذلك عن نسخة اليونيني نسخًا كثيرة قابلوها بها، وصححوها عليها، وأسْمَوْها فروعًا؛ إذ اعتبروا نسخة اليونيني أصلًا، وقد كانت أصلًا وحجة، قال القسطلاني: "ولقد وقفتُ على فروع مقابلة على هذا الأصل الأصيل، فرأيت من أجلّها الفرع الجليل، الذي لعله فاق أصله، وهو الفرع المنسوب للإمام المحدِّث شمس الدين محمد بن أحمد المِزَّيَّ الغزولي، وقف التنكزية بباب المحروق خارج القاهرة، المقابل على فرعي وقف مدرسة الحاجّ مالك، وأصل اليونينيّ المذكور غير مرة، بحيث إنه لم يغادر منه شيئًا كما قيل، فلهذا اعتمدتُ في كتابة متن البخاري - في شرحي هذا - عليه، ورجعت في شكل جميع الحديث وضبطه - إسنادًا ومتنًا - إليه، ذاكرًا جميع ما فيه من الروايات، وما في حواشيه من الفوائد المهمات. ثم وقفت في يوم الإثنين 13 جمادى الأولى سنة 916 بعد ختمي لهذا الشرح على المجلد الأخير من أصل اليونينى المذكور". ثم قال: "وقد قابلت متن شرحي هذا إسنادًا وحديثًا على هذا الجزء المذكور من أوله إلى آخره، حرفًا حرفًا، وحكيته كما رأيته، حسب طاقتي، وانتهت مقابلتي له في العشر الأخير من المحرم سنة 917 نفع الله تعالى به، ثمَّ قابلته عليه مرة أخرى". ثمَّ قال: "ثمَّ وُجد الجزء الأوّل من أصل اليونيني المذكور يُنادى عليه للبيع بسوق الكتب، فعرف

وأحضر إليّ بعد فقده أزيد من خمسين سنة، فقابلت عليه متن شرحي هذا، فكملت مقابلتي عليه جميعه حسب الطاقة، ولله الحمد". ولم يذكر لنا القسطلاني ماذا تم على الجزء الأول الذي رآه معروضًا للبيع، وما مصيره ومآله، وأين مستقرُّه؟ ولكنه ذكر ما يُفهم منه أن الجزء الثاني الذي رآه هو قبل الأول كان موقوفًا في عصره "بمدرسة أقبغا آص بسويقة العزّى خارج باب زويلة من القاهرة المعزية"، وأنه رأى مكتوبًا بظاهر بعض نسخ البخاري الموثوق بها، الموقوفة برواق الجبرتَ من الجامع الأزهر بالقاهرة: "أن أقبغا بذل فيه نحو عشرة آلاف دينار". والمفهوم لي من هذا أن أقبغا حصل على الأصل كله كاملًا، ووقفه في مدرسته، ثم فُقد النصف الأول نحو خمسين سنة، إمّا بالسرقة، وإمّا بالعارية في معنى السرقة، ثم وجد في عصر القسطلاني. والمفهوم من التقرير الذي كتبه شيخ الإسلام الشيخ حسونة النواوي شيخ الجامع الأزهر 20 صفر سنة 1313، وهو المطبوع في مقدمة الطبعة السلطانية، أن أصل اليونيني محفوظ في "الخزانة الملوكية بالآستانة العلية" وأنه أرسل إلى مشيخة الأزهر للتصحيح عليه، على يد "صاحب السعادة عبد السلام باشا المويلحي". والذي أرجحه أن هذا الأصل أعيد بعد التصحيح عليه إلى مقره في "الخزانة الملوكية بالآستانة العلية". ثمَّ بعد ذلك بسنين، في صفر سنة 1361، وقع لي النصف الثاني

الطبعة السلطانية

من نسخة من فروع اليونينية، في مجلد واحد متوسط الحجم، وهو قريب العهد ليس بعتيق، تمت كتابته في 24 ذي القعدة سنة 1215، كتبه كما وصف نفسه "السيد الحاجّ محمَّد الملقّب بالصابر بن السيد بلال بن السيد محمَّد العينتاني وطنًا". ويظهر لي من كتابته أنه كان رجلًا أمينًا متقنًا متحريًا، لم يدع شيئًا - فيما يبدو لي - مما في أصل اليونينية إلا أثبته بدقة تامة، من ضبط واختلاف نسخ وهوامش علمية نفيسة. وقد أظهرني هذا المجلد على أن النسخة السلطانية لم يُثبت طابعوها كل ما أثبت من التعليقات على هامش اليونينية، بل تركوا أكثرها ولم يذكروا إلَّا أقلها، بل وجدت فيه أشياء أثبتها لم يذكرها القسطلاني في شرحه. الطبعة السلطانية: هي التي أمر بطبعها "أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد رحمه الله" بالمطبعة الأميرية ببولاق في سنة 1311، وشرعت المطبعة في ذلك تلك السنة، وأتمت طبعها "في أوائل الربيعين سنة 1313"، في تسعة أجزاء، واعتمد مصححو المطبعة في تصحيحها "على نسخة شديدة الضبط بالغة الصحة، من فروع النسخة اليونينية، المعوّل عليها في جميع روايات صحيح البخاري الشريف (¬1)، وعلى نسخ أخرى ¬

_ (¬1) ظاهر الكلام الذي نقلناه عن مقدمة الشيخ حسونة شيخ الأزهر رحمه الله، أن الطبع كان عن النسخة اليونينية نفسها، وكلام مصححي الطبعة السلطانية هذا يدل على أن الطبع كان عن فرع من فروعها. ولا أستطيع الجزم بصحة =

نسختي الخاصة من الطبعة السلطانية

خلافها، شهيرة الصحة والضبط" كما قالوا في مقدمة الطبع، ولم يذكروا وصفًا للنسخ التي صححوا عنها غير ذلك، ولكن المتتبع للنسخة يعلم أنهم كانوا معتمدين أيضًا على شرح القسطلاني، وقد ذكروا في آخرها ما يشعر بأنه كانت بيدهم نسخة عبد الله بن سالم. وأصدر السلطان عبد الحميد أمره إلى مشيخة الأزهر "بأن يتولى قراءة المطبوع بعد تصحيحه في المطبعة جمع من أكابر علماء الأزهر الأعلام، الذين لهم في خدمة الحديث الشريف قدم راسخة بين الأنام" وكان شيخ الأزهر إذْ ذاك الشيخ حسونة النواوي رحمه الله، فجمع ستة عشر عالمًا من الأعلام، وقابلوا المطبوع على النسخة اليونينية التي أرسلها لهم "صاحب الدولة المغازي أحمد مختار باشا المندوب العالي العثماني في القطر المصري". نسختي الخاصة من الطبعة السلطانية: هي جديرة بالإفراد بالذكر، فقد عُني بها والدي ثم عُنيت بها، سنين طويلة، والكتاب إذا عني به صاحبه، وجالت يده فيه، وكان من أهل العلم متحريًا، زاد صحة ونورًا، وهكذا ينبغي لصاحب الكتب. وقد قرأ والدي صحيح البخاري في هذه النسخة قراءة درس مرتين، أتمه كله في إحداهما بالسودان، ولم يتمه في الأخرى ¬

_ = أحدهما حتى يوجد الأصل الذي طبع عنه، وحتى نعرف مصير النسخة اليونينية، إن وفق الله الباحثين للبحث عنها، ثم وجودها.

بالإسكندرية، وكتب في أولها في المرة الأولى ما نصه: "في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر ربيع الثاني سنة 1318 هجرية، والخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1900 أفرنكية، شرعت في قراءة صحيح الإمام البخاري، بمسجد أم دُرْمان، وأسأل الله أن يوفقني لإتمامه، إنه سميع الدعاء. كتبه محمَّد شاكر قاضي قضاة السودان". وكتب في آخرها ما نصه: "بحمد الله تعالى قد فرغت من قراءته بمسجد أم درمان بعد عصر الأربعاء السابع من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1318 - 26 مارس سنة 1901". وكتب في أولها في المرة الثانية: "في يوم الأحد التاسع عشر من شهر ربيع الثاني سنة 1322 هجرية، والثالث من شهر يوليو سنة 1904، شرعت بمعونة الله تعالى في قراءة صحيح الإمام البخاري - رضي الله تعالى عنه - للمرة الثانية بمسجد الأستاذ أبي العباس المرسي بمدينة الإسكندرية، وأسأل الله أن يوفقني لإتمامه، إنه سميع الدعاء. كتبه الفقير محمد شاكر شيخ علماء إسكندرية". وقد قرأت فيها شيئًا من أول الكتاب وآخره على أستاذي الإمام الكبير، حافظ المغرب، الحجة المجتهد، العلامة السيد عبد الله بن إدريس السنوسي رحمه الله، وَرَدَ مصر في سنة 1330، ولازمتُه وقرأت عليه، وتلقيت منه علمًا جمًّا، ثمَّ عاد إلى المغرب، وتوفي هناك منذ بضع سنين فيما سمعت، وقد قارب المائة - رضي الله عنه - وكتب لي بخط يده إجازة على هذه النسخة نصها: "الحمد لله، والصلاة على رسول الله، محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وعلى

آله وسلم - أما بعد: فقد أسمعني محلُّ ولدي الشاب النجيب الأديب الأريب أحمد بن العلامة الأجلّ الشيخ شاكر وكيل مشيخة الأزهر: من صحيح علم العلماء، وقدوة المحدثين الأتقياء، أوله وآخره، وكذلك أسمعني من مسند إمام الأئمة، وقدوة أتقياء أهل السنة، الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، رحمهما الله تعالى، وجزاهم عما أديا من نصيحة الأمة، وطلب مني الإجازة في صحيح الإمام البخاري، المكتوب هنا على أول أجزائه، فأجزته بروايته عني بسندي فيه وفي باقي كتب السنة، وأوصيه بتقوى الله تعالى، وقوله فيما لا يدريه: لا أدري. وفقني الله وإياه لما فيه رضاه. كتبه بيده عبد الله بن إدريس السنوسي الحسني، كان الله له وتولاه، في تاسع جمادى الأولى سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف". * * *

تصحيح الكتب

تصحيح الكتب (*) تصحيح الكتب وتحقيقها من أشق الأعمال وأكبرها تبعة، ولقد صور أبو عمرو الجاحظ ذلك أقوى تصوير، في كتاب (الحيوان) فقال (ج 1 ص 79 من طبعة أولاد السيد مصطفى الحلبي بمصر): "ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفًا أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقض؛ حتى يرده إلى موضعه من أمثلة الكلام، فكيف يطيق ذلك المعارض المستأجر، والحكيم نفسه قد أعجزه هذا الباب! وأعجب من ذلك أنه يأخذ بأمرين: قد أصلح الفاسد وزاد الصالح صلاحًا، ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخة لإنسان آخر، فيسير فيه الوراق الثاني سيرة الوراق الأول، ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض المفسدة، حتى يصير غلطًا صرفًا وكذبًا مصمتًا، فما ظنكم بكتاب تتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخُطاط بشرّ من ذلك أو بمثله، كتاب متقادم الميلاد، دهري الصنعة". وقال الأخفش: "إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميًّا". ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة الثانية، العدد 17 شعبان 1357.

وصدق الجاحظ والأخفش، وقد كان الخطر قديمًا في الكتب المخطوطة، وهو خطر محصور لقلة تداول الأيدي إياها، مهما كثرت وذاعت، فماذا كانا قائلين لو رأيا ما رأينا من المطابع، وما تجترحه من جرائم تسميها كتبًا! ! ألوف من النسخ من كل كتاب، تنشر في الأسواق والمكاتب، تتناولها أيدي الناس، ليس فيها صحيح إلَّا قليلًا، يقرؤها العالم المتمكن والمتعلم المستفيد والعامي الجاهل، وفيها أغلاط واضحة، وأغلاط مشكلة ونقص وتحريف؛ فيضطرب العالم المتثبت إذا هو وقع في خطأ في موضع نظر وتأمل، ويظن بما علم الظنون، ويخشى أن يكون هو المخطئ، فيراجع ويراجع، حتى يستبين له وجه الصواب؛ فإذا به أضاع وقتًا نفيسًا، وبذل جهدًا هو إليه أحوج، ضحية لعب من مصحح في مطبعة، أو عمد من ناشر أمي، يأبى إلَّا أن يوسد الأمر إلى غير أهله، ويأبى إلَّا أن يركب رأسه؛ فلا يكون مع رأيه رأي، ويشتبه الأمر على المتعلم الناشئ، في الواضح والمشكل، وقد يثق بالكتاب بين يديه فيحفظ الخطأ ويطمئن إليه، ثم يكون إقناعه بغيره عسيرًا، وتصور أنت حال العامي بعد ذلك! ! . وأي كتب تبتلى هذا البلاء؟ كتب هي ثروة ضخمة من مجد الإِسلام، ومفخرة للمسلمين، كتب الدين والعلم: التفسير والحديث، والأدب والتاريخ، وما إلى ذلك من علوم أُخر. وفي غمرة هذا العبث تضيء قلة من الكتب طبعت في مطبعة

بولاق قديمًا عندما كان فيها أساطين المصححين، أمثال الشيخ محمد قطة العدوي والشيخ نصر الهوريني، وفي بعض المطابع الأهلية كمطبعة الحلبي والخانجي. وشيء نادر عني به بعض المستشرقين في أوربة وغيرها من أقطار الأرض، يمتاز عن كل ما طبع في مصر بالمحافظة الدقيقة - غالبًا - على ما في الأصول المخطوطة التي يطبع عنها مهما اختلفت، ويذكرون ما فيها من خطأ وصواب، يضعونه تحت أنظار القارئين، فرب خطأ في نظر مصحح الكتاب هو الصواب الموافق لما قال المؤلف، قد يتبينه شخص آخر عن فهم ثاقب أو دليل ثابت. وتمتاز طبعاتهم أيضًا بوصف الأصول التي يطبعون عنها وصفًا جيدًا، يظهر القارئ على مبلغ الثقة بها أو الشك في صحتها؛ ليكون على بصيرة من أمره. وهذه ميزة لن تجدها في شيء مما طبع بمصر قديمًا، بلغ ما بلغ من الصحة والإتقان فها هي الطبعات الصحيحة المتقنة من نفائس الكتب المطبوعة في بولاق، أمثال: الكشاف والفخر والطبري وأبي السعود وحاشية زادة على البيضاوي، وغيرها من كتب التفسير، وأمثال البخاري ومسلم والترمذي والقسطلاني والنووي على مسلم والأم للإمام الشافعي وغير ذلك من كتب الحديث والفقه، وأمثال لسان العرب والقاموس والصحاح وسيبويه والأغاني والمزهر والخزانة الكبرى والعقد الفريد، وغيرها من كتب اللغة والأدب،

وأمثال تاريخ ابن الأثير وخطط المقريزي ونفح الطيب وابن خلكان وذيله والجبرتي وغيرها من كتب التاريخ والتراجم، إلى غير ذلك مما طبع من الدواوين الكبار ومصادر العلوم والفنون، أتجد في شيء من هذا دليلًا أو إشارة إلى الأصل الذي أخذ عنه؟ ! وأقرب مثل لذلك [كتاب سيبويه] طبع في باريس سنة 1881 م (توافق سنتي 1298، 1299 هـ)، ثمَّ طبع في بولاق في سنتي 1316 - 1318 هـ وتجد في الأولى اختلاف النسخ تفصيلًا بالحاشية، ومقدمة باللغة الفرنساوية فيها بيان الأصول التي طبع عنها، ونص ما كتب عليها من تواريخ وسماعات واصطلاحات وغير ذلك حرفيًّا باللغة العربية، ثم لا تجد في طبعة بولاق حرفًا واحدًا من ذلك كله، ولا إشارة إلى أنها أخذت عن طبعة باريس. فكان عمل هؤلاء المستشرقين مرشدًا للباحثين منا المحدثين، وفي مقدمة من قلدهم وسار على نهجهم العلامة الحاج أحمد زكي باشا رحمه الله، ثم من سار سيرته واحتذى حذوه. ومن ذلك كانت طبعات المستشرقين نفائس تقتنى وأعلاقًا تدخر، وتغالى الناس وتغالينا في اقتنائها على علو ثمنها، وتعسر كثير منها على راغبيه. ثم غلا قومنا غلوًّا غير مستساغ في تمجيد المستشرقين، والإشادة بذكرهم، والاستخذاء لهم، والاحتجاج بكل ما يصدر عنهم من رأي: خطأ أو صواب، يتقلدونه ويدافعون عنه، ويجعلون قولهم فوق

كل قول، وكلمتهم عالية على كل كلمة؛ إذ رأوهم أتقنوا صناعة من الصناعات: صناعة تصحيح الكتب، فظنوا أنهم بلغوا فيما اشتغلوا به من علوم الإسلام والعربية الغاية، وأنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه أحد من أساطين الإسلام وباحثيه، حتى في الدين: التفسير والحديث والفقه. وجهلوا أو نسوا، أو علموا وتناسوا أن المستشرقين طلائع المبشرين، وأن جل أبحاثهم في الإِسلام وما إليه إنما تصدر عن هوى وقصد دفين، وأنهم كسابقيهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}، وإنما يفضلونهم بأنهم يحافظون على النصوص، ثم هم يحرفونها بالتأويل والاستنباط. نعم إن منهم رجالًا أحرار الفكر لا يقصدون إلى التعصب، ولا يميلون مع الهوى، ولكنهم أخذوا العلم عن غير أهله، وأخذوه من الكتب، وهم يبحثون في لغة غير لغتهم، وفي علوم لم تمتزج بأرواحهم، وعلى أسس غير ثابتة وضعها متقدموهم، ثم لا يزال ما نشؤوا عليه واعتقدوا يغلبهم ثم ينحرف بهم عن الجادة، فإذا هم قد ساروا في طريق آخر غير ما يؤدي إليه حرية الفكر والنظر السليم. ومعاذ الله أن أبخس أحدًا حقه، أو أنكر ما للمستشرقين من جهد مشكور في إحياء آثارنا الخالدة، ونشر مفاخر أئمتنا العظماء، ولكني رجل أريد أن أضع الأمور مواضعها وأن أقر الحق في نصابه، وأريد أن أعرف الفضل لصاحبه، في حدود ما أسدى إلينا من فضل، ثم لا

أجاوز به حده، ولا أعلو به عن مستواه، ولكني رجل أتعصب لديني ولغتي أشد العصبية، وأعرف معنى العصبية وحدَّها، وأن ليس معناها العدوان، وأن ليس في الخروج عنها إلّا الذل والاستسلام، وإنما معناها الاحتفاظ بمآثرنا ومفاخرنا، وحوطها والذود عنها، وإنما معناها أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأعرف أنه "ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلَّا ذلوا" وقد والله غزينا في عقر دارنا، وفي كل ما يقدسه الإسلام ويفاخر به المسلمون. وكان قومنا ضعافًا، والضعيف مغرى أبدًا بتقليد القويّ وتمجيده، فرأوا من أعمال الأجانب ما بهر أبصارهم؛ فقلدوهم في كل شيء، وعظموهم في كل شيء، وكادت أن تعصف بهم العواصف، لولا فضل الله ورحمته. غر الناس ما رأوا من إتقان مطبوعات المستشرقين، فظنوا أن هذه خطة اخترعوها، وصناعة ابتكروها، على مثال سابق، ليس لهم فيها من سلف، ووقع في وهمهم أن ليس أحد من المسلمين بمستطيع أن يأتي بمثل ما أتوا، بَلْهَ أن يبزهم، إلاَّ أن يكون تقليدًا واتباعًا، وراحوا يثقون بالأجنبي، ويزدرون ابن قومهم ودينهم؛ فلا يعهدون له بجلائل الأعمال وعظيمها، بل دائمًا: المستشرقون! المستشرقون! ! ويلقى الأجنبي منهم كل عون وتأييد، إلى ماله في قومه وبلاده من عون وتأييد، وقد يلقون للمسلم والمصري فضلات من الثقة على

أن يكون ممن يعلنون اتباع المستشرقين، والاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، وعلى أن يكون ممن درسوا وتعلموا باللغات الأجنبية، حتى فيما كان من العلوم إسلاميًّا وعربيًّا خالصًا، وعلى أنه إذا عهد لأجنبي ومصري بعمل واحد: كان الاسم كله للأول، والثاني تابع، ولعله أن يكون الثاني أرسخ قدما فيما عهد إليهما، على قاعدة "علمه وأطع أمره"! ! وما كان هذا الذي نصف خاصًّا بالعمل في الكتب وحدها، وإنما هي ذلة ضربت على المسلمين في شأنهم كله، عن خطط تبشيرية ثم استعمارية، رسمت ونفذت، في كل بلد من بلدان الإسلام، وليس المقام مقام تفصيل ذلك، ولكنا نعود إلى ما نحن بسببه من تصحيح الكتب. لم يكن هؤلاء الأجانب مبتكري قواعد التصحيح، وإنما سبقهم إليها علماء الإسلام المتقدمون، وكتبوا فيها فصولا نفيسة، نذكر بعضها هنا، على أن يذكر القارئ أنهم ابتكروا هذه القواعد لتصحيح الكتب المحفوظة؛ إذ لم تكن المطابع وجدت، ولو كانت لديهم لأتوا من ذلك بالعجب العجاب، ونحن وارثوا مجدهم وعزهم، وإلينا انتهت علومهم، فلعلنا نحفز هممنا لإتمام ما بدؤوا به. نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا * * *

سير أعلام النبلاء - ترجمة عائشة أم المؤمنين

سير أعلام النبلاء - ترجمة عائشة أم المؤمنين (*) تأليف الحافظ الذهبي. قدم له وعلق عليه الأستاذ سعيد الأفغاني بدمشق (¬1) الحافظ الذهبي (673 - 748) من أكبر مؤرخي الإِسلام وأوثقهم، ومن شيوخ حفاظ الحديث في عصور النور في الإسلام، وهو حجة العلماء بعده في نقد الرجال وتراجم العلماء والرواة، وهو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي. ومؤلفاته في التاريخ والتراجم كانت ولا تزال عمدة المؤرخين في عصره وبعد عصره، ولو لم يكن له إلَّا "تاريخ الإسلام" لكفاه مجدًا وفخرًا، ولعلي واصفهُ في كلمة خاصة قريبًا إن شاء الله. ومن أجل كتبه وأعظمها هذا الكتاب الذي نشرت منه هذه الترجمة، وهو "سير أعلام النبلاء". وهو كتاب كبير عظيم، في عشرين مجلدًا تقريبًا، سمعنا به كثيرًا ولم نره، بما عرض لكتب المسلمين من أحداث الزمن، حتى ضاع منها الكثير النفيس، ثم عرفت نسخة منه لدى حضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى ملك اليمن حفظه الله. واستنسخ بعضه صديقنا الكبير العلامة السيد محمَّد بن حسين نصيف، أحد نبلاء الحجاز وأعلامها بمدينة "جدة"، وتفضل حفظه الله فيسر للأستاذ سعيد الأفغاني نسخ هذه الترجمة "ترجمة عائشة" ومن قبلها "ترجمة ابن حزم" فنشر ترجمة ابن حزم سنة 1941 ثم نشر هذه الثانية التي نصف. ¬

_ (*) مجلة الكتاب، صفر 1365 هـ، فبراير 1946 م. (¬1) 88 صفحة من القطع الكبير. مطبعة الترقي. دمشق 1945.

والمحدثون هم أئمة علم التاريخ وأساطينه، وهم الحفَظة عليه بما وضعوا من قواعد دقيقة متقنة لنقد الرواية والراوي، وعلى مناهجهم سار من قلدهم من المؤرخين وغير المؤرخين، حتى إنا لنجد الأقدمين كانوا يروون الشعرَ ومتن اللغة وكثيرًا من القواعد في العلوم الأخرى على طريقة المحدثين، وإن كان تقليد هؤلاء لم يبلغ شأوَ أولئك ولا قاربه، وأقرب مثال لذلك كتاب "الأغاني" وكتاب "مصارع العشاق"، وهما أبعد ما يكون عن صناعة الحديث، ولكنّ مؤلفيهما رويا القصص والشعر فيهما بالأسانيد على طريقة المحدثين، وإن لم ينقدا الأسانيد ولم يتحريا في الرواية كما يصنع المحدّثون. وسأدع وصف هذا الجزء "ترجمة عائشة" ليصفه ناشره ومحققه الأستاذ سعيد الأفغاني بقلمه في مقدمته قال: "ترجم للسيدة عائشة كثيرون من أعلام المؤرخين، إلا أن هذا المصدر (سِيرَ أعلام النبلاء) يتفرد بمزايا ليست في مصدر آخر: إنها ترجمة فنية من الوجهة (الحديثية)، ونحن نعلم أن التاريخ في الحضارة العربية ولد في أحضان علم الحديث، وتعهده المحدّثون حتى نشأ وترعرع وبلغ أشده واستقل قائمًا بنفسه، وأعاظم المؤرخين الأولين هم كبار أئمة الحديث، وقد تفنن فيه هؤلاء فنونًا كثيرة تستعصي على الحصر، واتسعوا فيه اتساعًا استطاع معه (مغلطاي) أن يقول: "رأيت من مَلك نحوًا من ألف تصنيف في التاريخ". بل إن الحافظ السخاوي مؤرخ المئة التاسعة قرأ خط الذهبي: يذكر فنون

التاريخ التي تدخل في تاريخه الكبير ... فأوصلها إلى الأربعين فنًّا، ثم قال: "ولم أنهض له، ولو عملته لجاء في ستمائة مجلد". اهـ. قلت: لقد أمعنتُ أنا في عناوين هذه الفنون مسرودة في كتاب السخاوي (¬1)، فرأيت (مشروع) الذهبي أشبه بموسوعة (دائرة معارف) كبرى في التاريخ". "ولكي يخرج القارئ بفكرة مجملة عجلى عن المجهود العظيم المعجز، الذي قام المحدّثون، وخاصة الذهبي في (سير أعلام النبلاء) أذكر أن الإمام الزركشي في كتابه عن السيدة عائشة (الإصابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) (¬2) ذكر من الرواة عنها اثنى عشر راويًا، وإني أضفت عليهم نحوًا من ثمانين راويًا، جمعتُ أسماءهم في أعوام متطاولة، بعد الاطلاع على كتب الطبقات المخطوطة والمطبوعة، وعلى مصادر كثيرة جدًّا، حتى التي لا يظن أن يكون فيها شيء عن السيدة عائشة، فأوصلت - بعد هذا العناء - عدد الرواة عنها إلى التسعين، وأنا أرى أني أتيت بما لم يأت به الأولون ولا الآخرون، لكنني لم أكد أقرأ هذه الرسالة للذهبي وأراه قد زاد على هؤلاء التسعين نحو المئة، وأدهشني أنه أورد أسماءهم مرتبة على ¬

_ (¬1) يعني كتاب "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التواريخ" المطبوع بمطبعة الترقي 1349 هـ. (¬2) محفوظ نادر حققه الأستاذ سعيد الأفغاني ونشره في المطبعة الهاشمية بدمشق 1358 هـ.

الحروف ... أقول: لم أكد أجد ذلك حتى انطفأ فيَّ ذلك الزهو المنتفخ، وعرفتُ أني وألوفًا من أمثالي مهما جهدنا لا نبلغ أن نكون من أصغر تلاميذ مؤرخينا من أهل الحديث: لقد وقفوا أنفسهم على خدمة العلم فأخلصوا له الخدمة، فآتاهم الله في ذلك المعجزات". "وأمر آخر تمتاز به هذه الرسالة: وهو أن كثيرًا من مؤرخي الحركة العلمية والأدبية في عصرنا هذا الحديث، إذا بلغوا الكلام على المحدّثين والمؤرخين العرب، تابعوا المستشرقين فقرروا: "أن العرب عُنوا عناية بالغة بالنقد الخارجي (نقد السند) فبذّوا بذلك غيرهم من الأمم، إلا أنهم وقفوا عاجزين دون النقد الداخلي: (نقد المتن). ونقلوا هذه الشبهة التي لا تستند إلى أدنى اطلاع: لاحق عن سابق، نقلًا أعمى دون تحقيق أو بذل عناء. ففي هذه الرسالة التي ننشرها، يورد الذهبي روايات وأخبارًا يشبعها نقدًا: تعديلًا وتجريحًا، ويضع عيوننا على شواهد محسوسة في النقد الداخلي: نقد المتن، فنوقن حينئذ أننا لم يكفنا جهلنا و (سطحيتنا) وحتى (ببغاويتنا) وإصدارنا الأحكام دون إعداد العدة اللازمة لها من درس جادّ، وصدر واسع، ودؤوب طويل، وعلم غزير ... لم تكفنا هذه (القَعَدية) بل نستطيل بجهلنا، أو بعلمنا الناقص المترجَم - وهو شر من الجهل - على من بلغوا في إحكام أعمالهم حدّ الإعجاز" .... "الحق أن (الترجمة التاريخية) فنّ العرب الخالص، برعوا فيه براعة خالدة، وأن الذهبي أحد نوابغهم العظام في هذا الفن".

وهذا الذي قاله الأستاذ سعيد الأفغاني من تقليد بعض الباحثين للمستشرقين في زعمهم أن المحدّثين والمؤرخين من العرب كان همهم نقد السند في الرواية دون المتن، قد أصاب فيه كلّ الإصابة، فإن أهم شيء في تعليل الرواية عند المحدثين هو البحث في علل المتون وأخطاء الرواة فيها، وهو الأساس الذي بني عليه الأئمة الحفاظ نقدهم الأحاديث، يعرف ذلك كل من مارس هذه الفنون الجليلة "علوم الحديث". فما جاء في هذا الجزء من "سير أعلام النبلاء" من نقد الحديث بنوعي النقد، اللذين يريد هؤلاء المعاصرة أن يسموهما تبعًا لغيرهم "النقد الداخلي" و"النقد الخارجي": أن الحافظ المؤلف نقل (في ص 55) عن مسند الإمام أحمد بن حنبل حديثًا رواه أحمد عن عثمان بن عمر عن يونس الأيلي عن أبي شداد عن مجاهد عن أسماء بنت عميس قالت: كنت صاحبة عائشة التي هيَّأتها وأدخلتْها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعي نسوة، فما وجدنا عنده قرًى إلا قدحًا من لبن، فشرب منه ثم ناوله عائشة، فاستحيت الجاريةُ، فقلت: لا تردّي يد رسول الله، خذي منه، فأخذت منه على حياء، فشربت، ثم قال: ناولي صواحبك. فقلنا: لا نشتهيه! فقال: "لا تجمعن جوعًا وكذبًا". فقلت: يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيعدُّ ذلك كذبًا؟ قال: إن الكذب يكتب حتى تكتب الكُذَيبة كذيبةً". وهذا الحديث في مسند أحمد (ج 6 ص 438) وفيه هناك خطأ مطبعي: كتب "شداد" وصوابه "أبو شداد"، وقال الحافظ الذهبي بعد أن نقله: "هذا

حديث منكر، لا نعرفه إلَّا من طريق أبي شداد وليس بالمشهور، قد روى عنه ابن جُريج أيضًا". فهذا هو "النقد الخارجي" نقد السند. ثم قال: "ثم هو خطأ، فإن أسماء كانت وقت عرس عائشة بالحبشة مع جعفر بن أبي طالب، ولا نعلم لمجاهد سماعًا من أسماء، ولعلها أسماء بنت يزيد، فإنها روت عجُزَ هذا الحديث". فهذا هو "النقد الداخلي" نقد المتن؛ إذ أبان الحافظ أن التي نسب إليها الحديث لم تكن وقت زفاف عائشة بالمدينة، فظهر أن هذا الراوي أخطأ، فنسب واقعة روتها أسماء بنت يزيد بن السكن إلى أسماء بنت عميس التي لم تروها ولم تشهدها، وقد ذكر الأستاذ الأفغاني مصحح الكتاب رواية أسماء بنت يزيد عن مسند أحمد. فهذا مثال من النقد الداخلي الصحيح. وهناك مثالٌ آخر من النقد الداخلي، ظاهره الصحة وهو غير صحيح، قلد فيه الأستاذ الأفغاني عالمًا كبيرًا من المتقدمين، قلد عالمًا كبيرًا قبله، فإن المؤلف الحافظ نقل حديث الإفك بطوله، وهو حديث معروف عن إفك المنافقين وبعض الضعفاء على عائشة - رضي الله عنها - حتى نزلت براءتها في القرآن، ورواية المؤلف منقولة عن البخاري، وفيها (ص 37) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليَّ بن أبي طالب وأسامة ابن زيد يستأمرهما في فراق أهله، قالت عائشة: "فأما أسامة فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم [لهم] (¬1) في نفسه من الودّ، ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من صحيح البخاري.

فقال: يا رسول الله أهلُك ولا نعلم عنهم إلا خيرًا، وأما علي فقال: لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير، واسأل الجارية تصْدُقك. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت [بريرة] (¬1): لا والذي بعثك بالحق". إلى آخر الحديث. و"بريرة" بفتح الباء: أمة كانت بالمدينة اشترتها عائشة وأعتقتها فكانت مولاتها. فعلَّق الأستاذ الأفغاني هنا في الهامش بما نصه: "كون الجارية بريرة: وهمٌ قد نبه عليه الإمام الزركشي قال: تنبيه جليل على وهمين وقعا في حديث الإفك في صحيح البخاري: أحدهما؛ قول علي: "وسل الجارية تصدقك". فدعا رسول الله بريرة ... إلخ. وبريرة إنما اشترتها عائشة وأعتقتها بعد ذلك. ويدل عليه أنها لما أعتقت واختارت نفسها، جعل زوجها يطوف وراءها في سكك المدينة ودموعه تتحادر على لحيته، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: "لو راجعتيه". فقالت: أتأمرني؟ فقال: "إنما أنا شافع". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عباس ألا تعجب من حب المغيث لبريرة وبغضها له! " والعباس إنما قدم المدينة بعد الفتح. والمخلص من هذا الإشكال: أن تفسير الجارية ببريرة مدرج في الحديث من بعض الرواة، ظنًّا منه أنها هي. وهذا كثيرًا ما يقع في الحديث من تفسير بعض الرواة، فيظن أنه من الحديث. وهو نوع غامض لا ينتبه له إلا الحذاق". فهذا أيضًا من "النقد الداخلي" وإن كان نقدًا غير صحيح، ولم يكن الزركشي بابن ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من صحيح البخاري.

بجدته، وإن ظن الأستاذ الأفغاني ذلك، إنما قلد فيه الإمام الحافظ ابن القيم، كما أثبت ذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري شرح البخاري ج 8 ص 358 من طبعة بولاق) وكلام ابن القيم في هذا في كتابه (زاد المعاد ج 2 ص 116 من طبعة المطبعة المصرية) وابن القيم، على علمه وجلالة قدره، لم يستطع الجزم بهذا النقد كما استطاعه الزركشي، وإنما ساقه إشكالًا نسبه إلى مبهم، ثم قال: "وهذا الذي ذكره إن كان لازمًا فيكون الوهم من تسمية الجارية بريرة، ولم يقل له علي: سل بريرة. وإنما قال: فسل الجارية تصدقك. فظن بعض الرواة أنها بريرة فسماها بذلك، وإن لم يلزم، بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى بعد الفتح ولم ييأس منها، زال الإشكال". وليس في الأمر إشكال، إنما هو اعتراض عن انتقال نظر، حكاه العلامة ابن القيم وأجاب عنه إجابة مجملة، فجزم به الزركشي وجعله من دقائق العلم التي لا يتنبه لها إلا الحذاق! وأعجب به الأستاذ الأفغاني أيما إعجاب. ولو كان المدرج في الحديث، أي؛ المزاد، اسم "بريرة" وحده لكان الأمر قريبًا، ولكن في لفظ الحديث أن رسول الله قال لها "أي بريرة" فنادها باسمها، والإدراج في مثل هذا قد ينافي الثقة بالراوي، والحديث رواه أئمة كبار، الزهري يحدث به عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيَّب وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله، ثم يرويه عن الزهري الثقات الأثبات من أصحابه! فنسبة هذا الوهم إليهم ليست مما يقبل على علاته، وبريرة لم تظهر في المدينة فجأة حتى ينكر المعترض

وجودها حين وقعت قصة الإفك. وإنما كان الذي بعد الفتح بعد أن جاء العباس بن عبد المطلب إلى المدينة هو شراء عائشة إياها وعتقها لها، فإن بريرة جاءت إلى عائشة فقالت: "إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين كل سنة أوقية، فأعينيني". فقالت لها عائشة: "إن شاء أهلك أن أعدلها لهم عدةً واحدة وأعتقك ويكون الولاء لي فعلتُ". (صحيح مسلم ج 1 ص 440 طبعة بولاق) فهذه جارية مكاتبة، أي؛ باع سادتها نفسها لها، تعمل وتؤجر، حتى تجمع الثمن الذي اتفقوا عليه، فإذا أدته إلى سادتها ملكت نفسها وعتقت. فأين في الحديث ما يدل على أنها حين وقعت قصة الإفك كانت مملوكة عائشة أو عتيقتها؟ أليس الأقرب أنها كانت تمتهن الخدمة في البيوت تسعى في جمع بدل المكاتبة، ومن القريب جدًّا أن تكون ممن يخدم السيدة عائشة في بيتها وتكثر، حتى لتقع في نفس عائشة فتشتريها من أهلها وتعتقها! وقد بذل الأستاذ سعيد الأفغاني جهدًا مشكورًا في تصحيح هذا الجزء، ويبدو لي أن النسخة التي وقعت له لم تكن أصلًا جيدًا، فعانى كثيرًا من المشقة في تصحيحه، ولست أدري آلخطأ الكثير من الناسخ الذي نسخ في السمن أم من أصل النسخة؟ وليت الأستاذ الأفغاني رجع في تصحيح بعض الأحاديث إلى مواطنها من كتب السنة المعروفة، وهي في متناول اليد، فإني رأيته - مثلًا - غير في إسناد حديث عائشة عن قصة الإفك كلمة "عن" فجعلها "من" وذكر ذلك في هامش الصفحة، ظنًّا منه أن ما كان في الأصل خطأ (ص 33)

فإن الإسناد فيه هكذا: "يونس عن ابن شهاب: أخبرني عروة وابن المسيب وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله من حديث عائشة حين قال لها أهل الإفك ما قالوا" وكتب في الهامش على قوله "من حديث عائشة": "في الأصل: عن" والذي في الأصل هو الصواب؛ لأن الحديث نقله الذهبي عن صحيح البخاري، وهو فيه: "عن حديث عائشة" (ج 8 ص 343 من فتح الباري وج 6 ص 101 من صحيح البخاري الطبعة السلطانية ببولاق) ومثل صنيعه في الحديث نفسه (ص 40) في قول عائشة "إني والله لقد علمت أنكم سمعت هذا الحديث" وكتب في الهامش (في الأصل: لقد علمت لقد سمعت هذا الحديث. والتصحيح عن كتب الحديث، وانظر السمط الثمين ص 67) وما في الأصل خطأ، وما أثبته عن العقد الثمين خطأ، والصواب في البخاري "لقد علمت لقد سمعت هذا الحديث" فتح الباري 8: 364 والبخاري 6: 104). وما كانت نسخة "العقد الثمين" المطبوعة حجة، وكلمة "التصحيح عن كتب الحديث" مجملة، البيانُ والتحديد خير منها وأوثق. ورأيت للأستاذ في صدر الجزء (ص 9) تنبيهًا فيه شيء من الإبهام، إن لم يكن من الخطأ، قال: "جرى المؤلف على عادة المحدثين فحذف كلمة (حدثنا) أو (روى) من أول السند، مبتدئًا باسم الراوي رأسًا، فعلى القارئ أن يلاحظ ذلك ويضيف بذهنه (حدثنا) أو نحوها في رأس كل سند".

صحيح أن كثيرًا من المحدثين يفعلون ذلك، ولكن المؤلف، الحافظ الذهبي، لم يحذف في هذا الجزء كلمة "حدثنا" من أول إسناده هو؛ إذ رَوَى الحديث بإسناده، وهو قد روى فيه ثمانية أحاديث بإسناده، في (ص 48، 58، 65 مرتين، 66، 79 مرتين، 80) وهو يقول في أكثرها: "أخبرنا" فلان، وفي اثنين منها: "قرأت على" فلان. وإنما الأسانيد التي حذف المؤلف أولها هي الأسانيد التي علقها عن كتب السنة، اكتفاءً بمعرفة المحدّثين إياها، فيذكر بعض الإسناد من أعلاه، كأن يقول: "يونس عن ابن شهاب" "سفيان بن عيينة عن أبي سعيد" "معمر عن الزهري" "مالك عن عبد الرحمن بن القاسم"، فمثل هذه الأسانيد، لا يجوز للقارئ أبدًا أن "يضيف بذهنه حدثنا" في رأس السند، إذ يكون محالًا أن يقول الحافظ الذهبي "حدثنا يونس" "حدثنا مالك" ... إلخ. وإنما يقدر المحدّثون في مثل هذا: "روينا بإسنادنا أو بالإسناد المتصل عن يونس، أو عن سفيان، أو عن معمر" أو نحو ذلك المعنى. وهو شيء معروف لا يحتاج إلى بيان. وبعد: فإن موسوعتي الذهبي "تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" من الدواوين الكبار، من مفاخر أئمة العرب والإسلام، ومن أوثق مصادر التاريخ للباحث المحقق، وللمؤرخ المتوثق: فمن التقصير الشديد أن يظلا مطويين مهجورين في دور الكتب. أفيقدم على نشرهما رجل موفق حازم، يكونان في ميزانه أجرًا وذكرًا؟ نرجو إن شاء الله.

مقدمة الرسالة للإمام الشافعي

مقدمة الرسالة للإمام الشافعي (*) هذا كتاب (الرسالة) للشافعي. وكفى الشافعي مدحًا أنه الشافعي. وكفى (الرسالة) تقريظًا أنها تأليف الشافعي، وكفاني فخرًا أن أنشر بين الناس علم الشافعي [مع إعلاميهم نهيه عن تقليده وتقليد غيره] (¬1). ولو جاز لعالم أن يقلِّد عالمًا كان أولى الناس عندي أن يقلّد الشافعي. فإني أعتقد - غير غال ولا مسرف - أن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام، في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره. فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة. تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله وبعده. نبغ في الحجاز، وكان إلى علمائه مرجع الرواية والسنة، وكانوا أساطين العلم في فقه القرآن، ولم يكن الكثير منهم أهل لسن وجدل، وكادوا يعجزون عن مناظرة أهل الرأي، فجاء هذا الشاب يناظر وينافح، ويعرف كيف يقوم بحجته، وكيف يلزم أهل الرأي وجوب اتباع ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة الثالثة، العدد 35، أول ذي الحجة 1358. (¬1) اقتباس من كلام المزني في أول مختصره بحاشية الأم (ج 1 ص 2).

السنة، وكيف يثبت لهم الحجة في خبر الواحد، وكيف يفصل للناس طرق فهم الكتاب على ما عرف من بيان العرب وفصاحتهم، وكيف يدلهم على الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وعلى الجمع بين ما ظاهره التعارض فيهما أو في أحدهما؛ حتى سماه أهل مكة "ناصر الحديث". وتواترت أخباره إلى علماء الإسلام في عصره، فكانوا يفدون إلى مكة للحج، يناظرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه، حتى إن أحمد بن حنبل جلس معه مرة، فجاء أحد إخوانه يعتب عليه أن ترك مجلس ابن عيينة - شيخ الشافعي - ويجلس إلى هذا الأعرابي! فقال له أحمد: "اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، وإن فاتك عقل هذا أخاف أن لا تجده، ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى". وحتى يقول داود بن علي الظاهري الإمام في كتاب مناقب الشافعي "قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا وأحمد ابن حنبل إلى الشافعي بمكة فسألته عن أشياء، فوجدته فصيحًا حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن؛ أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أوتي فيه فهمًا، فلو كنت عرفته للزمته. قال داود: ورأيته يتأسف على ما فاته منه" وحتى يقول أحمد بن حنبل: "لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث". ويقول أيضًا: "كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وفي سنة رسول الله".

ثم يدخل العراق، دار الخلافة وعاصمة الدولة (¬1)، فيأخذ عن أهل الرأي علمهم ورأيهم، وينظر فيه، ويجادلهم ويحاجُّهم، ويزداد بذلك بصرًا بالفقه، ونصرًا للسنة حتى يقول أبو الوليد المكي الفقيه موسى بن أبي الجارود "كنا نتحدث نحن وأصحابنا من أهل مكة أن الشافعي أخذ كتب ابن جريج (¬2) عن أربعة أنفس: عن مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، وهذان فقيهان، وعن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وكان أعلمهم بابن جريج، وعن عبد الله بن الحارث المخزومي، وكان من الأثبات، وانتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، رحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن جملًا ليس فيها شيء إلّا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك، حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره، حتى صار منه ما صار". ثم دخل مصر في سنة 199 فأقام بها إلى أن مات، يعلّم الناس السنة وفقه السنة والكتاب، ويناظر مخالفيه ويحاجُّهم، وأكثرهم من أتباع شيخه مالك بن أنس، وكانوا متعصبين لمذهبه، فبهرهم الشافعي ¬

_ (¬1) دخل الشافعي بغداد ثلاث مرات، الأولى وهو شاب سنة 184 أو قبلها في خلافة هارون الرشيد، والثانية في سنة 195 ومكث سنتين، والثالثة سنة 198 فأقام بها أشهرًا، ثم خرج إلى مصر. (¬2) انتهت رياسة الفقه بمكة إلى ابن جريج.

بعلمه وهديه وعقله، رأوا رجلًا لم تر الأعين مثله، فلزموا مجلسه، يفيدون منه علم الكتاب وعلم الحديث، ويأخذون عنه اللغة والأنساب والشعر، ويفيدهم في بعض وقته في الطب، ثم يتعلمون منه أدب الجدل والمناظرة، ويؤلف الكتب بخطه، فيقرأون عليه ما ينسخونه منها، أو يملي عليهم بعضها إملاء، فرجع أكثرهم عما كانوا يتعصبون له، وتعلموا منه الاجتهاد ونبذ التقليد، فملأ الشافعي طباق الأرض علمًا. ومات ودفن بمصر، وقبره معروف مشهور إلى الآن وعاش 54 سنة، ولد سنة 150 بغزة، ومات ليلة الجمعة، ودفن يوم الجمعة بعد العصر آخر يوم من رجب سنة 204 (¬1) (الجمعة 29 رجب سنة 204 يوافق 19 يناير سنة 820 ميلادية، 23 طوبه سنة 536 قبطية). وليس الشافعي ممن يترجم له في أوراق أو كراريس، وقد ألف العلماء الأئمة في سيرته كتبًا كثيرة وافية، وجد بعضها وفقد أكثرها. ولعلنا نوفق إلى أن نجمع ما تفرق من أخباره في الكتب والدواوين، في سيرة خاصة به، إن شاء الله. وقد يفهم بعض الناس من كلامي عن الشافعي أني أقول ما أقول عن تقليد أو عصبية، لما نشأ عليه أكثر أهل العلم من قرون كثيرة، من تفرقهم شيعًا وأحزابًا علمية، مبنية على العصبية المذهبية، مما أضر ¬

_ (¬1) ذكر المرحوم مختار باشا في التوفيقات الإلهامية أن الشافعي مات في 4 شعبان، وهو خطأ.

بالمسلمين وأخرهم عن سائر الأمم، وكان السبب الأكبر في زوال حكم الإسلام عن بلاد المسلمين، حتى صاروا يحكمون بقوانين تخالف دين الإسلام، خنعوا لها واستكانوا، في حين كان كثير من علمائهم يأبون الحكم بغير المذهب الذي يتعصبون له ويتعصب له الحكام في البلاد. ومعاذ الله أن أرضى لنفسي خلة أنكرها على الناس، بل أبحث وأجد، وأتبع الدليل الصحيح حيثما وجد. وقد نشأت في طلب العلم وتفقهت على مذهب أبي حنيفة، ونلت شهادة العالمية من الأزهر الشريف حنفيًّا، ووليت القضاء منذ عشرين سنة أحكم كما يحكم إخواني بما أذن لنا في الحكم به من مذهب الحنفية. ولكني بجوار هذا بدأت دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، فسمعت كثيرًا وقرأت كثيرًا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي، فإن أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجل، أحترم رأيي ورأي غيري، وأحترم ما أعتقده حقًّا قبل كل شيء وفوق كل شيء. فعن هذا قلت ما قلت واعتقدت ما اعتقدت في الشافعي، رحمه الله ورضي عنه. وهذا كتاب (الرسالة) أول كتاب ألف في (أصول الفقه) بل هو أول كتاب ألف في (أصول الحديث) أيضًا. قال الفخر الرازي في مناقب الشافعي (ص 57). "كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في

مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع، كنسبة أرسطاطاليس إلى علم العقل". وقال بدر الدين الزركشي في كتاب البحر المحيط في الأصول (مخطوط) "الشافعي أول من صنف في أصول الفقه؛ صنف فيه كتاب الرسالة، وكتاب أحكام القرآن، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس" وأقول: إن أبواب الكتاب ومسائله، التي عرض الشافعي فيها للكلام على حديث الواحد والحجة فيه، وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة، ورد الخبر المرسل والمنقطع، إلى غير ذلك مما يعرف من الفهرس العلمي في آخر الكتاب. هذه المسائل عندي أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كتب بعده إنما هو فروع منه، وعالة عليه، وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق، لله أبوه. و(كتاب الرسالة) بل كتب الشافعي أجمع، كتب أدب ولغة وثقافة، قبل أن تكون كتب فقه وأصول، ذلك أن الشافعي لم تهجنه عجمة، ولم تدخل على لسانه لكنة، ولم تحفظ عليه لحنة أو سقطة. قال عبد الملك بن هشام النحوي صاحب السيرة: "طالت مجالستنا

للشافعي، فما سمعت منه لحنة قط، ولا كلمة غيرها أحسن منها". وكفى بشهادة الجاحظ في أدبه وبيانه، يقول: "نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي، كأن لسانه ينظم الدر". فكتبه كلها مثل رائعة من الأدب العربي النقي، في الذروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيته، ويملي بفطرته، لا يتكلف ولا يتصنع، أفصح نثر تقرأه بعد القرآن والحديث لا يساميه قائل ولا يدانيه كاتب. وإني أرى أن هذا الكتاب (كتاب الرسالة) ينبغي أن يكون من الكتب المقروءة في كليات الأزهر وكليات الجامعة، وأن تختار منه فقرات لطلاب الدراسة الثانوية في المعاهد والمدارس؛ ليفيدوا من ذلك علمًا بصحة النظر وقوة الحجة، وبيانًا لا يرون مثله في كتب العلماء وآثار الأدباء. * * *

التحقيق لابن الجوزي

التحقيق لابن الجوزي (*) كتاب "التحقيق في أحاديث الخلاف" للإمام الحافظ الكبير أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ، كتابٌ نفيس من أهمّ الكتب التي فيها أُلّفت في مسائل الاختلاف بين المذاهب؛ لأنه اقتصر فيه على المواضع التي فيها بين الأئمة الأربعة اختلاف، وترك ما اتفقوا عليه، وأفاض في بيان أدلة كل مذهب وساق الأحاديث بأسانيدها. وقد عُني به المتقدمون من العلماء فاختصره الحافظ ابن عبد الهادى وسماه "التنقيح"، واختصره البرهان إبراهيم بن علي بن عبد الحق المتوفى سنة 844 هـ، ولم أر هذين المختصرين. وقد كنت منذ اثنى عشر عامًا أو أكثر رأيت "التحقيق" في دار الكتب المصرية وأعجبت به جدَّ الإعجاب، ورغبت في نشره فوفق لي الصديق الفاضل السيد محمد أمين الخانجي، وعرضت عليه ما بدا لي فكان أسبق مني إلى تنفيذ رغبتي وإجابة طلبي، وما كدنا نبدأ في إعداد المقدمات لإظهاره حتى فجأت العالم الحربُ الكبرى، وما تلاها من تقلقل الشؤون الاقتصادية في أقطار الدنيا، فوقفنا ما شرعنا فيه وانتظرنا كثيرًا. ثم أذن الله فوقفنا للعود لما بدأنا، وهدانا سبلنا ¬

_ (*) الزهراء: الربيعان 1346، المجلد الرابع، نشر الكتب الجزء الأول.

(وصف النسخة)

وشرعنا في طبعه، فالحمد لله رب العالمين. (وصف النسخة): النسخة الوحيدة منه بدار الكتب المصرية (تحت رقم 2: فقه ابن حنبل) وعدد صحفها 526 صحيفة في كل صحيفة 25 سطرًا بخط متوسط لا بأس به، وأكثر كلماتها لم تنقط. وهي مصححة تصحيحًا جيدًا، وأغلاطها قليلة، والنسخة عتيقة نفيسة، كتب في آخرها ما نصه: "فرغ من كتابته العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي - سامحه الله وتجاوز عن سيئاته - في العشر الأول من شهر ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وستمائة. وحسبنا الله ونعم الوكيل". ويظهر أن بعض الفضلاء المتقدمين من المحدّثين عُني بها وقرأها، وكتب على هامشها بعض التعليق والنقد. وأكثر ما وجدت من النقد يغلب على ظني أنه بخط الحافظ الكبير شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري؛ لأن الخط يشبه خطه شبهًا قويًّا. والمواضع التي انتقد بها ابن الجوزي وجدتها في بعض كتبه الأخرى وبخاصة في كتاب "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث شرح الرافعي الكبير" والورقة الأولى من النسخة ممزقة تمزيقًا شديدًا يصعب معه قراءتها؛ ولذلك أرسل السيد أمين الخانجي إلى أحد الإخوان بدمشق فتفضل ونقل لنا خطبة الكتاب من النسخة الموجودة بدار الكتب الظاهرية.

(وصف الكتاب)

ولم أسمع أنه يوجد من الكتاب نسخة ثالثة في أي مكتبة من المكاتب، وقد نقلنا نسخة دار الكتب المصرية بالتصوير الشمسي؛ ليسهل علينا النقل عنها والمقابلة والتصحيح عليها. وسنطبع إن شاء الله مع الكتاب بعض صحف منها على سبيل المثال التاريخي. (وصف الكتاب): قدَّم ابن الجوزي كتابه بمقدمة قال فيها: إنه يذكر مذهبه - مذهب الإمام أحمد بن حنبل - ومذهب مخالفيه، ويكشف عن دليل المذهبين، وإنه لا يميل عن الإنصاف فيه، واشتد لومه على جماعة من كبار المحدِّثين "عرفوا صحيح النقل وسقيمه وصنفوا في ذلك، فإذا جاء حديث ضعيف يخالف مذهبهم بينوا وجه الطعن فيه وإن كان موافقًا لمذهبهم سكتوا عن الطعن فيه. وهذا ينبئ عن قلة دين وغلبة هوًى" وليته إذ قال هذا سار على ما رسم، وتبرأ عما نبز غيره به. والمعصوم من عصمه الله. ثم قسم كتابه على كتب الفقه المعروفة، وقسم كل كتاب إلى مسائل: فيذكر المسألة في مذهب الإمام أحمد، ثم يذكر قول من خالفه من الأئمة الأربعة، ثم يستدل للأقوال بالأحاديث والآثار ويرويها بإسناده، وأكثر أسانيده ترجع إلى الكتب المعروفة المشهورة، وجلُّ ما فيه رواه من مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ومن السنن للحافظ علي بن عمر الدارقطني، وكثيرًا ما ينقد الحديث ويذكر ما قيل فيه من تصحيح أو تضعيف. وقد تعقبه في

كلامه على الأحاديث كثير من الحفاظ الثقات، كابن حجر العسقلاني في الفتح والتلخيص، وابن عبد الهادي فى التنقيح، والحافظ الزيلعي في "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" وتقي الدين بن دقيق العيد في كتابه "الإمام" وابن التركماني في "الجوهر النقي" ويتعصب ابن الجوزي لمذهبه إلا أن تعصبه أقل من تعصب غيره من المؤلفين. وقد رأيت له أشياء لا تحتمل ولم يكن الظن بمثله أن تصدر عنه، كصنيعه في الكلام على "محمد بن إسحاق صاحب المغازي": فإنه إذا ورد فى إسناد حديث يدل لمخالفيه استمسك أشد الاستمساك بكلمة مالكٍ في تكذيبه، وإن كان في إسناد حديث ينصر به مذهبه فإما دافع عنه وإما سكت، ومما يؤخذ عليه وقد عابه على غيره - أنه يحتج فى بعض المسائل لمذهبه بأحاديث ضعيفة ولا يبين ضعفها، وقد يذكر وجه ضعفها ثم يدافع عنها دفاعًا يردّ مثلَه ولا يرضاه فى موقف آخر، وهذا كله من النتائج السيئة لتغلغل التقليد في النفوس، وتلك عيوب لا يكاد يخلو منها مؤلف - ولعل ابن الجوزي من أقلهم اتصافا بها - ولا يزال معها الكتاب كتابًا جليلًا نفيسًا لم يترك - فيما يغلب على الظن - مسألة من مسائل الخلاف الدقيقة المهمة. ولما عزمنا - بحول الله وقوته - على الشروع في طبعه بدأتُ في التعليق عليه وتداركِ ما فاته أداءً لأمانة العلم؛ فجمعتُ بين يديّ كل ما طبع من كتب السنة وتراجم رجالها، وأكثر كتب الفقه والأصول واللغة وغير ذلك، وبذلتُ جهدي في تصحيحه والتوثق من كل كلمة فيه بالرجوع إليها في أصولها - إلا ما ندر - وذكرت مذاهب كثير من

الأئمة المجتهدين غير الأربعة: مثل الأوزاعي، وإسحاق، وداود، وأشرت إلى أدلة كل منهم، وتكلمت على الأحاديث التي ذكرها، فبينت من روى كل حديث، وذكرت درجته العلمية، ووجه صحته إن كان صحيحًا، أو ضعفه إن كان ضعيفًا، على طريق الإنصاف. وما ألوت أن أبين ما يرجحه الدليل في مواضع الخلاف والنظر متبعًا سبيل من هدى الله غير مقلد لأحد ولا متعصب لمذهب. وما أدّعي أني صنو أي مجتهد منهم، ولكني امرؤ أمرني ربي أن آخذ ما آتاني الرسول فأَطَعْتُ، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمن نفسي، وما توفيقي إلا بالله. وحققتُ فيما كتبته - بعون الله سبحانه وتعالى - بعض مسائل على مثال لم أره فيما وصل إليَّ من كتب الخلاف. وحسبي هذا، فقد أخشى إن استرسلتُ أن يصل بي القلم إلى التغالي فى مدح كتابي، وما كان هذا من خلقي. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني إلى إتمامه، وأن يهديني إلى الحق، وأن يرزقني الإخلاص في قولي وعملي إنه سميع الدعاء. * * *

التعريف بالكتب

التعريف بالكتب 1 - تفسير القرآن الحكيم: لمحمد رشيد رضا. 2 - قصص القرآن: لمحمد أحمد جاد المولى، ومحمد أبو الفضل، وعلي محمد البجاوي، والسيد شحاتة. 3 - المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن: تأليف جولد تسهير ترجمة علي حسن عبد القادر. 4 - ثمار المقاصد في ذكر المساجد: ليوسف بن عبد الهادي. 5 - لمحة من سيرة الملك عبد العزيز: للسيد محيي الدين رضا.

تفسير القرآن الحكيم

بسم الله الرحمن الرحيم تفسير القرآن الحكيم (*) القرآن كتاب الله إلى خلقه، يرسم لهم فيه طريق الهدى والسعادة، أو هو كما وصفه به سبحانه وتعالى: {بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52]، ونِعم البلاغ. نزل هذا الكتاب المقدس في أمة كانت تتقاذفها الأهواء والعصبية، وتعمها الجهالة العمياء، فما أسرع ما وضعهم على المحجة الواضحة والطريق السوي، فصاروا أمة على قلب رجل واحد، كلمتهم واحدة، وهم يد على مَن سواهم. وبعد أن كانوا مستضعَفين يخافون جيرانهم من الفرس والروم وغيرهم، ولا يحميهم منهم إلا بَيْداؤهم المحرقة غزوا أعداءهم، وفتحوا بلادهم، واستنزلوهم عن ملكهم، فصاروا سادة الأرض، كل هذا في بضع عشرات من السنين، وكل هذا بهداية الله لهم أن تَبِعُوا أوامره واستمعوا لكلامه. ثم هذا القرآن أعلى أنواع التشريع في الأرض، وأرقى ضروب الحكمة، فلما اهتدوا به، ومرنت نفوسهم وعقولهم على حكمته ¬

_ (*) مجلة المنار، المجلد الحادي والثلاثون، الجزء الثامن، ص 623 ذو الحجة 1349/ مايو 1931.

كانوا سادة بعقولهم وقلوبهم، قبل أن يكونوا سادة بقوتهم وأَنَفَتهم وجمع كلمتهم. وهو الذي قرر حقوق الإنسان في الأرض، من عدل وحرية ومساواة بين الناس، لا فضل لأحد على أحد إلا باتباعه في خاصة نفسه وفي معاملاته مع غيره وفي كل حالاته. ثم مرت عصور وأزمان، وإذا المسلمون متفرقون، وإذا هم مستعبَدون، وإذا لهم قوانين وتشريع أخذوه عن أعدائهم السابقين، وإذا هم لا يخجلون أن يقلدوا مَن كانوا في الحضيض، إذ هم في الذروة، وإذا هم يهجرون القرآن. ولقد صدق الله سبحانه حين أخبرنا تحذيرًا لنا من أن نُعرِض عن كتابه، بأن الرسول الأعظم سيد الخلق - عليه السلام - سيشكونا إلى ربه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)}. [الفرقان: 30]. تالله لو أن المسلمين رجعوا إلى هداية ربهم وعملوا بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذ أمره ربه بتبيين الكتاب لهم لما كانوا على ما نرى من ضعف واستكانة وذلة، ولما امتلأت قلوبهم رهبة لأعدائهم، ونفوسهم حاجة إليهم. أخذ الصدر الأول والسلف الصالح - رضي الله عنهم - يتعلمون القرآن ويعلمونه للناس، ويرجعون إليه فيما يعرض لهم من شؤون وحوادث، لا يرضون حكمًا في دينهم ودنياهم إلا ما دل عليه القرآن أو جاء عن السنة المطهرة المفسِّرة له، نزولًا على حكم الله، فكان

علماؤهم جميعًا عن هذا المصدر الواضح النقي يصدرون، وكانوا كلهم بهذا مجتهدين. ثم ضعفت النفوس والهمم، فظن بعضهم - عفا الله عنهم - أنهم يعجزون عن أخذ الأحكام من مصدرها الأول ومن منبعها الصحيح، فصار بعض العلماء يقلد مَن سبقه من أئمة الهدى وأعلام الإسلام، عن غير أمر منهم أو مشورة، بل مع نهيهم - رضي الله عنهم - عن التقليد. فكان هذا بدء الضعف، ثم توالت العصور، فإذا المقلد مقلَّد، وإذا الأمر فوضى، وإذا هم فرق وشيع، وبلغ بهم الأمر إلى التناحر بالسيوف نصرًا لعصبية المذاهب! وأمامك تاريخ المسلمين، فسترى فيه توالي الأرزاء والمحن، فكلما بعدوا عن كتاب ربهم أبعد الله عنهم العز والنصر، وهكذا كان ميزان رقيهم وانحطاطهم. ولما ضعفت السليقة العربية في المتكلمين بهذه اللغة، أنشأ علماء الإسلام يفسرون لهم كتاب الله، وكلٌّ على قدر همته، فكثرت أنواع التفاسير للسلف والخلف، متقدمين ومتأخرين، وتراجم العلماء والأئمة بين أيدينا - أو أكثرها - وقد يندر جدًّا أن نجد منهم مَن لم يؤلف كتابًا في التفسير، فلم تُعْنَ أمة بكتابها من الوجهة العلمية بمثل ما عنيت الأمة الإسلامية بالقرآن، ولم تفرط أمة في حفظ ما كُتب شرحًا لكتابها بمثل ما فرطنا، فأين هذه التفاسير الجليلة للأئمة المتقدمين؟ !

ذهب أكثرها حتى لم نجد تفسيرًا لرجل من الأئمة المجتهدين إلَّا تفسير أبي جعفر الطبري المتوفَّى سنة 310، وما بقي بعده فهو لمؤلفين ممن سموا أنفسهم مقلدين. ولقد كان المتقدمون يعنون في أكثر أمرهم بتفسير القرآن بما ورد من أحاديث مرفوعة، وآثار موقوفة، وباستنباط أحكام الفقه منه، تعليمًا للناس كيف يفهمون وكيف يصلون إلى الاجتهاد. ثم ترك المتأخرون ذلك ولم يكن همهم إلا الإطالة في أبحاث لفظية لا جدوى لها، ولا فائدة إلا في النادر والشذوذ. حتى إن كتب التفسير التي بقيت مشتهرة فيهم وكثيرة بين أيديهم لا يطمئن الباحث المحقق إلى فهم معنى آية منها، ولا إلى استنباط حكم، بل ولا إلى الثقة بالنقل، فقد ملأ بعضهم تفسيره بقصص مكذوبة مفتراة، وبأحاديث موضوعة، من غير تحرٍّ في الرواية، ولا استعمال لموهبة العقل السليم. وبالله، لقد أدْركنا الأزهرَ - وهو المدرسة الإسلامية الفذة في هذا البلد - يجعل التفسير علمًا لا يُؤْبَه له، وآية ذلك أنهم كانوا يجيزون الطالب بشهادة "العالِمية" وإن كان لا يفقه في التفسير شيئًا، وما عرف كيف ينبغ في المماحكات اللفظية. ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته، وعلمًا من أعلام الهدى، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي كتابها، ودلها على الطريق

القويم في فهمه وتفسيره، وكان منارًا يُهتدى به في هذا السبيل، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير، وكان - فيما أظن - يرمي بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك، فينهجوا نهجه، ويسيروا على رسمه، ولكنهم لم يأبهوا له إلّا قليلًا، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ، وبقي دهماؤهم على ما كانوا عليه. ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب "المنار" فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام، وزادها وضوحًا وبيانًا، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة، وجمعها في أجزاء على أجزاء القرآن الكريم، ومضى لطَيَّته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه، فكأنه أُلهم من روحه، لم يكل ولم يضعف، وها هو الآن قد أتم منه أجزاء تسعة، وكثيرًا من العاشر. فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طُبع على الإطلاق، ولا أستثني؛ فإنه هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح؛ إذ هو كتاب هداية عامة للبشر، لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين. ثم هو يُظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة، غير مقلد ولا متعصب، بل على سنن العلماء السابقين: كتاب الله وسنة رسوله. ولقد أوتي الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها وتمييز الصحيح من الضعيف منها - ما جعله حجة وثقة في هذا

المقام، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه. ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله فيها، وأرشد إلى الموعظة بها، وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها، وأعلن حجة الله على الناس. فهو يسهبُ في إزالة كلَّ شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر، ممن اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنه، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء، مع البلاغة العالية، والقوة النادرة. لله دره! وأما الرد على النصارى واليهود، فإنه قد بلغ فيه الغاية، وكأنه لم يترك بعده قولًا لقائل، وذلك لسعة اطلاعه على أقوالهم وكتبهم ومفترياتهم. وهذا قيام بواجب قصَّر فيه أكثر المسلمين، في الوقت الذي تقوم فيه أوربة بحرب المسلمين حربًا صليبية - قولًا وعملًا - وتحاول سلخ المسلمين عن دينهم وإن لم يدخلوا في دينها، وها نحن أولاء نرى الجرأة العظمى بمحاولة تنصير أمة إسلامية قديمة متعصبة للإسلام، وهي أمة البربر المجيدة. وإن قيام أستاذنا بالرد عليهم بهذه الهمة من أجلَّ الأعمال عند الله ثم عند المسلمين. ولقد عرض لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في شؤون المسلمين فأفسدت على كثير من شبابهم هداهم ودينهم، فحللها تحليلًا دقيقًا وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن

والسنة، وأقام الحجة القاطعة على أن الإسلام دين الفطرة، وأنه دين كل أمة في كل عصر، ونفى عن الإسلام كثيرًا مما ألصقه به الجاهلون أو دسه المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من أبنائه عن سبيله، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة؛ ليضموهم إلى صفوفهم، وينزعوهم من أحضان أمتهم. وإنه لكتاب العصر الحاضر، يفيد منه العالم والجاهل، والرجعي والمجدد، بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين. وأنا أرى من الواجب على كل مَن عرف حقائق هذا التفسير، أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته والاستفادة منه، وبث ما فيه من علم نافع، لعل الله أن يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها بالجهالات المتكررة. ولو كانت حكومتنا حكومة إسلامية حقيقة لطلبنا منها أن يُدرس في مدارسها ومعاهدها حق الدرس، ولكنا نعلم أنها لا تلقي للدين بالًا، بل لا تدفع عنه مَن أراد به عدوانًا، والطامة الكبرى أنها تحمي مَن يعتدي عليه بقوانينها الوضيعة. فلم يبق للمسلمين رجاء إلا أن يعملوا أفرادًا وجماعات في سبيل الدفاع عنه، وإظهار محاسنه للناشئة التي تكاد تندُّ عنه، وهم عماد الأمم. ولعلِّي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير، مما لم يشفِ فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث فيها، وذلك بحول الله وقوته.

قصص القرآن

قصص القرآن (*) للأساتذة محمد أحمد جاد المولى بك، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وعلى محمد البجاوي، والسيد شحاته (¬1) {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}. [يوسف: 111]. لم ينزل القرآن كتابًا لتسجيل تأريخ الأمم السابقة، وإنما هو هداية عامة للبشر، فيه تفصيل كل شيء، وفيه هدى ورحمة، وقصص من أنباء الرسل السابقين، والأقوام الغابرين، ما يعتبر به الناس، فينظرون إلى حاضرهم وإلى مستقبلهم، على ضوء ماضيهم وماضي غيرهم من الأمم. وأعرض الناس في أزماننا هذه عن العبرة بالقرآن، وعن التأمل في آيات القرآن، وعن الاتعاظ بما جاء من النذر، صاروا - إلَّا أقلهم - لا يعرفون القرآن إلَّا أن يتغنى به المتغني في المآتم وبعض المجالس، وفي إذاعة الصباح والمساء من الراديو. ¬

_ (*) مجلة الكتاب، ذي الحجة 1366 هـ، نوفمبر 1947 م. (¬1) 426 صفحة من القطع الكبير. دار الكتب المصرية. القاهرة 1946

ثم هُمْ لا يكادون يستمعون إليه، إلَّا أن يكون المتغني - ولا أقول القارئ حسن الصوت - متلاعبًا بالنغمات، عابثًا بأوتار صوته، مغيرًا من معاني القرآن بما يجهل من أحكام الوقف والأداء، لا يهمه إلا الطرب، ولا يهمهم إلا الطرب. ذلك عندهم معنى ترتيل القرآن. أما العبرة، وأما الموعظة، وأما الفقه فيه والاهتداء بهديه، فذلك آخر ما يفكرون فيه. رأى هذا أو بعضه مؤلفو هذا الكتاب، فرأوا أن يعالجوا الداء من ناحية من نواحيه: ناحية القصص؛ فوضعوا كتابهم النفيس، رجاء أن يكون له أثر في تربية النشء وتهذيبه، وكلهم معلم مدرس. وأرى أن قد كان له أثر جليل، فإن هذه الطبعة هي الطبعة الثالثة. وقدموا بين يدي الكتاب كلمة أبانوا بها عما إليه قصدوا: "امتاز قصص القرآن الكريم بسموّ غاياته، وشريف مقاصده، وعلو مراميه: اشتمل على فصول في الأخلاق مما يهذب النفوس، ويجمّل الطباع، وينشر الحكمة والآداب، وطرق في التربية والتهذيب شتى، تساق أحيانًا مساق الحوار، وطورًا مسلك الحكمة والاعتبار، وتارة مذهب التخويف والإنذار، كما حوى كثيرًا من تاريخ الرسل مع أقوامهم، والشعوب مع حكامهم، وشرَح أخبار قوم هُدوا، فمكن الله لهم في الأرض، وأقوام ضلوا، فساءت حالهم، وخربت ديارهم، ووقع عليهم العذاب والنكال، يضرب بسيرهم المثل، ويدعو الناس إلى العظة والتدبر".

"كل هذا قصَّه في قول بيَّنٍ، وأسلوب حكيم، ولفظ رائع، وافتنان عجيب؛ ليدل الناس على الخُلق الكريم، ويدعوهم إلى الإيمان الصحيح، ويرشدهم إلى العلم النافع، بأحسن بيان، وأقوم سبيل، وليكون مثلهم الأعلى فيما يسلكون من طرق التعليم، ونبراسهم فيما يصطنعون من وسائل الإرشاد". "ولكنه - على كريم مقاصده، وتنوع مذاهبه، وافتنان طرقه - قد وجد من أبناء هذا العصر من يهجره إلى غيره، ويتركه إلى سواه، مما وضعه الناس من قصص فيها الحق والباطل، وفيها الصحيح والزائف. هذا على الرغم من أن القرآن الكريم يعمر المدارس والمساجد، والمنازل والمجالس، ولا يجد منهم من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد". "ولما رأينا من إقبال الناس على قراءة القصص، ولما شاهدناه من انصرافهم عن قصص القرآن - على ما فيه من شريف المقاصد والأغراض - وضعنا هذا الكتاب قصصًا شتى في ضوء القرآن وهديه، وعلى طريقته الحكيمة، من الاقتصار على بسط موضع العبرة إلا أن يكون موضعًا يحتاج إلى بيان، أو إشارة يعوز فيها القارئ التوضيح، وجلوناه في ثوب أدبي، وأسلوب سائغ، ولم نخرج فيما كتبنا عن آراء انتخلناها من كتب التفسير المشهورة، وأخبار رويناها عن ثقات المؤرخين". وقد فعلوا وأوفوا بما وعدوا، وأراهم كانوا شديدي الحيطة من أن تدخل عليهم الإسرائيليات، التي دسها أعداء الإسلام ليفسدوا بها التاريخ الصحيح؛ فكان كتابهم كتابًا يستأهل الثناء.

المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن

المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن (*) تأليف جولد تسيهر (¬1) يعرض المستشرقون لعلوم الإسلام وتاريخ الإسلام عرضًا علميًّا في بعض أحيانهم، وعرضًا كله غرض في بعض أحيانهم. ولقد كان المسلمون - ولا يزالون - في حاجة إلى معرفة آراء هؤلاء، سواء منها ما كان رأيًا عن معرفة وثبت وإنصاف، وما كان عن هوى وغرض، حتى يدركوا مقاصد القوم ونياتهم نحوهم ونحو بلادهم، فما أُتي المسلمون في القرنين الماضيين إلَّا من جهلهم ما يضمر بعض أولئك القوم لهم وما يقولون فيهم. وكنا - نحن الأزهريين في هذا العصر - نجتهد بكل وسيلة نستطيع، أن نتعرف آراء أولئك في تاريخنا وعلومنا، ونقرأ كل ما يترجم عنهم في الكتب والصحف والمجلات، ونتصل بمن عرفوا اللغات الأجنبية وبمن تعلموا في أوربة من المصريين، ونقتني آثارنا النفيسة التي ينشرها المستشرقون، نستطلع بذلك كله الأخبار والآراء، ثم بُعثت بعض البعوث منا إلى أوربة للدرس والمعرفة والتنقيب، وعاد بعض من بعث، فتوقعنا أن يقوموا ببعض هذا ¬

_ (*) المقتطف، المجلد الخامس بعد المائة، يونيو - ديسمبر 1944. (¬1) ترجمة علي حسن عبد القادر (16 × 23 سم، 184 ص، القاهرة سنة 1363 هـ/ 1944 م).

الواجب، واجب تعريفنا تعريفًا علميًّا بآراء علماء أوربة فيما عرضوا له من دقائق العلم الإسلامي، فلم يفعلوا، ولا نزال نتوقع أن يفعلوا، ولعل لهم من أحداث هذه الحرب بعض العذر، فقد كان أثرها شديدًا على الورق والطبع والنشر. ولكن أخانا علي حسن عبد القادر لم تقف دونه العقبات فيما يستطيع، فأخرج لنا هذا الكتاب في هذا العام، ونحن على ثقة أنْ سيتبعُه كتبًا أخرى، ولعل في نشاطه وعمله هذا ما يحفز إخوانه على أن يقوموا بحركة مباركة في الترجمة والنشر، قيامًا ببعض الواجب عليهم نحو أزهرِهم. وقد اختار المترجم هذا الكتاب؛ لأنه "لشيخ من شيوخ المستشرقين (وهو مجري) معروف بطول الباع معرفة مستفيضة، وقد كان هذا الكتاب آخر كتاب له، ملأه بتجاربه في البحوث الإسلامية ... حتى إنَّه ليعدُّ كافيًا لتعرف آراء المستشرقين، ومصادرهم ومؤلفاتهم، وزبدة ما يمكن أن يعرضوا له من نقد وتقدير في هذا الصدد". وفي هذا الكتاب من الخطأ ما يحتاج من أجله إلى درس كل مسألة من مسائله درسًا دقيقًا وافيًا، حتى لا يغتر قارئه بظاهر القول؛ فيقع فيما وقع فيه المؤلف، ولعلنا نوفق إلى صنع ذلك في إحدى المجلات الخاصة بمثل هذه الأبحاث أو في كتاب خاص، بعون الله وتوفيقه. ولم يكن المجال واسعًا في ترجمة الكتاب أن يتعقب الأستاذ

المترجم مسائله تفصيلًا، ولكنه تعقبه إجمالًا في عشر صفحات ألحقها بآخر الكتاب، أجاد فيها جدًّا قال: "إن نظرة عابرة في هذا الكتاب تجعل القارئ لأول وهلة يقف موقف الحائر المتردد في الحكم عليه: فبينما نرى فيه اطلاعًا واسعًا في الكتب الإسلامية، وفكرة طريفة في عرض الموضوع عرضًا علميًّا، نجد في الوقت نفسه أن المؤلف قد تخلى عنه قلم العالم النزيه في نقد المسائل نقدًا سليمًا ... ولعل هذه الفرصة في عرض هذا الكتاب تبين للناس بعض ذلك، حتى يقفوا موقف الحيطة والحذر إزاء ما يقرؤون (للمستشرقين)، وموقف الريبة لهم، حتى يتبينوا، ويعرضوا ذلك على مصادره الأصلية" ص 174. والذي نراه نحن فوق هذا أن الهوى قد يغلب حتى يضع المؤلف موضع الشك في أمانته في اختيار ما ينقل. فقد عرض المؤلف - مثلًا - لأول سورة الروم {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ}. فالذكر المعروف في القراءة والتفسير والسير والتاريخ: أن الفرس انتصروا على الروم، ففرح المشركون بهزيمة النصارى أهل الكتاب، وحزن المسلمون، وأن الآية بشرتهم بنصر الروم على الفرس في بضع سنين. ولكن المؤلف لا يرضيه أن يسير على الجادة الواضحة، ويريد

أن يتبع طريق التشكيك في قراءات القرآن فيقول ص 19: "ولكن قراءة هذه الآية على هذا الشكل (¬1) لم يتفق عليها عند جميع القراء فقد قرأها أكثرهم: (غَلَبَتْ) (¬2) ... وأن ذلك يتعلق بانتصار الروم على بعض القبائل العربية بالشام وأصحاب هذه القراءة يذكرون أن فيها تنبؤًا للنبي بما حصل بعد تسع سنين بعد هذا الوحي من انتصار المسلمين على البيزنطيين. ونحن نرى أن القراءتين متناقضتان في المعنى، فالغالبون في القراءة المشهورة هم المغلوبون في القراءة الأخرى، ومتعلق الفعل في قراءة على الفاعلية، وفي أخرى على المفعولية". وهذا الذي حكاه غير صحيح، أعني؛ ادعاءه أن أكثر القراء قرؤوها (غَلَبَتْ) بالبناء للفاعل، و (سَيُغْلَبونَ) بالبناء للمفعول، وليس هذا عن سهو منه أو قصور في البحث، فإن اطلاعه واسع جدًّا على كتب التفسير والقراءات، كما يبدو من كتابه، وإنما قصد إلى غير الصحيح. وذلك أن كل القراء السبعة ورواتهم، وسائر القراء العشرة، وسائر القراء الأربعة عشر لم يقرؤوها إلا {غُلِبَتِ} بالبناء للمفعول، و {سَيَغْلِبُونَ} بالبناء للفاعل، قولًا واحدًا وقراءة واحدة، والقراءة ¬

_ (¬1) أي قراءة "غلبت" بالبناء للمفعول، و"سيغلبون" بالبناء للفاعل. (¬2) أي قراءته "غلبت" بالبناء للفاعل، و"سيغلبون" بالبناء للمفعول.

الأخرى التي نسبها إلى أكثر القراء قراءة شاذة جدًّا نقلها ابن خالويه في كتاب "القراءات الشاذة" الذي نشرته جمعية المستشرقين الألمانية بتصحيح المستشرق برجشتراسر سنة 1934 ص 116، ونسبها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب وابن عمر، وهذه نسبة ضعيفة لم تثبت بإسناد صحيح ولا ضعيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروها أحد من أهل الحديث. نعم، روى الترمذي في سننه بإسناده عن أبي سعيد ما يشبه هذا، وحكى عن شيخه نصر بن علي الجهضمي أنه كان يقرؤها (غَلَبَتْ) بفتح الغين، ولكن إسناد حديثه ضعيف جدًّا، وأخطأ الترمذي فحكم بأنه حديث حسن (انظر: الترمذي ج 2 ص 154، 206 طبعة بولاق، وشرح المباركفوري على الترمذي ج 4 ص 59 - 60، 160 طبع الهند). وقد رد على الترمذي وبيّن أن الحديث ضعيف. وروى ابن جرير الطبري في التفسير ج 21 ص 11 من طريق "الحسن الجفري عن سليط" أنه سمع ابن عمر يقرأ ذلك، وهذا إسناد ضعيف جدًّا، الحسن بن أبي جعفر الجفري ضعيف منكر الحديث، وشيخه سليط مجهول، فمثل هذا الإسناد لا تثبت به قراءة ولا كرامة، ثم بين الطبري الصحيح من القراءة فقال: "والصواب من القراءة في ذلك عندنا، الذي لا يجوز غيره {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)}. بضم الغين؛ لإجماع الحجة من القراء عليه". لا نظن بعد هذا أن مؤلف الكتاب أخطأ فيما حكى، إنما الواضح الذي لا نشك فيه أنه علم الصحيح وعدل عنه ونقل غيره

عارفًا أن القراء أجمعوا تقريبًا على القراءة المعروفة، ثم نسب القراءة الشاذة المنكرة إلى أكثرهم. وبعد: فإن في الكتاب حافزًا إلى البحث والتوسع، بما يضمه من نقول وآراء لم ينشر من مثلها في العربية كثير، ويجدر بالعلماء أن يعنوا به وبأمثاله ليستفيدوا طرق البحث والنقد، بما يرسم من المناهج، ثم ليعرفوا ما يقال من حق ومن باطل، وليروا ما يثار من شُبه وشكوك، يجب عليهم أن يدفعوها، وفاءً بميثاقهم، وأداءً لأمانتهم. * * *

ثمار المقاصد في ذكر المساجد ليوسف بن عبد الهادي

ثمار المقاصد في ذكر المساجد (*) ليوسف بن عبد الهادي (¬1) قصد المؤلف إلى ذكر المساجد التي عرفت في عصره (القرن التاسع الهجري) في دمشق وما قرب منها، أحصاها إحصاءً جيّدًا، وأرخها تأريخًا مختصرًا، ثم ختم الكتاب بفصول في أحكام المساجد، ما يجوز فيها وما لا يجوز، وآداب دخولها وآداب المكوث فيها، إلى نحو ذلك مما عرف في كتب الفقه. والكتاب تحفة طريفة من آثار علماء الشأم الأعلام، مؤلفه نِدُّ السيوطي وشبهه وعصريّه، كلاهما عالم واسع الاطلاع، مؤلف مكثر، يخوض في كل علم، ويؤلف في كل فنّ. ابن عبد الهادي مات سنة 909، والسيوطي مات سنة 911، وأكثر مؤلفاتهما جمع أو تلخيص، وكلاهما أنتج كثيرًا، ولكن السيوطي أشيع ذكرًا، وأبعد صيتًا بما نشر من مؤلفاته. وميزة هذا الكتاب أنه ابتكار جميل، لم يسبق إليه المؤلف فيما نعلم. وكم تمنينا على وزارة الأوقاف المصرية أن تصنع مثل هذا ¬

_ (*) المقتطف، المجلد الخامس بعد المائة، يونيو - ديسمبر 1944. (¬1) بتحقيق: محمد أسعد طلس (16 × 25 سم، 332 ص، نشر المعهد الإفرنسي بدمشق، بيروت 1943).

الصنيع، تحصي مساجد المملكة المصرية في كتاب مستوعب يذكر فيه تاريخها مفصلًا، وأماكنها مبينة محدودة، وقد بلغني أخيرًا أنهم فكروا في ذلك واتجهوا إلى تحقيقه، ولعلهم فاعلون إن شاء الله. وأما إخراج الكتاب فقد أوفى فيه الدكتور أسعد على الغاية، إتقان مع أناقة، في تحقيق علميّ تاريخيّ دقيق، زيَّن حواشيه بنفائس من نتاج بحثه في مصادر التاريخ وغيرها، ومن آرائه ودراساته ومشاهداته، ونحن نقدِّر ما لقي من صعوبات في إخراج الكتاب؛ فإنه نشره عن نسخة وحيدة من مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق وهي بخط المؤلف، وخطه من الخطوط التي تصعب قراءتها إلَّا على الخبراء الذين مارسوا مثل هذه الخطوط، بل هو جديرٌ بأن يوصف بما وصفه به الدكتور أسعد أنه "رديء الكتابة"، وقد أظهرنا على مثال منه بتصوير الصفحتين الأخيرتين من الكتاب. وكلمة الدكتور أسعد في أواخر مقدمته تصور بعض ما لقي من صعوبة، وما بذل من جهد: "والنسخة التي نقدمها اليوم لقراء العربية نسخة وحيدة في مكاتب العالم، رأيتها منذ سنوات فأعجبتني وعزمت على نشرها، وأخذت أفتش عن مصادر أستعين بها في عملي هذا فلم أهتد إلى شيءٍ سوى تاريخ ابن عساكر، وتنبيه الطالب وإرشاد الدارس للنعيمي وبعض مختصراته، ومنادمة الأطلال لبدران، وخطط الشام لكرد علي، فقرأت هذه المصادر كلها قراءة أعانتني على اكتشاف بعض الأسماء والأمكنة، وما اكتشاف هذه الأمكنة بالأمر

السهل؛ فإن للبلاد والأرض انقلابًا وتطورًا عجيبًا كما للإنسان - على رأي ابن خلدون - والله وحده يعلم كم كانت مهمتي عسيرة، وما أقول: إني بلغت فيه الغاية. ولكنني بذلت الجهد، واستعنت بالمصادر من شرقية وغربية، وسألت العلماء وهم جد قليلين في هذا الباب، فكان لي من ذلك بعض العون". وقد وضع للكتاب ذيلًا، وهو حافل نفيس؛ إذ أحصى فيه مساجد دمشق الموجودة إلى نهاية سنة 1361، وقد زارها مسجدًا مسجدًا، وهي أكثر من ثلاثمائة مسجد، وصفها وصفًا كاشفًا، وحاول تعيين تاريخها مما وجد في نصوص المصادر التاريخية، ومما قرأ على جدرانها من كتابات ونقوش، ومن طرز البناء وأساليب عمرانه، وذكر من النقوش والكتابات ما لم يكن منشورًا في كتاب فرنسي سماه، وليته استوعب ذكر النقوش والكتابات في هذا السفر القيم؛ ليكون عمله تامًّا وافيًا، ولأنه ليس من المفروض على الباحثين والمنقبين من الأمم العربية أن يعرفوا اللغة الفرنسية، أو أن يستوعبوا قراءة ما كتب بها في علومهم وآثارهم ومفاخر بلادهم. وقدَّم الدكتور أسعد الكتاب بمقدمة جيدة، ترجم فيها مؤلفه ترجمة وافية، وأحصى مؤلفاته الباقية في دار الكتب الظاهرية، وعرَّفها للقارئ تعريفًا كافيًا. وصنع للكتاب فهارس متقنة، للبقاع والمساجد والأعلام، وختم الكتاب بمصور جغرافي "خريطة" ذكر فيها المساجد الموجودة

بدمشق، قسّمها إلى مربعات صغيرة رمز لها بحروف وأرقام، وذكر هذه الحروف والأرقام عقب الكلام على كل مسجد؛ ليسهل على القارئ تعيين موضع المسجد في "الخريطة". ولكننا لاحظنا أن "الخريطة" موضوعة في الأصل باللغة الفرنسية؛ وأنها صنعت بين سنتي 1930 و 1934، فهي على أكثر تقدير تنتهي في سنة 1353 هـ، وقد صرح المؤلف أنه أحصى مساجد دمشق إلى سنة 1361 هـ. وقد علمنا أن هذا العمل الجليل قد توِّج بقرار نبيل من المجمع العلمي العربي بدمشق تنفيذًا للمادة 48 من النظام الداخلي للمجمع، وهي تنص: "أن المجمع يوزع سنويًّا ثلاث جوائز نقدية على ثلاثة مؤلفين سوريين صنفوا أو ترجموا كتبًا قيمة، وعلى ذلك منح المجمع الدكتور أسعد طلس إحدى الجوائز الثلاث لسنة 1944؛ لإجادته في نشر هذا الكتاب". وهذا القرار النبيل وسامٌ أدبيّ ناله المحقق عن جدارة، وشهادة وضعت موضعها، ليس تقديرها بما فيها من جائزة مادية، بل بصدورها عن رجال هم من أساطين العلم. * * *

لمحة من سيرة الملك عبد العزيز

لمحة من سيرة الملك عبد العزيز (*) تأليف السيد محيي الدين رضا (¬1) من شهرين في صفر سنة 1365 (يناير سنة 1946) استقبلت مصر سيد الجزيرة الملك عبد العزيز آل سعود، وبذلت ما تستطيع من جهد في الحفاوة بالضيف الكريم، فرحة مسرورة بمقدمه، وبما ينطوي تحته من معان قومية سامية، وكان لكتابها وأدبائها وشعرائها وصحافييها القدح المعلى في الإشادة بفضل أسد الجزيرة ومناقبه. وهذا الكتاب أثر من آثار هذه الزيارة المباركة، أجمل فيه المؤلف سيرة الملك العظيم، ونوه بمواهبه ومناقبه، وبما يلقى الحجاج إلى بيت الله الحرام من أمن شامل وطمأنينة نادرة، بعد أن كان الحجاز دار خوف ووجل، وكان الحاجّ لا يأمن على نفسه ولا ماله، حتى جاء عبد العزيز، فصار مضرب المثل في الأمن، وتحدث عن حزم الملك وشدة بأسه في القضاء على المفاسد الخلقية، وهي العلة الأولى التي كانت سببًا في ضعف شأن العرب، وعن اهتمام جلالته بإنجاح بعض الزراعات المصرية في نجد والحجاز، والعمل على توفير المياه لها، ثم وصف رحلة الضيف العظيم إلى مصر في ¬

_ (*) مجلة الكتاب مارس 1946. (¬1) 84 صفحة من القطع المتوسط. مطبعة العلوم. القاهرة 1946.

المرة الأولى، حين جاء بصفة غير رسمية، فقابل صاحب الجلالة الملك فاروق، والمستر رزفلت الرئيس السابق للولايات المتحدة، والمستر شرشل الرئيس السابق للوزارة الإنكليزية. ثم أشاد بما يولي جلالة الملك عبد العزيز من عناية بالغة بفلسطين، وأثبت في الكتاب النص الرسمي لكتاب جلالته إلى المستر رزفلت في شأنها، وإجابة الرئيس رزفلت، وهما مستندان رسميان لهما قيمتهما في هذا الموضوع الخطير. ووصف المؤلف أول مقابلة تشرف فيها بالمثول بين يدي جلالته، ثم فصل مسألة اللاجئ السياسي "رشيد عالي الكيلاني"، ثم عرض لما يكنه جلالته من الحب والود لبلاد العروبة عامة، ولجلالة الملك فاروق خاصة. وختم الكتاب بالحديث عن الجيش السعودي، وعن صاحب السمو الأمير فيصل نائب جلالة الملك في الحجاز، وعن صاحب السمو الأمير منصور، ثم عن بعض رجال الدولة السعودية الكبار، الذين لهم أثر جميل في نهضة هذه المملكة، التي يتمنى لها العرب جميعًا كل خير وسعادة. * * *

نقد الكتب والمقالات

نقد الكتب والمقالات 1 - أي نعم في التأني السلامة 2 - "كلمة" في الرد على العقاد 3 - تفسير المنار 4 - ديوان أبي فراس الحمداني تحقيق سامي الدهان 5 - الفتح المبين في طبقات الأصولين تأليف عبد الله المراغي 6 - نِحَل عبر النَّحْلِ للمقريزي تحقيق جمال الدين الشيال 7 - مقتل مالك بن نويرة وموقف خالد بن الوليد د. محمد هيكل 8 - الفاروق عمر د. محمد هيكل (1)، (2) 9 - أسامة بن منقذ تأليف محمد أحمد حسين 10 - الخطيب البغدادي تأليف يوسف العش 11 - دراسات عن مقدمة ابن خلدون 12 - عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيئته قبل البعثة 13 - فقه القرآن والسنة والقصاص محمود شلتوت 14 - استدراك على مقال 15 - تحقيق سن عائشة 16 - صَدَى النقد 17 - تصحيح القاموس 18 - ابن محيصن

أي نعم: في التأني السلامة

أي نعم: في التأني السلامة (*) بهذا العنوان نشرت جريدة (الوفد المصري) مقالًا للأستاذ المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر يرد على كلمة الأستاذ العقاد التي نشرها في مجلة الرسالة بعنوان (في التأني السلامة) ردًا - زعم - على نقد الأستاذ الشيخ شاكر لكلمة جانبت الصواب، وتجافت عن الحق في موضع من مواضع كتابه (الصديقة بنت الصديق) وهذا النقد نشرناه في العدد الماضي من (الهدي النبوي) وها نحن أولاء نطرف القراء بهذا المقال القيم، حتى يعرفوا الفرق بين تهور الباطل، ورزانة الحق. ولقد قدمت جريدة الوفد لهذا المقال العلمي النفيس بتقدمة بارعة جاء فيها: (ونحن يسرنا أن ننشر هذا النقد القويم، ويسرنا أن يتصدى لذلك أستاذ محقق له علمه ورأيه مثل الأستاذ أحمد محمد شاكر؛ لأن المسألة ليست مسألة العقاد وما يكتب، بل ليست مسألة أشخاص الذين كتب عنهم في حدودهم الذاتية، ولكنها مسألة تاريخ حافل طويل، وما يتصل به من تشريع للناس، وقدوة يأخذون أنفسهم بها، وتحقيق فرغ له الثقات من العلماء والمحققين). كتبتُ كلمة للأخ الأديب الأستاذ (قاف) نقدًا لخبر حكاه الكاتب الجريء، الأستاذ عباس العقاد في بعض كتبه، ونقدت طريقه وطريق ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة الثامنة، العدد 3، ربيع الأول 1363، ومجلة الثقافة، العدد 267، 8/ 2/ 1944.

أمثاله، في الجرأة على السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بالإثبات والنفي من غير دليل ولا حجة، إلا ما يرضي آراءهم. ونشر الأستاذ (قاف) كلمتي في العدد 264 من الثقافة وعلق عليها برأيه فيما نقدت، فثارت ثائرة الكاتب الجريء وكتب مقالًا طويلًا في العدد 551 من الرسالة، يدعي فيه أن الحقد عليه هو دافعي إلى النقد، وأني تتبعت كتبه التي نشرها في العبقريات فلم أجد إلَّا هذه الغلطة الواحدة (وإن كان لا يسلِّم بأنها غلطة) ثم فخر فخرًا عجيبًا بما حكم على الروايات الصحيحة من الكذب أو الخطأ، في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج عائشة وهي بنت ستة سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين، فَكذّب عائشة أو خطأها فيما حكت عن نفسها، مما ثبت عنها بالأسانيد الصحاح، التي ادعى أننا نجهل ما وراءها "من الزور الأثيم والبهتان المبين"، ثم ملأ مقاله بعد بما نعرض عنه، بل نعفو ونصفح، وأحب أن يعلم (الأستاذ عباس محمود العقاد) أن (أحمد محمد شاكر) لا يحمل في قلبه ضغنا ولا حقدًا على أحد من الناس، كائنًا من كان، صغر أو كبر، وأنه جرى على الطريقة التي نعيبها عليه وعلى أمثاله من الجرأة في الاستنباط من غير حجة ولا دليل؛ إذ ادعى أن كلمتي تشهد عليَّ وعلى طويتي وبواعث نقدي، وأن ما نقله منها كاف للدلالة على دخائل الصدور وكوامن النيات، فبهتني بما لا دليل عليه في شيء من كلمي، وبما ليس من سجيتي وخلقي، وسواء عليَّ بعد ذلك أرَضي أم سخط، آمن أم لم يؤمن، وإنما أنا رجل أكتب في العلم، وأجتهد في البحث لله وفي سبيل الله.

ومهما يقل أو يفعل فما هو بمستطيع أن يثير حفيظتي عليه أو أن يخرجني عن جبلتي، وعما رسمت لنفسي من حدود. وليعلم - غير معلم - أن المطبعة العربية تخرج للقراء من الكتب والكتابة ما يعجز أسرع القارئين، وإنا نقرأ الكثير منه، إن لم يكن أكثره، وإنا لو شئنا أن ننقد مواضع النقد فيما نقرأ لنفد العمر قبل أن ينفد النقد، وإنا قرأنا ما كتب في العبقريات ولم نرض عنه كله، ولم نسخط عليه كله، وإنا رأينا له أغاليط، وأعاجيب، لعلنا لم ننشط إلى تتبعها عليه، وقد نفعل إن شاء الله. ولكنني أحب أن يثق بأن ما وصفته به إجمالًا عن خطته في البحث حق كله: أعجبه رأيي أو لم يعجبه. وبعد؛ فسنعود إلى ما نحن بسبيله من البحث العلمي في القصة التي روى، والشعر الذي نسب إلى عروة وإلى المصدر الذي أشار إليه في رده؛ ليعرف مبلغ ما في قوله وروايته من قوة وضعف، ومن صحة وبطلان، ولنظهر على ما في كتبه من طرق البحث والتحري والتوثق، حتى يقدرها الناس قدرها. فقد روى الكاتب الجريء هذه القصة ثلاثة مرات، نحكيها عنه بلفظها أولًا، ثم نذكر المصدر الذي أشار إليه، ثم ما رأينا في مصادر أُخر. قال في كتاب (عبقرية الصديق) ص 209 - 210 ما نصه بغلطه: (فمن ذلك أنه كان - عليه السلام - يصلح نعله في يوم قائظ، فتندى جبينه، وتحدر العرق على خده، وهي تلحظه من قريب، وكان بها وجدًا عليه، فسألها: "ماذا دهاك؟ " فقالت: لو رآك الشاعر

لكنت المعنيّ بقوله يا رسول الله. فعاد يسألها: "أي قوله؟ " فأجابت: حين يقول: فلو سمعوا في مصر أوصاف خده ... لما بذلوا في سور يوسف من نقد لوامى زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي فقام النبي إليها يقبل ما بين عينيها ويقول لها: "سررتني يا عائشة سرك الله". وأعترف للأستاذ العقاد وللقارئين الكرام أني قرأتها في ذلك الكتاب عقيب صدوره، فلم ألق لنقدها بالًا وإن وقع في نفسي إذ ذاك أنها تشبه ما نقرأ من الأحاديث الموضوعة، بما يدركه عقل رجل اشتغل بعلوم الحديث أكثر من ثلاثين سنة، وصارت له فيها فطرة خاصة، وملكة غالبة، يفقهها أهل العلم. ثم رأيته أعادها بشكل آخر في كتابه (الصديقة) ص 52 - 53 فقال: (وكانت - يعني عائشة - تحفظ من شعر عروة بن الزبير نفسه، وتسوق الشاهد منه في موقعه، كما قالت وهي ترى النبي - عليه السلام - تندى عرقًا في يوم قائظ، وقد جلس يصلح نعله: لو رآك عروة لكنت المعنيَّ بقوله: (وذكر البيتين) ولكنه ذكر في الأول كلمة (سوم) على الصواب بدل كلمة (سور) التي هي خطأ مطبعي واضح، وذكر في البيت الثاني كلمة (لواحي) بدل (لوامى)، ولست أدري أيتهما في روايته أصل، وأيتهما تحريف، ثم عاد إليها في الكتاب

نفسه ص 71 فقال: (وتقدم أنها رأته في يوم قائظ وقد توهج خده، فقالت تتمثل بكلام عروة بن الزبير) وأعاد البيتين. فحين قرأت هذا مع ذكر عروة لفت نظري الخطأ الواضح البديهي، إذ لا يجهل أحد ممن يعرف رواة الحديث أن عروة بن الزبير من التابعين، وليس من الصحابة، فمن المحال عقلًا أن يكون له شعر في حياة رسول الله تنشده إياه عائشة إذ لم يكن وجد بعد، سواء أصحت نسبة الشعر إليه أم بطلت، فبحثت وحققت ثم كتبت نقدي. وأعترف للأستاذ العقاد مرة أخرى أني لم أُراجع (شرح الشمائل للعلامة محمد بن قاسم جسوس) حينذاك؛ لأني أسقطته من حسابي دائمًا في المراجعة، وأعرف قيمته العلمية، ولكني راجعت فيما راجعت (شرح الشمائل) للعالم المحدث الحقيقي العلامة (ملا علي القاري). ولرجوعي إلى هذا المصدر الذي طار به الأستاذ فرحًا قصة صغيرة: ففي يوم الجمعة 21 يناير 1944 زارني الأخ محمد أفندي فؤاد عبد الباقي، وفيما جرى بيننا من الحديث سألني عن شروح (سنن الترمذي)، فذكرت له ما حضرني منها: شرح ابن سيد الناس الذي أتمه العراقي، ولم يطبع، وشرح القاضي أبي بكر بن العربي، وقد طبع بمصر، وشرح العلامة المباركفوري، وقد طبع بالهند - وهما عندي ومن مراجعي والحمد لله - ثم شرحي أنا على قسم منه، وقد طبع منه جزآن يعرفهما الأخ محمد أفندي فؤاد، فأعاد إليَّ القول؛ أنه سُئل عن شرح آخر معين اسمه (الجاسوس)، فضحكت

وفهمت ما يريد، وأخبرته أنه لا يسمى (الجاسوس) وإنما هو (جسوس)، وأنه ليس شرحًا على سنن الترمذي، وإنما هو شرح على (شمائل الترمذي)، ثم فهمت منه أنه سئل عن هذا الكتاب من أجل الأستاذ العقاد، فظننت أنه لعله رأى القصة فيه ونقلها منه، وأنه إن أخطأ فإنما أخطأ في ذكر (عروة بن الزبير) فيها؛ لأنه محال أن يذكره على هذا الوجه رجل يعرف الحديث، أو التاريخ، مهما يكن مبلغه من العلم، ثم أحضرت له الكتاب فوجدنا النص الذي يشير إليه الكاتب الجريء، فوجدنا في (ج 1 ص 29) النص الذي سأكتبه، فأسفت حين قرأته، خشية أن يذكره الأستاذ العقاد فيقيم حجة أخرى على أنه يعجل ولا يتأنى، وأنا أثق أن الأستاذ خُدع به على لسان غيره، وأنه لم يقرأه حين كتب مقاله يحجني ويسبني، وينفي عن نفسه الاختراع والاعتماد على كتب الأسمار، وأنا لم أتهمه بالاختراع بل نفيته عنه، ولكنني ظننتُ أنه أخذ من كتب السمر. وهذا نص ما ذكر في شرح (سيدي محمد بن قاسم جسوس على شمائل الترمذي)، لم أزد فيه حرفًا ولم أُنقص منه حرفًا: (ومما ينسب لعائشة رضي الله عنها: فلو سمعوا في مصر أوصاف خده ... لما بذلوا في سوم يوسف من نقد وصحب زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع الفؤاد على الأيد) فأين من هذا النص القصة الطويلة التي حكى الأستاذ في كتابه؟ وأين ذكر عروة فيه؟ فهذا جسوس ينشد البيتين على رواية غير رواية

الأستاذ، وهو أمرٌ هينٌ، ولكنه ينسبهما لعائشة نفسها، وإن كان لا يوثق بهذا الكتاب ولا بما ينقله، ثم هو لا يذكر شيئًا قبلهما ولا بعدهما مما قص الكاتب الجريء.! ! ويبدو لي أنه قد عجز عن البحث عن مصدر قصته، أو عجز الذين يبحثون له، فلم يجدوا إلَّا هذا المصدر، وهي خطوة لا بأس بها، عرفنا منه شيئًا عن البيتين، سواء أكانا صحيحين أم باطلين، وسواء رواهما على الوجه الذي رواهما به جسوس أو تصرف فيهما، وإن كان لا يفيده شيئًا في مصدر القصة التي حكى، ولا في نسبة الشعر إلى عروة، ولا في موضع احتجاجه بالقصة والشعر على شيء معين وهو (أن عائشة كانت تحفظ من شعر عروة بن الزبير نفسه وتسوق الشاهد منه في موقعه)؛ لأن ذكر البيتين في مصدره منسوبين إلى عائشة نفسها، نسبة صحيحة أو باطلة، لا يكون أبدًا حجة على أن الشعر لعروة، وعلى أن عائشة كانت تسوق الشاهد منه على موقعه! ولا أدري ماذا يُسمَّى من طرق البحث والنقد من يدعي القضية، ثم إذا طولب بدليلها، أتى بدليل ينفيها أو ينقضها؟ . ولكن الأمانة العلمية توجب عليّ أن أخطو بالكاتب خطوة أُخرى في سبيل البحث لعلها ترشده إلى ذكر المصدر الذي نقل منه ما نقل، فأذكر له مصادر أُخر لم يهتد إليها، وإن كان ما سأذكر لا يؤيد دعواه ولا قصته. فقد نقل الحافظ السيوطي في شرح شواهد المغني (ص 82) ما نصه:

(أخرج أبو نعيم في الدلائل والخطيب وابن عساكر بسند حسن عن عائشة قالت: كنت قاعدة أغزل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخصف نعله، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولد نورًا، فبهت، فقال: "مالك بهت؟ " قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نورًا, ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره حيث يقول: ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت بروق العارض المتهلل وهذه الرواية نقلها البغدادي في خزانة الأدب (ج 3 ص 473) عن السيوطي، وذكر قبل ذلك ص 469، أن البيتين من أبيات لأبي كبير في حماسة أبي تمام، وفي الشعراء لابن قتيبة، وأنهما من قصيدة طويلة في أشعار الهذليين، ونقل بعض المؤلفين القصة أيضًا فاختصرها ولم يزد عليها، فإن الاختصار إذا لم ينقص أصل المعنى جائز، وأما الزيادة فلا تجوز؛ لأنها في عرف المحدثين، تكون من باب الوضع؛ إذ هي تنافي الصدق، فنقلها عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري في كتاب (بهجة المحافل ج 2 ص 186) بلفظ: (وقالت عائشة: بأبي وأُمي أنت، لو رآك الشاعر لعلم أنك أحق بقوله). وذكر بيتي أبي بكر الهذلي على الصواب. وكذلك فعل الشيخ حسين عبد الله باسلامه عضو مجلس الشورى بمكة، فنقلها كما نقلها العامري مختصرة في كتاب (حياة سيد العرب) المطبوع بجدة سنة 1353 (ج 4 ص 206)

فأين هذه النصوص مما زعمه العقاد؟ الذي أظنه أن الكاتب الجريء، قرأ شيئًا هنا وشيئًا هناك، ثم اختلطت هذه النصوص وغيرها في رأسه واضطربت، فخرجت كما ترى، شيئًا ليس بالجديد البديع ولا بالقديم الصحيح، بل هي كما قلت من قبل (سواد في بياض). ولكن بقي بعد هذا كله شيء واحد، هو أصل دعواه: أين موضع عروة بن الزبير؟ وأين موضع شعر عروة من هذه النصوص؟ هنا حلقة مفقودة، على الأستاذ العقاد أن يبحث عنها في مواضع علمه أو في حيث شاء. وأما ادعاء الكاتب الجريء، على قاعدته المعروفة، أن يصدق ما يريد ويكذب ما يريد؛ إذ يستبعد أن يكون عروة ولد في سنة 23 أو بعدها، فهذا إفساد للتاريخ العربي، وما هو بتحقيق، وإنما هي محاولة لستر موقفه، مبينة عن زيف حجته، وما هي بسبيل ما نحن فيه، فإنه إذا صح أن تاريخ ولادة عروة خطأ فليس ذلك بنافعه في موضوعه، فلئن كان الخطأ في سنة أو في عشر سنين لكان عروة مولودًا بعد وفاة رسول الله، بل لو كان الخطأ في عشرين سنة، لكان عروة طفلًا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ولم يكن شاعرًا (تحفظ عائشة من شعره وتسوق ¬

_ (¬1) الهدي النبوي: روى البخاري في صحيحه أن الزبير أصيب يوم اليرموك بضربتين على عاتقه، بينهما ضربة ضُربها يوم بدر قال عروة: (كنت أدخِل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير). (ص 76 ج 5 طبعة بولاق). فهذا دليل جديد ثابت في أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى باتفاق أهل العلم على أن عروة كان طفلًا صغيرًا في زمن وقعة اليرموك، وليس أمام العقاد إذا =

الشاهد منه في موقعه) في حياة رسول الله تخاطبه به! ! وقد تعب أئمة الحديث ومؤرخو الرجال في التنقيب عن تراجمهم، وحصر ما أمكنهم حصره، وتركوا لنا ثروة ضخمة من العلم الغزير لا يضيعه ولا ينقضه غضبة من الكاتب الجريء يدفع بها خطأه، ولم يذكر أحد منهم قط أن عروة كان صحابيًّا، وإنما ذكروه في التابعين، بل إن الحافظ ابن حجر لم يذكره في (الإصابة) في الأطفال الذين ولدوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأين العقاد من هؤلاء العلماء؟ لقد غضب العقاد إذ ظننت له أنه نقل قصته من كتب السمر، وليت ظني كان صادقًا، إذن لكان أكرم له وأجدر به، ولكان كل خطئه أنه اعتمد على رواية تحمل دليل بطلانها في نصها، وأنه قصر في البحث عن ترجمة عروة في أي مصدر من مصادر التاريخ الجمة بين يديه، وما طالبناه قط بأن يعرف الزيف من الصحيح من روايات الحديث والأثر، فما هو بسبيل هذا، وما هو من عمله ولا من فنه، ولم يزعم أحد قط أن العقاد درس علوم الحديث أو عرف منها شيئًا. أما الذي تبين لنا من صنيعه بعد ذكره المصدر الذي قيل له: إن النص موجود فيه، وبعد أن ذكر لنا نص مصدره ونص مصادر أُخر، فليس هذا من صنيع أهل العلم بالحديث، ولا هو من عمل الثقة في الرواية والنقل، ولو قرأ العقاد شيئًا من علم مصطلح الحديث لعرف ¬

_ = أصر على صحة دعواه إلَّا أن يكذب البخاري، أو يدعي أن وقعة اليرموك كانت في حياة رسول الله! ! وكلاهما ليس بالكبير على الكاتب الجريء.

أن صنيعًا دون هذا يسقط الراوي ورواياته أجمع، ويرفع الثقة بنقله كله، وليسخط بعد ذلك أو ليرض. وبعد؛ فإن القول يطول لو شئنا نقض كل ما رد به الكاتب الجريء، وليس في طول الجدل فائدة علمية، فلذلك أعرضنا عنه. وإن لنا لكلمة في نفيه حديث عائشة عن سنها حين تزوجها رسول الله، أو تخطئته إياها في معرفة سنها إذ ذاك، ولعلنا نجد فرصة مواتية في نقض ما ذهب إليه إحقاقًا للحق ودفعًا عن الأحاديث الصحيحة, إن شاء الله. * * *

كلمة

كلمة (*) وبعد؛ فلا نكاد نفرغ من شأن للعقاد حتى يبدو لنا شأن؛ فإنه يكبر عليه أن يقول له إنسان: "أخطأت". أو يجادله في كلمة مما يقول، وإنما يريد من الناس الخضوع والتسليم، أصاب أم أخطأ، وهو يعرض كتبه على الناس، وفيها الصحيح الجيد، وفيها الزيف الباطل، ولكن هكذا هو. فقد كتب الأستاذ بشر فارس كلمة في المقتطف قال فيها رأيه في كتاب "الصديقة بنت الصديق" فذكر مزايا رآها في الكتاب، وبدا له أن ينقده بعض النقد الهادئ اللين، فكان العقاد على سجيته، ثار به ثورته المعروفة، وقرعه وندد به، بل أراد أن يوقع بينه وبين قرائه بالتزيد عليه في تحميل كلامه ما لا يحتمل، وحذف آخره يزعم أنه يبهته بأوله. فقد قال العقاد في كتابه (ص 102) في شأن قصة الإفك: "على الذي يقبل وشاية كتلك الوشاية الواهية أن يروض عقله على تصديق أمور كثيرة لا موجب لتصديقها؛ لأنها تفتقر إلى كل دليل، والأدلة على ما يناقضها كثيرة، عليه أن يصدق أن صفوان بن المعطل كان رجلًا لا يؤمن بالنبي ولا بأحكام الإِسلام، وأن يصدق أن السيدة ¬

_ (*) المقتطف، المجلد الرابع بعد المائة، يناير - مايو 1944.

عائشة كانت - وهي زوج النبي - لا تؤمن به ولا تعمل بدينه، ولا دليل على هذا ولا ذاك". وهذا كلام حق في ذاته لا شبهة فيه، ولكن الدكتور بشر فارس رأى أنه ليس من نوع البحث العلمي البحت، وأنه من نوع الدفاع والحذق في الجدل؛ فقال: "والذي أراه أن هذا الاستدلال مجتلب بل محض ذاتي، وذلك لأننا نعلم من طريق المشاهدة والملاحظة أن البشر يتفق لهم أن يزلوا إن كانوا من أهل التصديق والإيمان, ولولا هذا ما احتاجوا إلى رب تواب ... وكيفما كانت الحال فإن قصة الإفك لا تحتاج إلى مثل ذلك الاجتهاد ... (¬1)، فسيرة الصديقة في أيام النبي وبعده تبدو فوق الشبهة، وأما سيرة صفوان فنزيهة بشهادة الرسول نفسه". وهذا كلام صحيح أيضًا، فعائشة في إيمانها ودينها وتقواها وسيرتها في حياة النبي وبعده فوق مستوى الشبهات، سيرة الأطهار والأبرار، ولا يمكن لمنصف أن يفهم من كلام الدكتور بشر غير هذا، ولكن الأستاذ العقاد لم يتورع عن أن يرمي الدكتور بشرًا بما لا يُفهم من كلامه بأي وجه من وجوه التأويل، فهو يقول (أي العقاد): "وإذا كان لهذا الكاتب عذر من قلة الفهم، فكان ينبغي أن يتجنب قلة الذوق؛ لئلا يجمع بين الفقرين السيئين، وفي واحد منهما كفاية، فلا يحسب علينا أن نطيل القول في حديث الإفك دفاعًا وتصحيحًا، وهو يطيل القول فيه للتوهين والتشكيك". ¬

_ (¬1) راجع القول كله في كلمة الشيخ موسى السابقة لهذه.

هكذا والله يقول العقاد، وما ندري أين التوهين والتشكيك في كلام بشر؟ إلَّا أن يكون سوء الطوية من العقاد، والحقد الذي يدفعه إلى أن يرمي كل من تعرض لكلامه وآرائه بغير الاستحسان والتقريظ، فإن بشرًا لم يخالفه في معنى من المعاني، وخاصة في تفنيد الإفك من وجهة العقل والخبرة بسيرة السيدة عائشة وطهرها ونقاء تاريخها من كل شائبة، وأن "سيرتها في أيام النبي وبعده تبدو فوق الشبهة" كما قال بشر. * * * وما أردت إلى الدفاع عن الأستاذ بشر، فإنه يعرف كيف يدافع عن نفسه، ويعرف كيف يوقف العقاد عند حدّه، وإنما أردت أن أصور عدوان العقاد وطغيانه؛ ليحذر الناس من تحريفه الكلام عن مواضعه. * * *

الانتقاد على المنار وتفسيره

الانتقاد على المنار وتفسيره (*) مولاي الأستاذ السيد العلامة حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: قرأت في العدد السابع من المجلد 31 من المنار الزاهر في تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] ص 509 ما نصه: (وفي مسند أحمد عن ابن مسعود: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن منكم منافقين فمَن سميته فليقم". ثم قال: "قم يا فلان". حتى سمى ستًّا وثلاثين). وروى غير هذا في معناه. ولما كنت أعمل - كما تعلمون - في وضع فهارس دقيقة مفصلة لمسند الإِمام أحمد فقد استغربت أن يكون فيه هذا الحديث، ثم رجعت إلى فهارس المسند التي عملتها، فأيقنت أنه لم يروِهِ أحمد أصلًا من حديث ابن مسعود؛ فإنه لم يروِ من حديثه فيما يتعلق بالمنافقين إلا خمسة أحاديث هي: حديث المواظبة على إجابة النداء بالصلاة وفيه: "ولقد رأيتني وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه". رواه مرتين في صفحة 382 و 414 ج 1. ¬

_ (*) مجلة المنار، المجلد الخامس والثلاثون، الجزء التاسع ص 714، جمادى الآخرة 1359/ أغسطس 1940.

وحديث: "إن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه" إلخ. وهو ليس نصًّا في وصف المنافقين، ورواه ثلاث مرات في ص 383 ج 1. ولم يروِ من حديث ابن مسعود في خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أربعة أحاديث، هي أحاديث خطبة الحاجة، رواه بأربعة أسانيد في ص 392 و 393 و 432 ج 1. وروى في التفسير من حديث ابن مسعود 36 حديثًا ليس منها هذا الحديث على اليقين، ولولا خوف الإطالة لذكرتُها بصحتها. وقد رجعت إلى الدر المنثور للسيوطي فوجدته روى قريبًا من هذا المعنى من حديث ابن عباس ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبي الشيخ وابن مردويه، وهو في تفسير ابن جرير الطبري كما قال السيوطي ولفظه: (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا يوم الجمعة فقال: "اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق". فأخرج من المسجد ناسًا منهم ففضحهم) ... إلخ. ونسبه صاحب كتاب جمع الفوائد للطبراني في الأوسط وقال: (يُضَعَّف). وحقيقة أن في إسناده عند ابن جرير ضعفًا. وكذلك نقله ابن كثير عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس، ولم يذكر مَن أخرجه، وظاهر أنه أخذه من تفسير ابن جرير. وذكر السيوطي في الدر المنثور حديثًا آخر لابن مردويه عن أبي

مسعود الأنصاري قال: لقد خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما شهدت مثلها قط. فقال: "أيها الناس إن منكم منافقين فمن سميته فليقم، قم يا فلان، قم يا فلان". حتى قام ستة وثلاثون رجلًا). وذكر باقي الحديث ولم يتكلم على إسناده من الصحة والضعف فلا ندري ما هو، وليس انفراد ابن مردويه بحديث مما يطمئن معه القلب إلى صحته. وأظن أن هذا الأخير هو الأقرب إلى رواية المنار الزاهر، ولكنه من حديث أبي مسعود البدري الأنصاري لا من حديث عبد الله بن مسعود، ومن رواية ابن مردويه لا من رواية الإِمام أحمد بن حنبل في المسند. هذا ما بدا لي في استخراج هذا الحديث، أرجو من أستاذي الجليل أن يتفضل بنشره في المنار، وأن يمن على تلميذه بذكر مصدر الرواية إن كانت منسوبة للمسند من حديث ابن مسعود حقيقةً استدراكًا لفائدة نفيسة كهذه حتى نقيدها عندنا على نسختنا من مسند أحمد، لا زلتم أهلًا للفضل ومنارًا للعلماء والسلام. تلميذكم المخلص أحمد محمَّد شاكر، القاضي الشرعي (المنار) أشكر لأخينا الكريم خادم السنة بحثه العلمي عن الحديث المذكور، وإيذاننا بنتيجته، وأخبره بأنني نقلته من كتاب (فتح البيان

في مقاصد القرآن) وأنني اطَّلعت على ما ذكر في معناه في تفسير الطبري والدر المنثور وابن كثير وغيرهما، فاقتصرت عليه لاختصاره، بعد أن كنت نقلت غيره، ولم أنشره لأنني أعتقد أنه لا يصح شيء في فضيحة أولئك المنافقين في المسجد بالتصريح بكفرهم بأعيانهم؛ لما صرحت به من تعليل ذلك عقب نقله، ولولا هذا لما ذكرت هذا الحديث أيضًا. وإنني قد استغربت سكوت السيوطي عن هذا الحديث في الدر المنثور, ولكنني أعلم أنه لم يستقصِ كل ما ورد، وقد راجعت جدول الخطأ والصواب من فتح البيان، لعلي أرى فيه تصحيحًا لخطأ وقع في عزو الحديث إلى المسند، أو إلى ابن مسعود فلم أره فيه، وأنا أعلم أن مؤلفه - رحمه الله - كان يتحرى في نقل الأحاديث، ويقال: إنه كان يستعين في تأليف تفسيره هذا بلجنة من علماء الحديث وغيرهم، ومن الكتب التي كان يعتمد عليها تفسير الشوكاني، فإن وجد الحديث في هذا التفسير يكون ناقلًا له عنه، وإن لم يوجد فيحتمل أن يكون وجده في نسخة للمسند خطية في خزانة كتبه الحافلة، ويحتمل أن يكون عزوه إلى مسند ابن مسعود عند الإِمام أحمد خطأ، ويرجحه عدم نقل السيوطي إياها عنه في الدر المنثور, على أنني قد حذفت هذه الرواية مما طبعته على حدته وكذا من مختصره الذي شرعت فيه، بل قلما أذكر فيه شيئًا من الروايات الصحيحة بألفاظها وتخريجها، وأختم هذا التعليق بإعادة ما بدأت به من شكر أخينا الأستاذ. جعله الله تعالى خير عون على العلم وتحرير كتبه.

ديوان أبي فراس الحمداني

ديوان أبي فراس الحمداني (*) تحقيق الدكتور محمَّد سامي الدهان (¬1) أما هذا فكتاب عظيم، بلغ الذروة العليا في إتقان التحقيق والإخراج، لا يكاد يدانيه في هذا كتاب، إلا في الندرة بعد الندرة. فشعر أبي فراس من الشعر الغالي النفيس، وكان ديوانه محجوبًا أو كالمحجوب، فقد طبع ثلاث مرات وكأنه لم يطبع، مما وقع في طبعاته من النقص والمسخ والتحريف والتبديل. وقد وفق الأخ الأستاذ المحقق إلى العناية بجمع نسخه المخطوطة في أقطار الدنيا والاطلاع عليها، ورحل من أجله رحلات واسعة، حتى يخرجه صحيحًا كاملًا، بما في الوسع الإنساني من قوة ومن ضعف، فبلغ فيما صنع الغاية أو كاد. وجعل الأستاذ العلامة هذا الديوان رسالته إلى جامعة باريس، فتقبلته أحسن قبول، ونوقش فيه هناك في العام الماضي، وأجازوه عليه (دكتورية الدولة)، وهي أعلى الشهادات عندهم فيما نعلم. ¬

_ (*) مجلة الكتاب، المجلد الخامس، السنة الثالثة، الجزء الرابع، جمادى الأولى 1367 هـ/ أبريل 1948 م. (¬1) 3 مجلدات 200 ص، و 320، 626 صفحة من القطع الكبير. المعهد الفرنسي، دمشق 1944

والدكتور سامي الدهان بلدي أبي فراس، من حلب الشهباء، فرأى أن يخدم شاعر بلده، بإخراج ديوانه إخراجًا صحيحًا، بل إنه شغف بشعره منذ عهد بعيد، واستظهر منه شعرًا كثيرًا: "ثم أردت أن أقول فيه، وأن أظهره مع أقرانه، لعلي أنصفه من ظلمٍ، وأنصره من جور، فلما يممت باريس عام 1936 عملت له وقرأت في شأنه، ولكني انتهيت إلى أن الديوان أبتر، قد ركبه الاضطراب وعمه الفساد، وما علمت بمعدنه من خزائن الغرب حتى شمرت إلى الفهارس، وكتبت إلى الخازنين، وراسلت المستشرقين، ولما كان مؤتمر المستشرقين في بروكسل عام 1938، سافرت إليه، وسألت من يضطلع بالعربية فيه، وتزودت بما ينير سبيلي الجديد، فكان الرأي أن أسير إلى مكامنه بأمهات العواصم". فذكر رحلته إلى برلين، ثم عودته إلى باريس "وفيها نسخ أخرى من الديوان، أقبلت إليّ تحمل الشاعر، من إنكلترة، وإيطالية، ومراكش، وسورية، وتركية، فسألتها عن شعره، وشرح راويه، فجلت ووضحت، ومحت بعض الظن، وأكدت بعض اليقين، وطالت بي الطريق، فأدركني الملال، وأصابني الكلال، وكاد يستحوذ اليأس على قلبي، لولا تشجيع أساتيذي وعونهم، ونصائح المستشرقين ومددهم، ولا ينتهي العمل بإعداد الديوان، فأنا في جامعة غربية أقدم إليها رسالتي وجهدي، فعلي أن أخط بلسانها ما علمت من الشاعر، وما يضيف الديوان الجديد إلى الديوان العتيق، ففعلت وتقدمت بما كتبت إلى جامعة باريس، فرضيت عنه، ومنحتني الموافقة". وهكذا يسير على سننه،

ولا يضن بجهد ولا وقت ولا مال، حتى يتم طبع الكتاب في أوائل سنة 1945 "راجيًا أن يكون قربانًا للأدب وخدمة لحلب، وزكاة للعلم، وأحتسب عند الله ما أنفقت في سبيله من شباب وجهد" (ص 623 - 625). وأبو فراس شاعر رقيق العاطفة، عذب اللفظ، قوي العارضة، جزل فصيح، وهو عربي النسب والدار، فارس محارب، غاض الغمار، ولقي الأخطار، ووقع في الإسار، في شهر شوال سنة 351، ونقل إلى القسطنطينية، فأكبر فيه الروم البطولة والصراحة والنفس العربية، فأكرموه إكرامًا لم ينله أسير قبله، وأعطاه ملكهم دار البلاط الإمبراطوري (وهو قصر كبير على البحر)، وخصص له خادمًا يقوم بأمره، وأذن له فيما يشاء من الثياب والسلاح، وكان لهذه الفترة من حياته أبلغ الأثر في شعره، حتى يقول الدكتور الدهان (ص 17 من التقدمة): "هذا كله شعر شامي، جميل صادق، جزل فصيح، سهل لين، قد نجد لصوره وتعابيره مثيلًا فيما سبق من أدباء، ومر من شعراء، ولكنه لا يشبه في شيء هذه "الروميات" التي نظمها خلال أسره، ففجرت من نفسه عيونًا، وخلدته على الزمان، فيها شكوى العليل الذي لا يحس حوله بعطف قريب، أو عناية حبيب، تطول عليه الساعات، وتمتد به الأيام، وتتأخر عنه الكتب، فيشتاق منازل الشباب وملاعب الصبا، ويرثي لهذه العجوز العليلة [يريد أمه] التي يقلقها ذكراه".

ولم يعن أبو فراس بجمع ديوان لشعره، شغلًا بما اضطلع به من جلائل الأمور في الحرب والسياسة، وإنما كان يلقيه إلى أستاذه ابن خالويه (الحسين بن أحمد الإِمام النحوي اللغوي المقرئ، المتوفى بحلب سنة 370)، ويحظر عليه نشره، فلما قتل أبو فراس في جمادى الأولى من سنة 357 جمع أستاذه ما ألقاه إليه، وشرحه، وقدم لكثير من قصائده بمقدمات تاريخية تشرح مناسبة القول والغرض فيه، ويقول ابن خالويه في مقدمة الديوان (ص 2): "وما زال رحمه الله إيجابًا لحق الأدب، ورعاية للصحبة، وعلمًا بأهل المحافظة، يلقي إلي دون الناس شعره، ويحظر عليّ نشره، حتى سبقتني وإياه الركبان، فجمعت منه ما ألقاه إليَّ، وشرحته من مزيد أخباره في الأيام المذكورة فيه، بما أرجو أن يقرنه الله عَزَّ وَجَلَّ بالصواب والرشاد، بمنه وطوله، وقوته وحوله". وقد بلغ عدد المخطوطات من ديوان أبي فراس، التي وقعت للدكتور الدهان واعتمدها في إخراجه وتحقيقه 32 مخطوطة، غير يتيمة الدهر، ومصادر التاريخ والأدب التي فيها شعر أبي فراس، وقد صنف هذه المخطوطات إلى أربع طوائف، بتقارب روايات كل طائفة، وتشابهها في عدد القصائد والأبيات، وفي الشروح، واتحادها في الخطأ والصواب. فالطائفة الأولى 6 نسخ، والطائفة الثانية 8 نسخ، والطائفة الثالثة نسختان، والطائفة الرابعة 16 نسخة، وتختلف هذه النسخ في عدد القصائد وعدد الأبيات اختلافًا واسع المدى.

وقد أحصى الدكتور المحقق القصائد والأبيات في كل نسخة من هذه النسخ، وفي هذه الطبعة التي حققها، ووضع لذلك الجدول الآتي: ............. عدد القصائد ... عدد الأبيات الطائفة الأولى ... 329 ... 2867 الطائفة الثانية ... 275 ... 2643 الطائفة الثالثة ... 204 ... 2328 الطائفة الرابعة ... 275 ... 2299 هذه الطبعة المحققة ... 364 ... 3724 وأما الطبعات الأولى للديوان فلا قيمة لها, ولا تكاد تذكر بجانب هذا العمل الضخم، والجهد النادر في التحقيق والإخراج، وإنما نشير إليها إشارة: فأول طبعة ظهرت في بيروت سنة 1873 في المطبعة السليمية في 151 صفحة من القطع المتوسط، يقول الدكتور الدهان: "وهي مشوهة مصحفة مشحونة بالأغاليط، محشوة بالأخطاء، وزاد في ضعفها أنها اعتمدت على أضعف النسخ، فأخذت مخطوطة من نسخ دار الكتب المصرية، لعلها (رقم 2150) من الطائفة الرابعة". ثم ذكر مثالاً مما فيها من تحريف (ص 23 من التقدمة).

والطبعة الثانية ظهرت سنة 1900 في بيروت بالمطبعة الأدبية في 159 صفحة، وليست خيرًا من سابقتها، وزادت عليها شرحًا لفظيًّا اعتمد مؤلفه فيه على حل الألفاظ من (القاموس المحيط)، ونسب ناشرها هذا الشرح لنفسه، وقد كشف الدكتور الدهان أنه ليس له كما يدعي: "بل هو لعالم فقيه من علماء القرن الحادي عشر، عرفنا أنه عبد اللطيف البهائي، كان قاضيًا ببلغراد، وحفظ شرحه في إستانبول ومصر"! والطبعة الثالثة صورة من الطبعة الثانية، ظهرت في سنة 1910. وقد زادت طبعة الدكتور الدهان على هذه الطبعات الثلاث 152 قصيدة، غير الأبيات التي تزيد في صلب القصائد في تلك الطبعات، ثم تتبع الشعر الذي نسب إلى أبي فراس في كثير من المراجع المخطوطة والمطبوعة "ولم يرد في أمهات المخطوطات، وقد شككنا بصحة نسبتها إلى شاعرنا". وهي 12 قطعة (ص 450 - 455)، ثم ذكر ثلاث قطع نسبت إلى أبي فراس وهي لغيره، اثنتان منها لسيف الدولة، والثالثة لابن المعتز (ص 456 - 457). ثم أتبع الكتاب بترجمة أبي فراس وأخباره، عن كتب الأدب والتاريخ, ذكرها بنصوصها، توثقًا وتثبتًا، وحرصًا على الأمانة والدقة (ص 459 - 480)، ثم صنع (شجرة) للأسرة الحمدانية، استنبطها من شرح ابن خالويه، ومن شعر الشاعر نفسه ومن تاريخ ابن خلكان وغيره من مصادر التاريخ.

وأعقب ذلك بعشر فهارس دقيقة متقنة، خيرها وأنفسها أولها وآخرها؛ فإنه في الفهرس الأول تتبع مصادر شعر الشاعر في مطاوي كتب الأدب والتاريخ, اختار منها ثلاثين كتابًا، فأحصى كل ما روته له من شعر، ذكر صدر البيت وبحره وقافيته، وعدد الأبيات ومواقعها من كل كتاب بتعيين الجزء والصفحة. وفي الفهرس العاشر الأخير لخص مضمون القطعة أو القصيدة في جملة قصيرة ترمز إلى هدف الشاعر منها "فإن كان ثمة شرح أو تعليق لابن خالويه اختصرناه، وإن لم يكن اقتبسناه من عبارة الشاعر نفسه، فلم نبتعد عن الأصل" (ص 591). ولم يخل الكتاب من أغلاط مطبعية وغير مطبعية، تتبع الأستاذ الدكتور كثيرًا منها، ووضع في آخر الكتاب بابًا للتصويب والاستدراك، وأعرض عن كثير مما يدركه القارئ ولا يخفى على فطنة المطالع، خصوصًا ما كان منها في تعليقاته على الديوان. وعندي أن مرد كثرة الأغلاط إلى الحرص على الشكل الكامل للكلمات في متن الديوان، وهذا الشكل الكامل غلو في الأناقة، يتجاوز حد الضرورة، بل يتجاوز حد الكمال والنظر يند عنه حين التصحيح، بل هو قد يضل المصحح عما تحته من خطأ في الكلمة، أو عما يجاوره من خطأ في غيرها، وأرى أن الواجب أن يقتصر في الشكل على ضبط ما يظهر صحة الكلمة من الحروف، فرب حرف

واحد يضبط من الكلمة يضعها صحيحة على لسان القارئ لا تحتمل تصحيفًا، وبعض الكلم يكفي في تعيينها ضبط حرفين، والنادر من الكلم ما يحتاج إلى ضبط كل حروفه، ولعل نصف الكلمات أو قريبًا من نصفها لا يحتاج إلى ضبط، فيكون ضبطها عبثًا وتزيدًا. وأنا أظن أني خبرت هذا ومارسته فيما نشرت من كتب، وأظن أني استطعت أن أستغني عن أكثر الشكل فيما أخرجته من الأجزاء من (المسند) للإمام أحمد بن حنبل، وقد أخطئ بعض الشيء فأشكل ما ليس بمشكل ولكني أحرص على أن لا أتجاوز ما رسمت. وبعد: فلعل أكثر ما آخذه على الصديق الدكتور سامي أنه غلا غلوًّا شديدًا في إثبات اختلاف النسخ التي وقعت له من الديوان، وكثير منها مسخها الناسخون، وأفسدها الرواة الجاهلون، فإذا ما أراد القارئ أن يتتبع اختلاف الروايات في البيت أو الكلمة أضلته هذه الروايات الواضحة الغلط، وكان في بعضها ما يغني، وأنا أرى أن القصد في ذلك أفضل، وأن لا يثبت من اختلاف النسخ إلا ما احتمل التصويب، وما لم نجزم بخطئه قطعًا إلا أن يكون الخطأ في نسخة معتمدة يخشى أن يغتر بها بعض القارئين، أو يكون في طبعة وحيدة للكتاب سارت بين الناس وكثرت في أيديهم، فيخشى أن يعتمدوها حجة إذا غلب عليها الصحة، أما إذا غلب عليها الغلط، فأرى أن التنبيه عليها ووصفها كافٍ عن تتبع أغلاطها، وما أقول هذا إلا عن تجربة وعناء، وأسأل الله التوفيق.

وبعد مرة أخرى: فلو أذن لي الصديق لاقترحت عليه أن يعيد نشر الديوان في طبعة قريبة التناول للقراء والأدباء، وأكثرهم فقراء أو متوسطو الحال؛ فإن ثمانية جنيهات أو عشرة ثمنًا للنسخة الواحدة من هذه الطبعة الفاخرة الغالية، يشق على أكثر الناس، ولا يستطيعه إلا خاصة الخاصة، والمتشوقون إليه والمقدروه قدره ينظرون إليه ثم لا يستطيعون، ولعله مجيب هذا الرجاء، إن شاء الله. * * *

الفتح المبين في طبقات الأصوليين

الفتح المبين في طبقات الأصوليين (*) تأليف الأستاذ عبد الله مصطفى المراغي (¬1) صديقي الأستاذ الشيخ عبد الله المراغي ممن رزق حب العلم، وحب العناية به والتوسع فيه، فكان ديدنه منذ نشأته أن يحرص على البحث والاطلاع، ولا يزال يشغل ما يجد من وقت يخلو فيه من عمله الرسمي بالعلم والتعمق فيه، وهذا الكتاب باكورة ما ينشر من آثاره، فإني أعرف أن له كتبًا غيره لم تنشر، أراني بعضها, ولعله يوفق إلى نشرها إن شاء الله. وهذا الباب الذي صنع فيه هذا الكتاب، باب طريف، هو من باب التراجم، والتراجم محببة إلى القلوب، تنبسط إليها النفس وترتاح، ففيها تعرف لأحوال من سبق من العلماء وغيرهم، وفيها عبرة وعظة، ولكنه باب خاص لم يسبق إليه فيما نعلم، قصَد فيه إلى استيعاب تراجم علماء الأصول وحدهم، ولا نعرف أحدًا ألف فيه كتابًا يحصرهم خاصًا بهم، إلَّا ما حكى السيوطي في (حسن المحاضرة) إذ ترجم نفسه وأثبت في الترجمة مؤلفاته، فذكر منها كتابًا ¬

_ (*) مجلة الكتاب، المجلد الخامس، السنة الثالثة، الجزء الخامس، ربيع الثاني 1367 هـ، مارس 1948. (¬1) الجزء الأول، 272 صفحة و 40 فهارس من القطع الكبير مطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر سنة 1366 هـ.

في (طبقات الأصوليين)، وما رأينا هذا الكتاب قط، ولا علمنا أنه يوجد في مكتبة من مكاتب العالم، مما وصل إلينا خبره، وقد أشار المؤلف إلى ذلك في ص 10، وقال: "وإذا تحدثنا بنعمة الله علينا فقلنا: إن عملنا هذا غير مسبوق، فإننا نعتمد في ذلك على الاستقراء والبحث". وأنا أوافقه على هذا. والكتاب سيكون في ثلاثة أجزاء، كما علمت من المؤلف، ورتبه ترتيب الطبقات, أي؛ أنه ذكر تراجم الأصوليين على طبقاتهم في التاريخ: الأقدم فالأقدم، وقد وصل في آخر هذا الجزء الأول إلى ترجمة (أبي القاسم الباجي) المتوفى سنة 493، أي إلى أواخر القرن الخامس الهجري. وقدم لكتابه بمقدمة جيدة، في 21 صفحة، تحدث فيها عن علم الأصول، وأول من كتب فيه، وعن طرق الأصوليين في التأليف، وعن الأصوليين في عصري الاجتهاد والتقليد. ثم شرع في التراجم، فتحدث عن (الحالة العلمية في القرن الأول الهجري)، ثم بدأ بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ترجم بعض الصحابة والتابعين، وأتبع ذلك بكلمة عن (الحالة العلمية في القرن الثاني)، وترجم لمن عندهم من علماء الأصول في ذلك القرن، ثم صنع مثل ذلك في كل من القرون: الثالث والرابع والخامس. والتراجم في الكتاب متوسطة، بل هي أقرب إلى الإيجاز، ولعل عذر المؤلف في هذا أنه يرمي إلى استيعاب تراجم الأصوليين، وهم

كثيرون، فلعله لو أسهب طال الكتاب جدًّا, وليته فعل، إذن لكان ذلك أجدر به، وأقوى لكتابه، وأكثر فائدة ومتعة للقارئ، خصوصًا الذين تخفى عليهم كتب المتقدمين في التراجم وموسوعاتهم، والذين يضيق صدرهم أن يقرؤوا نفائس ما كتب الأقدمون. ولكن المؤلف على ما أوجز لم يقصر في إرشاد القارئ المجتهد الطلعة إلى مصادر التراجم التي أخذ منها، حتى يشبع نهمه، وييسر له سبل التوسع والبحث. وليت المؤلف الفاضل لم يحرص على السجع في عنوان الكتاب، فهذه طريقة كانت مستحبة في وقت ما، في وقت التكلف في الكلام وفي الكتابة: (الفتح المبين في طبقات الأصوليين)! وما أبدعه اسمًا للكتاب لو كان (طبقات الأصوليين) ليس غير. وعلم (الأصول) علم مستحدث، أول من ألف فيه الإِمام الشافعي محمَّد بن إدريس، المتوفى سنة 204، كتب فيه "كتاب الرسالة"، وبعض كتب أخرى صغيرة في مسائل من مسائله، وما أظن أن هذا الاسم (الأصول) كان معروفًا بالمعنى الاصطلاحي الذي يعرفه المتأخرون لا في عصر الشافعي ولا قبله وإنما (كتاب الرسالة) كتاب في أصول استنباط المسائل الفقهية من الكتاب والسنة، وكذلك كتب الشافعي الأخرى، أما أن تكون وضعت لهذا المعنى المتعارف، فما أظن ذلك، وأيًّا ما كان فمن اليقين أنه لم يكن معروفًا بهذا المعنى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا تابعيهم، فلذلك

لا أرى ما رآه المؤلف من ذكر سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتراجم بعض أصحابه وبعض التابعين في كتاب خاص بتراجم الأصوليين، والقارئ لا يستطيع أن يفهم، مهما نحاول أن نتأول أو نتكلف، أن يكون رسول الله وأبو بكر وعمر وسلمان الفارسي وسعيد بن المسيب من (الأصوليين)، بل هو لا يكاد يسيغ أن يعتبر أبو حنيفة ومالك وابن وهب وابن القاسم من الأصوليين؛ إذ ليس لواحد منهم كتاب ولا جزء ولا بحث في (علم الأصول). ومراجع المؤلف التي رجع إليها في تعرف التراجم، مراجع جيدة معتمدة إلَّا قليلًا، فقد اعتمد على بعض المؤلفات المحدثة، التي ليس لمؤلفيها آراء أو أبحاث في مثل هذا الموضوع الجليل، إنما هي نقل صرف عن المصادر الأصلية التي جعلها المؤلف من مراجعه، والنقل قد يخطئ، فما استطعت أن أرجع إلى المصادر الأولى للتاريخ والتراجم، فلن ألجأ إلى من ينقل عنها، وخاصة إذا لم يكن ممن عرف بالدقة والتحري والضبط لما ينقل، وهذه إشارة عابرة، ولا أقصد بها إلَّا الطمأنينة والثقة. * * *

نحل عبر النحل

نِحَل عبر النَّحْل (*) لتقي الدين المقريزي تحقيق الأستاذ جمال الدين الشيال (¬1) ما أجدني في حاجة إلى وصف هذا الكتاب، ولا التنويه بقيمته العلمية، وقد كفانا الأستاذ محققه مؤونة ذلك، بمقال ممتع وصفه فيه وصفًا جيدًا، نشر في مجلة "الكتاب" في المجلد الأول (ص 886 - 889) قال في آخره: "ولقد بدأت في طبع الكتاب، وأرجو أن أكون قد وفقت في شرحه وتحقيقه، بحيث يرضي قراء العربية". وقد أوفى بوعده، ولكني لا أراه أوفى بشرطه. وأرجو أن يعذرني الأستاذ الشارح إذا لم أرض عن طريقة إخراجه للكتاب، وعما صنع في شرحه، في أكثر ما صنع، فما أريد التعنت ولا تتبع الأغلاط، ولكني أريد الخير له ولقراء العربية. وأول ما آخذ على الكتاب هذا العنوان الإفرنجي الذي وضع في ظهر الكتاب، فما الضرورة إليه؟ ! لقد علمت من الأستاذ الشارح أن هذا ليس من عمله، وأنا أصدقه وأعذره، ولكن يجب أن يعلم الناس أن التعلق بأذيال الإفرنج ومحاولة كسب ثنائهم ورضاهم ليس مما ¬

_ (*) مجلة الكتاب، عدد ذي القعدة 1365 هـ، أكتوبر 1946 م. (¬1) 126 صفحة من القطع المتوسط. مكتبة الخانجي. القاهرة سنة 1946.

يسيغه أبناء العروبة في هذا العصر، كتاب عربي ينشر للعرب ولمن يعرف العربية من غيرهم، فما بالنا نضع له عنوانًا بغير لغته؟ ! الإفرنجي الذي يطلب مثل هذا الكتاب يعرف العربية، والذي لا يعرف العربية منهم لا يطلبه. أخشى أن يكون هذا تقليدًا صرفًا لهم حين ينشرون شيئًا من آثارنا, ولكنا لا نستطيع أن نرغمهم على ما يرضينا, ولكنا نستطيع أن نعرف لأنفسنا قدرها, وللغتنا حقها، فنخرج الكتاب عربيًّا أصلًا وعنوانًا. ثم الأخطاء المطبعية في الكتاب كثيرة، لا أحب أن أعرض لشيء منها، فإن ذلك يطول جدًّا، وكثير منها يدركه القارئ المتوسط. وقد اجتهد الأستاذ الشارح في تحقيق متن الكتاب، وتعب فيه تعبًا شديدًا، وهو جهد مشكور، فإنه لم يجد من الكتاب إلا نسخة واحدة مخطوطة، كتبت في شهر شوال سنة 1229، ويظهر من وصفها ومن تحقيقات الأستاذ الشارح أنها غير جيدة التصحيح؛ فلذلك اضطر لأن يراجع نصوصها عند تحقيق متنها إلى كل الكتب العربية التي كتبت عن الحيوان. ولكني أراه غلا في ذلك غلوًّا شديدًا، لا أريد الغلو في الرجوع إلى المصادر التي رجع إليها، فهذا عمل واجب، ولكني أريد الغلو في تحكيم النصوص الأخرى في نص المؤلف، حتى إنه ليغيره في أكثر المواضع إلى ما في المصادر الأخرى، دون ضرورة ولا موجب من خطأ يصححه، أو نقص يكمله، فأخرج الكتاب للمقريزي بنصوص كثيرة لم تكن كلام المقريزي، بل كانت كلام غيره، ولو اتبع

الطريق العلمي الصحيح في إخراج الآثار العلمية القديمة، لأثبت النص كما هو، ثم قرن إليه ما يشاء من نصوص غيره، إن وجد إلى ذلك حاجة ملحة أو ضرورة ملجئة. وسأذكر مثلًا من ذلك مما في الكتاب، لا على سبيل الحصر والاستقصاء، وهي تدل على ما وراءها: (ص 1 - 2 في أول الكتاب) قال المقريزي: "النحل حيوان، وهيئته ظريفة، وخلقته لطيفة، ومهجته نحيفة، وسطه مربع" إلخ. هذا نص المؤلف الذي يؤخذ من التعليقات التي كتبها الشارح، فإنه غيّره في صلب الكتاب، وأثبت في الهوامش ما كان في الأصل ومصدر التغيير، أثبته هكذا: "النحل حيوان [ذو] هيئة ظريفة، وخلقة لطيفة، وبنية نحيفة، وسط [بدنه] مربع". أظن أن القارئ يرى أن معنى النصين واحد، وأن كلام المقريزي سليم، فما الذي دعا الشارح إلى أن يزيد كلمتي (ذو) و (بدنه)، وأن يغير "مهجته" إلى "بنيته"، ثم يقول: إن التصحيح عن القزويني ومسالك الأبصار؟ ! لو كان القزويني وابن فضل الله العمري متأخرين عن المقريزي ونقلا كلامه لكان له عذر أن يعتبر النص فيها نسخة أخرى من كلام المقريزي، ولكنهما متقدمان عليه، والمقريزي لم يزعم أنه نقل كلامهما، بل كل مؤلف يعبر عما يعلم مما قرأ في كتب المتقدمين بالعبارة التي تروقه، فليس لنا أن نلزم واحدًا منهم بكلام الآخر، إلَّا أن يكون خطأ، فنثبت كلامه كما هو، ثم نبين ما نرى من تصحيحه.

ص 13: "وجنس النحل ألطف أجناس الحيوان كلها, ولذلك تكره كل رعي يكون منتنًا أو زهم الرائحة [وهي تكره النتن، وتكره أيضًا الروائح الدهنية] والأدهان". فهذه الجملة المزادة بين حاصرتين من الشفا لابن سينا ما الحاجة إليها؟ أليست تكرارًا لما قال المقريزي، وإضعافًا لجزالة الكلام؟ ! ص 14: "وتشرب الماء الصافي [العذب تطلبه حيث كان] ". هذه زيادة زادها الشارح في النص من كتاب في الحيوان دون ضرورة، ولا النص يقتضيها، خصوصًا وأنها ستأتي في كلام المقريزي ص 18 س 3. ص 61: ([وروى ابن ماجه عن أبي بشير بكر بن خلف قال: حدثني يحيى بن سعيد عن موسى بن أبي عيسى الطحان عن عبد الله عن أبيه، أو عن أخيه عن] النعمان بن بشير [رضي الله تعالى عنه] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مما تذكرون" ... إلخ. ثم قال: [ورواه الحاكم، وقال]: صحيح على شرط مسلم). فهذه زيادات زادها الشارح عن الدميري، لا أدري ما الحاجة إليها، بعد أن ذكر أن في الأصل: "ولابن ماجه من حديث النعمان؟ " المقريزي يروي الحديث، ويكتفي بأن ينسبه لابن ماجه دون ذكر إسناده، فأين النقص في الأصل الذي يدعو إلى أن نغيّر نصه بنص الدميري الذي ذكر الإسناد؟ ثم ماذا يضطرنا إلى زيادة (ورواه الحاكم، وقال)؟ هذه زيادة يحسن أن تكون في الشرح تعليقًا؛ لأن المعنى يتغير بها بعض

التغير، فإن المقريزي محدث معروف، فهو يصحح الحديث على شرط مسلم بأنه يوثق به في ذلك، ولكن هذه الزيادة جعلت التصحيح من كلام الحاكم وحده، أما لو بقي الكلام على أصله لكان لنا تصحيحان: تصحيح الحاكم، وتصحيح المقريزي. وقد أخطأ الشارح هنا خطأ عجيبًا في ترجمة يحيى بن سعيد الذي في الإسناد، فزعمه "يحيى بن سعيد الأنصاري"! مع أنه ذكر أنه مات سنة 143، وذكر في ترجمة الراوي عنه "بكر بن خلف" أنه مات في سنة 240، فأنى يستطيع بكر أن يسمع من يحيى وبينهما هذا العمر الطويل؟ إن يحيى بن سعيد في هذا الإسناد، هو "يحيى بن سعيد القطان" المتوفى سنة 198، ولو رجع الشارح إلى ترجمة "موسى بن أبي عيسى" في التهذيب لوجد أن من الرواة عنه "يحيى القطان"، ثم إنه أثبت لقبه "الطحان" وهو "الحفاظ" كما في التهذيب، وليس هذا الخطأ منه، بل هو من نسخة الدميري، ولم يتنبه له الشارح. وفي الإسناد خطأ آخر: "عن عبد الله عن أبيه" والذي في الدميري 2: 403 طبعة بولاق "عن عون بن عبد الله عن أبيه"، وهو الصواب. ص 64 في أثر عن كعب الأحبار: "ليس بفاحش ولا بسخاب" هكذا في الأصل، فغيره الأستاذ المحقق إلى "ليس بفحاش ولا صخاب". وذكر في الهامش أن التصحيح عن الدميري. وهذا الأثر نقله المقريزي عن "مسند الطبراني"، وهو غير موجود حتى يتيسر الرجوع إليه، فكان على المحقق أن يثبت الأصل كما هو، ثم إن شاء

أثبت رواية الدميري؛ لأن الأصل صواب غير خطأً، خلافًا لما يوهمه صنيعه، فإن "الفاحش" و"الفحاش" بمعنى، وكذلك "السخاب" و"الصخاب" بالسين والصاد، جاءا كلاهما في الأحاديث، وفي لسان العرب. "والسخب والصخب بمعنى الصياح، والصاد والسين يجوز في كل كلمة فيها خاء". فلم يكن ما في الأصل خطأ حتى يجوز للأستاذ تجاوزه وتغييره إلى غيره. وأعجب من هذا كله أن ينقل المؤلف قطعة من كلام الغزالي في الإحياء، والإحياء كتاب مطبوع متداول، فلا ينشط المحقق لمراجعة النص على أصله، بل يراجعه على نقل الدميري عنه، ويتصرف في نص المقريزي بما نقل الدميري. ثم يزيدك عجبًا واستغرابًا أن يقول المؤلف بالحرف الواحد (ص 66 هامشة 11): "ونلاحظ هنا أن اتفاق المقريزي والدميري في الصيغة يدل بوضوح على أن الأول ينقل عن الثاني في هذا الفصل نقلًا حرفيًّا"! ولماذا هذا الجزم؟ لا أدري والله! ألا يستطيع المقريزي أن يجد نسخة من كتاب الإحياء ينقل عنها حتى يضطر إلى النقل من الدميري؟ والمقريزي أعلم وأوسع اطلاعًا وأخبر بالكتب من الدميري ألف مرة! أفإذا نقلت أنا هذا الفصل عن الإحياء في بعض ما أكتب أتهم بأني نقلته عن الدميري أو عن المقريزي بأنهما أقدم مني؟ ما أظن أحدًا يزعم هذا أبدًا. ثم قد أطال المحقق هوامش الكتاب بتراجم لكثير من الرجال

الذين يرد ذكرهم فيه، دون حاجة إلى ذلك، وليته لم يفعل! ففي كثير منها العجائب: انظر إلى ص 49: "وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة عن الأسود قال: قال عبد الله (؟ ) ". فترجم للأعمش نقلًا عن المعارف، وذكر أنه مات سنة 148، وترجم لشيخه "خيثمة" نقلًا عن كتاب (الأعلام)! ! فذكر أنه "أبو الحسن خيثمة بن سليمان القرشي الطرابلسي"، وأنه مات سنة 343! ! أيعقل هذا أحد؟ الأعمش الذي مات سنة 148 يروي عن شيخ مات بعده بنحو 200 سنة؟ ! وهذا خيثمة الذي يزعمه يروي عن الأسود بن يزيد الذي ذكر المحقق أنه مات سنة 74 أو 75؟ الأستاذ الشارح يرجع كثيرًا إلى تهذيب التهذيب، فلو رجع إليه لوجد ترجمة "خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي الكوفي" وهو تابعي يروي عن الصحابة وعن كبار التابعين، فهو الذي يروي هذا الأثر! وقد وضع المحقق بجوار اسم "عبد الله" في الإسناد علامة استفهام؛ ليدل على أنه شبه عليه، فلم يعرف من هو، وهو عبد الله بن مسعود، كما يعرف كل من له خبرة بعلوم الحديث؛ لأن الأسود بن يزيد إذا روى عن "عبد الله" بإطلاق، فهو عبد الله بن مسعود. وكذلك فعل الشارح في أثر بعد هذا عن "عبد الله" ص 50، فوضع بجوار اسمه علامة استفهام، وهو هو. ومما لا يعجبني من تصرف المحقق في التراجم: أن يترجم لابن

سينا في هامش ص 11, ثم يقول: "انظر دائرة المعارف الإِسلامية مادة ابن سينا، وما بها من مراجع"! ! أفأفلست كتب التراجم من مؤلفات علماء الإِسلام المطبوعة حتى نحيل القارئ على مراجع نادرة يشير إليها مؤلفو دائرة المعارف الإِسلامية الأجانب، وكثير من مراجعهم مطبوعات أوربية نادرة، وأكثرها مصادر غير عربية؟ ! فليت الشارح ترك هذه الترجمة، فابن سينا أشهر عند أبناء العروبة من أن يعرفوا ترجمته من مصادر أجنبية. ومن نحو هذا، أن يترجم للترمذي صاحب السنن مرتين ص 60 وص 70، يخطئ في الأولى، فيذكر أنه مات سنة 79 ويصيب في الثانية أنه مات سنة 279 وما كانت به حاجة إلى ترجمته هنا ولا هناك؛ فالترمذي معروف لأكثر القارئين، وكتاب عبر النحل ليس موضع تراجم العلماء، وما إلى هذا قصد مؤلفه! وانظر أيضًا التراجم التي في ص 47، أتجد واحدة منها كانت ضرورية في تحقيق الكتاب؟ ! ومن المعروف بداهة أن المحقق ليس من علماء الحديث، ولا كانت علوم الحديث صناعته، فماذا يلجئه إلى أن يخرج الأحاديث على غير طريقة المحدّثين، ماله ولهذا؟ ! ويذكر المقريزي حديثًا (ص 56) ينسبه إلى سنن أبي داود، فيأتي الأستاذ فيذكر في الهامش: "روي هذا الحديث بإسناد آخر في: ابن قتيبة، عيون الأخبار"! متى كان عيون الأخبار كتابًا من كتب السنة يخرج منه الحديث، وابن قتيبة

لغوي أديب إخباري، وكتابه كتاب أدب، وكتب السنة كثيرة متوافرة؟ ! ومن الأغلاط في الأعلام ما جاء في ص 79 س 3: "وكتب أبو بكر محمَّد بن عمر، وابن حزم إلى عمر بن عبد العزيز، وهو عامله على المدينة"، وصوابه "أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم"، وهو الذي كان عامل عمر بن عبد العزيز على المدينة، فظنه المحقق رجلين، وإن كان هذا يناقض سياق الكلام أنه رجل واحد، "أبو بكر محمَّد بن عمر" بحذف "ابن" و"ابن حزم"، وهكذا وضعه في فهرس الأعلام مقسومًا إلى علمين "أبو بكر محمَّد بن عمر" ص 111 في الجدول الأيسر، و"ابن حزم" ص 111 في الجدول الأيمن، ولما ظنهما اثنين أعرض عن الترجمة لهما، إذ لم يجد في مراجعه ما يرشده إليهما على النحو الذي أثبته. ومنها أيضًا ما جاء في ص 75: "عن سليمان بن موسى؛ أن أبا سيار النسعي (؟ ) قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - " ... إلخ. وعلامة الاستفهام من وضع الأستاذ المحقق وصحة هذا الاسم "أبو سيارة المتعي" بضم الميم وفتح التاء المثناة الفوقية، وله ترجمة في الإصابة 7: 94، وذكر له الحديث الذي هنا، ونسبه لأحمد والبغوي وابن ماجه. وهو في مسند أحمد 4: 236، وسنن ابن ماجه 1: 287 ورواه أيضًا ابن حزم في المحلى 5: 232 بتحقيقنا، ورواه ابن سعد في الطبقات ج 7 ق 2 ص 136. ومما يتصل بذلك أيضًا ما جاء في ص 68: "وفي تاريخ أصفهان

في ترجمة أحمد بن الحسن عن عمر - رضي الله عنه - (برفعه): أول نعمة ترفع من الأرض العسل". وعلق الأستاذ على هذا بأن المقريزي لم يعين اسم مؤلف هذا التاريخ, ثم نقل عن الصفدي أسماء الكتب التي ألفت في تاريخ أصفهان، وذكر أنه لم يطبع منها إلا "أخبار أصفهان لأبي نعيم"، وأنه طبع في ليدن سنة 1931. وهذا تقصير شديد منه، فإن المحدثين إذا أطلقوا النسبة إلى تاريخ أصفهان فإنما يقصدون كتاب أبي نعيم، وهو مطبوع كما ذكر المحقق، فلو أنه نشط إلى مراجعته بدلًا من مراجعة الوافي للصفدي لوجد هذا الحديث فيه 1: 116 في ترجمة "أحمد بن الحسن بن عبد الملك"، ولوجد أن صحة اسم الصحابي "عبد الله بن عمر" لا "عمر". ثم إن إثباته كلمة "برفعه" بالباء الموحدة خطأ؛ فإن هذه الكلمة اصطلاح للمحدثين، إذا أرادوا أن يختصروا، قالوا: "يرفعه" بالياء المثناة التحتية، فعلًا مضارعًا، يعني يرفع الحديث إلى رسول الله، بدلًا من أن يقولوا: "قال رسول الله". وقد أخطأ الأستاذ المحقق في تحريف نص للمقريزي يحكي فيه اختلاف القراء في قراءة حرف من القرآن؛ إذ لم يعرف اصطلاح علماء القراءات في حكايتهم للروايات، ولم يرجع إلى شيء من كتبهم، وهي كثيرة مطبوعة، ولم يسأل أحدًا من أهل العلم بها، وما ينبغي مثل هذا في التعرض لحروف القرآن: اختلف القراء في كلمة "يعرشون" من آية النحل، فحكى المقريزي قراءتهم قال: "فقرأ ابن

عامر "يعرُشون" بضم الراء، وقرأ الباقون بكسرها إلَّا عاصمًا فإنه اختُلف عنه، فرُوي الوجهان جميعًا". وهذا كلام واضح لا عوج فيه، أكثر القراء قرؤوا بكسر الراء، وابن عامر قرأ بضمها، وعاصم قرأ بهما معًا. روي عنه الوجهان جميعًا. ولكن الأستاذ المحقق أفسد الكلام، ويعذرني الأستاذ إذا استعملت هذه الكلمة، فإني لم أجد خيرًا منها في موضعها، غيّر كلمة "عنه" فجعلها "عنهم"، وغير كلمة "الوجهان" فجعلها "الوجهين"، فصار الكلام هكذا: "إلَّا عاصما فإنه اختلف عنهم، فروى الوجهين جميعًا" وهذا كلام لا معنى له، ولا يجوز لأحد أن يتصرف في كلام المؤلفين إلى هذا الحد، وإن أثبت الأصل بالهامش، فإن هذا عبث وإقدام على العلم وجرأة، نعيذ أبناءنا المتثبتين أن يفعلوه، أو أن يعود إليه من فعله منهم مرة. والله يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل. ولو ذهبت أتتبع أمثال هذه الأغلاط في الكتاب، لتعبت وأطلت وأمللت القارئ، وما أريد إلَّا وضع الأمور مواضعها، وتنبيه الأستاذ المحقق إلى أمثلة مما صنع، عساه أن يتحرى في إخراج سائر كتب "مكتبة المقريزي الصغيرة"؛ فيخرجها على النحو الذي يجب أن تخرج فيه بين يدي القراء، حتى تكون تحفة وأثرًا نافعًا، إن شاء الله. وقد رأيت في الكتاب بعض أغلاط لغوية، أحب أن أنبه إلى ثلاثة منها: ص 8: "سوس المدائن الكثيرة الأهل". قال الأستاذ في تعليقه:

"كذا في الأصل، والصحيح سياسة". وما في الأصل صحيح، فالسوس والسياسة: كلاهما مصدر "ساس يسوس" كما في لسان العرب. ص 32: "فتجدها الرعاة" ذكر الأستاذ في التعليق: "في الأصل: الرعا". والمعتاد في الخطوط القديمة حذف الهمزة، لا حذف الهاء، فالصواب أن تقرأ "الرعاء" بكسر الراء وبالمد، وهو جمع راع، يقال: "راع، ورِعاء"، و"راع، ورعاة". ص 81: "ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار (؟ ) ". فيظهر من علامة الاستفهام أن الأستاذ المحقق اشتبه في أن كلمة "الأقطار" خطأ، وهي صواب، الأقطار: النواحي، واحدها "قطر"، وهي كلمة قرآنية معروفة. * * *

مقتل مالك بن نويرة وموقف خالد بن الوليد

مقتل مالك بن نويرة وموقف خالد بن الوليد (*) أصدر سعادة الدكتور محمَّد باشا هيكل بضعة كتب في التاريخ الإِسلامي في الصدر الأول، وكان عملًا ناجحًا؛ ناجحًا من ناحية النَّفاق تمامًا، فما يكاد الكتاب منها يصدر حتى تتخطفَه الأيدي، وحتى تكادَ نُسخُه تَنْفَد من السوق، وناجحًا من الناحية العلمية بعض النجاح. ولو لم يكن من أثره إلَّا أن يُحبَّبَ إلى شبابنا - الذين كدنا نفقدهم قراءة سيرة رسولهم، وأخبار قومهم وسلفهم، وكانوا من قبلُ يُعرضون عن دينهم وعن عروبتهم، ويتمسحون في أوربة ويقدسونها، ويجهلون كلَّ ميزة لقومهم، بل يكادون ينكرون أنهم أمة من الأمم! لو لم يكن من أثره إلَّا هذا لكفى. وقد تناول الباحثون المحققون كتابه الأوّل "حياة محمَّد" بالنقد، وطال الجدال حوله حتى لقد ذهب ذاهبون إلى أنه منقول أو مقتبس أو مترجم عن كتاب بهذا الاسم لمستشرق يدعى درمنغهام، ولم يكن لنا سبيل إلى تحقيق ما قالوا؛ إذ لم نطلع على كتاب درمنغهام، عن جهلٍ منا باللغة التي كتب بها. وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية أخيرًا، وظهر من عهد قريب، وسيكون لنا في ظهوره فرصة نحقق بها ما رُمي به كتابُ الباشا، فنقول فصوله وأبحاثه إلى مثيلاتها من الكتاب ¬

_ (*) مجلة المقتطف الجزء الثالث من المجلد 107 (1 أغسطس 1945 م)

المترجم، فنعرف ما أخذ أحدهما عن سلفه، بعد أن عرفنا أنه أخذ منه اسم الكتاب "حياة محمَّد"، وإن كان الكتابان - فيما يبدو لنا - متباينين، وسنرى في ذلك رأينا إن شاء الله. وكان فيما قرأنا من هذه الكتب، "كتاب الصديق أبو بكر" فأعجبنا منه حسنُ سرده للحوادث، والعناية بعرضها عرضًا جيدًا مشوّقًا. وأبين مزاياه قوةُ المؤلف ومقدرته في تلخيص الروايات وجمعها، وفي الاقتباس والتضمين، حتى ليبدوَ الكلام نسقًا متقاربًا، فإذا ما تأمله العارف وضح له الفرق بين الكلام المقتبس والكلام المؤلَّف، وقد استيقنّا من ذلك في مواضع كثيرة، قارنّا فيها قصَّهُ للوقائع إلى نصوص الأقدمين من المؤرخين وخصوصًا ابن جرير الطبري. ولهذه الطريقة الطريفة فائدة نحرص عليها، أن يمرن القارئون المحدثون على قراءة النصوص العالية القوية البليغة، التي تحدث بها الفصحاء والبلغاء من الرواة والمؤرخين السابقين، مما كاد يهجره أهل هذا العصر. وكان لنا على كتابه هذا مآخذ، بعضها هيّن، لا يغض من قيمته، وبعضها خطير. وأخطرها - فيما أرى - وأبعدها مدًى في الإبطال، صنيعه فيما كان بين خالد بن الوليد ومالك بن نويرة، وحبه الإتيان بما لم يأت به الأوائل في الدفاع عن خالد، فجاء

حقيقة بما لم يأت به الأوائل! ! فقد لخص المؤلف - أو اقتبس - الروايات التي وردت في واقعة خالد ومالك، وذكر تضارب الأخبار فيها, ولكنهُ أتى في بعض الرواية بشيء لم نجد عليه دليلًا، وما نظنه يصح، فلو أنه صحَّ لم يكن لخالد عذر، ولم يكن أبو بكر ليعذره، ولوجب عليه أن يأخذه بدم مالك بن نويرة؛ فقد قال المؤلف (ص 145): "إلى هنا تتفق الروايات، ومن هنا يبدأ اختلافها، قال أبو قتادة: إن القوم أقروا بالزكاة وإيتائها. وقال غيره: بل أنكروها وأصرُّوا على منعها"! ! ولم يكن شيء من هذا، فيما نعلم، فقد كان من عهد أبي بكر إلى جيوشه في حروب الردة: "إذا نزلتم منزلًا فأذّنوا وأقيموا، فإن أذنَّ القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلَّا الغارة، ثم تقتلوا كل قِتْلَةٍ، الحرقَ فما سواه، وإن أجابوكم إلى داعية الإِسلام فسائلوهم، فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم، وإن أبوْها فلا شيء إلَّا الغارة، ولا كلمة". وهذا هو المعقول البديهيّ المعروف من شرعة الإِسلام، ومن أخبار الخلاف بين أبي بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة المرتدين، فقد كان عمر يظن أن منع الزكاة ليس ردةً، وأن إظهار الإِسلام وإقام الصلاة كافيان في حقن الدماء، فأقام أبو بكر عليه الحجة، حتى اطمأنّ إلى أن أداء الزكاة كإقام الصلاة شرط في صحة الإِسلام، فقال عمر: "فوالله ما هو إلَّا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفتُ أنهُ الحق".

فلو أن أبا قتادة ومن معه، الذين خالفوا على خالد، قبل مسيره إلى البُطاح (¬1) وبعده، وبعد أخذ مالك بن نويرة، شهدوا أن مالكًا وقومه "أقرُّوا بالزكاة وإيتائها" لم يكن خالد ليأمر بقتل رئيسهم مالكٍ إن شاء الله، فإنما كان مسيره ليرجعهم إلى الإِسلام وليأخذ منهم الزكاة، فماذا بعد أن يعطوا ما سار إليهم من أجله؟ لا شيء إلَّا العدوان وسفك الدم الحرام، ونعيذ بالله خالدًا ومن معه من ذلك. فهذه رواية لم نرها في شيء مما بين أيدينا من المصادر، ولا تكون صحيحة أبدًا، فما ندري من أين جاء بها المؤلف! ! وقد ساق المؤلف مسير خالد هذا المساق: "ثم إنه أزمع السير إلى البطاح يلقي فيها مالك بن نويرة ومن كان معه في مثل تردُّده، وعرف الأنصار هذا العزم منه فتردَّدوا وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنما عهده إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا. وأجابهم خالد: إن يكن عهد إليكم هذا، فقد عهد إليَّ أن أمضي، وأنا الأمير وإليّ تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني كتابٌ ولا أمرٌ، ثم رأيتُ فرصةً إن أعلنته بها فاتتني، لم أعلمه حتى أنتهزها، وكذلك إذا ابتلينا بأمر لم يعهد لنا فيه، لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصدٌ له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان، ولست أكرهكم". (ص 143 - 144) وهذا النص نقله المؤلف من تاريخ الطبري (3: ¬

_ (¬1) البطاح: بضم الباء، وقد ضبطت في الكتاب (ص 136) بكسرها، وهو خطأ.

241 طبعة الحسينية) واختصره بعض الاختصار، وحرَّفه بعض التحريف، وإن أتى بجملته ومعناه تقريبًا, ولا بأس، ولكنَّ في هذه الرواية شيئًا من الشذوذ، تحتاج معه إلى نقد وفحص؛ فليس من منطق الحروب ولا منطق الولايات أن يعهد الأمير الأكبر أو القائد الأعلى إلى من دونه من القواد والولاة بعهد ثم يعهد في الوقت نفسه إلى الجند أو إلى من دون القائد والوالي ممن يأتمرون بأمره بعهد آخر خاصٍّ بهم، بل المعروف في الدنيا كلها، وفي تاريخ الولايات في صدر الإِسلام خاصة، أن الأمير أو القائد له الطاعة الكاملة على من هو في ولايته من الجند والقواد، حتى لو كان أرفع درجة منه أو أقدم إسلامًا وهجرة، والمثل على ذلك حاضرة، يعرفها كل من قرأ شيئًا من التاريخ. فهذه الرواية إما أن يكون فيها شيء من الخطأ من رواتها، وإما أن يكون أبو قتادة - رضي الله عنه - ومن معه من الأنصار سمعوا شيئًا من أبي بكر، ظنوه عهدًا خاصًّا إليهم، فأخطؤوا سمعه أو فهمه، ثم أخطؤوا فيما ذهبوا إليه من الخلاف على خالد، فلما استبانوا خطأهم، بعد أن سار وتركهم، أرسلوا وراءه من استمهله حتى أدركوها ندمًّا على ما كان منهم، ودخلوا معه في أمره. وفي الطبري رواية أخرى تساير منطق الحوادث، وتساير منطق العهود والولايات (3: 225) فهي تقول: "لما أراح أسامة وجندُه ظهرهم، وجمُّوا، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضُل عنهم، قطع أبو بكر بالبعوث وعَقَد الألوية، فعقد أحد عشر لواءً، عقد لخالد بن

الوليد وأمره بطُليحة بن خُويلد، فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبُطاح إن أقام له". فهذا هو العهد الصحيح، وهو المعقول في شأن الولاة والقواد، أن يكون العهد لهم، وأن تصدر الأوامر إليهم، لا إلى من دونهم من القادة أو الجند. ولسنا نأخذ على المؤلف أن أتى بتلك الرواية, ولكنا كنا ننتظر منه أن ينقدها ويظهر ما فيها من ضعف، ونأخذ عليه أن أعْرض عن الرواية الصحيحة التي تصوّر الأمر تصويرًا منطقيًّا معقولاً، وتفسر تلك الرواية وتظهر ما فيها من ضعف أو وهم. ومما يدل على ضعف تلك الرواية أو بطلانها، أن أبا قتادة بعد أن عاد هو ومن معه إلى خالد، وبعد مقتل مالك بن نويرة، عاد إلى سخطه على خالد، فجادلهُ في مقتل مالك بن نويرة، يقول الطبري (3: 242) وصاحب الأغاني (14: 65 طبعة الساسي): "فزبره خالد، فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر، حتى كلمهُ عمر فيه، فلم يرضَ إلَّا أن يرجع إليه، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة". فهذا الخليفة، وهو القائد الأعلى إذ ذاك، يغضب على أبي قتادة، على فضله وسابقته، أن خالف عن أمر أميره وقائده، وأن ترك الجيش ورجع إلى المدينة يشكو أميره، لم يقبل له عذرًا, ولم يسمع له شكوى، وأبى إلَّا أن يرجع إلى أميره يكون في طاعته، لم يمنعهُ من ذلك شفاعة عمر، فأطاع وكافي مع أميره حتى وردا المدينة معًا، بعد تمام الغزو الذي خرجوا له.

أفرأيتم هذا يلائم تلك الرواية: أن أبا بكر عهد إلى أبي قتادة ومن معه من الأنصار عهدًا خاصًّا لا يعلمه أميرهم خالد؟ ! وأين احتجاج أبي قتادة بأنه إنما صنع هذا طاعة للعهد الخاص به، وماذا يكون جواب أبي بكر إن حجَّهُ أبو قتادة بما عهد إليه به؟ ! ولست أدري لماذا أعرض المؤلف عن هذا النص القاطع أيضًا؟ إلَّا أن يكون يسوقُ الروايات والأخبار كما يحب ويَرى! ثم قصَّ المؤلف قصة مقتل مالك بن نويرة، وتزوج خالد أو تسرّيه امرأة مالك بعد قتله، وحكى الروايات المتضاربة التي وردت في ذلك، ويطول القول لو أردنا أن نفصل ما فصلهُ أو نجملهُ. ولكن الثابت من مجموع الروايات أن ضرار بن الأزور الأسديّ قتل مالكًا، فبعضها يجعل هذا القتل عن خطأ في فهم اللغة! تزعم الرواية؛ أن خالدًا أمر مناديًا فنادى "دافئوا أسراكم. وكان في لغة كنانة إذا قالوا: دافأنا الرجل وأدفئوه. فذلك معنى اقتلوه، وفي لغة غيرهم أدفئوه من الدفء، فظنَّ القوم أنهُ يريد القتل، فقتلوه. فقتل ضرار بن الأزور مالكًا" (عن الأغاني 14: 65، والطبري 3: 242). وهذه رواية باطلة، تشبه أن تكون من خيالات الأدباء وفكاهاتهم، وبطلانها ظاهر من أول سياقها؛ فإنها تبدأ بأن الخيل جاءَت إلى خالد "بمالك بن نويرة وفيهم أبو قتادة، وكان ممن شهد أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر بحبسهم" وقد بيّنا فيما مضى من قبل أن الأذان وإقام الصلاة مع منع الزكاة لا يحقن الدم ولا يمنع من الحكم عليهم

بحكم الردة، فاختلاف السرية - في هذه الرواية - أو اتفاقها على أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا لا يقدّم ولا يؤخر، إذا كانوا لا يزالون مصرين على منع الزكاة، وإنما هذه الرواية أشبه بالأحاجي والألاعيب. وتذهب الروايات غيرها إلى أن خالدًا جادل مالكًا وطاوله، فلما استيقن من أمره أمر بقتله، وإن اختلفت ألفاظها فيما حكت من الحوار بينهما ففي تاريخ الطبري (3: 243) "وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال وهو يراجعهُ: ما إخال صاحبكم إلَّا وقد كان يقول كذا وكذا، قال: أو ما تعده لك صاحبًا؟ ! . ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه". وفي تاريخ ابن كثير (6: 322): "ويقال بل استدعى خالد مالكَ بن نويرة فأَنَّبَهُ على ما صدر منه من متابعة سَجَاحِ - المتنبئة الكاذبة - وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك! فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ يا ضرار اضرب عنقه". وفي ابن خلكان (2: 227 طبعة بولاق): فكلمه خالد في معناها - يعني الزكاة - فقال مالك: إني آتي بالصلاة دون الزكاة. فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معًا، لا تقبل واحدة دون أخرى؟ فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك! قال خالد: وما تراه لك صاحبًا! والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجاولا بالكلام طويلًا فقال له خالد: إني قاتلك. قال: أو بذلك أمرك صاحبك! قال: وهذه بعد تلك والله لأقتلنك".

وفي رواية لصاحب الخزانة (1: 237 طبعة بولاق) من رسالة لأبي رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، أن أبا بكر بعث خالد بن الوليد "وأمره أن لا يأتي الناس إلَّا عند صلاة الغداة، فمن سمع فيهم مؤذنًا كفَّ عنهم، ومن لم يسمع فيهم مؤذنًا استحلهم، وعزم عليه ليقتلن مالكًا إن أخذه" وإن خالدًا لما أخذ مالكًا قال له: "يا بن نويرة هلمَّ إلى الإِسلام. قال مالك: وتعطيني ماذا؟ قال: ذمة الله وذمة رسوله وذمة أبي بكر وذمة خالد بن الوليد. فأقبل مالك وأعطاه بيديه، وعلى خالد تلك العزمة من أبي بكر. قال: يا مالك إني قاتلك. قال: لا تقتلني. قال: لا أستطيع غير ذلك. قال: فأت ما لا تستطيع إلَّا إياه. فقدمهُ إلى الناس فتهيبوا قتله، وقال المهاجرون: أتقتل رجلًا مسلمًا! غير ضرار بن الأزور الأسدي من بني كوز، فإنه قام فقتله". فهذه الروايات وغيرها تدل على أن خالدًا لم يقتل مالكًا إلَّا بعد حوار وجدال، وأنه لم يقتل لخطأ في فهم الأمر بالدفء كما تزعم الرواية الأولى، وإن كان في الرواية الأخيرة ما يفهم منه أن خالدًا أمّن مالكًا وأعطاه الذمة، فيكون قتله بعد ذلك غدرًا, ولكنها لا تدل هي ولا غيرها على أنه عاد إلى الإِسلام وأقر بالزكاة، وهذه الرواية تساير ما روى ابن خلكان وغيره أن متمم بن نويرة جاء إلى أبي بكر يستعديه على خالد ويعتب على أبي بكر، قال ابن خلكان: "فلما بلغه مقتل أخيه حضر إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح خلف أبي بكر الصديق، فلما فرغ من صلاته وانفتل في محرابه، قام متمم فوقف

بحذائه واتكأ على سِيَة قوسه، ثم أنشد: نِعْمَ القتيلُ إذا الرياح تناوجت ... خلفَ البيوت قَتلتَ يا بنَ الأزْوَرِ أَدَعَوتَهُ بِاللهِ ثُمّ غَدَرْتَهُ ... لَوْ هُو دَعاكَ بِذِمَّةٍ لَمْ يَغْدِرِ وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غدرتُهُ". وأكثر الروايات وأرجحها تدل على أن خالدًا كان موقنًا من ردة مالك، وإصراره على منع الزكاة، ولم توجد رواية قط تثبت إثباتًا قاطعًا أن مالكًا رجع عن ردته، وأعطى مقاده مخلصًا للدَّين، وإنما أعطى مقاده مغلوبًا على أمره، وكان يرجو أن يضع يده في يد أبي بكر لعله يجد عنده عطفًا أو لينًا، فلم يمكنه خالد من ذلك، وأخذه بالعزم وقتله. وهذا متمم أخو مالك لم يدَّع قط أن أخاه قتل بعد توبةٍ، إنما ادعى أن خالدًا غدر به، بل هو يدعي في شعره أن الغدر كان من ضرار بن الأزور، وإنما أشار إلى أبي بكر أن كان هو الأمير الأكبر، فهو المسؤول عن أعمال عماله؛ خالدٍ فمن دونه. ولو أيقن متمم أن أخاه تاب عن ردته وأقرَّ بالزكاة كما أقرَّ بالصلاة، لكان له قول غير هذا القول، وشأن غير هذا الشأن. وكذلك كان قوله حين قال له عمر: "لوددت أنك رثيت أخي زيدًا بمثل ما رثيت به مالكًا أخاك. فقال: يا أبا حفص، والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته. فقال عمر: ما عزاني أحد عن أخي بمثل تعزيته" (ابن

خلكان 1: 228 والأغاني 14: 68) فهذه الرواية تدل على أن متممًا لم يكن يجزم بأن أخاه مات مسلمًا، إن لم تدل على معرفته بأنه قتل في ردته؛ لأن زيد بن الخطاب، أخا عمر بن الخطاب، قتل شهيدًا يوم اليمامة، فيشير متمم إلى هذا، أن زيدًا صار إلى الجنة؛ إذ قتل شهيدًا مسلمًا، ويشك - على الأقل - في أن مصير أخيه مالك كمصير زيد. فلم يك خالد متجنيًا ولا عاديًا، وإنما كان حازمًا سريع الفصل، يعرف ما يأتي وما يدع، ويرى الإِسلام في خطر من دعاة الردة، ويرى الموقف على حقيقته بنظرة رجل الحرب، ويعرف عواقب التردد أو التهاون، ويعرف خصمه مالكًا، ويعرف قوته وأثره في قومه، والشاهدُ يرى مالا يرى الغائب، فلن يؤخذ على خالد - إن كان عليه فيما أتى مأخذ، إلَّا أنه تسرَّع، أو تأول فأخطأ، ولا حرج. وأما ما يرجف به المرجفون، من أنه إنما صنع هذا بمالك رغبةً في امرأته ليلى بنت سنان، وأنه كان بينهما هوًى في الجاهلية، فما نظنه إلَّا من نسج الخيال، ومن أقوال الأعداء المغرضين، فالثابت أن خالدًا أخذ ليلى سبيًا بعد مقتل زوجها، وأنه بني عليها بعد انقضاء طهرها، وبعض الرواة يعبر عن هذا بالزواج، ففي الطبري (3: 242) "وتزوَّج خالد أم تميم ابنة المنهال - هكذا سميت في هذه الرواية - وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره" وهذا تعبير شاذ يذهب الثقة بهذه الرواية وأمثالها؛ فإن كراهة

العرب النساء في الحرب - إن صحت - لا تكون حجة في الإِسلام، وهو تشريع أُنفٌ، لا يقرّ كثيرًا من تقاليد العرب في الجاهلية، بل ينهاهم عن أكثر ما كانوا عليه وما كان عليه آباؤهم من قبل. والظاهر من سياق الروايات في الوقعة وما دار حولها، أن خالدًا سبى نساء القوم، أي أخذهنَّ رقيقًا غنيمة، كحكم الإِسلام في حرب الكفار والمشركين، واصطفى لنفسه من السبي امرأة مالك، والإِسلام يجيز ذلك، وأنهُ استبرأها بحيضة واحدة، ثم دخل بها، وهذا عمل مشروع جائز، لا مغمز فيه ولا مطعن، وأن أعداءه والمخالفين عليه رأوا في هذا العمل فرصتهم، فانتهزوا، وذهبوا يزعمون أن مالك بن نويرة مسلم، وأن خالد قتله من أجل امرأته، وذهبوا ينسجون حول هذا الأكاذيب، حتى بلغوا بذلك عمر، وكان سيئ الظن بخالد، ولم تكن بينهما مودة، يقول صاحب الأغاني (14: 66): "فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر، وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته" وأكثر عمر في ذلك على أبي بكر، حتى قال له: "هبه يا عمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد". وحمى أبو بكر قائده العظيم من الأراجيف، وقضى على الفتنة بأن أدى دية مالك، وكتب إلى خالد برد السبي (الطبري 3: 242) فهذا من أبي بكر سياسة واحتياط، فإن كان القوم قد تابوا ورجعوا إلى الإِسلام، كما يزعم خصوم خالد والمخالفون عليه، فالدية للقتل الخطأ، والسبي يرد على أهله، وإن تكن الأخرى لم يكن

بذلك بأس. وتجري بعض الروايات، بأن أبا بكر أمر خالدًا أن يفارق امرأة مالك (الإصابة 6: 36 - 37)، ولكني لا أظنها رواية ثابتة، فإن أكثر الروايات على أن أبا بكر حين جاءه خالد واعتذر إليه، عذره "وتجاوز عنهُ ما كان في حربه تلك". (الطبري 3: 243، والأغاني 14: 66) ويروي صاحب الخزانة عن رسالة أبي رياش (1: 238): "وأخذ خالد بن الوليد ليلى بنت سنان امرأة مالك، وابنها جراد بن مالك فأقدمهما المدينة، ودخلها وقد غرز سهمين في عمامته فكأن عمر غضب حين رأى السهمين، فقام فأتى عليًّا فقال: إن في حق الله أن يقاد هذا بمالك، قتل رجلًا مسلمًا، ثم نزا على امرأته كما ينزو الحمار! ثم قاما فأتيا طلحة، فتتابعوا على ذلك، فقال أبو بكر: سيف سله الله لا أكون أول من أغمده، أكلُ أمره إلى الله. فلما قام عمر بالأمر، وفد عليه متمم فاستعداهُ على خالد، فقال: لا أرد شيئًا صنعه أبو بكر. فقال متمم: قد كنت تزعم أن لو كنت مكان أبي بكر أقدته به؟ فقال عمر: لو كنت ذلك اليوم بمكاني اليوم لفعلتُ، ولكني لا أرد شيئًا أمضاه أبو بكر. ورد عليه ليلى وابنها جرادًا". ومجموع هذه الروايات وغيرها مما لم نذكر، يدل على أن امرأة مالك كانت سبيًا، كغيرها من النساء اللائي غنمنَ في الحرب، وأن خالدًا أخذها هي وابنها ملك يمين، لم يتزوّجها بعد مقتل زوجها، كما يوهم ظاهر بعض الروايات. وحكم السبي والرقيق في الشريعة

معروف، يخالف حكم الزوجة؛ فالزوجة إذا توفي عنها زوجها لا يحلّ زواجها إلّا أن تنقضي عدتها؛ إن كانت حاملًا بوضع حملها، وإن كانت غير حامل تربصت أربعة أشهر وعشرة أيام، لا يجوز غير ذلك. فإذا عقد عليها في حملها أو قبل انقضاء الأربعة الأشهر والعشرة الأيام كان العقد باطلًا، وكان قربانها سفاحًا حرامًا. وأما السبي والرقيق فإنه يحل ملكها ملك يمين وإن كانت حاملًا؛ لأنه لا عدة عليها إذا سُبيت، وإنما يحرم حرمة قطعيةً أن يقربها مالكها إن كانت حاملًا قبل أن تضع حملها، وإن كانت غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة. هذه أحكام بديهية في الشريعة، لا يعذر أحد بجهلها، فلا أدري كيف خفيت على المؤلف العلامة الكبير، حتى جزم في غير تردد ولا احتياط بأن خالدًا تزوَّج امرأة مالك، وأنه "نزا عليها قبل انقضاء عدتها"! ! ولست أتجنى عليه أو أحمل كلامه على محمل سيئ، بل حاولت أن أحمله على أحسن محامله؛ لأنزهه عن هذا الذي قال، فلم أستطع. وهاكم نص كلامه في هذا الخلاف بين أبي بكر وعمر، ثم الاعتذار عن خالد، قال في (ص 151) ما نصه بالحرف: "الرأي عندي في هذا الخلاف أنه كان اختلافًا في السياسة التي يجب أن تُتَّبع في هذا الموقف، وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين. أما عمر، وكان مثال العدل الصارم، فكان يرى أن خالدًا عدا على

امرئٍ مسلم ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها، فلا يصح بقاؤه في قيادة الجيش، حتى لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين، ويسيء إلى مكانتهم بين العرب، ولا يصح أن يترك بغير عقاب على ما أثِمَ مع ليلى، ولو صح أن تأول فأخطأ في أمر مالك، وهذا ما لا يجيزه عمر، فحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحدّ. وليس ينهض عذرًا له أنه سيف الله، وأنه القائد الذي يسير النصر في ركابه، فلو أن مثل هذا العذر نهض لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم، ولكان ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله؛ لذلك لم يفتأ عمر يُعيد على أبي بكر ويلحَّ حتى استدعى خالدًا وعنّفه على فعلته، أما أبو بكر فكان يرى الموقف أخطر من أن يقام فيه لمثل هذه الأمور وزن، وما قَتْلُ رجل أو طائفة من الرجال لخطأ في التأويل أو لغير خطأ، والخطر محيق بالدولة كلها، والثورة ناشبة في بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وهذا القائد الذي يُتَّهم بأنه أخطأ من أعظم القوى التي يُدفع بها البلاء ويُتقى بها الخطر! وما التزوج من امرأة على اختلاف تقاليد العرب، بل ما الدخول بها قبل أن يتم طهرها، إذا وقع من فاتح غزا فحقَّ له بحكم الغزو أن تكون له سَبَايا يصبحن ملك يمينه! ! إن التزمُّت في تطبيق التشريع لا يجب أن يتناول النوابغ والعظماء من أمثال خالد، وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر"! ولقد ترون ما أرى، أن هذا المؤلف لبس رداءَ المحامي النابه وأخذ بقلم المكاتب الحزبي القدير، وهما صناعتاه المفضلتان،

اللتان مارسهما طول حياته حتى بلغتا به ما بلغ، وهما اللتان تحملان صاحبهما - عن غير قصدٍ - على أن ينظر للأمر من ناحية واحدة، فيبالغ فيها حتى يبلغ الغاية في القوة، حتى إذا ما أراد أن ينظر إليه من الناحية الأخرى غلبته ناحيته الأولى حتى يبلغ الغاية في الضعف! ! فلا يكاد يصل إلى تحقيق، ثم يضطرب في يده ميزان العدل. وهكذا كان شأنه هنا، اتّجه به تحقيقه عن غير قصدٍ إلى أنَّ عملَ خالد جريمة، فصورَّها أقوى تصوير، وخفي عليه الفرقُ بين الزواج والسبي، وخفي عليه الفرق بين العدَّة والاستبراء، وخفي عليه حكم الإسلام فيمن تزوج امرأةً في عدَّتها، أو قارب ثيبًا من الرقيق قبل أن يستبرئها، وخفي عليه بعد ذلك كثير من مقاصد الإسلام وأحكامه، ومن خُلُق المسلمين الأولين وسيرهم، فذهب يجزم بأن خالدًا "عدا على امرئ مسلم، ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها" ينسب ذلك إلى عمر، لا يشك فيه ويجزم بأن الذي كان من خالد زواج ثم دخول قبل انقضاء العدة، ثم يصوّر أثر ذلك في قيادة الجيش وفي مكانة المسلمين بين العرب، ثم يرى رأي عمر أن الحدّ على خالد واجب. فلما أن أراد أن يدافع عن خالد، ويبرّر فعل أبي بكر في التجاوز عنه، تخاذل ثم تخاذل حتى جثا على ركبتيه فلم يصنع شيئًا، إلَّا أن أتى بما لا يقره شرع ولا عدل، لا في دين الإسلام ولا في سائر الأديان، فقد أتى بما لم يأت به الأوائل! ! وسأزيد الأمر بيانًا حتى لا يخفى على من لا يعرف شيئًا من

أحكام الإسلام، فقتل المرء المسلم عمدًا جريمة من أكبر الكبائر، يجب فيها القصاص، لا يملك أحد العفو عنه إلَّا وليّ الدم من عصبة القتيل وحده، لا يملكه خليفة ولا ملك ولا دولة، وتزوج المرأة في عدة زوجها بعد موت أو طلاق، زواج باطل لا أثر له، وقربان المرأة بسببه زنًا ليس فيه شبهة، ويجب فيه الحدّ، الرجم على المحصن والجلد على غيره، لا يملك أحد أبدًا العفو عنه، لا صاحب العرض، ولا المرأة، ولا الدولة، لا أحد قط، وكذلك حكم قربان الأمة المسبية في الحرب إذا كانت ثيبًا قبل استبرائها بحيضة واحدة. ثمَّ هذه المحرمات القطعية البديهية التحريم إذا وقع فيها أحد إنما يجب عليه ما يجب فيها من الحد أو القصاص، إذا كان لا ينكر أنها حرام، أما إذا أنكر أنها حرام واستحلها فإن حكمه في الشريعة أن يكون مرتدًّا خارجًا عن الإسلام، وحكم المرتد معروف، وكذلك يجري حكم الردة على من عرف وقوع ذلك وأقره ورآه أمرًا هينًا لا إثم فيه، أو فيه إثم قليل؛ لأنه ينكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة. ثم هذا الدين في عهد أبي بكر وعمر، كان دينًا فقط، لم تشبه شائبة السياسة، ولا شائبة الدنيا والغرور بها، وكان هؤلاء الناس إنما قاموا يقاتلون في سبيل الله، يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، يقاتلون لترسخ قواعد الإسلام وأخلاقه وآدابه في العرب أولًا، ثمَّ في سائر الأمم من بعد. فإذا بدؤوا في أول أمرهم - كما يصوّرهم المؤلف - بالتهاون في أدق شيء عند العربي، وهو العرض وما يمس

النساء، وفي كبيرتين من أكبر الكبائر، القتل والزنا، فأنّى يستقيم لهم الدين، وأنّى يرجون من الله النصر؟ ثم ممن يكون هذا التهاون؟ من أبي بكر؟ حتى يرميه المؤلف بأنه "كان يرى الموقف أخطر من أن يقام فيه لمثل هذه الأمور وزن" وأنه "ما التزوج من امرأة على خلاف تقاليد العرب بل ما الدخول بها قبل أن يتم طهرها"! ! أتظنون أيها الناس أن يستطيع رجل من عامة المسلمين، فضلًا عن أصحاب رسول الله، فضلًا عن أبي بكر، أن يرى هذا الرأي، ثم يزعم أنهُ مسلم، أو يزعمَ له أحد أنهُ مسلم؟ ! أبو بكر يقول لعمر: "هبهُ يا عمر تأوَّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد". وهذا هو الحق، وتأول خالد واضح لمن فهم شرائع الإسلام وحقائقه، أيقن من ردة مالك بن نويرة، ولم يوقن من توبته إلَّا بما شهد له ناس أنهم سمعوا الأذان في ناحيته، وإلاَّ قوله لخالد في بعض الروايات أنهُ مسلم، ولم يشهد أحد لمالك أنهُ أقرَّ بالزكاة، ولم يقل هو ذلك أيضًا، بل قال لخالد: "إني آتي الصلاة دون الزكاة". ثم تفلت منهُ بعض كلمات تنبئ عن إصراره، فلا يرى خالد مناصًا من قتله، فتكون نساؤه سبيًا بحكم الشريعة، ثم نجد أخاه متمم بن نويرة لا يكاد يرثيه بكلمة تنبئ عن إسلامه، بل يدّعي غدر خالد وغدر ضرار، ويصرح بالفرق بين استشهاد زيد أخي عمر ومقتل مالك أخيه. أفلا يكون في كل هذا عذر ومتأوَّل لخالد؟ ! ثم بعد هذا كله تبقى ليلى وابنها في يد خالد ملك يمين، مدة

خلافة أبي بكر، وبعض خلافة عمر، حتى يأتي متمم بن نويرة فيستعدي عمر على خالد، وقد صار الخليفة وولي الأمر، فلا يعديه عمر، ويأبى أن يغير حكم أبي بكر، ولكنهُ يرضيه بأن يردّ عليه امرأة أخيه وابنها. ولسنا نفهم هذا الردّ إلَّا بأن عمر طلب إلى خالد أن ينزل عنهما، وهما ملك يمينه، فيرضى ولا يأبى، استجابةً لرغبة عمر، لا طاعة لحكمه، فليس في سلطان أمير المؤمنين أن يأخذ أموال الناس كرهًا، ولم يكن ذلك من عملهم ولا من خلقهم. أفيظن ظانٌّ أن الصدر الأول من أصحاب رسول الله كانوا يقرُّون خالدًا على استبقاء ليلى امرأة مالك وهم يعلمون أنها تعاشره بعقد باطل حرام، كما يصور المؤلف زواجه إياها قبل تمام طهرها! اللهمَّ غفرًا. لشدّ ما أخشى أن يكون المؤلف تأثر بما قرأ من أخبار نابليون وغيره من ملوك أوربة في مباذلهم وإسفافهم، وبما كتب الكاتبون من الإفرنج في الاعتذار عنهم، لتخفيف آثامهم بما كان لهم من عظمة، وبما أسدوا إلى أممهم من فتوح وأيادٍ، حتى يظن بالمسلمين الأولين أنهم أمثال هؤلاء فيقول: "إن التزمُّت في تطبيق التشريع لا يجب أن يتناول النوابغ والعلماء من أمثال خالد"! ! ! وهذا قول يهدم كلَّ دِين وكلَّ خلق. إن هذه النظرية، نظرية تبرير الجرائم والمنكرات، بعظمة العظماء، ونبوغ النوابغ وارتفاع الزعماء، وآثار القادة والكبراء، نظرية خطيرة، لا تقوم معها للأمم قائمة تنحدر بها إلى مهاوي

الشهوات، وتنتهي بها إلى الإباحية ثم إلى الانحلال، كما انحلت فرنسة وغيرها من الأمم، بما استرسل كبراؤهم وزعماؤهم في التبذل والترف، وتبعهم العامة والدهماء {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16]. ومعاذ الله أن نظن مثل ذلك بالصدر الأول من الصحابة والتابعين، عهد أبي بكر وعمر، وسيرهم معروفة، وآثارهم مشاهدة، وفضلهم على العالم كله لا ينكر. وليت المؤلف الفاضل يشرح لنا في هذا الأمر وجهة نظره، ويبين لنا لحساب من يقرأ هذه النظرية الخطرة المدمرة؟ ! أما قسوة عمر في اتهام خالد عند أبي بكر، فإنها قسوة الرجل العادل الحازم، لم يشهد الأمر بنفسه، ولم يكُ قاضيًا فيه، إنما بلغهُ أمر، فكان لسان الاتهام يقرّر ما سمع، ويعرضه على الخليفة ولي الأمر، والخليفةُ بما يملك من سلطة القضاء، سأل خالدًا عما نسب إليه، وسمع قول أبي قتادة وغيره، ثم حكم بما استبان له، فعذرَ خالدًا، ولم يجد في عمله موضعًا للقصاص، ولا موجبًا للحدّ. فكان حكمًا قاطعًا، لا يجوز لعمر ولا لغيره أن يستأنف النظر فيه، ولذلك قال لمتمم في خلافته: "لا أرد شيئًا صنعهُ أبو بكر. فقال متمم: قد كنت تزعم أن لو كنت مكان أبي بكر أقدته به. فقال عمر: لو كنت ذلك اليوم بمكاني اليوم لفعلتُ، ولكني لا أرد شيئًا أمضاهُ أبو بكر". وما نظن عمر يفعل ما كان يريد لو كان خليفة ذلك اليوم، إنما هو يبين

عن رأيه في أمر قد نظر إليه من جانب واحد، هو جانب الاتهام، ولعله لو قد سمع الطرف الآخر - طرف الدفاع - ونظر إلى الأمر من الجانبين، كما نظر إليه أبو بكر، لانتهى إلى ما انتهى إليه حكم أبي بكر. وفي مثل هذا تختلف أنظار القضاة، ويختلف اجتهاد المجتهدين، في وزن الأدلة، وتقدير البراهين. فلن تكون كلمة عمر وحدها حجة على خالد، تثبت عليه إجرامًا لم يثبت عند الحاكم، وقد برَّأه الحاكم مما نسب إليه، ولن تكون كلمة عمر وحدها حجة على أبي بكر، حتى يُتهم بالتهاون في شأن جرم يوجب الحدّ أو القصاص، وبأنهُ كان يتزمَّت في تطبيق التشريع على العامة والدهماء، ولا يتزمَّت في تطبيقه على النوابغ والعظماء! ! كفعل ساسة هذا العصر! ومع هذا كله، فإن عمر رجع عن كل ما كان يظن بخالد وينسبه إليه، فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبير (7/ 2/ 121) بإسناد من أصح الأسانيد التي يصححها المحدّثون في رواية السنَّة أنهُ: "لما مات خالد بن الوليد قال عمر: يرحم الله أبا سليمان، لقد كنا نظن به أمورًا ما كانت". وليس بعد هذه الشهادة شهادة، من رجل كان من أشدّ الناس قسوة على خالد، وكان لسان الاتهام في هذه الوقعة بعينها. رضي الله عنهم جميعًا. وبعد؛ فإن كتاب المؤلف لا يزال مع هذا كتابًا قيمًا، جديرًا بما نال من تقدير، أفدنا منهُ فوائد جمة، وأعجبنا بكثير من أبحاثه، ووقفت عند كثير من روائعه، مغتبطًا متذوقًا ما فيها من بلاغة، مهتزًّا

بما صدقت في الوصف، وبما احتوت من قوة التصوير. ومن أحسن كلماته التي أوفى فيها على الغاية، وأطلتُ الوقوف عندها، كلمة أقتبسها هنا؛ لتكون دستورًا لكثير من الباحثين والكاتبين، علهم ينتفعون بها، ويتعظون بما وعظهم المؤلف فيها. قال (ص 33): فما أكثر الذين لا يؤمنون بالكثير من آراء الناس ويرونها مينًا باطلًا وحديث خرافة، ثم يكتمون ذلك أو يتظاهرون بنقيضه، التماسًا للعافية وجرًّا للمنفعة، وحرصًا على ما بينهم وبين الناس من تجارة، وأنت لا تجد هذا النِّفاق في سواد الناس وعامتهم ما تجده في المثقفين منهم، بل إنك لتجدهُ فيمن نصبوا أنفسهم لزعامة الناس والإبانة لهم عن وجه الحق في الحياة". * * *

الفاروق عمر للدكتور محمد حسين هيكل

الفاروق عمر (*) تأليف الدكتور محمَّد حسين هيكل باشا (¬1) وهذا أحدث كتاب أخرجه سعادة الدكتور محمَّد باشا هيكل في التاريخ الإسلامي، على النهج الذي سار عليه منذ عشر سنين، فكان عملًا جيدًا، أفادت منه الطبقة المحدثة من المثقفين، وقد ألف كثير منهم سهل الكلام ولينه، واستعصت عليهم كتب المتقدمين ونفروا منها، حتى جهلوا كثيرًا من تاريخ قومهم، فجاءت كتب سعادة المؤلف عملًا جديدًا، نهجًا وسطًا، بين كتب المتقدمين القوية الرائعة، وبين ما ابتليت به العربية، من القصص والروايات، الغالي منها والرخيص، والقوي منها والسخيف. عرض فيه التاريخ الإسلامي عرضًا شائقًا منظمًا، في لغة جيدة رائعة، رصعها بكثير مما اقتبس من عبارات المؤرخين السابقين؛ فقرب إلى المتوسطين ما بعد عنهم، وراض لهم ما استعصى عليهم، حتى إن الكتاب ليأخذ بلب القارئ، فلا يكاد يستطيع أن يضعه من يده إلَّا أن يأتي على آخره. وهذا الكتاب كتاب جيد حقًّا، فيه تيسير للقارئ حتى يستوعب ¬

_ (*) مجلة الكتاب، المجلد الأول، السنة الأولى، الجزء الأول ذو القعدة 1364 - نوفمبر 1945. (¬1) الجزء الثاني 368 صفحة من القطع الكبير، مطبعة مصر، القاهرة 1945

سيرة عمر وفتوحاته وأعماله استيعابًا مفيدًا، ويوفر عليه جهدًا عظيمًا في تتبع الأخبار في مظانها من كتب التاريخ والتراجم، إذا لم يكن من أرباب العزائم المجتهدين. ولو شئنا أن نأتي بشواهد من صعاب التاريخ وسياق الحوادث في تلك الحقبة، مما يسره المؤلف على القارئ وحققه بقلمه السلسال السيال؛ لطال الأمر جدًّا، ولكن الكتاب بين يدي القارئ فليفد منه ما شاء. ولسنا بسبيل التقريظ والمدح، فما كان المؤلف ولا كتابه بحاجة إليهما، ولكنا بصدد نقد الكتاب نقدًا علميًّا صحيحًا، ببيان مزاياه، وقد أشرنا إلى بعضها، وبالاستدراك على ما وقع فيه من أخطاء، بعضها ظاهر، وفي بعضها موضع للنظر والتحقيق وتداول الآراء، أداءً لواجب الأمانة، وإخلاصًا في النصيحة للعلم والقراء. وسأسوق مآخذي مساق الكتاب، كما وردت في مواضعها أولًا فأولًا، وذلك خير من تصنيفها على الأنواع المتجانسة، وأيسر على القارئ المتتبع. 1 - وأول ما آخذه على سعادة المؤلف وعلى كثير من المتعرضين للتأليف في هذا العصر، أنهم يذكرون مصادر كتبهم، أعني المراجع التي يرجعون إليها أو يقتبسون منها، جملةً واحدةً في آخر الكتاب، ثم لا يشيرون إليها في كل موضع مناسب نقلوا فيه أو اقتبسوا، وفي ذلك إرهاق للقارئ وتعمية عليه وإعنات له، إذا ما أراد أن يتوثق من صحة النقل، أو يحقق موضعًا يرى فيه رأيًا يخالف ما ذهب إليه المؤلف، أو غير ذلك من المقاصد العلمية الدقيقة. وحقًّا لقد أتعبني

هذا الكتاب أيامًا طوالًا في تتبع النصوص والوقائع في مظانها من مراجعها ومن غيرها، ولعله فاتني التوثق من بعضها، بعد تجويد البحث وطول العناء. وبمناسبة المراجع، هل يأذن لي المؤلف أن أذكّره بمراجع مهمة حافلة في ترجمة عمر؟ لا أدري لم أغفلها، فلم يرجع إليها ولم يذكرها في مصادره؟ وسأكتفي بالمراجع المطبوعة، أما المخطوطات فأمرها فيه عسر وتكلف، وهذه الكتب المطبوعة هي: "سيرة عمر بن الخطاب" للحافظ أبي الفرج بن الجوزي المتوفى سنة 597، وهو كتاب حافل في 256 صفحة. ترجمة عمر في كتاب "حلية الأولياء" للحافظ أبي نعيم الأصفهاني المتوفى سنة 430 (ج 1 ص 38 - 55). ترجمته في "صفة الصفوة" لابن الجوزي (ج 1 ص 101 - 112). ترجمته في تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 (ج 1 ص 6 - 8). مسند عمر بن الخطاب للحافظ يعقوب بن شيبة المتوفى سنة 262، وهو مطبوع حديثًا، طبعه الدكتور سامي حداد في المطبعة الأمريكانية ببيروت سنة 1940، عن مخطوطة أثرية عتيقة. وترجمة عمر في كتاب "شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد (ج 3 ص 92 - 180) وهي ترجمة واسعة حافلة. ثم ترجمة عمر في كتب تراجم الصحابة والرجال؛ كالاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وتهذيب التهذيب وغيرها. 2 - (ص 47) في فتح إصطخر ذكر المؤلف رئيس الفرس وقائدهم

باسم "الهربز" وضبطه بكسر الراء وفتح الباء وبالزاي في آخره، وكرره بعد ذلك كثيرًا بهذا الاسم، وضبط الهاء في بعض المواضع بالكسر. وهذا - فيما نرى - غلط لا نعرف له وجهًا، إلا أن يكون المؤلف يريد مقاربة الاسم الأعجمي، إن كان هو يعرف اللغة الفارسية، وما إخاله. وأما صحة الاسم الذي عربه إليه العرب، وهم كانوا في ذلك العهد عربًا على فطرة اللغة وقوتها، ونقله عنهم المؤرخون الأثبات "الهِرْبِذ" بكسر الهاء وسكون الراء وكسر الباء وآخره ذال معجمة، وبذلك عرفه أئمة اللغة، عرفوه لقبًا يوصف به، ففي المعرب للجواليقي (ص 351 طبعة دار الكتب المصرية بتحقيقنا): "الهربذ بالكسر: واحد الهاربذة، وهم خدم النار، وقيل حكام المجوس الذين يصلون بهم. أعجمي معرب". ثم قال: "ويجمع هرابذة وهرابذ". ونحو ذلك في معاجم اللغة، فما أرى وجهًا لما جاء به المؤلف ولا مصدرًا. 3 - (ص 84) نقل المؤلف حديثًا يستدل به على إيمان عمرو بن العاص، فنقله محرفًا، ولا نظنه غلطًا في التصحيح المطبعي، نقله هكذا "أسلمُ الناسِ وآمنُ الناسِ عمرو بن العاص" وضبطه في الطبع برفع أفعل التفضيل وبجر كلمتي "الناس" ولعله فهم أن "أسلم" و"آمن" صيغتا مبالغة من "الإسلام" و"الإيمان" وما هما كذلك في اللفظ الذي حكى، وإنما يكونان من "السلامة" و"الأمن". وصحة لفظ الحديث "أسلمَ الناسُ وآمنَ عمرو بن العاص" وهو حديث رواه

الترمذي في الجامع الصحيح (ج 2 ص 316 من طبعة بولاق، وج 4 ص 355 من شرح المباركفوري طبع الهند) وهو عندي حديث حسن جيد الإسناد، وإن وصفه الترمذي بأنه "غريب وليس إسناده بالقويّ". 4 - (ص 101) قال المؤلف: "منف عاصمة مصر حين كان العالم كله يتطلع إلى مصر على أنها مهبط الوحي ومستقرّ الحضارة فيه" وهذا غلو في العصبية، فما كان العالم إذ ذاك ينظر إلى مصر النظرة التي يراها بها المؤلف، وإنما هو يرى بنظر أهل هذا العصر أو بعضهم. ثم لم يزعم أحد قط أن مصر كانت "مهبط الوحي"! وأين كان هذا الوحي؟ أهو وحي الفراعين والأوثان؟ ! لم يعرف التاريخ نبيًّا أوحي إليه في مصر إلَّا ما أخبرنا القرآن الكريم عن يوسف وعن موسى - عليهما السلام - وهما يرجعان بأصليهما إلى جزيرة العرب. 5 - (ص 119 - 120) نقل المؤلف روايةً عن المستشرق بتلر أوردها عن الطبري، ثم نقدها نقدًا جيدًا فقال: "والطبري لا يورد مثل هذا التفصيل، على أن المؤرخين المسلمين جميعًا يذكرون أن عمرًا أجاب المقوقس إلى الصلح على الجزية بعد أن اقتحم المسلمون الحصن". وإلى هنا كان يحسن الوقوف، بتلر نقل شيئًا نسبه إلى الطبري، وتبيَّن المؤلفُ أنه غير صادق في نقله، وأن الطبري لم يقله، وأن المؤرخين المسلمين جميعًا يذكرون غيره، فماذا بعد ذلك؟ ! لا شيء. ولكن المؤلف يحاول أن يصحح كلام بتلر، فيقول عقب ذلك: "فإذا صح أن المقوقس لم يكن بالحصن وكان قد نُفيَ بعد

ذهابه إلى هرقل، فلعل قائد الحامية هو الذي صالح عمرًا على ما جاء في رواية بتلر"! ! ولم تكن لبتلر رواية، حتى نظن أنه لعله نقلها من مصادر لم نصل إليها، إنما هو ينقل شيئًا معينًا عن كتاب معروف في أيدي الناس، ثم يتبين أن نقله غير صحيح، وأن ما نسبه إلى ذلك الكتاب المعين ليس فيه، فماذا يحدونا إلى أن نعتبر كلامه رواية له، ثم نتأولها ونحاول تصحيحها؟ ! 6 - (ص 152) نقل المؤلف كلامًا في وصف مرآة الإسكندرية، وضعه بين أقواس، كما اعتاد الناس أن يصنعوا حين ينقلون كلام غيرهم، ليدلوا القارئ على أن المنقول هو نصُّ ما قال المنقول عنه، فهذا ما قال المؤلف: ويقول السيوطي: "إن عرضها كان سبع أذرع، وإنها كانت تظهر السفن الآتية من بلاد أوربا، وكانت تستعمل لإحراق سفن العدو، فكان الموكلون بها يديرونها نحو الشمس وهي مائلة للغروب فتنعكس عليها الأشعة وتحرق سفن العدو. والإجماع على أنها تظهر السفن وهي أبعد من مدى البصر". وهذا ما نسبه للسيوطي على أنه نص عنه، وهاك ما قال السيوطي نصًّا في كتاب حسن المحاضرة (ج 1 ص 54 طبعة إدارة الوطن سنة 1299): "وكان عليها مرآة من الحديد الصيني عرضها سبعة أذرع، كانوا يرون فيها جميع من يخرج من البحر من جميع بلاد الروم، فإن كانوا أعداءً تركوهم حتى يقربوا من الإسكندرية، فإذا قربوا منها ومالت الشمس للغروب أداروا المرآة مقابلة الشمس فاستقبلوا بها السفن حتى يقع

شعاع الشمس في ضوء المرآة على السفن، فتحرق السفن في البحر عن آخرها، ويهلك من كان فيها". فالسيوطي لم يقل "سبع أذرع" ولم يقل "من بلاد أوروبا" ولم يقل "والإجماع" ... إلخ! ! 7 - (ص 181 - 184) تحدث المؤلف عن خرافة عروس النيل حديثًا طويلًا، نأخذ عليه فيه أنه أولًا: زعم "أن العلم قد أثبت من بعد أنه لم يحدث قط أن ألقيت عذراء في النيل حثًّا على الفيضان" وهذا كلام ضخم لا نظن أن عالمًا يقوله، فإن العلم لا يثبت نفيًا في الحوادث التاريخية، وكيف يثبت النفي وأنى؟ ! لو قال "لم يثبت التاريخ" أو "لم يثبت العلم ذلك" لكان أجدى به، وأقرب إلى الصحة! وثانيًا: أنه استنار بعلم الأستاذ سليم بك حسن ورأيه، وأنه كان من رأي سليم بك أنه إن صح أن عمر بن الخطاب أرسل كتابًا ألقي في النيل ليفيض، فلا يزيد هذا "على أنه كان مجاراة من الخليفة للمصريين في عادة لهم لا ضرر من مجاراتهم فيها؛ فقد كان من عادة الكهنة المصريين، ومن عادة بعض ملوكهم أن يقيموا لإله النيل احتفالًا في بدء الانقلاب الصيفي يقربون فيه للإله ثورًا وأوزة وقرابين أخرى من الخبز وغيره، ثم يلقون في النيل وثيقة مختومة من ورق البردي مخطوطًا عليها أمر للنيل أن يجري" ... إلخ. ونُجِلُّ أولئك الناس؛ عمر فمن دونه، عن ظن السوء، أن يجاروا الجهلاء الوثنيين في جهالاتهم وخرافاتهم، وإنما كان عمر وكان المسلمون يجاهدون ويهدمون الوثنية، ويَسْمُون بالعقل الإنساني أن تحيط به الأوهام

والخرافات والأساطير. ولم يكن لقصة عروس النيل وكتاب عمر أصل يثبت في التاريخ الإسلامي، لم يروها أحد - فيما نعلم - بإسناد له اعتبار، مما يثبت أهل العلم مثله، وهذا كاف جدًّا في نفيها. 8 - (ص 241) ذكر المؤلف فيما حكى من صور النكاح في الجاهلية: "أن يتزوج رجل من امرأة فيذرها في قومها، فإذا مر بهم في تجارته أو رحلته نزل عندها، وكان بعض النسوة يؤثرون البقاء في أهلهن؛ إذ كن ذوات مال وحسب، فكن لا يرضين مفارقة مالهن ومن يقومون على الإتجار فيه وتثميره، وكان الأبناء يبقون مع أولئك الأمهات حتى يشبون، ولذلك كانوا ينسبون إليهن وإلى قبيلتهن، وذلك كان شأن سلمى بنت عمرو أحد بني النجار من الخزرج أهل يثرب، فقد كانت امرأة ذات شرف ومال يتجر لها فيه قومها، ومر هاشم بن عبد مناف يومًا بيثرب عائدًا من الشام، فرآها تطل على قومها، فأعجبته فخطبها إلى نفسها فرضيته زوجًا، على أن تكون عصمتها بيدها، وولدت له شيبة، فأقام معها بين أخواله بني النجار حتى مات أبوه، ثم عاد به عمه المطلب إلى مكة". وهذا بحث تهافت فيه المؤلف تهافتًا شديدًا! فإن هذا النوع من الزواج الذي صوره وهو الزواج المعروف إلى الآن، ومكث المرأة في أهلها لا يؤثر في عقد الزواج، وإنما هو شيء يتراضى عليه الزوجان، واشتراط المرأة أن يكون أمرها بيدها لا يزال جائزًا في الشريعة الإسلامية في بعض المذاهب، ومنها الحنفية، وهو المذهب الرسمي للدولة وللقضاء

الشرعي في مصر. وإنما ننكر على المؤلف أن يجعل نتيجة لهذا الزواج أن ينسب الأولاد فيه إلى النساء وإلى قبيلتهن! ! فهذا شيء لم يعرفه العرب قط فيما أعلم، ولعل حوادث نادرة قد وقعت في الجاهلية نسب فيها الأبناء إلى قبائل أمهاتهم لأسباب اقتضت ذلك، نسيت مراجعها الآن، ولكني أوقن أن ليس من هذه الأسباب هذا النوع ولا غيره من أنواع الزواج. وأذكر أن بعض أرباب الأغراض من المستشرقين وأتباعهم رموا العرب بهذه الفرية السخيفة؛ نسبة الأنباء إلى أمهاتهم، وأنه كتبت ردود قوية لإبطال هذه الفرية، ولست أذكر الآن مواطن هذا البحث وتفصيله، فلعل المؤلف علق بذهنه شيء من هذه الأباطيل فكتبه الآن في كتابه، أو اعتمد على شيء قرأه لأعداء العرب، فأثبته تاريخيًّا يوهم أنه جاء به من مصادره. وما كان أجدره بغير ذلك لو روّأ في أمره، فتحقق مما يكتب وينقل، أو نسب كل رواية لصاحبها، ليبرأ من عهدتها. وهذا أقرب مثل لما أقول: إنه جعل أم عبد المطلب مثلًا للنكاح الذي حكى ولنسبة الولد إلى أمه وأهلها. فإن الثابت في المصادر الصحيحة والذي لم نجد في الرواية غيره: أن هاشم بن عبد مناف قدم المدينة فتزوج سلمى بنت عمرو، وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلًا فارقته، فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة، فتركه هاشم عندها، حتى كبر، ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه. إلى آخر ما جاء

في سيرة ابن هشام (ص 88 من طبعة أوربة). وهذه رواية مجملة، ولكنها واضحة في أن نسب الغلام كان معروفًا لأبيه. وفي رواية لابن سعد (ج 1 ق 1 ص 48) أن ثابت بن المنذر، والد حسان بن ثابت، جاء مكة معتمرًا "فلقي المطلب وكان له خليلًا، فقال له: لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا لرأيت جمالًا وهيبة وشرفًا". فهذا ثابت بن المنذر كان يعرف نسبه وأنه ابن هاشم أخي المطلب، فلم يكن يعرفه - وهو من بلد أمه - منسوبًا إليها وإلى أهلها. وفي تاريخ الطبري (ج 2 ص 176 - 177) أن هاشمًا تزوج سلمى وشرط عليه أبوها "ألا تلد ولدًا إلاّ في أهلها". وأنه "ارتحل إلى مكة وحملها معه، فلما أثقلت ردها إلى أهلها". وأنها وضعت عبد المطلب "فمكث بيثرب سبع سنين أو ثمان سنين. ثم إن رجلًا من بني الحرث بن عبد مناف مر بيثرب فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا خسَق - أي أصاب الرمية ونفذ فيها - قال: أنا ابن هاشم أنا ابن سيد البطحاء! فقال له الحارثي: من أنت؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف". فهذا الغلام يعرف نسبه ويفخر به عند النضال، وليس بعد هذا البيان بيان. فأين هذا كله مما وضع المؤلف في كتابه؟ بل أين ما وضع المؤلف من هذا كله؟ ! وتتمة للبحث نذكر أن المؤلف لم يعرف صور الزواج عند العرب في الجاهلية، وإن زعم أنه جاء بها! وهي ثابتة في الحديث الصحيح، في صحيح البخاري (ج 9 ص 158 - 159 من فتح الباري) وفي سنن

أبي داود (ج 2 ص 249 من عون المعبود). 9 - (ص 261) تحدث المؤلف عن تعصب العرب لجنسهم حديث غير العارف به، ثم عرض في أثناء ذلك لشأن القصاص في الشريعة فقال: "والقصاص حد من الحدود يقيمه ولي الأمر، ولا يتولاه ولي الدم بنفسه". وهذا غير صحيح، فإن حكم الشريعة أن يُرفع الأمر إلى ولي الأمر أو نوابه، من الولاة أو القضاة، فإذا ما ثبت حقُّ القصاص ووجب، وحكم الحاكم به تولاه وليُّ الدم بنفسه إن كان قادرًا عليه، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]. وقد فرَّع الفقهاء في ذلك صورًا كثيرة، فيما إذا كان وليّ الدم عددًا أكثر من واحد، أو كان صغيرًا أو محجورًا، إلى غير ذلك من الصور. وأقرب مَثَلٍ لذلك ما جاء في كتاب الأم للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي (ج 6 ص 17 - 19) وفي كتاب البدائع لملك العلماء أبي بكر الكاساني الحنفي (ج 7 ص 243 - 244). ولقد أرى أن المؤلف قرأ كثيرًا من كتب المستشرقين وغيرهم من الإفرنج، ودرس القوانين الأجنبية وتوسع في دراستها، فتأثر تأثرًا قويًّا ظاهرًا بما قرأ وبما درس، فحين أراد أن يكتب في التاريخ الإسلامي، وما يتصل به من التشريع الإسلامي غلبه ما يعلم وملأ قلبه ونفسه يقينًا وإعجابًا، فنسب إلى تاريخ الإسلام وإلى الشريعة ما خُيِّل إليه أنه ينبغي أن يكون، ظنًّا منه أنه قد كان! !

10 - ومما يتصل بهذا أنه قال في تشبث العرب بالثأر (ص 261 - 262): "بل إن من الحضر الذين يمتون إلى البدو بصلة القربى من لا تزال فكرة الثأر متصلة في نفوسهم بكرامتهم وبحياتهم، فهم لا ينزلون عنها، ولا يجدون في القانون وقصاصه ما يرضي عاطفتهم ويعدل بهم عن جاهليتهم". وقد كتبت بهامش نسختي في هذا الموضع حين قرأت الكتاب: "تعبير موهم، وهو غير صحيح؛ فالقانون الذي ضُرب على بلادنا لا يحكم بالقصاص إلَّا نادرًا، ثم هو يجعل القصاص من حق الدولة لا من حق ولي الدم خلافًا للشريعة، فكان علاجه خطأ وضرره كبيرًا". وهذا بحث فصلت القول فيه في كتابي (الشرع واللغة ص 56 - 57، 81 - 83). 11 - (ص 306) يسوق المؤلف قصة مقتل عمر، فيقول فيها: "فلما بدأ ينوي الصلاة ليكبر، إذا رجل ظهر فجأة قبالته فطعنه بخنجره"! ! وهذا تعبير عاميّ عجيب في العامية! فما "بدأ ينوي الصلاة"؟ وما النية في علم المؤلف أو في ظنه؟ ثم انظر أين هذا من قول عمرو بن ميمون الأوديّ التابعي الكبير، وقد شهد مقتل عمر "فأقبل عمر، فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، فناجى عمر غير بعيد، ثم طعنه ثلاث طعنات". (ابن سعد ج 3 ق 1 ص 247) أو غير ذلك من نصوص المتقدمين البليغة! وليت شعري ما منع المؤلف أن يقتبس شيئًا منها يجمل به كلامه، كما كان دأبه أن يفعل؟ ! 12 - (ص 309) استطرد المؤلف في حديثه عن مقتل عمر فترجم

لكعب الأحبار فقال: "وكان كعب هذا من كبار أحبار اليهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يتردد عليه مظهرًا الميل إلى الإسلام، مرجئًا إعلان إسلامه حتى يتحقق من كل الأمارات التي يجدها في كتب قومه عن النبي العربي وأصحابه، فلما انتهى أمر الخلافة إلى عثمان أعلن إسلامه". وفي هذا الكلام ما يوهم أن كعبًا من يهود المدينة، وهو من يهود اليمن، وكعب لم يَرَ رسول الله قط، وإن كان من كبار الأحبار في عصره، وإنما جاء المدينة مسلمًا في خلافة عمر على الصحيح، وقيل: في خلافة أبي بكر. واليقين أنه كان مسلمًا في عهد عمر، فلم يتأخر إسلامه إلى عهد عثمان كما ادعى المؤلف، قال ابن سعد (ج 7 ق 2 ص 156): "وهو مِن حِمْيَر، من آل ذي رعين، وكان على دين يهود، فأسلم وقدم المدينة". ثم روى بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: "قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟ " ثم روى أيضًا عن قتادة "أن كعبًا أسلم في إمرة عمر". ولو قرأ المؤلف ترجمة كعب في مظانها، طبقات ابن سعد والإصابة والتهذيب، ما كتب كلمة مما قال، وما أدري ما يمنعه أن يستوثق ويحقق؟ ! هدانا الله وإياه بهدايته. * * *

الفاروق عمر 2

الفاروق عمر (*) للدكتور محمَّد باشا هيكل (¬1) نقدنا في عدد أغسطس الماضي كتاب "الصديق أبو بكر"، وأخذنا على سعادة مؤلفه صنيعه في قصة "مقتل مالك بن نويرة". ثم رأينا أن ننقد كتابه الجديد "الفاروق عمر"، ونتعقب بعض ما فيه من مآخذ، فكتبنا هذا البحث، ونشرنا بعضه في مجلة "الكتاب" الغراء في عددها الأول الذي صدر في أول نوفمبر سنة 1945، ورأينا أن ننشر بقيته في مجلة "المقتطف" الغراء، استيفاء للبحث، وأداء لواجب الأمانة، وإخلاصًا في النصيحة للعلم والقراء. مآخذ واستدراكات 1 - زعم المؤلف في مقدمة كتابه (ج 1 ص 8) أن عمر "رأى إعفاء من أسلم من أهل البلاد المفتوحة من الجزية ومساواتهم بالمسلمين الفاتحين، فكان ذلك مغريًا لكثير منهم بالدخول في الإسلام ... وقد أعفاهم عمر وساواهم بالفاتحين، وهو يعلم ما سيترتب على ذلك من نقص في موارد المدينة، ومن ردَّ الحكم في هذه البلاد إلى أهلها مع ذلك لم يتردد في الأمر ولم تثنه هذه الاعتبارات عنه" إلى آخر ما قال. ¬

_ (*) مجلة المقتطف، ديسمبر 1945. (¬1) جزءان 700 صفحة من القطع الكبير، مطبعة مصر، سنة 1945.

وهذا الذي حكاه عن عمر هو حكم الإسلام في القرآن والحديث نصًّا، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة، ورسول الله يقول: "ليس على مسلمٍ جزية". رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس. انظر تفسير القرطبي (8 ص 114)، ونيل الأوطار للشوكاني (ج 8 ص 219). والذي ننكره على المؤلف أن يجعل هذا من عمل عمر ورأيه وسياسته، كأنه حكم على اجتهادٍ منه، وهو حكم بديهي منصوص، وكان عمر فيه متبعًا لا مجتهدًا. 2 - وقد أنكر المؤلف على المؤرخين المتقدمين أنه بلغ من إكبارهم لسيرة عمر "أن أضافوا إليه أمورًا أدنى إلى المعجزات التي خصَّ بها الأنبياء، وأن ذكروا ما لا يستطيع المؤرخ الناقد إثباته، وعمر في غير حاجة إلى شيء من ذلك يضاف إلى سيرته، فما قام هو به وما تمَّ في عهده، مما يقره النقد التاريخيّ، يقيم له في صحف التاريخ صرحًا عاليًا باقيًا إلى الأبد، ولو أن المؤرخين الأقدمين لم يضيفوا هذه الخوارق إلى سيرة عمر لأغنوا من جاء بعدهم عن بذل الجهد في تمحيصها، ولجنّبوهم الاختلاف على مبلغ صحتها، ولما طفّف ذلك من قدر عمر، ولا نقص من جلال صنعه، وقد رأيت من الخير أن أغفل من هذه الحوادث ما لا يقره العقل ولا يثبت للنقد، ثمَّ رأيتُني بعد ذلك مضطرًّا إلى أن أثبت حوادثَ يتصوَّر العقل في شيء من العسر وقوعها، ومع هذا تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواترٍ يدعو إلى النزول على حكمهم فيها". (ج 1 ص 9).

هكذا يقول سعادة المؤلف. ونحن نعلم أنه ينكر كل المعجزات الكونية التي رواها المسلمون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إلحاح وإصرار؛ لأنه "يجري في البحث على الطريقة العلمية الحديثة، ويكتبه بأسلوب هذا العصر" كما قال في كتابه "حياة محمد" ص 47، وإن كان لم يستطع إنكار معجزات الأنبياء السابقين؛ لأنها مذكورة في القرآن، كما قال في ذلك الكتاب ص 54، فهو أجدر إذن أن ينكر الكرامات والخوارق التي تنسب إلى عمر وإلى غير عمر؛ لأنها مما "لا يقره العقل ولا يثبت للنقد"! ولسنا نجادله في هذا، فما في الجدال فائدةٌ، وما أيسرَ الإنكارَ وادّعاءَ الكذب والوضع على رواة السنة والأخبار، أيًّا كان مبلغهم من الثقة والأمانة والصدق والضبط والتحري. وما أحكم الكلمة التي قالها له سماحة شيخ الإسلام مصطفى أفندي صبري في كتابه الجليل "القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون" قال في ص 43: "الطريقة العلمية التي يتبجح بها معالي المؤلف، ويباهي باتباعها في تحرير كتابه، والتي يدعي أنه بني عليها إنكار المعجزات، هي الطريقة نفسها التي يدَّعي ملاحدة الغرب أنهم بنوا عليها إنكارهم لوجود الله". ولكنا نجد المؤلف أثبت حادثة "يا سارية الجبل" وسنذكرها في موضعها من هذا المقال (رقم 18)، وما كانت رواية هذا الحادث بأصحَّ ولا بأوثق من غيره مما أنكر، ولا بأصح ولا أوثق مما تواتر تواترًا علميًّا صحيحًا من معجزات رسول الله، ومن عجيب أن يدعي

المؤلف أن حادثة سارية من الحوادث التي "تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر"! وأظن أن سعادته لم يطلع على شيء مما قاله المحدَّثون والأصوليون في معنى التواتر ودلالته العلمية، والفرق بينه وبين غيره من طرق النقل عند العلماء! ولو اطلع على ذلك لقال شيئًا غير هذا. 3 - وذكر المؤلف (ج 1 ص 35) أن عمر "لما استخلف كان أول دعائه قوله: اللهمَّ إني غليظ فليّني، اللهم إني ضعيف فقوِّني، اللهم إني بخيل فسخّني". ثم قال: "أما ما ذكر عن بخله فسببه أنه لم يكن غنيًّا، وأن أباه لم يكن غنيًّا". إلى آخر كلامه. وما كانت به حاجة إلى هذا التكلف، فإن هذا الدعاء لا يدل على أن عمر كان بخيلًا، وما زعم ذلك له أحد قط، وما كان الفقر سببًا للبخل أبدًا، وإنما البخل داءٌ نفسي قد يزيده الغنى تمكنًا. والمؤلف يستنبط أن عمر كان "متوسط الحال في الغنى طول حياته"، وأكثر ما يكون الكرم في المتوسطين والفقراء. ويعيذ الله عمر من داء البخل، ورسول الله يقول: "أيُّ داءٍ أدوى من البخل". وإنما كان مثل هذا الدعاء أن يظن الرجل الصالح بنفسه التقصير عن درجة الكمال، حتى ليسمي عمله باسم درجة النقص، رغبةً إلى ربه وتواضعًا، فيسأله أن يتمم من خلقه ما يظنه نقصًا، ولذلك لم يزعم أحد قط، ولم يستطع المؤلف أن يزعم، أن عمر كان ضعيفًا إذ يقول: "اللهم إني ضعيف فقوّني". بل قال: (1: 33) "ولما تدرَّج عمر من الصبا إلى الشباب بدا في مظهر

من القوة بَذَّ به أقرانه". ثم النقلُ الصحيح ثابت بأنه كان جوادًا، فقد روى ابن سعد في الطبقات (ج 3 ق 1 ص 210) عن عبد الله بن عمر قال: "ما رأيت أحدًا قط بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين قبض كان أجدَّ ولا أجودَ حتى انتهى من عمر". فهذا وغيره من أخباره وحوادثه لا يدع شكًّا في أنه كان من أكرم الكرماء. 4 - (ج 1 ص 36): "ثم إن المبشرين بالمسيحية في ذلك العصر كانوا ذوي نشاط في الدعوة إلى دينهم، والتبشير به مثل نشاطهم اليوم". وهذه دعوى عريضة، لا تكاد تجد دليلًا عليها، فما رأينا - على كثرة ما رأينا - في النصوص التاريخية الصحيحة أن قد كان للمبشرين نشاط في مكة وما حولها حيث نشأ عمر، كمثل نشاطهم اليوم ولا مقاربه. إلَّا أن يكون من أمثال آراء الأب لويس شيخو في كتاب "النصرانية وآدابها" ومقاصدُ هذا الكتاب معروفة، وما من أحد من أهل العلم والتوثق يرضى عن آرائه وتحقيقاته! 5 - (ج 1 ص 39 س 15) "طلحة بن عبد الله" خطأ مطبعي، صوابه "طلحة بن عُبيد الله". 6 - (ج 1 ص 80 - 83) تهافت المؤلف في كلامه فيما كان بين عمر وخالد بن الوليد في شأن مقتل مالك بن نويرة في حروب الردَّة بمثل ما صنع في كتابه "الصديق أبو بكر" وقد حققنا القول في ذلك في بحث مستوفي نشر في عدد شهر أغسطس سنة 1945 من مجلة المقتطف، ورجحنا فيه بالأدلة التاريخية الصحيحة, أن خالدًا أمر

بقتل مالك بن نويرة لإصراره على الردّة بمنع الزكاة، وأخذ امرأته وابنها سَبْيًا، وأن ليس في شيء من ذلك ما يُلام عليه خالد، لموافقته أحكام الشريعة، وأن عمر إنما سخط على خالد أن لم يتبين وجه حجته، وأن أبا بكر تبين معذرة خالد فبرأه، وكان إذ ذاك ولي الأمر الذي يملك فصل القضاء فيه، وقد قضى بالبراءة، فلا يملك أحد بعده أن يشكك في قضائه أو بعيد النظر فيه، لا أحد ولا عمر نفسُه، حتى إن متمم بن نويرة جاءه في خلافته يستعديه على خالد، لما كان يعرف من رأيه في هذه المسألة نفسها، فقال له: "لا أرد شيئًا صنعه أبو بكر". فقال متمم: قد كنت تزعم أن لو كنت مكان أبي بكر أقدته به. فأجابه عمر الجواب الحازم الحاسم: "لو كنتُ ذلك اليوم بمكاني لفعلتُ، ولكني لا أردّ شيئًا أمضاه أبو بكر". وقد قلنا في ذاك المقال: "وما نظن عمر يفعل ما كان يريد لو كان خليفة ذلك اليوم، إنما هو يبين عن رأيه في أمر قد نظر إليه من جانب واحد، هو جانب الاتهام، ولعله لو قد سمع الطرف الآخر، طرف الدفاع، ونظر إلى الأمر من الجانبين كما نظر إليه أبو بكر، لانتهى إلى ما انتهى إليه حكم أبي بكر. وفي مثل هذا تختلف أنظار القضاة ويختلف اجتهاد المجتهدين، في وزن الأدلة، وتقدير البراهين، فلن تكون كلمة عمر وحدها حجة على خالد، تثبت عليه إجرامًا لم يثبت عند الحاكم، وقد برّأه الحاكم مما نسب إليه، ولن تكون كلمة عمر وحدها حجة على أبي بكر، حتى يُتهم بالتهاون في شأن جرم يوجب الحدّ أو القصاص،

وبأنه كان يتزمت في تطبيق التشريع على العامة والدهماء، ولا يتزمت في تطبيقه على النوابغ والعظماء! ! كفعل ساسة هذا العصر! ". فلم يكن فعل خالد أنه تزوجَّ امرأة مالك بن نويرة بعد قتله زوجها، وأنه بني بها في عدَّتها، كما يصورّه المؤلف هنا وهناك، تمسكًا بظواهر ألفاظ في بعض الروايات من غير رجوع إلى باقيها، وما كان خالد ليأتي هذا المنكر الذي لا شك في حرمته والذي استحلاله خروجٌ من الإسلام، وما كان لأحد من عامة المسلمين أن يقره عليه، فضلًا عن أصحاب رسول الله، فضلًا عن أبي بكر. وقد حكى المؤلف هنا (ص 82) رواية عن بعض المؤرخين "أن عمر كان سيئ الرأي في خالد من قبل إسلامه، وكان سيئ الرأي فيه في حياته". ثم علل ذلك تعليلًا عجيبًا! قال: "ولعلَّ عمر لم ينس لخالد غزوة أحد وموقفه منها، وانتصار المشركين على المسلمين بمهارته فيها، ثم مهاجمته رسول الله لولا أن وقف عمر في وجهه وصدَّه عن غرضه"! ! وما ظننت قط أن أحدًا يقول مثل هذا القول، فإن البديهي من قواعد الإسلام أن الإسلام يَجبُّ ما قبله، وكل أصحاب رسول الله كانوا مشركين قبل أن يسلموا، إلا القليل الذين كانوا صغارًا ونشؤوا على الإسلام، وكثير من الكبار حاربوا رسول الله قبل أن يسلموا، وكثير منهم كانوا أعداءه، ثم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم، لم يحقد من آمن منهم من قبل على من آمن منهم من بعد، وكانوا إخوانًا متناصرين، لا أعداءً متحاقدين، ولو كان لأحد أن يحقد على خالد ما

زعمه المؤلف، لكان أولى الناس أن يحقد عليه ذلك رسول الله ثم أبو بكر، وينزِّه الله رسوله وأبا بكر وعمر من ذلك، وهذه مداخل وددنا لو يحسن المؤلف الخروج منها أو يحجم عن ولوجها. 7 - (ج 1 ص 87) يروي المؤلف أن عمر "كان يذهب في تجارته إلى العراق وإلى الشام واليمن، فكان أشد حرصًا على مقابلة الأمراء والحكماء من أهل هذه البلاد؛ ليزداد بالتحدث إليهم علمًا منه على أن تزداد تجارته ربحًا فيصبح من الأغنياء". وما أدري أين وجد المؤلف أن عمر "كان أشد حرصًا على مقابلة الأمراء والحكماء منهم؛ ليزداد بالتحدث إليهم علمًا"؟ ! إني لأخشى أن يكون هذا خيالًا يصوِّر به مصدر علم عمر وحكمته، زعمًا بأن العرب لم يكن فيهم حكمة إلا ما أخذوا عن غيرهم! وعمر كان قوي الفطرة العربية، ثم أوتي العلم في الإِسلام من الكتاب والسنة وتأسيه برسول الله ثم بأبي بكر. 8 - (ج 1 ص 91 - 93) صوّر المؤلف موقف عمر أول وقت من خلافته بعد أن دفن أبو بكر وانطلق إلى داره بعد ما انتصف الليل: "ودخل مضجعه وجعل يفكر فيما يتنفس عنه الغد، فسيبايعه المسلمون من بكرة النهار؛ ليتولى أمورهم، فيواجه منهم من رضي استخلافه كارهًا، ثم يواجه الموقف الحربي الجليل الدقيق في العراق وفي الشام، فماذا عسى أن يفعل ليتغلب على هذين الأمرين، وهما بأعظم مكان من جلال الخطر في حياة الدولة الناشئة". ثم كتب صفحة

ونصف صفحة عما كان يجول في خاطر عمر تلك الليلة! ! وما أظن - وأنا رجل من المتحفظين في الرواية والنقل - أن مثل هذا العمل مما يجوز للمؤرخ، وما يبعد أن يأتي من بعده من ينقله عنه، ظنًّا أن هذا قد كان، رواه الدكتور محمَّد باشا هيكل! ! بل إني أومن أن هذا لا يجوز، ولقد كتبت بهامش نسختي من كتابه في هذا الموضع: "للمؤلف خيال قوي على الطريقة الأوربية، فالمظنون الراجح في مثل هذا الموقف أن يفكر عمر فيما هو مقدم عليه، ولكن سياق الكلام الموهم أن هذا حصل فعلًا يستدعي أن يكون هناك نقل صحيح بذلك، أو يكون تزيدًا وافتعالًا". وسأدع للقارئ بعد أن يحكم فيه بما يرى. 9 - (ج 1 ص 91 في الحاشية) نقل المؤلف رواية عن ابن سعد أن عمر خطب في الناس خطبة بعد دفن أبي بكر، ثم ردَّ هذه الرواية بأن أبا بكر دفن بعد ما جنَّ الليل، وأنه ليس طبيعيًّا أن يخطب عمر في القوم الذين تولوا الدفن "ثم إن أكثر الناس كانوا قد أوَوْا إلى منازلهم، فلم يكن منهم بالمسجد في هذه الساعة إلا قليلون، هم أهل الصُّفَّة؛ لأن المسجد لم يكن يضاء في ذلك العهد". وهذا لون من التحقيق العلمي! ! لا عهد لنا به، فإن الجزم بأنه لم يكن في المسجد في تلك الساعة إلَّا أهل الصُّفَّة لا يكون إلَّا عن نقل صحيح؛ لأنه شيء مادي لا يدرك بالعقل وحده، ويستحيل عادةً أن يدرك بالتعليل بأن المسجد لم يكن يضاء في ذلك العهد! والثابت في السنة والتاريخ أنهم كانوا يسهرون ويسمرون في المسجد، وكانوا يصلون الفجر

بغلس، يعني في الظلام. والظن في مثل هذه الحال - حال موت أبي بكر ودفنه - أن يحضرها كثير من الصحابة، إن لم يكونوا داخل بيت عائشة، ففي المسجد خارج البيت، والخطبة التي روى ابن سعد (ج 3 ق 1 ص 197) والتي يشير إليها المؤلف، كلمة قصيرة لا تزيد على أربعة أسطر، فليست مما يستبعد قوله في مثل هذا المقام، وما من دليل ينفيها، إلَّا أن في إسنادها جهالة؛ لقول راويها حميد بن هلال: "حدَّثنا من شهد وفاة أبي بكر". وهذا إسناد منقطع يراه المحدثون ضعيفًا، وما عمدنا بنقدنا على الجزم بصحة تلك الخطبة، وإنما أردنا أن نضع بين يدي القارئ مثالًا من أمثلة تحقيق المؤلف ورده من الروايات "ما لا يقره العقل ولا يثبت للنقد"! 10 - (ج 1 ص 91 في الحاشية أيضًا) عبر المؤلف عن "بيت عائشة" بكلمة "دار عائشة" وهو خطأ، فإن الدار أكبر من ذلك، هو اسم جامع للعرصة والبناء والمحلة، ولم تكن بيوت أزواج رسول الله تُسمى دورًا، وإنما كانوا يسمونها بيوتًا. 11 - (ج 1 ص 159 - 163) تحدَّث المؤلف عما دار من جدال وحديث بين الوفد الذين أرسلهم سعد بن أبي وقاص وبين يزدجرد، ثم نقل لنا عن بعض المستشرقين أنهم ذهبوا إلى "أن هذه الروايات وضعت من بعد، إن لم يكن في جوهرها، فعلى الأقل في تفاصيلها" وأن المستشرقين يؤيدون نقدهم بأن المؤرخين المسلمين لا يتورَّعون عن رواية أمور هي أدنى إلى الخرافة، وذكروا رواية عن رستم فيها

تطير واعتقاد بالتنجيم، ثم ذهب المؤلف يرد على المستشرقين ردًّا فاترًا ضعيفًا، حتى إذا أتى لحديث النجوم قال ما نصه: "أما القول بأن حديث النجوم أدنى إلى الخرافة، فذلك ما لا أتعرض للخوض فيه، فلست عالمًا بالنجوم، ولست أعرف لذلك مبلغ ما تهدينا إليه من علم بشؤون هذه الأرض التي نعيش عليها، وما يقع من الأحداث فيها، على أن كثيرين لا يزالون يؤمنون بها ويحسبون أن علمها يهديهم إلى ما يغيب عن غيرهم"! وما من شك في أن التنجيم والطيرة حديث خرافة، وأنه شيء لا يقبله العقل، وأن الإسلام نهى عنه نهيًا شديدًا، وتوعد من صدق بمثل هذه الخرافات وعيدًا كبيرًا. ولكن العجب الذي لا ينقضي، أن المؤلف يأخذه الرعب من حديث النجوم فيخشى أن يتعرض للحديث فيه، زعمًا منه أنه ليس عالمًا بها وبمبلغ ما تهدي إليه من علم بالأرض وأحداثها! ! ثم هو ينكر كل المعجزات الكونية لرسول الله، وكل الخوارق المنسوبة إلى عمر أو أكثرها، لا يجد في صدره من ذلك حرجًا، ولا يتواضع فيظن بنفسه أن قد فاته علم كثير من علوم الأسانيد الإسلامية، التي أتقنها المتقدمون، وأثبتوا بها الصحيح من الأخبار، ونفوا بها عنها ما وضع الوضَّاعون وما روى الضعفاء, حتى جاؤوا بالسنة بيضاء نقية. ثم هو قد وجد لنفسه عذرًا فيما أحجم عنه من الكلام في النجوم أن كثيرين لا يزالون يؤمنون بها، وأظنه يريد بذلك علماء الإفرنج! ! ولم يجد مثل ذلك العذر فيما أثبته علماء الإسلام من الأخبار المتواترة والأخبار

الصحيحة، وهو يعلم أنهم كلهم إلَّا من شذَّ منهم، لا يزالون يؤمنون بها، ويعتقدون أن طرق الإثبات التي وصلت بها إليهم هي أدق طرق علمية لإثبات الأخبار والروايات، وأن علمها يهديهم إلى ما يغيب عن المستشرقين وأتباعهم. 12 - (ج 1 ص 175) قال المؤلف في أعقاب يوم أغواث: "وكانت نساء المسلمين يعنين بالجرحى ويمرضنهم، ويبذلن من صنوف العناية ما يُرَفِّهُ عنهم وما ينسيهم ألمهم". ولسنا ننكر عليه في هذا إلَّا تعبيره بكلمة "الترفيه" في هذا المقام في هذا الوقت، فإن الحرب الأخيرة بين الدول أرتنا في بلادنا، وأسمعتنا عن غير ما رأينا، معاني منكرةً لما يسمى "الترفيه" عن الجرحى والمرضى والأصحاء من الجيوش، مما يقشعر له بدن كل ذي خلق وكل ذي دين، وأشاعت بذلك فسادًا لا يدري الناس ما عواقبه، وقد جعلت هذه المنكرات لكلمة "الترفيه" معنى يبادر إلى ذهن كل من سمعها، خصوصًا من الشبان. وكنا نظن بالمؤلف، على ما نعرف من دقته في التعبير، أن يتجاوز عن هذه الكلمة الآن، ويترفع عن وصف نساء الصحابة والتابعين بها، وقد آلت في أذهان الناس إلى ما آلت إليه، على ثقتنا بأنه لم يرم إلى هذا المعنى، وهو في ذلك فوق الشبهة عندنا، ولكنا لا نريد إلا الحذر والاحتياط. 13 - (ج 1 ص 191) وصف المؤلف المدائنَ عاصمة مملكة الفرس في ذلك العهد وصفًا خياليًّا، مما قال فيه: "فقد جمعت من

معاني الترف الشرقي أبهى صوره وأكثرها وحيًا لآلهة الفن وشياطين الشعر". فما "آلهة الفن" هذه؟ ! إني أرى كثيرًا من الكاتبين في هذا العصر يصطنعون كلمات يأخذونها عن الأمم الأخرى، يتزيَّدون بها ويتجملون، يظنون أن لا بأس بها، وفيها كلُّ العباس وكلُّ الشرّ. إن تسمية "آلهة" أخرى من دون الله كلمات وثنية، جاء الإسلام بحربها والقضاء عليها، وما تنفع المعذرة بأن مثل هذه الكلمات إنما هي ألفاظ لا تُعتقد معانيها ودلالاتها، فإنما وضعت الألفاظ للدلالة، ولا يطلع على خفايا القلوب إلا الله. ولا يجوز لأحد أن ينطق بمثل هذه الكلمات، لا هزلًا ولا جدًّا، وما أذن الله لأحد أن يقول شيئًا من ذلك {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. وما أظن أحدًا يُكره هؤلاء الكتّاب على اتخاذ هذه الألفاظ الوثنية، أيًّا كان مقصدهم منها، أو تأولهم لدلالتها {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)} [الصافات: 86]. وليعلمْ هؤلاء وغيرهم أن الله نعى على المشركين تسميتهم آلهة من دونه، وما كانوا يزعمون أنهم الخالقون الرازقون، بل كانوا يؤمنون بالله، ويشركون بآلهتهم، أنهم يَدْعُونها ويعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى، كما حكى الله عنهم في القرآن. فمهما يتأوَّل المتأوّلون في تسمية آلهة من دون الله، فلن يبعد بهم تأوُّلهم عن شيء لا يجوز أن يقوله من يدين بدين سماوي شرعه الله. والمؤلف يؤلف كتابه في سيرة عمر، ويتمدَّح بأعمال عمر، ويرفع من شأن عمر، وأنا أوقن أن لو قد سمع هذه الكلمة عمر،

لكان له معه شأن أي شأن، نسأل الله العصمة والتوفيق. 14 - (ج 1 ص 205) يقول المؤلف: "وكان الناس يجتمعون بسعد في قصر كسرى: فيتحدَّث سعد إلى ذوي العلم منهم بماضي هذه البلاد، ويذكرون أيامًا سلفت كانت فيها مقر حضارة العالم". وهذا نقل لم أجده فيما بين يديَّ من المراجع، وأخشى، بل أرجح، أن يكون خيالًا لا حقيقة له، لا يكون من عالم يتحرى الحقائق في نقله. 15 - (ج 1 س 258 - 259) قال المؤلف: "يذهب بعض المستشرقين إلى أن عمر إنما اعتذر عن الصلاة بكنيسة القيامة لما كان بها من صور وتماثيل". وقد ذهب يناقش هذا القول، ويزعم أنه غير صحيح، بل ذهب يجرؤ على الفتيا، ويدعي أن الصلاة على الصور والتماثيل لا بأس بها، بل ذهب يتقوَّل على رسول الله وعلى الذين اتبعوه، ثم على الإسلام، بل أربى على ذلك أن كاد يبيح الوثنية صريحًا، ينتحل قولًا يشبه وحدة الوجود، وما هو إلا مذهب ينتهي بقائليه إلى إنكار وجود الله! ! قال ما نصه: "وما كان لمحمد والذين اتبعوه ألَّا يصلوا بمكان فيه صور أو تماثيل والإسلام إيمان بالله، والأعمال فيه بالنيات، فمن صدَق إيمانه وخلص لله وجهه فأينما ولّى فَثَمَّ وجه الله، وإنما حطم محمد الأوثان والأصنام حول الكعبة وفي جوفها يوم فتح مكة، حتى يكون بيت الله حرامًا على كل دين إلَّا على الدين الذي أوحاه الله إلى نبيه بينات من الهدى والفرقان؛ كي لا

تُذَكِّرُ هذه الأصنامُ والأوثانُ أحدًا بجاهليته، فيثور في نفسه إليها حنين، أما الذين صفت قلوبهم لله وتطهرت نفوسهم من كل عبادة إلَّا عبادته جل شأنه، فأولئك لا خوف عليهم أينما صَلَّوْا، وأولئك يرون وجه الله في كل خلقه، جلَّ ثناؤهُ وتباركت أسماؤه! " هكذا قال، حتى علامة التعجب وضعت في أصل الكتاب، ونعوذ بالله من حكاية هذا القول، لولا الضرورة إلى التحذير منه ما حكيناه، وكل مسلم يعلم أنه لا تجوز الصلاة إلى التماثيل وإلى ما يوهم عبادة غير الله، والذي أراد أن ينفيه عن عمر قد صحَّ عنه وعن غيره، ففي صحيح البخاري (ج 1 ص 443 - 444 من فتح الباري طبعة بولاق) "قال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور. وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلَّا بيعة فيها تماثيل". فلا موضع لما افتعله المؤلف من رد الرواية عن عمر برأيه وهواه. ويخيّل إليَّ أن للمؤلف في الوثنية رأيًا خاصًّا، لا يقره عليه أحد، يرجع بها إلى عهد الجاهلية وآراء الجاهلية، وقد جاء القرآن بحربها وهدمها؛ فإن المؤلف عاد إلى مثل هذا المعنى عند الكلام على فتح مصر (ج 2 ص 79) قال: "فالتوجّه الديني أصيل في الشعب المصري بحكم طبيعته، كذلك كان شأنه في عهود الفراعنة، وكذلك ظلَّ شأنه على القرون، ولعلَّ بساطة عقيدته، مع تغير الأديان التي دان بها، كانت ذات أثر في تمسكه بمذهبه، فهو موحَّد من أقدم العصور، وهو على توحيده يشعر بأن الإله الخالق المنعم جلَّ شأنه أعظم من أن

يسموا سواد الناس إلى الاتصال بذاته وإن تطهرت قلوبهم، فلا بد من زلفى تقرّبهم إليه، وتحلّهم منه محل الرضا"! ! فإن لم يكن هذا تمجيدًا للوثنية ودعوةً إليها، فخيرٌ للناس أن يلغوا عقولهم! ! وأين ما جاء به موسى من التوحيد في عصر الفراعنة، والكفر بألوهيتهم وبما كانوا يعبدون من دون الله؟ ! وإن الله يقول: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الآية 3 من سورة الزمر، ويقول تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)}. الآية 106 من سورة يوسف. وليت المؤلف لم يتقحم مثل هذه المآزق، أو سأل عنها من يرشده إلى وجه الحق فيها، أو اجتهد في البحث عنها في مصادرها، واصطنع الأناة والحكمة في اجتهاده! ! ليته ليته. 16 - (ج 1 ص 291 س 9) "أمراء الأنصار" خطأ مطبعي صوابه "أمراء الأمصار" كما هو واضح. 17 - يقول المؤلف (ج 1 ص 300): "فأول ما يقضى به الإيمان الصحيح ألَّا يهاب الجندي الموت، وأن يقدم عليه مغتبطًا به، فإن استشهد ففي سبيل الله وفي سبيل الوطن وفي سبيل القضية التي ينصرها". وقال أيضًا (ج 2 ص 220): "وما ضر أحدهم أن يقتل في سبيل الله وفي سبيل الإمبراطورية الإسلامية". وهذا تعبير موهم، وفي نسبته إلى "الإيمان الصحيح" مغالطة؛ فإن الإسلام لا يعرف

الاستشهاد إلا أن يكون في سبيل الله فقط، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أبي موسى الأشعري قال: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"). 18 - (ج 2 ص 49 - 51) نقل المؤلف عن الطبري قصة فتح فَساودزا بجرد، والطبري ذكر القصة بروايتين (ج 5 ص 5 - 6) فأخذ المؤلف إحدى الروايتين وبقية الأخرى، وأعرض عن صدرها، ليتم له تأويله الذي يبغي، ففي الرواية الأولى أن عمر أري في المنام خطر موقف المسلمين، وأنهم إن استندوا إلى الجبل انتصروا، فنادى في الناس "الصلاة جماعة" فجمعهم في الوقت الذي رآه في نومه وقتًا للوقعة وأخبر الناس بما أريَ، ثم قال: "يا سارية الجبلَ الجبلَ" ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنودًا ولعلَّ بعضها أن يبلغهم. هذا ملخص الرواية الأولى، ساقها المؤلف مفصلة في قليل من التحوير. والرواية الأخرى: "كان عمر قد بعث ساريةَ بن زُنيم الدئِلي إلى فساودزا بجرد فحاصرهم ثم إنهم تداعوا فأصحروا له وكثروه فأتوه من كل جانب، فقال عمر وهو يخطب في يوم جمعة: يا سارية ابن زنيم الجبلَ الجبلَ. ولما كان ذلك اليوم وإلى جانب المسلمين جبل إن لجؤوا إليه لم يؤتوا إلَّا من وجه واحد، فلجؤوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزموهم". ثم ذكرت الرواية ما أصابوا من المغانم

ومسير رسول سارية إلى عمر وعوده إلى البصرة، وأن أهل المدينة قد كانوا سألوه: "عن سارية وعن الفتح، وهل سمعوا شيئًا يوم الوقعة؟ فقال: نعم سمعنا "يا سارية الجبل"، وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه ففتح الله علينا". وقد أعرض المؤلف عن هذه الرواية واقتبس منها حديث الغنيمة وما أرسل منها إلى عمر وغداء رسول سارية معه، فضمه إلى الرواية الأولى بنصه، ثم ذكر سؤال أهل المدينة عن سارية وعن الفتح وجوابه كأنه رواية أخرى. فهذه هي القصة التي رأى المؤلف - فيما نقلناه عنه آنفًا (رقم 2)، أن يثبتها من روايات الخوارق؛ لأنه "تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر يدعو إلى النزول على حكمهم فيها"! ! وهي من روايات التاريخ، إسنادها لا يكاد يصل إلى الصحة؛ لانقطاع في إسناديها اللذين رواها بهما الطبري، فضلًا عن أن يتضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر! ! ولا يبعد أن تصح فما ينكر الخوارق إذا صحت إلَّا من ينكر ما وراء المادة، ومن ينكر كل غيب لا يصل إليه حسُّه، أو لا يأتيه خبره إلَّا عمن يثق بهم من الأجانب. 19 - (ج 2 ص 59) ذكر المؤلف "دائرة المعارف البريطانية باسمها الإفرنجي مرسومًا بحروف عربية "الانسيكلوبيديا بريتانيكا" وما كانت به حاجة إلى هذا التكلف والإغراب، فإن أسماء الكتب تترجم إلى ما يقابل معانيها في اللغات الأخرى غالبًا، وقد ترجم هذا الاسم وعرف بين قراء العربية وهو أقرب إلى إفهامهم أن يذكر اسمها

المترجم الذي عرفت به. 20 - (ج 2 ص 84) تحدَّث المؤلف عن إسلام عمرو بن العاص، فلم يجد له إمامًا يقلده غير العقَّاد، في كتابه الذي ألفه عن عمرو بن العاص في سلسلة "أعلام الإسلام" فإنه زعم أن عمرًا كانت نظرته إلى الدنيا نظرة عملية، وأن مناط الرجحان في تلك النظرة الأخذ بالأحوط والأنفع "حتى ليكاد الأحوط والأنفع أن يكون عنده مقياسًا للحق أو لصحة الأشياء"، ثم ذهب يضرب على هذه النغمة ويحكي بعض الروايات يتأوَّلها عليها (ص 27 - 28 و 57 - 61) فنقل عنه سعادة المؤلف هنا مناقشة بين عمرو وبين فتى من قريش، ثم قال: "ولئن صحت تلك الرواية لتكوننَّ بالغة في الدلالة على اتجاه عمرو في تفكيره، وعلى أنه كان يؤمن بنظرية المنفعة إيمانًا قويًّا". ومعاذ الله أن نظن ذلك بأصحاب رسول الله، وخاصة بمثل عمرو بن العاص. وقد نقض المؤلف على نفسه ما قلّد فيه العقّاد، فصرَّح بعد بأن عمرًا "بادر إلى الإسلام عن بيّنة وإيمان، لا عن خوف ولا عن إذعان". فما ندري لم قال من قبل ما قال، ولم هذا الاضطراب؟ ! . 21 - (ج 2 ص 203 - 204) نسب المؤلف لعمر أن تأسّيَه بالرسول لم ينسِه أن يفرق بين الثابت على الزمان من سنته - صلى الله عليه وسلم - وبين ما قضت به أحداث الوقت، فمن المستطاع مراجعته وإعادة النظر فيه، من غير أن يكون ذلك إنكارًا له، اقتناعًا بأن رسول الله لو امتدّ به الأجل لراجعه وأعاد النظر فيه". وهذه نظرية خطيرة، لم ينسبها أحد قط لعمر،

ويبرئ الله عمر من التهمة بها، فإنها ليست إلَّا مخالفة السنة بالرأي والهوى، وما هي إلَّا نسخُ شيء من السنة بعد وفاة رسول الله، وما قال هذا أحد قط، ولعل للمؤلف رأيًا يحوم حوله، لا يكاد يصرح به، فإني أراه قال في أواخر الكتاب (ص 322): "فحق لعمر أن يُدفن مع صاحبيه، ليَنعم بجوارهما، وتطمئن روحه إلى أنه سار على سنتهما، وأنه أتم على الأرض ما قضى الله أن يَتم حين أوحى إلى نبيه رسالة السماء، وقد أتم عمر هذه الرسالة"! ! ولست أدري، أهو يعتقد حقًّا أن عمر أتمَّ على الأرض هذه الرسالة، أم هو يرى أن شؤون النبوة والرسالة كبعض ما يعرف من شؤون الدولة والسلطان، أم هو يلقي الكلام على عواهنه، لا يلقي له بالًا؟ ! اللهم غفرًا. واسمعْ - يا سيدي - بعض ما قال إمام الأئمة محمد بن إدريس الشافعي في وجوب اتباع سنة رسول الله على كل أحدٍ، وهو قول كافة أهل العلم: "وكلُّ ما سَنَّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجًا". (الفقرة 294 من كتاب الرسالة للشافعي بتحقيقنا". وقال أيضًا في الفقرة 326: "فيما وصفتُ من فرض الله على الناس اتباع أمر رسول الله: دليلٌ على أن سنة رسول الله إنما قبلت عن الله، فمن اتبعها فبكتاب الله تبعها، ولا تجد خبرًا ألزمه الله خلقه نصًّا بينًا إلَّا كتابه ثم سنَّة نبيه، فإذا كانت السنةُ كما وصفت، لا شبه لها من قول خلق الله، لم يجز أن

ينسخها إلَّا مثلها، ولا مثل لها غير سنة رسول الله؛ لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له، بل فرض على خلقه اتباعه، فألزمهم أمره؛ فالخلق كلهم له تبع، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فرض عليه اتباعه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئًا منها". أي لا عمر ولا غير عمر، لا أصغر من ذلك ولا أكبر، وقال أيضًا في الفقرة 599 فيما يقع من أقوال بعض العلماء مخالفًا للسنة: "وليس ذلك لأحد، ولكن قد يجهل الرجل السنة فيكون له قول يخالفها، لا أنه عمد خلافها، وقد يغفل المرء ويخطئ في التأويل". وقال أيضًا في الفقرة 905: "وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره، بل الفرض الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد معه أمرًا يخالف أمره". وكان عمر يقضي في دية أصابع اليد بالتفريق بينها، فجعل للإبهام 15 من الإبل، والتي تليها 10 وللوسطى 10 وللتي تلي الخنصر 9 والخنصر 6 ثم ثبت عند أهل العلم أن رسول الله قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل". فأخذوا به كلهم وتركوا قول عمر، فقال الشافعي في ذلك في الفقرتين 1167، 1168: "ولم يقل المسلمون: قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار. ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافهُ ولا غيركم، بل ساروا إلى ما وجب عليهم، من قبول الخبر عن رسول الله، وترك كل عمل

خالفه، ولو بلغ عمر هذا صار إليه، إن شاء الله، بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله، وعلمه، وبأن ليس لأحدٍ مع رسول الله أمر، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله". وسيرة عمر في السنة معروفة، كان يجتهد فيما يعرض له، مما ليس فيه نص كتاب ولا يعلم فيه سنة، فإذا بلغته سنة رسول الله، عدل عن رأيه واتبع السنة، بل هو كان أشدَّ اتباعًا للسنة وتمسكًا بها في كل شأنه، وأقوى حجةً في ذلك موقفه حين مقتله؛ إذ يستدبر الدنيا ويستقبل الآخرة، قال له ابنه عبد الله بن عمر: "إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لكم، زعموا أنك غير مستخلف. فوضع رأسه ساعة ثم رفعه فقال: إن الله عَزَّ وَجَلَّ يحفظ دينه، وإني إنْ لا أستخلف فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن يَعدلُ برسول الله أحدًا، وأنه غير مستخلف". وهذا حديث صحيح جدًّا، رواه الإمام أحمد في مسنده (ج 1 ص 47) ورواه أيضًا مسلم في صحيحه (ج 2 ص 80 - 81) وأبو داود في السنن (ج 3 ص 93 - 94 من شرح عون المعبود) ورواه أيضًا البخاري مختصرًا (ج 9 ص 81 من الطبعة السلطانية). فهذا عمله كما ترى في شيء سلبي سكوتيّ، لم يستخلف رسول الله، ولكنه لم يَنْهَ عن الاستخلاف، واستخلف أبو بكر، وهو الصاحب الأول، والوزير الأول، والخليفة الأول، وهو كان أعلم برسول الله من عمر ومن غير عمر من الصحابة، وأقرَّه عمر

وأقرَّه المسلمون جميعًا فكان اتفاقًا منهم على أن الاستخلاف جائز غير ممنوع، ومع ذلك فإن عمر أبى إلَّا أن يتبع فعل رسول الله في ترك الاستخلاف، وعَرف ذلك منه ابنه عبد الله، وهو أعرف الناس به "فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن يعدل برسول الله أحدًا" فهذا هو عمر وعلى حقيقته "بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله، وعلمه" كما وصفه الشافعي حقًّا، لا على الصفة المنكرة التي اخترعها المؤلف، أنه يلعبُ بالسُّنة برأيه، فيفرق بين الثابت على الزمن وبين ما قضت به أحداث الوقت، فيراجعه ويعيد النظر فيه، توهمًا من المؤلف - لا اقتناعًا من عمر - "أن رسول الله لو امتدَّ به الأجل لراجعه وأعاد النظر فيه"! ! وهذا هو عمر التابع المطيع والخادم الأمين، ليس كما يصوّره المؤلف، مخالفًا كلَّ نصًّ وكل معقول، أنه أتمَّ على الأرض هذه الرسالة! ! وعمر يعلم أن الله أنزل على رسوله في يوم عيد، يوم عرفة يوم الجمعة في عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. 22 - (ج 2 ص 222) يتحدَّث المؤلف عن عمر يقول: "ولقد كان يرى نفسه مسؤولًا أمام ضميره وأمام الله". وهذا تعبير إفرنجيّ مستحدث، ومعنى باطل لا يعرفه عمر ولا يعرفه الإسلام، فإنما الذي يدين الناس ويسألهم عن أعمالهم، والذي يجب عليهم أن يتقوه ويخشوه هو الله وحده.

23 - (ج 2 ص 236) يقول المؤلف في شأن تدوين الدواوين: "فقد كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يكتبون له الكتب والرسائل، وكانت هذه الكتب تحفظ صورها وتحفظ الردود عليها في داره بالمدينة". وهذا نقل طريف، لا أذكر أني رأيته أو سمعت به قط، فعسى أن نُفيد من علم المؤلف وسعة اطلاعه، فيرشدنا إلى المصدر الذي نقله منه. 24 - (ج 2 ص 240) في إشارته إلى عبد المطلب بن هاشم قال: "وتذكر كيف أدى نذره". وما نظن هذا التعبير دقيقًا، فإن المعروف في كلام العرب أن يقال: "وفى بنذره" أو "أوفى بنذره" أو نحو ذلك. 25 - تحدَّث المؤلف عن صور النكاح في الجاهلية، فذكر منها أن يتزوَّج الرجل امرأةً فيذرها في قومها، ينزل عندها في رحلاته، وقد تعقبناه في ذلك المقال الذي نشر في مجلة "الكتاب". ثم عقب المؤلف كلامه السابق بقوله: "ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا الزواج أصل زواج المتعة الذي أبيح في صدر الإسلام إلى أن حرَّمه عمر". ولم يكن شيء من هذا، ولم يقل أحد من المؤرخين ما قال، بل نكاح المتعة كان أحد صور النكاح في الجاهلية، وقد أبيح في صدر الإِسلام ثم نسخ وثبت الأمر على تحريمه، وليس يصح ادّعاء المؤلف أنه بقي مباحًا إلى أن حرَّمه عمر، إلا على نظريته التي أنكرناها عليه: أن عمر كان يعيد النظر في سنة رسول الله، وأنه أتمَّ

الرسالة! ! وأما الثابت عند أهل العلم: "أن عمر لم ينه عنه اجتهادًا، وإنما نهى عنه سندًا إلى نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، كما قال الحافظ ابن حجر، وانظر فتح الباري (ج 9 ص 143 - 151). ولم يكن عمر ولا غيره يملك أن يحرّم الحلال، ولم يجعل الله ذلك لأحد من خلقه بعد رسول الله. 26 - (ج 2 ص 258) استعمل المؤلف فعل "تعمق" متعديًا بنفسه وهو فعل لازم، لا شك في ذلك ولا خلاف، وفي اللسان: (عمَّق النظر في الأمور تعميقًا، وتعمق في كلامه، أي؛ تنطَّع. وتعمق في الأمر: تنوق فيه فهو متعمق). والذي ابتدع هذا الخطأ ولهج به وأشاعه، هو الدكتور طه حسين بك، فقلده المؤلف وغيره من الكتَّاب، عن غير تدبر ولا بحث. * * *

أسامة بن منقذ

أسامة بن منقذ (*) تأليف الأستاذ محمَّد أحمد حسين (¬1) وهذا كتاب آخر من كتب التراجم، مما ألف شبابنا المتوثب إلى المجد، في درس سيرة بطل من أبطال الإسلام الكبار، وأديب من أدباء العرب الفصحاء، وسياسي من الطراز الأول. ولي بهذا المترجم البطل شبه اختصاص، فقد أخرجت له في سنة 1935 كتاب "لباب الآداب"، ونشرته مكتبة سركيس بالفجالة بمصر، وهو كتاب من عيون كتب الأدب، وترجمت للمؤلف ترجمة متوسطة في 17 صفحة، وكنت شرعت فيها ترجمة وافية، ثم وجدت مجال النشر ضيقًا إذ ذاك، فأوجزت فيها، ووعدت أن أكتب له ترجمة في جزء خاص، أستوعب فيها أحواله وأحوال أسرته، وأستقصي ما أجده من شعره ومناسباته، ولكني لم أجد الفرصة المواتية للوفاء بهذا الوعد، وقد قام الأستاذ المؤلف بما كنت حريصًا على الوفاء به. وأسامة بن منقذ رجل فذ ممتاز، يمثل فروسية العرب وشهامتهم، وكرمهم وشجاعتهم، ويمثل عصره وبيئته أصدق تمثيل، وعنه وعن أمثاله اقتبس الإفرنج في الحروب الصليبية كثيرًا من محاسن العرب وتقاليد الإسلام. قلت في وصفه في ترجمته التي أوجزتها في أول ¬

_ (*) مجلة الكتاب، عدد شوال 1365 هـ، سبتمبر 1946 م. (¬1) 140 صفحة من القطع الكبير. دار الكتب المصرية. القاهرة 1946.

"لباب الآداب" ص 20 - 21: "نشأ أسامة في كنف أبويه وعمته وجدته، وفي وسط أسرة من أعظم الأسر العربية، أكثر رجالها فرسان محاربون من الطبقة الأولى، وبعد ولادته بنحو سنتين بدأت الحروب الصليبية في بلاد الشأم سنة 490، ورباه أبوه على الشجاعة والفتوة والرجولة، ومرنه على الفروسية والقتال، وكان يخرجه معه إلى الصيد، ويدفع به بين لهوات الأسود، فأخرج منه فارسًا كاملًا، وسياسيًّا ماهرًا، ورجلًا ثابتًا كالرواسي، لا تزعزعه الأعاصير، ولا تهوله النكبات والرزايا، فهو يقول عن نفسه بعد أن جاوز التسعين، إذ يحكي بعض ما لقي من الأهوال: "فهذه نكبات تزعزع الجبال، وتفني الأموال، والله سبحانه يعوض برحمته، ويختم بلطفه ومغفرته، وتلك وقعات كبار شاهدتها، مضافة إلى نكبات نُكبتها، سلمتْ فيها النفس لتوقيت الآجال، وأجحفتْ بهلاك المال" (الاعتبار ص 3). ويقول أيضًا: "فلا يظن ظان أن الموت يقدمه ركوب الخطر، ولا يؤخره شدة الحذر، ففي بقائي أوضحُ معتبر، فكم لقيت من الأهوال، وتقحمت المخاوف والأخطار، ولاقيت الفرسان، وقَتلت الأسود، وضُربت بالسيوف، وطُعنت بالرماح، وجرحت بالسهام والجروخ (¬1)، وأنا من الأجل في حصن حصين إلى أن بلغتُ تمام التسعين ... فأنا كما قلت: ¬

_ (¬1) بالجيم في أوله والخاء المعجمة في آخره، وهي من أدوات الحرب ترمي عنها السهام والحجارة، والكلمة معربة عن التركية أو الكردية.

مع الثمانين عاثَ الدَّهْرُ في جَلَدِي ... وساءَنِي ضَعْفُ رِجْلِي واضطرابِ يَدِي إذا كَتَبْتُ فَخَطِّي جِدُّ مضطرب ... كَخَطِّ مُرْتَعِشِ الْكَفَّيْنِ مُرْتَعِدِ فاعْجَبْ لِضَعْفِ يَدِي عَنْ حَمْلِها قَلَمًا ... مِنْ بَعْدِ حَطْمِ الْقَنا فِي لُبَّةِ الْأَسَدِ وَإِنْ مَشيتُ وفِي كَفِّي الْعَصا ثَقُلَتْ ... رِجْلي، كأنِّي أَخُوضُ الْوَحلَ فِي الجلدِ فَقُلْ لِمَنْ يَتَمَنَّى طُولَ مُدَّتِهِ: ... هَذِي عَواقِبُ طُولِ الْعُمْرِ والْمَدَدِ (الاعتبار ص 163 - 164). وقد عمر أسامة عمرًا طويلًا، عاش 25 يوم 2 شهر 96 سنة؛ لأنه ولد يوم الأحد 27 جمادى الآخرة سنة 488 (يوليو سنة 1095) ومات ليلة الثلاثاء 23 رمضان سنة 584 (نوفمبر سنة 1188). وكان المستشار الحربي لصلاح الدين الأيوبي، بما نال من خبرة طويلة، في الحرب والسياسة، وبما خاض من غمار الحروب الصليبية، وقد نشأ في عنفوانها، نقل أبو شامة في الروضتين (ج 1 ص 264) عن العماد الكاتب، مؤرخ صلاح الدين ولسانه الناطق، يصف مجيء أسامة إلى دمشق باستدعاء صلاح الدين، وهو شيخ قد جاوز الثمانين، قال: "فلما جاء مؤيد الدولة - يعني أسامة، فذا لقبه - أنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملكه من أعمال المعرفة ضيعة زعم أنها كانت قديمًا تجري في أملاكه، وأعطاه بدمشق دارًا وإدارًا، وإذا كان - يعني السلطان صلاح الدين - بدمشق جالسه وآنسه، وذاكره في الأدب ودارسه، وكان ذا رأي وتجربة، وحنكة مهذبة، فهو

يستشيره في نوائبه، ويستنير برأيه في غياهبه، وإذا غاب عنه في غزواته، كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه في كشف مهماته، وحل مشكلاته". فهذا الفارس كما قال المؤلف في تصدير الكتاب: "مثل أعلى للفروسية العربية التي ثقفها الغربيون عن فرسان العرب زمن الحروب الصليبية، فهو فارس حمل علم الجهاد في أعنف صراع شهده العالم الإسلامي، حينما وجه الغرب حملاته الصليبية عليه لانتزاع بيت المقدس". فهو جدير بأن يترجم وتدرس حياته وأحواله وآراؤه السياسية والاجتماعية والعلمية دراسة واسعة وافية؛ ليكون مثالًا يحتذى، وكما قال المؤلف أيضًا: "فنحن إذ ندرس سيرة أسامة بن منقذ، ندرس الخطوات التي خطاها العالم الإسلامي في جمع شمله وتوحيد صفوفه، حين نهض ليرد عادية الصليبيين، ويزيد في شأن هذه الدراسة التاريخية، قدرًا أن أسامة نفسه قد خلف في كتابه "الاعتبار" صورة لأحداث عصره، وقد اعتمد عليه كثير من المؤرخين في دراساتهم لهذه الحقبة الصاخبة من تاريخ الجهاد الإسلامي". وهذا الكتاب سيرة ممتعة، درس فيها المؤلف حياة أسامة وحياة أسرته، والعصر الذي نشأ فيه، وتتبع آثاره العلمية والأدبية تتبعًا لا بأس به، وعني بتحقيق مسائل تاريخية هامة، وعني بجمع كثير من شعر أسامة، فقد كان شاعرًا فحلًا، وله ديوان مفقود، رآه ابن خلكان بخطه في مجلدين، وليت المؤلف أو غيره من الباحثين المتقنين ينشط

إلى البحث عنه لينشره، فإذا لم يوجد جمع كل ما يجد من شعره مفرقًا في الكتب، وينسب كل شيء منه إلى موضعه الذي نقل منه، فيخرج لنا كثيرًا من هذا الديوان الفريد النادر. والكتاب مطبوع في مطبعة دار الكتب المصرية، وسيكون مرجعًا مفيدًا في أيدي العلماء والباحثين والأدباء، فكنا نرجو أن يخلو من الأغلاط المطبعية الكثيرة، وبعضها مما لا يجوز التساهل فيه، مثل قوله في (ص 9) في شعر لأسامة: ظلومٌ أبت في الظلم إلا التماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيا ومن البين أن صواب الشطر الأول "إلا تماديا" دون حرف التعريف. وفي (ص 25 س 3) "لم يشأ الفرنج أن يتركوا شيرز في هدوء هامدة طويلة"! وصوابه "في هدوئها مدة طويلة". (وفي ص 37 س 16): "ما لم يكن يره فيه" وصوابه "ما لم يكن يراه فيه". ومثل بيت لأسامة في (ص 54): هل فيهمْ رجل يغني عَنَائي إذ ... جلَّى الحوادثَ حدَّ السيف والقلم وصحته "فيهمُ" و"غَنَائي" بالغين المعجمة و"حدُّ السيف" بالرفع. وفي البيت الذي بعده "ذَرَع الرجالُ" وصحته "ذَرْعُ الرِجالِ".

وفي البيت الأخير في الصفحة نفسها، "فاسلم فما عشتُ لي" وصوابه "عشتَ". وفي (ص 90 س 4) "كالجواد العلاف" وصوابه "كجواد العلاف" كما في الاعتبار الذي نقل عنه. وفي (س 16) "بالسهام والجروح" وصوابه "الجروخ بالخاء المعجمة"، كما شرحناها آنفًا، وكما هو في الاعتبار. والشعر الذي في (ص 107) فيه كثير من أخطاء الطبع أيضًا، ولو تتبعنا ذلك لطال جدًّا. وقد أثبت المؤلف في آخر الكتاب ثبتًا بالمراجع التي اعتمد عليها في كتابه، وذكر طبعاتها وتاريخها، فلم يكن في حاجة للإطالة بوصف كل مرجع منها في الهوامش عند النقل عنها، وثبت المراجع كاف. ومما أخذت عليه أن نقل فقرة طويلة (ص 4 - 5) ونسبها في الهامش إلى "ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق. ص 130". وهو تساهل غير جيد، بل خطأ يخشى أن يوقع الشك في صحة نسبة كثير من المقتبسات؛ لأن هذه الفقرة نقلها ناشر تاريخ ابن القلانسي في هامش (ص 130) عن تاريخ "سبط ابن الجوزي" فليست من كلام ابن القلانسي ولا صلة لها به، إلَّا نشرها بهامش كتابه! وقال المؤلف في (ص 36) حين عرض لتعلم أسامة العلم: "وكان أبو الحسن السنبسي يعلمه الحديث، وابن المنيّرة يعلمه الأدب". وكتب على ذلك في الهامش مصدره وهو "أحمد أمين: فارس كنانة: فيض الخاطر، الجزء الرابع ص 120" وأنا أظن أن المؤلف الفاضل قرأ الترجمة التي كتبتُها لأسامة في أول "لباب

الآداب". فكان الأجدر به وبالأمانة في النقل أن يشير في هذه الفقرة إلى الموضع الذي نقل منه الأستاذ أحمد بك أمين، أو يتخطى هذين، المصدرين المعاصرين، ويرجع إلى المصادر التي أشرت إليها في هذا، فإني قلت في (ص 21) من الترجمة: "ولم يكتف أبوه بتربيته الحربية، بل كان يحضر له الشيوخ الكبار ليعلموه هو وإخوته، فسمع الحديث من الشيخ الصالح أبي الحسن علي بن سالم السِّنْبِسي في سنة 499 كما في تاريخ الإسلام للذهبي، وقد روى عنه حديثًا في أول (لباب الآداب ص 1) وكان يؤدبه الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن المنيرة المتوفى سنة 503، (الاعتبار ص 85) و (لباب الآداب ص 101 و 190) ". وفي (ص 73) يقول المؤلف: "لم تحو المصادر التاريخية ما يشير إلى خوض أسامة وهو في بلاط نور الدين المعارك ضد الإفرنج كما عودنا ذلك، ولعل كبر سنه أقعده عن ذلك، ولكنا نجد أبا شامة المقدسي قد نوه بشجاعة أسامة في حصار قلعة حارم، فقال: "إنه كان من الشجاعة في الغاية التي لا مزيد عليها". إلى آخره. وأخشى أن يكون في هذا شيء من التناقض، نفي ثم إثبات! فماذا بعد أن يذكر أبو شامة اشتراكه في الحصار، وعوده من الغزو؟ أما يكفي هذا في الإشارة إلى خوض المعارك، وهو بالتصريح لا بالإشارة؟ ! والمؤلف يحرص على ذكر التاريخ الإفرنجي بجوار التاريخ الهجري، ولا بأس بذلك، ولكنه ينسى في بعض المواطن فيقتصر

على التاريخ الإفرنجي، وهو يؤرخ لبطل عربي إسلامي، ويؤرخ وقائع عربية عن كتب العرب! كما فعل في (ص 75، 76) مثلًا. ويقول المؤلف (ص 89): "كنا نود أن تكشف لنا المصادر التاريخية عن الصلة بين أسامة والقاضي الفاضل عبد الرحيم البساني وزير مصر الكبير، ورسائل الفاضل التي بين أيدينا ليس منها رسالة واحدة إلى أسامة، غير أن العماد قد حفظ في الخريدة رسائل جرت بينهما عن كتاب العصا، ومن الغريب أن العماد هو الوحيد الذي حفظ هذه الرسائل، مما جعل الشك يتطرق إلى صحة نسبة هذه الرسائل إلى الفاضل"! ! وهذه طريقة طريفة في الشك وفي الاستدلال عليه! يستدل بما ذكر في هامش هذا الموضع من أنه "بين يدي المؤلف جميع المخطوطات التي تحوي رسائل القاضي الفاضل" وما أدري من أين جاء هذا الحصر الكلي، حتى يكون سببًا للشك في رواية مؤرخ ثقة كالعماد الكاتب؟ العماد ذكر رسائل من القاضي الفاضل لأسامة، وأثبت نصها، والمؤلف يقول إن بين يديه مخطوطات فيها رسائل القاضي وليس من بينها ما ذكر العماد، أليس ما ذكر العماد من المخطوطات التي تحوي رسائل القاضي أيضًا، وإن لم تكن خاصة بها، والعماد معاصر للمرسل وللمرسَل إليه؟ ! ولم يتهمه أحد بالوضع والاختلاف، فأنى يأتي الشك للمؤلف، إلّا أن يكون على طريقة المستشرقين! ! ومن مثل هذا، وإن كان المؤلف مقلدًا فيه فقط، ما جاء في

وصف النسخة المخطوطة الوحيدة من كتاب الاعتبار المحفوظة بالإسكريال (ص 93 - 94) فقد نقل ما كتب في آخرها من قراءتها على "مرهف بن أسامة" والقارئ حفيد مرهف؛ لأنه يقول: "قرأت هذا الكتاب من أوله إلى آخره في عدة مجالس، على مولاي جدي الأمير" ... إلخ. وأن ذلك كان في 13 صفر سنة 610، وكتب مرهف عقيبه: صحيح ذلك. وكتب جده مرهف بن أسامة بن منقذ، حامدًا ومصليًا. فقال المؤلف عقيب ذلك: "وقد أوضح فيليب حتى إن (13 صفر سنة 610) ليس هو تاريخ نسخ مخطوطة الإسكوريال، بل هو تاريخ النسخة الأصلية التي نقل عنها مخطوطة الإسكوريال"! لماذا؟ ! لا أدري! هكذا أراد فيليب حتى وهكذا أراد المؤلف، لو كان لهما ممارسة طويلة بالمخطوطات العتيقة، وبطرق المتقدمين في الإجازات وإثباتها على الكتب، ونقل صورها عن أصولها إن لم تكن هي أصلًا، ما قال واحد منهما شيئًا من هذا. ومن المستطاع بهذا الاستنباط التحكمي العجيب أن ننفي كل شيء، وأن نكذب بكل شيء، ثم لا يؤثر ما نقول في الوثائق الصحيحة، والدلائل الثابتة. ولقد رددت مثل هذا التحكم على الدكتور موريتس في تشكيكه في أصل "كتاب الرسالة" للشافعي الذي بخط الربيع بن سليمان، والمحفوظ بدار الكتب، فليرجع إليه القارئ في مقدمة شرحي على الرسالة (ص 17 - 22 من المقدمة). وقد صنع المؤلف مثل هذا في وصفه مخطوطة (ليدن) من "كتاب

العصا" لأسامة، إذ قال في (ص 97): "ولا يمكننا الجزم بأن التاريخ المكتوب عليها (1094 هـ= 1683 م) هو تاريخ نسخها"! لماذا؟ ! لا أدري أيضًا، وليته تثبت قبل أن يلقي ظلال الشك على مخطوطين، أنا واثق أنه لم يرهما، وإنما نقل وصفهما عن غيره، لعله لو رآهما لقال غير ما قال. والله يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل. * * *

الخطيب البغدادي

الخطيب البغدادي (*) تأليف الأستاذ يوسف العش (¬1) يعجبني أن يشغف شبابنا الناهض المثقف بتراجم الرجال؛ فإن فن التراجم من أروع فنون العرب وأبدعها وأكثرها فائدة. وعلماء الإسلام هم الذين شقوا طريقه، ووطؤوا أكنافه، ورفعوا مناره، وجعلوه فنًّا معجبًا ممتعًا، حتى إن علماء الحديث وحفاظه اعتبروه من أهم فنون الحديث، بل قسموه فنونًا عدة، انظر مثلا كتاب (علوم الحديث لابن الصلاح) إذ قسمه إلى أنواع أو علوم، من النوع "التاسع والثلاثين" إلى النوع "الخامس والستين". وألف فيه حفاظ الحديث وكبار رجاله مئات المجلدات المطبوعة، إلى الآلاف التي لا تحصى مما لم يطبع، وإلى أضعافها مما فقد على أحداث الزمن، مما وجدنا خبرًا عنه في تراجم المؤلفين وفهارس الكتب، ومما لم يسمع به أحد. وما أظن أمة بلغت في القديم في هذا الفن ما بلغ حفاظ الحديث وعلماء العرب، ويكفي أن تعلم أن البخاري صاحب الصحيح ألف كتاب "التاريخ الكبير" وقد طبع منه بحيدر آباد بالهند نصفه في أربعة جلود كبار، وأن ¬

_ (*) مجلة الكتاب، عدد شعبان 1365 هـ، يوليو 1946 م. (¬1) 276 صفحة من القطع المتوسط. المكتبة العربية. دمشق 1945.

البخاري مات سنة 256، أي منذ أكثر من ألف ومائة سنة، وأن ابن سعد ألف كتاب "الطبقات الكبير" وقد طبع ما وجد منه في أوربة في ثمانية مجلدات ضخام، وأن ابن سعد مات سنة 230، أي قبل البخاري بستة وعشرين عامًا. فما يثلج صدرنا حقًّا أن يعني شبابنا الباحثون بهذا الفن الجليل، وأن يخرجوا فيه الكتب الممتعة، والدراسات الجيدة، مرة يجيدون، ومرة غير ذلك، ولكنهم على السبيل، ثم لا يلبثون أن يصلوا، وأن يحيوا مجد السلف الصالح. وقد قرأت هذا الكتاب "الخطيب البغدادي" الذي ألفه الأستاذ يوسف العش، ترجمة لهذا المؤرخ المترجم العظيم، فأعجبني حقًّا؛ أعجبني ما فيه من تعمق في البحث، واستقصاء للمراجع، وتحقيق وتحليل، وإرجاع كل شيء إلى مصدره، حتى لا يضل القارئ، ولا يشك فيما ينقل له. وهذه مهمة، فإني أرى أن كثيرًا من المؤلفين في هذا العصر، يضلون القارئ بذكر مراجع كثيرة ذكرًا إجماليًّا، ثم لا يسندون ما ينقلون إلى مواضعه من المراجع، فلا تكاد تتعقبه، ولا تكاد تعرف أنقل حقًّا أم أخطأ عن غير عمد، أم شيئًا آخر لا أحب أن أسميه. أما الأستاذ يوسف العش فإنه اتبع الطريق القويم. ولقد وصف صديقنا الأستاذ أحمد بك أمين هذا الكتاب وصفًا جيدًا حين عرضه للقارئ في مقدمته: "ستشهد في هذا السفر صورة موجزة عن عصر متوسط من عصور الإسلام، وترى فيه حياة محدث

قد حفل بالعلم، وانكب عليه وأخلص له، فسعد بسببه، وعرف به، وقدر لأجله، وستقرأ صورته بطبعه السمح، ونفسه الطيبة، وقدرته على الإتقان، وتنتقل من ذلك إلى وصفه في ثقافته وعلمه، وهما يتكوّنان ثم يتوسعان ثم ينتجان، ويبدو لك بعد ذلك أدب براق، وشعر لطيف، فتتشوق إلى معرفة رأي الرجل، فتراه متحمسًا يعتقد وجوب الأخذ بشيء من التفكير والعقل، والوقوف عند نصوص الشرع، حتى إذا شاهد من لا يوافقه على رأيه، لم يخش من الكيل له بما يراه يستحقه، يخاصمه مستترًا بأقوال غيره فيه، يورد أشدها وأقواها دون أن يبدي رأيه فيه، أو يرفع صوته في استنكار أعماله، ولكن خصومه لا يقفون حيارى، بل يتناولونه بألسنتهم الحداد، ويتهمونه بما يرونه مستحقًّا له، ويضطرب رأيك فيه بعد الذي تسمع في نقده، وتود لو سمعت قول المنصفين ليتبين لك الحق، فترى أئمة المؤرخين معجبين به، مجلين له، معتقدين كماله وإتقانه، وتستخلص من ذلك صورة تختم بها رأيك فيه فتجده من خيار الناس الذين يكونون مجد الأمم، ويخدمون تراث العلم". وصنف الأستاذ يوسف كتابه هذا تصنيفًا علميًّا دقيقًا، فقسمه إلى أبواب: 1 - عصر الخطيب. 2 - حياته في العلم وللعلم. 3 - صورته بمزاياه وطبعه. 4 - مصادر ثقافته وينبوع أثره. 5 - تعداد شيوخه وأقرانه وتلامذته. 6 - تسمية ما ورد به دمشق من روايته من الأجزاء المسموعة

والكتب الكبار المصنفة ... إلخ. 7 - أسماء المؤلفين الذين ورد الخطيب بمؤلفاتهم دمشق. 8 - فهرست مصنفاته. 9 - مقدمة البحث عن ثقافته وأثره. 10 - ثقافته في نشأتها واكتمالها. 11 - آثاره وأهدافه فيها إجمالا. 12 - الآخذون عنه وخاتمة القول في أثره. 13 - مذهبه ونزعاته. 14 - صفته في علمه. 15 - مكانته عند الناقدين. وفي الكتاب هنات ومآخذ، لا تغض من قيمة ما بذل المؤلف الفاضل من جهد في التحقيق والتنقيب، وكثير منها كان يمكن تداركه، إلى شيوع الأغلاط المطبعية فيه، مما لا نستطيع أن نؤاخذ المؤلف وحده عليها، وكنا نتمنى أن يبذل في التصحيح المطبعي شيئًا من العناية، ونحن نسوق بعض ما رأينا من المآخذ؛ ليكون موضع نظر المؤلف والقارئ: ص 53 س 4 "وبقيت ذاكرته ماثلة في أذهان أهل بغداد" يريد "وبقيت ذكراه". ص 94 رقم 30 "قراءة ابن محص؟ " فكذا كتبها المؤلف ووضع بجوارها علامة الاستفهام. وصحتها "قراءة ابن محيصن"، وابن محيصن أحد القراء المعروفين، واسمه "محمد بن عبد الرحمن المكي". ص 96 رقم 88 "كتاب العلل لعمرو بن علي (لعله القلاس) " هكذا كتب، و"عمرو بن علي" هو "الفلاس" يقينًا، وهو إمام ثبت حجة، صنف "المسند والعلل والتاريخ" فلا حاجة إلى الظن، ثم هو "الفلاس" بالفاء لا بالقاف. وما أظن هذا خطأ مطبعيًا، فقد تكرر في

ص 108 رقم 355 وفي ص 109 رقم 400. ص 98 رقم 141 "كتاب الرد على محمد بن الحسين للشافعي" وصوابه "محمد بن الحسن" وهو الإمام صاحب أبي حنيفة، وهذا الكتاب مطبوع في مطبعة بولاق بمصر سنة 1325 ضمن كتاب (الأم للشافعي ج 7 ص 203 - 277)، وكان يجدر بالمؤلف - وهو بالكتب خبير - أن ينبه إلى ذلك، ولعل الخطأ في جعل "الحسن" "الحسين" خطأ مطبعيًّا. ص 99 رقم 163 من العمود الثاني "كتاب مسائل أبي بكر (أحمد ابن محمد) المرودي" وصحته "المروذي" بتشديد الراء المضمومة وكسر الذال المعجمة، نسبة إلى "مرو الروذ" وهي مدينة قديمة معروفة، ينسب إليها "المرويذ" و"المروروذي"، انظر معجم البلدان. وأبو بكر هذا من كبار أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، له ترجمة في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ص 32 - 34 طبعة المكتبة العربية بدمشق سنة 1350 وتاريخ بغداد للخطيب 423 ص 420 - 425 وغيرهما. ولعل إهمال الذال من الخطأ المطبعي أيضًا. ص 99 رقم 169 "كتاب الموطأ (لمالك) من طريق العنبي ومن رواية ابن وهب وابن العا؟ " هكذا بهذا الرسم وإهمال النقط، ولو رجع المؤلف الفاضل إلى ترجمة الإمام مالك وأسماء تلاميذه، وإلى ما كتب في كتب الحديث وغيرها عن الموطأ وأسماء رواته، لعلم أن صحة الاسم الأول "القعنبي" بفتح القاف والنون بينهما عين ساكنة،

نسبة إلى جده "قعنب" والقعنبي أحد رواة الموطأ الثقات، واسمه "عبد الله بن مسلمة بن قعنب" وهو شيخ البخاري ومسلم وغيرهما، مات سنة 221. ولعلم أن صحة الاسم الثاني "ابن القاسم" فلعله كتب في الأصل الذي نقل عنه من غير نقط على القاف، أو تآكل الورق، أو ضاع باقي الاسم، أو لعله كتب على طريقة الإملاء القديمة في سطرين "القا" في آخر السطر و"سم" في أول السطر الذي بعده، وهو "عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري الفقيه" أحد رواة الموطأ عن مالك وحملة فقهه، مات سنة 191. ص 122 رقم 9 "محمد بن ححارة وبيان بن بشر" هكذا بدون نقط، وهما خطأ. والصحيح في الأول: "محمد بن جحادة" بضم الجيم وتخفيف الحاء المهملة، وهو من صغار التابعين، روى عن أنس بن مالك. وفي الثاني "بيان" بفتح الباء الموحدة وتخفيف الياء التحتية، وهو من صغار التابعين، روى عن أنس أيضًا. ص 122 رقم 14 "مسند نعيم بن هماز العصعصاني" وهو خطأ، صحته: "نعيم بن همار الغطفاني" بفتح الهاء وتشديد الميم من "همار" و"الغطفاني" بفتح الطاء المهملة وبالفاء، نسبة إلى "غطفان". ص 122 رقم 15 "جزء فيه أحاديث مالك بن أنس عوالي"، وهذا تعبير عجيب ليس بعربي قطعًا! لعله يكون إفرنجيًّا؟ ! العرب يقولون في مثل هذا "عوالي أحاديث مالك بن أنس" أو "أحاديث مالك بن أنس العوالي". ص 123 رقم 20 "الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب تخريج

الخطيب لأبي القاسم المهرواني، ذكره ابن الجوزي في المنتظم 8: 304 بقوله: مشيخته". فهذه "المهرواني" غلطة لعلها مطبعية، صوابها "النهرواني" بالنون، وكذلك هو في المنتظم، و"مشيخته" خطأ أيضًا، صحتها "مشيخة" بدون الضمير، كما هو بديهي، وكما هو في المنتظم. ص 123 رقم 24 كتاب "الفصل للوصل المدرج في النقل في تسعة أجزاء" وضعه المؤلف في كتب المصطلح، ولم أر الكتاب، ولكني أرجح أنه في الحديث لا في المصطلح؛ لأن الظاهر من اسمه ومن تجزئته أنه يذكر الأحاديث التي أدرج فيها ما ليس منها، وينبه على فصل المدرج عن أصل الحديث. ص 124 رقم 25 كتاب "الكفاية للخطيب" نقل المؤلف عن بروكلمن أن دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد تعمل على إخراجه، والكتاب أخرج فعلًا، وجاء إلى مصر واقتنياه، وقد طبع سنة 1357، أي منذ ثماني سنين. ص 125 رقم 31 كتاب "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب. وصف المؤلف نسخة مكتبة البلدية بالإسكندرية أنها في عشرة مجلدات، وهو خطأ عذره فيه أنه نقله من فهرس مكتبة البلدية، ولكن الكتاب عشرة أجزاء صغار في مجلد واحد، وقد رأيته، ونسخه بخطه أحد إخواننا الشيخ علي عبد العليم، الذي كان قاضيًا بالمحكمة الشرعية بالإسكندرية رحمه الله، ورأيت نسخته أيضًا.

ص 129 رقم 54 كتاب "التطفيل" نقل المؤلف عن بروكلمن أنه مطبوع. وهذا إن رضيناه من أحد فلا نرضاه من الأستاذ يوسف العش، العارف بالكتب معرفة جيدة؛ فإن الكتاب مطبوع منذ عشرين سنة تقريبًا في دمشق، وما أظن أن مكتبة الظاهرية تخلو من نسخة من هذه الطبعة. ومما لا يعجبني أن يحيل المؤلف القارئ في تراجم العلماء الكبار المعروفين على كتاب بروكلمن ليعرفوا مراجع تراجمهم! كما صنع في تراجم أبي نعيم ص 80، وابن الصباغ صاحب الشامل، وابن بشران ص 82، وأبي إسحاق الشيرازي وابن ماكولا ص 85، والخطيب التبريزي ص 90، وما أدري لم هذا؟ وكتب التراجم بين يديه، يستطيع أن يرشد القارئ إلى مواضع التراجم فيها تيسيرًا عليهم! وكثير من هذه الكتب يقتنيها المثقفون من القراء. أما كتاب بروكلمن، فإنه باللغة الألمانية أولًا، والعارفون بها قليلون، وقليل منهم من يعنى بالتراجم أو يقتني كتبها، ثم أين هو كتاب بروكلمن الآن؟ إن النسخة منه ليبلغ ثمنها أكثر من أربعين جنيهًا، ثم لا توجد. وخير للمؤلف أن لا يغرب على القارئ، وإن كان مشكورًا على هذا الكتاب الممتع البديع. ولئن كان لي أن أقترح على المؤلف أن يحبو المكتبة العربية بأثر آخر نفيس يكون صنوًا لكتابه، إني أقترح عليه أن يؤرخ للحافظ ابن عساكر مؤلف تاريخ دمشق، كما أرّخ للخطيب مؤلف تاريخ بغداد. * * *

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

دراسات عن مقدمة ابن خلدون (*) بقلم أبي خلدون ساطع الحضري (¬1) استوعب المؤلف درس مقدمة ابن خلدون، استيعابًا بديعًا دقيقًا، في كل ناحية من نواحيها، وكشف عن أسرارها وعن مزاياها، في هذا السفر الضخم النفيس. إنهُ يكشف لأبناء العروبة عن كتاب هو مفخرة من مفاخر العرب في القرن الثامن الهجري، لم يلقَ من عنايتهم ما لقيه من عناية غيرهم من الترك والإفرنج، إلَّا قليلًا؛ فلا تزال طبعاته ناقصة محرفةً، ولا تزال نظرياته عندهم بكرًا لم يفترعوها، ولا يزال الكتاب عنهم محجوبًا. أليس مما يؤسف لهُ أن تطبع "مقدمة ابن خلدون" في مصر والشأم طبعات عدة، ليس فيها طبعة معتمدة، ولا كاملة محققة، وأن تكون الطبعة الوحيدة التي يمكن الثقة بها هي طبعة باريس سنة 1858 م باعتناء المستشرق "كاترمير"، التي اعتمد فيها على أربع نسخ مخطوطات، والتي أثبت فيها زيادات جمة لم تذكر في غيرها؟ يقول المؤلف في ذلك: "فإذا قارنَّا إحدى هذه الطبعات بطبعة باريس ¬

_ (*) مجلة المقتطف، المجلد 105، يونيو - ديسمبر سنة 1944. (¬1) 14,5 × 21,5 سم، جزآن، 324، 216 ص، مطبعة الكشاف، بيروت 1943 و 1944.

نجد أنه ينقص منها أحد عشر فصلًا كاملًا من الفصول المهمة، كما ينقص منها عدد غير قليل من الأبحاث والفقرات من الفصول المختلفة، وإذا أحصينا مجموع صفحات هذه الفصول والفقرات الناقصة نجد أنها تزيد على الستين". ومن مزايا الكتاب أنه قد استكمل كثيرًا مما نقص في طبعات المقدمة، نقل بعض الفقرات الناقصة، ونقل بعض الفصول المتروكة، استكمالًا للبحث، وتقريبًا على القارئ، وقد صارت طبعة باريس من أندر النوادر. أو ليس من العجائب أيضًا ما يقول المؤلف: "إن أهم الدراسات التي كتبت بأقلام بعض الشبان العرب ظلَّت خارجة عن نطاق المطبوعات العربية إلى الآن". لقد درَس أبو خلدون سلفه العظيم "ابن خلدون" دراسة دقيقة جامعة، درس عالم محقق، يصيب كثيرًا ويخطئ قليلًا، إن أصاب فعن معرفة وثبت، وإن أخطأ فبعد بحث وجهد، وله لا عليه في الحالين: اجتهد فأصاب أو اجتهد فأخطأ. ونظر نظرة عادلة في نقد كتب المتقدمين، ووضع له قاعدة دقيقة: أن لا ينظر إليها بمناظر العلوم في هذا العصر، وإنما تقاس إلى ما كان من قواعد العلم في العصر الذي ألفت فيه، وعلى هذه القاعدة العادلة سار المؤلف في دراسة المقدمة ونقدها والموازنة بينها وبين ما ثبت علميًّا في العصور السالفة والعصر الحاضر، وتتبَّع عمل

الرجل في طريقة درسه للمسائل، وطريقة تفكيره، وشهد له شهادة صحيحة قيمة حين يقول: "إن أبرز صفات تلك العقلية هي شدة التشوف، ودقة الملاحظة، ونزعة البحث، والتعميم وقدرة الاستقراء، فإننا نجد في المقدمة كثيرًا من الاستقراءات المستندة إلى ملاحظة الواقعات، وقلما نعثر على آثار الاندفاع وراء المجردات والاسترسال في سبيل الاستنتاجات" ج 2 ص 173. ونقل شهادة لابن خلدون لها قيمتها، من رجل أوربيّ من رجال الدين، هو روبرت فلينت الذي كان أستاذًا في جامعة أدنبرة، ونشر في سنة 1874 كتاب (فلسفة التاريخ في فرنسة وألمانية) قال فيه: "من وجهة علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، يتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء، فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم المسيحي في القرون الوسطى يستطيع أن يقدّم اسمًا يضاهي في لمعانه ذلك الاسم. إذا نظرنا إلى ابن خلدون كمؤرخ فقط نجد من يتفوّق عليه حتى بين كتَّاب العرب أنفسهم، وأما كواضع نظريات في التاريخ فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور فيكو بعده بأكثر من ثلاثمائة عام، ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس أوغسطين بأندادٍ له، وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه، إنهُ يستحق الإعجاب بما أظهره من روح الابتكار والفراسة والتعمق والإحاطة" ص 141. ومن أجود ما في الكتاب وأنفسه أن المؤلف عقد موازانات

محكمة وافية بين نظريات ابن خلدون ونظريات من جاء بعده من أساطين أوربة؛ فقارن بين ابن خلدون وفيكو الإيطالي (المولود والمتوفى في نابولي 1667 - 1744) في كتابه (العلم الجديد) الذي سمي بسببه "مؤسس فلسفة التاريخ ومؤسس علم الاجتماع" ج 1 ص 143 - 170، ومما أثبت في المقارنة؛ أن فيكو يصدق قصص العمالقة، ويبني عليها قسمًا كبيرًا من آرائه ونظرياته، في حين أنَّ ابن خلدون يفندها بصراحة وشدة. ثم يوازن بين طريقتيهما في البحث والتفكير، ويقول: "فلا مجال للشك إذن في أن نزعة ابن خلدون الفكرية في هذا الصدد كانت أقرب من نزعة فيكو إلى مناحي الأبحاث العلمية بوجه عام، وإلى أصول علمي التاريخ والاجتماع بوجه خاص" ج 1 ص 167. ثم يسجل حكمًا في هذه المحاكمة العادلة بأن حق ابن خلدون في لقب "مؤسس علم التاريخ" أو "فلسفة التاريخ" أقوى وأثبت من حق كل كاتب سبق "فيكو"، كما قال "فلينت"، وأقوى وأثبت من حق "فيكو" نفسه؛ لأنه كان أقدم منه كثيرًا، ولأنه كان أقرب منه إلى الروح العلمي الحديث (ج 1 ص 170). وعقد فصلًا آخر في المقارنة بين ابن خلدون ومونتسكيو (ولد سنة 1689 ومات سنة 1755) في كتاب (روح القوانين) (¬1) ج 1 ص 171 - ¬

_ (¬1) كتاب مونتسكيو ترجم منه يوسف آصاف النصف الأول، باسم (أصول النواميس والشرائع) وطبع هذا الجزء بالمطبعة العمومية بمصر سنة 1891 وهو عندي، ولا أدري أترجم النصف الثاني وطبع أم لا؟ .

192. ومما يقول في هذا الفصل: "من الثابت أن مونتسكيو كان قد أبدى طائفة من الآراء الاقتصادية التي ثبت بطلانها بعد مدة وجيزة، كما أنه أغفل كثيرًا من الحقائق الاقتصادية التي تمَّ اكتشافها قبل مرور مدة طويلة، مما يدل دلالة قطعية على أنه لم يتفوّق على معاصريه تفوقًا كبيرًا في أبحاثه الاقتصادية، في حين أن ابن خلدون كان قد سما فوق معاصريه سموًّا هائلًا في هذا المضمار، كما أنه ظل يحلق فوق مستوى الذين جاءوا بعده أيضًا، في الشرق وفي الغرب، مدة قرون عديدة" ج 1 ص 182. وعقد أيضًا فصلًا جليلًا عن ابن خلدون وعلم الاجتماع ج 1 ص 193 - 205. بيّن فيه أن علم الاجتماع أحدث العلوم الأساسية، ويعزى تأسيسه إلى أوغست كونت (سنة 1798 - 1853)، وأن حق ابن خلدون بلقب "مؤسس علم الاجتماع" أقوى من حق كونت؛ لأنه فعل ذلك قبله بمدة تزيد على 460 سنة. أقول أنا: وقد أدرك ابن خلدون أنه يضع علمًا مستحدثًا في الاجتماع؛ إذ يقول: "وكأنّ هذا علم مستقلّ بنفسه؛ فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشريّ والاجتماع الإنساني ... واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة أعْثَر عليه البحثُ وأدَّى إليه الغوص ... وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ... إلخ". المقدمة ص 36, 37 من طبعة بولاق سنة 1320 هـ.

وهكذا من مزايا الكتاب، مما لا نستطيع أن نحصيه في هذا المقام، ولا نستطيع أن نفيه حقه من الثناء، إلّا أن نوصي كل قارئ عربيّ أن يستوعب الكتاب قراءة ودرسًا، ليفيد علمًا جمًّا، وعقلًا سديدًا. * * * وفي الكتاب مآخذ ليست بالكثيرة، جلها مما يرجع إلى مقدرة المؤلف وعلمه بالعربية، فإن الكتاب كُتب بلغة غريبة، في كثير منها نبوّ عن العربية في اللفظ والأسلوب. ولسنا نفصل القول في ذلك، ولكنا نضرب فيه الأمثال: "حين كان مفكرو أوروبة لا يزالون يتيهون في فيافي التفكير الكلماني الدرساني" 1: 250. "يلاحظ أن مواضيع كل حد من حدود هذه السلسة أقل عمومية وأشد معضلية من التي قبلها، وأشد عمومية وأقل معضلية من التي بعدها" 1: 194. "وبهذه الصورة أصبح علم الاجتماع يسيطر على جميع العلوم الاجتماعية، أرضي أم أبى أصحابها، وأخذ ينفخ روحًا تقدميًّا فيها" 1: 198. "أن معظم مباحث المقدمة مكتوبة بنزعة علمانية وعقلانية" 1: 73 "أن الأفاعيل الحياتية أشد إعضالًا من الحادثات الكيماوية" 1: 193. وهكذا مما ملئ به الكتاب مما يباعد بينه وبين العربية. وقد أتى المؤلف مرارًا بفعل "استهدف" متعديًّا، مثل: "فإنها لا تستهدف شيئًا" 1: 9. وهو فعل لازم، لا يؤدي المعنى المراد هنا، وليس هذا الخطأ خاصًّا بالمؤلف، بل رأينا كثيرًا من كبار الكتَّاب بمصر يقعون فيه.

وأنا أوقن أن ضعف لغة الكتاب لم يكن عن عمد من مؤلفه، ولا تقصيرًا منه في استكمال لغته، ولكن يبدو لي - ولم يسبق لي شرف التعرُّف إليه - أنه نشأ على دراسة أجنبية، شأن كثير من نبهاء هذا العصر، ثم شغلته الحياة عن التعمق في العربية وعن التمرس بفصيح الكلام. * * * وقد عقد المؤلف فصلًا عن تطور الألفاظ واختلاف دلالاتها باختلاف العصور والموضوعات، وهو شيء معروف في العربية، وإن كان يوهم كلامه أنه شيء مستحدث، ثم ضرب من أمثلة ذلك كلمتي "الأبنية" بمعنى الخيام و"المصانع" بمعنى المباني، جعلهما كأنهما اصطلاح خاص أو استعمال مستحدث لابن خلدون، وليس كذلك؛ فإن "الأبنية" كما تطلق في العربية على المباني تطلق على الخيام، بل لعلها في الخيام أقدم، ففي اللسان: "البناء واحد الأبنية وهي البيوت التي تسكنها العرب في الصحراء، فمنها الطراف والخباء والبناء والقبة" و"المصانع" معروفة جاءت في القرآن الكريم: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} سورة الشعراء آية: 129. والمصانع هي ما يصنعه الناس من الآبار والأبنية وغيرها، قال الأزهري: "ويقال للقصور أيضًا مصانع". وقد ترجم المؤلف اصطلاحًا إفرنجيًّا ترجمة عجيبة، لا تطابق المعنى، وينبو عنها السمع، فإنه نقل عن علماء الاجتماع المتأخرين تقسيم الحكمة والسلطة إلى "السلطة المنتثرة" التي لا يختص بها

أشخاص معينون ولا تتعهدها هيئات منظمة، والسلطة "المتعضية" التي يختص بها أشخاص معينون وتتعهدها هيئات "متعضية" وفق أنظمة معينة. ج 1 ص 245. فهذه "المتعضية" يريد بها السلطة الموحدة المنظمة، يترجم بها كلمة Organise وأصل الكلمة الفرنسية، كما وجدت في المعاجم وكما أفادني بعض العارفين، معناها: ذو أعضاء، فاشتق منها المؤلف كلمة "متعضية" ولكن علماء الاجتماع لا يريدون هذا فإنهم نقلوها إلى إرادة معنى "السلطة الموحدة المنظمة". فهذا تكلف من المؤلف، لم يكن به إليه حاجة، ألجأه إلى كلمة ثقيلة، وإلى اشتقاق إن وافق العربية وافقها على معنىً ينقض ما أراد؛ فإن "التعضية" التفريق، وهو مأخوذ من الأعضاء، كما في اللسان، وهيهات هذا من ذاك. والمؤلف يؤرخ الحوادث العربية الخالصة في الكثير الأغلب بالتاريخ الإفرنجيّ يقتصر عليه، وقد يضم إليه التاريخ الهجري في بعض أحيانه. وليته جعل التاريخ الهجريَّ أساس تأريخه، وهو يؤرخ لمؤلف إسلاميّ يكتب في تاريخ الإسلام وعلوم الإسلام. ثم خاض المؤلف في موضوع شائك، الجدال فيه بغيض وعقيم: موضوع الدين والعقيدة، والعقل والتفكير والعلم، في مواضع متعددة، انظر منها مثلًا (ج 1 ص 42 - 48، 76، 241 - 343 وج 2 ص 150 - 172) ويبدو لي أنه متأثر في كتابته بنظرية العِداء بين العلم

والدِّين وبين العقل والدِّين، وهي نظرية بالية، خجلت حتى احتجبت، وذلت حتى استكانت. ولو أعرض عن الخوض في هذا الموضوع أنصف نفسه؛ إذ يخيل لمن يقرأ ما كتب أنه قد خفي عليه كثير من دقائق الدين والشريعة وظواهرهما، وأن ذلك كان ذا أثر بيّن فيما فهم من كلام ابن خلدون وأدرك من مراميه. والكتاب في جملته من أقوى الكتب التي ظهرت في بضع سنين، فيه علم جم وآراء سديدة. ونتمنى أن يعيد المؤلف النظر في لغته عند إعادة طبعه، إن شاء الله. * * *

عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة

عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة (*) تأليف الأستاذ محمد عزة دروزة (¬1) وهذا كتاب فيه فكرة جديدة، وقليلًا ما نرى ذلك في المؤلفات المحدثة، هو أثر من آثار دراسة القرآن دراسة بحث وتأمل وتفكير، لا دراسة مصطنعة في بحثِ الألفاظ، فقد كان أن سجن المؤلف بحكم ظالم من أحكام الفرنسيين الجائرة في سورية، قبل طردهم منها، فقضى شهورًا في سجن المزة العسكري وسجن القلعة بدمشق، فأتاح له الفراغ أن يصرف ذهنه ويقف تفكيره على مدارسة القرآن، حفظًا وتلاوة وتمعنًّا وتدبرًا. والقرآن بعيد الغور واسع المدى، فكلما أعطيته من نفسك ومن عقلك ومن روحك أعطاك من فتوحه ونفحاته، حتى تنكشف لك علوم وآفاق ما كنت لتصل إليها لولا مدارسة القرآن. وهكذا كان شأن الأستاذ المؤلف، فهو يقول: "فلفت نظري ما فيه من آيات كثيرة جدًّا فيها وصف أو إشارات تساعد على رؤية صور كثيرة لما كانت عليه الحياة الدينية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية والمعاشية في عصر النبي وبيئته قبل البعثة، فقلت في نفسي: لم لا يكون القرآن مصدرًا لتصوير هذا العصر والبيئة، وفيه ما فيه من هذه ¬

_ (*) مجلة الكتاب، السنة الثالثة - المجلد الخامس. (¬1) 508 صفحات من القطع الكبير. دار اليقظة العربية. دمشق 1946.

الآيات؟ وهو يعد أوثق وأصدق وأقدم ما يمكن أن يستند إليه كاتب أو باحث". ثم يقول: "وهو على كونه مبلغًا بلسان السيد الرسول عن الله، إنما كان يقرر حوادث واقعة، ويصف حالات قائمة، وينزل الوحي به في المناسبات المشهودة، فهو الكلمة الفاصلة والقول الحاسم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في تلك الحوادث والحالات والمناسبات، على أن غير المسلم أيضًا لا يسعه إلا أن يأخذ بهذا الاعتبار إذا نظر فيه على أنه وثيقة معاصرة صادقة". "ولما تتبعت آيات القرآن وأخذت أبوبها على مواضيع متنوعة، مما يتناول وصف عصر النبي وبيئته من مختلف نواحيها، ازددت يقينًا بإمكان رسم صور كثيرة لهما من القرآن، وإن لم تكن وافية بكل شيء، فإنها قد تكون محتوية الخطوط الرئيسية للصور التي يحسن أن تكون، بل وسيكون فيها صور جديدة كثيرة لم يتنبه إليها، وصور صادقة أخرى تتغاير قليلًا أو كثيرًا مع ما هو مستقر في الأذهان أيضًا، ثم إنها تكون إلى هذا طريفة في بابها، حتى ولو كان كثير منها يعد بدائه معروفة؛ لأني لا أذكر أن أحدًا حاول أن يرسم مثل هذه الصور، وفي نطاق القرآن الكريم وحده، هذا مع التنبه على أن ما يمكن رسمه منها إنما هو بطريق الاستلهام والاستدلال من خلال الأسلوب والتعابير والأوصاف القرآنية التي لم تكن بسبيل تقرير هذه الصور بالذات، وإنما كانت بسبيل الدعوة والموعظة والإنذار

والتبشير والترغيب والترهيب والتنويه والتنديد والحكاية إلخ". (ص 10 - 12). وقد قسم المؤلف الفاضل أبحاثه في هذا الكتاب إلى أربعة أبواب جامعة بعد المقدمة: الباب الأول: في الإقليم والسكان ومعايشهم. والثاني: في الحياة الاجتماعية. والثالث: في الحياة العقلية. والرابع: في الأديان والعقائد. وإذا ما تتبعت تفاصيل الأبواب، ثم استرسلت في قراءة الكتاب، أخذك العجب من دقة المؤلف في الاستنباط، ومما فتح الله عليه فيه من معان لم يكن يظن أنها تستنبط من القرآن العظيم. وسنريك مثالًا من الكتاب أو بعض مثال، لترى ما فيه من دقائق المعرفة والإلهام، لم نتخيره عن بحث وقصد، وإنما اتفق لي حين أردت أن أقتبس. عقد المؤلف من فصول الباب الأول "الفصل الثالث: الجاليات الأجنبية في الحجاز" (ص 95 - 126) فتحدث في أوائله عن "النصارى والأجانب في مكة" وساق سبع عشرة آية من سور شتى يستدل بها، ثم قال (ص 99 - 100): "فهذه الآيات يمكن أن تلهمنا ما يلي: 1 - أنه كان في مكة أناس من أهل الكتب السماوية، وكانوا من جملة من اتصل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إلى التصديق برسالته ومتابعته. 2 - أنهم لم يكونوا قليلين، وأن منهم من كان ذا سعة وثروة

تمكنه من الإنفاق في سبيل البر والخير، كما أن منهم من كان قوي النفس والشخص، بحيث لا يبالي بلوم زعماء المشركين على عدم متابعتهم للنبي، وهذا وذاك يلهمان أن منهم من كان أرقى طبقة من أرقاء وغلمان في خدمة الزعماء والتجار وملك أيمانهم. 3 - أن منهم من كان متميزًا في ثقافته ومعارفه الدينية، بحيث كان أهلًا للرجوع إليه واستشهاده في أمر رسالة النبي وصحة وحي الله إليه وصدق القرآن، وأن هذا الفريق لم يكن نكرة في أوساط مكة، بل كان موضع اعتماد وثقة من العرب أو أهل مكة، ومرجع استفتاآتهم في الأمور والمعارف الدينية والدنيوية. 4 - أنهم على العموم كانوا رقيقي العاطفة، دمثى الأخلاق، ثابتين في ما يعتقدون أنه الحق، ولو لقوا في سبيل ذلك العنت، جريئين في إظهار عقيدتهم، وقد تجلت جراءتهم في متابعة النبي، وسجودهم عند سماع القرآن وإعلانهم أنه الحق، وعدم مبالاتهم بما كان عليه أكثر أهل مكة وزعماؤهم الأقوياء من الموقف الجحودي. 5 - أن منهم من كان مجادلًا حجاجًا، بل متطرفًا في الجدل والحجاج إلى درجة عده ظالمًا متجنيًّا فيهما. 6 - أن إيراد قصتي ولادة يحيى وعيسى بسبيل الرد على زعم ألوهية عيسى أو بنوته لله، وإيراد خبر انكسار الروم النصارى مع بشرى انتصارهم بعد قليل، والجدل ثانية في أمر حقيقة عيسى ورسالته، يمكن أن يلهم أن الكتابيين الذين انطوت الآيات على

ملهمات وجودهم في مكة، هم أو أكثرهم من النصارى". وقد ظننت حين تصفحت الكتاب لأول مرة، أن في المؤلف ميلًا إلى الشك في صحة الأحاديث الصحيحة عامة، وصارحت المؤلف بذلك؛ إذ تعرفت إليه مصادفة في مكتب صديقنا الأستاذ محمد علي الطاهر صاحب جريدة الشورى، وتحدثنا في هذا كثيرًا، وأنكر المؤلف ما ظننته إنكارًا واضحًا، ولكني كلما قرأت في الكتاب ازددت ثقة بما ظننت، حتى خيل لي أنه إنما تأثر بما قرأ للمستشرقين وأتباعهم، فكانت الكلمات تجري على لسانه على نحو أقوالهم، وعلى نحو ما نسمع من ناصريهم وذيولهم. فمما يقول المؤلف (ص 239) ليدل على أن لغة القرآن أصدق صورة للغة ذلك العصر: "فهو من جهة فوق كل مظنة أو شبهة في أنه وصل إلينا كما بلغه النبي، وهو من جهة ثانية الكلام الوحيد الذي وصل إلينا مدونًا وسليمًا من كل شائبة وشك من ذلك العصر، في حين أننا لا نستطيع أن نقول هذا القول بهذه القوة والجزم عن أي كلام مما روي من كلام ذلك العصر والبيئة؛ لأنه لم يدون إلا بعد مدة طويلة، وقد ظل طول هذه المدة تتناقله الألسن، وعرضة للتبديل والتحريف والزيادة والنقص، بل والتلفيق والصنع، والأهواء والأغراض". ويقول في مقدمة الكتاب حين يتحدث عن كتب السيرة القديمة: "وإن ما ورد فيها من روايات قد اختلط حابله بنابله، وسمينه بغثه،

وصحيحه بباطله أيضًا، بحيث لا يمكن للمدقق المتدبر أن يقرأها إلا بتحفظ، وأن يتردد كثيرًا في أخذها حقائق وروايات تاريخية موثوقة أو مقاربة؛ ذلك لأن القديم منها لم يدون إلا بعد أمد طويل" (ص 7). ويقول فيها أيضًا (ص 11): "وإذا كان يصح أن يحيك في صدر امرئ شبهات كثيرة في ما روته كتب السيرة وغيرها من روايات بسبب تأخر تدوينها، وما يمكن أن يكون قد اعتور حفظ الصدر وصحة النقل من لبس، وما يمكن أن يكون قد تسرب إلى الروايات من أصابع الأهواء والميول والأغراض والصنعة والتلفيق، فإن القرآن هو من جميع هذه الشوائب فوق كل مظنة" ... إلخ. وتجد هذا المعنى مبثوثًا في ثنايا الكتاب في مواضع متفرقة: التعلل بتأخر التدوين لرد الروايات التي رويت عن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن بيئته وعصره، واتخاذ هذا التعلل تكأة لإنكار كل مروي، صحيح أو غير صحيح، في كتب السير أو في غيرها، حتى يعم "كل كلام مما روي من كلام ذلك العصر والبيئة"! فإن لم يكن هذا إنكارًا لصحة الأحاديث، ونفيًا لكل رواية إسلامية عن آثار رسول الله وعصره فما ندري ماذا يكون الإنكار والتكذيب! ! إني كنت وأنا أقرأ الكتاب إذا مرت بي كلمة من نحو هذه الكلمات أكاد أظن أني أقرأ كلمة من كلمات جلدزيهر ومرجليوث وأمثالهما من المستشرقين.

وما أظن أن المؤلف قصد إلى معنى هذه الكلمات حرفيًّا، بما فسر لي من رأيه، وبما تبرأ مما ظننا به. ولكن المؤلف - فيما أرى - لم يدرس علوم الحديث دراسة وافية، ولم يطلع على ما بذل علماء الحديث في الصدر الأول من جهد، وما استنبطوا من قواعد لرواية الأخبار والآثار، حتى ينفوا عنها الدخيل، وينقوها من الخطأ والعمد في التغيير؛ حتى تبرز صحيحة واضحة نقية، فوضعوا الشروط الدقيقة في الراوي الذي يأخذون عنه الحديث، وفي المروي الذي يرويه، وجعلوا أساس هذا كله العدالة، عدالة الناقل المحدث، بما في شروط العدالة المعروفة من دقة، تجعل الراوي موضع الثقة، بما عرف عنه من أمانة وصدق، وشرطوا أن لا يخالف الحديث المروي كتاب الله، ولا المعلوم من الدين بالضرورة، ولا ما رواه كافة الرواة الثقات العدول. وكانت الأمة الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى أمة صدق وأمانة في مجموعها، وكان الجريء على الكذب نادرًا، وكان المسلمون - ولا يزالون - يعرفون أن الكذب على رسول الله من أعظم الجرائم، وهم يوقنون بما تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار". وكانوا أكثر ما يخافون من النقائص الكذب. ومع هذا فإن النقاد الفطنين من أئمة الحديث لم يكتفوا بما عرفوا من أمانة الراوي وصدقه، وعدله في دينه، وعدله في خاصة نفسه، بل سبروا حديث كل راو، وعرضوه على كتاب الله، وعلى ما عرفوه من

دينهم، وما تواتر لديهم قولًا وعملًا من سنة رسول الله، ثم نفوا من الرواية ما خالف شيئًا من هذا، واحتاطوا في ذلك أشد حيطة، فلم يدعوا منفذًا لكذاب أو مخادع، حتى كانوا إذا ما كثر في رواية راو من الرواة شذوذ ما يرويه ومخالفته أسقطوا كل روايته، مهما يكن مبلغ صلاحه وتقواه والثقة به، يرفضون كل ما يروي مما وافق ومما خالف، إذا عرفوا عنه كثرة رواية الروايات المنكرة المخالفة. وهذا فن طويل عويص، يريد المستشرقون وأتباعهم أن ينفوه ويسقطوه بكلمة واحدة ظاهرها الفتنة: أن هذه الأحاديث لم تدون إلّا بعد عصر النبي بأمد طويل! ! وما درى المغرورون بهم، والمخدوعون بقولهم، أن معنى هذا أن الأمة الإسلامية كلها؛ من أئمة الحديث والفقه، ومن أعلام البحث والتحقيق، ومن الصحابة والتابعين وأتباعهم كانوا رجالًا كذابين مخادعين منافقين، لا يتورعون عن الكذب في دينهم، والافتراء على رسولهم، وهدم هذا المجد العظيم الذي خصهم الله به، ببعثة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وحاشاهم من ذلك، وهم أعرف بالله ودينه، وأتقى لله من أن يرضوا لأنفسهم نقيصة الكذب والافتراء، وهم الذين جاؤونا بالصلاة والزكاة والحج وشرائع الإسلام عن رسول الله، فإذا ما كذبوا في بعض الأمر ارتفعت الثقة بكل شيء، وسقط كل ما جاؤوا به من الحق. ولا يقول هذا مسلم، بل لا يقوله عاقل.

ثم ما هذه الخدعة، خدعة التدوين؟ أفنظن أن التدوين أمارة الصحة؟ ! من قال هذا؟ ثم يقال هذا في عصرنا الذي انتشرت فيه الأكاذيب المدونة، من أخبار الصحف، ومن القصص الخيالي والتمثيل والسينما، ومن افتعال الأخبار في كل شيء، على الأحياء والأموات، مما جاءنا من أوربة، أو قلدنا فيه أوربة؟ حتى إن بعض من ينتسبون إلى الإسلام ذهب بهم التقليد ودفعتهم الجرأة إلى الكذب على رسول الله وعلى أصحابه، بما يزعمون أنهم يقربون التاريخ الإسلامي إلى البسطاء من القراء، فذهبوا يتخيلون القصص عنهم، ويضعون الكذب على ألسنتهم، ويقوّلون رسول الله ما لم يقل، ويقوّلون أصحابه وأئمة الإسلام ما لم يقولوا! ! هذا هو التدوين الذي يريدون أن يتخذوه تكأة لهدم الصرح الشامخ، والمجد السامق، من الأحاديث الثابتة، ومن التاريخ الإسلامي الصحيح! ! انظروا أيها الناس إلى تاريخ أئمة الهدى من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، في خوفهم من الله، وفي خلقهم وفي معاملتهم، ويكفيكم معاملتهم لأعدائهم في عصر الفتوح، ورأفتهم ورحمتهم بالضعفاء من النساء والولدان والشيوخ والرهبان ونحوهم، ثم وازنوا بينهم وبين تواريخ الأمم التي تعظمونها وتقلدونها في كل ما تقول وتفعل، في قديمهم، وقد كانوا في جهالة عمياء، وكانوا عباد الشهوات، لا يعرفون حرامًا من حلال، ولا يتورعون عن شيء، وفي حديثهم، ويا ويل ما رأيتم من حديثهم.

أفتظنون إذا وازنتم بعقل وحكمة وعدل، أنكم واجدو أئمتكم من السابقين الأولين، كانوا كذابين مخادعين هدامين! أترضون أن يقال هذا في مالك والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وشيوخهم وإخوانهم وأتباعهم ممن حملوا إليكم الشريعة والسنن والتاريخ، ممن هدى الله واجتبى؟ ! * * *

فقه القرآن والسنة

فقه القرآن والسنة (*) القِصَاص تأليف الأستاذ الشيخ محمود شلتوت (¬1) أما هذا فكتاب نفيس حقًّا، وكان جديرًا أن يكون أشد نفاسة مما كان لو أن الأستاذ المؤلف العلامة توسع في بعض أبحاثه، وإنما ألجأه إلى بعض الإيجاز أنه كتاب شبه مدرسي؛ إذ هو جملة محاضرات ألقاها على طلبة دبلوم الشريعة من خريجي كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول، في العام الماضي سنة 1945، فلم يكن ليتجاوز بهم مقدرتهم على التفهم والاستيعاب. و"فقه القرآن والسنة" اسم طريف جميل لدراسة تفسير آيات الأحكام وأحاديث الأحكام. والكتاب في الحقيقة مقدمة، ثم مسألة واحدة من مسائل الأحكام. المقدمة في معنى "الفقه" في اللغة ثم في استعمال القرآن الكريم، ثم في اصطلاح الفقهاء والأصوليين. وفي معنى "القرآن" في اللغة أيضًا، ثم في إطلاق هذا اللفظ على هذا الكتاب المعروف الذي أنزله الله على رسوله، وفيما يتصل بذلك. وفي معنى "السنة" على ¬

_ (*) مجلة الكتاب، نوفمبر 1946 م. (¬1) 200 صفحة من القطع الكبير. مطبعة العلوم. القاهرة 1946.

ذلك النحو. وفي أسباب الاختلاف بين الأئمة في فقه القرآن والسنة. فهذه أربعة أبواب، هي مقدمة الكتاب، وهي مقدمة عامة لهذه الدراسة، لا لمسألة "القصاص" وحدها، وإنما اختار الأستاذ - حفظه الله - أن يدرس لطلابه من آيات الأحكام موضوع "القصاص". فهي مسألة واحدة من هذا العلم الواسع، جعلها في أربعة أبواب: 1 - العقوبات في الشريعة. 2 - جريمة القتل في الإسلام والشرائع الأخرى. 3 - حكم القرآن والسنة في القتل والقصاص في النفس. 4 - نصوص القصاص فيما دون النفس. والكتاب جم الفوائد، لا لطلاب كلية الحقوق وخريجها وحدهم، بل لسائر طلاب العلم، من المثقفين تثقيفًا دينيًّا، ومن غيرهم. يظهر كل طائفة من الطائفتين اللتين تدرسان التشريع على وجهة نظر الشريعة مقارنة بالتشريعات الوضعية، ولعله يكون كبير الأثر في تقريب وجهتي النظر اللتين كادتا أن تكونا متباينتين، بما ضرب على الأمة المصرية، وعلى أكثر الأمم الإسلامية، من قوانين إفرنجية مترجمة "نقلت نقلًا حرفيًّا عن أمم لا صلة لنا بها، من دين أو عادة أو عرف، فدخلت لتشوه عقائدنا، وتمسخ من عاداتنا، وتلبسنا قشورًا زائفة تسمى المدنية" (¬1) و"هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس ¬

_ (¬1) كتاب "الشرع واللغة" لأحمد محمد شاكر طبع دار المعارف ص 65.

فأشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلامي يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يلاقي من هزء وسخرية! ! ذلك أنه يدعوهم - في نظرهم - إلى الرجوع القَهْقَرى ثلاثة عشر قرنًا، إلى تشريع يزعمون أنه وضع لأمة بادية جاهلة! ! " (¬1). فيقول الأستاذ العلامة الشيخ شلتوت في هذا الكتاب (ص 9): "ونرجو أن لا يطول عهد هذه الجفوة التي وقعت بين المسلمين وبين فقههم الزاخر بالأصول التشريعية العامة والخاصة، وقد بدا لنا الرجاء قويًّا في قرب هذا الرجاء، بتوجه أبناء الحقوق المصرية إلى البحث في الشريعة الإسلامية، والتخصص في فروعها، وبتضافر رجال القانون والشريعة على إنهاض هذا الفقه - الذي يعتبر بحق فقهًا قوميًّا للبلاد ويمثل حياتها تمثيلًا صحيحًا ويحدد عاداتها وتقاليدها التي درجت فيها وعاشت عليها - نصل إن شاء الله إلى ما نحب ونرجو". وهو يقول أيضًا قولًا صريحًا قويًّا (ص 18): "وقد انعقد إجماع المسلمين على أن القرآن الكريم هو أساس الدين والشريعة، حتى صار ذلك عندهم مما علم من الدين بالضرورة، لا فرق في ذلك عندهم بين عصر وعصر، وإقليم وإقليم؛ فهو حجة الله العامة على ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 69.

الناس أجمعين، في كل زمان ومكان، وفي عقائده وأحكامه وأخلاقه، فمن زعم أنه حجة خاصة بقوم دون قوم، أو بعصر دون عصر، فهو خارج عن ربقة الإسلام". ومن الأبحاث النفيسة العالية في هذا الكتاب، بحثه في "حق العفو لولي الدم" وبيانه عن حكمة الشريعة الإسلامية في وضع هذا الحق في يد أولياء دم المقتول، وبيان الأضرار التي تنشأ عن الوضع المعكوس في القوانين الوضعية، بجعل الحكومة أو الدولة صاحبة الحق في القصاص أو العفو دون نظر إلى أولياء الدم (ص 122 - 124). ولم يخل هذا السفر الجليل، على نفاسته من مآخذ لا تغض من قيمته، ولعل كثيرًا منها يرجع إلى اختلاف وجهتي النظر بين المؤلف والناقد. 1 - في (ص 28) آيتان كتبتا كأنهما آية واحدة بين قوسين، وهما: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. وهي الآية 83 من سورة النساء، والثانية: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وهي الآية 43 من سورة النحل. وهذا إنما هو خطأ من الطبع والتصحيح، ولكن الإشارة إليه واجبة، فإن أكثر قارئي الكتاب ودارسيه لا يحفظون القرآن، بل لعلهم لا يقرؤونه إلّا قليلًا. 2 - (ص 29 - 30) فسر المؤلف معنى كلمة "السنة" في اللغة، واستشهد لها بآيات وأحاديث، ثم فسرها في صدر الإسلام ولسان الشرع فقال: "وقد اقتبسها علماء الإسلام من القرآن واللغة

واستعملوها في معنى أخص من المعنى اللغوي" ... إلخ. ثم قال بعد: "وبهذا المعنى عرفت كلمة السنة في صدر الإسلام، وقد وردت مقترنة بالكتاب في وصايا الرسول، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله وسنة رسوله". وأنا أظن أن في قوله: "وقد اقتبسها علماء الإسلام". شيئًا من الإيهام، إن لم يكن من الغلط، فإن اللفظ إذا نقل عن معناه اللغوي إلى معنى أخص منه أو أعم أو لازم له، وكان نقله للمعنى الجديد في استعمال القرآن، أو على لسان رسول الله، لم يصح أن يطلق عليه أنه اقتباس علماء الإسلام، بل يكون المعنى الجديد "حقيقة شرعية" لا اصطلاحًا فقهيًّا أو أصوليًّا مثلا؛ لأن العلماء إنما استعملوه في المعنى الذي ورد به في لسان الشرع، ومثل كلمة "السنة" في ذلك مثل كلمات "الصلاة" و"الصوم" و"الزكاة" إلى آخر هذه الحقائق الشرعية المعروفة. 3 - تكلم المؤلف (ص 44 - 46) عن أشهر الكتب المؤلفة في فقه القرآن (تفسير آيات الأحكام) التي "أفرد طائفة من المفسرين آيات الأحكام بالتفسير والبيان". وظاهر من تعبيره هذا أنه يريد الكتب التي ألفت خاصة بهذا النوع، ولكني أجده ذكر فيها تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" الذي تقوم بطبعه دار الكتب المصرية، وهذا التفسير تفسير عام للقرآن كله، لم يفرد مؤلفه آيات الأحكام بالتفسير والبيان، بل هو تفسير كسائر التفاسير، يشرح كغيره آيات الأحكام

فيما يفسر من جميع آيات القرآن، فإدخاله في هذا النوع الخاص فيه كثير من التساهل. ثم إن المؤلف الفاضل نسي من تفسير آيات الأحكام كتابًا معروفًا مشهورًا، هو: "التفسيرات الأحمدية في بيان الآيات الشرعية مع تعريفات المسائل الفقهية" تأليف الشيخ أحمد ملاجيون بن أبي سعيد الحنفي المكي الهندي، المولود سنة 1047، والمتوفى سنة 1130 هجرية، والكتاب طبع في الهند مرارًا، ذكر سركيس في معجم المطبوعات 1164، أنه طبع في كلكتة سنة 1847 م وسنة 1300 هـ وسنة 1327 هـ. وهذه الطبعة الأخيرة مذكورة أيضًا في فهرس دار الكتب المصرية، وعندي منه نسخة من الطبعة الأخيرة اقتنيتها في سنة 1329 هـ (1911 م)، وأذكر أني رأيت طبعة أخرى منه حديثة، فهي طبعة رابعة. ويقول الأستاذ المؤلف في هذا الموضع: إن المفسرين سلكوا في تفسير آيات الأحكام "في الوضع والترتيب مسلك وضعها القرآني، فأبقوها في سورها، ولم يتجه واحد منهم إلى جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد، ودراستها دراسة خاصة، ولو أنهم فعلوا هذا لكان نوعًا من التسهيل في دراستها، لا يكلف من يريدها البحث عن آيات الموضوع الواحد في مواضعها المختلفة من السور المتعددة، ولكان فيه أيضًا نوع من الدقة في الاستنباط، التي كثيرًا ما تفوت المفسر في تفسير الآية الواحدة المرتبطة بغيرها في موضعها".

وهذا الذي قاله جيد في بيان فوائد التفسير، إذا جمعت آيات الأحكام بحسب مسائلها على الأبواب. فما في فائدة هذا شك. ولكن فاته أن هذا الذي ينبغي وقوعه قد وقع فعلًا، ولكن في تفاسير علماء الشيعة الإمامية، ولم أره لغيرهم، وعندي في ذلك كتابان من كتبهم: الأول: "درة البيان في أحكام القرآن" للأردبيلي، واسمه: "أحمد بن محمد الأفشار" المتوفى سنة 993 هـ، وهو في 400 صفحة، وطبع في بلاد العجم سنة 1305 هـ. والثاني: "قلائد الدرر في بيان أحكام الآيات بالأثر" تأليف أحمد بن إسماعيل بن عبد النبي الجزائري النجفي المتوفى سنة 1150، وهو في 384 صفحة من القطع الكبير جدًّا، وطبع في طهران سنة 1327 هـ. فهذان كتابان نافعان جدًّا. وقد كنت فكرت منذ بضع سنين في أن أحذو حذوهما، فأفسر آيات الأحكام على هذا النحو، وشرعت في ذلك فعلًا، فنقلت الآيات من ثانيهما مرتبة على الأبواب التي رتبها عليها، على أن أستوعب بعد ذلك كل ما في الكتاب الأول، وكل ما في سائر تفاسير آيات الأحكام، ثم أنقح ترتيب الأبواب وترتيب الآيات فيها، ثم أشرحها شرحًا وافيًا مؤيدًا بالأدلة القوية من الكتاب والسنة، ولكن شغلتني أعمال، فلم أوفق إلى إتمام ما كنت أريد، وأرجو أن يوفقني الله إليه بمنه وكرمه. 4 - (ص 45) في التعريف بالجصاص ينقل المؤلف العلامة؛ أنه

هو الذي يذكره بعض الحنفية بلقب الرازي "كما صرح بذلك صاحب القاموس في طبقاته للحنفية"! ولست أدري ألصاحب القاموس كتاب في طبقات الحنفية؟ وأين هو؟ وأنا أظن أني أعرف في الكتب، فما سمعت بهذا الكتاب قط، وأخشى أن يكون هذا خطأ لا أصل له. 5 - (ص 51) في الكلام على اختلاف الفقهاء في معنى "القروء" التي أمر الله بها عدة للمطلقة، وأن جماعة من الفقهاء ذهبوا إلى أنها الحيض، وذهب يسوق أدلتهم، فقال فيما قال: "ثم قالوا بعد هذا: قد صح عن ثلاثة عشر صحابيًّا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الرجل أحق بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة"! ! ولست أدري ماذا أقول، ولا كيف كان هذا؟ إنما الذي لا شك فيه، بقدر ما أعرف من السنة ومن دراسة الحديث النبوي، ثم بعد طول البحث والتتبع، أن هذا الشيء لم يقله رسول الله، ولم يرو عنه بسند صحيح ولا ضعيف، وما هو بكلام من جنس الحديث، ومعاذ الله أن يكون في هذا مني ما يمس الأستاذ المؤلف في قريب ولا بعيد، إلّا التساهل في النقل، ثم الخطأ فيه؛ وذلك أن هذه الكلمة نقلها الجصاص في "أحكام القرآن ج 1 ص 364 من طبعة الآستانة سنة 1325 هـ" ونص كلامه: "وروى وكيع عن عيسى الحافظ، عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلًا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - الخبر فالخبر، منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس، قالوا: الرجل أحق بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة". وفي هذا الخبر غلطتان،

يظهر أنهما من خطأ التصحيح المطبعي: أولاهما "عيسى الحافظ" صوابه "عيسى الحناط"، وثانيتهما "الخبر فالخبر" صوابه "الخير فالخير" يريد أن هؤلاء الثلاثة عشر من خيار الصحابة، بعضهم أعلى من بعض، منهم أبو بكر وعمر ... إلخ. وقد نقله ابن حزم في المحلى (ج 10 ص 259) مختصرًا على الصواب. فهذا خبر عن الصحابة، لا حديث من كلام رسول الله، وأنا أستطيع أن أكرر ما جزمت به: أنه لم يقله رسول الله، وما هو بحديث أصلًا. نعم قد برئ الأستاذ المؤلف من عهدته؛ إذ أحال على غيره، فقال: "قالوا". ولكن الذي لا أرضاه له أن لا يذكر هؤلاء القائلين، ثم أن لا يتوثق مما قالوا، وهو الرجل المحقق المتثبت الذي ما أظنه يحدس الكلام على عواهنه. ولو أنه بحث وتوثق لعلم أن هذا الخبر، الذي نقله الجصاص وابن حزم، خبر ضعيف، وأن راويه "عيسى بن أبي عيسى الحناط" وهو "عيسى بن ميسرة الغفاري" ضعيف جدًّا، قال عمرو بن علي: "متروك الحديث، ضعيف الحديث جدًّا". وقال النسائي: "متروك الحديث". وقال البخاري: "ضعفه يحيى القطان" (¬1). ثم الذي لا أزال أطلب إلى الأستاذ المؤلف العلامة في إلحاح، أن يرشدني إلى من مِن الفقهاء المتأخرين هذا الذي صنع ما صنع، ¬

_ (¬1) انظر ترجمة الحناط هذا في التاريخ الصغير للبخاري 175، والضعفاء له أيضًا 26، والضعفاء والمتروكين للنسائي 22، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/ 1/ 289، والتهذيب لابن حجر 8: 224، وغيرها.

فجاء إلى خبر ضعيف لا يثبت له إسناد قائم، فجرؤ على أن يرويه بصيغة الجزم، كأنه خبر ثابت، ثم ازداد جرأة فنسبه إلى رسول الله، جعله حديثًا من قوله؟ ! لأن الذي لا أكاد أشك فيه أن الأستاذ إنما نقل هذا عن غيره من العلماء قبله، وإن لم يكن معذورًا في نقله. 6 - (ص 87 - 88) تحدث المؤلف عن "عقوبة الاعتداء على الدين بالردة" حديثًا غريبًا، لا ندري ما وجهه! فكان مما قال: "أما العقاب الدنيوي لهذه الجناية، وهو القتل، فيثبته الفقهاء بحديث يروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه". وقد تناول العلماء هذا الحديث بالبحث من جهات: هل المراد من بدل دينه من المسلمين فقط، أو هو يشمل من تنصر بعد أن كان يهوديًّا مثلًا؟ " إلى أن قال: "وقد يتغير وجه النظر في هذه المسألة، إذا لوحظ أن كثيرًا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحًا للدم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين" إلى آخر ما قال! أما أولًا: فإن حديث "من بدل دينه فاقتلوه" حديث صحيح لا شك في صحته، والراجح عند العلماء أنه فيمن ارتد عن الإسلام فقط. فاختلاف العلماء في فهمه وذهاب بعضهم إلى أنه عام يشمل غير المرتد، ممن خرج من دين غير الإسلام إلى دين آخر غير الإسلام، لا يكون علة للحديث حتى يبطل كل معناه، كما يريد المؤلف أن يذهب، فإن هذا مذهب عجيب في إبطال السنة ونقض

دلالتها على الأحكام، فما من حديث إلّا اختلف الناس في تأويله وفهمه، فمصيب ومخطئ. وأما ثانيًا: فما أعرف "أن كثيرًا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بأحاديث الآحاد؛ وما أرى لهذا دليلًا ولا شبه دليل، وإنما يتلاعب بعض المتقدمين ممن يرون نفي السنة كلها، منهم من يصرح، ومنهم من يتحايل بمثل هذه الألفاظ الموهمة. وقد تكفل العلماء بالرد على نفاة الأحاديث، وعلى متأوليها المتلاعبين بها، وعلى من زعم تحكيم اصطلاحات المتكلمين في الشريعة وأدلتها، فيفرقون بين "القطعي" و"الظني"، ويزعمون أن الأحاديث كلها من "الظني" وأن "الظن" الذي هو الشك أو نحوه لا يصلح دليلًا. وأنا أعتقد أن الأستاذ المؤلف العلامة يعرف من هذا الشيء الكثير، ويعرف أن دلالة الأحاديث الصحيحة دلالة قطعية في مجموعها، وأن اختلاف العلماء على اختلاف الروايات في بعض الشيء منها، لا ينفي حجتها القطعية فيما دل عليه مجموعها، ولا يبطل الاحتجاج بتفاصيلها المختلف فيها في الرواية بعد الاجتهاد في الترجيح، وقد قلت في نحو هذا المعنى في شرحي على "اختصار علوم الحديث" تأليف الحافظ ابن كثير (ص 25): "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله: من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما. وهذا العلم اليقين علم نظري برهاني، لا يحصل إلا للعالم المتبحر في

الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل". وأما ثالثًا: فإن الأمر بقتل المرتد عن الإسلام لم يثبت بما يسميه المؤلف العلامة "حديث الآحاد"، وإنما هو شيء ثابت بالسنة المتواترة، معلوم من الدين بالضرورة، لم يختلف فيه العلماء، أعني لم يختلفوا في أن "المرتد يقتل"، أعني أنهم لم يختلفوا فيما يسميه الناس في اصطلاحهم اليوم "المبدأ"، وإن اختلفوا في بعض التفصيل، تبعًا لاختلاف النظر. في التطبيق، تطبيق "المبدأ" على الفروع، وتطبيقه على الحوادث. نعم، إن الدستور المصري نص على "حرية الأديان" ففهم الناس أن قصد واضعيه إباحة الردة عن الإسلام لمن شاء وحماية المرتدين، ثم صار هذا كالعقيدة البديهية عندهم، حتى صاروا يرون غيرها منكرًا، يعرفون المنكر، وينكرون المعروف، فأظن أن الأستاذ المؤلف، وهو يلقي هذا الكتاب دروسًا على خريجي كلية الحقوق (طلبة الليسانس) أراد أن يتألفهم ويقرب إليهم أحكام الشريعة حتى لا ينفروا منها، فغلبه ما أراد من ذلك، ليجمع بين ما ورد من الأحاديث في قتل المرتد، وبين ما قرره الدستور طبقًا لمبادئ "التشريع الحديث"! ! التي تأكد ضربها على بلادنا بما جاء في معاهدة "منترو". وإن الأستاذ المؤلف العلامة لأجل في نفسي وأعلم، من أن أظن به أنه لم ير الأحاديث الصحيحة التي وردت في ذلك، ولم يقرأها في مصادرها من دواوين الحديث، فيما تلقى من شيوخه وأساتذته كما

تلقينا، وفيما قرأ لطلابه ومريديه كما يقرأ شيوخ العلم وأساطينه، ولكنه حين أراد أن يكتب هذا البحث، وجهه حرصه على تألف طلابه ورغبته في إقناعهم بفضل التشريع الإسلامي وجهة أخرى، أنسته شيئًا كثيرًا، وهو العالم الباحث الواسع الاطلاع. ولقد جاء هو في كتابه (ص 128) في نصوص النهي عن القتل بحديث من الأحاديث الواردة في قتل المرتد، قال: "ومن الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلّا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". وهذا حديث عبد الله بن مسعود في البخاري وغيره. وقد جاء في معناه أيضًا حديث عثمان بن عفان، حين ثار به الثائرون وحصروه وأرادوا أن يقتلوه، فقال: (وبمَ يقتلونني؟ إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا فيقتل بها". والله ما أحببت أن لي بديني بدلًا منذ هداني الله، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا قتلت نفسًا، فبم يقتلونني؟ ". وأظن أن هذا صريح وواضح في أن عثمان ومن سمعه من الصحابة - وهم عرب يفهمون كلام العرب على وجهه وهم الذين حضروا التشريع وفهموا مقاصد رسول الله وأسرار الشريعة - فهموا أن الردة عن الإسلام وحدها موجبة لقتل المرتد، فما يظن واحد منهم

أن عثمان كان خارجًا على الدولة محاربًا للمسلمين! وهو رئيس الدولة والذين حرصوا على قتله هم الخارجون المحاربون. ومن ذلك أيضًا حديث أبي موسى الأشعري، إذ بعثه رسول الله واليًا على اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل "فلما قدم عليه قال: انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديًا فأسلم، ثم راجع دينه فتهوَّد، قال لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله. فقال: اجلس، نعم. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله. ثلاث مرات، فأمر به فقتل". وهذا حكم بين كان في حياة رسول الله. 7 - تحدث المؤلف الفاضل في أحكام القصاص فيما دون النفس (ص 183 - 191) في بحث نفيس، انتهى منه إلى أن الأمة اتفقت "من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - على مشروعية القصاص في الجروح، ثم تلاحقت أجيال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين على مشروعيته، من غير أن يعلم مخالف فيه أو منكر له". وهو كلام حق لا شك فيه، ولكنه في ثنايا استدلاله كاد يناقض ما قاله في آخره، وعلل حديثًا صحيحًا تعليلًا غير صحيح؛ فإنه ذكر قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى آخر الآية 45 من سورة المائدة. ثم استعرض الآيات التي جاءت فيها هذه الآية قبلها وبعدها، ثم قال: (من هذا العرض يتبين أن ما جاء عن القصاص فيما دون النفس إنما هو تشريع لأهل التوراة، وقد اتفق العلماء على أنه لم يلحقه في القرآن

تقرير ولا نسخ، وبذلك كانت من جزئيات المسألة الأصولية التي اختلفت فيها العلماء، وهي: "شرع من قبلنا شرع لنا") إلى آخر ما قال. فهذا كلام موهم، أعني قوله: "وقد اتفق العلماء على أنه لم يلحقه في القرآن تقرير ولا نسخ". فإن القول الصحيح عند العلماء: أن شرع من قبلنا إذا حكاه الله لنا عنهم، كهذه الآية في القصاص، لا يكون شرعًا لنا إلّا إذا لحقه تقرير في شرعنا، أي؛ إقرار العمل به من الشارع، وليس من الصحيح اشتراط أن يكون هذا التقرير في القرآن، ولكن المؤلف العلامة ذكر كلمة "في القرآن" في ثنايا كلامه طردًا لرأيه في هذه المسائل على وتيرة واحدة، بما ذهب إليه أو لمح له مرارًا من عدم الاحتجاج بالأحاديث إلَّا فيما يرى هو أنها فيه موضع حجة، وقد ذكر المؤلف نفسه في هذا البحث من السنة حديث أنس بن مالك الذي فيه "كتاب الله القصاص"، ثم عقب عليه ص 190 بأشياء يظن أنها إضعاف للحديث، وما هي بتضعيف، والحديث صحيح لا شك في صحته ولا يعيبه ما يذهب إليه المؤلف الجليل من أنه "حديث آحاد"؛ فإنه حتى الذين يحاولون الطعن في "أحاديث الآحاد" لم يخالفوا في أن الحديث الذي يوافق القرآن حجة مبين للقرآن، وهذا حديث موافق للقرآن، يأمر بالقصاص في السن التي كسرت، ويقول "كتاب الله القصاص"، فهو لم ينشئ حدًّا جديدًا، وإنما هو إقرار لعقوبة ثبتت بالقرآن حكاية عن شرع من قبلنا، فلا يدخل في إنكار "كثير من الأصوليين صحة الاستدلال به على مشروعية العقوبات

كالحدود والقصاص"! ! كما يقول المؤلف ص 191. ثم جاء إجماع الأمة، أو "اتفاقها" كتعبير المؤلف مؤيدًا للحديث مصححًا له في إقراره هذا الحكم من شرع من قبلنا، فهو تواتر عملي قطعي الثبوت والدلالة على صحة هذا الحكم بالنص، لا باجتهاد المجتهدين، ولا باستنباط المستنبطين. وبعد: فهل لي أن أطلب إلى الأستاذ المؤلف، إذا ما أعاد طبع كتابه، أن يعنى عناية كثيرة بتصحيحه، فإني أظن أن هذه الطبعة جاءت على عجل، لحاجة الطلاب للاستذكار. وأهم من هذا: التوسع في ذكر المراجع والمصادر، والإشارة إلى مواضع الاستدلال أو الاقتباس منها، فائدة للطلاب أولًا، فإنهم سيلجؤون، إذا ما وجدوا وقتًا للبحث، إلى كتب لم يكن لهم بها عهد، فمما يحبب البحث إليهم ويرغبهم فيه، ويشوقهم إلى هذه العلوم العالية، أن ييسر لهم سبيل الرجوع إليها في مصادرها الصافية، كتب الأئمة والعلماء، ثم هذا الزمن، الذي يعيش فيه الناس على أعصابهم، وقد جنوا بجنون السرعة، لا يكاد الباحث يجد فيه متسعًا للتنقيب بدقة عن كل ما يريد، فمن الخير أن يكون الكتاب الحديث مرشدًا لقارئه وهاديًا. * * *

باب المراسلة والمناظرة

باب المراسلة والمناظرة (*) 1 - استدراك على مقال قرأت في مقتطف فبراير سنة 1944 مقالًا للدكتور أسعد طلس بشأن "دار الحديث النورية" (ص 132 - 137)، فرأيت فيه (ص 134) ما نصهُ: "وفي سنة تسع وتسعين وسبعمائة حين دخل التتار دمشق احترق قسم كبير من المدينة، وكانت هذه الدار وغيرها من معاهد العلم طعمة للنار، قال الذهبي في مختصر تاريخ الإسلام: "وفي سنة تسع وتسعين وسبعمائة دخل التتار دمشق وشرعوا في المصادرة والفسق ونهبوا الصالحية وسبَوا أهلها ووقع الحريق ... " إلى آخره. وهذا الكلام منهُ مُحال، ومنهُ خطأ؛ أما المحال فأن يكون الحافظ الذهبي قال شيئًا من هذا، فإن الخبر عن حادث ينسب إلى سنة 799، والحافظ الذهبيّ مات سنة 748، أي؛ قبل التاريخ الذي أرَّخ به الحادث بأكثر من خمسين سنة. وأما الخطأ ففي تاريخ دخول التتار دمشق سنة 799؛ فإنهم لم يدخلوها إلّا سنة 803. وبذلك أرخها كل المؤرخين الذين رأينا مصادرهم بين أيدينا، لم يخالف أحد منهم في ذلك، فانظر مثلًا "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" ¬

_ (*) مجلة المقتطف، المجلد الرابع بعد المائة، يناير مايو سنة 1944.

للحافظ السخاوي (ج 3 ص 47 - 48) في ترجمة "تيمور لنك" فإنه ذكر أنهُ قصد سيواس في آخر سنة 802، ثم نزل يوم الخميس 9 شهر ربيع الأول سنة ثلاث يعني 803 على حلب. ثم ذكر أن التتار أقاموا بحلب يعاقبون ويأخذون الأموال إلى يوم السبت مستهل شهر ربيع الآخر أو ثانيه، ثم رحلوا على جهة دمشق وأخذوها. ثم قال: "واستمرَّ بدمشق - يعني تيمورلنك - إلى العشر الثاني من شعبان" إلى آخره. وكل ذلك في سنة 803، وانظر أيضًا "شذرات الذهب" لابن العماد (ج 7 ص 22، 64 - 265) فإنهُ يؤرخ دخول التتار إلى دمشق سنة 803، وانظر أيضًا "تاريخ ابن إياس" (ج 1 ص 334 طبعة بولاق) فإنهُ يؤرخ يوم حرق دمشق في حوادث سنة 803: "فلما كان يوم الخميس مستهل شعبان أمر تيمورلنك بإحراق مدينة دمشق" إلى آخره. ثم يقول (ص 335): "فلما كان يوم الجمعة ثاني شهر شعبان فيه - يعني في عام 803 - رحل تيمورلنك عن دمشق بعد ما فعل الذي فعلهُ، فأخذ عسكره وخرج من دمشق، وكانت مدة إقامته بدمشق إلى أن رحل عنها نحو ثمانين يومًا". وكذلك تجد تفصيل بعض هذه الحوادث في ذلك التاريخ في "خطط الشام" لمحمد كرد علي (ج 2 ص 179). ولست أدري من أين أتى الخطأ لكاتب المقال ولمصدره الذي نقل عنهُ، وهو كتاب مخطوط للشيخ عبد القادر بدران. فلعلهُ يتفضل بالتحقيق أو التصحيح. * * *

تحقيق سن عائشة

تَحْقِيقُ سِنِّ عَائِشَة (*) يقول صاحب كتاب "الصديقة بنت الصديق" (¬1): "كانت روايات من أقوال الأقدمين تذكر، أن النبي - عليه السلام - خطب السيدة عائشة وهي في السادسة، وبنى بها وهي في التاسعة، وكان هذا مجالًا لأعداء الإسلام وأعداء نبي الإسلام يبدؤون فيه ويعيدون، ويجدون المستمعين والمتشككين حتى بين المسلمين. فهنا مجال لإطالة الوقوف يعبره أمثال هذا الناقد الحاقد مهرولين، ويجهلون ما وراءه من الزور الأثيم والبهتان المبين. وهنا وقفنا بالعقل والنقل لنثبت أن محمدًا - عليه السلام - لم يبن بالسيدة عائشة إلا وهي في السن الصالحة للزواج بين بنات الجزيرة العربية، فأثبتناه على رغم الأقاويل والسنين" (¬2) (الرسالة 551 في 29 يناير سنة 1944). وهذه الروايات التي تجهل ما وراءها "من الزور الأثيم والبهتان المبين" هي الروايات الصحيحة التي لا شك في صحة إسنادها والثقة، برواتها عن سن عائشة، حين زواج رسول الله بها، وأنه ¬

_ (*) مجلة المقتطف، عدد ربيع الثاني 1363 هـ، أبريل 1944 م. (¬1) انظر: نقد بشر فارس لهذا الكتاب في المقتطف، فبراير 1944، باب "التعريف والتنقيب". (¬2) الصديقة بنت الصديق، لعباس محمود العقاد، دار المعارف بمصر.

عقد عليها وسنُّها ستُّ سنوات، وبنى بها وسنها تسع سنوات، وهي الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد بن حنبل وابن سعد، كلهم من حديث عائشة بالأسانيد الثابتة الصحاح، وبالألفاظ الواضحة التي لا تحتمل تأويل المتأولين ولا لعب العابثين، والتي رواها ابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود، وابن سعد من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومصعب بن أبي وقاص وابن شهاب الزهري وحبيب مولى عروة ابن الزبير، كل هؤلاء الأئمة الثقات الأثبات الذين يروون ويصدقون ما يروون، هم عنده مثلنا "يجهلون ما وراءه من الزور الأثيم والبهتان المبين" ويدركه هو وحده بما أوتي من جرأة وتهجم، وبما فقد من بحث وتحقيق، فهو يثبت وينفي "على رغم الأقاويل والسنين" فهو يلعب بالروايات ويحرفها كيف شاء ثم يقول: "ولهذا نرجح أنها كانت بين الثانية عشرة والخامسة عشرة يوم زفت إليه" (كتاب الصديقة ص 65). ثم ينسى ما اجترحت يداه فيقول (ص 78): "فعائشة البكر التي لم يتزوج النبي بكرًا غيرها، قد مات عنها - عليه السلام - وهي دون العشرين". "فها هنا انفلات من ذلك الجزم" كما قال الدكتور بشر فارس في نقده (ص 193). وهو يبني تحقيقه هذا العجيب على مقدمات اخترع بعضها اختراعا، وحرف بعضها تحريفًا منكرًا، بالتحوير أو التأويل، ثم

يسوق ذلك كله مساق الحقائق التاريخية الثابتة، شأن الرواة الثقات، ثم لا يذكر شيئًا من الحقائق التي تخالف هواه، فهو يقول: "وتختلف الأقوال في سن السيدة عائشة يوم زفت إلى النبي - عليه السلام - في السنة الثانية من الهجرة، فيحسبها بعضهم تسعًا، ويرفعها بعضهم فوق ذلك بضع سنوات" (الصديقة ص 64). أما زعمه أن بعضهم يرفعها فوق ذلك بضع سنوات، فإنه قول مبتكر لم يقله أحد من العلماء، ولم يرد في رواية من الروايات، وإنما يريد أن يتزيد به ويصل إلى بغيته. وأما جزمه بأن الزفاف كان في السنة الثانية من الهجرة، فإنه اعتمد فيه - فيما أرى - على قول الحافظ النووي في تهذيب الأسماء (ج 2 ص 351): "وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة، بعد منصرفه من بدر في شوال سنة اثنتين بنت تسع سنين، وقيل: بنى بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وهو ضعيف، وقد أوضحت ضعفه في أول شرح صحيح البخاري". هكذا يقول النووي، ولكنه نسي، فإنه لم يوضح دليل ضعفه في أول شرحه للبخاري عند شرح الحديث الثاني من الصحيح، في نسختنا المخطوطة عن أصلها العتيق، وهذا الترجيح من النووي في تأريخ الزفاف خطأ صرف، والقول الذي ضعفه بغير دليل هو الصحيح الراجح، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج 7 ص 176 من طبعة بولاق): "وإذا ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى من الهجرة، قوي قول من قال أنه دخل بها

بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهاه النووي في تهذيبه، وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول، وجزمه بأن دخوله بها كان في السنة الثانية يخالف ما ثبت". والدليل على خطأ ما رجحه النووي حديث عائشة نفسها في طبقات ابن سعد (ج 8 ص 39 - 40): "تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة لثلاث سنين، وأنا ابنة ست سنين، وهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأعرس بي في شوال، على رأس ثمانية أشهر من المهاجر، وكنت يوم دخل بي ابنة تسع سنين". فالثابت من قول عائشة نفسها؛ أن رسول الله بنى بها في السنة الأولى من الهجرة، في شوال بعد مهاجره في ربيع الأول، بسبعة أشهر على رأس الثامن، وترجيح النووي أن ذلك كان بعد غزوة بدر في السنة الثانية ترجيح بغير دليل، والأدلة الثابتة تنفيه. فحكاية الكاتب الجريء قولًا مرجوحًا لا دليل عليه، وإتيانه به في صيغة توهم أنه القول الواحد الذي لم يرو غيره، كأنه قضية مسلمة؛ إذ يقول: "وتختلف الأقوال في سن السيدة عائشة يوم زفت إلى النبي - عليه السلام - في السنة الثانية من الهجرة". هذا الصنيع منه لن يكون من الأمانة العلمية في شيء. ومن هذا النوع من الأمانة قوله (ص 64): "فقد جاء في بعض المواضع من طبقات ابن سعد أنها خطبت وهي في التاسعة أو السابعة". والذي في ابن سعد (ج 8 ص 42): "أخبرنا محمد بن حميد العبدي

حدثنا معمر عن الزهري وهشام بن عروة قالا: نكح النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وهي ابنة تسع سنوات أو سبع". وأنا أوقن، أن الكاتب الجريء أعرف باللغة العربية من أن يخفى عليه الفرق بين معنى نكح، وبين معنى خطب، وأنه لن يعبر لفظ إحداهما إلى لفظ الأخرى عن جهل بهما، وإنما يفعل ذاك عن عمد وهو يعرف ما يفعل. ثم ما باله يدع الروايات الصحيحة المتواترة، ولا يستند إلا إلى الروايات الشاذة أو المنكرة، التي تخالف كل رواية صحيحة؟ أمامه الروايات الصحيحة في كتاب ابن سعد وغيره عن الزهري وعن هشام ابن عروة وعن غيرهما؛ أن رسول الله تزوج عائشة وهي بنت ست سنين، وفي بعضها "سبع سنين" ودخل بها وهي بنت تسع سنين. فما بال هذه الرواية التي لا شك أن راويها أخطأ فيها، أو اختصر فأخطأ من روى عنه فهم اختصاره، ولكن الكاتب الجريء يريد شيئًا معينًا، فلا عليه أن يتخير من الروايات أضعفها، ولا عليه أن يحرف ألفاظها إلى ما يشاء؛ لتصل به إلى ما يريد! ثم هو يريد أن يصور للقارئ أن الذي كان في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنوات هو خطبة فقط، يوهم أنه لم يكن هناك زواج، وإن لم يصرح بنفيه فيقول (ص 63): "وجرت الخطبة بعد ذلك في مجراها الذي انتهي بالزواج بعد سنوات". ويقول (ص 64): "فتمت الخطبة في شوال سنة عشر من الدعوة قبل الهجرة بثلاث سنوات".

ويحرف رواية ابن سعد من كلمة "نكح" إلى كلمة "خطبت" ويقول (ص 65): "وإن خطبة النبي التي كانت في نحو السنة العاشرة للدعوة". ويقول في (الرسالة) في الكلمة التي اقتبسناها أول مقالنا هذا: "كانت روايات من روايات الأقدمين تذكر أن النبي - عليه السلام - خطب السيدة عائشة وهي في السادسة" ... إلخ. وهو يعرف كما يعرف المسلمون جميعًا، عالمهم وجاهلهم، ذكيهم وغبيهم، أن الخطبة عند المسلمين غير الزواج، وأنهما غير الزفاف والدخول! ولكن هكذا يكون الكاتب الجريء. وأعجب من هذا كله، وأشد جرأة على الحق، وأشد تهجمًا على سيرة رسول الله، وأسوأ أثرًا على الجريء فيما قال وكتب، وفيما يقول أو يكتب، أن يقول (ص 64): "فقد جاء في بعض المواضع من طبقات ابن سعد أنها خطبت وهي في التاسعة أو السابعة، ولم يتم الزفاف كما هو معلوم إلا بعد فترة بلغت خمس سنوات في أشهر الأقوال"! أما القول الذي يصفه بأنه "أشهر الأقوال" فإنه لم يقله أحد قط، ولم يروَ في كتاب من كتب السنة أو السيرة أو التاريخ، هذا إلى محاولة تصوير هذه الفترة بأنها فترة خطبة، لا فترة زواج قبل البناء، ثم هو يصرُّ على ما ادعى إصرارًا عجيبًا لم يأت عليه ببرهان، فيقول

ما نقلنا من قبل: "وجرت الخطبة بعد ذلك في مجراها الذي انتهي بالزواج بعد سنوات". ويقول (ص 64 - 65): "إذ لا يعقل أنها - يعنى خولة بنت حكيم - تشفق من حالة الوحدة التي دعتها إلى اقتراح الزواج على النبي، وهي تريد له أن يبقى في تلك الحالة أربع سنوات أو خمس سنوات أخرى"! ومن أين يأتي بالخمس السنوات ويدعي أنها أشهر الأقوال؟ والأقوال كلها متضافرة على أنها ثلاث سنوات والشهور محدودة فيها بينة؟ يتمسك بالروايات الصحيحة التي فيها أن الزواج كان قبل الهجرة بثلاث سنين، ثم يجزم بالرواية الضعيفة، أن الزفاف كان في السنة الثانية من الهجرة، ثم لا يجد مناصًا من قواعد الحساب أن الثنتين إذا أضيفتا إلى الثلاث كان الجميع خمسًا من غير تردد، فقد سلم له قوله ووصل إلى ما أراد، ولكنه نسي أو تناسى، أن الروايات كلها تذكر أن بين الزواج والزفاف ثلاث سنين فقط، وأنها حددت بالشهور من شوال إلى شوال، وأنهم كثيرًا ما يذكرون عدد السنين ويجبرون فيها الكسور، فتقول عائشة ما روينا من قبل: أن رسول الله تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي تريد سنتين وكسرًا؛ إذ حددت التاريخ بالشهور: أن الزواج كان في شوال سنة عشر من النبوة، وأنه قدم المدينة في 12 ربيع الأول، وهي السنة الأولى من الهجرة، وأنه دخل بها في شوال من السنة نفسها على رأس ثمانية

أشهر، وأنه تزوجها وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي بنت تسع، فهذا حسابها صحيحًا من شوال قبل الهجرة بثلاث إلى شوال في سنة الهجرة، ثلاث سنين كوامل، لا تحتمل تزيدًا ولا تحويرًا، فأين هذا الحق من ذاك الصنيع؟ ثم يزداد الكاتب الجريء جرأة، فيذهب يحتال حيلة غريبة في التأويل، يفتعلها افتعالًا، يزعم أنه ينصر رأيه، ويقيم حجته فيقول: (ص 65): "ويؤيد هذا الترجيح من غير هذا الجانب أن السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل خطبتها إلى النبي، وأن خطبة النبي كانت في نحو السنة العاشرة للدعوة .. فإما أن تكون قد خطبت لجبير بن مطعم؛ لأنها بلغت سن الخطبة وهي في قرابة التاسعة أو العاشرة، وبعيد جدًّا أن تنعقد الخطبة (¬1) على هذا التقدير مع افتراق الدين بين الأسرتين، وإما أن تكون قد وعدت لخطيبها وهي وليدة صغيرة كما يتفق أحيانًا بين الأسر المتآلفة، وحينئذ يكون أبو بكر مسلمًا عند ذلك، ويستبعد جدًّا أن يعد بها فتى على دين الجاهلية، قبل أن تتفق الأسرتان على الإسلام، فإذا كان أبو بكر - رضي الله عنه - وعد بها ذلك الوعد قبل إسلامه، فمعنى ذلك أنها ولدت قبيل الدعوة، وكانت تناهز العاشرة يوم جرى حديث زواجها وخطبها النبي، عليه السلام". ¬

_ (¬1) المعروف في شرعة المسلمين أن الخطبة ليست عقدًا، ولكن الكاتب الجريء يريد شيئًا قد كشفنا عنه.

هكذا ينقل الكاتب الجريء ويتأول، واحفظوا عليه قبل كل شيء إصراره على أن الذي كان في السنة العاشرة للدعوة خطبة لا زواج، وإن لم ينف الزواج صراحة، ولكنه يوقعه في نفس القارئ ويقنعه به إقناعًا من لحن القول "يوم جرى حديث زواجها وخطبها النبي، عليه السلام". والقصة التي يشير إليها ويحاول أن يصبغها بصبغة رأيه، هي قصة مطولة في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بسودة بنت زمعة وبعائشة رضي الله عنهما. رواها أحمد بن حنبل في مسنده (ج 6 ص 210 - 211) ونقلها عنه الحافظ ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية ج 3 ص 131 - 133) وأشار إلى رواية مثلها عند البيهقي مؤيدة لإسنادها. وهذا الحديث فيه قصة وعد أبي بكر بابنته لمطعم بن عدي على ابنه جبير، وخطبة النبي إياها وزواجه بها، ثم زفافها إليه بعد قدومهم المدينة، وهذا موضع الشاهد منه: "قالت أم رومان - زوج أبى بكر - لخولة بنت حكيم - التي كان لها فضل السعي في هذا الزواج -: إن مطعم ابن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدًا قط فأخلفه. فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي، فقالت: يا بن أبي قحافة لعلك مصْبي صاحبنا، تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟ فقال أبو بكر للمطعم بن عدي: أَقَوْل هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذلك. فخرج من عنده وقد أذهب الله ما في نفسه من عدته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله.

فدعته فزوجها إياه، وعائشة: يومئذ بنت ست سنين ... قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح. قالت: فجاء رسول الله فدخل بيتنا، واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين ترجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة، ولي جميمة ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب، وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله في بيتنا، ما نحرت عليَّ جزور، ولا ذُبحت عليَّ شاة .. وأنا يومئذ بنت تسع سنين. هذه هي القصة التي يحاورها الكاتب الجريء ويداورها، ويلعب بها ويعبث، يستنبط منها. وما رأينا فيما قرأنا أشد جرأة على الحق ولا إيغالًا في الباطل، ولا لعبًا بالألفاظ والمعاني، ولا تحريفًا للكلم عن مواضعه، مما صنع هذا الرجل. حديث صريح اللفظ، بيِّنُ المعنى، يقسره هذا الكاتب الجريء على أن يدل على ضد لفظه الصريح ومعناه الواضح، فلا يأتي بالحديث على وجه، بل يصرّف على لفظ من عنده، يُخدَع به القارئون، فلا يدركون ما وراءَهُ. ثم يبني استنباطه على غير علم بعادات العرب، وعلى غير معرفة بأحكام الشرع، فهو يقول ما

حكينا من قوله، ويصر عليه إصرارًا منكرًا فيما قرأنا له الآن (في العدد 559) من الرسالة المؤرخ يوم الإثنين 20 مارس إذ يقول: "وبحسبنا أن نعلم أن عائشة خطبت قبل خطبتها للنبي، وأن الذي خطبت له كان من المشركين، بحسبنا أن نعلم هذا لنعلم أنها خطبت قبل الدعوة الإسلامية، وأن أبا بكر لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينه، وهو البرهان الراجح على أنها حين خطبت لمحمد - عليه السلام - وبنى بها بعد الخطبة بسنوات، قد كانت في سن صالحة للزواج". وليحفظ عليه القارئ أيضًا أنه فعل هنا ما فعل من قبل، فلم يأت بذكر لعقد الزواج بين رسول الله وبين عائشة، بل ساق القول من الخطبة إلى البناء، كما نبهنا عليه آنفًا؛ إذ هو لا يريد أن يعترف بعقد عقدة النكاح في السن المبكرة ثم نعود إلى ما نحن بسبيله. بنى هذا الكاتب الجريء كل دعواه في هذا الحديث، وكل استنباطه منه على شيء واحد، يستبعده جدًّا في كتابه (ص 265) وينفيه نفيًا باتًّا في مقاله (الرسالة 559) وهو أن أبا بكر "لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينه". وهو يخطئ في هذا جدًّا، فإن لفظ الحديث الذي سقناه يدل على أن أبا بكر كان عند وعده للمطعم بن عدي إن استمسك به المطعم، وأنه ذهب إليه لعله يجد من وعده مخرجًا، ففجأته أم الصبي بخشيتها أن يؤثِّر على ابنها، إن هو تزوج عائشة، فيدخله في دينه الذي هو عليه، وهو

الإسلام، فلم يجد أبو بكر من اختلاف الدين أو تخوف أم الصبي مخرجًا من عدته، فسأل الرجل، وهو ولي ابنه الصبي في التزوج، ليرى أيقر زوجه على قولها، فلما وافقها الرجل، وجد أبو بكر المخرج من وعده "فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعد". وإنما أوقع الكاتب الجريء في هذا الخطأ وأوهمه، معرفته أن زواج المسلمة بغير المسلم زواج باطل لا ينعقد، وأن المسلم إذا ارتد عن الإسلام فسخ عقد زواجه بزوجه المسلمة، وأن غير المسلمة إذا أسلمت وكانت ذات زوج عرض على زوجها الإسلام، فإن أبى أن يسلم فرق بينهما، وهذه أحكام يعرفها العامة والخاصة، فبنى عليها أنه "بعيد جدًّا أن تنعقد الخطبة مع افتراق الدين" وأنه "يستبعد جدًّا أن يعد بها فتى على دين الجاهلية، قبل أن تتفق الأسرتان على الإسلام" وأنها "خطبت قبل الدعوة الإسلامية، وأن أبا بكر لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينه". ولكنه لم يعلم أول هذا التحريم لزواج غير المسلم بالمسلمة، ولم يدرك مبدأ أمره، أكان في أول الإسلام، حتى يطبق في هذه الواقعة في وقتها، أم هو تشريع تأخر عنها، فلا يطبق عليها، ولا يستدل به فيها. ألا فليعلم الكاتب الجريء أن زواج المسلمة بالمشرك كان جائزًا وواقعًا في أول الإسلام، على عادة القبائل والأسر من التزاوج والمصاهرة، وأنه لم يحرمه الله تعالى إلَّا بعد صلح الحديبية، في أواخر السنة السادسة من الهجرة، لما نزل قوله تعالى في سورة

الممتحنة: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (ج 8 ص 323 طبعة المنار): "هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها ... فأطلقه رسول الله على أن يبعث إليه ابنته، فوفَّى له بذلك ... وبعثها مع زيد بن حارثة، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه". وليس بعد هذا البيان بيان، وما إخال أن للكاتب الجريء حيلة في أن يجادل فيه، وهو ينقض كل ما بنى عليه استنباطه أو تحريفه. وليعلم الكاتب الجريء أيضًا أن كل ما ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من (قول أو فعل أو تقرير) هو عند المسلمين من الحديث، وأنه لا يجوز لأحد أن ينسب إلى الرسول شيئًا من هذا إلا عن ثقة وثبت، وبإسناد صحيح، على النحو الذي قام به أئمة الحديث، ووضعوا له القواعد والقيود، في فن واسع المدى، لعله قد سمع به، وأنه لا يعذر أحد في التحدث عن رسول الله بغير ثبت، لقوله - عليه السلام -: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّى بحدَيثٍ يُرى أنَّه كَذِبٌ فهو أحدُ الكاذبينَ". وأن العمد إلى التحدث عنه بما ليس بصحيح من أعظم

الآثام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". فليعد نظرًا إلى ما قدمت يداه في هذه المسألة بعينها، يجد أنه أنكر الصحيح الثابت الذي لا خلاف فيه عند المحدثين وغيرهم؛ أن رسول الله تزوج عائشة قبل الهجرة وهي في السادسة أو السابعة من عمرها، ودخل بها في المدينة بعد ثلاث سنين من الزواج، وأنه لكي يصل إلى تأييد إنكاره، وتأييد دعواه أنها كانت بين الثانية عشرة والخامسة عشرة يوم زفت إلى النبي، اضطر إلى تحريف ألفاظ الأحاديث وإلى تحريف معناها، وإلى سوق الكلام من الخطبة إلى الزفاف، خشية أن يذكر عقد الزواج قبل الهجرة فيكون حجة على نفي ما أراد إثباته وإثبات ما أراد نفيه، حتى لقد كاد يزل به قلمه إذ يقول: "وجرت الخطبة بعد ذلك في مجراها الذي انتهى بالزواج بعد سنوات" (كتاب الصديقة ص 63). فإنه يوهم القارئ، وإن لم يصرح الكاتب، أن الذي كان في مكة قبل الهجرة لم يكن فيه زواج، وأنه انتهى بالزواج بعد سنوات، يعني في المدينة، ولكنه لم يستطع أن يكون جريئًا كما يريد، فخشي أن يدعي أن هناك زواجًا كان بالمدينة؛ لئلا يكشف للناس عن فساد قوله ووهْي أدلته، وإن هو أنكر علينا هذا فليقل لنا كلمة صريحة، متى تزوج رسول الله عائشة؟ أعني العقد لا الخطبة، أكان ذلك قبل الهجرة حين خطبها على أبيها، أو كان بعد الهجرة حين بنى بها؟ ويجد أنه حرَّف عن عمدٍ كلمة "النكاح" التي هي الزواج إلى كلمة

"الخطبة"، وأنه جاء إلى أبْين حديث وأصرحه في الدلالة على سن عائشة، وهو القصة التي فيها سعيُ خولة بنت حكيم، فحرَّفه بالتأويل المنكر، ليستدلَّ به على ضدِّ ما يدلُّ عليه لفظهُ الصريح، أنها تزوجت بنت ست سنين وزفت بنت تسعٍ، وأَن أُمها أَخذتها يوم الزفاف من أَرجوحة كانت تلعب بها بين النخيل، ويجد أنه ادَّعى أن هناك من يرفع سن عائشة فوق التسع بضع سنوات، ولم يقل ذلك أحد. وأنه ادَّعى أن الزفاف لم يتم إلا بعد فترة بلغت خمس سنوات في أشهر الأقوال، ولم يوجد قط قول بهذا، فضلًا عن أن يكون أشهر الأقوال، ويجد أنه كان يجهل حكم الزواج بين المسلمة والمشرك في صدر الإسلام، وأنه تحدث فيه بغير علم، ويجد أنه فوق هذا كله جمح به قلمه، فوصف هذه السنن الصحاح بأنها "من الزور الأثيم والبهتان المبين" حين زعم أننا نجهل ما وراء روايات الأقدمين، وليت شعري بم يصف عمله في التحريف والتحوير والقول على رسول الله بما لم يأت عليه ببرهان، وفخر بأنه أثبته "على رغم الأقاويل والسنين". ثم ليعلم أيضًا أن السنة النبوية (من قول وعمل وتقرير) مصدر عظيم للتشريع الإسلامي، وهي المصدر الثاني بعد القرآن، وهي المفسرة له المبينة، كما قال الله لنبيه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وأن هذه الأحاديث التي أنكرها بتحريفه وتأويله، وأثبت ضد ما ثبت فيها "على رغم الأقاويل والسنين" فيها دلالة على

أحكام شرعية خطيرة الأثر، منها جواز تزويج الصغيرة للكبير، ومنها أن الصغيرة يلي أمر تزويجها وليها؛ إذ هي لا تملك أمر نفسها، ومنها أن البناء بالصغيرة جائز حلال، إلى غير ذلك من الأحكام، وأن إنكاره ما فيها إنكار لكل ما يستنبط منها بالطريق العلمي في الاستنباط، ونسبة شيء إلى رسول الله لم يثبت بالطريق الصحيح للإثبات، بل ثبت ضده ونقيضه، فإن لم يدرك هذا كله فقد أبلغناه، وما علينا من زوره من شيء. وبعد: فما الذي دفع به إلى هذه المضايق، وأورده هذه الموارد وأقحمه؟ يظن أنه يسوغ عمله إذ يقول: "ذلك هو التقدير الراجح الذي ينفي ما تقوَّله المستشرقون على النبي بصدد زواج عائشة في سن الطفولة الباكرة" (كتاب الصديقة ص 66)، ويقول: "وإنما عنانا أن نبطل قول القادحين في النبي أنه - عليه السلام - بنى ببنت صغيرة لا تصلح للزواج، وقد أبطلنا ذلك بالأدلة التي لا نكررها هنا" (الرسالة في العدد 559). هذا عذره الظاهر لنا من كلامه، وليس لنا أن نخوض فيما وراءه. ولكن أهذا هكذا؟ قال مستشرق، أو طعن مبشر، أو قدح ملحد، فقال أحدهم ما شاء من قدح في عمل بعينه، أفترى أنت هذا العمل معيبًا يجب التبرؤ منه، أم تراه جائزًا لا شيء فيه، ولا غبار على من يعمله، وأن العائب إنما ينظر إليه من ناحية غير صحيحة، وبعين مغرضة ليست بريئة، أفلا ترى أنك إذا نفيت هذا العمل

وأنكرته؛ فقد رأيته معيبًا كما رأى العائب، وقادحًا كما فعل القادح، فما حاجتك إلى التستر وراءه، وماذا يمنعك أن تصرح بأن هذا العمل غير جائز، وأنك توافق في استنكاره من سبقك من المستشرقين؟ هذا هو الطريق المنطقي للبحث العلمي، العالمُ لا يدافع عن نظرية علمية، ولا ينصرها إلَّا إذا رآها رأيهُ والتزمها قوله. ثم أَلم يكن الأجدرُ بالكاتب الجريء أن يصنع ما يصنع الرجالُ، فيصرح بإنكار كل الأحاديث التي فيها سن عائشة، وينقدها على طريقة المحدثين، فيبين ضعف أسانيدها وبطلان روايتها إن استطاع، فذلك خير له من تأويلها وتحريفها والتزيد فيها، ثم مناقضته نفسه بالاحتجاج ببعض ألفاظها على أسلوب عائشة المرسل السهل الجزل الفصيح (ص 57 - 58) كما استدرك عليه الدكتور بشر في نقد كتابه. وبعدُ مرة أُخرى .. فإن شريعتنا شريعة الإسلام، أباحت تزويج البنات الصغار، وجعلت تزويجهنَّ للأَولياء، بدليل زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وبنائه بها وهي دون العاشرة، وبدليل قول الله تعالى في سورة الطلاق: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. فاللائي لم يحضن هنَّ الصغيرات اللائي لم يأتهن الحيض، وهنَّ دون البلوغ عليهنَّ عدَّة ثلاثة أَشهر إذا طلقن، ولا يكون طلاق وعدة إلَّا بعد زواج، أليس كذلك؟ فمن رضي هذه الشرعية لم ينكر ولم يعبأ بقول العائبين المغرضين، ومن أبى {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. * * *

صدى النقد

صَدَى النقد تعقيب على نقد ودرس للمنقود قبل الناقد (*) أعتذر للأخ الأستاذ الشيد صقر عن تأخير التحية له بمناسبة نقده إياي. وكلنا طالب علم، وكلنا طالب حقيقة رائد معرفة، ونرجو أن يكون ذاك خالصًا لوجه الله وحده. وليس بعد الاعتراف اعتذار. والأستاذ السيد أحمد صقر مني بمنزلة الأخ الأصغر، نشأ معي، وعرفته وعرفني، وتأدبنا بأدب واحد في العلم والبحث، وفي فقه المسائل، والحرص على التقصي ما استطعنا. فإذا ما نقد كتابي فإنما يقوم ببعض ما يجب عليه نحو أخ أقدم منه سنًّا، ويراه هو أنه أكثر منه خبرة، أو أوسع اطلاعًا، وما أدرى: أصحيح ما يراه، أم هو حسن الظن فقط؟ فإن له مدى مديدًا في الاطلاع والتقصي، ونفذات صادقة في الدقائق والمعضلات، ويندر أن توجد في أنداده، بل في كثير من شيوخه وأستاذيه. وقد نقد الكتاب الذى أخرجته بتحقيق "الشعر والشعراء لابن قتيبة" في مقالين بمجلة "الكتاب" الغراء فى عدد يونية سنة 1946، بعد ظهور الجزء الأول، ثم فى عدد ديسمبر سنة 1950، بعد ظهور الجزء الثاني. ¬

_ (*) مجلة الكتاب، عدد جمادى الآخرة 1370 هـ، أبريل 1951 م.

وما أحب أن أدير مناظرة أو جدالا حول المآخذ التي أخذها عليّ. فما زعمت قط وما زعم لي أحد أني لا أخطئ، وكلنا نخطئ ونصيب. ثم هو قد يكون أنفذ بصرًا مني في "الشعر" وما إليه، بل هو كذلك فيما أعتقد. وليس وراء الجدال من فائدة إلا المراء، وقد نهينا عنه أشد النهي. وقد عتب عليَّ الأستاذ السيد صقر، أن لم أف بوعدي له بنشر نقده للجزء الأول في آخر الثاني. وله العتبى فى ذلك. وقد أشار هو إلى بعض عذري: أن مشاغلي حالت دون الوفاء بما وعدت، وقد صدق؛ فإني وعدته وحرصتُ على الوفاء بوعدي، ثم أنسيته حين رجوت أخي الأستاذ عبد السلام هارون أن يتم الكتاب في أواخر الجزء الثاني، إذ اعتزمت السفر مع أهلي إلى الحج، فشغلني ذلك عن كل شيء، حتى أنساني ما وعدته به. ووعدٌ بوعد: فكما وعدت الأستاذ صقر بنشر نقده الجزء الأول في آخر الجزء الثاني، وعدني هو - بعد رجائي - أن يقابل النسخة المطبوعة بتحقيقي على النسخ المخطوطة التي أشار إليها في مقاله الأول، وعلى ما قد عساه يوجد من مخطوطات أخر من الكتاب، ويثبت ما يجده من تصويب أو اختلاف، تمهيدًا لتحقيق الكتاب مرة أخرى، لنخرجه في الطبعة القادمة إن شاء الله متعاونين مشتركين. حتى نؤدي الأمانة حقها. ولعله حريص على الوفاء إن شاء الله (¬1). ¬

_ (¬1) وهو إلى الآن لم يفعل. أحمد محمد شاكر.

ولقد زعم كثير من إخواننا، ووصل إليَّ ذلك: أني ضقت بنقد الأستاذ السيد صقر في المرتين. وما أظن الذي زعم ذلك أو توهمه يعرف شيئًا من خلقي. فما ضاق صدري بشيء من نقد قط، لَانَ أو قسا، والعلم أمانة. بل إني لأرى أن الضيق بالنقد والتسامي عليه ليس أخلاق العلماء، وليس من أخلاق المؤمنين. إنما هو الغرور العلمي، والكبرياء الكاذبة، وحسبنا في ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}. وما قال أمير المؤمنين الفاروق عمر ابن الخطاب، إذ ردّت عليه امرأة، وهو على المنبر يخطب خير مجتمع ظهر على وجه الأرض، قال كلمة صريحة بينة: "امرأة أصابت ورجل أخطأ". لم تأخذه العزة بالإثم، وتسامى على الكبرياء والغرور العلمي. وعمر هو عمر. ثم ما هذه الفاشية المنكرة التي فشت بين المنتسبين للعلم؟ سأتحدث عن نفسي مضطرًا حتى لا أمَسَّ غيري: أنا أرى أن من حقي أن أنقد من أشاء، وأن أقسو في النقد ما أشاء، فمن ذا الذي يزعم لي، أو يزعم لنفسه، أن ينقد الناس وأن يقسو عليهم في النقد، ثم يرى من حقه عليهم أن لا ينقدوه، وأن لا يتحدثوا عنه - إن أذن لهم في الحديث - إلا برفق ولين وملق ونفاق، مما يسمونه في هذا العصر العجيب "مجاملة"! ! لقد رجوت الأستاذ السيد صقر أن ينقد الجزء الأول من "الشعر

والشعراء" حين صدوره، وقرأت نقده قبل أن يطبع في مجلة "الكتاب" الغراء، ولم أجد في هذا غضاضة عليَّ قط، وإن كثيرًا من إخواني ليعرفون هذا الذي أقول، وقد عجبوا منه في حينه، ولم أره موضعًا للعَجَب. ثم رجوته أن ينقد الجزء الثاني حين صدروه أيضًا. ولم أر في نقده ما يمسني من قريب أو من بعيد. وهذا رأيي الذى رُببت عليه واعتنقته طول حياتي: أن لي أن أنقد آراء الناس في حدود ما أستطيع من علم، وأن لهم أن ينقدوا آرائي في حدود ما يستطيعون من علم. وسأذكر بعض المُثل، عسى أن يكون فيها عظة وعبرة: يذكر الناس ما يدور كل عام مرارًا من جدال حول إثبات أوائل الشهور العربية: أبالرؤية أم بالحساب. وكتب الناس في هذا كثيرًا، وكتب مرارًا. وكان من رأي التمسك بالرؤية وحدها، وكان ذا رأي والدي الشيخ محمد شاكر رحمه الله، وكتب فيه وشدد. ثم بدا لي غير ذلك، في حياة أبي. فنشرت رسالة صغيرة في شهر ذي الحجة سنة 1357 (فبراير سنة 1939)، اسمها "أوائل الشهور العربية". وكان مما قلت فيها (ص 15) بالحرف الواحد: لقد كان للأستاذ الأكبر الشيخ المراغي - منذ أكثر من عشر سنين: حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية - رأي في رد شهادة الشهود، إذا كان الحساب يقطع بعدم إمكان الرؤية، كالرأي الذي نقلته هنا عن تقي الدين السبكي، وأثار رأيه هذا جدالًا شديدًا، وكان والدي وكنت أنا

وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه. ولكني أصرح الآن بأنه كان على صواب وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب، في كل الأحوال، إلا لمن استعصى عليه العلم به" فلم أجد غضاضة على والدي رحمه الله - في علمه وفضله الذي يعرفه الجم الغفير من الناس - أن أعلن في كتاب منشور خلاف رأيه ورأيي، والردَّ عليه وعلى نفسي. بل أنا أخرج منذ بضع سنين، كتاب (المسند) للإمام أحمد بن حنبل، بتحقيقي وشرحي، وقد أخرجت منه إلى الآن 8 مجلدات (¬1)، رأيت بعد إتمام المجلد الثاني منها أنه فاتني شيء كثير، من الشرح والتخريج، ومن التحقيق والتعليل، وأنه ندت عني أخطاء علمية مهمة، وأن مثل ذلك سيكون في الأجزاء القادمة، مهما أحرص على أن لا يكون، وأن الأمانة أن أبين كل شيء ما استطعت، فاستحدثت في آخر الجزء الثالث، ثم في آخر كل جزء ظهر أو سيظهر إن شاء الله، بابًا في "الاستدراك والتعقيب"، رجوت في أوله إخواني من علماء الحديث في أقطار الأرض أن يرسلوا لي كل ما يجدون من ملاحظة أو استدراك أو تعقيب أو بحث، وجعلت لهذه الاستدراكات أرقامًا متتابعة، وقد بلغ عدد الأحاديث التي نشرت في المجلدات السبعة 5580 حديثًا، وبلغ عدد الاستدراكات عليها، التي نشرت في آخر المجلدات الثامن 1789 استدراكًا، كلها مما تعقبته على عملي ونقدته. ¬

_ (¬1) صارت الآن 15 مجلدا، وأسأل الله التوفيق لإتمامه. أحمد محمد شاكر.

إن كثيرًا من الناس تغرهم المناصب والرتب، وتخدعهم الألقاب العلمية الضخمة، وما كان شيء من هذا ميزانًا صحيحًا للعلم، ولقد نقدت كثيرًا من أمثال هؤلاء، فتعاظموا واستكبروا، فمنهم من أنف أن يرد عليَّ، ومنهم من سلط بعض أذنابه يشتمني، فما عبأت بهذا ولا بهذا، لا استكبارًا ولا تعاظمًا، ولا لأني طالب علم ورائد حقيقة، ولكِنْ لأني لم أضع نفسي في موازينهم قط. ومثال آخر من أروع الأمثلة في آداب المتقدمين من الأئمة: هذا ابن حزم الإمام العظيم، وكل من سمع به يعرف قسوة قلمه، وبديع نقده، وطريف تشنيعه إذا ما بدا له أن يشنع على خصم، بحث بحثًا فقيهًّا في "المُحَلَّى" ليس من مجال القول هنا أن نفصله، فذكر فيه (6: 66 - 74) مسألة استدل فيها بعض العلماء بحديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي. ثم رد صحة الحديث بأن جرير بن حازم قرن في الإسناد بين عاصم بن ضمرة، وهو ثقة، وبين الحارث الأعور، وهو كذاب، وقال (ص 70): وكثير من الشيوخ يجوز عليهم مثل هذا، وهو أن الحارث أسنده، وعاصم لم يسنده، فجمعهما جرير، وأدخل حديث أحدهما في الآخر". وغلا ابن حزم غلوًّا شديدًا بعد ذلك، فقال: "هو حديث هالك، ولو أن جريرًا أسنده عن عاصم وحده، لأخذنا به". وابن حزم كان يؤلف قبل عصر المطبعة، وكتابه في يده، فكان

مستطيعًا إذا شاء أن يعرض عما كتبه كله في هذه المسألة الطويلة، ويستأنف كتابتها على النحو الذى يريده بعد أن تغير اجتهاده وتغير رأيه. ولكنه أبى إلا أن يبقى ما كتب على ما كتب، ثم يرد على نفسه، على طريقته وبقوته، فيقول في آخر المسألة (ص 74): "ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير بن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه، وأن الاعتلال فيه بأن عاصم بن ضمرة أو أبا إسحاق أو جريرًا خلط إسناد الحارث بإرسال عاصم - هو الظن الباطل الذى لا يجوز. وما علينا من مشاركة الحارث لعاصم، ولا لإرسال من أرسله، ولا لشك زهير فيه شيء. وجرير ثقة، فالأخذ بما أسنده لازم". وهذا الجزء من "المُحَلَّى" طبع منذ أكثر من عشرين سنة، سنة (1349 هجرية) بتحقيقي: وقد كتبت فيه تعليقًا على صنيع ابن حزم هذا، ما نصه: "لله در أبي محمد بن حزم: رأى خطأه فسارع إلى تداركه، وحكم بأنه الظن الباطل الذي لا يجوز. وهذا شأن المنصفين من أتباع السنة الكريمة وأنصار الحق، وهم الهداة القادة. وقليل ما هم". وأظن في هذا مقنعًا لمن أراد أن يقنع أو يهتدي. * * *

تصحيح القاموس

تصحيح القاموس (*) (¬1) لحضرة صاحب السعادة الأستاذ الكبير أحمد تيمور باشا مآثر لا تحصى في خدمة لغة العرب الشريفة، وإن المطلع على كتابيه: تصحيح لسان العرب، وتصحيح القاموس يعلم مقدار عنايته بخدمة اللغة، ويعلم أن العناء في هذين الكتابين على صغر حجمهما لا يوازيه عناء تأليف في أدق موضوع. وحسب القارئ أن يتخيل نفسه متتبعًا ألفاظ اللسان أو القاموس متحريًا صحة كل كلمة في موضعها، ثم صحة ضبطها، ثم الرجوع إلى مظانها في الكتب الأخرى، حتى يرى نفسه عاجزًا عن متابعة العمل في جزء واحد من أحدهما، وإنما أقدار الرجال بالهمم. وقد رجع من تصحيح القاموس إلى أربع نسخ مخطوطة ومثلها مطبوعة، وإن تحت يدي نسخة مخطوطة من القاموس مكتوبة في شهر ربيع الأول سنة 1043 هجرية في جلد واحد نحو ثلاثمائة ورقة. ولما أخذتُ تصحيح القاموس رأيتُ أن أراجعه على نسختي هذه، فراجعته جميعه عليها فوجدتها غاية في الصحة والدقة والضبط وليس فيها من الأغلاط إلا النادر، ويظهر أن ناسخها باللغة شديد التحري في نسخه، والنسخة مشكولة بالشكل الكامل، غير أني وجدت فيها ¬

_ (*) مجلة الزهراء، شعبان 1343 هـ. (¬1) كتب الشيخ أحمد شاكر هذا المقال يوم أن كان قاضيًا لمحكمة السنطة الشرعية.

نادرًا من الأغلاط وبعضًا من الاختلاف بينها وبين ما ذكر في كتاب التصحيح. مما يحتاج إلى بحث وتحقيق وليس عندي كتب كثيرة في اللغة الآن وأنا بالأقاليم ومكتبتنا بمصر. وإن بعض التصحيحات صححها سعادة تيمور باشا بالبحث والاجتهاد لعدم ضبطها في النسخ التي بين يديه، فوجدتها مضبوطة على الصحة في نسختي؛ لذلك رأيتُ أن أكتب هذه المواضع في مجلتكم (الزهراء) راجيًا من سعادة الباشا أن يتفضل ببيان ما أشكل من ذلك: (1) مادة (ش ع ب) "الشَّعوبيُّ قرية باليمن" وردت في النسخ التي اطلع عليها سعادته "بلا ضبط إلا أن الياء منقوطة وبه يتأنس في عدم القصر" وقد ضبطت في نسختي بفتح الشين وكسر الباء الموحدة وتشديد الياء المثناة على الصواب. (2) مادة (س م ت) "ومُسَمّتُ النعل" وردت في نسختي "ومُتَسَمَّتُ" فأيهما الصواب؟ (¬1) ¬

_ (¬1) قد تجاوب الأستاذ أحمد تيمور مع مقال الشيخ أحمد شاكر، فأجاب عليه في مجلة الزهراء عدد شوال 1343 هـ بالمقال التالي: حول تصحيح القاموس أشكر لصديقي الأستاذ الجليل السيّد أحمد شاكر عنايته بما كتبته في تصحيح القاموس. ولم يقعدني عن الإجابة على ما تفضَّل بالسؤال عنه إلا ما اعتراني من المرض أخيرًا فأسأله المعذرة. وهذا ما ظهر لي فيما كتب: في مادّة (س م ت) "ومُسمّت النعل" والذي في نسخة الأستاذ "ومتسمّت". =

(3) مادة (ب ر ث) "البَرْثُ الأرضُ السهلةُ أو الجَبَلُ من الرمل السهلَ" بنصب السهل والصواب جرّة وهو كذلك في نسختي. ولكن بدل (الجَبَل) بفتح الجيم والباء (الحبل) بالحاء المهملة وسكون الباء وفي ظني أنها أصح؛ لأن من معاني (الحَبلْ) الرمل المستطيل كما ذكره المصنف في مادة (ح ب ل) وليس الرمل من معاني الجبل بالجيم. (4) مادة (ز ل ج) "نلاقي بها يوم الصبّاح عدونا" بالصاد المهملة والباء الموحدة وفي نسختنا تشبه أن تكون (الصياح) بالياء المثناة التحتية فأيهما الصواب؟ (5) مادة (غ م ل ج) "قارتا" بالتاء المثناة الفوقية: وردت في نسختنا على الصواب (قارئًا) بالهمزة. ¬

_ = وقد وجدته كذلك في النسخ المخطوطة التي عندي والنسختين الهنديّتين. وورد المسمّت في نسخ مصر وشرح القاموس وفي ترجمته إلى التركية لعاصم ولم يذكره اللسان ولا المخصّص في باب النعال ولم أقف فيه على نص لقدماء اللغويّين إلا أن الشيرازيّ وهو من علماء القرن الثالث عشر أورده في معيار اللغة بلفظ (متسمّت) ونصَّ على أنه اسم المكان من التفعّل فلعلّه وقف فيه على نصٍّ. وفي مادة (ب ر ث) "والجبل من الرمل" وفي نسخة الأستاذ "والحبل" بالمهملة ولا ريب في أنه الأصحّ وهو الوارد في النسخة طبع الميمنيّة بمصر. وفي مادّة (ز ل ج) "نلاقي بها يوم الصباح عدونا" وفي نسخة الأستاذ "الصياح" بالمثناة التحتيّة وقد وجدته كذلك في إحدى النسخ المخطوطة التي عندي والمتبادر أنه الأصح بأن يكون المراد يوم الغارة وصياح القوم بعضهم ببعض. والذي في سائر النسخ التي اطلعت عليها بالموحّدة. =

(6) مادة (ف ج ج) "وهو أقبح من الفجج" وردت في نسختي "وهو أقبح من الفج" وصحح سعادته أنها (الفحج) وأظن أن الصواب ما ذكره. (7) مادة (ن ح ر) "كالنحيرة" وذكر أن صوابها (كالنحير) بدون تاء ووردت في نسختي (كالنحرة) بالتاء وبدون ياء بين الحاء والراء فأيهما أصح؟ (8) مادة (ق ر ع) "وبثر أبيض يخرج بالفصال ودواؤه الملح وحَباب ألبان الإبل" وذكر أن صوابه جُباب، بضم الجيم وقد ورد كذلك في نسختنا، ولكن فيها بدل (ودواؤه الملح) (وَدُوّارَةُ المَسْلَخِ) بضم الدال وتشديد الواو وفتح الراء المهملة وتاء التأنيث و (المسلخ) بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح اللام والخاء المعجمة. وهذا مما يحتاج لبحث وتحقيق لبيان أيهما الصواب. (9) مادة (ب ق ق) "كالبقَاقة" بفتح القاف الأولى من غير تشديد ¬

_ = وفي مادّة (ن ح ر) "والنحيرة أول يوم من الشهر أو آخره أو آخر ليلة منه كالنحيرة" فذكرت أن الصواب "كالنحير" وفي نسخة الأستاذ "كالنحرة" ولم أجد أحدًا ذكرها فالصواب ما ذكرته اعتمادًا على ما في القاموس واللسان. وفي مادّة (ق ر ع) "وبثر أبيض يخرج بالفصال ودواؤه الملح" وفي نسخة الأستاذ "ودوّارة المسلخ" والصواب الأول لقول صاحب اللسان "فإذا لم يجدوا ملحًا نتفوا أوباره ونضحوا جلده بالماء ثم جرّوه على السبخة" أي أنهم يداوون القرَع بالملح وجباب ألبان الإبل فإن لم يجدوا ملحًا داووه بالصفة التي ذكرها. وفي مادة (ب ق ق) "كالبَقاقة" بالتخفيف وفي نسخة الأستاذ بتشديد القاف =

ولكن في نسختنا بتشديدها فأيهما أصح؟ (10) مادة (ش ن ن) "والقربةُ اخلقت كاستثنّت" وذكر أن صوابها فيما يظهر (كاشتنّت) على افتعل ويحتمل أن يكون كأشنّت على أفعل وفي نسختنا (كاشتنّت) على افتعل فقد صار متعينًا أنه الصواب. (11) مادة (وذن) "التودن الصرف والإعجاب" وصوابها التوذّن بالذال ولكن في نسختنا بدل (والإعجاب) (والإهاب) فأيهما أصح؟ (12) مادة (ح وو) "الحُوَّة بالضم سواد إلى الخضرة أو حمرة إلى سواد" وفي نسختنا "سواد إلى الحمرة أو حمرة إلى سواد" فأيهما الصواب؟ * * * ¬

_ = وقد ضبط في اللسان بلا تشديد وذكر أنَّ الهاء فيه للمبالغة والظاهر أن كليهما صحيح أخذًا من قول ابن الأثير في النهاية "يقال رجل لقّاق بقّاق ولقاق بقاق إذا كان كثير الكلام" أي بالتخفيف والتشديد. ونصَّ صاحب معيار اللغة على التخفيف فقط فضبط البقاق والبقاقة للرجل الكثير الكلام كسحاب وسحابة. وفي مادّة (وذن) "التوذّن الصرف والإعجاب" وفي نسخة الأستاذ (والإهاب) ومعنى الإهاب الجلد أو ما لم يدبغ منه وهو بعيد عما هنا والذي في اللسان الإعجاب أيضًا ويؤيده قول معيار اللغة "تؤذّنه عنه على تفعل صرفه وفلانًا أعجبه". وفي مادّة (ح وو) الحوّة بالضمّ سواد إلى الخضرة أو حمرة إلى سواد" وفي نسخة الأستاذ "سواد إلى حمرة أو حمرة إلى سواد" والظاهر أن الصواب الأول ويؤيّده قول اللسان "الحوّة سواد إلى الخضرة، وقيل: حمرة تضرب إلى السواد" ومثله في معيار اللغة، والله أعلم.

ابن محيصن

ابن محيصن (*) قرأتُ في "الزهراء" الغراء م 5 ج 5 ص 355 في مقال الأخ الأستاذ السيد محمد راغب الطباخ بشأن خط البغدادي ومؤلفاته أن له رسالة في 19 ورقة في توجيه قراءة ابن محيض في الاستبرق وتحقيق كونها معربة، وكتب فيها اسم القارئ ابن "محيض" بالضاد المعجمة في آخره وأنا أوقن أن هذا خطأ مطبعي وقع سهوًا ولكني أحببتُ التنبيه عليه لئلا يلتبس على بعض إخواننا قارئي المجلة إذا لم يكن سبق لهم معرفة هذا الاسم، وصحته "ابن محيصن" بضم الميم وفتح الحاء المهملة وإسكان الياء وكسر الصاد المهملة وفي آخره نون هكذا ضبطه الحافظ الذهبي في المشتبه والحافظ ابن حجر في التقريب والعلامة الزبيدي في شرح القاموس، وقد وقع خطأ مطبعي آخر في اسمه في كتاب "اتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر" للبناء ص 4 طبع المطبعة الميمنية فذكر فيه باسم "ابن محيصين" بزيادة ياء ثانية بين الصاد والنون. ووقع فيه هذا الخطأ مرارًا. وابن محيصن هو: عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي أبو حفص قارئ أهل مكة، وقد اختلف في اسمه فقيل محمد بن عبد الرحمن - وهو الذي حكاه صاحب "اتحاف فضلاء البشر" - ¬

_ (*) مجلة الزهراء، الجزء السادس، المجلد الخامس.

وقيل عبد الله بن عبد الرحمن؛ أخذ القراءة عن مجاهد، وروى الحديث عن أبيه وصفية بنت شيبة وغيرهما، روى عنه ابن جريج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهم، روى له مسلم والترمذي والنسائي حديثًا واحدًا؛ قال الذهبي في الميزان: "ما علمت به بأسًا في الحديث ... ولكن ليس هو بعمدة في القراءات" (ج 2 ص 265) وقال شيخه مجاهد: "ابن محيصن يبني ويرص" يعني أنه عالم بالعربية والأثر (تهذيب 7: 474) ومع فضله وعلمه بالقراءة والعربية لم يذكره ياقوت في "معجم الأدباء" ولا السيوطي في "بغية الوعاة". مات ابن محيصن سنة 123 رحمه الله وقراءته التي ألف من أجلها البغدادي رسالته هي أنه قرأ "إستبرق" - وأصلها بكسر الهمزة وإسكان السين وفتح التاء وإسكان الباء وبالتنوين، في القراءات المشهورة عن جمهور القراء - قرأها "استبرقَ" بوصل الألف وفتح القاف، على صيغة الفعل الماضي، وفهم ابن جني أنه اسم منعه القارئ من الصرف فقال: "وهذا سهو أو كالسهو" ورد عليه أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (6: 122) بأنه "جعله فعلًا ماضيًا على وزن استفعل من البريق ويكون استفعل فيه موافقًا للمجرد الذي هو برق كما تقول قد "استقر" وانظر تفصيل الكلام في هذا البحر المحيط وانظر لسان العرب في مادتي "استبرق" و"برق". * * *

بين أحمد شاكر وحامد الفقي

بين أحمد شاكر وحامد الفقي 1 - بيني وبين الشيخ حامد الفقي 2 - حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي 3 - مقال الشيخ حامد الفقي: أبرأ إلى الله من سوء الظن بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه 4 - التعقيب على مقاله 5 - بيني وبين أخي الشيخ أحمد شاكر 6 - تعقيب أحمد شاكر

بيني وبين الشيخ حامد الفقي

بيني وبين الشيخ حامد الفقي (*) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسول الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الخلق أجمعينَ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فما كنتُ لأوَدَّ أن أقفَ من صديقي القديم الشيخ محمد حامد الفقي هذا الموقفَ، ولكنه أبَى إلَّا أن يُدَمِرّ صداقةً عاشتْ على الدهر قرابةَ نصف قرن، ولكنه سَئِمها فدمَّرها تدميرًا. وليستْ فعلتُه هذه بأوّل ما فعل، ولكنها خاتمتَه التي اختارها وعمل لها بضعَ سنين إن لم يكن أكثر، ونحن لا ندري. ولستُ أظنّ بصديقي القديم - وهو قويّ الذاكرة، حافظٌ للأحداث - أن ينسى ما فعل ويفعل، أو ينسى ما خطَّتْه يمينهُ مما لا نريد كشف الغطاء عنه. وقد اعتدنا طول حياتنا الأخوية أن نختلف في الرأي، وأن يطول بيننا الخلافُ والجدال، فلا يُغضب أحدًا منّا خلافُ الآخر إياه، واعتدنا أن ينقدَ أحدُنا الآخرَ أشدَّ النقد، فلا يظهرَ لهذا النقد أثرٌ فيما ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي العدد 11، 12 ذي القعدة وذي الحجة 1374 هـ.

بيننا، ولكنَّ الصديق القديم اختطَّ لنفسه منذُ سنين، خطةَ الاستعلاء والطغيان العلمي؛ بما اعتَقَد في نفسه أنه أعلمُ الناس في هذا العصر، كما صارحني بذلك حتى لقد صارحتهُ حينذاك بأن لا أجادله في العلم، لئلا أؤرِّثَ حقده الذي بَدا، ولا أثير طغيانه الذي اتخذه لنفسه سبيلًا. ولكن كان يَغْلبُني الفينة بعد الفينة ما دَرَجْنا عليه عمرًا طويلًا، فأناقشُه في شيء من العلم، ثم أستدركُ خطئي وأسكتُ. فكان آخرُ ذلك أن قرأتُ في مجلة (الهدي النبوي) في عدد (شهري رجب وشعبان سنة 1374) تعليقًا له على رسالة منشورة في المجلة، من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، فهمتُ من هذا التعليق أنه يتضمن تكذيبًا لشيخ الإسلام، يكاد يكون صريحًا في ذلك فكبُر علىّ الأمر، ولم أجد مناصًا من وضع الحق في نصابه، وتبرئةِ شيخ الإسلام - رحمه الله - من هذه التهمة، ومحاولةِ تبرئة الصديق القديم من أن يَرْمِي إلى هذا أو يَقصدَ إليه، ووضعتُ بين يديه فرصةً يَهْتَبِلُها، لتأويل ما أفلتَ من قلمه من الباطل، أو للاعتراف بالخطأ صراحةً والرجوع عنه علنًا، وإن لم يكن لي في ذلك أمل، فأنا أعرف صديقي، فكتبتُ مقالًا يوم الثلاثاء 3 رمضان سنة 1374، وأرسلتُه إليه بالبريد المسجّل، لما يشقّ علي من كثرة الحركة في رمضان، مع ارتفاع سنّي وضعف صحتي. وكان أكثر ما أخشاه أن يطويَ المقال فلا ينشره في المجلة؛ لما

أعرفُه من خُلُقه، فحاولتُ الاتّصال به تلفونيًّا في منزله وفي مقرّ (جماعة أنصار السنة المحمدية) مرارًا، فلم أوفَّق، فحدثتُ صديقًا لي وله - كريمًا - في هذا الشأن، ورجوتُه أن ينصحه بنشر المقال والتعقيب عليه بما شاء. ثم زارني هذا الصديقُ الكريم، في رفقة من إخواننا مساء الخميس 20 رمضان فأخبرني أنه استطاع هذا اليوم الاتصال بالشيخ حامد، وحدَّثه بشأن المقال، فأنكر له أنه ورد إليه. فعجبتُ وسكتُّ. ثم جاء الصديق القديم الشيخ حامد مصادفةً ونحن بالمجلس، فلم أستحسنْ أن أتحدّث إليه في ذلك على ملإٍ من الحاضرين، ولكنّي حدّثته بشأنه منفردَين عند عزمه على الانصراف، فكان حديثًا عجبًا: لم أخبره بما قال الصديق الكريم لئلا أُحْرِجَه، بل سألتُه عن المقال ونيّتِه فيه، فقال: ولماذا تهتمّ به وتريد نشره؟ وفهمتُ منه أنه لا يريد نشره، فأفهمتُه وجهةَ نظري: أني أرمي بذلك إلى تبرئة شيخ الإسلام ابن تيمية من شبهة تظهر من كلامه (أعني كلام الشيخ حامد). فقال لي، وهو يحاورني: "ابن تيمية بتاعي قبلك"! فأجبتُه بأن ابن تيمية ليس خاصًّا بي ولا بك، بل هو لجميع المسلمين. وتحاوَرْنا قليلًا نحوَ هذا المعنى، ثم سكتُّ - كعادتي معه - إذْ لم أجد فائدةً من الكلام، واستيقنتُ حينئذ أنه سيطوي المقال، وأنه غيرُ ناشِرِه، فلم أحّرِكْ ساكنًا بعد ذلك، حتى أرى عاقبةَ أمره. ولم أعجب من إنكاره للصديق الكريم وصولَ مقالي إليه - صَدْرَ

النهار، واعترافِه لي ضمنَ كلامه - مساء اليوم نفسه! فإن الحقائقَ عند الصديق القديم تتغيَّر بتغيُّر المتحدَّث إليه، وأنا أعرف صديقي. وكان من المصادفات التي لم يكن لي يَدٌ فيها: أنْ وصل إليّ يومَ الأربعاء 11 رمضان سنة 1374 كتابٌ طبع حديثًا، فيه أربع رسائل، ثلاث منها تأليف عالم فاضل من إخواننا علماء الحجاز السلفيّين، هو (الشيخ محمد سلطان المعصومي الخجندي)، حفظه الله. والرابعة من تأليف (الشيخ محمود شويل) رحمه الله. كلها في الردّ على الشيخ حامد الفقي. وهي: (تنبيه النبلاء من العلماء إلى قول حامد الفقي: إن الملائكة غير عقلاء). و (القول الفصل، في حقيقة سجود الملائكة واتصافهم بالعقل)، وهذه للشيخ محمود شويل. و (الرد الوفي على تعليقات حامد الفقي). و (نغمة جديدة من رئيس أنصار السنة المحمدية). فحين جاءني هذا الكتاب وقرأتُه تأكَّد مصيرُ مقالي عنده؛ فإن الصدبق القديم بعيدُ النظر في مثل هذه الشؤون، لا يأمنُ لأحدٍ من إخوانه، ولا يثقُ بصدق أحدٍ ولا بصداقته، يغلبُه سوءُ الظنّ بالناس، حتى بأقرب الناس إليه. ففهمتُ أنه سيربط بين مقالي وبين هذا الكتاب برباط وثيق، ويعتبرهما جزءًا من مؤامرةٍ يَنْسِجُ شباكَها (المعوِّقون الذين يُلْقُون في طريقه الغُبار والأشواك، كما يقول، وعلمتُ أني مهما أفعلْ لأَنْفَيَ العلاقة بين مقالي وبين الكتاب - ومع

معرفته بخُلُقي، ويقينه من نُفُوري من المؤامرات والدسائس - فما ذلك بنافِعي عندَه، ولا بمُبْرِئِي من سوء ظنّه. وأنا أعرف صديقي. فلم أقل شيئًا، ولم أحرّك ساكنًا، حتى أستبينَ عاقبةَ أمرِه. ثم جاءني بالبريد، العددُ التالي من مجلة (الهدي النبوي) - عدد رمضان وشوال سنة 1374 - فتحقّق ما استيقنْتُ من قبل: طوى مقالي فلم ينشره، ولم يؤدّ الأمانة التي اؤتُمن عليها. ووجدتُ بدلًا منها مقالًا بقلمه، يبرأ فيه من رمي شيخ الإسلام ابن تيمية بالكذب، وحسنًا فعل. وليته اكتفى بهذا فسَتَرَ نفسَه! ولكنه ذهب يتأول كلامه لينفي عن نفسه التهمة، بطريقةٍ عجيبة، تثبت عليه الذي يتبرأ منه، والذي كنّا نحسن الظن به فنفهم أنه لم يقصد إليه، وأنه إنما أَفْلَتَ منه عن تعجُّل كعادته. ثم ملأ مقاله بمدح نفسه، بما الله أعلم بحقيقته منه. وختَمه بالغمز واللمز كعهدنا به، ولم يذكر اسمي في مقاله، ترفُّعًا منه واستكبارًا. فرأيتُ أن أضعَ الحقَّ موضعَه، وأن أؤدّيَ الأمانةَ التي اؤتمنتُ عليها، ولم أجد من اللائق بي وبه، أن ألجأ إلى صحيفة أخرى غير مجلته، ووجدتُ أنّ خير ما أعمل، أن أنشر على الناس هذا الكتاب، أُثْبِتُ فيه مقالي كاملًا، ومقالَه كلَّه، غيرَ مُخْفٍ منهما حرفًا واحدًا، ثم أعقّبَ على مقاله فيما يتصل بالمعنى العلمي، معرضًا عن اللغو، وعمّا اجترأ عليه من الغمز واللمز؛ فما كان ذلك لينصر رأيًا، أو يُقيمَ حجّةً على أحد، وما كان ذلك من شأن أهل العلم.

وسيقرأ كتابي هذا إخوانُنا السَّلفيون، أنصارُ السنة، وغيرُهم من أهل العلم، في مصر وفي غير مصر - إن شاء الله - وسيكون رأيُهم الفيصلَ، وقولهم الحَكَم، فيما بيني وبينه. والله يَهدينا جميعًا إلى سواء الصراط، الإثنين، 8 شوال، سنة 1374 - 30 مايو، سنة 1955. كتبه أحمد محمد شاكر عفا الله عنه بمنه * * *

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة ورئيس تحرير مجلة (الهدي النبوي)

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة ورئيس تحرير مجلة (الهدي النبوي) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: تزامَلْنا وتآخَيْنا منذُ أكثر من خمسٍ وأربعين سنةً، لله وفي سبيل الله. نَصْدُر عن رأي واحد، وعقيدةٍ سليمة صافية، في الاستمساك بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نحيد عنهما ما استطعْنا، وفي نُصرة العقيدة السَّلَفية، والذبّ عنها ما وَسِعَنَا ذلك. لم يَصْرفنا عما قُمْنا له وبه، واضطلعنا بالذبّ عنه، ما لَقينا وما نَلْقَى من أذًى أو عَنَت. ولعلنا - فيما قمنا به معًا - من أول العاملين على نشر العقيدة الصحيحة في بلادنا هذه، وما أريدُ بهذا فخرًا بعملي ولا بعملك، فما كنّا نعمل إلَّا لله. وكان من أعظم المصادر العلمّية التي استضأنا بنُورها - بعدَ الكتاب الكريم والسنة المطهرة - كتبُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام الحافظ ابن القيم، ثم كتب شيخ الإسلام (مجدّد القرن الثاني عشر) محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله جميعًا. وكان مما قرأنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وما كتَب الناسُ حولَه، من مؤيدّيه وأتباعه، ومن خَصْمه وأعدَائه - أَنْ وجدناه رجلًا مكذوبًا عليه، يَفْتَرِى عليه عدوُّه الفِرَى، ويرمونه بالأكاذيب، ويقوّلونَه

ما لم يَقُلْ، وينسبون إليه ما لم يفعل، بعامل العصبية الجامحة، والحقد الذي ملأَ قلوبهم، مما يطول شرحُه أو تفصيله، ولعلك أعلمُ به منّى، بل أنا أثقُ بذلك. ولكنّى - فيما قرأتُ، وما أكثرَ ما قرأتُ - لم أجد واحدًا من الناسِ، متقدّميهم ومتأخرّيهم، رَمَى شيخ الإسلام بالكذب فيما يَحْكِى أو يَنْقُل، أو بالوَهم والتخيُّل فيما يَرَى ويَسْمع ويقول. وأعتقد أنك لم تَقَعْ على شيء من ذلك أبدًا، فلقد أخذت مني الدهشة مأخذها - إذَنْ - حين قرأت في مجلة (الهدي النبوي)، في عدد شهريْ رجب وشعبان من المجلد 19 سنة 1374، في ص 31، أثناء فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية، (في الردّ والإنكار على طوائف من الضُّلال) تعليقك على كلام الإمام شيخ الإسلام، حين يقول: (وأما كونُه لم يتبيَّن له كيفيةُ الجِنّ ومقاماتُهم، فهذا ليس فيه إلا إخبارُه بعدم علمه، لم ينكرْ وجودَهم. إذْ وجودُهم ثابتٌ بطرق كثيرة غير دلالة الكتاب والسنة، فإن من الناس مَنْ رآهم، ومنهم مَنْ رآى من رآهم، وثبت ذلك عندهم بالخبر اليقين، وفي الناس من كلَّمهم وكلَّموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرَّف فيهم، وهذا يكون للصالحين ولغير الصالحين، ولو ذكرتُ ما جَرَى لي ولأصحابي معهم لطال الخطابُ. وكذلك ما جرى لغيرنا). أدهشني أكبرَ الدهشة، وأنكرتُ أشدَّ الإنكار - تعليقكم في هامش الفتوى، عند قوله (ويتصرّف فيهم)، بما نصه: "ليس ثَمَّ دليل

على صدق أولئك المُخْبِرين، ولعل أكثرَهم كان واهمًا ومُتَخَيِّلًا. وقد قال الله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]. فأول ما آخذُه على قولتك هذه، أنها رميٌ صريح لشيخ الإسلام بالكذب والافتراء! أو على الأقل بالغفلة والغباء! ! فإن تراه يزعم أنّ "من الناس من رآهم" و"من الناس من كلَّمهم وكلّموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم" ثم يقول: "ولو ذكرتُ ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب". وليس لهذا الكلام معنى في لغة العرب إلا أن شيخ الإسلام - رحمه الله - كان له مع الجِنّ شيء ممّا حكاه: إمَّا أنه رآهم، وإما أنه كلمهم وكلموه، وإما أنه "يأمرهم وينهاهم ويتصرّف فيهم". فإذا عقَّبْتَ أنت على هذا القول بأنه "ليس ثَمَّ دليلٌ على صدق أولئك المخبرين" لم يكن معناه إلا أنّ هذا الذي حكاه شيخُ الإسلام لم يَقَعْ منه شيءٌ؛ لأنه ليس هناك دليل - عندك - على صدق المخبرين "ولعل أكثرهم كان واهمًا ومتخيلًا"! ! وهؤلاء المخبرون: شيخ الإسلام، فيما زَعَمَ أنه جَرَى له، وغيرُه الذين لم يُسمِّهم "من أصحابه"، وليس لنا شأنٌ بمن لم يُسَمِّه هو من أصحابه، وإن كنّا موقنين من توثقه وتحريه فيما يحكي عنهم ولو إجمالًا، إنما الشأن فيما حكاه هو عن نفسه! ! وأُعيذُك بالله من أن تقصد إلى رمي شيخ الإسلام - عن عَمْدٍ - بما يُفهم من قولك، إذا فُهم بدلالة لسان العرب. وأقصى ما أستطيعُ من حمل كلامك على أحسن محامِله، بحسن الظن بك - أنك رأيت

رأيًا رسخ في قلبك، وغَلَبَك رأيُك فلم تستطعْ له دفعًا، فجرى به قلمُك حين رأيتَ القول بأنّ "من الناس ... ومن الناس ... "، فكتبتَ تعليقك عندَه، قبل أن تقرأ ما جاء بعده، من أن شيخ الإسلام يثبتُ شيئًا كثيرًا من ذلك جَرَى له ولأصحابه مع الجنّ، بل لعلك حين هَدَأتْ نفسُك، واستراح قلبُك بما خَرَج منه، لم تقرأ آخر الكلام، أو قرأتَه غير عابئٍ به، ولا مُلْقٍ له بالًا، ولا مُتَعَمّقٍ فيما وراءه من معنًى ولستُ أدري أيقومُ هذا الاعتذارُ أم ينهار؟ إنما هذا هو الذي صنعتْ يدُك. * * * ثم أكثرُ من هذا وأشدُّ خطرًا: أنّ إنكارَك ما أنكرتَ، فيه إنكارٌ لكثير مما ثبت بالسنّة الصحيحة، التي عِشْنَا عُمُرَنا نَدْفَعُ عنها، ونردُّ على منكريها، ونعيبُ متأوّليهما بما يُخرج الكلام عن معناه الصحيح، ولعلك تذكر من هذا الشيء الكثير. ولستُ الآن بصدد تحقيق الأحاديث الثابتة، في رؤية بعضِ الصحابة - رضوان الله عليهم - للجنّ، وتصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم، فيما حَكَوا عمّا رَأوْا، فأنا أثق أنك قرأت من ذلك ما قرأت أو أكثر منه، وأنك عرفته حقَّ المعرفة، وإنما يكفي من ذلك الإشارة: فحديث أبي هريرة في صحيح البخاري (4: 396 - 398 من فتح الباري) - فيه قصتُه مع الجنّي الذي كان يأخذُ مما كُلِّف أبو هريرة بحفظه من زكاة رمضان، وأخذه إياه، ثم إنه خلى عنه حين أبدى له

حاجة عياله، وقولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: "أما إنه قد كَذَبك، وسيعودُ" ... فعل ذلك ثلاث مراتٍ، ثم قال له الجنّي: "دَعْني أُعَلِّمْكَ كلماتٍ ينفعك الله بها"، ثم علَّمه أن يقرأ آية الكرسي، وأنه لن يزالَ عليه من الله حافظٌ ولا يقربه شيطانٌ، حتى يُصْبِح. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: "أمَا إنه صَدَقَك، وهو كَذُوبٌ. تَعْلَمُ من تخاطبُ مُذْ ثلاثِ ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: ذاك شيطان". وهذا حديث صحيح صريح، لا يحتمل تأويلًا، إلا تأويلَ أهل الأهواء، ممَّن لا يأخذون بالسنة الصحيحة، أو بعبارة صريحةٍ مطابقة لحالهم: "من الذين لا يؤمنون بالغَيْب". وأعيذُك بالله أن تَميل إليهم، أو تأخذ مأْخَذَهم. وقد أثبت الحافظُ في ذلك الموضع كثيرًا من الأحاديث في هذا المعنى، ثم عَرَض للاحتجاج بالآية التي تأَوَّلْتَها على غير وجهها - فيما كتبتَ - فذَكَر أن قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}. "مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها". وهو تفسير لا بأس به عندي، وأجودُ منه أن يكونَ قولُه تعالى: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}. خاصًّا بحالةٍ أو ناحية لا نراهم منها، بدلالة كلمة "من حيثُ"، وأنّ هذا لا ينفي رؤيتهم من نواحي أُخَر. وأقوى من هذا دلالةً - فيما أرى -: أن الجنّ لم يكونوا، ولن يكونوا أرقى من الملائكة ولا أعظم خلقًا منهم، ورؤية الناس للملائكة ثابتةٌ ثبوت القطع الذي لا شك فيه، حين يتشكَّلون على

صورةٍ تستطاع رؤيتهم بها، ويكفي من هذا حديث جبريل، في سؤالاته عن الإسلام والإيمان والإحسان، الثابت في دواوين الإسلام، والذي لا يَشُكُّ في صحته ولا ثبوته أحدٌ يؤمن بالغيب. وبعدُ: فهذه كلمة عابرة، لإزالةِ شبهةٍ عنك أولًا، وعن أهل العلم بالحديث ثانيًا، أمّا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فإنه أرفع منزلةً عندي وعندك من أن يصل إليه تكذيبٌ أو شكٌ في صدقه فيما يَحْكي أو ينقل، وأنت أولُ من يوافق على ذلك، إن شاء الله. فآمل منك - إحقاقًا للحق، ورفعًا للشبهة، أن تنشرَ كلمتي هذه كاملةً بنصها، ثم كلُّ الحقّ أن تعلّق عليها أو تَرُدّ بما تشاء. والله سبحانه يتولانا جميعًا بهدايته وتوفيقه. مساء الثلاثاء 3 رمضان سنة 1374 - 26 أبريل سنة 1955. أحمد محمد شاكر * * *

أبرأ إلى الله من سوء الظن بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه

مقال الشيخ حامد الفقي بنصه حرفيًّا: أبرأ إلى الله من سوء الظن بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه لست أدري كيف تطرق على ذهن بعض الإخوان اتهامي شيخ الإسلام ابن تيمية بالكذب من تعليقتي في الهدي (عددي رجب وشعبان) التي أقول فيها: "ليس ثَمَّ دليل على صدق أولئك المخبرين". أي؛ ليس ثم دليل من الكتاب والسنة يعتمد عليه في هذه الأمور الغيبية، ونفي الدليل على وقوع ما يذكره الناس من رؤيتهم للجن، لا يعطى مطلقًا رمي شيخ الإسلام بالكذب - حاشاه وبرأه الله - وما كنت أتصور مطلقًا أن يحملها حامل على أني أرمي شيخ الإسلام بالكذب، فهي والله عندي جدُّ عجيبة، ولكني قصدت إلى أن أقطع على الدجالين سبيل اتخاذهم لما يحكى من ذلك حجة لهم على ما يدجلون به على الدهماء، ويستغلونهم به أسوأ استغلال، كما هو شائع قد ابتلى به أكثر العوام وأشباههم، فاستولت عليهم الأوهام والخرافات حتى فسد تفكيرهم، وفسدت نظرتهم إلى كل شأن في الحياة، وترتب على ذلك ما أصيبوا به في هذه الأعصر من التأخر في ميادين الحياة العملية، وانحلال الأخلاق، ووهن العزائم. وكيف يتوهم متوهم في حامد الفقي الذي وقف حياته على نشر علوم ابن تيمية، وتخصص فيها من يوم أن كان اسم ابن تيمية لا يذكر

إلَّا مقرونًا باللعنة على ألسنة الوثنيين الجاهلين، وما زلت - بحمد الله أصبر على ما ينالني من أذى - حتى أقبل الناس اليوم على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية يقدرونها قدرها، وينتفعون بها ويحرصون عليها. ولقد نفعني الله بكتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم نفعًا أعده من أجل نعم الله عليّ، ومن أشد وآكد وصاياي لإخواني أنصار السنة: أن من لم يتضلع من كتب الشيخين، لا يمكن أن يكون سلفيًّا بالمعنى الصحيح، ولكني أحمد الله وأدعو لشيخ الإسلام دائمًا بالمغفرة والرضوان، وأضعه من نفسي أجل موضع: أن تعلمت منه مقت التقليد أشد مقت، لما يفضي إليه - كما عرفت من شيخ الإسلام ابن تيمية - إلى أسوأ العواقب في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع، فلست أقلد ابن تيمية ولا ابن القيم ولا غيرهما، ولا أتخذهم أربابًا من دون الله، بل العلماء عندي بشر يخطؤون ويصيبون. ونفي صدق الدليل الشرعي: أقصد منه خطأ من يثبت تيسر رؤية الجن، كرؤية المرئيات العادية؛ فإن "الجن" بلا شك من عالم الغيب الذي نؤمن به، على ما صح وثبت عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا نزيد بعقلنا ولا بعقل غيرنا، فحديث الشيطان الذي كان يسرق من تمر الصدقة نؤمن به أصدق الإيمان، ونعتقد أنه ليس عامًّا بالنسبة إلى كل الناس، وفي جميع الأوقات، فهو كحادثة الجريدة التي شقها الرسول - صلى الله عليه وسلم - نصفين، ووضع كل واحد من شقيها على قبر من القبرين اللذين كان يعذب أصحابهما وقال: "إن الله يخفف عنهما ما لم ييبسا". أو كما قال. فهي حادثة خاصة، لا تعطي حكمًا عامًّا أبدًا. وقد روى البيهقي في مناقب الشافعي - رحمه الله - عن

الربيع بن سليمان أنه سمع الشافعي يقول "من زعم أنه يرى الجن رددنا شهادته، إلّا أن يكون نبيًّا". وراجع تفسير المنار لقول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]. ومن قديم عودني ربي سبحانه، وله الحمد، على أن أمضي في طريقي ذاهبًا إلى ربي ليهديني، لا أعبأ بما يحاول المعوقون أن يلقوا في طريقي من غبار، أو أشواك، وأن يوهنوا من دعوتي بأنها شذوذ، وتشديد في أمور سهلة، هي التوسل بالأولياء، وترك لما هو أهم، وغير ذلك، فما كان - ولا يزال - يقعقع به المعوقون. فاليوم - وقد قطعت مع شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وإخوانهما من السلفيين القدامى، رضي الله عنهم، نصف قرن - لا يهمني أن يقعقع حولي بهذه الشنان، فليرح نفسه من يحاول ذلك، ويذهب متتبعًا سقطات، فأين كان يوم نقدت ابن تيمية في رسالة العبودية، وكتاب اقتضاء الصراط المستقيم، وغيرها مما علقت عليه، وأعوذ بالله، وأعيذ إخواني بالله، أن أكون أو يكونوا من الذين يصدرون عن هوى أو شبهة، أو مقاصد لا تتفق وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربنا لا تجعل في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا. غفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ورضي الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ما أحببته بقدر ما نفعني الله بعلمه وفقهه، فكان حبه سببًا في شديد أذًى صبرت عليه، بفضل الله وتوفيقه، حتى كانت العاقبة الحسنى، وجمعنا الله وإياه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

التعقيب على مقاله

التعقيب على مقاله وقد بدأ الشيخ مقالَه بالبراءة إلى الله من سوء الظنّ بشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ذكر أن تعليقَه الذي أخذناه عليه "لا يعطى مطلقًا رَمْي شيخ الإسلام بالكذب، حاشاه وبرّأه الله". أما سوءُ الظن بشيخ الإسلام، فما نسبناه إليه قَطُّ، ولا نستطيعُه؛ لأنه من أفعال القلوب، التي لا يطَّلع على حقائقها إلَّا الله تعالى، الذي يعلم ما تكن الأنْفُسُ وما تُخْفِى القلوبُ. وإنما الكلام فيما يدلُّ عليه تعليقُه - أو يُوهِم - أنه نسبةُ الكذب على شيخ الإسلام، حاشاه الله وبرّأه منه. وإنما الكلام فيما حاوَلْنا أن نبرئ الصديق القديم مما يوهم كلامُه، ورجَوْنا أن يَبْرَأَ منه براءةً صحيحة واضحة صريحة، فأبَى. وهذا من مواقف الرجال، التي لا يصلح فيها التأوُّلُ ولا الالتواءُ: فإما نفيٌ لما يوهمه الكلامُ نفيًا قاطعًا واعترافٌ بالخطأ في التعبير، وإما التزامٌ لما يقتضيه معنى الكلام، ثم الثبات عليه، أيًّا كانت العواقب، أما التأرجحُ بين النفي والإثبات، وأما المحاورةُ والمداورةُ، فلا تزيد الأمرَ إلَّا شَنَاعةً. لقد حكى شيخ الإسلام أنّ من الناس من رأى الجنّ، ومن رأى

من رآهم، ومن الناس من كلّمهم وكلّموه، ثم قال بعد ذلك: "ولو ذكرتُ ما جرى لي ولأصحابي معهم [أي مع الجنّ، ببداهة السياق]، لطال الخطاب". وهذا كلام ليس له معنًى في لغة العرب إلَّا أنّ شيخ الإسلام يحكي أنه جَرَى له نفسه شيء من هذا، كما قلتُ لك في مقالي، فإذا جئتَ أنت وعلَّقْتَ على هذا القول بأنه "ليس ثم دليل على صدق أولئك المخبرين" - الذين منهم شيخ الإسلام، بدلالة صريح الكلام - ألا يُوقع هذا القولُ منك في وَهْم القارئ أن هذا القائل الذي يدعي أنه "جَرَى له" شيء من هذا مع الجنّ - لمْ يَكُ صادقًا، أو على الأقل أنه لم يكن متحريًا للصدق؟ ! ومع هذا فإني برّأتُك بالقول الصريح "من أن تقصد إلى رَمْيِ شيخ الإسلام - عن عَمْدٍ - بما يُفْهم من قولك"! * * * وأنا أثقُ كل الثقة، أنك لا تستطيع رميَ شيخ الإسلام ابن تيمية بالكذب والافتراء، ولا تَعمد إلى ذلك قطّ - على كثرة ما يَجْري على لسانك وعلى قلمك من الطعن في الأئمة والعلماء، ورميهم بالكذب والافتراء - لسبب واحد أعرفُه وتعرفُه: وهو أن لشيخ الإسلام ابن تيمية مَنْ يَغْضَبُ له، ويَقْلي شانئيه ومبغضيه، وأنت أحرصُ من أن تقف هذا الموقف، وخاصةً أنْ كنتَ في أول أمرك من مُحِبيه ومُعَظِّميه، وأنا أعرف صاحبي، يا صاحبي. ولكنك أفلتَتْ منك كلمةٌ عابرةٌ، غَفَلْتَ عن مرماها وما وراءها،

فحين كشفتُ لك غطاءها، ووقَفْتُك على ما وراءها، ثارتْ ثائرتُك، وكبر عليك أن يُكْشَفَ الستارُ عما تُجِنُّ نفسُك، فاندفعتَ - كعادتك - غير متبصرٍ عاقبةَ أمرك، ولا ناظرٍ إلى ما تحت قدميك، وقد نصحتُك فكبُر عليك النصح، وحذَّرتُك - إبقاء عليك - فأسأتَ الظنَ بي، كعادتك مع إخوانك، فسقطتَ في الحفرة بين قدمَيْك، وكنتُ من هذا أخشى عليك. إنك - في دفاعك المُنْهارِ - تفسر كلمتك "ليس ثم دليل على صدق أولئك المخبرين" بقولك في صدر مقالك: "أي ليس ثم دليل من الكتاب والسنة يعتمد عليه في هذه الأمور الغيبية، ونفيُ الدليل على وقوع ما يذكره الناس من رؤيتهم للجنّ، لا يعطى مطلقًا رمي شيخ الإسلام بالكذب - حاشاه وبرأه الله - وما كنتُ أتصور مطلقًا أن يحملها حامل على أني أرمي شيخ الإسلام بالكذب، فهي والله عندي عجيبة جدُّ عجيبة". ثم بقولك في وسط مقالك: "ونفي صدق الدليل الشرعي: أقصد منه خطأ من يثبت تيسُّر رؤية الجنّ كرؤية المرئيات العادية. فإن الجنّ بلا شك من عالم الغيب الذي نؤمن به، على ما صح وثبت عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا نَزِيد بعقلنا ولا بعقل غيرنا"! ! * * * أين يُذْهَب بك أيها الرجل؟ ! أنحن بصدد إثبات حكم شرعي نتطلَّب الدليل عليه من الكتاب والسنة؟ أم نحن بصدد واقعةٍ أو وقائع معيَّنةٍ، وقعتْ بعد انقضاء الوحي بأكثر من سبعمائة سنة، في عصر

شيخ الإسلام؟ ألا تعرف - وأنت الرجل الذكي العالم - الفرقَ بين الأحكام والقواعد واستنباطها، وبين الوقائع المعيَّنة وثبوتها؟ ! وسأُعَلِّمُك: لو كان كلامُ شيخ الإسلام مقرَّرًا لوجود الجنّ فقط، لطالبَه مُنَاظِره أو مُجادِله بالدليل على ذلك من الكتاب والسنة، وهذا هو الحكمُ الذي يُطْلَب من أجل إثباته دليلٌ منصوص من الكتاب والسنة، أو دليل مستنبط منهما، ولكنّ شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن هذا ليس موضعَ الردّ على المردود عليه. فإنه يقول بالحرف الواحد: "وأمّا كونُه لم يتبيَّنْ له كيفيةُ الجنّ ومقاماتُهم، فهذا ليس فيه إلا إخباره بعدم علمه، لم ينكر وجودهم". فهذا هو الحكمُ بوجود الجنّ: لمَ ينسب شيخُ الإسلام للرجل المردود عليه أنه ينكر وجودهم، حتى يقيم عليه الدلائل من الكتاب والسنة، بل أثبت لخصمه أنه "لم ينكر وجودهم"، ولذلك لم يكتب له في هذا الموضع الدلائل من الكتاب والسنة؛ لأن وجودهم - عن هذه الدلائل - ليس موضعَ الخلاف والردّ على ذاك الرجل. وقد فهم شيخُ الإسلام من كلام الرجل المردود عليه، أنه ليس فيه إلَّا إخبارُه بعدم علمه بكيفية الجنّ ومقاماتهم، فأراد أن يَحُجَّه بالحال المشاهدة عندَ بعض الناس، ومنهم شيخ الإسلام نفسُه. فقال: "إذْ وجودهم ثابتٌ بطرق كثيرة، غير دلالة الكتاب والسنة؛ فإن من الناس مَنْ رآهم ... ومن الناس من كلَّمهم وكلَّموه ... ولو

ذكرتُ ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب". وهذا كلامُ الرجل العالم الفاقِه لما يقول، الواثق من نفسه ومن صدقه، ومن تصديق خصمه له إذا حَكَى ما رأى بعينه وسمع بأذنه. إذْ هو يعلم أنه لا يُدْفَع عن الصدق فيما يقول عما شهده، ولا عن الصدق فيما يَنْقل من العلم، ويعلم أن أحدًا من خصمه لم يَنْبِزْه بالكذب قطّ. فهذه واقعة - في رؤية شيخ الإسلام للجنّ وكلامه معهم - وقعتْ بعد انقطاع الوحي بأكثر من سبعمائة سنة، فليس لسامعها إلَّا إحدى اثنتين: أن يصدِّقَ راويَها الذي يدَّعي أنها وقعتْ له، بما يعرفه من صدق لهجته، ومن عدالته وأمانته، ومن أنه أهل للشهادة تُقبل شهادتُه، ولا يستطيع أن يَطلب منه دليلًا على صدقه من الكتاب والسنة، فما يُعقل قطّ أن يَطلبَ منه نصًّا من الوحي على أنه صادق في هذه الواقعة أو الوقائع بعينها! ! أو يكذِّب هذا الراوي فيما روى أنه وقع له. وهذا التكذيب قد يكون للراوي نفسه، بدفعه عن الصدق، بما يعلم الدافعُ من حال الراوي وعدم عدالته؛ فيكون نفيًا خاصًّا قاصرًا على الواقعة أو الوقائع التي يحكيها هذا الراوي. وقد يكون التكذيبُ عامًّا، غير قاصرٍ على موضع الرواية، بل نفيٌ لأصل المسألة، فكأنه يقول للراوي - حتى لو عَرَفَه بالصدق والعدالة: إن الذي تقول وتحكي لا يُعقل أن يقعَ قطّ؛ لأن دلائل

الكتاب أو السنة الصحيحة تنفيه، وتجعلُ وقوعَه محالًا، فأنت إمّا كاذب مخترع، وإما واهم متخيّل! ! وهذا هو الذي صنعته أنتَ، وحاولتُ أن أبرئك منه، ووضعتُ بين يديك الفرصة لتنفي عن نفسك الشبهةَ! فأبيت. جئت لواقعة أو وقائع يَرْوي شيخ الإسلام - وهو الصادقُ القول، الثابتُ العقل، النيّرُ البصيرة - أنها وقعت له، كما وقعتْ لغيره، فنفيتها نفيًا قاطعًا عامًّا فقلت له: "ليس ثم دليل على صدق أولئك المخبرين، ولعل أكثرهم كان واهمًا ومتخيلًا"! مَنْ أولئك المخبرون الذين "ليس ثم دليل على صدقهم" أيها العالمُ الذكيّ؟ ليس أمامَنا - في هذا الموضوع بعينه، وفي مقال شيخ الإسلام بعينه - إلّا مخبرٌ واحدٌ، هو شيخ الإسلام ابنُ تيمية، ثم مخبرون آخرون له، لم نعرف من هم، ولكنه هو الذي أخبرنا حاكيًا عنهم. أتريد أن يكون تكذيبُك إنما يقع على أولئك المخبرين له؟ فلنفرضْ هذا، ولكن ماذا عن إخباره هو بأنه جَرَى له مع الجنّ شيء مما حكى؟ أهو صادق فيه أم كاذب؟ أهو واهمٌ فيه ومتخِيَّل، أم ثابتُ العقل مستيقنٌ؟ ! هذا هو الذي تتحدَّثُ فيه، ودَعْ ما عداه! * * * ثم أينَ في كلام شيخ الإسلام - في رسالته التي علَّقتَ عليها -

إثباتُ "تَيَسُّر رؤية الجن، كرؤية المرئيات العادية" حتى تدَّعى أنك تقصد بيان خطئه؟ ثم من ذا الذي زعم من العلماء، بل حتّى من المخرفين الأغبياء، من ادّعى "تيسُّرَ رؤية الجن، كرؤية المرئيات العادية"؟ ! ألا تَفْقَهُ ما تقول؟ ! أتكون كلمتي لك مخلصة لوجه الله - سببًا لمثل هذا الهُرَاء، بل سببًا لخطإٍ في التعبير، لم تقصد إليه يقينًا، حين تقول "ونفي صدق الدليل الشرعي"! ! تريد "ونفي وجود الدليل الشرعي"! وأنا أعرف أنك ستزعم أنها غلطةٌ مطبعية، ولكنّ المصحح الذي كنتَ تُلصق به كل الأغلاط في كتبك ترَك العملَ معك منذُ عهد بعيد! ثم تغالط وتقول عن حديث الشيطان الذي كان يسرق من تمر الصدقة "أنه ليس عامًّا بالنسبة لكل الناس"! ومَنْ ذا الذي زعم لك أنه "عامّ بالنسبة لكل الناس"؟ ! أتريد أن تقوّلني في مقالي ما لم أقل؟ ! إنك تنفي إمكان رؤية الجنّ نفيًا باتًّا عامًّا قاطعًا، وتستدل بالآية على غير وجهها، لتكذّب بها من يدَّعي أنه يراهم في بعض الأحيان، أي تجعل الآية دليلًا على الاستحالة الواقعية، لا الاستحالة العقلية، فهذا العمومُ في النفي يكفي في نقضِه ثبوتُ حادثة واحدة صحيحةٍ، وهذا هو موضع الاستدلال. * * * ثم قاصمةُ الظَّهْر، وتلك التي لا شَوَى لها: إنك منذُ درستَ السُنّة، والتزمت منهاجها الحقّ، كنتَ تأخذ مأخذَ الاجتهاد، وتسيرُ على الطريق السويّ، ولستُ أرمي إلى إنكار

هذا عليك - حتى لا تتأولَ كلامي فتوجَّهَه إلى غير ما أقصد - ولعلي كنتُ من أوائل الدعاة في مصر إلى هذا الصراط المستقيم، وما أظنك تنكر على ذلك، وقد فَخَرْتَ بذلك في مقالك، ونفيتَ عن نفسك تهمة التقليد لابن تيمية أو ابن القيّم أو غيرهما. فانظرْ ماذا فعلتَ؟ نقلتَ عن أحد الكتب، ولستُ أُسَمِّيه لك الآن، أن البيهقي روى في مناقب الشافعي: "عن الربيع بن سليمان، أنه سمع الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجنّ رَدَدْنا شهادتَه، إلا أن يكون نبيًّا". أفأستطيع أن أفهم من كلامك - بما أخذتَ به نفسَك من مذهب الاجتهاد - أنك لا تقلّد الإمامَ الشافعي في هذا القول، وأنْ قد أدَّاك اجتهادُك إلى مثل قوله، فالتزمتَه قولًا لك، تذهب إليه وترتضيه، وأنك جئت بكلمة الشافعي استئناسًا، لا استدلالًا؟ ! وهذا بديهيٌّ من معنى قولك، ومن سياق حكايتك، لا تستطيع منه تَفصِّيًا، ولا عنه نُكُوصًا. أفتدري إلامَ ينتهي بك هذا القول وهذا الرأي؟ إنك باختيارك إيّاه قولًا، وبارتضائك. إيَّاه مذهبًا - تحكمُ حكمًا لا رجوعَ لك عنه، ولا مناصَ منه: أن شيخ الإسلام ابن تيمية ممن لا تُقبل شهادتُه عندَك؛ لأنه ادَّعى رؤية الجن والكلامَ معهم، بصريح قوله الذي تتحدث عنه. وأعيذُ شيخَ الإسلام بالله منك ومن اجتهادك، ومن ادّعائك نصرتَه والذّيادَ عنه، بل هو أرفعُ عندنا قدرًا، وأعلى علمًا، وأصدق قولًا، من أن نأخذه بمثل هذه الكلمة التي نقلت عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، والذي قاله شيخ الإسلام وحكاه عن نفسه وعن غيره

ممن يثق به، نصدقهُ فيه، ولا نرى من دلالة الآية ما ينفيه، وأمامَنا السُّنةُ الصحيحة تؤيدُه في إمكان الرؤية، لا نقصدُ بذلك إلى العموم الذي تحرف إليه الكلام: "تيسُّر رؤية الجنّ، كرؤية المرئيَّات العادية" مما لم يقل به أحدٌ قطُّ فيما علمنا. فانظر أين ذهبتْ براءتُك إلى الله من سوء الظن بشيخ الإسلام، وبراءتُك من رميه بالكذب في صدر كلامك؟ ! * * * ما أجد كلمةً أصف بها عَمَلَكَ هذا، أحسن من كلمة قالها الطبري في تفسيره (¬1) يصوّر بها تناقض من يردّ عليه، قال: "ثم نَقَضَ ذلك من قوله، فأَسْرَعَ نَقْضَه، وهدَمَ ما بَنى، فأسرع هَدْمَهُ"! ! وتسألني - أيها الصديق القديم - أين كنتُ يومَ نقدتَ ابن تيمية في تعليقاتك على بعض كتبه؟ وسأُجِيبُكَ: كنتُ حاضرًا، أرى وأسمعُ، وأقرأ وأعجبُ، ولا أزعم أنك كنتَ مخطئًا في كل ما تقول، ولا مصيبًا في كل ما تنقد، وكان الصواب قليلًا نادرًا. وكنتُ أحاول التفاهم معك في بعض الحالات، فكنتَ تستقبلني بالهزء والسخرية، وقلب الجدِّ مزاحًا، كعادتك التي اصطنعتها منذ بضع سنين، وكنتُ أسكتُ، ولا أظنك ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 1/ 231، من طبعة دار المعارف، بتحقيقي مع أخي السيد محمود محمد شاكر.

تنسى ما كان من اشتراكنا في إخراج تهذيب السنن لابن القيم، وكيف كنتُ أعارضك في كثير مما تكتب من التعليقات، التي أتحرَّجُ من أن تُنْسَب إليّ بحكم اشتراكنا في العمل، حتى اضطُررنا إلى الاتفاق على أن يوقع كل واحد منَّا على ما يكتب، وكنتَ - في بعض الأحيان - إذا لم يعجبْك حديثٌ ثابت صحيح، ولم تستطع الحكم بضعفه، تذهبُ إلى تأويله بما يكاد يخرجه عن دلالة الألفاظ على المعاني، وكنتُ أنصحك بأن هذه الطريقة هي التي ننعاها وينعاها علماء السنة على أهل الرأي، فلم تكن ترجع عن اجتهادك، ثم ازداد الأمر حين كتبتَ هامشة معيَّنة، حاولتُ إقناعك ببطلانها، فأصررتَ على إثباتها، فعزمتُ عليك أن لا تفعل، وأعذرتُ إليك أنها إذا طُبعتْ في الكتاب نفضتُ يدي من الاشتراك في تصحيحه؛ إذْ لا أستطيع وضعَ اسمي على كتاب يُنْشَر فيه مثلُ هذا الكلام، فلم تعبأ بكلامي، فتركتُ العمل فيه. ولا أذكر أني كتبت مقالًا، أو نشرتُ شيئًا تتبّعتُ فيه سقَطَاتِكَ، كما زعمتَ ذلك ونسبتَه إليَّ. ولذلك لم يعجبني قولك عنّي: "فليُرحْ نفسَه من يحاول ذلك، ويذهبُ مُتَتَبعًا سقطات". وكنت أتمنى أن لا تقوله، فإنّ الصدق في غيره. * * * وبعدُ: فما كنتُ يومًا ما من المعوّقين لك، يُلْقُونَ في طريقك الغبار والأشواك! فقد نسبت إليّ ما لم يكن، بل كان غيرُه هو الصحيح،

فكنتُ أنصرُك في أكثر مواقفك، وأدفعُ عنك قادحِيك. وكنتُ - إذا أخذتُ عليك مأخذًا - نصحتُك به مواجهةً صريحةً، غيرَ ملتوية ولا متخاذلة، وكنت في أول أمرك تقبل نصحي، أو تقنعني بخطئي، ثم كانت عاقبةُ أمرك - معي على الأقل - أن لا تقبل نصحًا، وأن تركبَ رأسك، وتَسير في طريقك، فنسكتُ ولا نعوَّقك ولا نُلقي في طريقك غبارًا ولا شوكًا، بل لطالما أسأتَ إليّ، وأنا أعفو وأصفح، وأقابل إساءتك بالوفاء، والحرص على المودة القديمة التي كانتْ قائمة. ولماذا ألقي في طريقك الغبارَ والأشواك؟ وأنا أراك منذ أكثر من عشر سنوات واقفًا على هُوَّةٍ غطاؤها لا يكاد يَتَمَاسَكُ، مما تُحَمَّله من أعباء، وتصنع به من أحداث. وأنا أدِينُك بخطّك، لا بكلامي ولا بكلام غيري، وقد أحْكَمْتُ لك الحِكْمَةَ وزمامُها بيدي، وكان الظنُّ بك أن لا تضرب هذه اليدَ، إن [لم] يكن وفاءً للصداقة القديمة، فخوفًا أن يُفْلِتَ الزمامُ، ولكنَّك لا تُبْقِي ولا تَذَر. هدانا الله جميعًا إلى سبل السلام، ووفّقنا للحق فيما نقول ونعمل، وجنَّبنا مواقف الزلل، ومهاويَ الأهواء، ونَزَوَاتِ الشيطان، وجعلنا من الهادين المهديّين، والسلام. الإثنين، 8 شوال، سنة 1374، 30 مايو، سنة 1955. كتبه أحمد محمد شاكر عفا الله عنه بمنه

بيني وبين أخي الشيخ أحمد شاكر

بيني وبين أخي الشيخ أحمد شاكر (*) {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43] لقد فزع إخواني - الذين هم إخوان الشيخ أحمد شاكر - أشد الفزع حين قرؤوا ما كتب، وحزنوا أشد الحزن، وسألوني في لهفة وحسرة: ماذا بينك وبين أخي العمر، مما ولد هذه الفتنة؟ فأقول وأؤكد القول، أن الذي بيني وبين أخي العمر: هو الذي عليه عشنا ما عشناه، في ظل هذا الإخاء، المتين العرى، الوثيق الأواصر؛ لأنه نسج - بحمد الله - على نول العلم، وحِيك من خيوط مذهب السلف الصالح - رضي الله عنهم - واليد التي نسجته وحاكته يد الكتاب والسنة، ونحن بحمد الله، ورغم أنف كل حاسد وحاقد - لا نزال نكتسي بهذا الثوب الكريم، وننعم بزينته وتقاه - ونسأل الله سبحانه أن يديم علينا ذلك الثوب سابغًا، حتى نلقاه على ذلك، ولن نترك ثغرة لأي ممن حاول أن يسعى بالوقيعة بتأجيج نار الفتنة. وأخي الشيخ أحمد شاكر، يعلم علم اليقين: أن أخاه حامد أعرف الناس بفضله، وأشكر الناس لجميله، وأصبرهم على صداقته، ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، المجلد 19، العددان 11، 12 ذي القعدة وذي الحجة 1374 هـ.

وأحفظهم لعهده، وأحرصهم على وده، وأبعدهم عن مساءته، وأسرعهم إلى مسرته، ومهما نزغ الشيطان بيني وبينه، فالفيئة إلى معقل الود - إن شاء الله - سريعة والإخاء السلفي كفيل بالإسراع بهذه الفيئة، وأرجو من ربي سبحانه أن يجعل هذه خلقي مع كل أخ سلفي ينقدني، مهما طغى قلمه، واشتط نقده، ولن أزكي نفسي، فأزعم - كما زعم عني خطأ - أني أعلم إخواني، أو أفقهم في دين الله؛ فإني أعرف نفسي وأعرف: أنها دائمًّا بحاجة إلى علم جديد، وآداب نبوية جديدة والله عليم بذات الصدور (وكل الناس خطاء وخير الخطائين التوابون). وعُتبي على أخي الشيخ أحمد شاكر: أنه أساء الظن بأخي العمر في الله، ونسبه إلى ما يعرف هو أنه أبعد الناس عنه، وأكره الناس له - وبالأخص مع أخيه الذي يحفظ عهده، ويحرص على إخائه ووده - فهو يعرف أنى أبغض الظلم، بل لا أستطيعه، ولا أحسنه، فضلًا عن أن أظلم أخي الشيخ أحمد شاكر، فلعله هو الذي ظلم نفسه فتعجل وكتب، وكان الأحرى أن يتريث، وهو القاضي الخبير. فلقد جاءتني كلمات من غير الواحد من إخواني أنصار السنة، كما جاءني منه، ينبهونني فيها إلى ما نبهني إليه، في شأن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فكتبت كلمتي، وأجملت فيها القول، ليأخذ كل منهم جوابه، ولذا لم أذكر اسم واحد منهم؛ لأنه لا حاجة لأحد منهم إلى ذكر اسمه، فإنما كتبوا للعلم والحق، لا

لأنفسهم، فكانت غضبة - صعيدية - من أخي الشيخ أحمد شاكر - غفر الله لي وله - اتخذ منها الشيطان سبيلًا إلى أن ينزغ بيني وبينه، وقد عرف ذلك أخي فاستغفر. والله يغفر لي وله وللمؤمنين. وأخيرًا: فليعلم الجميع: أن ليس بيني وبين أخي الشيخ أحمد إلّا الرجوع الدائم - إن شاء الله - إلى الله وإلى رسوله، وأني شديد الحرص على سد الثغور، وتوفير الجهود، وتركيزها لتوجيهها إلى أعداء الله ورسوله؛ فهم أعداؤنا. وبالأخص في هذه الحقبة من حياتنا. وإني لأجل هذا - لحريص أشد الحرص على التحقق يقول الله سبحانه لعباده المؤمنين: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله سبحانه: الهدى والإيمان والثبات والسداد والرشد، والتواصي بالحق والصبر، وصلى الله وسلم على إمامنا محمد وعلى آله. * * *

تعقيب لفضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر

تعقيب لفضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر أما وقد عتب عليَّ الأخ الشيخ حامد الفقي فيما كتبت، فله العتبى، وما كنت لأرضى أن يكون اللدد في الخصومة، بل ما أرضى هذا بيني وبين أي إنسان، وليس من اليسير هدم الصداقة القديمة والأخوة في الله، وفي سبيل نصر الإسلام والحرب على أعدائه. ولكني أظن، بل أوقن، أن الأخ الشيخ حامد لو نظر للأمر من زاوية أخرى ومن وجهة نظري، ولو استعرض الظروف التي ألجأتني للكتابة، والتي حكمت عليَّ أن أقف منه هذا الموقف. لعذرني بعض العذر، ولعلم أن الأمر لم يكن غضبة (صعيدية)، بل كان دفعًا لظلم ظننته وقع، أما وقد تبرأ منه فالحمد لله على هذا البيان. وكان من عذري فيما رأيت إذا ذاك: أن الحديث دار بيني وبينه في شأن مقالي لينشره في المجلة، وكان منه الإباء. وكان أقصى ما أظن بشأن مقالي، بل أقساه: أن يطويه فلا ينشره: وكان الحديث مناسبة جيدة، بل موجبًا عليه أن يخبرني بأن قد جاءته كلمات أخر من غير واحد من إخواننا في هذا الشأن، إذن لما ظننت شيئًا، ولما فهمت أن مقاله موجه إليّ، أما ولم يفعل، فقد كان في كل العذر إن فهمت أن مقاله موجه إليّ وحدي خصوصًا وأنه رد على كل الأبحاث

التي أشرت إليها في مقالي على ترتيبها تقريبًا، ثم زاد يقيني بذلك أن كنا معًا يوم عيد الفطر مساءً فلم يخبرني عما كتب، مع توافر الدواعي لإخباري، ثم أجد مقاله في المجلة صبيحة اليوم التالي لعيد الفطر (2 شوال سنة 1374) حين جاءت المجلة بالبريد، ثم لم يحدثني بعد ذلك في شأن كلمته، وأنه لا يقصدني وحدي، بل يرد ردًّا عامًّا على ما جاءه فأنى لي العلم بذلك؟ ! ولذلك قلت له، وأنا صادق فيما أقول: لو أنه أخبرني بشيء من هذا ما كتبت، مهما تكن القرائن والدلائل على أنه يرد على كلمتي دون نشرها. فهذه بعض الملابسات التي حفزتني على الكتابة، ولم يكن قط أن أحدًا حاول أن يسعى بيننا بالوقيعة وتأجيج نار الفتنة، وما كنت أنا ممن يخضع لهذه المؤثرات إن وجدت في هذا الظرف، وهو يعلم علم اليقين أن قد وجدت محاولات من هذا المعني دهرًا طويلًا فلم تؤثر علي، ولم تؤثر عليه، والحمد لله على كل حال، ولو كان لمثل هذا أثر، لما بقيت الصداقة والأخوة بضع سنين. وقد بقيت ثابتة راسخة بضعًا وأربعين سنة، فليطمئن إخواننا على ما بيننا. وأما الجدل العلمي المبني على اتباع الدليل، وإحقاق الحق، فلا أثر له بين الإخوان مهما تختلف آرائهم ووجهات نظرهم، وكلنا طالب علم، وكلنا باحث عن الحق، وكلنا يهتدي بهدي الكتاب والسنة ما استطاع، وكلنا حسن النية والقصد، إن شاء الله. وما أكثر ما تصاولنا في العلم واختلفنا، وما أكثر ما بحثنا وتشعبت آراؤنا،

لمقصد واحد، وعلى هدي واحد، فمنا المخطئ ومنا المصيب، وكثيرًا ما يكون للمخطئ فيئة؛ إذ يستضيء بنور الله، ويهتدي بهدي كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. نسأل الله أن يبصرنا طريق الهدى، وسبيل الرشاد، وأن يوفقنا للاستمساك بما أمرنا به، وأن يجنبنا الزلل، ويعصمنا من الخطل والضلال، وأن يجعلنا هادين مهدين، موفقين للعلم النافع والعمل الصالح؛ إنه سميع الدعاء. * * *

الدفاع عن الحق

الدفاع عن الحق 1 - كلمة الحق 2 - صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام 3 - عبد العزيز فهمي باشا: وعداؤه للعربية 4 - الإيمانُ قَيْدُ الْفَتْكِ 5 - على الطريقة الأمريكية 6 - خطاب مفتوح إلى شيخ الأزهر 7 - خواطر 8 - جرأة عجيبة على تكذيب القرآن

كلمة الحق

كلمة الحق (*) ما أقل ما قلنا (كلمة الحق) في مواقف الرجال، وما أكثر ما قصرنا في ذلك، إن لم يكن خوفًا فضعفًا، ونستغفر الله وأرى أن قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا، كفارة عما سلف من تقصير، وعما أسلفت من ذنوب، ليس لها إلّا عفو الله ورحمته والعمر يجري بنا سريعًا والحياة توشك أن تبلغ منتهاها. وأرى أن قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا، وبلادنا، بلاد الإسلام، تنحدر في مجرى السيل إلى هُوَّةٍ لا قرار لها، هُوَّة الإلحاد والإباحية والانحلال، فإن لم نقف منهم موقف النذير، وإن لم نأخذ بحُجَزِهم عن النار، انحدرنا معهم، وأصابنا من عقابيل ذلك ما يصيبهم، وكان علينا من الإثم أضعاف ما حملوا. ذلك بأن الله أخذ علينا ميثاق {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (¬1)، وذلك بأن الله ضرب لنا المثل بأشقى الأمم، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} (¬2). ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس عشر، العدد الأول محرم 1370. (¬1) آل عمران: 187. (¬2) المائدة: 78، 79.

وذلك بأن الله وصفنا - معشر المسلمين - بأننا خير الأمم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬1). فإن فقدنا ما جعلنا الله به خير الأمم، كنا كمثل أشقاها، وليس من منزلة هناك بينهما. وذلك بأن الله يقول: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (¬2). وذلك بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده؛ فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق، أو يذكر بعظيم" (¬3). وذلك بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحقرن أحدكم نفسه. قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله - عز وجل - له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس. فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى" (¬4). نريد أن نقول (كلمة الحق) في شؤون المسلمين كلها، نريد أن ننافح عن الإسلام ما استطعنا، بالقول الفصل، والكلمة الصريحة، لا ¬

_ (¬1) آل عمران: 110. (¬2) الأحزاب: 39. (¬3) رواه أحمد في المسند، 11494 بإسناد صحيح. (¬4) رواه ابن ماجه 2/ 252 بإسناد صحيح.

نخشى فيما نقول أحدًا إلَّا الله؛ إذ نقول ما نقول في حدود ما أذن الله لنا به، بل ما أوجب عليه أن نقوله بهدي كتاب ربنا وسنة رسوله. نريد أن نحارب الوثنية الحديثة والشرك الحديث، اللذين شاعا في بلادنا وفي أكثر بلاد الإسلام، تقليدًا لأوربة الوثنية الملحدة، كما حارب سلفنا الصالح الوثنية القديمة والشرك القديم. نريد أن ننافح عن القرآن، وقد اعتاد الناس أن يلعبوا بكتاب الله بين أظهرنا، فمن متناوّل لآياته غير مؤمن به، يريد يقسرها: على غير ما يدل عليه صريح اللفظ في كلام العرب، حتى يوافق ما آمن به، أو ما أشربته نفسه ومن عقائد أوربة ووثنيتها وإلحادها، أو يقربه إلى عاداتهم وآدابهم - إن كانت لهم آداب - ليجعل الإسلام دينًا عصريًّا في نظره ونظر ساداته الذين ارتضع لبانهم أو ربي في أحضانهم. ومن منكر لكل شيء من عالم الغيب، فلا يفتأ يحاور ويداور، ليجعل عالم الغيب كله موافقًا لظواهر ما رأى من سنن الكون، إن كان يرى أو على الأصح لما فهم أن أوربة ترى! ! نعم، لا بأس عليه - عنده - أن يؤمن بشيء مما وراء المادة إن أثبته السادة الأوربيون، ولو كان من خرافات استحضار الأرواح! ! ومن جاهل لا يفقه في الإسلام شيئًا، ثم لا يستحي أن يتلاعب بقراءات القرآن وألفاظه المعجزة السامية، فيكذب كل الأئمة والحفاظ فيما حفظوا ورووا. تقليدًا لعصبية الإفرنج التي يريدون بها أن يهدموا هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ليجعلوه مثل ما لديهم من كتب.

وهكذا مما نرى وترون. نريد أن نحفظ أعراض المسلمين، وأن نحارب، ما أحدث (النسوان) وأنصار (النسوان) من المنكرات الإباحية والمجون والفجور والدعارة، هؤلاء (النسوان) اللائى ليس لهن رجال إلا رجال (يشبهن) الرجال! ! هذه الحركة النسائية الماجنة، التي يتزعمها المجددون وأشباه المجددين، والمخنثون من الرجال، والمترجلات من النساء، التي يهدمون بها كل خلق كريم، يتسابق وأولئك وهؤلاء إلى الشهوات، وإلى الشهوات فقط. نريد أن ندعو الصالحين من المؤمنين، والصالحات من المؤمنات: الذين بقي في نفوسهم الحفاظ والغيرة ومقومات الرجولة، واللائي بقي في نفوسهن الحياء والعفة والتصون إلى العمل الجدي الحازم على إرجاع المرأة المسلمة إلى خدرها الإسلامي المصون، إلى حجابها الذي أمر الله به ورسوله، طوعًا أو كرهًا. نريد أن نثابر على ما دعونا وندعو إليه من العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله في قضائنا كله، في كل بلاد الإسلام، وهدم الطاغوت الإفرنجي الذي ضرب على المسلمين في عقر دارهم في صورة قوانين، والله تعالى يقول {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ

صُدُودًا (61)} (¬1). ثم يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬2). نريد أن نتحدث في السياسة، السياسة العليا للأمم الإسلامية، التي تجعلهم (أمة واحدة، كما وصفهم الله في كتابه، نسموا بها على بدعة القوميات، وعلى أهواء الأحزاب نريد أن نبصر المسلمين وزعماءهم بموقعهم من هذه الدنيا بين الأمم، وتكالب الأمم عليهم بغيًا وعدوًا، وعصبية وكراهية الإسلام أولاً وقبل كل شيء. نريد أن نعمل على تحرير عقول المسلمين وقلوبهم من روح التهتك والإباحية، ومن روح التمرد والإلحاد، وأن نريهم أثر ذلك في أوربة وأمريكا، اللتين يقلدانهما تقليد القردة، وأن نريهم أثر ذلك في أنفسهم وأخلاقهم ودينهم. نريد أن نحارب النفاق والمجاملات الكاذبة، التي اصطنعها كتاب هذا العصر أو أكثرهم فيما يكتبون وينصحون! يظنون أن هذا من حسن السياسة، ومن الدعوة إلى الحق (بالحكمة والموعظة الحسنة) اللتين أمر الله بهما! وما كان هذا منهما قط، وإنما هو الضعف والاستخذاء والملق والحرص على عرض الحياة الدنيا. وما نريد بهذا أن نكون سفهاء أو شتامين أو منفرين معاذ الله ¬

_ (¬1) النساء: 60, 61. (¬2) النساء: 65.

"وليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء" كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ولكننا يزيد أن نقول الحق واضحًا غير ملتو، وأن نصف الأشياء بأوصافها الصحيحة، بأحسن عبارة نستطيعها، ولكننا نربأ بأنفسنا وبإخواننا، أن نصف رجل يعلن عداءه للإسلام، أو يرفض شريعة الله ورسوله - مثلًا - بأنه (صديقنا) والله سبحانه نهانا عن ذلك نهيًا حازمًا في كتابه، ونربأ بأنفسنا، أن نضعف ونستخذي فنصف أمة من الأمم تضرب المسلمين بالحديد والنار، وتهتك أعراضهم وتنتهب أموالهم، بأنها أمة (صديقة) أو بأنها أمة (الحرية والنور) إذا كان من فعلها مع إخواننا أنها أمة (الاستعباد والنار)! وأمثال ذلك مما يرى القارئ ويسمع كل يوم، من علمائنا، ومن كبرائنا وزعمائنا ووزرائنا! والله المستعان. نريد أن نمهد للمسلمين سبيل العزة التي جعلها الله لهم ومن حقهم إذا اتصفوا بما وصفهم به: أن يكونوا (مؤمنين) نريد أن نوقظهم وندعوهم إلى دينهم بهذا الصوت الضعيف صوت مجلتنا هذه المتواضعة، ولكننا نرجو أن يدوي هذا الصوت الضعيف يومًا ما، فيملأ العالم الإسلامي، ويبلغ أطراف الأرض، بما اعتزمنا من نية صادقة، نرجو أن تكون خالصة لله وحده، جهادًا في سبيل الله، إن شاء الله. فإن عجزنا أو ذهبنا، فلن يعدم الإسلام رجلًا أو رجالًا خير منا، يرفعون هذا اللواء، فلا يزال خفاقًا إلى السماء بإذن الله؟ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3/ 138 من شرح المباركفوري)، وأحمد في المسند 3839، 3948.

صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام

صُحُف الهِلاَل والدّعَاية ضِد الإسلام (*) - 1 - نشرت صحيفة الفكاهة بعددها رقم 50 ما نصه: "تشاجر اثنان في الزنكلون، فسب أحدهما دين الآخر، وقدم هذا الأخير طلبًا إلى المحكمة الشرعية بأن خصمه قد ارتد. فوافقت المحكمة، وأخرجته من الإسلام وفصلت بينه وبين زوجته. وهذا اعتداء من المحكمة الشرعية على اختصاص المحاكم الأهلية التي تنظر وتعاقب من يسب الدين، فأي عقاب تعاقب به الحقانية هذا القاضي الشرعي الذي لا يبالي بهدم عائلة، ولو كان هذا العمل من غير اختصاصه". فلما قرأتها أرسلت لها كلمة أبين فيها خطأها في هذا النقد المستنكر، وطلبت منها نشرها. وبعد أيام ورد لي خطاب خاص بإمضاء صاحبيها، ولم ينشرا مقالي، وهذا حقهما. فرأيت أن أنشر كلمتي والجواب عليها في جريدة (الفتح)؛ ليرى الناس كيف يحترم ضيوفنا عادات هذه البلاد، ودينها الرسمي، وقضاءها الشرعي الذي ¬

_ (*) مجلة الفتح، العدد الثاني والسبعون، الخميس، 30 جمادى الأولى، سنة 1346 هـ - 24 نوفمبر 1927 م.

هو أصل القضاء في هذا البلد. وهذا نص المقال والكتاب: حضرة صاحب الفكاهة: بعد السلام قرأت في العدد 50 بتاريخ 9 نوفمبر سنة 1927 من الفكاهة تعرضًا لحكم زعمت الجرائد؛ أنه صدر من محكمة شرعية بالتفريق بين رجل سب الدين وبين زوجه. وليس فيما كتبتم شيء من النقد القانوني أو الشرعي، وإنما هو اعتداء صرف على كرامة القضاء واستقلاله، وتعرض بالسخط لأحكام الشريعة الإسلامية في بلد أهله مسلمون ودينه الرسمي الإسلام. وقد لاحظت مرارًا في صحفكم (الهلال، وكل شيء، والفكاهة) كتابات تمس الدين الإسلامي وتهزأ بعلماء الإسلام، ولاحظ هذا غيري كثير من الناس، وآلمنا أشد الألم لصدوره من جرائد مسيحية، ليس لها أن تتعرض لدين الإسلام، وأظنكم لم تروا جريدة إسلامية في مصر تكلمت بكلمة تمس الدين المسيحي. نعم إن في بلدنا هذا كثيرًا من الملحدين الذين تسموا بأسماء المسلمين، وهم يقولون كثيرًا، ولكن الناس مهما سكتوا عن أقوالهم أو سفهوا آراءهم فإنهم لا يحتملون المساس بدينهم من غيرهم، هذا من جهة المبدأ في الكتابة. وأما من جهة الموضوع، فإنه يظهر أن كاتب الكلمة في الفكاهة لا يعرف الشريعة الإسلامية، ولا القوانين الوضعية، ولا قواعد

الاختصاص في المحاكم، ولا يشعر في نفسه بعاطفة احترام القضاء ولو أخطأ. فالذي يسب الدين الإسلامي هو مرتد وخارج عن الإسلام، ويجب التفريق بينه وبين زوجه في الشريعة، وإذا حكم القاضي الشرعي بذلك، فإنه قد أدى ما وجب عليه ولم يتعد اختصاصه. والعقوبة المفروضة في قانون العقوبات شيء آخر. ولئن كان حكمه خطأ لسبب من الأسباب، فسبيله أن يطعن المحكوم عليه بالطرق الرسمية من معارضة واستئناف وغيرهما. وحتى لو كان القاضي مخطئًا ومتعديًا على اختصاص غيره، فليس للكاتب أي وجه في طلبه أن تعاقب الحقانية القاضي الذي حكم به، إلا إن كان القاضي متأثرًا بأشياء خارجة عن موضوع القضية، والخطأ القضائي المبني على اجتهاد في الرأي لا عقوبة عليه؛ فالقاضي غير معصوم، وها هي المحاكم الشرعية والأهلية والمختلطة كثيرًا ما يتعدى بعضها اختصاصه، وما رأينا ولا سمعنا أن قاضيًا امن قضاتها عوقب لشيء من ذلك، ولم نر جريدة من الجرائد كتبت كلمة تمس قاضيًا أهليًّا أو مختلطًا؛ لخروجه عن دائرة اختصاصه. ويظهر أن هذا خاص عندكم بالمحاكم الشرعية لتنفيذها أحكام الشرعية الإسلامية. ثم إن هذه الواقعة التي رواها مكاتب الأهرام بالزنكلون لم نسمع بحصولها في دائرة مديرية الشرقية، ولا ندري من أين أتى بها

حضرته، وكنا نود من الصحافة الشريفة النابهة أن تتحرى الوقائع قبل نقدها والتعليق عليها. وإني أرجو أن تنشروا كلمتي هذه بنصها في جريدتكم وأن تتقبلوا مني التحية؟ وهذا نص الجواب الذي جاءني صادرًا من إدارة الهلال: حضرة الفاضل الأستاذ أحمد محمد شاكر تحية، واحترامًا. وبعد: ملحوظة فقد أخذت خطابكم وشكرت لكم عنايتكم. على أني قد أسفت لما تبادر إلى ذهنكم من أن مجلاتنا تنشر كتابات عن الدين الإسلامي، وتهزأ بعلماء المسلمين؛ فهذا أبعد شيء عن خطتنا منذ إنشاء الهلال. على أننا مع رغبتنا الأكيدة في تجنب هذه الموضوعات لا يسعنا - ومجلاتنا تتناول الحوادث الجارية والمباحث الاجتماعية التي يتحدث عنها الناس - إلا أن نشير إلى ما يجرى في هذا البلد، ولما كان معظم محرري مجلاتنا من المسلمين؛ فهم بطبيعة الحال يبدون ما يعنّ لهم من الأفكار في هذه الشؤون كما يفعل الكتاب في جميع الجرائد والمجلات السيارة بصرف النظر عن دين أصحابها. وقد تكون أفكارهم مخالفة لأفكار فريق من رجال الدين فإرضاؤهم جميعًا غير ميسور. وأنتم تعلمون أن مجال الشرح والتفسير واسع جدًّا يختلف فيه العلماء أنفسهم اختلافًا كبيرًا.

وهذا وأننا نكرر لكم الشكر على ما أبديتم من الملاحظات، كما نكرر ونقرر بعدنا عن كل غرض ورغبتنا الأكيدة في تجنب كل ما يمس الدين أو رجال الدين. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. أميل وشكري زيدان * * * قال الشيخ: ولقد ترددت بعد أن جاء هذا الخطاب في نشره ونشر مقالي، ولكني رأيت فيه أشياء تحتاج إلى إيضاح. وأراد الله أن أجد لي من قلم (الفكاهة) حجة أقيمها عليها، لأُري إخواني الفرق بين نقدها للقضاء الأهلي وبين نقضها القضاء الشرعي الذي يفصل بين الناس بالشريعة الإسلامية الغراء. فإنها نشرت في العدد 51 ما نصه: القضاء حر فيما يحكم به، ولكن للأحكام آثارها في الجمهور وفي النظام الاجتماعي، وقد حكم بإحالة الأستاذ محمود عزمي المحرر في السياسة إلى محكمة الجنايات لاتهامه بالعيب في ذات الملك" ... إلخ. إذن فالقاضي الأهلي إذا خالف رأي (الفكاهة) حر فيما يحكم به، وأما القاضي الشرعي فإنه يطلب من وزارة الحقانية عقابه. ألهذا في نظر العقلاء معنى إلا ما قلناه من أن هذه الصحف لا

تبغي إلا التعرض لما كان مصبوغًا بصبغة الإسلام! يعتذر أصحاب الصحيفة في كتابهم؛ بأن محرري مجلاتهم من المسلمين! وما لنا ولهذا، إنا لا نرى أمامنا إلا صحفًا بأسمائهم، ويزعمون أنها لا شأن لها بالأديان ولم تكن أنشئت للتبشير، فما بالهم كلما عرض لهم شيء يتعلق بالإسلام نبزوه بألسنتهم وتناولته أقلامهم! لو أنهم أعلنوا أن صحفهم دينية جعلت للمناظرة بين الأديان، لما عبأنا بالرد عليهم - فنحن أشد الناس مقتًا للجدل حول الأديان - ولما قرأ صحفهم أحد من المسلمين. والمدهش أن يقارنوا بين بحث في اختصاص القاضي والمحافظة على كرامة القضاء، وبين أفكار محرري صحفهم (وقد تكون مخالفة لأفكار فريق من رجال الدين فإرضاؤهم جميعًا غير ميسور). لا لا أيها الكُتَّاب، إنما ننعي عليكم طغيان أقلامكم وفلتات ألسنتكم، لا مخالفة آرائكم لآرائنا، ولا نبحث عن رضانا أو رضا غيرنا، وليست هذه المسألة مما يخالف فيه أحد من المسلمين فضلًا عن رجال الدين. إنا لا نريد من صحف الهلال أن تكون نصيرة للإسلام، ولكنا نرجوها أن تبعد أقلام محرريها عن التعرض له في كتاباتها، وأن تنفذ رغبتهم الأكيدة (في تجنب كل ما يمس الدين أو رجال الدين) كما وعد أصحابها، ونكتفي بهذا الوعد منهم ونطلب منها أن تنشر اعتذارًا عن التعرض للقضاء؛ لأن طلب عقاب القاضي الذي أصدر الحكم

صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام 2

- في ظنهم - يعتبر إهانة للقضاء الشرعي كله، وهذا الذي نصرُّ على طلبه منهم حرصًا منا على كرامة القضاء الإسلامي، وإني أتمنى لو كانت الحادثة وقعت فعلا وحكم فيها القضاء، إذن لكان للقاضي شأن آخر مع (الفكاهة). * * * - 2 - قال الشيخ (¬1): يظهر أن "صحف الهلال" لا يروقها أن ترى في مصر مظهرًا من مظاهر الإسلام، وهي ترى أن لواء الإسلام الآن بيد الأزهر وعلمائه، والمحاكم الشرعية وموظفيها، وأنهم القائمون بإحياء شعائره، والمظهرون سلطانه، والحافظون لما بقي من عزه ومجده في مصر تحت رعاية حضرة صاحب الجلالة نصير الدين ورافع أعلامه "مولانا الملك فؤاد" كبير ملوك الشرق الإسلامي أيده الله بتأييده. إن صحف الهلال ترى الأزهر والمحاكم الشرعية قذًى في أعين لا ندري كيف تبصر، وشجًى في حلق جمعيات التبشير وصحف الدعاية، فلا تفتأ تناوئهما بالحرب وتنادي - من وجودهما على ظهر الأرض - بالويل والثبور. ¬

_ (¬1) مجلة الفتح.

فما جاء ذكر للأزهر أو للمحاكم الشرعية إلا وانبرت ألسنتها تفري الأعراض وتزن بالسوء، وحاولت أفواهها أن تطفئ نورَ الله {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8]- باسم الإصلاح والغيرة على مرافق البلد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 11، 12]. ولقد كنا نود أن نحبس أقلامنا عن مساجلتهم في ميدان، لولا أن خشينا فتنتهم لشبابنا وناشئتنا، فيملؤون قلوبهم الطاهرة حقدًا وضغنًا على دينهم، وهو عنوان مجدهم، وهاديهم إلى سبيل السعادة في الدنيا والآخرة. يعتذرون بأن التعرض للدين الإسلامي والعلماء أبعد شيء عن خطتهم منذ إنشاء الهلال. قد يكون هذا حقًّا في حياة مؤسس الهلال، فقد كان فيما نرى حازمًا يحسن البعد عن مزالق الأقدام. ومهما قلنا عن أغلاطه في تاريخ الإسلام وفي كتبه الأخرى، فلن نبيح لأنفسنا الحكم على خفايا الصدور، ولن نتهمه بالقصد إلى ما أخطأ في نسبته من سيئات للمسلمين، مما نبه عليه في حينه كبار رجال العلم في الإسلام. وأما خَلَفه مِنْ بعده فقد رسموا لأنفسهم طريقًا جديدًا - لأنهم مجددون - ورأوا أن يغيروا ما اختطه سلفهم لنفسه ثم لهم، وأرادوا أن ينشؤوا صحفًا أسبوعية إلى جانب هلالهم تدخل على العاتق في خدرها - حتى تخرجها منه - ويقرؤها الطالب والأستاذ والطفل والشيخ، تستهوي قلوب الناس بما تظهر من صور مكتوبة وأخرى

مصورة تثير من شهوات الشباب المتقد، وتنشر في الملأ أخلاقًا وآدابًا جاء الإسلام - وهو الهُدى ودين الحق - حربًا على كثير منها، وخشوا أن يثوب الناس إلى رشدهم ويرجعو إلى هدى ربهم بإرشاد علماء الإسلام، فلم يجدوا لهم سبيلًا إلا أن يدخلوا في أذهان قرائهم أن هؤلاء العلماء جامدون متعصبون رجعيون، وأنهم هم المجددون المصلحون. فكلما لاح لهم مقصد رموا الشيوخ والأزهر والمحاكم الشرعية بما تجود به آدابهم، وكانوا لا يكادون يصرحون بما تضمنته قلوبهم إلّا لمامًا. وقد رددنا عليهم قولهم في محكمة شرعية في المقال السابق، وأظهرنا ما يكنون في صدورهم نحو المحاكم الشرعية، وأقمنا الحجة عليهم من نقدهم لمحكمة أهلية بجوار طعنهم في الشرعية. وها هم الآن أبدوا لنا عن صفحتهم جوابًا عن مقالنا، فكتب كاتبهم في مجلة (كل شيء) في العدد 106 بتاريخ 21 نوفمبر سنة 1927 كلمة هذا نصها: (لا مؤاخذة في وزارة الحقانية لجنة تنظر في حال المحاكم الشرعية وتحاول وضع نظام لإصلاحها، أو تحاول إصلاح نظامها الحاضر، ولست أريد أن أقول إن نظام هذه المحاكم سيئ؛ فإن هذه الحقيقة الأليمة معروفة يعلمها كل إنسان، فالذي أريد أن أقوله ولا مؤاخذة هو ... إلغاء ... هذه ... المحاكم. وأضع إصبعي في عين من يدعي أني أعتدي على الشرع؛ لأني

أغار على الشرع أكثر منه ومن أبيه ومن أهله ومن أهل بلده جميعًا، ولكن أريد أن يتخلص الشرع من سوء الإدارة. عجز المصلحون عن إصلاح هذه المحاكم ووضعوا (أصباعهم في الشق)، ولست أدري ما المانع الشرعي من إلغائها وإحالة أعمالها إلى المحاكم الأهلية في جلسات يكون القاضي مسلمًا ويحضر معه شيخ من مشايخ القضاء الشرعي، إلى أن تتوسع مدرسة الحقوق في تعليم الشريعة الإسلامية، ويومئذ يلغى عمل الشيخ الذي يحضر مع قاضي المحكمة الأهلية هذا مع الاعتراف بأن بين القضاة الشرعيين رجالًا يستحقون الإعجاب بهم، وعددهم قليل لا يمنع شر هذا النظام. هل المسلم لا يكون متفقهًا في دينه إذا كان أفنديًّا أو بيكًا). اهـ. هذه كلمة (كل شيء) بألفاظها. وإني قبل أن أرد عليها كلمتها، أرى من الواجب علي أن أعتذر لقراء (الفتح) الكرام من وضع مثل هذه القطعة بين أيديهم بنشرها في هذه الصحيفة الشريفة. فما اعتادوا أن يروا فيها شيئًا من هذا الطراز، ولكن الضرورة ملجئة. هل رأيتم أن صحف الهلال لا تريد أن ترى المحاكم الشرعية قائمة في البلد، بل ولا هؤلاء الشيوخ؟ وفي ظني أنها لو استطاعت أن تزيلهم من هذا الوجود لأزالتهم؛ ليرضى عنها المجددون ومن

ورائهم جمعيات التبشير، أستغفر الله، بل جمعية الشبان المسيحية. هل رأيتم هذا الكاتب الأديب الذي يطعن في المحاكم الشرعية جملة ويذكر الآباء والأهل في مقال ينشر بجريدة سيارة أسبوعية بألفاظ السوقة؟ ! يريد حضرته أن يتخلص الشرع من سوء الإدارة، يعني أنه يطعن في أشخاص جميع القضاة، وليس طعنه فيهم إلا من قبل أنهم شيوخ مسلمون! وها هي المحاكم الشرعية قائمة بيننا الآن، فهل رأى الناس في قضاتها من يرتكبون المنكرات جهارًا، ويقتلون الأخلاق الفاضلة في وضح النهار؟ نحن لا يهمنا طلب الكاتب إلغاء هذه المحاكم؛ فإننا من أعرف الناس بها وبما فيها، ونعلم أنه لا يجرؤ شخص مسؤول في مصر على اقتراح هذا الإلغاء، ونعلم أن المسلمين من ورائها يحوطونها بقلوبهم، ويذبون عنها بما تملك أيديهم، فإنها البقية الباقية من السلطان للشريعة الإسلامية. لسنا ننكر أن في بعض النظم في المحاكم ما يشكوا منه كثير من الناس، وبخاصة إذا كانوا ذوي غرض، وهذه الشكوى ليست من المحاكم الشرعية وحدها، بل هي أيضًا في المحاكم الأهلية والمختلطة، ولكن طرق الدعاية والنشر تجعل الأصوات لا ترتفع إلا

بما يمس المحاكم الشرعية، ولكنا نريد من هؤلاء الكتاب أن يتأدبوا بالأخلاق الفاضلة، ويكبحوا من جماح أقلامهم، وليضعوا في قلوبهم ما شاؤوا، فإن للكتابة آدابًا وللنقد حدودًا. وعفا الله عن سديف الشاعر حيث يقول: لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن تحت الضلوع داء دويا إن هؤلاء القوم أبعد الناس عن الأزهر والمحاكم الشرعية والعلماء، ليس لهم أبناء ولا إخوان يدرسون في المعاهد، وليس لواحد منهم صلة بمحكمة شرعية، ومع هذا فإنهم قد نصبوا أنفسهم لإصلاح هذا الأزهر، وهذه المحاكم، كأنهم لم يجدوا منكرًا إلا فيها، وكأنهم ألصق الناس بها، ولو خلصت نياتهم وتأدبت أقلامهم لتقبلنا منهم ذلك، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيثما وجدها. في مصر بجوار المسلمين نصارى ويهود من كل الطوائف والمذاهب، وفيهم رجال لأديانهم ومجالس مالية تحكم بينهم - وهم أمس الناس بها رحما - فما بالهم لا ينقدون واحدًا من رجالها ولا يتعرضون لشيء من نظمها وتعاليمها وأحكامها - وفي كثير منها قول لقائل - أفكان هؤلاء منزهين عن الخطأ؟ وكانت نظمهم وتعاليمهم في الذروة العليا من الإتقان والعدالة، لا مغمز فيها لطاعن؟ أم هو الغرض والهوى والعصبية توقد نارها في قلوب جمعيات التبشير {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8]. * * *

صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام 3

- 3 - قال الشيخ (¬1): عز على صحف الهلال أن يمضي أسبوعان ولا تنشر الجرائد اليومية خبرًا - ولو كان غير صحيح - تعلق عليه بالطعن في الأزهر أو المحاكم الشرعية، فأوحت إلى أوليائها أن يوافوها ببعض بنات أفكارهم، فما لبثنا أن رأينا في (كل شيء) في العدد رقم (107) المؤرخ 28 نوفمبر سنة 1927 مقالًا طويلًا عريضًا في صدره ملأ صحيفة منه، ولسنا نجني على قراء (الفتح)؛ بأن نسمعهم جميع ما قال (كل شيء). وحسبنا أننا امتحنا بقراءة ما يكتب هؤلاء القوم، فرأى عاملهم كتابًا زعم أنه من أحد الطلاب في الأزهر الشريف، وقدمه إلى قرائه في نصف مقاله ثم علق عليه أخيرًا. وهو لا يقصد بما كتب إلا أن يبث في نفس من رآه أن هذا الأزهر وهذه المعاهد الدينية الإسلامية تفسد عقول الناشئة، وتمحق من تفكيرهم بما تعلمهم من الثقافة القديمة، وأن حضرات "أصحاب صحف الهلال" "في حاجة إلى أن تدخل العلوم الحديثة على جميع معاهدنا وقاية لعقول شبابنا من فساد هذه التعاليم القديمة" يقول حضرات (أصحاب صحف الهلال) في مقدمة مقالهم عن الأزهر: ¬

_ (¬1) مجلة الفتح.

يجب أن تكون مدارسنا معاهد لتثقيف الشباب بالثقافة الحديثة، وليس معنى ذلك أن نهجر الثقافة القديمة؛ فإنها يجب أن يختص لها علماء يدرسونها ويوضحون لنا منها تطور الفكر الإنساني، وكيف ارتقى من الجهل إلى العلم، وكيف كانت علومه في الأصل أساطير وحكومته استبداد وطغيان (كذا) ومدنه مباءة أقذار، ثم ارتقى ذلك كله إلى ما نرى من العلوم الدقيقة، والحكومات الدستورية والمدن النظيفة. ومن الغباوة الفظيعة بل المجرمة، أن تغرس في ذهن الشاب المصري أن العلوم القديمة كانت أنفع للناس من العلم الدقيق الراهن، أو أن حكومات القدماء كانت أنظم وأعدل من حكومتنا، فلندرس كل قديم، ولكن باعتبار أنه قديم لقيمته التاريخية فقط، ولكن لا لنقتدي به أو لنؤمن بصحته". هذه مقالة يقولونها عن الأزهر، والمعاهد التي تعلم قاصديها علوم الشريعة الإسلامية، وآداب الإسلام، وفنون اللغة العربية، وبلاغة العرب - لا عن معاهد أوربا منذ قرنين، ولا عن محاكم التفتيش في الأندلس. أفرأيتم أيها الناس أن هذه الصحف ترمي الثقافة الإسلامية العالية؛ بأن علومها إن هي إلا أساطير، وتنبز حكومات الإسلام العادلة؛ بأنها حكومات استبداد وطغيان، أو رأيتم أنها تريدنا على أن ندرس علومنا وآدابنا وتاريخنا الناصع وأحكام ديننا، لا لنقتدي بها ولا لنؤمن بصحتها ولكن لقيمتها التاريخية فقط؟ !

ألا تصدقون معي أن هذه الصحف أنما تمتح من البؤرة التي سبقها إليها أستاذ الآداب بالجامعة المصرية، وأنها إنما ينهزها إرضاء جمعيات التبشير؟ لا يزعم أن علوم الثقافة الإسلامية أساطير إلا من جهلها فعاداها، أو كان يدفعه الهوى فينكر ضوء الشمس. وها هم علماء أوربة من المستعربين يدرسون علوم العرب وتاريخهم وتشريعهم ويبذلون في نشرها والإشادة بذكرها من الجهود ما لو وفقنا إليه من بضع عشرات السنين؛ لكان للمسلمين شأن غير ما نرى، ولعاد إلينا كثير مما أضعنا من المجد والقوى و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وهذا هو الكتاب المفترى: "أنا أزهري اسمًا، عصري ثقافةً ولحمًا ودمًا، تؤثر في كلماتك الغالية، حتى كأنها تسري في عروقي سري الدم؛ فأشعر عند قراءتها بخجل وحرارة معًا، فهي في عقلي ثقافة وفي جسمي حياة! وأريد أن أعرض عليك يا سيدي نوعًا من الذين يجلسون منا مجلس المعلمين .. قال بعض "العلماء": إن القيامة ستقوم قبل سنة 1450 هـ لا محالة ... ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه لا تأتي على أمتي سنة هجرية اسمها 1450 ... ". وقال غيره: إنّ النيل يأتينا من الجنة! ... فحزنت؛ لأن صموئيل بيكر دخل الجنة قبلنا ... وغيره يقول إنّ: حسانَ بن ثابت كان يمسح بلسانه شعر رأسه، كأن حسانًا لا يكون شاعر النبي

إلا بهذا اللسان (العجالي) الذي يريد أن يلحقه به الشيخ! .. ويقرؤون لنا في حصة (الأخلاق) خرافات المتصوفة وحكايات الصالحين! ... كل هذا يا سيدي حضرته بنفسي، ولو أردت أن أكتب لك كثيرًا من هذا "العلم الشريف" لفعلت، ولكني أعلم أن نفثات قلمك الجريء لا يصح أن أقتطع منها أكثر من هذا متعة ومنفعة. محمود ... ". تدعي هذه الصحف أن هذا الكتاب المخترع جاءها من أحد طلاب الأزهر الشريف، ولن يقرأه ذو مسكة من عقل إلا واستيقن أنه مصنوع لديهم، وأنه بقلم سلامة موسى. وآية صنعه أن طلاب الأزهر - دعك من علمائه - وطلاب المدارس بل والدهماء من كاتب وأمي يعلمون أن تواطؤ المسلمين على بدء تأريخهم بعام هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في خلافة عمر - رضي الله عنه - في السنة الثالثة من خلافته في سنة 16، وأن التاريخ بذلك لم يكن معروفًا أصلًا في عصر النبوة، فمن غير المعقول إذن أن يتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن انتهاء الحياة الدنيا سيكون قبل سنة 1450، ومن غير المعقول أن ينسب هذا إلى الرسول الكريم عالم أو جاهل من المسلمين، وإنما يتقحم هذه الحفر من لا يرى في نفسه للإسلام حرمة، ولم تخالط بشاشة الإيمان قلبه، ولم يسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كذبًا علي ليس ككذبٍ عَلَى أحدٍ، فمَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النارِ".

ثم هاتم خبرونا: من المسلمين - جاهلهم أو عالمهم - يرضى أن ينسب هذا الهراء إلى سيد الفصحاء والبلغاء، من أوتي جوامع الكلم واختصر لكم القول اختصارًا - صلى الله عليه وسلم -؟ ! أيرضى لنفسه كاتب أن تصدر عنه هذه الجملة "سنة هجرية اسمها 1450" أيا كان من طبقات الكتاب؟ اللهم إن هذا كذب من أوقح الكذب على رسولك. وما أصدق قول العربي: إن كنت كذوبًا فكن ذَكُورًا. وإن مثل صاحب الأكذوبة المفضوحة، كمثل رجل سمعنا عنه فكاهة لطيفة في صبانا: زعموا أن نفرًا اجتمعوا في مصر العليا - وهناك يتضايق وادي النيل - فتفاخروا بالصافنات الجياد وكان فيهم رجل فياش (¬1) فزعم لهم أنه ركب جواده فطار به في الوادي من الجبل إلى الجبل! ففجأه أحدهم: وأين البحر؟ فبهت وقال هذا الذي أنسيته. فهذا نسي النيل بين الجبلين، وذاك نسي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يؤرخ المسلمون من الهجرة بست سنوات. وأما كلمتهم في حسان بن ثابت - رضي الله عنه - فإنَّا نظنها لاحقة بسابقتها وقد جهدنا في البحث عنها فلم نجدها في شيء من كتب التراجم المعتمدة، ولكنا نذكر أنا قرأنا في بعض كتب الأدب أن ¬

_ (¬1) يقال: فلان فياش. إذا كان نفَّاخًا بالباطل، وليس عنده طائل.

حسان كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، وهذا على أننا لا نثق بصحته من طريق التحقيق العلمي - لا نراه شيئًا مستغربًا. وانظروا إلى ألفاظهم حين يذكرون صحابيًّا جليلًا كان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ! . ويمينًا بالله إنهم لا يرضون أن يصفوا بأمثال هذه الكلمات أصغر قس من قساوستهم، فضلًا عن واحد من أصحاب سيدنا عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ولو فلتت فلتة مثل هذه من قلم أحد الكاتبين لهم في وصف رجل ممن ينسبون لدينهم، لغضبوا لها وأبوا نشرها. وأما ما ذكروا من شأن النيل فليس كما خيل إليهم. ولفظ الحديث في صحيح البخاري من حديث طويل في وصف المعراج: "وإذا أربعة أنهار؛ نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: ما هذان يا جبريل. قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات". وفي حديث آخر في صحيح مسلم: "إن النيل والفرات من أنهار الجنة". ومن المعروف ببداهة الحس والعقل أن النيل والفرات في هذه الأرض التي نعيش على ظهرها، وأنهما شقا في أديمها، يعرف ذلك الجاهل والعالم ولا يخالف فيه أحد: لا قبل ارتياد منابع النيل ولا بعده. والفرات في العراق من الجهة الشرقية للمدينة المنورة، والنيل في مصر من الجهة الغربية لها وبينهما بلاد وأقطار، وهذه حقيقة يعرفها العرب قبل الإسلام وقد كانوا يسافرون شرقًا وغربًا ويدخلون العراق ومصر.

وقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق؛ أنه رأى النيل والفرات يجريان في الجنة، وهي عالم آخر غير هذه الأرض، وهو يعلم أن سامعيه يعرفون هذه الحقائق، وأنهم لن يشبه عليهم قوله، فيظنوا أن هذين النهرين اللذين رآهما في الجنة هما بعينهما النهران اللذان رأوهما في الدنيا، وهم يعرفون أن الدنيا عالم والجنة عالم آخر، هذه دار العمل وتلك دار الجزاء. فهل تحب صحف الهلال والطالب الذي اخترعوه، أن ندلهم على قاعدة صغيرة من قواعد علم البيان، وهي أن المجاز: ما استعمل في غير ما وضع له لقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، ونأسف جدًّا أن نمثل لهم بالمثال الذي يُعطى لصغار الطلاب المبتدئين، كما تقول: رأيت أسدًا في الحمام. فإذا كان الحمام قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي مع أن وجود أسد حقيقي في الحمام غير مستبعد، إلا أنه ليس كثير الحصول. أفلا تكون كل هذه الحقائق البدائية التي قلنا كافية لدلالة السامع على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرد المعنى الظاهر للفظ، بل أراد معنى آخر أرقى من هذا المعنى المحال؟ وأنه يريد أن في الجنة نهرين هما نيل وفرات تنويهًا بذكر هذين اللذين في الأرض وإشادة بفضلهما، وأنهما مصدر لكثير من الخيرات والبركات على أهليهما، وأنهما مما أنعم الله به على خلقه فقامت على ضفافهما أقدم الحضارات في الدنيا، إلى معاني وإشارات أدق وأعلى.

ولعلنا نوفق إلى بيان كثير منها في مقال خاص إن شاء الله. ويرحم الله أبا الطيب إذ يقول: وكم من عائب قولًا صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم وبعد فقد نرى أن عدونا بالقوم قدرهم، وقد كانت كلمتنا الأولى كافية في كشف خبيئتهم وفضح نياتهم، ولكنا أردنا أن نأخذ بحجزهم عن الوقوع في أعراض المسلمين، وأن نحمي أبناءنا وإخواننا من الوقوع في حبائلهم {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}. [محمد: 29 - 31]. {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}. [التوبة: 56، 57]. * * *

عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية

عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية (*) أثار حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا فتنة شعواء يحارب فيها لغة العرب، ويسعى لتمزيقها، ثم يحاول أن يظهر للناس في ثوب نصيرها المدافع عنها. ولقد كنا سمعنا عن اقتراحه - كتابة العربية بالحروف اللاتينية - قبل أن ينشر نصه، فوقع في نفسي أنه استمرار لمحاولة قديمة من فئة معروفة كانت تدعو منذ عشرات قليلة من السنين إلى اتخاذ اللهجات العامية لغة رسمية للقراءة والكتابة والتعليم، وكان على رأسها مهندس إنجليزي كبير، وكاتب مصري مشهور، نال المناصب الرفيعة من بعد، ثم درست تلك المحاولة، وظننا أنها ماتت وانتهى أمرها، ولم نكن نظن أنها اختبأت في حصن حصين، في رأس رجل عظيم، حتى نبتت منه بشعبها، تظن أن سيكون لها في لغة العرب أثر. وكنت قد فكرت في الرد على اقتراحه بإرجاعه إلى منبعه الأصلي ومصدره الصحيح، بما وقع في نفسي، ولكني خشيت أن أظلم الرجل باتهامه بتهمة لم يكن لدي عليها برهان. ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة الثامنة، العدد الحادي عشر، ذو القعدة سنة 1363 هـ.

حتى نشر المجمع اللغوي نص اقتراحه، فإذا البراهين فيه على ما ظننت واضحة بينة تترى، آخذ بعضها برؤوس بعض، وإذا الناس يتناولونه بأقلامهم من كل جانب، والباشا يصرخ هنا وهنا ويستغيث، ولغة العرب منصورة سائرة قدمًا في طريقها، لا تحس به ولا تشعر، وإذا اقتراحه يموت فلا يرثى له، وإن جامله المجمع اللغوي فلم يرفضه أول ما قدم إليه. ولو سكت الرجل بعد ذلك لكان خيرًا له وأقوم، ولنسيه الناس ونسوا ما قدم، ولكنه أخذته العزة بالإثم، فأخرج في أواخر رمضان من هذا العام (1363 - أغسطس سنة 1944) كتابًا يرد على ناقديه، ويأخذ أعراضهم بقلمه الثائر العنيف، وأدلته المتهافتة المستنكرة، حتى ولو كان لاقتراحه موضع آخر للسقوط لبلغه. وما بي أن أدافع من ردهم عليهم في كتابه، فكثير منهم أعرف باللغة العربية، وبأدب العرب، وأقدر على الكتابة من الباشا ومن كل أتابعه وأنصاره ومجامليه، ولكني أردت أن أكشف عن مقصده الحقيقي باقتراحه من كلامه وألفاظه، وأن أنقد بعض ما عرض له من مسائل في العلم، ظهر أنه لا يعرف فيها شيئًا، عرض لها عرضًا عجيبًا، ولو تركه ستر نفسه. أما اقتراحه الميت السخيف (¬1)، فما أبالي أن لا أرد عليه، اكتفاء ¬

_ (¬1) يعذرني صاحب المعالي في استعمال هذه اللفظة النابية؛ فقد حاولت جهدي أن أجد صفة خيرًا منها في موضعها فأعجزتني المحاولة، ثم لم أر في استعمالها =

بما قيل من قبل، وثقة مني أن لا تقوم له قائمة من بعد. وأنا أعلم أن معاليه سينطلق في أثري كما انطلق في أثر الذين من قبلي، ثائرًا عنيفًا مستعليًا مستكبرًا، كأن لم يسمع كلمة الحق، وأنه سيرميني كما رمى أخي (السيد محمود محمد شاكر بأنه يشتهي تجريح من هو أكبر منه سنًّا، حاسبًا أن ذاتيته تعلوا بهذا التجريح) ولكنني لا أبالي. يعلن صاحب المعالي في كتابه ص (78) أنه: (يريد المحافظة على العربية الفصحى) ولكن سائر أقواله إنما تصدر عن عقيدة بفساد هذه اللغة وأنها لا تصلح للحياة، لثباتها على وتيرة واحدة إلا أن تتغير وتدور مع اللهجات فتنقسم إلى لغات، فهو يضع اللغم الأول في هذا الصرح الشامخ، حتى إذا ما اهتز الصرح وفقد تماسكه استطاع من بعده من أنصاره ومن أعداء العربية ومن أعداء الإسلام، ومن أعداء القرآن، أن يدمروه تدميرًا. انظر إلى قوله الذي افتتح به اقتراحه المقدم للمجمع: (لا شك عندي أن حضرات المستشرقين - آه من عبادة المستشرقين ومن عبادة الإفرنج - من بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين وألمان وأمريكيين، يعجبون منا نحن الضعاف الذين يطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة، لحمل أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت). ثم يقول عن بحث ¬

_ = بأسًا بعد أن وصف هو بها الرسم العربي عشرات المرات في كتابه.

المستشرقين عن الآثار: (لكن عملهم هذا الشيء وإمساك أية لغة بخناق أهلها دهرًا طويلًا شيء آخر. وانظروا إلى قوله في الفقرتين 4 و 5 "لكن حال اللغة العربية حال غريبة، بل أغرب من الغريبة؛ لأنها مع سريان التطور في مفاصلها، وتحتيتها في عدة بلاد من آسية وأفريقية إلى لهجات لا يعلم عددها إلا الله، لم يدر بخلد أي سلطة في أي بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسيًّا أن يجعل من لهجة أهله لغة قائمة بذاتها، لها نحوها وصرفها وتكون هي المستعملة في الكلام الملفوظ وفي الكتابة معًا تيسيرًا على الناس، كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان، أو كما فعل اليونان، ولم يعالج أي بلد هذا التيسير، وبقي أهل اللغة العربية من أتعس خلق الله في الحياة، إن أهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هي لغة الكتابة عند الجميع، وأن يجعلوا على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرًا، وأن يردعوا عقولهم على التأثر بقانون التطور الحتمي الآخذ مجراه بالضرورة، رغم أنوفهم في لهجات الجماهير، تلك اللهجات التي تتفرع فروعًا لا حد لها ولا حصر، والتي تتسع كل يوم مسافة الخلف بينها وبين الفصيحة جدة جداتها اتساعًا بعيدًا، هذا الاستكراه الذي يوجب على الناس تعلم العربية الفصحى، كما تصح قراءتهم وكتابتهم، هو في ذاته محنة حائقة بأهل العربية، إنه طغيان وبغي؛ لأنه تكليف للناس بما فوق طاقتهم، ولقد كنا نصبر على هذه المحنة لو أن تلك العربية الفصحى كانت سهلة المنال كبعض اللغات

الأجنبية الحية، لكن تناولها من أشق ما يكون، وكلنا مؤمن بهذا، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، فلنذكر ببعض هذه المشقة". هذا بعض قوله في اقتراحه، وما أظن عاقلًا يخدع بعد ذلك فيصدق الباشا في ادعائه أنه يريد المحافظة على العربية الفصحى، وهو يسخط عليها كل هذا السخط، ويندد بها كل هذا التنديد، بل يندد بالأمم المنفصلة سياسيًّا، أن لم يدر بخلد أحد من أهلها أن يجعل من لهجته لغة قائمة بذاتها لها نحوها وصرفها! ! فإن لم تكن هذه دعوة صريحة إلى تمزيق العربية إلى لغات عدة كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان، فما ندري كيف تكون الدعوة، بل لا يدري أحد من الناس. إن هذا الاقتراح تجديد للدعوة القديمة التي أشرنا إليها في أول هذا المقال، واستمرار لها، حتى تتمزق وحدة الأمم العربية ويحال بينها وبين قديمها، فلا يعرفه ولا يصل إليه إلا الأفذاذ من علماء الأثريات، كما هو الشأن الآن في اللغات القديمة الميتة، فيحال بين الأجيال القادمة وبين القرآن والحديث وعلوم العرب، كما يظنون، فيندثر هذا الإسلام من وجه الأرض ويطمئن القوم. ومهما يكابر معالي الباشا وأنصاره، فلن يستطيع التفصي من هذه النتائج، ومن حمل كلامه على القصد إليها، وإن تبرأ منها ألف مرة، وإن قال ألف مرة: (أنا مكتف بما يسر الله لي من ديني، وموقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين)! !

إن لم يكفكم هذا برهانًا على ما يقصد إليه ويرمي، فانظروا إلى قوله في الفقرتين 7 و 8: (تلك الأشواك والعقبات وهذا التعدد، تريك الواقع من أن هذه اللغة العربية ليست لغة واحدة لقوم بعينهم، بل إنها مجموع كل لهجات الأعراب البادين في جزيرة العرب من أكثر من ألف وأربعمائة سنة، جمعها علماء اللغة وأودعوها المعاجم وجعلوها حجة على كل من يريد الانتساب للغة العربية، ولا يعلم إلا الله كم لهجة كانت، أفليس من الظلم البين إلزام المصريين وغير المصريين من متكلمي اللهجات العربية الحديثة بمعالجة التعرف بتلك اللهجات القديمة التي ماج بعضها في بعض فانعجنت، ولو فرض المستحيل وأمكن عزل أية واحدة منها لكانت دراستها بسبب قدمها أشق من تعلم عدة لغات أجنبية حية، كل منها يعين الإنسان في عمره القصير على مسايرة العالم في هذه الحياة الدنيا، في كل سنة نسمع صيحة مدوية يصخ البعض بها معلمي اللغة العربية بالمدارس، متهمًا إياهم بالقصور أو التقصير في تلقين التلاميذ، والحق الذي لا مرية فيه أن هؤلاء المعلمين المساكين براء من هذه التهمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فإن العيب إنما هو عيب اللغة التي ليس لها في مفرداتها وقواعدها أول يعرف ولا آخر يوصف، والتي لها في أدائها جرس ولوكة يضربان صماخ أذن الطفل لبعد ما بينهما وبين لهجة أمه، فينفر منها ومن المعلم نفور الطير روعته والظبي باغته). إذن فالأمر واضح، ليس الأمر أمر تيسير الكتابة العربية حتى

تمثل النطق بها تمثيلًا صحيحًا طاعة لأمر تعبدي نصت عليه لائحة المجمع اللغوي، ولقرار خاص من وزير المعارف تجب طاعته وتنفيذه؛ لأن "مورد النص لا مساغ للاجتهاد فيه" كما قال صاحب المعالي في كتابه ص 36! ! ولكن الأمر أخطر من ذلك وأبعد أثرًا، الأمر أن لهذه اللغة جرسًا ولوكة يضربان صماخ أذن الطفل" فيجب أن نغير هذا، وأن نمهد له باصطناع الحروف اللاتينية التي لها جرس "يخالف جرس الحروف العربية في المخارج والحركات وتوقيت الكلمة في أثناء نطقها، وهو شيء في صميم اللغة كالمعنى ورسم الكتابة على السواء" كما قال الأستاذ العقاد (الرسالة 585 في 18 سبتمبر سنة 1944) حتى إذا ما تبلبلت الألسن العربية، ومرنت على هذه الحروف اللاتينية ولهجاتها وجرسها، وعلى الحروف المستحدثة التي ابتكرها المجمع اللغوي في قراره العجيب بشأن كتابة الأعلام الأعجمية بحروف عربية (¬1)، أمكن التدرج في الانتقال إلى اصطناع لغة أخرى أعجمية، أو خلق لغة بين بين، لا هي عربية ولا هي أعجمية وتفرقت الأمم العربية شذر مذر، ونسوا هذا القرآن الذي يجمع بينهم ويوحد لسانهم؛ إذ لن يستطيعوا إخضاعه لهذه اللكنة الأعجمية التي تدل عليها الحروف اللاتينية! ! ¬

_ (¬1) هذه القرارات نشرت في مجلة المجمع (ج 4 سنة 1356 ص 18 - 21) وقد أشرنا إلى عيوبها ورددنا عليها في مقدمة كتاب المعرب للجواليقي بتحقيقنا طبعة دار الكتب.

وإذن فليس الأمر أمر إرادة المحافظة على العربية الفصحى كما يقول دفاعًا عن نفسه، وإنما هو رفع ظلم بَيِّن عن المصريين وغير المصريين ممن ألزموا تعرف تلك اللهجات القديمة التي ماج بعضها في بعض، والتي لا يمكن عزل أية واحدة، والتي لو أمكن المستحيل بعزل واحدة منها لكانت دراستها بسبب قدمها أشق من تعلم عدة لغات أجنبية حية، والتي كل العيب فيها؛ إذ ليس لها في مفرداتها وقواعدها أول يعرف ولا آخر يوصف، ولن يكون رفع هذا الظلم إلا أن يرفع عن كواهل المظلومين ما أثقلها من (أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت)! ! لست أدري هل يغالط الباشا الحصيف نفسه ويخدعها، أو هو يظن أن الناس لا يفقهون! أيها الرجل: اقرأ كتابك، تجد أنك رضيت عن كل لغة حتى العبرية، وما اصطفيت لسخطك وسخريتك إلا العربية. وقد أجاب صاحب المعالي عن سؤال من سأل: كيف تريد أن ترسم القرآن؟ بجوابين عجيبين مضحكين! أما أحدهما فأن يرسم القرآن بحروف معاليه اللاتينية؛ لأن الحروف العربية وثنية منقولة مباشرة عن الوثنين، والحروف اللاتينية ينقلها معاليه الآن عن النصارى وهم أهل كتاب أقرب من الوثنيين إلينا نحن المسلمين (ص 25 - 26) ثم ارتأى أن يَمُنَّ على رجال الدين

المحترمين بإبقاء رسم القرآن وصحيح الحديث على ما هو عليه الآن! (ص 28) ولست أدري أعفى عنهما إرضاء لهم أم شفقة عليهم أم خوفًا منهم؟ إنما هو قد فعل هذا والسلام! ثم أجاب بعض سائليه (ها أنت ذا ترى فيما أسلفت ما يطمئنك على بقاء القرآن والحديث مكتوبين بالرسم الحالي، فلن يندرس هذا الرسم، بل سيكون له دائما من رجال الدين وطلبة المعاهد الدينية من يقرؤونه ويحافظون عليه" (ص 29). وقد وجد معاليه لرجال الدين بعد ذلك عملًا خطيرًا عظيمًا، هو "أن يؤدوا لنا في المستقبل عمل المستشرقين، ويحلوا لنا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد من قديم الكتب والمؤلفات" (ص 28). ولسنا نجادله في أن هذا الفعل حرام أو حلال، فإن معالي الباشا رجل قانون، وهو أبعد الناس عن معرفة الحرام والحلال، وكتابه شاهد عليه. ولكنا نسأله سؤالًا واحدًا: أيمكن أن يؤدى نطق القرآن أداءً صحيحًا موافقًا للعربية إذا ما كتب بالحروف اللاتينية، وخاصة في حال الوقوف على رؤوس الآي أو في أثنائها؟ أظنه يعلم أن أواخر الكلم إذا كانت متحركة - وهو الأكثر - في الكلام - وجب الوقف عليها بالسكون، وإذا كان الحرف منونًا مفتوحًا وقف عليه بالألف، وهو يقترح أن يدل على الحركة بحرف مد يسميه (حرف حركة) وأن يدل على التنوين بحرف مد بعده حرف النون، فماذا يفعل القارئ،

أيحذف في كل وقف من المكتوب حرفًا أو حرفين، أم يقرأ القرآن إفرنجيًّا؟ ألسنا معذورين إذا ظننا صادقين أنه يبغي قطع الصلة بين هذه الأمة العربية وبين قديمها، وخاصة القرآن والحديث، تنفيذًا لخطة قديمة معروفة لم يخامرنا فيها شك دل عليها قلمه حين خانه، فجعل عمل رجال الدين أن يحلوا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد! ثم ماذا يريد صاحب المعالي هذا أن يصنع بالقرآن؟ إنه يريد أن يفتح الباب للعبث به وبقراءاته عامدًا متعمدًا، فقد أدخل نفسه مداخل لا يحسن الخروج منها، ولا منجى له من عواقبها. انظروا إلى قوله يخاطب "معالي السيد كامل الجاردجي" أحد الذين ردوا عليه اقتراحه (ص 78) (الظاهر يا سيدي أننا غير متفقين اتفاقًا واضحًا على الغرض الذي نسعى إليه، فلنتفق عليه ابتداء ثم ليتكلم كلانا بعد بما شاء، أنا أريد المحافظة على العربية الفصحى، وأنت تريدها كذلك، فلنحدد بالنص الصريح ما هي تلك الفصحى التي نريدها جميعًا، أما أنا فلا أرى مثالًا للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر؛ فلغته هي وحدها المعنية لي عندما أذكر الفصحى، وأحدد أكثر فأقول: إن لغته المعنية لي هي ما تكون الأقيس والأسهل من وجوه قراءاته فقراءة (إنَّ هذين لساحران) هي المعنية لي (إنْ هذان لساحران مثلًا) هذا نص كلامه بحروفه. أرأيتموه أيها الناس وعرفتم دخيلته! إنه يأتي بالكلام الحلو

المعسول فلا يرى "مثالًا للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر" ثم يدس فيه ما يظن أنه يخفى على عامة المسلمين، بَلْهَ خاصتهم، بَلْهَ علماءهم فيزعم أنه يتخير من قراءات القرآن ما يوافق هواه ويعرض عما عداه، موهمًا أن الثابت، المتواتر هو ما حكى دون ما نفى، لكنه يسقط في ذلك سقطة ما لها من قرار. وذلك أن الآية التي جاء بها مثالًا لما يريد، وهي قوله تعالى في سورة طه: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}. رسمت في المصحف على هذا الرسم الذي رسمه أصحاب رسول الله واتفقوا عليه، وروي عنهم بالتواتر القطعي الثبوت رواية وكتابة، لم يَرْتَبْ في ذلك مسلم قط (هذن) بدون ألف بعد الذال، ورويت القراءات فيها بالتواتر القطعي سماعًا من عهد رسول الله إلى عصرنا هذا الذي نحيا فيه. والقاعدة الغالبة في رسم المصحف أن تحذف الألف وأن تثبت الياء. والقراءة التي يقرأ لها أهل بلادنا، قراءة حفص عن عاصم، في هذه الآية (إن هذان) بسكون النون في (إن) وبثبوت الألف وكسر النون مخففة من غير تشديد في (هذان) ووافقه ابن محيصن وأبو حيوة والزهري، وغيرهم من أئمة القراءة، ووافقه أيضًا ابن كثير ولكن شدد النون المكسورة في (هذان) وقراءة حفص ومن وافقه التي نقرأ في بلادنا هي التى يرفضها الباشا العالم العجيب، وينفي أن تكون مما ارتضى من (العربية الفصحى)؛ وذلك أنه عسر عليه أن يدرك وجهها من العربية وإن كان واضحًا ميسورًا.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر وحمزة الكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف والحسن والأعمش وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير الطبري وغيرهم (إن) بتشديد النون (وهذان) بالألف وتخفيف النون، وهذه القراءة نفاها معاليه ضمنًا أيضًا باختيار غيرها وإن لم يصرح بنفيها ولكنها، دخلت في غير (العربية الفصحى) عنده. وهاتان القراءتان هما قراءة أكثر القراء من السبعة بل العشرة، بل الأربعة عشر بل من عداهم، ممن عرف معاليه ومن لم يعرف، وممن سمع به ومن لم يسمع: ثم اختار لنفسه أستغفر الله - بل لأمم العرب جمعاء، غير مكلف أن يختار لهم، ولكن عاديًا على لغتهم وعلى قرآنهم - اختار قراءة أبى عمرو بن الجلاء وعيسى بن عمر ويونس وغيرهم (إن هذين) بتشديد النون في (إن) وبالياء في (هذين) اختارها من غير دليل إلَّا يسرها في مقدوره وعلمه، وهي قراءة صحيحة ثابتة كاللتين قبلها وإن عبر عنها بعضهم بالشذوذ كالإمام أبي عمرو الداني في كتاب (المقنع في رسم المصاحف) ص 127، وكالزجاج في قوله: "لا أجيز قراءة أبي عمرو؛ لأنها خلاف المصحف" (¬1). ¬

_ (¬1) ومن شاء التوسع في معرفة توجيه هذه القراءات وأدلتها فليراجع كتاب (التيسير في القراءات السبع) لأبي عمرو الداني، طبعة استنبول سنة 1930 ص 151، وكتاب (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري، طبعة دمشق سنة 1345 (ج 2: 308)، وكتاب (اتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر) للبناء الدمياطي طبعة مصر سنة 1359 ص 304، وتفسير الطبري طبعة بولاق (ج 16: 136)، والبحر لأبي حيان (ج 6: 255).

فهذا مبلغ هذا الرجل من العلم! قبِل من القراءة ما اختلف فيه وإن كان صحيحًا لأدلة يجهلها، ورفض ما لا خلاف فيه من القراءة بالهوى والجرأة من غير دليل ولا شبهة إلَّا أنه جهل شيئًا فعاداه. "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" كما ثبت في الحديث الصحيح المتواتر الذي لا شك في صحته، وإن قراءه تلقوا قراءاته وروايات حروفه ولهجاته سماعًا ومشافهة من شيوخهم طبقة بعد طبقة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبتت قراءاته الصحيحة المعروفة بالتواتر الحقيقي الذي لم يثبت بمثله كتاب قط، رووها بأدق ما يُروى كلام وأوثقه، سواء أرضي عبد العزيز باشا فهمي عن هذا أم سخطه. وإن هذا القرآن بقراءاته المتواترة قد حفظ على العرب لغتهم بحروفها وأوجهها ولهجاتها حفظًا عجيبًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يستطيع أحد أن ينفي شيئًا منها أو ينكره، كابر أو تعنت أو جهل، إنما هو الحق البين المعلوم من الدين بالضرورة، من أنكره فإنما ينكر على نفسه، وإنما يجني على نفسه، وحكم الإسلام فيه معروف، لا يحتاج إلى ذكر أو بيان. أفيظن أحد أن المسلمين يكذبون علماءهم وقراءهم وحفاظ كتابهم الذين لا يحصيهم العد، طبقة طبقة إلى صحابة رسول الله، ثم يتبعون رجلًا بأنه نبغ في صناعة القانون الإفرنجي حتى نال أسمى منصب فيه، وبأنه وصل إلى مسند الوزارة، وبأنه وضع في غير موضعه: عضوًا في المجمع اللغوي؟ ، كلا ثم كلا! إن من يتوهم بعض هذا إنما يلغي عقله، وإنما يلغى كل منطق وكل دليل.

ولعل الباشا رجع فيما تعرف من القراءات وتوجيهها، لا إلى علم علماء الإسلام، ونقلهم ومؤلفاتهم، وإنما رجع إلى آراء المستشرقين، ونظرياتهم في القرآن والقراءات؛ فهم يرون أن كل علماء الإسلام وقراء القرآن كاذبون مفترون، اخترعوا هذه الروايات وهذه القراءات توجيهًا لما يحتمله رسم المصحف، تشكيكًا منهم في هذا الكتاب المحفوظ بحفظ الله، وتكذيبًا للوعد بحفظه، وبأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وثأرًا من المسلمين باتهامهم بالتحريف، كما اتهم الذين من قبلهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه. ونظرية المستشرقين أوضحها أحدهم، جولدزيهر اليهودي المجري في كتاب (المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن) الذي ترجمه أخونا الأستاذ الشيخ علي حسن عبد القادر ونشره في هذا العام (ص 3 - 4) قال: (وهذه القراءات المختلفة تدور حول المصحف العثماني، وهو المصحف الذي جمع الناس عليه خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وأراد بذلك أن يرفع الخطر الذي أوشك أن يقع في كلام الله في أشكاله واستعمالاته، وقد تسامح المسلمون في هذه القراءات، واعترفوا بها جميعًا على قدم المساواة، بالرغم مما قد يفرض من أن الله قد أوحى بكلامه كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، وأن مثله من الكلام المحفوظ في اللوح، والذي نزل به الملك على الرسول المختار، يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد، وقد عالج هذا الموضوع بتوسع نولدكه في كتابه تاريخ القرآن. والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع بسبب في ظهوره إلى خاصية الخط

العربي، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة الواحدة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدان الشكل في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب، فهذه التكميلات للرسم الكتابي، ثم هذه الاختلافات في الحركات والشكل، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن). ألا ترون أيها الناس في هذا الكلام الروح الذي أوحى بالطعن في الرسم العربي، وأوحى باقتراح تيسيره أو تغييره، وأوحى بالتخير في القراءات بالهوى والرغبة؟ لست أزعم أن هؤلاء التابعين المقلدين أخذوا من جولدزيهر في هذا الكتاب، أو أخذوا من نولدكه في ذاك الكتاب، فلعلهم لم يقرؤوا الكتابين ولا سمعوا بهما، ولم يكن جولدزيهر ولا نولدكه أول من افترى هذه الفرية على القرآن وعلى قراء القرآن وعلى علماء الإسلام؛ فإن هذا الرأي معروف عن المستشرقين، نعرفه عنهم منذ عهد بعيد، وعليه تدور آراؤهم وأقاويلهم في القرآن والقراءات، وفي روايات الحديث وأسانيد المحدِّثين. ذلك بأنهم أصحاب هوى، وذلك بأنهم لا يؤمنون بصدق رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأنهم يؤمنون بأن أصحاب رسول الله وتابعيهم من بعدهم لا خلاق لهم، يصدرون عن هوى وعصبية؛ فيظنون فيهم ما

تيقنوه في غيرهم من الكذب على الدين والجرأة على الله، وحاش لله. وذلك بأنهم يتتبعون الشاذ من الروايات، الذي أخطأ فيه بعض رواته، أو الذي كذب فيه بعض الوضاعين، وهما اللذان بينهما علماء الإسلام، وخاصة علماء الحديث أدق بيان وأوثقه وأوضحه، فيجعلون هذا الشاذ المنكر أصلًا يبنون عليه قواعدهم التي افتعلوها ونسبوها للإسلام وعلماء الإسلام، ويدعون الجادة الواضحة، وضوح الشمس، ويغمضون عنها أعينهم، ويجعلون أصابعهم في آذانهم، ثم يستهوون منا من ضعفت مداركهم، وضؤل علمهم بقديمهم، من المعجبين بهم والمعظميهم، الذين نشؤوا في حجورهم ورضعوا من لبانهم، فأخذوا عنهم العلوم حتى علوم الفقه والقرآن، فكانوا قومًا لا يفقهون. ولكن المسلمين يعرفون أن هذا القرآن قرأه رسول الله على الناس وأقرأهم إياه بقراءات معروفة، ثابتة بالأسانيد الصحيحة المتواترة، كل قارئ سمع من شيوخه قراءات كثيرة أو قراءة واحدة، لا ينكر بعضهم على بعض إلا ما كان مظنة الخطأ من الراوي أو الشك في صدقه، قبل أن تجمع الروايات وتستقر، وأما بعد أن عرفت أسانيدها وطرقها، وعرف المتواتر والصحيح، من الشاذ والمنكر، فلا، وهذا شيء يعرفه كل من شدا شيئًا من العلم بالأسانيد وفنون النقل والرواية، أو من أصول الدين وأصول الفقه. والمسألة في صورة بينة ميسرة: أن هذا القرآن نقل إلينا نقل تواتر

قطعي الثبوت، مرسومًا في المصاحف هذا الرسم العربي المعروف، رسمه حفاظه والقائمون عليه من أصحاب رسول الله، تحت سمعهم وبصرهم جميعًا، وحُصرت طرق رسمه محدودة مفصلة في كتب القراءات وفي كتب خاصة بالرسم، ونقل إلينا أيضًا قراءاته الصحيحة موافقة لهذا الرسم نفسه، نقل تواتر قطعي الثبوت، أو على الأقل في بعضها القليل النادر نقلًا صحيح الإسناد برواية الثقات عن الثقات، نقل إلينا ذلك سماعًا ومشافهة، مبينًا فيه النطق وطرق الأداء (¬1). فكنا وكان الناس في هذا بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يكون الرسم هو الذي ثبت أولًا ثم جاءت هذه القراءات احتمالات فيه، يمثلها كل قارئ بما يرى أو بما يستطيع، وإما أن تكون القراءات هي الأصل ثم رسم الكتاب على الوجه الذي يمثلها كلها ويحتملها حتى لا يخرج عنه شيء منها. أما المستشرقون ومن قلدهم من الجهلة الأغرار ممن ينتسب إلى المسلمين فذهبوا إلى الوجه الأول واختاروه ونصروه، أعني أنهم فهموا أن القرآن (يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد) وأن هذا الشكل الواحد واللفظ الواحد رسم بهذا الرسم الذي من ¬

_ (¬1) وأما ما يروى في بعض كتب التفسير والحديث عن بعض الصحابة وغيرهم من القراءات التى تخالف رسم المصحف، فإن ما صحت روايته منها إنما هو على سبيل التفسير للآية، لم يثبت على سبيل التلاوة؛ لأن أول شروط إثباتها أن توافق رسم المصحف. وهذا بديهي من بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة.

خصائصه أن الكلمة الواحدة (قد تقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدان الشكل في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب) وبنوا على ذلك أن هذا الرسم بما يحتمل في النقط والحركات (كان السبب الأول لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطه أو شكل من القرآن) كما قاله جولدزيهر في كتابه. وليس لهذا الرأي وهذا الاستنباط معنى إلا شيء واحد: أن المسلمين، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن، اخترعوا هذه القراءات تمثيلًا لما يحتمل الرسم من القراءة، ونسبوها إلى كتابهم وإلى رسولهم، وأنهم كذبوا جميعًا في ادعاء نسبتها إلى رسول الله، وفي ادعاء أنهم تلقوها جيلًا بعد جيل وطبقة بعد طبقة. وقد يعذر المستشرقون إذا ذهبوا هذا المذهب؛ لأنهم قوم جهلوا طرق الرواية عند المسلمين، ومن عرف منهم شيئًا منها فإنما يغلبه هواه، ويغلبه ما يراه بين يديه في كتبهم السابقة، وما لحق بها من عبث، وما أصابها من تحريف وتغيير، ويغلبه ما يعرف من فقدها أي نوع من الإسناد، وأي نوع من الرجال كان يرويها وينقلها، وما يعرف من انقطاع تواترها بل انقطاع أصل روايتها انقطاعًا تامًّا قبل بلوغها مصدرها الأول بقرون، يعرف كل هذا، ويجهل أو يتجاهل سير علماء الإسلام وما كانوا عليه من ثقة وصدق، وما كانوا يتحرون من دقة وأمانة في رواية الحرف الواحد من أحرف القرآن، وفي طرق أداء

كل حرف والنطق به، على اختلاف اللهجات والروايات، حتى إنهم وزنوا نطق الحروف بموازين معروفة في كتب القراءة وكتب التجويد، وحتى إنهم ليقيسون التنفس في أحرف اللين وأحرف المد بما اصطلحوا على تسميته بالحركات، إلى غير ذلك من طرق الاحتياط والتوثق. فلم يكن عجبًا من المستشرقين وقد جهلوا ذلك كله وغلبهم ما وصفنا، أن يختاروا هذا الوجه، وأن يجزموا بأن هذه القراءات نشأت عن الرسم العربي المهمل من النقط والشكل. وأما المسلمون فقد أيقنوا بالوجه الآخر الصحيح، أن القراءات هي الأصل، وأن الرسم تابع لها مبني عليها، أعني أنهم عرفوا مما جاءهم من الحق بالتواتر القطعي الثبوت أن رسول الله قرأ القرآن على أصحابه وأقرأهم إياه بقراءات متعددة النطق والأداء، كلها حق منزل عليه من عند الله، وكلها موافق للغة العرب ولهجات القبائل، حفظًا له وتيسيرًا عليهم، وأنهم سمعوا منه وقرؤوا عليه شفاهًا وحفظًا في الصدور، ثم أثبتوا ذلك عن أمره كتابة وتقييدًا، وأنه قال لهم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر". فأدوا ما سمعوا كما سمعوا وكما قرؤوا، مفصلًا موجهًا بأوجهه في الأداء والتلاوة، لم يزيدوا ولم ينقصوا، وأنهم كتبوا ما سمعوا وما حفظوا على هذا الرسم الذي رسموا، ليكون مؤديًا كل الأوجه التي عرفوا، والتي أذن لهم في القراءة بها، حتى إنه لو كان للرسم العربي عندهم إذ ذاك وجه

آخر يضبط به النطق على حال واحدة لأبوا أن يرسموا به؛ لئلا يضبط النطق على وجه واحد فتضيع سائر الأوجه، وكلها من عند الله أنزل، وكلها من لغة العرب، وكلها أذن لهم في القراءة به، وكانوا هم الأمناء على الوحي وهم الذين أمروا بتبليغ ما أنزل إليهم ما وسعهم البلاغ، ثم نقل عنهم من بعدهم من الثقات الأثبات الأمناء نقلًا فاشيًا واضحًا متواترًا، لم يجعلوا شيئًا منه سرًّا مصونًا ولا كنزًا مخفيًّا، بل هو الإذاعة بأقصى ما يستطيع الناس من الإذاعة حتى لا يكون شيء منه موضعًا لشبهة ولا معرضًا لشك ولا بابًا لزيغ. فكان في رأي المستشرقين أن الرسم سبق القراءة، خيالًا منهم وتوهمًا، وكان عند المسلمين أن القراءة سبقت الرسم، حقًّا يقينًا ثابتًا بأوثق ما تثبت به الحقائق التاريخية. ولم يكن للمسلمين - من أول الإسلام إلى الآن - مندوحة عن اليقين بهذا الوجه؛ إذ هو الذي لا يعقل سواه، وهو الذي تقتضيه طبيعة ما وصل إليهم من النقل والأدلة، وكانوا أعرف بأصحاب رسول الله ثم بالأئمة من العلماء والقراء الذين نقلوا إليهم العلم والدين والقرآن، من أن يظنوا بهم السوء والكذب والافتراء، وكانوا يوقنون بكفر من عمد إلى تحريف حرف واحد من القرآن بافتراء قراءة لم تنقل عن قارئه الأول - صلى الله عليه وسلم -. وها هي ذي كتب القراءات - ما نشر منها وما لم ينشر - وها هم أولاء قراء القرآن في أقطار الأرض كلهم يسوق أسانيد القراءة عن الأئمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من روايات الثقات

الأثبات الصادقين الذين لا يحصيهم العد، والذين لا موضع للطعن في صدقهم وأمانتهم وتقواهم لله. فما كان لأحد من الناس بعد ذلك - ولو كان من المستشرقين أو من عبيد المستشرقين - أن يلقي ظلًا من الشك على هذه الحقائق البينة، وعلى هذا النهار الواضح، ولئن فعل لم يكن إلَّا جاهلًا أو متجنيًا {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. ولو عقل هؤلاء القوم الذين يعرضون لما لا يعلمون، ويخوضون فيما لا يفقهون؛ لعرفوا أن التعرض لتغيير الرسم العربي، أو ما يسمونه "تيسيره" إنما هو العمل على تمزيق لغة العرب وتفريق وحدة المسلمين، وهذا القرآن وهذه اللغة التي حفظهما كل ما بقي لنا من آثار الوحدة والتماسك، ولفهموا ما وراء رأي المستشرقين من مقصد أو نتيجة لا يجوز في منطق العقول غيرها: أن القرآن بالوجه الذي أنزل على رسول الله خرج من أيدي المسلمين فيما قرئ بأوجه متعددة؛ لأنه "يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد" كما قال جولدزيهر، وقد دخل هذا الوجه الواحد في أوجه متعددة غير معين أو غير معروف، أو لعله لم يكن في هذه الأوجه؛ لأن المسلمين - في رأيهم - إنما قرؤوا على أوجه يحتملها الرسم المكتوب، لا على أوجه أُنزل بها من عند الله، وثبتت صحتها وقراءتها عن الرسول الذي أمر بقراءته وإبلاغه للناس، فهذه القراءات في رأي المستشرقين ومن

تابعهم ليست كلها أُنزل بها القرآن، وإنما أنزل بواحدة منها غير معينة، لا يعرفها المسلمون ولا يعرفها المستشرقون، وحاش لله أن يكون شيء من هذا، و {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. هذه حقائق لا يشك فيها مسلم وما ينبغي له. فوازن - أيها القارئ الكريم - بينها وبين قول الباشا في كتابه (ص 84 - 85) في شأن رسم المصحف والقراءة: "لقد كان القراء قليلين والكتاب أقل من القليل، والرقاع أندر من الندرة، فأيما قبيلة ظفرت بصحيفة مكتوب فيها سورة أو بضع آيات من سورة حرصت عليها وتعبدت بتلاوتها على الوجه الذي استطاعت أن تقرأها عليه، وإذ كان رسم الكتابة إذ ذاك أشد اختزالًا مما هو الآن، لتجرده من النقط والألفات الممدودة، وكان الكتّاب بدائيين لا يستطيعون ضبط الكتابة حتى برسمها القاصر السخيف؛ إذ كان هذا فإن باب الخطأ والتصحيف كان مفتوحًا على مصراعيه؛ ويكفي أن يكون للألفاظ بعد تصحيفها، معان تتلاءم قليلًا أو كثيرًا حتى يمضي القارئ في قراءته ويتعصب لها. أرأيت إذن يا سيدي مبلغ الضرر الذي نشأ في أول الإسلام عن سوء الرسم ووجازته وقابليته للتصحيف؟ ... على أن عثمان إذا كان له عند الله وعند المسلمين يد بجمعه القرآن، فإن عمله لم ينحسم به الشر من أساسه، كل ما كان أنه كفى المسلمين شر جهل الكاتبين الذين لم يحسنوا كتابة ما لديهم من الصحف على قاعدة الرسم العربي السخيف، ثم شر من كانت لديهم صحف كتبوها في أوقات متباعدة

وفرص متفرقة، فأتت بطبيعة الحال غير وافية أو غير مراعى فيها ما للقرآن من ترتيب في السور والآيات، أما منبع الشر الحقيقي، وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف، فبقي على ما كان عليه، ولم يعالج بشيء أكثر من إيكال الأمر في كل مصر إلى الحفاظ المتدينين الصالحين، وهو في ذاته علاج واهن ضئيل". وما بعد هذا القول قول في نسبة التصحيف إلى القرآن الكريم في قراءاته؛ إذ بقي "منبع الشر الحقيقي وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف" والعلاج الذي وضع له "علاج واهن ضئيل". فما ظنك بداء - في نظر معاليه - لم يجتث من جذوره، وبقي يعمل ويفشو أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، ولم يعالج إلا بعلاج واهن ضئيل؟ حتى يأتي في آخر الزمان، مثل هذا الرجل النابغة، فيتخير من القراءات ما طاب له، ويرفض سائرها؛ لأنها كلها نتيجة الاجتهاد في قراءة "الرسم العربي السخيف" "القابل لكل تصحيف" وقد تريد الصدفة في اختياره أن يختار غير "الشكل الواحد واللفظ الواحد الذي نزل به الملك على الرسول المختار" كما زعم المستشرقون. وليس لنا بعد هذا إلا أن نقول له ولهم: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. أما بعد؛ وقد وفينا البحث حقه فيما نرى: فإني أرجو أن أظهر الناس على مبلغ علم معالي الباشا فيما هو أيسر من ذلك من العلم؛ فقد يبدو لي أنه - وإن كان من رجال القانون- عرف شيئًا من علم

أصول الفقه، ولو بالقدر الذي يعلم في كلية الحقوق لطلاب القانون، ولكن الباشا أتى بالعجب العجاب فإنه أراد أن يجادل أحد الرادين عليه، وأراد أن يذكر الأدلة الشرعية الأربعة المعروفة: الكتاب والسنة والقياس والإجماع؛ فذكر الثلاثة الأول وقال عن الإجماع (ص 27) ما نصه: "ثم نظروا - يعني المسلمين - فوجدوا أن أحوالًا قائمة أو تقوم في الناس، وعلى الأخص فيما فتحها المسلمون من الأمصار، من عادات في آداب السلوك وفي كيفية تناول وسائل الحياة والاستمتاع بها، ومن اصطلاحات ومواضعات وعرف في المعاملات لم يأمر بها كتاب ولا سنة، ولم يمنع منها كتاب ولا سنة، فأوجبوا بقاء تلك الأحوال ما هو قائم منها وما يقوم واعتبارها أصلًا يصار إليه إذا حدث بسبب حال منها نزاع، وسموا علة هذا الاعتبار الإجماع، وجعلوه من أدلة التشريع الإسلامي ومصادره"! ! ولست أحب أن أجادله في النظرية التي أتى بها: أصحيحة أم باطلة؟ وإنما أحب أن أسائله عن صحة نقله؛ فإنه نقل أن المسلمين عملوا هذا الذي زعم وأنهم سموه إجماعًا. فهو ينسب هذه النظرية لعلماء الإسلام على أنها هي الإجماع الذي يحتجون به ويجعلونه أحد الأدلة الأربعة، أي أنه يجعل هذا هو تعريف الإجماع عندهم، والذين بحثوا في الإجماع واستدلوا به واعتبروه أحد الأدلة هم علماء الفقه وعلماء الأصول. فأنا أسأل معاليه: أين وجد في كتاب من كتب الفقه أو من كتب

الأصول هذا التعريف للإجماع؟ سواء أكان من كتب المذاهب الأربعة أم من غيرها من مذاهب الشيعة الإمامية أو الظاهرية أو الزيدية أو أي مذهب من مذاهب علماء الإسلام؟ ! وليس له أن يدّعي أن هذا رأيه وأنه حر أن يرى ما يعتقد صحته، فليس المقام مقام رأي له وإنما المقام مقام نقل أطلقه عن علماء الإسلام جميعًا، نسب إليهم فيه تعريفًا للإجماع لم يقله أحد منهم قط على كثرة الأقوال التي قالوا في تعريفه، ولا مناص له من أن يجيب، وعليه أن يذكر الكتاب الذي نقل منه، ويذكر الجزء والصفحة منه، ويُعَيِّن طبعة الكتاب إن كان مطبوعًا، ومكان وجوده إن كان مخطوطًا.! فإن لم يفعل - ولن يفعل - فقد عرفنا مقدار أمانته في النقل، ومبلغ علمه ببديهيات الإسلام! وسنرى. * * *

الإيمان قيد الفتك

الإيمانُ قَيْدُ الفَتْكِ (*) روع العالم الإسلامي والعالم العربي، بل كثير من الأقطار غيرهما باغتيال الرجل، الرجل بمعنى الكلمة، النقراشي الشهيد غفر الله له، وألحقه بالصديقين والشهداء والصالحين. وقد سبقت ذلك أحداث، قدم بعضها للقضاء وقال فيه كلمته وما أنا الآن بصدد نقد الأحكام، ولكني كنت أقرأ كما يقرأ غيري الكلام في الجرائم السياسية وأتساءل: أنحن في بلد فيه مسلمون؟ وقد رأيت أن واجبًا عليَّ أن أبيِّن هذا الأمر من الوجهة الإسلامية الصحيحة؛ حتى لا يكون هناك عذر لمعتذر، ولعل الله يهدي بعض هؤلاء الخوارج المجرمين؛ فيرجعوا إلى دينهم قبل أن لا يكون سبيل إلى الرجوع. وما ندري من ذا بعد النقراشي في قائمة هؤلاء الناس. إن الله سبحانه توعد أشد الوعيد على قتل النفس الحرام. في غير آية من كتابه {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: الآية 93]. ¬

_ (*) الأساس 2/ 1/ 1949.

وهذا من بديهيات الإسلام التي يعرفها الجاهل قبل العالم، وإنما هذا في القتل العمد الذي يكون بين الناس في الحوادث والسرقات وغيرها (القاتل يقتل وهو يعلم أنه يرتكب وزرًا كبيرًا). أما القتل السياسي، الذي قرأنا جدالًا طويلًا حوله، فذاك شأنه أعظم، وذلك شيء آخر. القاتل السياسي يقتل مطمئن النفس، راضي القلب يعتقد أنه يفعل خيرًا؛ فإنه يعتقد بما بث فيه من مغالطات أنه يفعل عملًا حلالًا جائزًا، إن لم يعتقد أنه يقوم بواجب إسلامي قصر فيه غيره، فهذا مرتد خارج عن الإسلام يجب أن يعامل معاملة المرتدين، وأن تطبق عليه أحكامهم في الشرائع، وفي القانون هم الخوارج كالخوارج القدماء الذين كانوا يقتلون أصحاب رسول الله ويدعون من اعترف على نفسه بالكفر، وكان ظاهرهم كظاهر هؤلاء الخوارج بل خيرًا منه، وقد وصفهم رسول الله بالوحي قبل أن يراهم، فقال لأصحابه: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم ج 1 ص 292 - 293) وقال أيضًا "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم

القيامة". حديث علي بن أبي طالب في صحيح مسلم ج 1 ص 293. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة متواترة، وبديهيات الإسلام تقطع بأن من استحل الدم الحرام فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. فهذا حكم القتل السياسي، هو أشد من القتل العمد الذي يكون بين الناس، والقاتل قد يعفو الله عنه بفضله، وقد يجعل القصاص منه كفارة لذنبه بفضله ورحمته، وأما القاتل السياسي فهو مصر على ما فعل إلى آخر لحظة من حياته، يفخر به ويظن أنه فَعَلَ فِعْلَ الأبطالِ. وهناك حديث آخر نص في القتل السياسي، لا يحتمل تأويلًا فقد كان بين الزبير بن العوام وبين علي بن أبي طالب ما كان من الخصومة السياسية، التي انتهت بوقعة الجمل، فجاء رجل إلى الزبير بن العوام فقال: أقتل لك عليًّا؟ قال: لا، وكيف تقتله ومعه الجنود؟ قال: أَلْحَقُ بِهِ فأَفْتِكُ به. قال: لا؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الإيمانَ قَيْدُ الْفَتْكِ، لا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ". (حديث الزبير بن العوام رقم 1429 من مسند الإمام أحمد بن حنبل: بتحقيقنا. أي أن الإيمان يقيد المؤمن عن أن يتردى في هُوَّةِ الرَّدَّة، فإن فعل لم يكن مؤمنًا. أما النقراشي فقد أكرمه الله بالشهادة، له فضل الشهداء عند الله وكرامتهم، وقد مات ميتة كان يتمناها كثير من أصحاب رسول الله، تمناها عمر بن الخطاب حتى نالها فكان له عند الله المقام العظيم والدرجات العلى.

وإنما الإثم والخزي على هؤلاء الخوارج القتلة مستحلي الدماء، وعلى من يدافع عنهم، ويريد أن تتردى بلادنا في الهُوَّةِ التي تردت فيها أوربة بإباحة القتل السياسي، أو تخفيف عقوبته؛ فإنهم لا يعلمون ما يفعلون، ولا أريد أن أتهمهم بأنهم يعرفون ويريدون. والهدى هدى الله. * * *

على الطريقة الأمريكية

على الطريقة الأمريكية (*) كثيرًا ما نقرأ في التلغرافات الخارجية آراء عجيبة في التجني على الدول الإسلامية وأممها خاصة، وعلى الدول الشرقية وأممها عامة، ينعي فيها كاتبوها على الأمم المظلومة أن تتململ، وأن تحاول الإفلات من القيود التي كبلها بها هؤلاء الوحوش المستعمرون، من أقصى الأرض إلى أدناها. ومن مثل ذلك ما نشرته جريدة البلاغ يوم الثلاثاء 5 فبراير الحالي سنة 1952 عن جريدة أمريكية، تدعى "نيويورك تيمس" قالت في مقال افتتاحي أمريكي: "إن إعلان دول الكتلة العربية الأسيوية عن نيتها عرض قضية تونس على مجلس الأمن، هو قرار يدعو إلى الأسف؛ فإن إصرار كل من الجانبين على عدم الاتفاق مع الآخر، وتدخل الدول الأخرى، يعتبر خير وسيلة لإمداد "مأساة" بالنسبة إلى جميع الدول التي يعنيها الأمر". فهذه الجريدة الأمريكية شأنها شأن سائر قومها، وشأن سائر هؤلاء الناس الذين لا يفقهون، والذين لا يعرفون العدل إلا أن يكون للجنس الإفرنجي، من أقصى شرقي أوربة، إلى أقصى غربي أمريكا، ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي المجلد السادس عشر، العددان الخامس والسادس، جمادى الأول والثاني 1371 هـ.

وإلى جنوبها، بل إلى جنوب إفريقية، بالنسبة للدخلاء هناك من الإفرنج ونسلهم الأبيض! ! نعم، ويضاف إلى ذلك شذان الأمم ونُفاية الشعوب، ولصوص الدنيا، من بني إسرائيل الذين لعنهم الله {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (¬1). والذين ضرب الله عليهم الجلاء أينما كانوا وحيثما وجدوا، والذين {تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (¬2). ولا يزال بعض المخدوعين من العرب، من المسلمين، ومن الشرقيين، يحسنون الظن بهؤلاء الوحوش المتعصبين الطاغيين، ويجاملونهم بمعسول القول، ويتملقونهم بألوان من الملق لا تنبئ إلا عن ذلة وصغار، مهما يأتيهم منهم من نذر، ومهما يلاقوا منهم من صفعات مدوية أو مجاملات ساخرة، أو خداع كاذب. وها هو ذا أحد وزرائهم الكبار، بل هو وزير الدولة التي تمسك الزمام في العالم الغربي المخادع المستعمر والتي تريد أن تأخذ مكان الإمبراطورية العجوز المنحلة الزائلة بإذن الله: هذا الوزير لا يستحي أن يقول ما نشرته جريدة المصري يوم 8 فبراير سنة 1952، لمراسلها في واشنطن، يقول: "أبدى وزير الخارجية الأمريكية أسفه عن ازدياد العواطف الوطنية عند بعض الدول الإسلامية، عند نظر بعض المسائل، كالمسائل الخاصة بمراكش ومصر وتونس! وقال: إن هذه ¬

_ (¬1) المائدة: 78. (¬2) الأعراف: 167.

خمارة حقيقية! !

المسائل تستحق الدراسة بكل دقة، ولكن من المؤسف أنها عرضت بشكل عاطفي"! ! إذن فهذه المذابح في القنال بمصر، وفي تونس، وفي مراكش، وهذا التدمير المنظم لبعض البلاد، وهذه المذابح للأعراض، وغير ذلك من الفظائع الوحشية، التي لا تصدر إلَّا عن وحوش ليس لهم دين ولا خلق، وهذا الذي يصنع سادتهم اللصوص الكبار من اليهود: كل أولئك لا يزيد في نظر وزير أمريكا على "مسائل تستحق الدراسة بكل دقة" لولا أنها "عرضت بشكل عاطفي"! ! أي أن مسائل حقوق الأمم في الاستغلال، وفي إخراج المستعمر الغاصب من بلادها، وفي المحافظة على سيادة الدولة في بلادها، أو في المطالبة بهذه السيادة المعترف بها لكل أمة على وجه الأرض لا تزيد في نظر الوزير الأمريكي على مسائل الحب والغرام، ومسائل الفسق والفجور التي يسمونها "مسائل الحب" والتي هي ديدان هذه الأمم الفرنجية عامة، والأمة الأمريكية خاصة! ! أرأيتم أيها الناس، بل رأيتم أيها المسلمون مثل هذه النظريات الأمريكية؟ ! 14 - خمارة حقيقية! ! إن حوادث القاهرة في يوم السبت 26 يناير سنة 1952، لا تكاد تنسى، فهي أشد ما رأينا من الفظائع والإجرام بما كان فيها من عدوان وبغي، وسرقة وتدمير، دون أن يردع المجرمين رادع،

والسلطة القائمة الآن بسبيل وضع اليد على المجرمين اللصوص، وعلى مَن وراءهم من المحرضين والمدبرين، ونحن على ثقة من وصول يد العدل إلى هؤلاء وأولئك، إن شاء الله. ولكن لنا عبرة في بعض النواحي التي تكشف عنها هذه الأحداث المدمرة فمن مثل ذلك أنا كنا نسمع ونحن أطفال صغار، ثم شبان ناشئون، أن يطلق العامة وأشباههم على "لوكندة شبرد" اسم "خمارة شَبَتْ"، وكنا لا نعرف ما وراء هذا الاسم من حقيقة فظيعة، لم يكن خيالنا ليصور وجودها في بلد "إسلامي" أو هكذا يسمى، حتى جاءت هذه الأحداث الفظيعة، فكشفت لنا بعض هذه الحقائق المنكرة، وما ندري أيهما أشد فظاعة وأنكى؟ أهذه الحوادث أم هذه الحقائق؟ ! ! حتى أعلمتنا هذه الحقائق أن العامة في طفولتنا كانوا: ملهمين، وإما عارفين. فقد رأينا في بعض الصحف التي تصف ما لقيت "لوكندة شبرد" من التدمير أن "قبو الفندق كان يحتوي على أكثر من 26 ألف صندوق من صناديق الويسكي" وقد ضاعت كلها في الحريق، وذلك يعنى أن مخزون الويسكي بالفندق زاد على ربع مليون زجاجة، كما يقولون إن نحو مائة ألف زجاجة شمبانيا قد ذهبت هي الأخرى طعمة للنيران، كما دمرت عدة صناديق من الكونياك المعروف باسم كونياك نابليون، وعمر الزجاجة الواحدة منه أكثر من 70 سنة، وكانت إدارة الفندق تحتفظ بهذه الزجاجات ولا تقدمها إلا لنزلائها من الملوك، فإذا

صدق ما قيل من أن المواد الكحولية هي التي ألهبت الحريق، وكانت السبب المباشر للتدمير الشامل، فإن ذلك يعني أن حريق شبرد قد غذته هذه المشروبات الروحية بأكثر من 70,000 سبعون ألف جالون من المواد الكحولية الملتهبة". (عن جريدة الأساس يوم الأربعاء 17 جمادى الأولى سنة 1371 - 13 فبراير سنة 1952). إذن فلم يكن "شبرد" فندقًا، أو لوكندة كما يسمى، بل كان "خمارة حقيقية" هي أجدر باسم "خمارة شبت"، كما كان يسميها العوام والدهماء. إذن فقد كان وصمة عار في جبين بلد يوصف بأنه "بلد إسلامي"، وفى جبين دولة ينص دستورها على أن "دين الدولة الإسلام". وها نحن أولاء نرى الأخبار تبشر البلاد! بأن شركة مصرية قد تتشرف بإعادة هذه "الخمارة" إلى سابق مجدها المخزي المخجل! وما ندرى ما حقيقة هذا؟ ولكنا على ثقة بأن سيعود هذا الخزي والفجور سافرًا متهتكًا، سواء أقامه ناس من الحيوانات الأوروبية المنحلة، أم أقامه ناس من عبيدهم عقلًا وروحًا ممن ينتسبون عارًا بحق الوِلاد إلى هذه الأمة الإسلامية المسكينة! . وما كانت "خمارة شبت" وحدها بالعار الذي تخزى به هذه الأمة المنتسبة إلى الإسلام، ولكن الحوادث أظهرتها مصادفة مثالًا بارزًا يتحدث عنه. وأرى أنه يجب على الأمة الإسلامية عامة، وعلى الأمة المصرية خاصة، أن تحدد موقفها من الدِّين والخلق، ثم من الدنيا ومتاعها،

حضور المسلمين الصلاة في الكنائس

وأنا أعرف ما سيتحدث به عبيد أوربة وعبيد المال، من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وممن لا يستطيعون الصبر عن تلمس المتعة حيث كانت، وممن لا يستطيعون الصبر عن "الفن والجمال"! ! وعن الشهوات وعبادة المال. أتريد هذه الأمة أن تعبد الله وحده، وتقف عند حدوده التي أمر بها كل من انتسب إلى الإسلام، أم تريد أن تعبد المال وحده، فتحرص على وروده من أوربة من أي طريق كان، ولو من طريق التهتك والفجور؟ ! . على الأمة أن تختار أحد الطريقين: فإما إلى جنة وإما إلى نار، ولكن فليعلم المسلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمّهم الله بعقابه" (¬1). وليعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله الخمر، ولعن شاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها" (¬2)، فليختر امرؤ لنفسه. حضور المسلمين الصلاة في الكنائس نشرت جريدة البلاغ، يوم الأحد 14 جمادى الأولى سنة 1371 = 10 فبراير سنة 1952 تلغرافيًّا في مدينة الفاتكان: أن بابا رومة لن ¬

_ (¬1) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند، رقم 1، 16، من حديث أبي بكر الصديق. (¬2) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند 5716، من حديث عبد الله بن عمر، ورواه أيضًا أبو داود وابن ماجه.

يُمثَّل رومة في جنازة ملك الإنجليز جورج السادس، على الرغم من أنه يشارك الأسرة المالكة في بريطانيا والشعب البريطاني الحداد إلخ. وقال التلغراف: "وتفسير عدم اشتراك البابا بمندوب في الجنازة: بأن الصلاة في الكنيسة ستجري حسب طقوس الكنيسة الإنجليكانية، وهي طقوس لا يستطيع المندوب البابوي المشاركة فيها". فهذا رجل مسيحي، بل هو رأس المسيحية الغربية المعترف به في دول العالم قاطبة، وملك الإنجليز الميت مسيحي أيضًا، والكنيسة التي ستقام فيها جنازته مسيحية، وطقوس الجنازة مسيحية، ولكن الفارق بين الفريقين اختلاف المذهب، لا اختلاف أصل الدين، فهذا الرجل الذي يحرص على طقوس مذهبه، يأبى أن يمثل رسميًّا في كنيسة لها طقوس غير طقوسه، ولا يستطيع مندوبه المشاركة فيها. يفعل البابا هذا ويراه حقًّا له، ولا تستطيع رأس أن ترتفع بالدهشة لما صنع، ولا يستطيع لسان أن يقول كلمة، ولا يستطيع قلم أن يكتب حرفًا، ولا يستطيع أحد من أتباعه أو من غير أتباعه أن يرميه بالتعصب الديني بل بالتعصب المذهبيّ الفرعي. أما نحن فإذا قلنا: إن شريعتنا تحرم على كل مسلم أن يحضر صلاة غير صلاة المسلمين، في بيعة أو كنيسة أو غيرهما، ولم يشارك فيها ولم يعتقد منها شيئًا وأن من فعل هذا فقد ظهر بين المسلمين بمظهر الكفر والردة، لا يقبل منه عذرًا بمجاملة سياسية، ولا بنفاق اجتماعي، ولا بأي عذر من الأعذار، إذا قلنا شيئًا من هذا ثارت الدنيا وأخذتنا الأقلام، والألسنة

من كل جانب، ونادوا بالويل والثبور من تعصب المسلمين تعصبًا دينيًّا، ورُمينا ببغض المسيحيين، وببغض الأجانب، وقال كلٌّ ما شاء، بل يقول ذلك وأكثر منه الكتاب الكبار، والمتعلمون العظماء، الذين يرون أنهم أعرف الناس بحقائق الإسلام وشرائعه، بما ارتضعوا من لبان أوربة، وبما شربوا من نتاج المبشرين، وبما ربوا في أحضان الخواجات! ! . * * *

خطاب مفتوح إلى شيخ الأزهر

خطاب مفتوح إلى شيخ الأزهر (*) حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أتشرف بأن أرفع إليكم مع كتابي هذا مقالًا منشورًا في مجلة (السوادي) في العدد 93 الصادر يوم الجمعة 9 رمضان سنة 1367 (16 يوليو سنة 1947). وهذا المقال بعنوان (الرقص فن وعبادة. بقلم الفنان أحمد البيه). وستجدون فيه فضيلتكم أن الكاتب يكتب بروح وثنية أوربة قبل أن تدخلها النصرانية دخولًا شكليًّا، بل هي وثنية أوربة الآن. ويكفي أن يزعم هذا الكاتب الذي سماه أهله باسم إسلامي: أن رقص النساء العاريات عبادة، وأن يقول: (إن الراقصة تتعرى لتتجرد من مظاهر الدنيا، ولتكن أكثر انطلاقًا وأكثر روحانية وهي تؤدي صلاة الجسد في خضوعه للروح). وأن يختم مقاله بقوله: (هذا الفن الذي يحترمه الإحساس ويمجده العقل، وتتعبد في محرابه الروح، قبل أن تسجد له العواطف). ولست أزعم أن هذا المقال أكثر من غيره فحشًا وفجورًا مما ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، المجلد الثالث عشر، العدد الرابع، ربيع ثاني 1368 هـ.

امتلأت به مجلات مصر وصحفها، كلا بل لعله من أخفها وأهونها، إنما أنكر فيه الروح الوثني الملعون، روح عبادة الجسد كعبادة الأصنام، بل هو أقبح، وهو الروح الذي قضى على الرومان واليونان القدماء، والذي سيقضي على أوربة وأمريكا قريبًا إن شاء الله، وهو الروح الذي بدأ يتغلغل في بلادنا، فيملأ عقول شبابنا وشيابنا ورجالنا ونسائنا، ونخشى أن يقضي علينا أيضًا من سبيل قبلنا. وما رميت بكتابي هذا إلى أن أستعدي مولانا الأستاذ الأكبر بما له من سلطان على الكاتب الذي كتب، ولا على المجلة التي نشرت، ولا أن أستعدي سلطان الدولة عليهما، فما أيسر هذا عليَّ إن أردته. ولكني أرمي إلى أعلى وأشرف، إلى العمل على حفظ عقائد هذه الأمة البائسة التي تتردى في مهاوي الإلحاد والكفر والوثنية وهي لا تشعر .. أستغفر الله. بل إن كثيرًا من كبرائها وعظمائها ومثقفيها يشعرون ويقصدون، ثم لا يستحون! ! وإلَّا فتكون أمة مسلمة: الأمة التي لا تحكم إلَّا بقوانين بنيت على عقائد وثنية مصبوغة بصبغة مسيحية، هي أبعد ما تكون عن المسيحية، وعن كل عقيدة من عقائد التوحيد، وعن كل خلق فاضل من أخلاق الأديان السماوية. قوانين تبيح الفسوق والفجور، وتعرف كل منكر، وتنكر كل معروف، وما قصة القانون الذي ضرب علينا أخيرًا ببعيدة، القانون الذي فرض على بلد إسلامي في عهد استقلاله بشؤونه، وبعد رفع نير الأجانب له من عنقه. هذا القانون الذي جعل أساسه ما نسب إلى جستنيان (الإمبراطور

الوثني) والذي لم يستحيوا أن يسموا مجموعة ما نسب إليه (مدونة جستنيان) تشبيهًا باسم (مدونة الإمام مالك) بل استهزاءً بها وتحقيرًا. وها نحن أولاء في فترة من أخطر الفترات التي تمر بالأمم، فترة الجهاد بالسيف لرد عدوان المعتدين على بلادنا وديننا من أعداء الله اليهود، وهو جهاد ديني لا شك فيه، له ما بعده من أخطر النتائج في مصائر الأمم العربية، والأمم الإسلامية، ومن أظهر الأحكام الإسلامية المنصوصة في القرآن: أحكام الغنائم، وقد أبى الله إلَّا أن يحكم فيها بنفسه في كتابه حكمًا واضحًا مفسرًا، فلم يتركها لاستنباط العلماء واجتهاد المجتهدين، ومع ذلك فإننا نرى أن قد وضعت لها أحكام أخيرة تخالف أحكام الله وآياته، وشكلت له محكمة خاصة تحكم فيها بما وضع لها من أحكام، تحكم صريحًا بغير ما أنزل الله. أفتظن يا سيدي الأستاذ - أن أمة تصنع هذا، وهي تلجأ إلى الله تلتمس منه النصر والعون، وقد رمتها الأمم الوثنية المسيحية المتعصبة عن قوس، وليس لها أمل في النصر إلا من عند الله وحده، أتكون أمة هذا أملها وهذا ملجؤها أمة مسلمة وهى تخرج على دينها، وعلى ربها هذا الخروج الواضح الصريح؟ ! سيدي الأستاذ: إن المسألة أخطر من أن تعالج بمحاكمة كاتب، أو مصادرة مجلة، أو الرد على كتاب يؤلفه معتد يعتدي على الدين.

المسألة مسألة الأزهر وهو سياج الإسلام في هذا الزمن، ومنه يرجى العلاج إن كان لذلك علاج، وهو المسؤول عن تعليم المسلمين دينهم، وبث عقائده الصحيحة فيهم على الوجه الصحيح الذي يأخذ الناس إلى النهج الواضح والصراط المستقيم، قبل أن يكون مسؤولًا عن التبشير بين أمم غير إسلامية، أو الدعاية إلى شرائعه وآدابه في بلاد غير بلاده. وبيدكم سلطة واسعة، تستطيعون بها أن تجندوا كثيرًا من العلماء الأفذاذ الذين تثقون بهم، وتطمئنون إلى غيرتهم وعصبيتهم، وحميتهم؛ ليقروا ما ينشر ويبث من العقائد والنظريات والمبادئ الهدامة، في الصحف والمجلات والكتب وغيرها، ثم ينقبوا عن مصادرها العقلية والثقافية، وعن الدوافع لها في نفوس هؤلاء الهدامين، حتى يشخصوا العلة وأسبابها، ويصلوا إلى مصادرها في النفوس والعقول. ثم تأتي مهمتهم الكبرى، وواجبهم الأعظم، فيصفون العلاج الحكيم، ويضعونه موضعه، في خطط دقيقة حكيمة، خطط الجماعات الرشيدة، لا الأفراد الموزعة القوى، وبذلك قد يكون العلاج ناجعًا موافقًا للداء، بإذن الله. هذا رأيي أرفعه إلى مولانا الأستاذ الأكبر، لا أريد إلا وجه الله والعمل على أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تنجو الأمة من الخطر المحيق بها، وفقنا الله وإياكم للعمل الصالح، ووفق المسلمين جميعًا إلى إعلاء كلمة التوحيد وإلى إحاطة المسلمين بما يحفظ عليها دينهم وعقائدهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (الهدي النبوي): هذا الخطاب عندنا من يوم أن أرسله فضيلة كاتبه إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وقد كنا نتربص بنشره حتى يأتي جواب فضيلة الشيخ الأكبر وننشرهما معًا، ليكون لذلك الأثر الصالح المرجو لخير هذه الأمة التي تعمل معاول التفرنج والنظريات الخطرة، والمبادئ الهدامة في هدم كل مقوماتها جاهدة، وهي مستسلمة لذلك في استخذاء ومذلة، لا سبب لهما إلَّا اتباع الأهواء والشهوات ثم التواكل، والفرار من ميادين الجهاد والعمل لنصرة الحق ومحاربة الفساد والبغي، وأغلب الظن أن فضيلة الأستاذ الأكبر قد أعطى هذا الموضوع ما ينبغي له من العناية، ولكن كثرة مشاغله بما يحمل من الأعباء الإدارية الجأته إلى إرجاء الجواب، وإنا لفي انتظار جواب الشيخ على ذلك وهو سيكون إن شاء الله جوابًا عمليًّا أكثر منه قوليًّا، والله يوفقنا وإياه لما يحبه ويرضاه، ويجعلنا ممن قال الله فيهم {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الحج: 41.

خواطر

خواطر 1 - في التعليم (*) قال الشيخ: يريد المجددون أن يجمعوا في التعليم بين الذكور والإناث - جريًا على ما اختطوا لأنفسهم من خطط في هدم الدين ونشر الإباحية، وأحسن ما رأيناه صالحًا للرد عليهم وكشف أغراضهم كلمة كاتب فاضل من رجال التعليم في أهرام الخميس (6 مارس سنة 1930) قال فيها: إننا نرى الآن في المدارس أنه كثيرًا ما يختلط طالب السنة الخامسة الثانوية الذي تجاوز الثامنة عشر ربيعًا مع طالب السنة الأولى الذي لا يجاوز الثانية عشر، وهناك فارق عظيم بين سنيهما في الأخلاق والآداب، والاجتماع بينهما كثيرًا ما يكون قبل دخول الفصول وفي أوقات الفسح، وهذا الاجتماع بين كبار الطلبة وصغارهم كان من الواجب منعه؛ لأن أسباب الضرر التي تنتج عن ذلك معروفة ولا موضع لذكرها؛ ومن المحتم الفصل بين هاتين الطبقتين؛ فيحدد موعد لدخول كبار التلامذة، وموعد لدخول صغارهم ... وكذلك عند الانصراف من المدرسة حتى يمتنع الاختلاط. ¬

_ (*) الفتح، العدد رقم (190).

2 - في المحاضرة الحمقاء

ولإمكان منع هذا الاختلاط أيضًا، يجب أن نمنع تناول الغداء في المدارس؛ لأنه فرصة للاجتماع. ويظهر من كلام حضرة الكاتب أنه ممن مارس التربية، ووقف على أسرار المدارس، ودرس أخلاق الطلاب أدق درس. فهل يخجل بعد هذا من يزعمون أنهم يجددون للأمة في كل نواحي حاجاتها - حتى الدِّين ما أظنهم يخجلون! 2 - في المحاضرة الحمقاء قد أحسن جدًّا من وسمها بهذه السمة. ولا ندري إلى متى تغضي الأمة - ولا أقول الحكومة - عمن يهاجمها في دينها وعقائدها، ويسب نبيها - صلى الله عليه وسلم -؟ كما فعل ذاك المحاضر الآخر بقاعة الجامعة الأمريكية. أترضى أمة من الأمم أن تغضي عن مثل هذا! ! قام رجل مسلم في أي بلد من بلدان أوربة أو أمريكا وطعن علنًا في سيدنا عيسى - صلى الله عليه وسلم - بل في أحد من يقدسونهم من الرجال والنساء - وكثير ما هم - أقول هل يتركه القوم هناك يقول ما شاء؟ ! كلا والله، وإن الأمم التي تفقد الغيرة على دينها وأعراضها ليس لها إلا الدمار. أيها المسلمون، الأمم تجدّ وأنتم تهزلون. بالأمس قام رجل مسلم غيور - هو صاحب الفتح - يعقد أعمالًا مما صنع أمان الله - ملك الأفغان السابق - يمقتها الإسلام، وما كتب إلا غيرة على دينه

3 - في الأعراض

وانتصارًا لعقيدته وللأخلاق، ومع هذا فقد كان جزاؤه الحبْس، ولو مع إيقاف التنفيذ. وها هم أولاء يهاجموننا في ديننا وعقائدنا ولا يستحون أن يطعنوا في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشخصه مقدس عند كل مسلم، ثم لا يرون أمامهم إلا جبنًا وخنوعًا. 3 - في الأعراض بلغنا أن شابًا خدع فتاة قاصرًا لم تبلغ السادسة عشر وعاشرها، وظهر أنها حامل منه - وكثيرًا ما يحدث مثل هذا - فهذا أضاع عليها شرفها وما ترجو في حياتها، ولا يمكن تزويجها منه؛ لأنه مسيحي وهي مسلمة، ومن الأسف أن القانون لا يصل إليه لعقابه طبقًا للمادة (232 عقوبات)؛ لأن سنها زادت عن أربعة عشر عامًا. تحدثت في هذا الأمر مع أحد أفاضل نوابنا الكرام، فكان من رأيه اقتراح رفع السن في هذه المادة إلى ستة عشر عامًا، وكان من رأيي رفعها إلى واحد وعشرين - إن لم يمكن الآن تحريم الزنا في القوانين كما هو محرم في الأديان - وحجتي واضحة في نظري وهي: أن القاصر لم يبح له في التشريع الحديث قبل بلوغ هذا السن أن يتصرف في شيء من ماله، وجعل اختياره في بيعه وشرائه كأنه لم يكن، فكيف تكون له الخيرة في التصرف في عرضه وهو أغلى من كل مال؟ ! إنا نعرض أمثال هذا الحادث على الغيورين من رجال الشريعة ورجال القانون؛ ليبدوا فيه آراءهم ويبحثوا عن الدواء وقد ظهر الداء. وفقهم الله جميعًا.

4 - لصوص الثياب

4 - لصوص الثياب لصَّ (¬1) المجددون من الشبان المفتونين بهم دينهم وعقولهم، وسرقوا من الفتيات عفافهن وحياءهن، والآن يريدون أن يسرقوا من الفريقين ثيابهم. بالدعوة إلى "العري" قاتلهم الله أنى يؤفكون! ألا ترى قائلهم يقول في المجلة السلموسية (يناير 1930): (إننا طغينا طغيانًا عظيمًا في تزيين اللباس، حتى باتت الزينة خطرًا على كل شاب مراهق تملأ رأسه خيالات كاذبة، لو أنه عرف حقيقتها لخفف من غلوائه في غرامة بجمال المرأة، ولو كنا نعيش كلنا عرايا كما تفعل الآن في أوقات معينة إحدى الطوائف في ألمانيا؛ لأخذ الاشمئزاز شيئًا كبيرًا من ذلك الغرام). ويقول أيضًا: ويجب أن لا يبرح من أذهاننا أن الإغراء الجنسي إنما يأتي من كثرة الملابس، وليس من قلتها، بل إن التجرد أو العري أدعى للاشمئزاز منه إلى الإغراء). فما أوقح وما أفجر! ! وهذا نوع من تجديدهم لا يحتاج إلى تعليق. 5 - هل في شعائر الإسلام وثنية (¬2)؟ وهذا مجدد آخر من طراز راقٍ! ! كتب في الأهرام (7 مارس سنة ¬

_ (¬1) لص بمعنى سرق كما في المصباح، وهو من زياداته على اللسان. (¬2) مجلة الفتح العدد (رقم 191).

1930) فوصف ما شاهد في روما (مدينته الخالدة) من تقبيل قدم صنم من أصنامهم ثم قال: "وكذلك في مكة يقبلون الحجر الأسود، وكذلك يقبلون في طنطا عمود السيد، وهنا يقبلون قدم تمثال بطرس، فنحن وإن اختلفنا مذاهب وشيعة مازلنا حافظين منذ أجيال دون وعي منا شيئا من عبادة الأسلاف .. شيئًا من الوثنية ... ". دعنا الآن مما يظهر في ثنايا كلمات حضرة الكاتب من تقديس النصرانية والحدب عليها - والكاتب يسمى باسم من أسماء المسلمين - فذلك من النتائج الخطيرة في حياة المسلمين من نظم التعليم في مدارس المبشرين، وفي البعثات إلى أوربا، بل وفي المدارس المصرية نفسها قاطبة، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ودعنا من محاسبته على لوازم أقواله ومراميها الدقيقة البعيدة، فلو حوسب حضرته عليها لكان من المدحضين. ولكن نسأل الكاتب: هل قال مسلم قبل اليوم إن تقبيل الحجر الأسود من شعائر الوثنية ومن عبادة الأسلاف؟ بل هل كان الحجر الأسود سلفًا لأحد من الناس؟ اللهم إنا نعوذ بك من فلتات ألسنتنا ومن غلبة أهوائنا، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو

قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم" (¬1). وإذ يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم" (¬2). إن تقبيل الحجر الأسود ليس له في شعائر الحج عند المسلمين أي معنى من معاني العبادة، وإنما هو عمل نقتدي فيه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مما عمل من مناسك الحج، وقد أمرنا أن نأخذ عنه المناسك؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند تقبيل الحجر: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك" (¬3). وإنما أوهم حضرة الكاتب الفاضل جهله بالشريعة الإسلامية وفرائضها - إذ سمع من بعض الناس إنهم يقبلون الحجر الأسود، أنهم يقبلونه على معنى من معاني الوثنية، كما تفعل أمم ذات أديان أخرى، ولعله معذور في هذا الفهم؛ لأن النفس لا تتجه إلا إلى ما نشأت عليه وأشربته في قلبها، فتنساق إلى تأويل ما تسمعه أو تراه على ما رسخ فيها من عقائد وعادات، ولو كان المعنى الذي رآه حضرته مما يجول في خاطر أحد من المسلمين لكان أولى أن يجول ¬

_ (¬1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه هو والترمذي. وانظر: الترغيب والترهيب (ج 4 ص 5) (¬2) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وانظر: فتح الباري (ج 11 ص 245 - 246) والعيني (ج 23 ص 71 - 72). (¬3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

6 - بحث في تاريخ السيد البدوي

في خواطر الصحابة - رضي الله عنهم - وهم كانوا قبل أن هداهم ربهم ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وثنيين متعمقين في الوثنية متعصبين لها يقاتلون عنها بأنفسهم وأموالهم، فما هو إلا أن أنقذهم الله بهدايته، وصدقوا رسوله حتى كانوا حربًا عليها وألدّ أعدائها. أقول: مع كل هذا لم يظن أحد منهم في تقبيل هذا الحجر معنى الوثنية التي كانت في أعماق قلوبهم وما توهموه قط، رحمهم الله ورضي عنهم. وأما تقبيل عمود السيد فإنا ننكره على من يفعله، وما يفعله إلا العامة وأشباههم جهلًا منهم وكثيرًا ما أنكره المهتدون. بل هذه القبور والقباب لا أصل لها في شريعة الإسلام، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتسوية القبور بالأرض؛ لأن الإسلام جاء بالحرب على الوثنية؛ لاقتلاعها بجذورها من القلوب. ومن الفكاهات في هذا الموضوع أن حضرة الكاتب زعم أن عمود السيد في طنطا، مع أن المعروف أنه في القاهرة في المسجد المنسوب إلى سيدنا "الحسين بن علي" رضي الله عنه. * * * 6 - بحث في تاريخ السيد البدوي وبهذه المناسبة نريد أن نسأل المؤرخين العارفين عن تاريخ "السيد أحمد البدوي" الذي يقول بعضهم بوجوده وينكره بعضهم، وأعني بهذا أنه هل وجد شخص حقيقي بهذا الاسم هو المدفون في

7 - مقاطعة الملحدين

طنطا والذي نسب إليه المسجد؛ لأن الذين كتبوا في ترجمة حياته إنما هم المتأخرون، ويزعمون أنه توفي في منتصف القرن السابع الهجري - أي؛ بين سنتي 600 و 650 هجرية - لأني لم أجد من ذكره من المؤرخين السابقين الذين يوثق بنقلهم إلا جلال الدين السيوطي الحافظ - رحمه الله - وهو من رجال أواخر القرن الثامن؛ لأنه مات سنة 911 هجرية، وبين التاريخين بون شاسع، ولم يذكر السيوطي عمن تلقى خبر تاريخه، والقاعدة الصحيحة عند علماء النقل وزعمائه - وهم حفاظ الحديث - أن المرسل لا تقوم به الحجة، وهو ما يرويه شخص عمن لم يدركه، ولم يتلق عنه مباشرة، لما فيه من جهالة الواسطة فلعله غير ثقة، وهذا أمر معروف، ولعل من يجيبنا عن هذا السؤال يذكر من أين نقل، والكتاب الذي نقل منه، على أنا لا نريد إلا التحقق من هذا الأمر، ونسأل الله العون والتوفيق. * * * 7 - مقاطعة الملحدين بث الملحدون دعوتهم بين كثير من الناس؛ فأفسدوا كثيرًا من عقائدهم، ولمسنا خطرهم على الإسلام بأيدينا، ورأيناه بأعيننا، ثم رأوا من المسلمين الصادقين التواكل والسكون؛ فراشوا سهامهم وأعدُّوا عدتهم وهاجمونا من كل جانب، والمبشرون من ورائهم يؤدونهم بأموالهم وصحفهم اتباعًا لخطة اختطوها بعد التجارب، وقد علموا أن تنصير المسلم دونه خرط القتاد، فاكتفوا الآن - مؤقتًا -

بالعمل على تنفيرهم من الإسلام وتحقيره في أعينهم، وانتزاع عقائده من صدورهم، وآية ذلك أن تجد هؤلاء المجددين لا يطعنون إلا في دين الإسلام وإن تظاهروا بمحاربة كل الأديان. وقد قامت حركة مباركة بين المخلصين المجاهدين في سبيل الله بالكتابة ضد كل من تحدثه نفسه بالعدوان على الدين الحق، ولكن الكتابة في نظري غير كافية، والمناظرة لا تجدي إلَّا قليلًا، وإنما الجهاد عمل (¬1). ولا يجوز لنا أن نعتمد في كل أمورنا - بل في أمر هو حياة الإسلام - على الحكومة، وما هي بمجيبة لنا دعوة، ولا بسامعة لصوتنا صدًى. والإسلام يكره العنف والهوج، ولكنه بجانب هذا يحتقر الجبن والذل ويرفض من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض. ويقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}. {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. [الممتحنة: 4]. فكرت في هذا كثيرًا فما وجدت من طرق الجهاد السلمي الهادئ أجدى علينا من مقاطعة الملحدين. لا أقصد بهذا أن لا نكلمهم فقط فذا أمر هين، ولكني أريد أن ¬

_ (¬1) الفتح العدد (رقم 194).

نقاطعهم في كل شيء، لا نأكل طعامهم ولا نضيفهم ولا نبايعهم ولا نصاهرهم، ونقطع كل صلة بأي فرد منهم، ونعلمهم بحكم الله تعالى بأنهم خرجوا من الإسلام وحاربوه؛ فلا صلة بينهم وبين المسلمين. إذا مات أحدهم لا يرثه وارثه المسلم، وإذا مات قريب لهم لا يرثونه، وإذا علمت المرأة أن زوجها منهم وجب عليها أن تفارقه؛ فإن نكاح الكافر للمسلمة نكاح باطل ومعاشرتها له حرام. إذا كان للرجل ولد منهم حرم عليه إبقاؤه معه تحت سقف واحد ووجب عليه إخراجه، وأن لا ينفق عليه، وكل ما يعطيه فإنما ينفقه في إعانة من يحارب دينه وهو عليه حرام. وقد أعجبني من هذا النوع كلمة لأستاذنا السيد رشيد رضا للآنسة التي أيدت الأستاذ محمود عزمي في وجوب مساواة المرأة بالرجل، فإنه قال لها (في عدد رمضان سنة 1348 من مجلة المنار الغراء): "يجب أن تعلم هذه الفتاة هي وأهلها، أنها إذا كانت تعتقد ما يعتقده عزمي في هذه المساواة، وتنكر حقيقة ما قرره الإسلام وحسنه، فهي مرتدة لا يجوز لمسلم أن يتزوجها ولا ترث المسلمين ولا يرثونها". وهكذا يجب أن نفعل؛ كل من أبدى للإسلام صفحته، صدعنا بأمر الله وصارحناه بحكم الإسلام فيه، وعاملناه بما تأمرنا به الشريعة في كل أموره. هذه فكرة كانت تجول بخاطري من زمن بعيد، وكلما هممت

8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج

بكتابتها تريثت حتى تنضج، وأنا أعرضها الآن على إخواني المؤمنين، فما قولهم؟ * * * 8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج (¬1) في الأسبوع الماضي أبى مجلس النواب أن يوافق على مشروع هذا القانون الذي قدمه صديقنا النائب المحترم الدكتور عبد الرحمن عوض. وبالرغم من احترامنا الكثير لحضرة النائب واعتقادنا إخلاصه في اقتراح هذا المشروع وفي أنه يرجو - وهو نقي الضمير - أن يحارب الأمراض السرية المهلكة التي أضاعت على كثير من الشبان حياتهم وسعادتهم، بالرغم من كل هذا، نحبذ قرار المجلس الموقر ونرى أنه قرار حكيم. إن محاربة الأمراض السرية لا تكون بزيادة القيود التي قيد بها الزواج، ويكفي ما أرهق به الناس منها، إلى إعراض أكثر الشبان النافعين، وهم زهرة الأمة عن الزواج. حاربوا الأمراض السرية إن شئتم بإلغاء البغاء المعلن والخفي، حاربوها بمنع الخمور وبإقفال دور الفسق. حاربوها بمنع الصور المتهتكة المخجلة التي تسمونها الصور ¬

_ (¬1) الفتح العدد (رقم 192) الصادر يوم الخميس 26 شوال سنة 1348 - 27 مارس 1930 م.

الفنية، حاربوها بمنع ما ترون كل يوم في دور التمثيل والملاهي، وقد أضاعت على فتيانكم وفتياتكم رونق الشباب وجدته. حاربوها بإيجاب الزواج على كل من أطاقه من الرجال والنساء، وبمنع التغالي في المهور والجهاز والأفراح. حاربوها بإعانة الأسر البائسة والأرامل واليتيمات؛ ممن يعانين شظف العيش ويجاهدن في سبيل الحياة، حتى يدفعهن الفقر المدقع إلى التفريط في الأعراض. حاربوها بإقامة حدود الله لا تخافون لومة لائم. أنا أعلم أن اقتراح إقامة الحدود في هذا البلد في هذا العصر يقابل بالسخرية والاستهزاء من فريق كبير من المسلمين - وأنا آسف - وآخرون منهم يرونه شيئًا فات ويشفقون على من يطالب به خشية أن يكون به مَسٌّ! ! هذا كله أعرفه وأشعر به، ولكني أفهم أني أخاطب قومًا مسلمين. أيها الناس: إن الله تعالى يقول في كتابه - وهو القانون الأول والدستور الأعظم الذي لا يجوز لمؤمن أن يخرج على شيء من أحكامه -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2]. ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن

سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". أيها المسلمون: طغت عليكم سيول المدنية الكاذبة؛ فأنستكم دينكم، واقتلعت من قلوب كثير منكم حبه واحترامه والغيرة عليه، حتى صرتم تنكرون على من يدعوكم إليه ثم تحاربونه جهارًا. لا والله لا فلاح لكم حتى تراجعوه وتهتدوا بهديه. سيقول كثير منكم: أنعود إلى أحكام العصور الوسطى؟ ونعم يا سيدي؛ إن القرون الوسطى كانت على أوربا ظلمًا وظلامًا وضلالة، ولكنها كانت على المسلمين عدلًا ونورًا وهدًى. أيها الناس: إن الله أرحم بعباده من رحمة الأم بطفلها، وأعلم بما يصلحهم في دينهم ودنياهم، وقد حد لهم هذه الحدود - وهو عالم الغيب والشهادة - هداية لهم وزجرًا، يداوي بها أمراضهم العصية. وهأنتم قد رأيتم عاقبة تركها، وسيستعصي عليكم الداء حتى تلجؤوا إلى الدواء. أين المجددون؟ ! ها هي أمة من الأمم تريد أن تعود القهقرى، فهلا أخذتم بيدها فأنقذتموها من (الرجعية)؟ ! أما قرأتم في البرقيات الخصوصية في مقطم الثلاثاء 18 مارس سنة 1930: (وافق مجلس النواب الإيطالي على مشروع القانون القاضي بإدخال التعليم الديني في المدارس

9 - تعليم الدين في المدارس

العالية، نعم! المدارس العالية - طبقًا لما جاء في المعاهدة بين الحكومة الإيطالية والفاتيكان، وقد بنى موافقته على أن الأمة لا تستطيع أن تبلغ درجة رفيعة من الرقي بغير التربية الدينية). أين أقلامكم الماضية وأسلحتكم المرهفة في محاربة الأديان، وفي منع تعليمها! ! هذا مجال لكم واسع تجولون فيه، فإن فزتم نلتم أعظم فخر بهداية أمة أوربية وإنقاذها من ظلمات الرجعية! أؤكد لكم أيها المصلحون أن أحدكم سيغص بريقه ألف مرة قبل أن ينطق لسانه بكلمة أو يخط بقلمه حرفًا، وما بكم من عجز أو عيّ، ولكنكم لا تحاربون من الأديان إلا دين الإسلام. * * * 9 - تعليم الدين في المدارس (¬1) فكرت كثيرًا في أنْ أجد وجهًا معقولًا، أو سببًا مقنعًا يمنع من تعليم الدين في المدارس - من كل نوع - فما اهتديت لشيء. الأمة بحمد الله مسلمة، وحكومتها تعلن أن دينها الرسمي هو دين الإسلام، وبجانب هذا يخرجون ناشئتها تجهل دينها، ثم لا يزال بها الجهل حتى تعاديه - وقديمًا قالوا: "من جهل شيئًا عاداه". ¬

_ (¬1) الفتح العدد (رقم 193) المصادر يوم الخميس 4 ذي القعدة سنة 1348 هـ - 3 إبريل 1930 م.

وصدقوا - لا تجد الآن في المدارس كلمة في تعليم الدين وتهذيب النفوس، حتى المدارس الابتدائية، وطلبتها أطفال، ليس فيها من ذلك إلا قشور إن لم تضر لم تنفع، ثم جعلوا درس الدين في آخر اليوم بعد أن يسأم الطفل ويملّ، وجعلوه علمًا إضافيًا - لا امتحان فيه - فأهمله المدرسون، وكثير منهم يشغل هذا الوقت الضئيل بتقوية الطلاب في العلم الذي يمتحنون فيه، ويسأل عنه إذا ساءت نتيجة الامتحان، هذه حقائق يعلمها كل من له أولاد في المدارس ويشعر بآثارها السيئة في نفوس الطلاب وأخلاقهم وآدابهم. وبعد كل هذا يدخل الطالب المدارس الثانوية فينسى المسكين الكلمات القليلة التي حفظها في المدرسة الأولى، ولم ترسخ في عقله ولم تتشربها نفسه، فما يكاد يشبّ حتى تتناوله أيدي الشياطين من إخوانه وغيرهم، فإذا به مهيأ للإلحاد. ثم لا يدخل المدارس العالية - قل: الجامعة - حتى يكون من أساطين الملحدين المجددين، فدينه محقر في نظره السامي! وأهله جامدون، ومعلموه المتمسكون بدينهم رجعيون، وهو وحده النابغ. ولن أسترسل في وصف ما صرنا إليه من هذه الحال؛ فإنه معروف لكل من يخالطهم ويسمع آراءهم ويحضر محاضراتهم. هذا هو الأكثر الأغلب إلا من هدى الله. إثم كل هذه السيئات في عنق من يستطيع المداواة ثم لا يفعل.

أرادوا أن يعلموا الأمة ويهذبوها، فانقلبت عليهم أغراضهم، وجدوا أمامهم الأزهر يعلم الناس، وكان إذ ذاك قائمًا وحده بالتعليم، وكان ما فيه من علوم لا يكفي لما يناسب العصر الحاضر، وكان الطريق الصحيح للرقي أن يدخلوا عليه ما شاؤوا من التهذيب والإصلاح، ولكنهم لم يفعلوا، فتركوه جانبًا، وأنشأوا بجواره أنواعًا من المدارس، ثم جاؤوا إلى العلوم التي اختص بها، وهي الشرائع والعلوم اللغوية، فعملوا لها مدرستين، وزادوا أخيرًا ثالثة، هي "قسم الآداب بالجامعة" حتى يتم القضاء عليه فلا تقوم له قائمة، وما أدري هل عمدوا أو أخطؤوا؟ إنما نرى النتائج والآثار، وعلم النيات عند الله. الأمة تريد العلم والتهذيب وتحرص على دينها، ولكن بجانب هذا يريد الإنسان الحياة، يريد أن يطرق سبل الكسب، يريد أن ينال حظه من نعيم الدنيا، وهذه المدارس قد احتكرت كل الفنون التي تنفع في اكتساب الرزق، فأقبل الناس على زجّ أبنائهم فيها وتكالبوا عليها، وليس في مقدورهم الإعراض عنها، وقد حببت إليهم العاجلة، وإن كثيرًا من الآباء ليبكون الدم أسفًا على ما وصل إليه أولادهم من استهزاء بالدِّين وإعراض عنه، وما فعلت بهم آراء الإباحية التي بُثت فيهم وامتزجت بأرواحهم. وها قد صارت الأمة في خطر شديد من هذه الخطط التي وضعت فكادت تقضي على عقائد شبانها وأخلاقهم وتهذيبهم، فهل نجد في

10 - الجامعة المصرية

رجالها وكبرائها من يغيثها ويحفظ عليها ما بقي من فضائل. إن عاطفة تقليد الأجانب استولت على أكثر الأفئدة واستهوتهم، وقد قرر مجلس النواب الإيطالي بالأمس وجوب تعليم الدين في المدارس الإيطالية، فقلّدوهم أيها الناس في هذه الحسنة كما قلدتم كل أمة في سيئاتها! ! . 10 - الجامعة المصرية يظهر أن الجامعة المصرية لا تريد أن تقف عند حد في بث الدعوات الإلحادية، ولا تكتفي بما يفعل بعض أساتذتها ومعلميها في نفوس الطلاب. فقد رتبوا مناظرة في قاعة المحاضرات لا بأس بها في موضوعها لو لزم المتناظرون حدود ما يتكلمون فيه، وموضوعها (هل حققت المدنية كل أحلام الإنسانية) وهو موضوع بديع يجد القائل فيه مجالًا واسعًا للقول فيما يرى من حسنات وسيئات، ولكن هل من الضروري في نظر أي عاقل أن يقحم الجملة الآتية في مناظرته. "إن في أديان الهمج شرورًا فوق شرور فهو (كذا) يعتقد بالشياطين والعفاريت" تقال هذه الكلمة في وسط أمة دينها الإسلام، ومن الأشياء المعروفة فيه المنصوصة صريحًا في القرآن والسنة وجود الشياطين والعفاريت - وإن لم يكن كما يتصوره بعض العوام - وهي من الأشياء الغائبة عنا، وكلفنا الإيمان؛ إذ أمرنا بتصديق القرآن

وبتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما كان من شأن المؤمن أن يُكَذَّب بكل ما لم يره؛ والله تعالى يصف المؤمنين في أول كتابه بأنهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. ثم إن كان لحضرة المناظر عقيدة في هذه الأشياء تخالف عقيدة المسلمين، فهل من حسن الذوق أن يرمي دينهم بالهمجية في بلدهم في وجوههم، وإن كان هو منهم بالاسم؟ ! ما نظن أن هذا القسم من الجامعة أنشئ إلا لهذا ولله الأمر من قبل ومن بعد. * * *

جرأة عجيبة على تكذيب القرآن

جرأة عجيبة على تكذيب القرآن (*) وددت لو استطعت وصف ما صنع الأستاذ سليم بك حسن بغير هذا العنوان القاسي، ولكن ما صنع كان أشد تهافتًا وأسوء وقعًا مما يدل عليه العنوان: فإنه أخرج في هذا العام الجزء السابع من كتابه (مصر القديمة)، ولست الآن بصدد نقد كتابه هذا، وكشف ما ينطوي عليه من الإشادة بوثنية قدماء المصريين، ومن تقديس الأحجار والأوثان، ولو بالقول دون العقيدة، بل من وصف أحد الفراعين الوثنيين بصفة النبوة (ص 590 من هذا الجزء). ولكنه عرض في هذا الجزء (قصة خروج بني إسرائيل من مصر) عرضًا عجيبًا جريئًا، فوق حدود العجب، وفوق حدود الجرأة (ص 106 - 138). كذَّب فيه التوراة تكذيبًا صريحًا تارة، وتكذيبًا ملتويًا تارة، وكذب فيه القرآن تكذيب (العلماء الأفذاذ في هذا العصر! )، الذين يتأولون القرآن تأولًا لا يَمُتُّ إلى لفظه ولا إلى معناه بسبب، يخرج به على كل دلالة، وعلى كل عقل، إلا عقولهم الجبارة المتوفزة للهدم! وكان في عمله هذا مقلدًا، لم يتقن الصنعة كما أتقنوا، وكذبه تكذيبًا آخر غير مباشر؛ بتقرير (حقائق! ) تُنافي ما أثبت القرآنُ وتناقضه، يقررها بعظمة العالم ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس عشر، العدد الأول محرم 1370 هـ.

المتثبت! الذي لا يثبت صحة خبر في القرآن إلا أن تؤيده الأحجار (المقدسة) التي كتبها وثنيون مجهولون، من عبّاد الفراعنة، وعبّاد العجول، وعبّاد الأوثان. ومن قرأ هذا الفصل الذي كتبه هذا (العالم المتثبت) عن قصة بني إسرائيل وخروجهم من مصر (ص 106 - 138) لا يخالجه شك في أن الأستاذ رضي على مضض أن يسلم بوجود شيء في مصر في عهد الفراعين اسمه "بنو إسرائيل"، وبخروجهم من مصر بقيادة رجل منهم اسمه "موسى" وأن ما عدا ذلك من التفاصيل إن هو إلا أساطير وأكاذيب إلى أن تظهر أدلة أخرى تثبت شيئًا منها. إن شئتم فاقرؤوا قوله (ص 114): "ولكن ليس لدينا أي أثر يبرهن على وجود احتلال جدّيّ لأيّ صقع مصري تكون من نتائجه حدوث مأساة كالتي مثلت في كتاب الخروج، وإلى أن يظهر في الأفق براهين تختلف في شكلها عن التي في متناولنا الآن، فإني أومن بأن تفاصيل القصة يجب أن تُعدّ أسطورة، مثلها كمثل قصة بدأ الخليقة المذكور في سفر التكوين. وعلينا أن نسعى في تفسير هذه التفاسير، [كذا وصحتها التفاصيل] على فرض أنها أسطورة)! ! وما أظن أحدًا يشك بعد هذا في أن الأستاذ المؤلف ينكر كل التفاصيل التي في قصة خروج بني إسرائيل. والبقية تأتي! ! إن المؤلف - فيما أرى - يستغل الروح الوطني القومي الذي تغلغل في مصر للإشادة بقدماء المصريين وفراعينهم وأوثانهم، على النحو الذي نراه في الصحف والمجلات والمؤلفات، تقليدًا لأوربة من

جهة، ونتيجة لما رسمت أوربة ومبشروها ومستعمروها من محاولة هدم الإسلام في بلاده، بتربية الأمة تربية تستبطن الإلحاد مع مظهر التدين، أو تعلن الإلحاد ما وجدت الفرصة لذلك. وأكبر ظني أن المؤلف لم يقرأ قصة بني إسرائيل في القرآن قط، أو هو على الأقل لم يتأملها تأمل المؤمن المستيقن بصدق هذا القرآن، وبأنه وحي من الله لرسوله لفظًا ومعنى، وبأنه أصدق مصدر تاريخي؛ لأنه ليس من علم البشر، بل هو من قول خالق الكون، الذي يعلم ما تقدم وما تأخر، وبأنه الكتاب المهيمن على ما سبقه من كتب الأنبياء، وبأنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ورسوله أن يعقد مقارنة بينه وبين الكتب السابقة، فضلًا عن أن يعقد مقارنة بينه وبين نقوش على أحجار، أو كتابة في أوراق كتبها وثنيون مجهولون، مداحون متملقون، يمدحون ملوكهم بالحق تارة، وبالباطل تارات. إلى أن هذه النقوش والكتابات لم يتبين إلى الآن معناها على سبيل القطع واليقين، بل هو الظن والاجتهاد، بما بلغت إليه أسباب دارسيها. أنا لا أدافع عن التوراة الموجودة الآن بين يدي اليهود، ولا عن نسختها الأخرى التي بين يدي النصارى باسم "العهد القديم"؛ فإني أعرف أنها لم تصل إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بطريق يقيني أنها هي "التوراة" التي أنزل الله على نبيه موسى - عليه السلام - بل أكاد أجزم أنها تاريخ كتب بعد موسى بدهر طويل، فيها شيء من التوراة الصحيحة، وفيها تزايد كثير، لم يعرفه موسى ولا هارون. وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يثبت من أخبارهم وأحكامهم في القرآن، ولم

نجد في كتاب الله ما ينفيه، أن نقف منهم موقف الحياد، فلا نصدقهم ولا نكذبهم، ونقول: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (¬1) [العنكبوت: 46]. ولا أرى لمسلم أن يستغل عداء اليهود للمسلمين، منذ قديم الزمان، وعدوانهم علينا في عصرنا هذا، فيكذب أخبار الله عنهم في القرآن، ويطعن في الأنبياء السابقين، كما يفعل بعض الناس في هذه الأيام. والأستاذ سليم بك حسن يكاد يفعل هذا أو يقاربه فيقول في (ص 108): "وكان موسى من الوجهة المصرية أقل شأنًا من يوسف، فقد كان كما تقول التوراة لقيطًا في قصر فرعون، ثم هاربًا من وجه العدالة، ثم متكلمًا عن عبيد غرباء"! ! ووجهة (النظر المصرية) هذه لا يجوز لمسلم أن يحكيها إلا ليردها بما يكذبها في القرآن، إن كان أحد من المصريين قالها من قبل، فالله سبحانه يقول: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} (¬2). وكلمة "لقيط" التي سمح المؤلف لنفسه أن يصف بها نبيًّا من ¬

_ (¬1) رواه البخاري 13/ 282 من فتح الباري، وانظر: تفسير ابن كثير 6/ 399. (¬2) القصص: 3 - 6.

أولي العزم من الرسل - ولا أظنه يرضاها لبعض من يعرف أو يحبّ - كلمة خارجة على كل الحدود، لا توافق دينًّا ولا خلقًا ولا أدبًا. ثم نعود إلى الكلام من أوله: يذكر الأستاذ المؤلف (ص 106 - 107): أن ذِكْرَ بني إسرائيل لم يعثر عليه في الآثار المصرية إلا مرة واحدة في "القصيدة الرائعة التي نقشها مرنبتاح تخليدًا لذكرى انتصاراته على أقوام لوبيا والبحار" وأنه لم يجدهم "يُذكرون بعد ذلك على الآثار إلّا بعد انقضاء أربعة قرون من ذلك التاريخ". وهو من قبلُ ذكَرَ هذا الشيءَ الذي يسميه "القصيدة الرائعة" وترجم معانيها إلى عربيته (ص 96 - 101)، وقدمها إلى قراء كتابه بأنها "قصيدة عن انتصار مرنبتاح" وهو اسم أحد فراعينه الذي يزعم أن خروج بني إسرائيل كان على عهده! وقال: "هذه القصيدة منقوشة على لوحة تذكارية من الجرانيت الأسود، وهي المسماة: لوحة إسرائيل، وقد أقيمت في معبد الملك الجنازي". ثم يقول في التمهيد لمتنها: "وفي ختام هذه القصيدة الرائعة يعدّد لنا الشاعر القبائل أو الأقاليم التي أخضعها مرنبتاح، ومن بينها قبيلة بني إسرائيل. وهذه أول مرة ذكر فيها هؤلاء القوم في المتون المصرية؛ ولذلك سميت هذه اللوحة باسمهم. وكذلك قيل عن مرنبتاح إنه فرعون موسى الذي ذكر في القرآن وغيره من الكتب المقدسة. وهذا طبعًا لا يرتكز على حقائق تاريخية"! !

واعجبوا أيها الناس، إن هذا الشيء الذي لا يرتكز على حقائق تاريخية، يرتكز عليه المؤلف في تكذيب التوراة والقرآن! ! والجملة الوحيدة التي في قصيدته هذه، والتي بنى عليها بحثه المهلهل المتهافت، هي قول شاعره (الرائع): "وإسرائيل خربت وليس لها بذر". وقد علّق المؤلف هنا في الهامش على كلمة (إسرائيل) بقوله: "هذا هو أول عهدنا ببني إسرائيل، بل هي المرة الأولى التي ذكر فيها الاسم في نص مصري، وبموازنته بأسماء أخرى نجد أن كلمة إسرائيل كتبت لتدل على شعب لا على بلد، وعلى ذلك فإن الكاتب قد عدَّ الإسرائيليين قبيلة بدوية في فلسطين". وعلَّق على كلمة (بذر) بقوله "تشبيه كثير الاستعمال لبلدة خربت". فهذه الجملة وحدها هي التي أقنعت المؤلف الأستاذ بأن إسرائيل كانوا في مصر وخرجوا أو أُخرجوا منها، وبها وحدها صَدَّق أصل القصة في القرآن والتوراة، وأنكر بعد ذلك كل التفاصيل التي في التوراة واعتبرها أساطير صراحة، كما نقلنا من كلامه آنفًا، وأنكر كل التفاصيل التي في القرآن ضمنًا، كما يفهم من مجموع كلامه، ومن بعض نصوصه التي سنذكر، ثم انتظر أن يظهر في الأفق براهين تختلف في شكلها عن التي في متناوله الآن، ليؤمن بما تثبته البراهين المنتظرة! ! وما هذه البراهين؟ وما ذلك البرهان؟ أما البرهان فهو ما سماه "القصيدة الرائعة"! وقد قرأنا ترجمتها التي ذكرها المؤلف، ولا أستطيع أن اسميها "قصيدة" فإن لي رأيًا في

الشعر قد لا يرضاه المؤلف، وقد لا يرضاه أكثر المتعلمين على المناهج الإفرنجية، ولا يهمني رضاهم ولا سخطهم، ولا أعبأ بموافقتهم ولا بمخالفتهم، ولكن المعاني التي قرأتها والبحث التاريخي الذي عرّفنا إياها به المؤلف، يدل على أنها كمثل غيرها، من النقوش الفرعونية الوثنية، كلام لناس مجهولين، مجهولةٍ أشخاصُهم، ومجهولةٍ صفاتُهم، ومجهولةٍ درجاتُهم من الصدق أو الكذب. ولكنها في مجموعها كلام أحد المدّاحين الكاذبين المتملقين، الذين نعرف لون كلامهم، ودرجة اعتقاد قائله في صحة ما يقول، ففيها من الغلوّ في مدح فرعونه ومعبوده ما يكاد يدل على أنه يهزأ به، أو يريد - على الأقل - بمغالاته أن يعرف القارئ أنه شاعر كاذب أو كاتب كاذب. وفيها من الصفات التي يسبغها على فرعون ما هو كذب قطعًا، من وجهة نظرنا الإسلامية الثابتة في القرآن، والتي لا أظن أن للمؤلف من الشجاعة ما يجرئه على أن يكذبها صراحة، وإن كذبها ضمنا في لحن القول! ! فإنه حين لَخَّص قصيدته هذه (الرائعة) قال فيما قال (ص 96): "يضاف إلى ذلك أن الشاعر، وسط هذه المدائح وتلك الأعمال الجسام التي قام بها مرنبتاح للزود عن حياض بلاده وتخليصها من غارات اللوبيين وكسر شوكتهم -: لم يفته أنْ وصف الفرعون بالاستقامة والعدل، فهو يعطي كل ذي حق حقه"! فرعون "مستقيم عادل يعطي كل ذي حق حقه"! ! والله سبحانه

وتعالى يقول في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} (¬1). ويقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (¬2). ويقول في قذف موسى في اليم: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} (¬3). ويحكي عن موسى أنه دعاه حين خرج خائفًا: {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬4)، ويقول آمرًا موسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} (¬5)، ويقول: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (¬6). ويقول: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (¬7). ويقول: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} (¬8)، ويقول: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)} (¬9). ¬

_ (¬1) القصص: 4. (¬2) القصص: 8. (¬3) طه: 39. (¬4) القصص: 21. (¬5) طه: 24، النازعات: 17. (¬6) النمل: 12. (¬7) القصص: 32. (¬8) غافر: 37. (¬9) يونس: 75.

ويقول: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)} (¬1). ويقول: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} (¬2). ويقول في شأن فرعون وقومه: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (¬3). هذا بعض ما أنزل الله علينا في كتابه في شأن فرعون، ومن أصدقُ من الله حديثًا؟ هذا الذي لعنه الله في القرآن، وأمرنا بلعنه بما أمرنا من تلاوة آياته مؤمنين بها مصدّقين. أفيجوز لمسلم بعد ذلك أن يحكي وصفه "بالاستقامة والعدل" عن كاتب وثني مجهول دون أن يعقب عليه بما يرفع به الشبه التي قد تخالج بعض قارئي كلامه، حتى ولو كان من علماء الآثار؟ ! هذا الفرعون الذي استجارت امرأته من جبروته وعمله؛ إذ آمنت بربها وبالرسول الذي أرسله إليهم، وهو موسى، فقالت فيما حكى الله عنها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬4). هذا الذي ملأه الكبر والغرور، حتى قال ما حكى الله عنه في ¬

_ (¬1) هود: 97 - 99. (¬2) القصص: 42. (¬3) غافر: 52. (¬4) التحريم: 11.

سورة القصص: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬1)! ! والذي دمغه موسى بالكبر والكفر والظلم كما قال الله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)} (¬2). وما أظن بعد ذلك ما قلنا إلَّا بيِّنًا واضحًا، لا يرتاب فيه مسلم. ولم يسلك المؤلف في الشك في صحة ما ثبت في التوراة مسلك علماء الإسلام؛ فإن هذا ضعف لا يليق بعلماءٍ عظامٍ! فالمسلمون يعتقدون اعتقادًا معلومًا من الدين بالضرورة، مؤيدًا بنصوص القرآن الصريحة، أن الله أنزل التوراة على موسى، ولكنهم يشكون في صحة هذه النصوص التي في أيدي القوم، لما اعتورها من التحريف والتبديل، ولما أدخل عليها من أكاذيب اليهود وغيرهم، فلا يصدقون منها إلّا ما وافق القرآن الذي أنزل {مصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (¬3). ولا يكذبون إلّا ما ثبت كذبه بالدليل القطعي. وأما المؤلف الأستاذ فإنه يرتاب في تاريخ بني إسرائيل كله، سواء ما ثبت منه في التوراة مما يخالف القرآن، أو مما لم يذكر في القرآن، أو مما وافق القرآنَ، واعتقد المسلمون صحته؛ لأنه ينظر إلى تاريخهم من ¬

_ (¬1) القصص: 38. (¬2) غافر: 26، 27. (¬3) المائدة: 48.

"وجهة النظر المصرية"! ! حوادث تافهةً لا تستحق ذكرًا أو تدوينًا! ! انظروا إليه يقول في (ص 107) من كتابه: "وتاريخ بني إسرائيل في مصر لم نجده في النقوش خلافًا للإشارة التي جاءت في الجملة السابقة، ولكن تاريخ هؤلاء القوم كما ذكره مؤلف التوراة - وهو إسرائيلي المنبت - قد أضفى على حوادثه أهمية لم يخطر ببال مؤلف مصريّ أن يسبغها عليه في هذا العهد بعينه، بل ربما كان لا يعرف شيئًا عنها، وحتى إذا كان يعلمها فإنها كانت في نظره من الحوادث التافهة التي لا تستحق ذكرًا أو تدوينًا، إذ أن كل ما كان يهم المؤرخ المصري في عصوره التاريخية كلها هو تدوين انتصارات الفرعون ومفاخره، وما قام به للآلهة الذين كانوا يؤازرونه وينصرونه في المواقع كلها"! ! هكذا - والله - يقول (المؤرخ الأستاذ المسلم)، وينسى أن تاريخ بني إسرائيل ختم بحادثة ضخمة زلزلت البلاد، وزلزلت عرش فرعون، وأثارت غضبه وكبرياءه، حتى خرج عن طوره، وحتى نسي وقار الملك، ولم يذكر إلا البطش والجبروت والطغيان. وقد قص الله علينا قصته في القرآن مرارًا كثيرة، بصور تضفي على هذا الحادث أكبر أهمية تهم البلاد وملكها، وتنفي نفيًا باتًّا قاطعًا ما ادعاه المؤلف العلامة! أن المؤرخ المصري في ذلك العهد لم يخطر بباله أن يسبغ عليها أهمية، وأنه "ربما كان لا يعرف عنها شيئًا" وأنه إذا كان يعرفها "فإنها كانت في نظره من الحوادث التافهة التي لا تستحق ذكرًا أو تدوينًا"!

وما أظن أن الأستاذ سليم بك يستطيع أن ينفي صحة ما ورد في القرآن، ولا أن يشكك نفسه ويشكك الناس في أنه كتاب أنزله الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. إذن فاقرؤوا قول الله سبحانه في سورة النازعات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)} (¬1). واقرؤوا قوله سبحانه يحكي جدال فرعون لموسى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)} (¬2). ثم ذكر اجتماع السحرة وغلبة موسى إياهم ثم إيمانهم به وتوعد فرعون إياهم بتقطيع الأيدي والأرجل وبالصلب، وثباتهم في وجهه على الإيمان، ثم قال سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)} (¬3). ¬

_ (¬1) النازعات: 15 - 25. (¬2) الشعراء: 23 - 29. (¬3) الشعراء: 52 - 55.

واقرؤوا في نحو هذه المواقف قول الله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)} (¬1). إلى أن غلب السحرة فآمنوا وتوعدهم فرعون، فلم يعبئوا بوعيده: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)} (¬2). يا سليم بك: أفهذه حوادث تافهة في نظر المؤرخ المصري في ذلك العهد؟ أم هي من الحوادث التي لا يعرفها ذلك المؤرخ؟ أم هي من الحوادث التي إذا عرفها لم يسبغ عليها أهمية؟ ! ألا ترى أنك تستدل بدليل سلبيّ على نفي ما أثبته الله في القرآن؟ ! كل ما لديك أنه لم توجد أحجار من أحجار الوثنيين، أو كتابات مما يكتبون، تسرد هذه الأحداث الخطيرة التي هزَّت المُلْكَ وأخرجت المَلِكَ عن طوره، ثم أخرجتْه من هذه الحياة فأسلمتْه إلى مصيره، وأَوْرَدَتْه نارَ جهنم! وبينك وبين أولئك الناس آلافُ السنين، وأحداثُ الدهر. أفلا يمكن أن يكون (المؤرخ المصريّ الوثني) الذي تثق به ثقةً عمياء، كَتب هذه الأحداث مفصلةً أو مجملةً، ثم ضاعت فيما ضاع من آثارهم، بتكسير الأحجار، أو بحرق ¬

_ (¬1) طه: 57 - 60. (¬2) طه: 72.

أوراق البَرْدِيّ؟ ! ثم أنتم لا تزالون تجدون من أحجارهم وكتاباتهم ما لم تعلموا. فما يُؤْمِنُك أن يوجد من قريب أو بعيد ما يسجل هذه الأحداث؟ فلا تكون قد أَفَدْتَ إلّا أن كَذَّبت القرآنَ، ثم كذّبتْك الأحجارُ والأوثان! ! ولا أزال أعتقد أنك أعقلُ من هذا. وبعد: فإن الأستاذ سليم بك حسن كتب بعقب ما نقلناه عنه ما يكاد يفهم منه أنه لا يعتقد بنبوة موسى - عليه السلام - ولا رسالته، أو أنه لا يعرف هذه النبوة ولم يسمع بها، وأنا لا أجرؤ أن أتهمه بهذه التهمة الخطيرة، إني أخاف الله. ولكن ماذا أصنع وماذا يصنع القارئ في قوله (ص 107) ما مثاله حرفًا بحرف: "وما ذكره لنا كتاب التوراة (¬1) عن إقامة بني إسرائيل في مصر ينحصر في العهدين اللذين شملا حياة كل من يوسف وموسى. وإذا كان موسى هو المؤلف لهذا التاريخ، كما يدّعي كل من الأستاذ نافيل والأستاذ سايس، فإنه من الطبيعي أن تكون محتويات هذا الكتاب كما هي"! ! ماذا أقوال في هذا الكلام؟ رجلان من (علماء! ) أوربة لا يؤمنان بالأديان، ولا يسلمان بأن هناك كتبًا منزلة من عند الله، يبحثان في تاريخ التوراة - كما يفهم من سياق ما نقل عنهما الأستاذ سليم بك - فيرجح لديهما أن هذه التوراة التي في أيديهم هي توراة موسى نفسه، لا كتابة أحد من بعده، فيزعمان أن موسى هو مؤلفها! ولكن الأستاذ ¬

_ (¬1) يريد (مؤلف التوراة؛ وهو إسرائيلي المنبت) كما قال آنفًا.

سليم بك حسن المسلم، الذي يعرف من دينه ومن قرآنه أن الله أنزل التوراة على موسى، يتردد في أن هذا الكتاب الذي في أيدي الناس هو الأصل، أو هو كتاب آخر صنع من بعده؟ أما إذا رجح أنه ليس هو الأصل كما نرجح نحن لأدلة غير التي يعلمها، فموقفه أقرب إلى السلامة، وأما إذا رجّح أنه هو الأصل، أو احتمل أن يكون كذلك عنده، فإنه لا يجوز له - في دينه دين الإسلام - أن يعبّر بأن "موسى هو المؤلف لهذا التاريخ" حتى لو كان مقلدًا لغيره من علماء أوربة الملحدين، أيًّا كان العذر، وأيًّا كان السبب. وأظن أن هذا من الوضوح بحيث لا يكون موضع ريبة أو تردد أو تأويل. ثم أما بعد مرةً أخرى: فإني لم أكن أريد لأُسْهب القولَ في هذا الموضوع، مخالفًا ما رسمتُ لنفسي في "كلمة الحق" أن تكون كلماتٍ موجزةً في دقة وإحكام، لولا أنْ رأيت كلام المؤلف هذا، وما فيه من تكذيب القرآن صراحة وضمنًا، بل ما فيه من سخرية واستهزاء بما أثبته القرآن بالنص الواضح الصريح! ! فإن المؤلف الأستاذ رضي لنفسه أن يُعَبِّر بعبارة نابية عن أضخم حادث وقع في تاريخ بني إسرائيل، بل في تاريخ مصر كله فيما نعلم، وعن أكبر معجزة لنبي الله "موسى" عليه السلام، فسماه "خرافة غرق الفرعون"! ! ثم تناسى كل ما ورد عن هذا الحدث العظيم في القرآن الكريم، وذكر آيةً واحدةً لعب بتفسيرها وتأويلها لعبًا لم يضرَّ به إلَّا نفسه؛ فإنه قفا ما ليس له به علم، فكشف عن ذات نفسه في معرفته بقرآنه ودينه.

وهذه الجرأة من المؤلف الأستاذ، تصويره غرق فرعون الثابت في القرآن بأنه "خرافة" هي التي دعتني للكتابة في هذا الموضوع، على كراهتي للجدال وإعراضي عنه، ولكني لم أستجز لنفسي أن أسكت على مثل هذا التهجم على القرآن، أيًّا كان كاتبه أو قائله. والمؤلف الأستاذ يضطرب في هذا البحث ويتردد، فيثبت شيئًا ثم ينفيه، أو يشكك فيه! فإنك تراه يقول في (ص 114) بعد الذي نقلنا من قوله آنفًا في أن عليه أن يسعى في تفسير التفاصيل عن قصة بني إسرائيل على فرض أنها أسطورة -: "وعلى ذلك فإني بعيد عن القول بأن كل قصة الخروج خرافية. وقد أوضحت وأكدت بكل صراحة اعتقادي بأن القصة في مجموعها تعكس لنا صورة حادثة تاريخية معينة، وهي طرد الهكسوس من مصر"! وانظروا واعجبوا إلى قوله "اعتقادي"، كأن له اعتقادًا أو رأيًا ثابتًا! ! وهو الذي يقول قبل ذلك بقليل (ص 113): "على أن كل ما ذكرناه هنا عن تاريخ خروج بني إسرائيل ومكثهم في أرض مصر لا يرتكز على حقائق تاريخية تشفي الغُلة [يريد الحجارة والأوثان ونحوها] إذ على الرغم من كل ما استعرضناه في هذا الموضوع، فإن بعض علماء الآثار لا يزالون ينظرون إلى موضوع خروجهم وأنه حقيقة تاريخية تنطبق على بني إسرائيل - بعين الحذر والحيطة، ونخص من بينهم الأستاذ جاردنر" إلخ. فهو يريد أن يستقل بالرأي تارة، ويغلبه الضعف والتقليد في الموضوع نفسه تارة أخرى، فلا يستطيع أن يثبت على رأي واحدٍ! إلا أن يكون في "خرافة غرق فرعون"! فإنه كان شجاعًا ثابت الرأي،

لم يتردد في نفي هذا الغرق، وفي وصفه بأنه (خرافة)! .. وسنسوق في هذه المسألة الخطيرة كلامه بالنص، على طوله وتهافته ليظهر مرماه واضحًا غير محتمل لتأويل أو تحريف، وقد ذكر المؤلف أسماء المدن والأماكن التي سار فيها بنو إسرائيل "كما ذكرت في التوراة"، ثم تناولها بالبحث "واحدًا فواحدًا على حسب ترتيبها الطبيعي" (ص 121 - 135) مما لا يهمنا بشيء؛ لأنه كله تخرص من غير دليل ولا حجة، وهو عندنا إلى البطلان أقرب منه إلى الصحة. وتكلم أثناء ذلك (ص 127 - 128) في شأن (بحر سوف) فقال: "بحر سوف (يام سوف، أو يمّ البوص): يعتقد كثير من الكتاب الذين تناولوا موضوع خروج بني إسرائيل، أن (بحر سوف) هذا هو البحر الأحمر، بيد أن الحقائق التاريخية والبحوث الحديثة تكشف عن غير ذلك، وسنتحدث هنا عن كل ذلك ببعض الاختصار. كتبت التوراة في الأصل باللغة العبرية، وفي خلال القرن الثالث قبل الميلاد أمر بطليموس الثالث - على ما يقال - بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإغريقية، وهذه الترجمة تعرف بالترجمة السبعينية نسبة إلى الكهنة السبعين الذين ترجموها، ومما يؤسف له جدّ الأسف؛ أنه لم تصل إلينا نسخة واحدة من الأصل القديم الذي ترجم عنه، وأقدم نسخة لدينا بالعبرية يرجع عهدها إلى القرن العاشر الميلادي، وبالموازنة بين النسختين وجد أنه لم تحدث اختلافات كبيرة بين نسخة القرن الثالث قبل الميلاد المترجمة، ونسخة القرن العاشر بعد الميلاد. وحيثما

وُجدت فروق فإنها أتت عن طريق المترجمين الذين أرادوا أن يتصرفوا في ترجمتهم بدلًا من تتبع الترجمة الحرفية، ومن ذلك أنهم وضعوا بدلًا من عبارة (يام سوف) (بحر سوف) عبارة (البحر الأحمر) أو (بحر القلزم) ولا نزاع في أن هذا التغيير كان ذا أثر بين فيما كتبه أولئك الذين فحصوا هذا الموضوع، كما ظهر أثره كذلك في بحوث علماء الآثار الذين قاموا بأعمال الحفر في خرائب وادي طميلات" ... ثم قال المؤلف (ص 134 - 136) في ختام خروج بني إسرائيل: (اليوم الرابع: وكان موسى حذرًا؛ لأنه على الرغم من أنه قد حصل على إذن من فرعون بالخروج من البلاد مع أتباعه، كان يخاف أن يغير رأيه، ولذلك سلك طريقًا غير الطرق المعتادة، فلم يأخذ طريق الفلسطينيين على الرغم من أنها كانت قريبة كما شرحنا ذلك من قبل. وعلى الرغم من حذره فإن الفرعون غيّر رأيه فعلًا وتبع موسى وقومه في ستمائة عربة من خيرة عرباته يسوقها نخبة من فرسانه، وقد لحق المصريون بالإسرائيليين في معسكرهم بالقرب من (يام سوف) ومعناها العبري حرفيًّا (بحيرة البوص). واليم بالعربية: البحر، وخُصَّ بنيل مصر كما جاء في لسان العرب ج 5 ص 104 (ويمكن الإنسان أن يراها على المصور) وتشغل منخفضًا قد بقي حتى الآن تحت مستوى البحر، وقد كتب عليه في مصور المساحة المصرية: يمكن ملؤه بالماء إذا احتاج الأمر، أي أنه إذا عمل قطع في الشاطئ الشرقي من قناة السويس، فإن ماء البحر يملؤه. وقد منعت قناة

السويس مياه مصرف بحر البقر القديم من إمداده بمياه النيل مما منع نمو البوص فيه. ويمكن أن يؤخذ منه الملح كما كانت الحال أيام الكاتب (بيبسا). وقد أصبح موسى بهذا الموقف في مأزق حرج، فقد كانت بحيرة البوص على يمينه، وحصن مجدول بما فيه من حامية أمامَه، سادًّا الطريق من جهة الشمال، وعلى يساره مستنقعات فرع النيل البلوزي، وخلفه الفرعون وجنوده، فلم يكن لديه أي وسيلة غير طلب العون والرحمة من الله، وقد نالهما، وأشار بعصاه نحو البحيرة على يمينه، ثم أرسل اللهُ ريحًا شرقيةً، وقد جاء في التوراة أنها ريحٌ شرقية عاتية ظلت تهب طول الليل، وهذه هي المعجزة، فكان الريح يهب في الاتجاه الصحيح في الوقت المناسب وكان هبوبه شديدًا حتى جفف الأرض، وبذلك سار موسى وقومه على اليابس: "ومد موسى يده على البحر فأرسل الربّ على البحر ريحًا شرقيةً شديدة طول الليل حتى جعل البحر جفافًا وانشق الماء" (راجع الخروج 14 - 21) (¬1) ولا يزال منسوب الماء حتى الآن متأثرًا بدرجة عظيمة بالريح في بحيرة المنزلة والبرلس، ويلاحظ أن الطريق من بلطيم حتى برج البرلس تُغَطَّى بالماء عندما يَهُبُّ الهواءُ غربًا ثم تصبح جافة عندما يهب الهواء من الشرق ويمكن الإنسان أن يسير عليها بالعربة (¬2) ". ¬

_ (¬1) يريد (سفر الخروج) مما يسمونه (التوراة) أو (العهد القديم). (¬2) يلاحظ هنا أن المؤلف لم يستطع أن يصبر على ما جعله (المعجزة لموسى)، =

ثم كشف المؤلف عن ذات نفسه فقال بعقب ذلك: "أما موضوع غرق فرعون فهو أمر قد فهم خطأ على حسب ما جاء في الكتب السماوية (¬1)، والواقع أنه لا يمكن الإنسان أن يتصور غرق الفرعون وعربته ومن معه في ماء ضحضاح لا يزيد عمقه على قدمين أو ثلاثة. بل المعقول أن خيل الفرعون وعرباته قد صاخت في الأوحال وسقط بعض ركابها مغشيًّا عليه، وهذا يفسر ما جاء في سفر الخروج 14 - 25: "وخلع دواليب المراكب فساقوها بمشقة" ومما سبق نعلم أن خرافة غرق الفرعون في البحر الأحمر وموته لا أساس لها من الصحة، وقد جاء كل ذلك الخلط من ترجمة (يام سوف) "بالبحر الأحمر أو ببحر القلزم" هذا فضلًا عن أن ما جاء في القرآن ¬

_ = وهو هبوب الريح (في الاتجاه الصحيح في الوقت المناسب) فيكاد ينكره أيضًا، ويجعله شيئًا طبيعيًّا معتادًا ويكاد يجعل الإعجاز أن دعاء موسى صادف الوقت المناسب فقط، فسواء أدعا أم لم يدع فإن هذا هو الشيء المتوقع الذي سيكون في ذلك الوقت وهي خطة لم ينفرد بها المؤلف ولم يخترعها بل كل الذين لا يؤمنون بالغيب وبالمعجزات، الذين يرونها شيئًا محالًا يخالف سنن الكون، يتأولون معجزات الأنبياء السابقين الثابتة في القرآن على النحو الذي توافق به السنن الطبيعية، حتى تخرج عن معنى الإعجاز، إلى الشيء الطبيعي المعتاد، خشية أن يهزأ بهم الأوربيون، فيروهم متأخرين جامدين يؤمنون بما لا يوافق عقولهم. (¬1) هذا تعبير ملتو، عجيب في التوراة فما نكاد نفهم: أيريد المؤلف أن الناس قد فهمته خطأ في الكتب السماوية، حتى لو كانت صريحة اللفظ، أم يريد أن الكتب السماوية هي التي فهمته خطأ لا ندري، والكلام بين يدي القارئ، فليفهم وليحكم، ثم الله يحكم ويعلم وهو أحكم الحاكمين.

لا يشعر بأن الفرعون الذي عاصر موسى قد غرق ومات، بل على العكس نجاه الله ببدنه ليكون آية للناس على قدرة الخالق. والتعبير: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} يعادل التعبير العامي "خلص بجلده" هذا ويلاحظ أن كلمة "البحر" في اللغة العربية كما جاء في لسان العرب ج 5 ص 103 "تطلق على الماء المالح والعذب على السواء" وقد سبق أن قلنا أن اليم يطلق على النيل، وعلى ذلك يمكن فهم الآية القرآنية التي جمعت القصة كلها في اختصار رائع على حسب ما ذكرنا من إيضاحات وبراهين سابقة: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} (¬1). فأنت ترى - أيها القارئ الكريم - أن المؤلف الأستاذ سليم حسن أحال أن يتصور الإنسان غرق الفرعون وعربته ومن معه في ماء لا يزيد عمقه على قدمين أو ثلاثة، وأنه جزم بأن "خرافة غرقه وموته لا أساس لها من الصحة" ولقد كذَب على القرآن وافترى في قوله: "إن ما جاء في القرآن لا يشعر بأن الفرعون الذي عاصر موسى قد غرق ومات"، وأقولها صريحة وواضحة غير متردِّد ولا متأول، أنه "كذب وافترى على القرآن"، وأنا مسؤول عما أقول وأحمل تبعته أمام ¬

_ (¬1) يونس: 90 - 92.

المؤلف، وأمام العالم كله، وأمام أية جهة شاء أن يحتكم إليها، وأنا أعرف ما أقول، وأقصد إلى معناه بالدقة، وأعرف كيف أقيم الدليل القاطع من القرآن على صحته، وأنه أضاف إلى جريمة الكذب والافتراء على القرآن، جريمة التلاعب بألفاظه وتفسيره تفسيرًا، لا أقول إنه خطأ، بل أقول: إنه نزول به - والعياذ بالله - إلى أحقر المعاني العامية المبتذلة، بجعل قول الله سبحانه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}. يعادل التعبير العامي: "خلص بجلده"، ثم في إشارته إلى أن الآية التي أشار إليها الله سبحانه في قوله: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}. بأن الله نجاه ببدنه "ليكون آية للناس على قدرة الخالق"! ! . وليت شعري: أين الآية والمعجزة في نجاة فرعون وجنده كلهم من ماء ضحضاح لا يزيد عمقه على قدمين أو ثلاثة؟ ! وماذا في هذا من الدلالة على قدرة الخالق؟ ! إلا أن يريد المؤلف السخرية بعقول الناس! ! وقبل أن أسوق الأدلة على كذب المؤلف على القرآن وافترائه، أحب أن أسأله سؤالًا واحدًا واضحًا، وأحب أن يجيبَ جوابًا واضحًا، لا يلتوي فيه ولا يتأول ولا يجادل، إذْ هو - أعني السؤال - بطبيعته لا يصلح موضعًا للجدال. وهو: إنك ذكرتَ في (ص 127 - 128) أن التوراة كُتبت في الأصل بالعبرية، وذكرتَ ما شئتَ عن ترجمتها، وأن المترجمين "وضعوا بدلًا من عبارة "يام سوف" (بحر سوف) عبارة "البحر الأحمر" أو

"بحر القلزم" وجعلتَ في أول ذلك الكلام أن كلمة (يام سوف) توازي "يمّ البوص". والقرآن الكريم لم يذكر في قصة غرق فرعون "البحر الأحمر"، ولا "بحر القلزم"، ولكنه ذكر كلمتي "اليمّ" و"البحر"، فهل تريد بهذه الإشارات الملتوية إيهام الناس أن القرآن نُقِل عن التوراة التي حرف المترجمون ترجمتها؟ ! لا مناص لك من أن تجيب، ولن أدع لك فرصة للحيدة أو التخلف، فسأرسل لك نسخة من هذا المقال بالبريد المسجَّل، وسأودع لك منه نسخة أخرى في المكتبة التي أعاملها وتعاملها، حتى لا يكون هناك شك في وصوله إليك. ثم نرى ماذا أنت قائل؟ وسأقرأ جوابك عن سؤالي، وردَّك - إن رددت - على مقالي وسأنشره كاملًا إذا أرسلته إليَّ بعنوان هذه المجلة (الهدي النبوي 8 شارع قولة بعابدين) وأرجو أن تثق بأني لن أغضب من شيء مما ستقول، وإني سأقرّ الحق إن أظهرتني على خطأ في مقالي وسأشيد بك إن أقررتَ بخطئك ورجعتَ. وإن أبيتَ وسكتَّ فهذا شأنك وهذا حسبي، هدانا الله وإياك. ثم نعود إلى ما نحن بصدده. فها هي ذي آيات القرآن الكريم الواردة في غرق فرعون، ليقرأْها المؤلف الأستاذ سليم حسن وليقرأْها الناس، ليرى ويَرَوْا مقدار ما جنى فيما كتب، حتى يحدّد موقفه من ربه يوم الحساب، وموقفه من دينه، وموقفه من العقول السليمة: قال الله تعالى مخاطبًا بني إسرائيل: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ

فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} (¬1). وقال: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)} (¬2). وقال: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)} (¬3). وقال: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} (¬4). وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ ¬

_ (¬1) البقرة: 50. (¬2) الأعراف: 134 - 136 (¬3) الأنفال: 54. (¬4) يونس: 90 - 92.

يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)} (¬1) وقال: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)} (¬2). وقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} (¬3). وقال: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} (¬4). وقال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا ¬

_ (¬1) الإسراء: 101 - 103. (¬2) طه: 77 - 79. (¬3) الشعراء: 52 - 66. (¬4) القصص: 39 - 40.

آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)} (¬1). وقال في دعاء موسى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)} (¬2). وقال: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} (¬3). أفبعد هذه الآيات البينات يجوز للمسلم مهما يكن مبلغه من العلم أو الجهل، أن يدعي أن غرق فرعون "قد فهم خطأ على حسب ما جاء في الكتب السماوية". وأنه "خرافة لا أساس لها من الصحة"؟ ! أَوَلَا يكون كاذبًا مفتريًا على القرآن من يدعي مع هذه النصوص الواضحة الصريحة في "أن ما جاء في القرآن الكريم لا يشعر بأن الفرعون الذي عاصر موسى قد غرق ومات"؟ ! أيستطيع الأستاذ سليم حسن، أو أي شخص أجرأ منه ممن ينتسب إلى الإسلام أن يقرأ قول الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} [الشعراء: 63]. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} [الشعراء: 66]. ثم يجني عليه لسانه ¬

_ (¬1) الزخرف: 54 - 56. (¬2) الدخان: 22 - 24. (¬3) الذاريات: 38 - 40.

فيزعم أن (الواقع أنه لا يمكن الإنسان أن يتصور غرق الفرعون وعربته ومن معه في ماء ضحضاح لا يزيد عمقه على قدمين أو ثلاث"؟ ! أفيحسن في العقول، حتى عقول علماء الآثار - أن يكون "كل فرق" من الماء، أي كل جزء منفصل منه عن الآخر، "كالطود العظيم" أي كالجبل العظيم المرتفع إلى السماء، في ماء "لا يزيد عمقه على قدمين أو ثلاثة"؟ ! أم هي كلمة يقولها القائل (لا يرى بها بأسًا فتهوي به سبعين خريفًا في النار؟ ! (¬1). وماذا هو قائل في قول الله سبحانه: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا}. وفي قوله: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}. بهذا التوكيد الشديد، الدال على أن فرعون وجنده هلكوا جميعًا غرقى لم ينج منهم أحد؟ أيستقيم معه لرجل يعقل دينه، ويؤمن بربه، وبأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يشك فيه، فضلًا على أن يجعله مما لا يمكن الإنسان تصوره؟ ! . إن أحسن حالات المؤلف الأستاذ أن يدعي أو يدعي له أحد من الناس أنه لم يقرأ هذه الآيات ولم يسمع بها! ! ولا يعذر مسلم يجهل مثل هذا من دينه وقرآنه، فضلًا عن رجل قارئ مطلع مثل الأستاذ سليم حسن! وأنا أعرف أن لديه مكتبة حافلة بالكتب والمراجع، وما أظنها تخلو عن مصحف ولو من طبعة المستشرق فلوجل! التي معها فهرس أبجدي لمفردات القرآن. إن خفي عليه هذه الآيات من ¬

_ (¬1) إشارة إلى حديث صحيح رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، ورواه البخاري ومسلم أيضًا بنحو معناه.

القرآن، إنَّ شأنه لعجب! ! أيها الأستاذ المؤلف سليم بك حسن: ارجعْ إلى ربك، واقبل موعظة رجل مخلص، لا يريد إلا أن يبصَّرك موقع قدميك إذا ما تقدمت إلى ربك يوم القيامة، ولا تأخذك العزَّة إذا قيل لك: (اتق الله). فالأمر جد لا هزل، واعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "وهل يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهِم إلَّا حصائدُ ألسنتِهم" (¬1). * * * تَمَّ الجزءُ الأوَّلُ من جمهرة مقالات الشيخ أحمد شاكر ويليه إن شاء الله الجزء الثاني، وبه تمام المقالات والحَمْدُ للَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ ¬

_ (¬1) حديث صحيح، رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

مسائل علمية

مَسائلُ عِلْمِيَّةٌ 1 - في لسان العرب 2 - من بدع القبور 3 - موقعة الجمل 4 - تعليق على كلام "عبد الرحمن الوكيل" في بدعة المحمل 5 - فوائد شتى: العمل بالحديث الصحيح - الفقه في الدين والاجتهاد - السؤال عما لم يقع - معنى حديث "إن الله خلق آدم على صورته" - نشوء علم الفلسفة - كتاب المهذب للذهبي - كتاب الجمع بين الصحيحين - أسباب اختلاف العلماء - سبب القول بما يخالف القرآن والسنة. 6 - الجعاظرة الجوَّاظون 7 - القول الفصل في مس المرأة وعدم نقضه للوضوء 8 - ولاية المرأة القضاء 9 - الرقص والطيب والنساء 10 - نظام الطلاق في الإسلام

في لسان العرب

في لسان العرب (*) 1 لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي (¬1)؛ فذلك هو اللغة. ولسان العرب أوسمع المعاجم التي نشرت مما بقي لنا من دواوين الأقدمين، فذلك هو الكتاب. وقد طبع كتاب "اللسان" الطبعة الواحدة بمطبعة بولاق من سنة 1300 إلى سنة 1308 هـ. ولم يعد طبعه مرة ثانية إلى الآن، إلّا محاولة لبعض الناشرين لم يهيأ له إتمامها، وهو الحجة القائمة بين أيدي العلماء والأدباء، لا يغني عنه غيره مما نشر من الدواوين والمعاجم. وفيه أوهام وأغلاط ومآخذ: بعضها من المؤلف، وبعضها مما نقل المؤلف عنه من الكتب الخمسة التي بنى عليها كتابه، وهي: التهذيب لأبي منصور الأزهري، والمحكم لابن سيدة، والصحاح للجوهري، وحاشيته لابن بري، والنهاية لابن الأثير. وبعضها مما فات مصححيه في مطبعة بولاق، رحمهم الله جميعًا. وقد استدرك كثيرًا من الأغلاط والمآخذ أستاذنا العلامة الكبير ¬

_ (*) مجلة الكتاب، مارس 1946. (¬1) من كلام حجة العرب الإمام الشافعي، في الفقرة 138 من كتاب "الرسالة" بتحقيقنا، طبعة الحلبي سنة 1357 هـ/ 1938 م.

تعريب الأعلام 2

أحمد باشا تيمور - رحمه الله - في كلمات نشرها في بعض الصحف والمجلات، ثم جمعها في كتاب "تصحيح لسان العرب" ونشره أخونا الأستاذ محمد عبد الجواد الأصمعي في قسمين: الأول في سنة 1334 بمطبعة الجمالية، والثاني في سنة 1343 بالمطبعة السلفية، وهو كتاب بني على التحقيق العلمي الدقيق الذي امتاز به أستاذنا تيمور باشا في كل ما أثر عنه من آثار. ولم يك من همّ أستاذنا الجليل تيمور باشا أن يتتبع كل ما في الكتاب من مآخذ، ولم يقصد إلى ذلك، ولو قصد إليه لأتمه وأتقنه. وقد وقعت إليّ مآخذ أخرى مصادفة أثناء عملي، رأيت أن أقيدها وأنشرها في الفينة بعد الفينة، عسى أن يكون في نشرها فائدة، وفيما أقرأ وأرى قد تكون لي لمحات وآراء في "لسان العرب" أحب أن أعرضها للبحث والنقد خدمة للعربية، في وقت تسمو فيه العروبة إلى العُلا. فهذه أبحاث منثورة حرة، لا تربطها وحدة، ولا يؤلف بينها منهج، إلّا أنها أبحاث في "لسان العرب": اللغة والمعجم، ولا تتقيد بقيود، إلا الحق والتحقيق. تعريب الأعلام 2 تضطرب أقلام الكتاب كثيرًا وآراؤهم في تعريب الأعلام الأجنبية، كما نرى فيما ينشر في الصحف والمجلات والكتب.

ويحاول كثير من المحدثين أن يخضعوا اللسان العربي للنطق بحروف ليست من لسانهم، اتباعًا للغات الأجنبية التي منها يعرّبون، فلا يكادون ينطقون باسم أعجمي في حديثهم العربي أو يكتبونه حتى تسمعه منهم أو تقرأه لهم أعجميًّا صرفًا! ثم جاء المجمع اللغوي بمصر منذ بضع سنين، فأصدر قرارات في تعريب الأعلام زادت الأمر اضطرابًا، والألسنة عجمة! فقرر فيما قرر: 1 - "يكتب العلم الإفرنجي الذي يكتب في الأصل بحروف لاتينية بحسب نطقه في اللغة الإفرنجية، ومعه اللفظ الإفرنجي بحروف لاتينية بين قوسين في البحوث والكتب العلمية، على حسب ما يقرّه المجمع في شأن كتابة الأصوات اللاتينية التي لا نظير لها في العربية". 2 - "تكتب الأعلام الأخرى التي ترسم بغير الحروف اللاتينية والعربية بحسب النطق بها في لغتها الأصلية، أي كما ينطقها أهلها لا كما تكتب" إلخ. وقد نشرت هذه القرارات في مجلة المجمع، في الجزء الرابع سنة 1356 هـ (ص 18 - 21). وهذه القرارات إذا ما تأملها القارئ رأى فيها معنى واحدًا يجمعها، وروحًا عامًّا يسيطر عليها، وهو الحرص على أن ينطق أبناء العروبة بالأعلام التي ينقلونها عن لغات أعجمية بالحروف التي ينطقها بها أهلوها، وقسر اللسان العربي على ارتضاخ كل لكنة أعجمية لا مثال لها في حروف العرب، وتسجيل هذه الأوابد من

الحروف برموز اصطلاحية تدخل على الرسم العربي، زعموا تزيدًا في الحروف وتكثرًا. ولئن تم هذا الذي يُراد لتجدنّ اللغة العربية من بعدُ، في رسمها وكتابتها ونطقها ولهجاتها، مجموعة غريبة متنافرة من اللهجات الأعجمية والرسوم الرمزية. ولتجدن ألسنة أبنائها لا تكاد تقيم حرفًا من العربية على ما نطق به العرب، مما أثبته علماء "التجويد" في إخراج الحروف من مخارجها، وعلى قواعدهم بنيت قواعد العلوم العربية، وبها حفظ لنا النطق بالكلم العربي، وبالقرآن، وهو سياج اللغة وحاميها. ولست أدري مَمَّ استنبطت هذه القواعد التي اختارها هؤلاء الأعلام الكبار أعضاء المجمع. فإن لغة العرب قبلت نطقًا ونقلت سماعًا، لم يضع لها العرب الأقدمون القواعد في الإعراب والتصريف علومًا مدونة. إنما أخذت عنهم اللغة كما ينطقون، وجاء القرآن العظيم مثبتًا أعلامها، حافظًا كيانها على مر الدهور. ثم استنبط علماء الإسلام القواعد العلمية في النحو والصرف والبلاغة والعروض وغيرها، بالاستقصاء والتتبع، وبضم النظير إلى النظير، والشبيه إلى الشبيه، ثم جعلوا ما خرج عن النظائر شاذًّا أو مسموعًا. ولكنهم لم يرسموا الحدود الدقيقة والقواعد الواضحة في التعريب ونقل الكلمات الأعجمية إلى العربية، فيما علمنا.

فإذا أردنا أن نضع قواعد مستحدثة في هذا، كما وضع المتقدمون لغيره، وجب أن نترسم خطواتهم، ونتتبع آثارهم ونصنع صنيعهم في طريق الاستنباط، وهو الطريق الواضح، والمحجة البينة: أن نستقرئ النظائر، ونتتبع الأمثال، فنضم كل شكل إلى شكله، وننظر في الأمر الجامع يجمعها، حتى نخرج القاعدة الغالبة، ثم يكون ما ندَّ عنها شاذًّا أو نادرًا أو سماعيًّا، ثم إن شئنا وطاوعتنا القواعد قليلًا قسنا على الشاذ والسماعي في القلة والندرة وعند الضرورة. وهذا شيء بديهي لا يكاد يشك فيه عالم. فحين نريد أن نضع قاعدة أو قواعد لتعريب الأعلام على مثال لغة العرب، يجب علينا أن نستقصي كل علم أجنبي نطق به العرب، وأن نعرف ماذا كان أصله في لغة أهله، وماذا صنع فيه العرب حين نقلوه، لنأخذ من ذلك معنى عامًّا جامعًا لصنعهم، يكون أساسًا لما نضع من قاعدة أو قواعد. وأكثر الأعلام التي نقل العرب، وأوثقها نقلًا ما جاء في القرآن الكريم، من أسماء الأنبياء وغيرهم. فلو تتبعناها وشئنا أن نخرج منها معنى واحدًا تشترك فيه كلها، بالاستقصاء التام والاستيعاب الكامل، وجدنا فيها معنى لا يخرج عنه اسم منها، وهو: أن الأعلام الأجنبية تنقل إلى العربية مغيرة في الحروف والأوزان، إلى حروف العرب وحدها، وإلى أوزان كلمهم أو ما يقاربها، وأنها لا تنقل أبدًا كما ينطقها أهلها إلَّا أن توافق حروفها وصيغها حروف العرب وأوزانها.

وهذا المعنى هو القاعدة التي لا يصح تجاوزها في نقل الأعلام الأجنبية إلى العربية، وهو الذي تشير إليه أقوال أئمة العربية من المتقدمين والمتأخرين. قال الجوهري في الصحاح (ج 1 ص 80): "تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها". وانظر أيضًا اللسان (ج 2 ص 79). وقال أحمد بن فارس في كتاب الصاحبي في فقه اللغة (ص 24 - 25): "حدثني علي بن أحمد الصباحي، قال: سمعت ابن دريد يقول: حروف لا تتكلم بها العرب إلا ضرورة، فإذا اضطروا إليها حولوها من التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها، فمن تلك الحروف الحرف الذي بين الباء والفاء، مثل "بور" إذا اضطروا فقالوا: "فور". ثم قال ابن فارس: "قلنا: أما الذي ذكره ابن دريد في "بور" و"فور" فصحيح، وذلك أن "بور" ليس من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربي عند تعريبه إياه أن يصيره فاء". وقال الجواليقي في المعرب (ص 6): "اعلم أنهم كثيرًا ما يجترئون على تغيير الأسماء الأعجمية إذا استعملوها، فيبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجًا، وربما أبدلوا، بعد مخرجه أيضًا. والإبدال لازم؛ لئلا يدخلوا في كلامهم ما ليس من حروفهم". وفيه أيضًا (ص 8 - 9): "قال أبو عمر الجرمي: وربما خلطت العرب في الأعجمي إذا نقلته إلى لغتها ... قال: وإذا كان حكي لك

في الأعجمية خلاف ما العلامة عليه فلا ترينه تخليطًا، فإن العرب تخلط فيه وتتكلم به مخلطًا؛ لأنه ليس من كلامهم، فلما اعتنفوه (¬1) وتكلموا به خلطوا". وقال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط (ج 1 ص 317 - 318) في اسم "جبريل": "وقد تصرفت فيه العرب، على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة". ونقل السيوطي في المزهر (ج 1 ص 292) عن المرزوقي في شرح الفصيح: "المعربات ما كان منها بناؤه موافقًا لأبنية كلام العرب يحمل عليها، وما خالف أبنيتهم منها يراعى ما كان إلفهم له أكثر فيختار. وربما اتفق في الاسم الواحد عدة لغات، كما روي في جبريل ونحوه. وطريق الاختيار في مثله ما ذكرت". فهذه هي الفطرة العربية السليمة، المناسبة لقوة عارضة العرب، ولرصانة لغتهم، وإتقانهم مخرج حروفهم وتجويدهم إياها، وكذلك لا نزال نرى عامتنا على فطرتهم إذا ما لاكت ألسنتهم اسمًا أعجميًّا، يصوغونه صياغة الحرف العربي والنطق العربي، غير متعلمين ولا متكلفين، وإن أخطؤوا قواعد اللغة وقواعد الإعراب، أما متعلمونا ومثقفونا - أو أكثرهم - فأنت ترى ماذا صنعوا بلغتهم إذا نقلوا إليها عن اللغات الأعجمية: يتبعون قرار المجمع اللغوي! أو هم قد سبقوه ¬

_ (¬1) "اعتنفوه" بالفاء، يقال: "اعتنف الشيء" أي أتاه ولم يكن له به علم ولا حذق، أو كرهه ووجد له مشقة.

إلى العمل به قبل وضعه! فلا يكاد لسانهم ينطق بكلمة أجنبية أو علم أجنبي حتى ينقلب لسانًا إفرنجيًّا تبرأ منه لغة العرب، وتنفر منه أسماع العرب، فيأتون بالحروف المعوجة، والحروف المخطوفة، ويجمعون بين ساكنين أو ثلاثة، ويبدؤون بالساكن، وهكذا ينطقون بها "كما ينطقها أهلها" وليتهم فعلوا هذا حقًّا، إنما هم ينطقون كل كلمة أجنبية، إما كما ينطقها الإنجليز، وإما كما ينطقها الفرنسيون، حتى لو كانت الكلمة فارسية أو هندية أو صينية أو يابانية أو جاوية، أو ما شئت من لغات أمم سمعنا بها، ومن لغات أمم لم نسمع بها! ! وإن شئت مصداق قولنا فاستمع للإذاعة في "الراديو" من مصر ومن غيرها، وتأمل نطق المتحدثين من المتعلمين والمثقفين بالعربية، حين يعثر لسان أحدهم بكلمة أجنبية، وانظر كيف "يتفاصح" فيعوج لسانه ويتمطى ويلين، يحاول أن ينطقها كما ينطقها أهلها "الإنجليز أو الفرنسيون" فقط، فتسمع لغة عربية أعجمية "حديثة"! ! ودع عنك أن هذا "التفاصح" إنما يحرصون عليه في الألفاظ الأعجمية، أما قواعد اللغة العربية، وأما صحة الألفاظ العربية فلا "يتفاصح" فيها أحد، إلا القليل النادر. وهكذا فعلوا في الكتابة، حتى ما كتب خطأ في اللغات الأخرى، يحرص أبناء العربية على كتابته على الخطأ، كما ورد عن السادة الذين نقلدهم! وأقرب مثل لذلك اسم البلدة الهندية "دهلي" الشهيرة، اسمها عند أهلها "دهلي" وكتبها كذلك علماء الهنود الكبار الذين ألفوا نفائس الكتب بالعربية، وهكذا نسبتهم إليها، مثل العلامة الكبير "شاه ولي الله الدهلوي"، ومع ذلك فإن الإنجليز أخطؤوا

فنطقوها وكتبوها "دلهي" بتقديم اللام، ويظهر في أن هذا خطأ قديم، منذ أن عدوا على الهند واستعمروها، ولكن الإنجليز قوم محافظون، لا يهون عليهم أن يلعبوا بلغتهم، حتى لو نقلوا إليها نقلًا خطأ، إذا شاع على ألسنتهم. ومن أعجب ما يتصل بهذا أني رأيت كتابًا في الطب باللغة الأردية، طبع على الحجر في دهلي، ومؤلفه اسمه "الدكتور ... الدهلوي" وكتب اسمه على صحته هكذا بالحروف العربية في أول الكتاب وبالحروف الإفرنجية في آخره، ثم كتب اسم البلد الذي طبع فيه الكتاب "دلهي" فهذا هندي دهلوي يتبع الأجانب في خطئهم في تسميته بلده. ومن العجب أيضًا أن أرى رجلًا من كبار علمائنا وأدبائنا يكتب في بعض مؤلفاته الأعلام الإفرنجية، ويتأنق في ضبطها، فيضع علامتي السكون على حرفين متتابعين، بل يضع علامة السكون على آخر حرف من العلم، وهو موضع الإعراب في العربية! ولست أدري كيف طاوعته يده على هذا، وهو رجل "محافظ" مثلي - على التعبير الحديث - يحمل شهادة العالمية التي أحملها، وإن كان له فضل السبق إليها، وما أظنه نال شهادة غيرها، وقد تعلمنا فيما تعلمنا بابًا في النحو في "موانع الصرف" وأن منها "العلمية والعجمة" وأن من أحكامه أن العَلَمِ الأعجمي الأصل يعرب بالضمة في حال الرفع وبالفتحة في حالي النصب والجر، ولم يذكروا أبدًا أنه يعرب بالسكون أو يبنى على السكون! والأعلام الأعجمية الأصل جرت عليها هذه الأحكام في القرآن والحديث والشعر والنثر، لم يجرِ عليها

حكم آخر أبدًا، فأنى جاءت هذه الطريقة المحدثة إلّا من التقليد ومن إخضاع أرواحنا وعقولنا إلى الأجانب؟ ! ولو تأمل المتأمل، وأنصت السامع، لما يتحدث به أكثرنا وما يكتبون، لرأى هذا الخطأ شائعًا ذائعًا، لا يكاد يتحرز منه أحد، فترى كل الناس تكتب - مثلا - اسم "تشرشل" هكذا بالتاء قبل الشين! وليس في الاسم في لغتهم هذا، إنما هي شين صرف، تثقل تثقيلًا خاصًّا هو أقرب إلى لثغة بعض ذوي العاهة من أبناء العربية إذا ما نطقوا بهذا الحرف، ولا أزال أذكر أنه كان يكتب قديمًا في الصحف دون هذه التاء المنكرة التي يبدأ بها ساكنة، وما سمعت عاميًّا ينطقه على فطرته بعد كتابته بالتاء إلَّا النطق الذي تقتضيه لغة العرب "تشرشل" بكسر التاء والشين معًا، يجعلونهما حرفين حقيقيين لا حرفًا واحدًا خارجًا على اللغة، وهكذا كثير من المثل التي نراها ونسمعها في هذه الأعلام. وأغرب من كل هذا، أني حين أنصت للمتحدثين من الأدباء والمثقفين من أبناء العروبة المخلصين لها، أجدهم حين يتحدثون بلغة أجنبية: إنجليزية أو فرنسية، إذا جاء على لسانهم في حديثهم علم عربي نطقه الإفرنج نطقًا خاصًّا على لغتهم، نطقوه نطق الإفرنج الخلص! ونسوا القاعدة التي يتبعونها في لغتهم إذا نقلوا إليها علمًا أعجميًّا، نسوا أن ينطقوا العلم العربي كما ينطقه أهله العرب، وهم منهم، بل من خيرتهم! ! فالمسألة نفسية روحية، قبل أن تكون علمية لغوية. * * *

من بدع القبور

من بدع القبور (*) روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على قبرين فقال: "إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير: أما هذا فكان لا يستتر من بوله، وأما هذا فكان يمشى بالنميمة". ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، قالوا: يا رسول الله لم فعلت؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". قال الخطابي في معالم السنن (1: 19 - 20): وقوله: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدًّا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس، والعامة في كثيرٍ من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا، وليس لما تعاطوه من ذلك الوجه. وصدق الخطابي، وقد ازداد العامة إصرارًا على هذا العمل الذي لا أصل له، وغلوا فيه، خصوصًا في بلاد مصر، تقليدًا للنصارى، حتى صاروا يضعون الزهور على القبور، ويتهادونها بينهم، فيضعها الناس على قبور أقاربهم ومعارفهم تحية لهم، ومجاملة للأحياء، ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة الأولى، العدد الخامس، شعبان 1356 هـ.

وحتى صارت عادة شبيهة بالرسمية في المجاملات الدولية؛ فتجد الكبراء من المسلمين إذا نزلوا بلدة من بلاد أوربا ذهبوا إلى قبور عظمائها، أو إلى قبر من يسمونه (الجندي المجهول) ووضعوا عليها الزهور، وبعضهم يضع الزهور الصناعية، التي لا نداوة فيها، تقليدًا للإفرنج، واتباعًا لسنن من قبلهم، ولا ينكر ذلك عليهم العلماء أشباه العامة، بل تراهم أنفسهم يصنعون ذلك في قبور موتاهم. ولقد علمت أن أكثر الأوقاف التي تسمى أوقاف خيرية: موقوف ريعها على الخوص والريحان الذي يوضع في القبور، وكل هذه بدع ومنكرات لا أصل لها في الدين، ولا مستند لها من الكتاب والسنة، ويجب على أهل العلم أن ينكرونها، وأن يبطلوا هذه العادات ما استطاعوا. أحمد محمد شاكر - القاضي الشرعي (الهدي النبوي): هذا الذي أشار إليه فضيلة العلامة السلفي الشيخ أحمد شاكر بعض ما ضل الناس به في بدع القبور، وإلّا فهي لا تكاد تقع اليوم تحت حصر ولا عد، فمن ذلك تخصيصهم أول رجب بزيارة القبور، والمبيت بها ليلة أو أكثر، وحرصهم على ذلك أشد الحرص، وما يدعوهم إلى ذلك إلّا ما وقع في نفوسهم الجاهلة وعقولهم المريضة، أن لرجب فضيلة على غيره في زيارة القبور، حتى زعموا أن ذلك أيضا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فاتخذوا رجب أيضا لزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوها

الزيارة الرجبية، وكل ذلك ضلال مؤسس على جهل وعمى، وبعد عن الهدي النبوي الذي أرسله الله رحمة للناس وبشرى للمحسنين، فما كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يعين لزيارة القبور شهرًا خاصًّا ولا يومًا خاصًّا، باعتبار أن ذلك الشهر أو اليوم للزيارة فيه ميزة على غيره أصلًا، ومن ادَّعى ذلك على رسول الله فهو كاذب مفتر، وها هي كتب الحديث الصحيحة بين أيدينا فأوجدونا شيئًا من ذلك. ولقد جر الجهل بالدين إلى فساد كبير وشر عظيم، فمن ذلك خروج النساء في تلك الليالي إلى المقابر من كل الطبقات، ومبيتهن بها وسط قوم فاسقين فاسدين، ممن ينتسبون إلى القرآن وغيرهم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله زائرات القبور". ومن ذلك - وهو شر من كل شر - إهانة القرآن الكريم أعظم إهانة باستئجار أولئك المجرمين الشباحين بقرش وقرص، وأقل من ذلك لقراءة سورة كذا وسورة كذا، وهذا وربك قضاء على مكانة القرآن أي قضاء، وخصوصًّا من ذلك الشباح الفاجر، الذي يقرأ وعينه زائغة في وجه هذه المرأة وتلك، والتأمل في محاسنهن ومفاتنهن، حتى لقد أغرى ذلك كثيرًا من النساء الفاسدات إلى قصد هذا والتهيؤ له، وعمل الفاحشة وسط تلك المقابر التي جعلت لذكر الموت وتذكر الدار الآخرة، وزعموا أن تلك الإهانات للقرآن ينزل الله به الرحمة على الموتى، وكذبوا وكذبوا وكذبوا، فهو والله منزل الغضب واللعنة على الأحياء، ومؤذ الموتى أشد الأذى، وما أنزل

القرآن ليقرأ على الموتى، وإنما أنزل على ما أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في غير آية: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)}. ومن أعظم البلاء وأكبر المصائب، أن يفعل ذلك بعض من يلبس لباس العلماء ويتشبه بهم، فيرى العامة والدهماء هذا الجهول المتعالم في سيارته الفخمة وقد حشر فيها كل نساء داره من زوج وبنات، وقد حملها بالخوص والورود والزهور، ويجيء صاحب الفضيلة أو الرذيلة على الأصح وينادي الشباح: تعالى أقرأ سورة يس وخذ لك تعريفة ورغيف! يا لضيعة الدين فماذا يصنع العامي حين يرى هذا من ذاك الذي يعده إمامًا وقدوة في الدين. فما أشد مصيبة الدين من أولئك الجاهلين المتعالمين، وقد كثروا في هذا الزمن لا كثرهم الله، حتى ذهبت صيحات المصلحين في وسط ضجيجهم وعجيجهم صرخة في واد، والأمر لله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. * * *

موقعة الجمل

موقعة الجمل (*) حين ثارت (موقعة الجمل) بين المفتيين السابق واللاحق، قابلت الأخ العلامة الشيخ محمود شلتوت، أحد جماعة كبار العلماء، وأحد أعضاء لجنة الفتوى في الأزهر، وهو من يعرف العالم الإِسلامي له فضله وشجاعته في قول الحق، وعتبت عليه أن لم يتحدث هو ولا لجنة الفتوى في وضع الحق موضعه، والفصل بين الرأيين أيهما الصحيح: رأى المفتي السابق أن هذا المحمل بدعة في الدين، لا يجوز إقرارها، وأن طواف (الجمل) سبع مرات وتقبيل مقوده حرام منكر، ورأى المفتي اللاحق بإباحة ذلك، وأنه بدعة (حسنة)! وحدثته بأن الناس ستتفرق بهم الآراء بين رأيين لعالمين معروفين، كان كل منهما في منصب الإفتاء الرسمي للدولة، وأن الفصل بين الحق والباطل إنما يكون بكلمة صريحة حازمة من أكبر هيئة علمية إسلامية في مصر، جماعة كبار العلماء، أو لجنة الفتوى بالأزهر، فقبل مني هذا العتب ووعد ثم أوفى، فتحدث إلى العالم عن طريق محطة الإذاعة المصرية مساء يوم الثلاثاء 21 ذي الحجة سنة 1369 (3 أكتوبر سنة 1950) حديثًا شاملًا، وعرض فيه لبدعة (المحمل) هذه بكلمة قيمة فاصلة. فطلبت منه أن يرسل لي نصها، ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس عشر، العدد الثالث، ربيع الأول 1370 هـ.

وأن يأذن بنشره في مجلة (الهدي النبوي) تمامًّا للبحث، وختامًا له عظيمًا، بعد أن كتب أخي الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الوكيل، وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية، كلمته الجيدة، التي نشرناها في العدد الأول من المجلد الخامس عشر (محرم سنة 1370)، فأرسلها لي، وأذن - حفظه الله بنشرها - وها هي ذي كلمته: خلق الله الملائكة وفضّل بعضها على بعض: جعل منها مهابط الوحي، ومنها منابت الذكرى، ومنها مثابة التقديس والعبادة. وخصَّ من ذلك المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وجعل أولها أفضلها: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1). فضله بجملة من وجوه التفضيل لم تجتمع لغيره من أماكن العبادة والتقديس، فجعل زيارته ركنًا من أركان الدين، وطلب الطواف به، وجعله ركنًا من أركان الحج، ولم يشرع الطواف لشيء سواه، وصار معلومًا بينًا من الدين أنه لا يجوز الطواف حول مسجد أو بيت سوى الكعبة؛ فالطواف حول الأضرحة ومقاصير الأولياء، وأعمدة بعض المساجد والصاري الذي ينصب في الموالد: ابتداع في الدين، وشيء لم يأذن به الله. ومنه الطواف في الدائرة التي ترسم للمحمل، فيطوف بها جمل ¬

_ (¬1) الآيتان (96، 97) من سورة آل عمران.

المحمل سبع مرات، وهي المعروفة بالدورات السبع، وقد اقترحت مضاهاة لطواف الحجاج ببيت الله الحرام. وقد نص الفقهاء على أن التشبه بالواقفين بعرفات في مكان غير عرفات مخترع في الدين، قالوا: إن الوقوف إنما عُهد قربة بمكان مخصوص، فلا يجوز فعله في غيره، كما لا يجوز الطواف في غير الكعبة، وكما خص بيته الحرام بالطواف، وخص عرفات بالوقوف وحرمهما في غيرهما، خصه بتقبيل بعض أجزائه، وهو الحجر الأسود، وجعله عبادة خاصة في هذا المكان. فمن قبل الأحجار والقبور، والجدران والستور، ولو كانت أحجار الكعبة أو القبر الشريف، أو جدار حجرته أو ستورها، أو صخرة بيت المقدس: فقد خرج عن هذا التشريع، وابتدع في الدين ما ليس منه؛ فإن التقبيل والاستلام، ولو بالإشارة ونحوها، تعظيم، والتعظيم خاص بالله، لا يجوز إلَّا فيما أذن فيه. ومن ذلك ما يقع في حفلة المحمل، التي أحدثتها شجرة الدر، من تقبيل مقود الجمل، واستلام الجمل بالإشارة لمن لم يقدر على لمسه تبركًا بهما وتشبهًا باستلام الحجر الأسود وتقبيله. هذه كلمة العلامة الشيخ محمود شلتوت، وهي في هذا قول فصل، وأنا أرى أنها تمثل رأي جماعة كبار العلماء، ورأي لجنة الفتوى، بل ما أظنه أذاعها إلَّا بهذه الصفة وهذا المعنى. * * *

تعليق على كلام عبد الرحمن الوكيل على بدعة المحمل

تعليق على كلام عبد الرحمن الوكيل على بدعة المحمل (*) قد أحسن الأستاذ عبد الرحمن الوكيل، وأوفى على الغاية في الإبانة عن وجه الحق في بدعة المحمل هذه، وأنا أعتقد أن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ (علام نصار) رجاع إلى الحق، لا يأبى إذا ما استبان له وجه الصواب أن يعود إليه غير متردّدٍ ولا مُتَوَانٍ. وقد ابتلى المسلمون في مختلف الأقطار بأمثال هذه البدع، والظن بعلمائنا الكبار أن يحاربوها ويحاولوا إزالتها, ولعل الحكومة المصرية مصغية لحكم الله خاضعة له، آية حكومة كانت فترفع عن أعناق المسلمين هذه البدعة المنكرة، بدعة المحمل، إن شاء الله. * * * ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، المجلد الخامس عشر، العدد الأول محرم 1370 هـ.

فوائد شتى

فوائد شتى (*) (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم العمل بالحديث الصحيح قال السِّندي في حواشيه على فتح القدير من كتب الحنفية: الحديث حجة في نفسه، واحتمال النسخ لا يضر، فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به، وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح: لا يَعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان، فإنما يقال له: انظر هل هو منسوخ أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلِفَ في نسخه، فالعامل به في غاية العذر، فإن تطرُّق الاحتمال إلى خطإ المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث، قال ابن عبد البر: يجب على من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه، وأيضًا فإن المنسوخ من السنة في غاية القلة حتى عده بعضهم أحدًا وعشرين حديثًا، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي، بل يجب عليه مع احتمال خطإ المفتي، فكيف لا ¬

_ (*) مجلة المنار، المجلد الحادي والثلاثون، الجزء الثالث، ص 193 ربيع الآخر 1349 - سبتمبر 1930. (¬1) من جمع الشيخ أحمد محمَّد شاكر بن محمَّد شاكر، والحواشي والعناوين من وضع صالح رضا.

الفقه في الدين والاجتهاد

يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ؟ ولو كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان، لكان قولهم شرطًا في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل، وقد أقام الله - تعالى - الحجة برسوله - صلى الله عليه وسلم - دون آحاد الأمة، ولا يعرض احتمال الخطإ لمن عمل بالحديث، وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه، ويجري عليه التناقض والاختلال، ويقول القول ويرجع عنه، ويحكى عنه في المسألة عدة أقوال. وهذا كله فيمن له نوع أهلية، أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. [النحل: 43] , وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه، وإن علا فَلأَنْ يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالجواز، ولو قُدَّر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل من يعرفها، فكذلك الحديث. انتهى كلام السندي ملخصًا، وقد أطال من هذا النفس العالي - رحمه الله تعالى ورضي عنه -. * * * الفقه في الدين والاجتهاد قال الإِمام تقي الدين ابن دقيق العيد - من أئمة الشافعية - في خطبة (شرح الإلمام) كما نقله عنه السبكي في طبقاته في ترجمته: إن

السؤال عما لم يقع

الفقه في الدين منزلة لا يخفى شرفها وعُلاها, ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواؤها، وأرفعها بعد فهم كتاب الله المنزَّل، البحث عن معاني حديث نبيه المرسل؛ إذ بذاك تثبت القواعد ويستقر الأساس، وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس، لكن شرط ذلك عندنا أن يحفظ هذا النظام، ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإِمام، وترد المذاهب إليه، وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه، وأما أن يُجعل الفرع أصلًا، ويرد النص إليه بالتكلف والتخيّل، ويحمل على أبعد المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل، ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذّلول، ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول، فذلك عندنا من أردأ مذهب وأسوأ طريقة، ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة، وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه؟ وأنَّى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه؟ ومتى يُنصف حاكم ملَكَته غضبة الصبية؟ وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة بالحمية؟ ... إلخ. (الفتوى في الإِسلام صحيفة 44) * * * السؤال عما لم يقع قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن، ولم يمض به كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسؤول الاجتهاد فيه قبل أن يقع؛ لأن الاجتهاد إنما أُبيح للضرورة، ولا ضرورة قبل الواقعة، وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد،

معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)

واحتج في ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". انتهى. (الفتوى في الإِسلام صحيفة 45). * * * معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته) سئل أحمد بن عطاء أبو عبد الله الروزبادي المتوفى سنة 369 - قال الحافظ ابن عساكر: وفي مروياته أحاديث وهِمَ فيها وغلط غلطًا فاحشًا - عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق آدم على صورته". فقال: إن الله جل ثناؤه خلق الخلق مرتبة بعد مرتبة، ونقله من حال إلى حال كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)} [المؤمنون: 12، 13]- إلى قوله -: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. (المؤمنون: 14). وخلق آدم ليس على هذه الأحوال، وإنما خلق صورته كما هي، ثم نفخ فيه من روحه؛ فلأجله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق آدم على صورته". اهـ. مختصر تاريخ ابن عساكر جزء 1 صحيفة 394. * * * نشوء علم الفلسفة قال الإِمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في آخر الكلام على الطبقة السادسة من طبقاتهم: وكان في زمان هؤلاء خلائق من أئمة الحديث ومن أئمة المقرئين؛ كوَرْش واليزيدي والكسائي وإسماعيل بن

كتاب المهذب للذهبي

عبيد الله المكي القسط، وخلق من الفقهاء؛ كفقيه العراق محمَّد بن القاسم، وخلق من مشايخ القوم؛ كشقيق البلخي وصالح المري الواعظ، والفضيل، والدولة لهارون الرشيد والبرامكة، ثم بعدهم اضطربت الأمور، وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين - رحمه الله - فلما قتل واستخلف المأمون على رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته، وبَزَغ فجر الكلام، وعُرَّبت حكمة الأوائل ومنطق اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد مُرْدٍ مُهلك لا يلائم عِلم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين، قد كانت الأمة منه في عافية. وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة، وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق القرآن، ودعاهم إليه فامتحن العلماء، فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ إن من البلاء أن تعرف ما كنت تُنكر وتُنكر ما كنت تعرف، وتُقَدَّم عقول الفلاسفة، ويعزل منقول أتباع الرسل، ويُمارى في القرآن، ويتبرم بالسنن والآثار, وتقع في الحيرة، فالفرارَ الفرارَ قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. [آل عمران: 101] (تذكرة الحفاظ جزء 1 ص 300). * * * كتاب المهذب للذهبي وجدت بدار الكتب المصرية كتاب (المهذب) للذهبي بخطه، وعلى ظهر المجلد الأول ما نصه بخطه - رحمه الله تعالى -:

"المجلد الأول من كتاب المهذب في اختصار السنن الكبير، تأليف الإِمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي - رحمه الله تعالى - اختصار كاتبه محمَّد بن أحمد بن عثمان بن الذهبي غفر الله له"، وتحت ذلك بخطه - رضي الله عنه - أيضًا ما نصه: قال ابن الذهبي: لم أختصر من أحاديث الكتاب شيئًا بل اختصرت الأسانيد، فإن بها طال الكتاب، وبقيت من السند ما يُعرف به مخرج الحديث، وما حذفت من السند إلا ما قد صح إلى المذكور، فأما متونه فأتيت بها إلَّا في مواضع قليلة جدًّا من المكرر، قد أحذفها إذا قرب الباب من الباب، وآتي ببعض المتن، وقد تكلمت على كثير من الأسانيد بحسب اجتهادي، والله الموفق. وقد رمزت إلى الحديث بمن خرجه من الأئمة الستة (خ م د ت س ق) ولم أتم هذا، فإن فَسَحَ الله في الأجل طالعت عليه الأطراف لشيخنا أبي الحجاج الحافظ إن شاء الله - تعالى - وهذا أمر بيِّنٌ هيَّنٌ، كل من هو محدث، فإنه يقدر على رمز أحاديث الكتاب من الأطراف، وما خرج عن الكتب الستة فقد بينت لك إسناده ومخرجه، فاكشف عليه، إن شئت من كُتب الجرح والتعديل, فالرجال ثلاثة، إما موثَّق مقبول، وإما مضعَّف غير حُجَّة، وإما مجهول، لكن كل قسم من الثلاثة على مراتب في القوة واللَّين والجهالة. انتهى. والنسخة نفيسة جدًّا، كلها بخطه، خمسة مجلدات تنقص الثاني، والموجود منها أربعة، وفق الله لنا من يطبعه، وينشره آمين. * * *

كتاب الجمع بين الصحيحين

كتاب الجمع بين الصحيحين وجدت بدار كتب رواق الأروام بالأزهر جزءًا من الجمع بين الصحيحين للحميدي وهو السادس، وقد أحببت نقل خاتمته لما فيها من النفائس، قال - رحمه الله تعالى -: "تم جميع الكتاب بحمد الله وعونه، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصًا لوجهه، إنه ولي التوفيق، وهو على كل شيء قدير، وهو حسبي ونعم الوكيل". ثم قال عقب ذلك: "وهذه الأصول تتصل بآخر ما في الصحيحين من مسند الصحابة - رضي الله عنهم - وهو آخر ما قصدنا إليه من الجمع بين الصحيحين، وتمييز ما اتفقا عليه من المتون المخرَّجة فيهما، وما انفرد به أحدهما منها مستقصًى على شرطنا مرتبًا على ما بدأناه به وبيناه مع الاختصار المعِين على سرعة الحفظ والتذكار، ولم يبق للباحث المجتهد إلا النظر فيها والتفقه في معانيها، ومراعاة حفظها وإقامة الحُجّة بها، فإلى هذا قصد المتقدمون من أئمة الدين في حفظ إسنادها للمتأخرين؛ لتكون حاكمة بين المختلفين وشواهد صدق للمتناظرين - رضي الله عنهم أجمعين - ووفق التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما إسنادنا في هذين الكتابين، فقد روينا كتاب الإِمام أبي عبد الله البخاري بالمغرب من غير واحد من شيوخنا، بأسانيد مختلفة تتصل بأبي عبد الله محمَّد بن يوسف بن مطر الفربري عن البخاري، ثم قرأته بمكة - أعزها الله - على المرأة الصالحة كريمة

فصل

بنت أحمد بن محمَّد بن حاتم المروزي غير مرة؛ لعلوِّ إسنادها فيه، كما أنا قرأناه على أبي ذر عبد بن أحمد الهروي عن أبي الهيثم بن المكي بن محمَّد بن زراع الكُشميهني عن أبي عبد الله محمَّد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشير بن إبراهيم الفربري عن أبي عبد الله محمَّد بن الفرج بن عبد المولى الأنصاري، وهو روايته عن أبي العباس أحمد بن الحسن الحافظ الرازي، سمعه منه بمكة سنة ست وأربعمائة. قال: ثنا أبو أحمد محمَّد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي قال: أنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن سفيان النيسابوري. قال: سمعته من الإِمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنه -. * * * فصل " وقد استشرف بعض الطالبين إلى معرفة الأسباب الموجبة للاختلاف بين الأئمة الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - مع إجماعهم على الأصل المتفق المستبين، حتى احتيج إلى تكلف التصحيح في طلب الصحيح، وقرَّبت على هذا الطالب معرفة بعض العُذر في اختلاف المتأخرين لبُعدهم عن المشاهدة، وإنما تعذر عليه معرفة الوجه في اختلاف الصحابة - رضوان الله عليهم - مع مشاهدتهم نزول التنزيل وأحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحرصهم على الحضور

سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة

لديه، والكون بين يديه، والأخذ عنه والاقتباس منه، وهذا الذي وقع لهذا الطالب الباحث قد وقع لمن قبله الخوض فيه والبحث عنه. وخرّج في هذا المعنى بعض الأئمة من علماء الأمة فصلًا، رأينا إثباته ههنا (كذا) (¬1) هذا الشبه عن هذا الطالب الباحث وغيره ممن يخفى ذلك عليه ويتطلع إلى معرفة الوجه فيه، وبهذا الفصل يتصور (كذا) لك كل (¬2) صورة وقوع ذلك منهم وكيفية اتفاقه لهم، حتى كأنه شاهده معهم. وهذا أول الفصل المخرّج في ذلك أوردناه بلفظ مصنفه - رحمة الله عليه - "قال لنا الفقيه الحافظ أبو محمَّد بن علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي - رضي الله عنه - في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه". * * * سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة " تطلعت النفس بعد تيقُّنها أن الأصل المتَّفق عليه المرجوع إليه أصل واحد لا يختلف، وهو ما جاء عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - إما في القرآن، وإما من فعله أو قوله، الذي لا ينطق عن الهوى فيه؛ لما ¬

_ (¬1) ربما سقط من الأصل كلمة هي (لإزالة) أو ما في معناها وأن (هذا) محرَّف عن هذه. (¬2) لعل كلمة (كل) زائدة من النُّسَّاخ.

رأيت وشاهدت من اختلاف علماء الأمة في ما سبيله واحدة وأصله غير مختلف، فبحثت عن السبب الموجب للاختلاف، ولترك من ترك كثيرًا مما صح من السنن, فوضح لها بعد التفتيش والبحث أن كل واحد من العلماء ينسى كما ينسى البشر، وقد يحفظ الرجل الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يَعرِض هذا في آي القرآن. ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - أمَر على المِنبر ألا يُزاد في مهور النساء على عدد ذكره مَيلًا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد على ذلك العدد في مهور نسائه حتى ذكرته امرأة من جانب المسجد بقول الله - عز وجل -: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]. فترك قوله، وقال: كل أحد أعلم منك حتى النساء. وفي رواية أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. علمًا منه - رضي الله عنه - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يزد في مهور النساء، فإنه لم يمنع مما سواه والآية أعم، وكذلك أمر - رضي الله عنه - برجم امرأة ولدت لستة أشهر فذكَّره علي قول الله - تعالى -: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. مع قوله - تعالى -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233]. فرجع عن الأمر برجمها، وهم أن يسطو بعيينة بن حصن؛ إذ جفا عليه حتى ذكره الحُر بن قيس بقول الله - عز وجل -: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. فأمسك عمر. وقال - رضي الله عنه - يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا، حتى قُرئت

عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]. فرجع عن ذلك، وقد كان علم الآية، ولكنه نسيها لعظيم الخطب الوارد عليه، فهذا وجه عمدته (¬1) (كذا) الخلاف للآية أو للسنة بنسيان لا بقصد. وقد يذكر العامل الآية أو السنة لكن يتأول فيها تأويلًا من خصوص أو نسخ أو معنًى ما، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل، ولا شك أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا بالمدينة حوله - عليه السلام - مجتمعين، وكانوا ذوي معايش، يطلبونها، وفي ضَنْك من القوت؛ فمن متحرف في الأسواق، ومن قائم على نخله، ويحضره - عليه السلام - في كل وقت منهم طائفة إذا وجدوا أدنى مما هم بسبيله، وقد نص على ذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - فقال: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنت امرءًا مسكينًا أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني. وقد قال عمر - رضي الله عنه -: ألهاني الصفق في الأسواق في حديث استئذان أبي موسى. فكان - عليه السلام - يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم، ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيحفظه من حضره ويغيب عن من غاب عنه، فلما مات - عليه السلام - وولي أبو بكر - رضي الله عنه - كان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها نص، سأل من بحضرته من الصحابة فيها، فإن وجد عندهم نصًّا رجع إليه، وإلا ¬

_ (¬1) ربما كان الأصل (فهذا وجه ما عمدته الخلاف) إلخ.

اجتهد في الحكم فيها، ووجه اجتهاده واجتهاد غيره منهم - رضي الله عنهم - رجوع إلى نص عامّ، أو إلى أصل إباحة متقدمة، أو إلى نوع من هذا يرجع إلى أصله. ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد أحد منهم هو أن يشرع شريعة باجتهاده، أو يخترع حُكمًا لا أصل له، حاشَ لهم من ذلك، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - فُتحت الأمصار وتفرّق الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو بغيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نصٌّ حُكِمَ به، وإلا اجتهدوا في ذاك، وقد يكون في تلك القضية نص موجود عند صاحب آخر في بلد آخر - وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المدني. كل هذا موجود في الآثار وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من مغيب بعضهم عن مجلسه - عليه السلام - في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر وحضور الذي غاب، فيدري كل واحد منهم ما حضره ويفوته ما غاب عنه، وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: لا يتيمم الجُنُب ولو لم يجد الماء شهرين. وكان حكم المسح على الخفين عند علي وحذيفة ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة على أنهم مدنيون، وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وغاب عن أبي موسى،

وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأُبيّ، وغاب عن عمر، وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سلمة ولم يعلمه عمر وزيد بن ثابت، وكان حكم تحريم المُتعة والحُمُر الأهلية عند علي وغيره، ولم يعلمه ابن عباس، وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة وابن عباس وابن عمر، وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم، ومثل هذا كثير. فمضى الصحابة - رضي الله عنهم - على هذا. ثم خَلَفَ بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا، فإنما تفقَّهوا مع من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدَّون فتاويهم، لا تقليدًا, ولكن لأنهم أخذوا وروَوْا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير مَن كان في بلادهم من الصحابة - رضي الله عنهم - كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتِّباع أهل مكة فتاوى ابن عباس، واتَّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود، ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار؛ كأبي حنيفة وسُفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جُريج بمكة، ومالك وابن الماجِشون بالمدينة، وعثمان البَتِّي وسوَّار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجرَوْا على تلك الطريقة، من أخذ كل واحد من التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن الصحابة - رضوان الله عليهم - فيما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم، وهو موجود عند غيرهم ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها.

وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه أجرين، ومأجور فيما خفي عليه ولم يبلغه أجرًا واحدًا، قال الله - تعالى -: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. وقد يبلُغ الرجل ممن ذكرنا نصان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما بضرب من الترجيحات، ويميل غيره إلى النص الذي ترك الآخر بضرب من الترجيحات أيضًا، كما رُوي عن عثمان في الجمع بين الأختين: أحلَّتهما آية وحرَّمتهما آية. وكما مَالَ ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله - تعالى -: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. وقال: لا أعلم شِركًا أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربُّها. وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى، ومثل هذا كثير. فعلى هذه الوجوه ترك بعض العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم لأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، لا قصدًا إلى خلاف النصوص، ولا تركًا لطاعتها كذا, ولكن لأحد الأعذار التي ذكرنا، إما من نسيان، وإما أنها لم تبلغهم، وإما لتأويلٍ ما، وإما لأخذ بخبرٍ ضعيفٍ، لم يَعلم الآخذ، به ضعف رواته وعلمه غيره، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه أو بظاهر آية. وقد يشتبه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى، ويلوح له حكم بدليل ما ويغيب كذا غيره، ثم كثرت الرِّحل إلى الآفاق،

وتداخل الناس وانتدبت أقوام لجمع حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وضمه وتقييده، ووصل من البلاد البعيد إلى من لم يكن عنده، وقامت الحُجة على من بلَغه شيء منه، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ترك عمله، وسقط العُذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغها إليه، وقيام الحُجة بها عليه، فلم يبق إلَّا العِناد والتقليد. وعلى هذه الطريقة كان الصحابة - رضوان الله عليهم - وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الأيامَ الكثيرةَ طلبًا للسُّنن والتزامًا لها، وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد إلى عقبة بن عامر، وقد رحل علقمة والأسْوَد إلى عائشة وعمر، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام، وكتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ بما سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومثل هذا كثير. قال أبو عبد الله: فقد بيَّن - والحمد لله - وجه من ترك بعض الحديث، والسبب الموجب للاختلاف، وشفينا النفس مما اعترض فيها، ورفعنا الإشكال عنها، والله - عز وجل - المعين على البحث والهادي إلى الرشد بمنِّه. وبهذا البيان كشف به هذا الإِمام في هذا الفصل صورة الحال في أسباب الاختلاف الواقع بين الصحابة فمن دونهم، صحَّ للأئمة المتقدمين - رضي الله عنهم أجمعين - وجوب طلب التصحيح

للنصوص الواردة في شرائع الدين، لتقوم الحُجة بما صح منها على المختلفين، وقد قام الكل منهم في ذلك بما قدر عليه، وانتهت استطاعته إليه، إلى أن انفرد بالمَزِيَّة في الاجتهاد، والرحلة إلى البلاد، في جمع هذا النوع من الإسناد، بعد التَّتبُّع والانتقاد، الإمامان أبو عبد الله البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنهما - فحازا قَصَب السَّبْق فيه في وقتهما، ولفَرْط عنايتهما وبلوغهما غاية السعي والتشمير فيه قويت هممهما في الإقدام على تسمية كتابيهما بالصحيح، وعلم الله - عز وجل - صِدق نيتهما فيه ومشقة قيامهما به وحُسن انتقادهما له، فبارك لهما فيه ورزقهما القبول شرقًا وغربًا، وصرف القلوب إلى التعويل عليهما والتفضيل لهما، والاقتداء في شروط الصحيح بهما، وتلك عادة الله فيمن أحبه، أن يضع له القبول في الأرض كما جاء في الخبر الصادق عن المبعوث الحق - صلى الله عليه وسلم - فهنيئًا لهما, ولمن اهتدى في ذلك بهُداهما، والواجب علينا وعلى من فهم الإِسلام، وعرف قدْر ما حَفِظَا من الشرائع والأحكام، أن يخلِص الدعاء (¬1) لهما, ولسائر الأئمة الناقلين إليهما وإلينا قواعد هذا الدين، وشواهد أحكام المسلمين. ونحن نبتهل إلى الله - تعالى - في تعجيل الغُفران لهما ولهم، وتجديد الرحمة والرضوان عليهما وعليهم، وأن يبوئ الكل منهم في ¬

_ (¬1) في نسخة الأصل (للدعاء). "مجلة المنار، المجلد التاسع عشر، الجزء الخامس، ص 266، ذو الحجة 1334/ أكتوبر 1916".

أعلى درجات الكرامات، من غُرُفات الجنات، وأن يوفقنا أجمعين للاقتداء بهم، والسلوك في سبيلهم، والدعاء إليه وإلى رسوله، والانقياد لمحكمات تنزيله، والتفقه في دينه، والإخلاص في عبادته، والانقطاع إليه، وصِدْق التوكل عليه، حتى يتوفانا مسلِمين مسلمين، غير مبدِّلين ولا مغيَّرين، وأن يغفر لنا ولآبائنا ولجميع المسلمين. تم الجزء السادس وبتمامه تم الكتاب. والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمَّد نبيه وآله وصحبه وسلامه. وافق الفراغ من نسخه لخمس ليالٍ بَقِين من ذي القَعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة. * * *

الجعاظرة الجواظون

الجعاظرة الجوّاظون (*) قال ابن حِبّان، الإِمام الحافظ أبو حاتم محمَّد بن حِبّان التميمي البُسْتي، في صحيحه (¬1): ذِكْرُ الزَّجْر عن العلم بأمر الدنيا مع الانهماكِ فيها والجهلِ بأمر الآخرة ومجانبِةِ أسبابها حدثنا أحمد بن محمَّد بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن يوسف السُّلَمِيّ، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا عبد الله بن سعيد بن أبي هنْد، عن أبيه، عَن أبي هُرَيرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ يُبْغِضُ كُلَّ جَعْظَرِيّ جَوَّاظٍ (¬2)، سَخَّابٍ بالأسواق (¬3)، جِيفَةٍ بالليل، ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، المجلد السادس عشر، العدد الثاني عشر، ذو الحجة 1371 هـ. (¬1) هو صحيح ابن حبان المشهور، وهو نادر الوجود. وقد شرعت في تحقيقه ونشره بترتيب الأمير علاء الدين الفارسي. وسيظهر الجزء الأول منه قريبًا، إن شاء الله. وهذا الحديث هو الحديث (71) منه. (¬2) "الجعظري" بفتح الجيم والظاء المعجمة بينهما عين مهملة ساكنة. و"الجواظ" بفتح الجيم وتشديد الواو وآخره ظاء معجمة. وهما متقاربا المعنى: الجسيم الأكول الشروب، البطر، يختال ويتعاظم. وقد فصلنا القول في معنيهما، في شرح حديث آخر لعبد الله بن عمرو في المسند (6580) وقد جاء اللفظان في أحاديث أخر كثيرة. انظر متنها في المسند (7010) من حديث ابن عمر، و (8807، 10606) من حديث أبي هريرة، و (2503) من حديث أنس، و (17661) من حديث سراقة. (¬3) "سخاب" بالسين و"صخاب" بالصاد من "الصخب" بالصاد والسين، وهو =

حِمَارٍ بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة". (76) [2: 76] الحديث - 71 - رواه البيهقي في السنن الكبرى (10: 194) من طريق أبي بكر القطّان عن أحمد بن يوسف السُّلَمي، بهذا الإسناد. وأبو بكر القطّان: هو محدث نيسابور، محمَّد بن الحسين، مات سنة 302، وترجمه السمعاني في الأنساب (ورقة 457). وأحمد بن يوسف السلمي، بضم السين وفتح اللام نسبة إلى "سليم" قبيلة معروفة، ونص على ضبطه بهذا السمعاني في الأنساب (ورقة 303) وأحمد بن يوسف: ثقة مأمون، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "كان راويًا لعبد الرزّاق، ثَبْتَا فيه". وله ترجمة في التهذيب، وفي تذكرة الحافظ (2: 131). والحديث ذكره البندري في الترغيب والترهيب (1: 224). وقال: "رواه ابن حبان في صحيحه والأصبهاني". وذكره السيوطي في زيادات الجامع الصغير (1: 353 من الفتح الكبير) ونسبه للبيهقي فقط. وهذا الوصف النبوي الرائع، الذي سما بتصويره إلى القِمَّة في البلاغة والإبداع، لهؤلاء الفِئَامِ من الناس، أستغفر الله، بل من الحيوان تَجِدُه كلَّ يوم في كثيرٍ ممن ترَى حَوْلك، ممن ينتسبون إلى ¬

_ = الجلبة والصياح والخصام. قال في اللسان (1: 444): "الصاد والسين يجوز في كل كلمة فيها خاء".

الإِسلام، بل تراه في كثير من عظماء الأمة الإِسلامية، عظمة الدنيا لا الدين، بل لقد تجده فيمن يلقّبون منهم أنفَسهم بأنهم "علماء" ينقلون اسم "العلم" عن معناه الإِسلامي الحقيقي، المعروف في الكتاب والسنة، إلى علوم من علوم الدنيا والصناعات والأموال، ثم يملؤهم الغرور، فيريدون أن يحكموا على الدين بعلمهم الذي هو الجهلُ الكامل! ويزعمون أنهم أعرف بالإِسلام من أهله، وينكرون المعروف منه، ويَعْرفون المنكَر، ويَرُدُّون من يرشدهم أو يرشد الأمةَ إلى معرفة دينها ردًّا عنيفًا، يناسب كلّ جَعْظَرِيّ جَوَّاظٍ منهم. فتأملْ هذا الحديث واعْقِلْه، تَرَهُم أمامَك في كل مكان. * * *

القول الفصل في مس المرأة وعدم نقضه للوضوء

القول الفصل في مسَّ المرأة وعدم نقضه للوضوء (*) يقوم الأستاذ الشيخ أحمد محمَّد شاكر الآن بخدمة جامع الترمذي خدمة جليلة، بمراجعته على عدة نسخ خطية، وضبط أحاديثه، والكلام على أسانيدها ورجالها، وبيان مزال أقدام بعض المتقدمين في تلك الأسانيد والرجال، بما تطمئن إليه نفس طالب العلم، ويسر به مبتغي الدين الصحيح. وقد تولت المطبعة الحلبية لأصحابها أولاد المرحوم السيد مصطفى الحلبي طبع ذلك على ورق جيد وبحرف جميل. وإني لمتصل بالأخ الشيخ أحمد اتصالًا جسميًّا وروحيًّا بأواصرَ أهمها وأقواها: الحبُّ في الله، والرغبة في خدمة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتعاون على ذلك ونتساعد عليه أبدًا، وكم له من بحوث موفقة غاية التوفيق والسداد في كتابته على الترمذي وغيره. فما راقني جدًّا وأحببت أن أتعجل النفع به لإخواني قراء "الهدي النبوي" بحث نقض الوضوء من مس المرأة، الذي كثر القول فيه، واشتد حرج كثير من الناس به، وهو تعليق على قول الترمذي: (باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة) حدثنا قتيبة وهناد وأبو كريب وأحمد بن منيع ومحمود بن غيلان ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة الأولى، العدد السادس، رمضان 1356 هـ.

وأبو عمار قالوا: حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة؛ "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبَّل بعضَ نسائِه، ثُمَّ خرَج إلى الصلاةِ ولم يَتَوَضَّأْ". قال: قلت: من هي إلَّا أنت؟ فضحكت. قال الأستاذ: رواه أبو داود (1، 70) عن عثمان بن أبي شيبة، وابن ماجه (1، 93) عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمَّد والطبري في التفسير (5، 67) عن أبي كريب، وأحمد في المسند (6، 210) كلهم عن وكيع عن الأعمش بهذا الإسناد، ورواه الدارقطني (ص 50) من طريق أبي هشام الرفاعي وحاجب بن سليمان ويوسف بن موسى، كلهم عن وكيع عن الأعمش، ورواه الطبري عن إسماعيل بن موسى السدي عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش، ورواه الدارقطني (ص 51) من طريق إسماعيل بن موسى أيضًا، ورواه كذلك من طريق محمَّد بن الحجاج عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش، ورواه (ص 50) من طريق علي بن هاشم وأبي يحيى الحماني عن الأعمش. وكل هذه الروايات لم يذكر فيها نسب عروة: إلَّا في رواية أحمد وابن ماجه؛ فإن فيهما "عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير" وهذا حديث صحيح لا علة له، وقد علله بعضهم بما لا يطعن في صحته، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله. قال الترمذي: وقد روي نحو هذا عن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، قالوا: ليس في القبلة وضوء.

وقال مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: في القبلة وضوء. وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين. وإنما ترك أصحابنا - أي أهل الحديث - حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؛ لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد. قال: وسمعت أبا بكر العطار البصري يذكر عن علي بن المديني قال: ضعف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث جدًّا، وقال: هو شبه لا شيء. قال الأستاذ - روى الدارقطني (ص 51) عن أبي بكر النيسابوري عن عبد الرحمن بن بشر قال: "سمعت يحيى بن سعيد يقول - وذكر له حديث الأعمش عن حبيب عن عروة - فقال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيبًا لم يسمع من عروة شيئًا". ثم روى عن محمَّد بن مخلد عن صالح بن أحمد عن علي بن المديني قال: "سمعت يحيى - وذكر عنده حديثا الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة: تصلي وإن قطر الدم على الحصير. وفي القُبلة - قال يحيى: احك عني أنهما شبه لا شيء". وقال أبو داود في السنن: قال يحيى بن سعيد القطان لرجل: احك عني أن هذين - يعني حديث الأعمش هذا عن حبيب، وحديثه بهذا الإسناد في المستحاضة أنها تتوضأ لكل صلاة - قال يحيى: احك عني أنهما شبه لا شيء".

قال الترمذي: وسمعت محمَّد بن إسماعيل يُضَعِّف هذا الحديث، وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة. قال الأستاذ: قال أبو داود: "وروي عن الثوري قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني". يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير بشيء، قال أبو داود "وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثًا صحيحًا" والحديث الذي يشير إليه أبو داود رواه الترمذي في الدعوات (2، 261 طبعة بولاق، و 2، 186 طبعة الهند) وقال: "هذا حديث حسن غريب". قال: سمعت محمدًا يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئًا". وهذا يدل أولًا على أن عروة في هذا الإسناد هو عروة بن الزبير، كما صرح بذلك في رواية أحمد وابن ماجه، خلافًا لمن وَهِمَ فزعم أن عروة هنا هو عروة المزني؛ لما روى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مغراء، قال "ثنا الأعمش قال: ثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة بهذا الحديث". وهذا ضعيف؛ لأن عبد الرحمن بن مغراء وإن كان من أهل الصدق إلَّا أن فيه ضعفًا، وقد أنكر عليه ابن المديني أحاديث يرويها عن الأعمش لا يتابعه عليها الثقات. وقال الحاكم أبو أحمد: "حدث بأحاديث لا يتابع عليها". وقد خالفه في روايته هنا الثقات من أصحاب الأعمش الحفاظ كما بينا في أسانيد الحديث. ويدل كلام أبي داود ثانيًا على أنه يرى صحة رواية حبيب عن

عروة، ويؤيده أن حبيب بن أبي ثابت لم يعرف بالتدليس، بل هو ثقة حجة، وقد أدرك كثيرًا من الصحابة وسمع منهم، كابن عمر وابن عباس وأنس، وابن عمر مات سنة 74 وابن عباس سنة 68، وهما أقدم وفاة من عروة فقد توفي بعد التسعين، وحبيب مات سنة 119، وعمره 73 سنة أو أكثر. وقال الزيلعي في نصب الراية (1، 38): "وقد مال أبو عمر بن عبد البر إلى تصحيح هذا الحديث، فقال: صححه الكوفيون، وثبتوه لرواية الثقات من أئمة الحديث له، وحبيب لا ينكر لقاؤه عروة؛ لروايته عمن هو أكبر من عروة وأقدم موتًا. وقال في موضع آخر: لا شك أنه أدرك عروة". انتهى. وإنما صرح من صرح من العلماء بأنه لم يسمع هذا الحديث عن عروة، تقليدًا لسفيان الثوري، وموافقة للبخاري في مذهبه. وقد تبين مما مضى أن سفيان أرسل الكلمة إرسالًا من غير دليل يؤيدها، وأن أبا داود خالفه وأثبت صحة رواية حبيب عن عروة، والبخاري شرطه في الرواية معروف، وهو شرط شديد خالفه فيه أكثر أهل العلم. ومع كل هذا فإن حبيبًا لم ينفرد برواية هذا الحديث، وقد تابعه عليه هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير، فروى الدارقطني (ص 50): "حدثنا أبو بكر النيسابوري نا حاجب بن سليمان نا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض

نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم ضحكت". قال الدارقطني: "تفرد به حاجب عن وكيع، ووهم فيه، والصواب عن وكيع بهذا الإسناد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم. وحاجب لم يكن له كتاب، إنما كان يحدث من حفظه" وهذا إسناد صحيح لا مطعن فيه؛ فإن النيسابوري إمام مشهور، وحاجب بن سليمان المنبجي (بفتح الميم وإسكان النون وكسر الباء الموحدة) ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه النسائي وقال: (ثقة). ولم يطعن فيه أحد من الأئمة إلا كلمة الدارقطني هذه؛ وهو تحكم منه بلا دليل، وحكم على الراوي بالخطأ من غير حجة؛ فإن المعنيين مختلفان: بعض الرواة روى في قبلة الصائم، وبعضهم روى في قبلة المتوضئ؛ فهما حديثان لا يعلل أحدهما بالآخر. وقد تابع أبو أويس وكيعًا على روايته عن هشام عن أبيه، فروى الدارقطني عن الحسين بن إسماعيل عن علي بن عبد العزيز الوراق: "نا عاصم بن علي نا أبو أويس حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها بلغها قولُ ابن عمر: "في القبلة الوضوء". فقالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبَّل وهو صائم ثم لا يتوضأ". ثم علله الدارقطني بعلة غريبة فقال: لا أعلم حدث به عن عاصم بن علي هكذا غير علي ابن عبد العزيز! أما علي بن عبد العزيز فهو الحافظ أبو الحسن البغوي شيخ الحرم ومصنف المسند عاش بضعًا وتسعين سنة، ومات سنة 286 وهو ثقة حجة، وقال الدارقطني: (ثقة مأمون). وانظر تذكرة

الحفاظ (2، 178) ومثل هذا يقبل منه ما ينفرد بروايته، بل ينظر فيما يخالفه فيه غيره من الثقات فلعله يكون أحفظ منهم وأرجح رواية. وأما عاصم بن علي بن عاصم الواسطي، فإنه شيخ البخاري، قال أحمد: "ما أصح حديثه عن شعبة والمسعودي". وقال المروزي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين يقول: "كل عاصم في الدنيا ضعيف". قال: "ما أعلم في عاصم بن علي إلَّا خيرًا، كان حديثه صحيحًا". انظر مقدمة الفتح (ص 410 طبعة بولاق)، وقال الذهبي في الميزان: "هو كما قال فيه المتعنت أبو حاتم: صدوق". وقال أيضًا: "كان من أئمة السنة، قوالًا بالحق، احتج به البخاري". ومات عاصم هذا سنة 221 وكان في عشرة التسعين. وأما أبو أويس فهو عبد الله بن عبد الله بن أويس، وهو ابن عم مالك بن أنس وزوج أخته، وكان ثقة صدوقًا، في حفظه شيء. قال ابن عبد البر: "لا يحكي عنه أحد جرحه في دينه وأمانته، وإنما عابوه بسوء حفظه، وأنه يخالف في بعض حديثه". وهو هنا لم يخالف أحدًا، وإنما وافق وكيعًا في رواية هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه؛ فرواه عنه مثله، ووافقه أيضًا في أن الحديث عن عروة: وكيع عن حبيب بن أبي ثابت. وقد جاء الحديث بإسناد آخر صحيح عن عائشة؛ قال ابن التركماني في الجوهر النقي (1، 125) "قال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إسماعيل بن يعقوب بن صبيح حدثنا محمَّد بن موسى

ابن أعين حدثنا أبي عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عن عائشة؛ أنه - عليه السلام - كان يقبِّل بعض نسائه ولا يتوضأ. وعبد الكريم روى عنه مالك في الموطأ، وأخرج له الشيخان وغيرهما، ووثقه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم. وموسى بن أعين مشهور، وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، وأخرج له مسلم، وابنه مشهور، روى له البخاري. وإسماعيل روى عنه النسائي، ووثقه أبو عوانة الإسفرائيني، وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه, وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرج الدارقطني هذا الحديث من وجه آخر عن عبد الكريم، وقال عبد الحق - بعد ذكره لهذا الحديث من جهة البزار -: لا أعلم له علة توجب تركه، ولا أعلم فيه مع ما تقدم أكثر من قول ابن معين: حديث عبد الكريم عن عطاء حديث رديء؛ لأنه غير محفوظ، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره". وانظر نصب الراية للزيلعي (1، 38) فقد نقل هذا الكلام كله نصًّا، وهذا هو التحقيق الصحيح في تعليل الأحاديث من غير عصبية لمذهب ولا تقليد لأحد. وقد جاءت متابعات أخرى وشواهد لهذا الحديث بعضها صحيح، وبعضها يقارب الصحيح، وأكثرها لا مطعن فيه إلَّا احتمال الخطأ من بعض الرواة، أو ادعاءه عليهم، وتضافرهم على الرواية يرفع الاحتمال، وينقض الادعاء، وانظرها في الدارقطني (ص 49 - 52) ونصب الراية (1، 37 - 39) ومن أحسنها ما رواه أحمد في المسند (6، 62): "ثنا محمَّد بن فضيل ثنا الحجاج عن عمرو بن شعيب عن زينب السهمية عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ

ثم يقبل، ويصلي ولا يتوضأ". ورواه ابن ماجه (1، 94) عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن محمَّد بن فضيل، ورواه الدارقطني من طريق عباد بن العوام عن حجاج بإسناده، ورواه الطبري في التفسير (5، 67) عن أبي كريب عن حفص بن غياث عن حجاج عن عمرو عن زينب مرفوعًا, ولم يذكر فيه عائشة، والراوي قد يرسل الحديث وقد يصله، وإسناد أحمد وابن ماجه والدارقطني إسناد حسن، وقد أعله أبو حاتم وأبو زرعة؛ بأن "الحجاج يدلس في حديثه عن الضعفاء, ولا يحتج بحديثه" نقله ابن أبي حاتم في العلل (رقم 109)، وأعله الدارقطني؛ بأن "زينب هذه مجهولة، ولا تقوم بها حجة". أما الحجاج بن أرطاة فإنه عندنا ثقة، ولا نطرح من حديثه إلا ما ثبت أنه دلسه أو أخطأ فيه، ومع هذا فإنه لم ينفرد به عن عمرو بن شعيب؛ فإن الدارقطني رواه بنحوه من طريق الأوزاعي "نا عمرو بن شعيب". وأما زينب السهمية فهي زينب بنت محمَّد بن عبد الله بن عمرو ابن العاص، تفرد عنها ابن أخيها عمرو بن شعيب، وليس هذا بطارح روايتها بتة، فقد قال الذهبي في آخر الميزان: (فصل في النسوة المجهولات، وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها). كأنه يذهب إلى أن الجهالة بهن تجعلهن من المستورات المقبولات، إذا روى عنهن ثقة. وهذا الإسناد بكل حال ليس أصل الباب، ولكنه شاهد جيد، أو متابعة حسنة لحديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة.

قال الترمذي: وقد روى عن إبراهيم التيمي عن عائشة؛ "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها ولم يتوضأ". وهذا لا يصح أيضًا, ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعًا من عائشة. قال الأستاذ: حديث إبراهيم التيمي عن عائشة رواه أحمد (6، 210) وأبو داود (1، 69) والنسائي (1، 39) والدارقطني (ص 51) كلهم من طريق الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة. قال أبو داود: "هو مرسل، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئًا". وقال النسائي: "ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلًا". وقال الدارقطني: "لم يروه عن إبراهيم التيمي غير أبي روق عطية بن الحرث، ولا نعلم حدث به عنه غير الثوري وأبي حنيفة، واختلف فيه فأسنده الثوري عن عائشة، وأسنده أبو حنيفة عن حفصة، وكلاهما أرسله، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة ولا من حفصة، ولا أدرك زمانهما، وقد روى هذا الحديث معاوية بن هشام عن الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عائشة فوصل إسناده، واختلف عنه في لفظه فقال عثمان بن أبي شيبة عنه بهذا الإسناد: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم. وقال عنه غير عثمان: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل ولا يتوضأ". ومن عجب أن الدارقطني بعد هذا وصل الحديث بإسنادين عن الثوري، ثم بإسناد عن أبي حنيفة، ثم وصل رواية عثمان بن أبي شيبة في قبلة الصائم من طريق معاوية عن الثوري، ثم لم بسند الرواية التي

علقها عن (غير عثمان) عن معاوية بن هشام حتى يتبين لنا إسنادها، ولعله يكون إسنادًا صحيحًا إلى معاوية بن هشام! فترك الحديث معلقًا، فلم يمكن الحكم عليه بشيء، وليس هذا من صنيع المنصفين، وقد بحثت عن هذا الإسناد الذي أشار إليه وعلقه فلم أجده. وأبو روق عطية بن الحرث، قال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. ومعاوية بن هشام الذي نقل الدارقطني أنه وصل الحديث، وثَّقه أبو داود، وذكره ابن حبان في الثقات. ومن هذا يتبين أن رواية إبراهيم التيمي عن عائشة هنا لها أصل، وليست من الضعيف الذي يعرض عنه. قال الترمذي: وليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء. قال الأستاذ: أما هذا الباب (باب ترك الوضوء من القبلة) فقد صح فيه شيء، وهو حديث عائشة من الطرق التي وضحناها وصححناها، ومن طرق أخرى أشرنا إليها. وأما أصل الباب ومرجع الخلاف فهو هل يجب الوضوء من مس المرأة؟ ذهب بعض الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الفقهاء والمحدثين إلى الوجوب، وذهب بعض الصحابة ومن بعدهم إلى عدم الوجوب، وهو الصحيح الراجح. وأصل الخلاف فيه تفسير اللمس من قوله تعالى في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ

جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}. [آية 6] , وكذلك في قوله تعالى في سورة النساء {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [آية 43]. على القراءتين في الآيتين، فقد قرأهما حمزة والكسائي وخلف [لمستم] بغير ألف، وقرأها باقي القراء العشرة [لامستم] بالألف. قال ابن رشد في بداية المجتهد (1، 29) وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب: فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد. ثم قال: "وقد احتج من أوجب الوضوء من المس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد، وينطلق مجازًا على الجماع، وأنه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز فالأولى أن يحمل على الحقيقة، حتى يدل الدليل على المجاز، ولأولئك أن يقولوا: إن المجاز إذا أكثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث - الذي هو فيه مجاز - منه على المطمئن من الأرض، الذي هو فيه حقيقة. والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبًا من السواء، أنه أظهر عندي في الجماع وإن كان مجازًا؛ لأن الله قد كنَّى

بالمباشرة والمس عن الجماع، وهما في معنى المس، وعلى هذا التأويل في الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب دون تقدير تقديم فيها ولا تأخير، على ما سيأتي بعد، وترتفع المعارضة التي بين الآثار والآية على التأويل الآخر - يريد ابن رشد بالآثار هنا حديث عائشة في القبلة - وأما من فهم من الآية اللمسين معًا فضعيف؛ فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحدًا من المعاني التي يدل عليها الاسم، لا جميع المعاني التي يدل عليها، وهذا بين بنفسه في كلامهم". وهذا الذي قاله ابن رشد تحقيق دقيق، وبحث واضح نفيس؛ فإن سياق الآيتين لا يدل إلَّا على أن المراد المكنى عنه فقط، وكذلك قال الطبري في التفسير بعد حكاية القولين: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عني الله بقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. الجماع دون غيره من معاني اللمس؛ لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ". والقائمون على نصرة القول بأن اللمس ينقض، والتعصب له، والذب عنه، من الفقهاء والمحدثين: هم علماء الشافعية، والشافعي نفسه - رضي الله عنه - ذهب إلى هذا المذهب وقال به، ولكنه - فيما يبدوا لي من كلامه - يفسر الآية بذلك على شيء من الحذر، وكأنه يتحرج من الجزم به؛ إذ لم يصل إليه حديث صحيح في الباب، فإنه قال في الأم (1، 12) بعد ذكر آية المائدة: "فأشبه أن يكون

أوجب الوضوء من الغائط وأوجبه من الملامسة، وإنما ذكرها موصولة بالغائط بعد ذكر الجنابة، فأشبهت الملامسة أن تكون اللمس باليد، والقبله غير الجنابة؛ أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن مالك بن عبد الله عن أبيه قال: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء. قال الشافعي: وبلغنا عن ابن مسعود قريب من معنى قول ابن عمر". فهذا التعبير من الشافعي، وهو دقيق العبارة، ولا يلقى الكلام جزافا, ولا يرسل القول إرسالًا، يقول: (فأشبهت الملامسة أن تكون اللمس باليد). قد نفهم منه الحذر والتردد؛ لأنه لم يجد عنده في الباب حديثًا مرفوعًا صحيحًا، وإنما وجد أثرًا صحيحًا عن ابن عمر، ووجد نحوه عن ابن مسعود، ووجد الآية تحتمل معنى قولهما؛ فاحتاط لذلك وفسر الآية على ما يوافق ما لديه من الأثر عن الصحابة. ومما يؤيد ما ذهبتُ إليه في معنى كلام الشافعي؛ أن ابن رشد بعد أن نقل حديث حبيب عن عروة عن عائشة [المذكور في هذا الباب] نقل عن ابن عبد البر؛ أنه مال إلى تصحيحه, وأنه قال: وروي هذا الحديث أيضًا من طريق معبد بن نباتة، وقال الشافعي: إن ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوءًا. وأن الحافظ ابن حجر في التلخيص (ص 44) نقل نحو ذلك عن الشافعي فقال: قال الشافعي: روى معبد بن نباتة عن محمَّد بن عمرو ابن عطاء عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقبل ولا يتوضأ. وقال: لا

أعرف حال معبد؛ فإن كان ثقة فالحجة فيما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا نقل مشرقي، وقبله نقل مغربي، كلاهما عن الشافعي، أنه لو صح عنده حديث عائشة لذهب إليه ولم يقل بنقض الوضوء من اللمس، وهو يدل على أنه يرى أن تفسير اللمس بما فسره به ليس على سبيل الجزم والقطع، أما نحن وقد أثبتنا صحة الحديث فلا ينبغي لنا أن نتردد في تفسير الآية التفسير الصحيح، أن اللمس كناية عن الجماع، ويجب علينا أن نأخذ بالحديث الصحيح، أن القبلة - وهي أقوى من اللمس المجرد - لا تنقض الوضوء. وهذا الحافظ البيهقي، وهو ناصر مذهب الشافعي، وهو المتعصب له حقًّا؛ يذكر بعض أسانيد حديث عائشة، ويعللها بما يراه علة لها، ثم يقول: والحديث الصحيح عن عائشة في قبلة الصائم، فحمله الضعفاء من الرواة على ترك الوضوء منها, ولو صح إسناده لقلنا به إن شاء الله تعالى. فهو أيضًا لا يقطع بأن المراد باللمس في الآية المعنى الحقيقي للكلمة؛ لأنه يصرح بأنه لو صح حديث عائشة لقال به، ولو قال به لاضطره ذلك إلى تفسير اللمس بالمعنى المجازي الصحيح في تفسيرها. (فائدة) ورد في الباب أيضًا حديثان صحيحان: الأول رواه الشيخان وغيرهما من طريق مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة قالت: "كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام

بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح". [فتح الباري 1، 413، 485] و (مسلم 1، 145) قال الحافظ ابن حجر: "وقد استدل بقولها غمزني على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وتعقب باحتمال الحائل، أو بالخصوصية". ومن البين الواضح أن هذا التعقب لا قيمة له، بل هو باطل؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلَّا بدليل صريح، واحتمال الحائل لا يفكر فيه إلَّا متعصب! الحديث الثاني رواه النسائي (1: 38) من طريق الليث بن سعد عن ابن الهاد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مَسَّنِي برجله". قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (ص 48): "إسناده صحيح، واستدل به على أن اللمس في الآية الجماع؛ لأنه مسها في الصلاة واستمر". وهذا منه إنصاف بعد التعسف الذي نقلناه عنه. (فائدة أخرى) حديث معبد بن نباته الذي أشار إليه الشافعي فيما نقله عنه ابن عبد البر وابن حجر، لم أجده بعد طول البحث والتتبع، وكذلك لم أجد ترجمة لمعبد هذا, ولعلنا نوفق إلى ذلك في موضع آخر إن شاء الله. * * *

ولاية المرأة القضاء

ولاية المرأة القضاء (*) لا يزال كثير من الناس يذكرون ذلك الجدال الغريب الذي ثار في الصحف بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء! ! والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل؛ إذ تقدم إليها بعض (البنات) اللائي أعطين شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلًا لأنْ يكُنَّ في مناصب النيابة، تمهيدًا لوصولهنّ إلى ولاية القضاء! فرأت الوزارة إن لا تستبد بالفصل في هذه الطلبات وحدها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين. وذهب العلماء الرسميون يتبارَوْن في الإفتاء، ويَحْكُونَ في ذلك أقوال الفقهاء؛ فمِنْ ذاكرٍ مذاهبَ أبي حنيفة في إجازة ولايتها في الأموال فقط، ومن ذاكرٍ المذهبَ المنسوب لابن جرير الطبري في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومن ذاكرٍ المذهبَ الحقَّ الذي لا يجوز ولايتَها القضاءَ قط، وأن قضاءها باطلٌ مطلقًا، في الأموال وغير الأموال. ومن أعجب المضحكات في هذا الجدال الغريب: أن تقوم امرأة فتكتب ردًّا على من استدل من العلماء بالحديث الصحيح الثابت: ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، المجلد الخامس عشر، العدد الثاني صفر 1370 هـ.

"لن يُفْلحَ قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأةً" (¬1). فتكونَ طريفةً كل الطرافة، وتدل على أنها تكتب بعقل المرأة حقًّا، فتستدل على بطلان هذا الحديث؛ بأنه لا يعقل أن يقوله رسول الله الذي يقول: "خُذُوا نِصْفَ دِينَكُمْ عَنْ هذه الحُمَيْراء"! ! وهي لا تعرف هذا الحديث ولا ذاك الحديث، ولا تعرف أين يوجدان أو يوجد أحدهما، من كتب السنة أو كتب الشريعة أو غيرها؛ لأن كتابتها تدل على أنها مثقفة ثقافة إفرنجية خالصة! ليس لها من الثقافة العربية أو الإِسلامية نصيب! ووجه العجب المضحك في استدلالها هذا الطريف: أن الحديث الذي استدلت به حديث لا أصل له أبدًا، أي هو حديث مكذوب لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولستُ أزعم أنها هي التي اخترعته، فإني لا أظنها تصل إلى هذه الدرجة. ولكنه حديث ذُكر في بعض المصنفات القديمة، ونصَّ حفّاظ الحديث ونَقَدتُه العارفون العالمون على أنه حديث منكر، لم يجد له العلماء الحفاظ إسنادًا قط، بل قال ابن القيم الإِمام: (كل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق). فاعجبوا - في بلد العجائب - أن تقوم امرأة لا تعرف عن الشريعة شيئًا، إلا أن يكون ما يعرفه العوامّ، على شك في هذا أيضًا، فتردّ على العلماء الرسميين، وتجزمَ بتكذيب حديث صحيح ثابت، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 97 و 13/ 46 من فتح الباري)، ورواه أيضًا الترمذي والنسائي.

استنادًا إلى حديث مختلق مكذوب! ! وليتها - مع هذا كله - تعرف الفرق بين الشهادة والرواية عند علماء الأصول، وبين الولاية والشهادة، حتى تستطيع أن تحكم هذا الحكم الطريف، ولو عرفتْ لعلمتْ أن الشريعة فرقتْ بين رواية المرأة العِلْمَ، إذا كانت مسلمة عارفة بدينها متمسكةً به محافظةً عليه، مستوفية شروط العدالة الشرعية، وأنها في هذه الحالة تُقبل روايتُها العلم، وتُصدَّق فيما روتْ، وأنها إذا استوفتْ هذه الشروط كلها كانت شهادتها في الأموال مقبولة، على أن تكون نصفَ شهادةٍ فقط، أي تُقبل شهادتها مع امرأة أخرى مثلها، وتكونان معًا في مقام شاهد واحد من الرجال، بشرط أن يكمَّل نصابُ الشهادة بشهادة رجل آخر، بنص القرآن الكريم: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (¬1). إنها لو علمتْ ذلك لفهمتْ أن الحديث المكذوب الذي تستدل به لو كان صحيحًا لما كان منافيًا للحديث الصحيح في منع ولاية المرأة، كما هو بديهيّ! ثم ندع هذا الاستطراد، ونعود إلى أصل الموضوع: سألتْ وزارةُ العدل العلماءَ فأجابوا. ولستُ أدري لِمَ أجابوا؟ وكيف رضُوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنية على أصلين خطيرين من أصول الإِسلام، هَدَمها أهلُ هذا العصر أو كادوا؟ ! ¬

_ (¬1) الآية 282 من سورة البقرة.

ولو كنتُ ممن يُسأل في مثل هذا، لأوضحتُ الأصول، ثم بَنَيْتُ عليها الجوابَ عن الفرع أو الفروع. فإن ولاية المرأة القضاءَ في بلدنا هذا، في عصرنا هذا - يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بُنيتْ عليهما بداهةً: أولًا: أيجوز في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإِسلام أم خالفها؟ . إن المسلمين لم يُبْلَوْا بهذا قطُّ، فيما نعلم من تاريخهم، إلَّا في عهد من أسوأ عهود الظلم والظلام، في عهد التتار، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غَلَب الإِسلامُ التتارَ، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا من سوء، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ، الجائر كان مصدره الفريقَ الحاكم إذْ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإِسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره؛ ولذلك لا نجد له في التاريخ الإِسلامي - فيما أعلم أنا - أثرًا مفصلًا واضحًا إلا إشارةً عالية محكمةً دقيقةً، من العلامة الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 (¬1). ¬

_ (¬1) وقد ذكر الحافظ ابن كثير أيضًا بعض أشياء عن هذا في تاريخه الكبير (البداية والنهاية 13/ 117 - 121) وكذلك ذكر المقريزي بعض ذلك في الخطط 3/ 357 - 360، من طبعة مطبعة النيل بمصر سنة 1325).

والحافظ ابن كثير من أجلِّ تلاميذ شيخ الإِسلام ابن تيمية ومن أعظمهم، وقد ذكر ذلك في تفسيره (ج 3 ص 174 من طبعة المنار) عند تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. وأرى أن أذكر هنا الآيتين اللتين قبل هذه الآية، وهي كلها متصلة في السياق {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 48 - 50]. فقال الحافظ ابن كثير: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية، المأخوذه عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم (الياسق) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد

اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإِسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظرة هواه؛ فصارتْ في بنيه شرعًا متبعًا يقدّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتالُه حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحَكِّم سواه في قليلٍ ولا كثير، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}. أي؛ يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون؟ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. أي ومَن أعدلُ من الله في حكمه لمن عَقَل عن الله شَرْعَه، وآمَن به، وعَلم أن الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها؛ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء). أرأيتم هذا الوصف القويّ من ابن كثير في القرن الثامن؟ ألستم تَرَوْنَه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفًا: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أَتَى عليها الزمن سريعًا، فاندمجتْ في الأمة الإِسلامية، وزال أثرُ ما صنعتْ؟ ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالًا منهم؛ لأن الأمة كلها الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بالياسق الذي اصطنعه جنكيز خان، يتعلمها أبناؤها، ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً، ثم يجعلون مردَّ أمرهم إلى معتنقي هذا (الياسق العصري) ويشجبون من عارضهم في ذلك، حتى لقد أدخلوا أيديهم في التشريع الإِسلامي، يريدون تحويله إلى (ياسقهم الجديد) بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخُدَع تارة، وبما ملكتْ أيديهم من السلطان في الدولة تارات.

ويصرحون - ولا يستحيون - أنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين! ! وأنتم ترون ذلك وتعلمون. أفيجوز مع هذا لمسلم أن يعتنق هذا الدين الجديد؟ أعني التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، ذكرًا كان الابن أو أنثى، عالمًا كان الأب أو جاهلًا؟ ! هذه أسئلة في صميم الموضوع وأصله، يجب الجواب عنه إثباتًا ونفيًا أولًا، حتى إذا ما تحقق الجواب بالأدلة الشرعية الصحيحة, التي لا يستطيع مسلم أن يخالفها أو ينفيها أو يخرج عليها، استتبع ذلك - بالضرورة - سؤالًا محددًا واضحًا: أيجوز حينئذ لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا (الياسق العصري) وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟ ! ما أظن أن رجلًا مسلمًا يعرف دينه ويؤمن به جملةً وتفصيلًا، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتابًا محكمًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعتَه وطاعةَ الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يفتي فتوى صريحة بأن ولاية الرجالِ القضاءَ في هذا الحال باطلةٌ بطلانًا أصليًّا لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة! ! ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة هذا القضاءَ من تلقاء نفسه. وثانيًا: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانونَ أو غيره، سواء مما يجوز

تعلمه ومما لا يجوز؟ وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب، الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله. أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر، الذي تأباه الفطرة السليمة والخلق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة على الرغم مما يظن الأغرار وعبَّاد الشهوات؟ ! يجب أن نجيب عن هذا أولًا، ثم نبحثَ بعدُ فيما وراءه. ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة القضاء من تلقاء نفسه. ألَا فَلْيُجِبْ العلماء وليقولوا ما يعرفون، ولْيبلّغوا ما أُمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين. سيقول عنّي عبيد (النسوان) الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألَا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبأت يومًا ما بما يقال عنَّي، ولكني قلت ما يجب أن أقول. * * *

ولاية المرأة القضاء - مرة أخرى

ولاية المرأة القضاء - مَرَّةً أخرى (*) يظهر أنني سأضطر لإثارة هذا الموضوع مرارًا، بما يثيره أنصار (النسوان) وأتباعهن في مصر وغيرها، وبما (جَعَلْنَ) من هذا الموضوع مادة لمهاجمة الإِسلام في صورة الدفاع عنه، وبتحريف معنى (الإِسلام) وحقيقته، عن عمد أو عن جهل عجيب! وأعتقد أن إثارته من قِبَل المرأة وأنصارها فيه خير كثير؛ لأنه فرصة جيدة لوضع الحقائق مواضعها، وإيضاحها وضوحًا لا يدع شكًّا لمستريب. وأنا أحب أن أواجه المسائل بالصراحة، دون التواء ولا مداراة، مهما يكن فيها من دقة علمية، ومهما يكن من ورائها من تَبِعَات قد يرى الناسُ أن الدوران حولها أَوْلى وأحب المثابرة والثبات على الدعوة الحقة، إلى آخر الشَّوْط، فإما انتصرتُ وإما انهزمتُ فلا أثر لهذا عندي ما قلتُ (كلمة الحق). والذي حَفَزني إلى معالجة الموضوع مرة أخرى، أن إحدى المجلات الأُسبوعية التي تدعو إلى السفور، وتنشر ألوانًا مما ينكره الإِسلام من شؤون هاته (النسوة)، وهي مجلة (أخبار اليوم) نشرت في عددها المصادر يوم السبت (23 محرم سنة 1370 = 4 نوفمبر سنة ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، المجلد الخامس عشر، العدد الثالث ربيع أول 1370.

(هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ ) (وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية؟ )

1950) كلمة لمكتبها في الإسكندرية، عن قضية إحدى البنات طالبات مناصب القضاء، قدمتها إلى محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة. وهذا نص ما جاء في المجلة: (هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ ) (وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية؟ ) (دخلت قضية مساواة المرأة بالرجل، في دور حاسم، بعد أن لجأت الأستاذة أمينة مصطفى خليل المحامية إلى محكمة القضاء الإداري، تشكو وزير العدل، لامتناعه عن تعيينها وكيلة نيابة أو محامية، في قلم قضايا الحكومة). (وقد قال محاميها في عريضة دعواها المقدمة إلى رئيس مجلس الدولة: إن المدعية بعد أن نالت إجازة الحقوق عام 1948 م بدرجة جيد، ومارست المحاماة بنجاح وتوفيق، طلبت في 5 أبريل سنة 1950 تعيينها محامية، فجاءها الرد في 19 أبريل بأن طلبها أحيل إلى النيابة الحسبية. فبعثت في 17 يوليو بمذكرة إلى وزير العدل أوضحت فيها حقها الطبيعي في هذا التعيين، طالبة إلى النائب العام تعيينها في وظيفة (معاونة نيابة). (ولكن وزير العدل رأى أن يصبغ المسألة بالصبغة الدينية فاستفتى رجال الدين فيها فجاءت الفتوى مضطربة في التدليل، حائرة بين آراء متبانية منسوبة إلى أئمة المذاهب، ثم انتهت إلى أن تولية المرأة غير صحيحة.

(حقوق المرأة أمام القضاء)

وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين الذين تستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين في كثير أو قليل. فكان حقًّا عليها - حتى لا تتخلف عن السير في ركب الحضارة - أن تسائل نفسها: هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقًّا وصدقًا؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي، تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ فإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة، أَوَ ليستِ المرأة تزاول مهنة المحاماة طبقًا للقوانين التي وضعتها وزارة العدل؟ وما هي الفوارق بين المحاماة في صفوف الدفاع عن الأفراد، والمحاماة في صفوف الدفاع عن الحكومة. (ثم طلبت المدعية تحديد جلسة يحكم فيها بإلغاء القرار الخاص برفض طلب تعيينها معاونة للنيابة، أو محامية في إدارة القضايا الحكومية). وجاء في جريدة المصري الصادرة صباح يوم الثلاثاء 18 صفر سنة 1370 (28 نوفمبر سنة 1950) ما نصه: (حقوق المرأة أمام القضاء) (تنظر أمام محكمة القضاء الإداري غدًا القضية التي رفعتها الأستاذة عائشة راتب على مجلس الدولة من أجل الاعتراف بمبدأ قبول خريجات كلية الحقوق من الفتيات في وظائفه.

(وقد سبق أن أشارت الصحف إلى دعوة الأستاذة عائشة راتب إلى العمل بمجلس الدولة ونجاحها في الامتحان الذي فرض عليها، وموافقة جميع المستشارين على قبولها فيه، ثم رفض طلبها بدون إبداء أي تبرير قانوني، وقد قابلت الآنسة عائشة وسألتها عن أملها في كسب هذه القضية الهامة؟ فقالت: إنها تعتقد أن هذه القضية ليست قضية شخصية تتعلق بمصالحها الخاصة، وإنما هي قضية إنسانية عامة، متعلقة بحقوق المرأة المصرية العادلة المهضومة، وعبرت الآنسة عائشة عن آمال جميع خريجات كلية الحقوق اللائي يناضلن منذ وقت طويل من أجل قبولهن في مناصب الحكومة التي ما زالت مغلقة أمامهن، في مجلس الدولة وإدارة قضايا الحكومة والقضاء والسلك السياسي). وأنا لم أقرأ صحيفة الدعوى التي تقدمت بها المدعية، ولكن إذا صدق الملخص الذي نقلته عنها ومجلة (أخبار اليوم) استطعنا أن نحدد الاتجاه الذي تتجه إليه المدعية ومحاميها في توجيه دعواها. وهو اتجاه طيب جدًّا! ! وقد تعجبون أن أقول هذا، ولكني أقوله وأقصد إلى معناه وأصر عليه! لأنه اتجاه يكشف عما يراد بالإسلام مصارحةً، دون مواربة أو نفاق! فقد يذكر كثير من القراء، وخصوصًا أترابنا وأندادُنا في السن، الذين أدركوا بدء الحركة الملعونة: حركة السفور وحركة تحرير المرأة، وما أحاطها بها دعاتها وفي مقدمتهم قاسم أمين، والذين

كانوا من ورائه، واللائي كن من ورائه يدفعونه ويَدْفَعْنَه إلى تَقَحّم المهالك، ويتساقطون ويتساقَطْن فوقه في الهوة كالذباب، أحاطها هؤلاء ومن تبعهم ومن جاء من بعدهم بسياج قويّ برّاق من المداورة والنفاق، يزعمون أنهم لا يريدون الخروج على الإسلام، وأنهم إنما يبغون تفسيره بما لم يعلمه مَنْ قبلهم من العلماء الجهلاء والأئمة الجامدين! ! وأنهم إنما يريدون له النقاء والصفاء، وإزالة ما غَشَّى وجهَه من أكدار تراكمتْ عليه بمر العصور، وتعريضه للضوء والنور: نور أوربة، حتى يُعجب الخواجات! زعموا أنهم لا يرمون إلّا إلى السفور: سفورِ الوجه فقط، لا سفورِ الصدور، ولا سفورِ النهود والظهور، ولا سفورِ شيء مما وراء ذلك، مما يراه الناس عيانًا في كل حَفْل وناد، بل يَرَوْن بعضه أو كثيرًا منه في المدارس والمعاهد، بل يرون شيئًا منه في المساجد والمعابد. ثم جاءت هذه البُنَيَّة المدعية، فكشفت الستار كلَّه عن مقاصد هؤلاء الدعاة الذين كانوا يجمجمون ولا يكادون يصرحون بالأصل الذي إليه يقصدون، وإن كانوا لَيَفْعلون ويفعل مَنْ وراءهم، من المبشرين وأتباع المبشرين، وأبناء المبشرين، ومِن وراء أولئك المستعمرون المستترون والظاهرون: الذين يريدون استعباد المسلمين الأعزة، وهم يعلمون أنهم لا يصلون إلى ذلك إلا أن يقلبوهم أذلة بانتزاع هذا الإسلام، الذي أعزهم الله به من قلوبهم حتى يصيروا أذلة، والذين مهما يَنْسَوا فلا يَنْسَوا ثأر (لويس التاسع) الذي أسره

المسلمون في مدينة (المنصورة) وحبسوه في (دار لقمان) ولا ينسوا ثأر هزائمهم المتوالية في الحروب الصليبية في مصر والشأم، وطردهم من بيت المقدس إلى آخر ما يعرف الناس عامة إجمالًا أو تفصيلًا. هذه المدعية صرحت بما يريدون، بأوضح عبارة تكشف عن مقاصدهم وأقساها، ووضعت الأمر كله بين يدي هيئة قضائية من أكبر هيئاتهم، إن لم تكن أكبرها وأعلاها فقد كانوا من قبل يعلمون على هينة وفي لين، وإذا تحدثوا عن ذلك تحدثوا بحكمة وتحوط حتى لا يثور عليه المسلمون غيرة على دينهم! فإذا ما تحدث منهم متحدث ألان القول ومهد له حتى لا يكاد القارئ المتوسط يشعر بما وراء ذلك من خطر على الدين وتدمير. ولا أكاد أذكر قولًا صريحًا لواحد منهم، إلا كلمة رقيقة لينة تناسب الهوينى انسياب الأفعى، لرجل من كبار رجالهم ممن له مظهر إسلامي، أو ممن كان له مظهر إسلامي على الصحيح، قال في كلمة نشرت في صحيفة إسلامية! ! واسعة الانتشار، في أواسط سنة 1368 (أوائل سنة 1949) قال فيها مما قال: (ولا يخفى أننا في مصر نجري في حكمة واعتدال! ! على فصل الدين عن أمور الحكم وخلافات السياسة)! ! ولست أدعي أن هذه الكلمة هي أصرح ما قالوا من هذا اللون من القول، ولا أنهم لم يقولوا مثلها مرارًا، فإن مقدرتي على الاطلاع وعلى القراءة محدودة، ولكني أستطيع أن أجزم بأني لم أقرأ، أو على

الأقل لا أذكر أنني قرأت مثلها في التصريح بما ينون ويعتزمون. وإن كنت واثقًا منذ عقلت الدين، وفقهت الأوضاع السارية في بلدنا أن هذا هو المرمى والمآل من قبل أن نولد، بل من قبل أن يولد آباؤنا. ثم جاءت هذه الدعوى، تضع الأمر كله على المنصة بين يدي القضاء، تعرض الموضوع من أوله (هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقًّا وصدقًا؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ ) وهذه أسئلة في الصميم، لا تستطيع المدعية ولا محاميها، بل لا يستطيع من هو أكبر منهما وأعلم من رجال القانون وغيرهم أن يجيبوا إلا بالسلب، بل أنا لا أستطيع أن أجيب إلا بالسلب! فليس في مصر حكومة دينية، والحكومة القائمة - أعني نظم الدولة - لا تطبق المبادئ الشرعية حقًّا وصدقًا، بل لا تطبقها كذبًا وزورًا، بل أقول أكثر من هذا: إن النص في الدستور على أن دين الدولة الإسلام لا يمثل حقيقة واقعة، إنما هو خيال ووهم كبعض ما اقتبسنا من سخافات أوربة في الخيال والتمثيل، والمصريون لا يعيشون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف. ذلك بأن المبشرين والمستعمرين وأتباعهم وأنصارهم ربوا فينا أجيالًا متتابعة، ينزع الدين منها تدريجيًّا، وتقلب حقائقه في النفوس والعقول، على مبادئ الثورة الفرنسية وغيرها من مبادئ الهدم والإلحاد، حتى لقد وضعوا على ألسنة العلماء أنفسهم أنهم (رجال

الدين) يضاهئون بذلك (رجال الدين) هناك، ليمكن يومًا ما أن يقال ما قالته هذه المدعية (فإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة)! ! وليمكنها أن تقول أيضًا: (وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين تستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين في كثير أو قليل)! ! بل ليمكنها أن تدعي أن مثل هذا يكون سببًا لأن (تتخلف عن السير في ركب الحضارة)! ! فالمدعية ومحاميها وأمثالهما، وكبراؤهم وزعماؤهم، يرون ما تراه أوربة، أو يرون ما فهموا أنه رأي أوربة، بل يغلون في ذلك أكثر من غلو سادتهم، فيزعمون أن دخول الدين في الحكم والمسائل الاجتماعية تخلف عن ركب الحضارة! ! فيجهلون بديهيات الإسلام ومزايا دينهم القويم، ويرون أنهم إذا تمسكوا به وخضعوا لأحكامه تخلفوا عن ركب الحضارة! فلا يكون هناك خمر ولا رقص ولا سفور ولا فجور، ولا اختلاط الشبان والشابات في المدارس والجامعات، والقهاوي والندوات، والصيد والقنص، والخلوات في الصحاري والسيارات! فإذا فقدوا هذا وأمثاله، فماذا بقي لهم من مقومات الحضارة؟ ! وأعجب من ذلك وأغرب: أن المدعية بلسان محاميها، تسب دينها هذا السب المقذع، ثم تصفه بأنه (الحنيف) ولم تكن بها حاجة إلى هذا التكلف والتناقض، وكان أقرب إلى منطق كلامها أن تصفه

بوصف يناسب دينًا يتخلف المستمسك به عن ركب الحضارة! ! ثم كان من المغالطات الكبرى أنهم بما أودع في نفوسهم من معارف ملتوية، وبما أشربته قلوبهم من فقه لدين أوربة ووثنيتها وثورتها، بل وحضارتها، أنهم فهموا الإسلام على غير وجهه، وظنوه دين عقيدة وعبادة فقط، بل ليتهم أخذوا به على المعنى الذي فهموا، وإن كان خطأ أو نقصًا، إذن لسار بهم الدين (الإسلامي الحنيف) في سبيل الحق والهدى، حتى يعرفهم بما استمسكوا به من عقيدة وعبادة - لو كانتا - بأنه ليس كما رأوا عند أوربة ودرسوا، ولعرفهم أنه (دين ودولة) وحكم وسياسة وقضاء وولاية) وإذن لعرفوا معنى ما نقلناه عن الحافظ ابن كثير في الكلمة الماضية، أن من قدم أي قانون أو أي رأي على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله (فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير) (¬1)، وهذا شيء بديهي معلوم من دين الإسلام بالضرورة لا يعذر بجهله أحد، أيًّا كانت منزلته من العلم أو الجهل ومن الرقي أو الانحطاط. وليس هذا الخطأ من المدعية أو محاميها، وممن وراءهما من رجال ونساء قاصرًا على بلادنا، إنه ليكاد يكون عامًّا في أكثر المتعلمين المثقفين في بلاد الإسلام خصوصًا البلاد التي خضعت لسيطرة المستعمرين يدفعهم المبشرون، وعامًّا في البلاد التى سايرت (ركب الحضارة) الإفرنجية المتعصبة ضد الإسلام، فتجد في بعض ما ¬

_ (¬1) مجلة الهدي النبوي، العدد 2، من السنة 15، شهر صفر سنة 1370، ص 13.

يقول الكبراء التناقض العجيب المدهش، كمثل ما نقلت إحدى الصحف الأُسبوعية في عددها الصادر يوم الجمعة 7 صفر 1370 (17 نوفمبر 1950) عن ضيف كبير من ضيوف مصر، هو (سعادة السيد تمييز خان رئيس التأسيسية بالباكستان) نقلت عنه تلك المجلة أنه قال: (إن الباكستان دولة إسلامية، ولكنها ليست دولة دينية؛ لأن الدولة التي تقوم على تعاليم الدين الإسلامي غير الدولة التي يتولى الحكم فيها رجال الدين). فهذا رجل عظيم من أمة إسلامية عظيمة، أعرف أنا أنها تحرص على أن يكون تشريعها من دينها الحنيف، دين الإسلام، سواء أصابت في التطبيق أم أخطأت، فكل إنسان عرضة للخطأ، وهذا الرجل العظيم لم يسبق لي التعرف إليه حتى أحكم في شأنه حكمًا صحيحًا، ولكني أظن أنه أعلم بدينه وقوانين أوربة من المدعية وأمثالها، وها هو ذا يخطئ في مثل هذه الدقائق - إذا صح ما نقلته عنه المجلة فيعقد فرقًا بين (الدولة الإسلامية) و (الدولة الدينية) وهو فرق باطل كأنه فرق اصطلاحي فقط فإن كل مسلم يعرف أن (الإسلام دين) بل يعتقد المسلمون بنص ما أنزل الله عليهم في كتابه أن الدين عند الله الإسلام ويظن سعادته - تقليدًا لاصطلاح إفرنجي - أن في الإسلام شيئًا يسمى (رجال الدين)! ! ولطالما حاولتُ نقضَ هذه الأسطورة؛ أسطورة وجود شيء في الإسلام يدعى (رجال الدين)! ! من ذلك ما قلته في محاضرة أعددتها

لألقيها يوم 6 ربيع الأول سنة 1360 (3 أبريل 1941) ومنعني من إلقائها الوزير القائم على الأحكام العرفية الإنجليزية إذ ذاك، وهو حسين سري باشا رئيس الوزراء، وكان مما قلت فيها عن آثار القوانين الإفرنجية في نفوس متعلميها: "كان لها أثر بيِّنٌ بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين أو جعلتهم معسكرين: فالذين علموا تعليمًا مدنيًّا، وربوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها، ولما وضعت من نظم وقواعد ومبادئ، يرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم، وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصًا محكمًا قطعيًّا في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسمًا اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسموهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمى رجال الدين، بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا" (¬1). ولقد أخطأ هذا الرجل الكبير (رئيس الجمعية التأسيسية بالباكستان) خطأ آخر - إن صدق ما نقلته عنه تلك المجلة - أخطأ في ظنه أن الدولة الدينية هي التي يتولى الحكم فيها رجال الدين! ! ¬

_ (¬1) هذه المحاضرة الممنوعة نشرناها في مجلة الهدي النبوي في العدد 6، من المجلد 5، ثم نشرتها مع بحث آخر في كتاب (الشرع واللغة) المطبوع بدار المعارف بمصر، والفقرة التي هنا في (ص 71) منه.

فما أظن أن أحدًا يقصد إلى هذا أو يرمي إليه، حتى ممن يسمونهم غلطًا (رجال الدين)؛ لأن غاية كل مسلم يفقه الإسلام ويعرف حدوده وحقائقه، أن يحكم المسلمون بتشريعهم، بل أن يجاهدوا في سبيل الله حتى يحكموا به العالم كله إذا استطاعوا، وأن يعملوا على نشره في الأمم الإسلامية أولًا على حقيقته النيرة النقية، وأن يتعلمه الذين يملكون السيطرة على شؤون الدولة في بلاد الإسلام، والذين يَلُون فيهم الأحكام، فإذا ما كان ذلك كانوا أيضًا (رجال الدين) أيًّا كان لونهم من أنواع العلوم الأخرى، حتى هذه القوانين الآثمة التي ضربت على المسلمين لإذلالهم ومحو دينهم في عقر دارهم، فإن المعرفة بها إذ ذاك لا تضر، بل لعلها قد تنفع في الموازنة بين التشريع المبني على الوحي الصحيح الصادق من عند الله، وبين الأهواء والأكاذيب بل السخافات (في بعض الأحيان) التي تبنى عليها القوانين الوثنية الملحدة، ! ! ولقد صدق الله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (¬1). وقد أوضحت هذا المعنى وما إليه، بأقوى ما أستطيع من بيان في تلك المحاضرة المصادرة إذ ذاك، وكانت للدعوة إلى أن (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر) وهذا هو عنوانها وموضوعها الذي أعدت من أجله فقلت فيها: "وأريد أولًا أن أقول كلمةً تَرفع شبهةً عن دعوتنا، فإني عُرِفتُ بين ¬

_ (¬1) المائدة: 49.

إخواني ومعارفي بالدفاع عن العلماء عامة، وعن القضاء الشرعي خاصة، فقد يبدو لبعض الناس أن يؤول دعوتي إلى نحو من هذا المقصد. "كلا فإن الأمر أخطر من ذلك، ومقصدنا أسمى من أن نجعله تنازعًا بين طائفتين، أو تنحارًا بين فريقين، إنما نريد رفع ما ضرب على المسلمين من ذل، وما لقيت شريعتهم من إهانة بوضع هذه القوانين الأجنبية". "إنما ندعوكم بدعوة الله، ندعو الأمة أن تعود إلى حظيرة الإسلام، ندعو إلى وحدة القضاء، وإلى التشريع بما حكم الله {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (¬1). {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬2). "ضعوا القوانين على الأساس الإسلامي، الكتاب والسنة، ثم افعلوا ما شئتم فليحكم بها فلان أو فلان. لسنا نريد إلَّا وجه الله" (¬3). هذا ما قلته ولا أزال أقوله، وأعتقد أن كل داع إلى العمل بالشريعة الإسلامية يقوله: وأظن أنه يرفع كل شبهة عن دعوتنا الحقة الصادقة المخلصة، ولا يدع مجالًا لمن يعادي التشريع الإسلامي، ممن ¬

_ (¬1) النور: 51. (¬2) الأحزاب: 36. (¬3) ص 87 - 88 من كتاب (الشرع واللغة).

أُشرِبوا عقائد الإفرنج أن يظنوا حالنا كحال أوربة قبل موجة الإلحاد، التي قامت هناك لتدمير سلطان رجال الدين عندهم وطغيانهم، ثم لا يَدَعُ مجالًا لأن يقول ما قالته المدعية وما قاله أمثالها من قبل، من الفرق في الإسلام بين شؤون الاجتماع وشؤون الحكم وشؤون المعاملة وغيرها وبين الدين، فكل ما يفعل الناس وما يرون وما يعتقدون، وما يأخذون وما يدعون، داخل في حكم الإسلام وخاضع لسلطانه، رضي هؤلاء وساداتهم من المستعمرين والمبشرين أم أبوا؛ فالإسلام واضح بين لكل من أراد الهُدى، وهو كما قلت في تلك المحاضرة (لا يرضى من متبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبي من الرضا ببعض أحكامه فقد أباه كله) (¬1). ولذلك صارَحْتُ الأمةَ كلَّها حينذاك ورجالَ القانون خاصة، بالدعوة إلى وضع تشريع جديد على مبادئ الكتاب والسنة وفي حدود قواعدها، متعاونين متساندين جميعًا وصارحت رجال القانون بأننا سنعمل بالطريق السلمي للوصول إلى الحكم دونهم إذا أبوا أن يضعوا لهذه الدعوة الحقة لإعادة سلطان الإسلام في بلاد المسلمين، وبأني سأدعو العلماء عامة، من رجال الأزهر، ورجال مدرسة القضاء، ورجال دار العلوم (وسيستجيبون لي وسيحملون عبء هذا العمل العظيم وسيرفعون راية القرآن بأيديهم القوية، التي حملت مصباح العلم في أقطار الإسلام ألف عام) وبينت لهم السبيل الذي نسلكه أنه ¬

_ (¬1) ص 66 من كتاب (الشرع واللغة).

(السبيل الدستوري السلمي: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، ولئن فشلنا مرة فسنفوز مرارًا. بل سنجعل من إخفاقنا إن أخفقنا في أول أمرنا مقدمة لنجاحنا، بما يحفز من الهمم ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصرًا لنا مواقع خَطْوِنا، ومواضع خَطَئِنا، وبأن عملنا سيكون خالصًا لله وفي سبيل الله) (¬1). وهأنذا قد صارحتهم بذلك منذ عشر سنين أو نحوها، وما أظنهم صارحونا بقريب مما فعلنا، فيما أعلم، إلا النفاق والمداورة، ومدح الإسلام والتظاهر بالدفاع عنه والغيرة عليه مع تنحية أحكامه عن كل شيء في الدولة، أو تغيير أحكامه بالتأويل الكاذب، والفهم الباطل، ليقربوه من أروبة التي هم لها خاضعون، حتى يكون (إسلامًا إفرنجيًّا)! ! حتى جاءت هذه المدعية فكشفت عن الأمر كله، لتقرر علنًا وصراحة أن هذا البلد ليس بلدًا إسلاميًّا، وأنه لا يجوز أن ينظر فيه إلى (المسائل الاجتماعية) زعمت! ! نظرة إسلامية. وعن ذلك أعجبتني دعواها هذه الواضحة الصريحة حتى يعرف المسلمون ماذا يراد بدينهم، من غير أقلامنا، ومن غير أشخاصنا. وأما شأن المدعية نفسها، فيما تطلب من المحكمة أن تحكم لها به، فلا أعبأ به، ولا يهمني في قليل أو كثير ولا من قريب ولا من بعيد، أن يحكم لها بما طلبت، فتدخل في مناصب القضاء، أو ¬

_ (¬1) ص 91 - 92 من كتاب (الشرع واللغة).

ترفض دعواها! لأني قلت من قبل إن ولاية الرجال أنفسهم هذا القضاء (باطلة بطلانًا أصليًّا، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة) (¬1) فلا يزيده بطلانًا - في نظري - أن تتولاه امرأة، أو يتولاه شخصًا ما أيًّا كان لونه أو صفته، فالأمر عندي فيه سواء. أما بعد: فإنه أثناء كتابة هذه الكلمة، نظرت المحكمة هذه القضية بجلسة يوم الأربعاء 19 صفر سنة 1370 (29 نوفمبر سنة 1950) برئاسة المستشار (سعادة السيد علي السيد بك) ولخصت جريدة المصري في اليوم التالي (الخميس (20 صفر) بعض ما دار في الجلسة، فذكرت أنه حضر فيها (سيزا نبراوي وكيلة الاتحاد النسائي، وأعلنت انضمام الاتحاد للمدعية طرفًا ثالثًا في القضية، ووقف محامي الحكومة وطالب برفض انضمام الاتحاد؛ لأنه ليس له مصلحة مباشرة في هذا، ورد رئيس الجلسة بأنه يعتقد أن الاتحاد يرى أن هذه القضية هي قضية الجنس، وأن الحكم فيها يتعلق بمستقبل المرأة المصرية عامة)، ثم ذكرت الجريدة أن القضية أجلت لجلسة 30 يناير سنة 1951 للمرافعة. وليس لنا أن نتحدث في قبول ما يُدْعَى (الاتحاد النسائي) خصمًا ثالثًا في الدعوى أو عدم قبوله، فهذا شيء من اختصاص المحكمة وحدها، تفصل فيه بما ترى، بعد سماع المرافعة من طالب الدخول ¬

_ (¬1) (كلمة الحق)، رقم 2، ص 15، من عدد شهر صفر سنة 1370 من مجلة (الهدي النبوي).

ومن المعارض فيه، ولكنا نتحدث عما يدل عليه طلب الدخول في ذاته، وأنه يؤيد كل حرف قلناه من قبل، ويكشف عما يراد بالتشريع الإسلامي كشفًا واضحًا. وإذا كان لي أن أقترح، فإني أقترح على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وهو من نعرفه علمًا ودينًا وتقوى وغيرةً على الإسلام بشخصه أولًا، وبوصفه شيخًا للأزهر ثانيًا، وبوصفه رئيسًا لأكبر هيئة علمية إسلامية رسمية، وهي جماعة (كبار العلماء)، ثالثًا أن يرسل محاميًا يتدخَّل في هذه القضية بلسان فضيلته ولسان الأزهر، خصمًا ثالثًا أيضًا؛ لأنه يرى، فيما نعتقد جميعًا، أن هذه القضية قضيةُ الإسلامِ وشرعتُه قبل أن تكون (قضية الجنس) وليدفع عن الإسلام ما يريده به هؤلاء النسوة، اللائي لا يعرفن من الإسلام إلَّا ما أَخذْنَه عن (الخواجات وأمثال الخواجات)، واللائي يُرِدْن الانطلاق، لا يُرِدْن غيره، وليدفعَ عن الإسلام ما قد يقوله أنصار (النسوان) من نقد أو تأويل بالباطل أو افتراء. ولست أدري أيلقى اقتراحي هذا قبولًا أم إعراضًا، ولكنني إذا لم أجد لاقتراحي صدًى، فسأفكر في التدخل في القضية بنفسي، خصمًا ثالثًا، بوصفي من العلماء القدماء، بالسن على الأقل، وبوصفي مجاهدًا طول حياتي ضد الحركة النسوية الخاصة، وضد مهاجمي الإسلام والمتلاعبين به عامة، وإن كان هذا التدخّل فوق مقدوري علميًّا وماليًّا، ولكني سأحاول ما استطعت إن شاء الله.

الرقص والطيب للنساء

الرقص والطيب للنساء (*) قرأت إجابة الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية على استفتائكم (مجلة آخر ساعة) عن الرقص الذي ابتليت به بلادنا وأخلاقنا، ثم عجبت إذ قرأت استفتائكم للأستاذ ... الحكيم فيما أفتى به المفتي! وأسفت إذ وجد فيمن يتسمون بالأسماء العربية والأسماء الإسلامية من يكتب مثل ما كتب الأستاذ ... الحكيم. فإن العلامة المفتي أجاب بما هو معروف معلوم من الدين الإسلامي بالضرورة، وهو ما تقتضيه الفطرة العربية السليمة، من غيرة الرجال وعزة نفوسهم، والمحافظة على أعراض نسائهم، أن تنتهبها الأنظار، وأن لا تمتد إليها الأيدي العابثة، ولن تجد رجلًا سليم الفطرة يرضى أن تحضر ابنته أو أخته، بل أو امرأة أجنبية عنه، رجلًا يدور بها كالحيوان ولو لم يرهما أحد، فضلا عن أن يرضى بذلك في حفل جامع، يجمع العابثين والمنتهكين، تدار فيه الخمور، وتثار فيه النفوس، وتتحكم الشهوات مهما يصور المصورون هذا العمل بصور فنية جميلة، ومهما يدع الداعون إليه بأنه أمارة الرقي، تقليدًا للمدنية الحديثة، زعموا. ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، العدد العاشر، شوال سنة 1362.

والمسلمون جميعًا يعلمون علمًا لا يتطرق إليه الشك؛ أن الله حرم على النساء أن يبدين زينتهن إلا لأزواجهن، ولعدد محدود منصوص عليه من أقاربهن يسمون في العرف الإسلامي "المحارم" وهم يسمعون القرآن يتلى عليهم في كل حين فيسمعون قول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 30، 31] وليس بعد هذا البيان بيان. فمن آمن بهذا ورضي به وخضع له قولًا وعملًا واعتقادًا فهو المسلم، ومن أبى وزعم أن له أن يفتي في الدين بما شاء له هواه، أو بما شاء له ما رآه في أمم أخرى ودعا إلى ذلك فهو شيء آخر، يجب أن يعرفه المسلمون ويحذروه، وأن ينكروا عليه أن يقول كما قال الأستاذ ... الحكيم: "إن تأمل المرأة الجميلة صلاة لله، واستنشاق العطر الجميل صلاة، عبادة"! يجب أن يقول له الناس: إن تأمل المرأة الجميلة حرام منكر؛ لأن الله أمر الرجال أن يغضوا من أبصارهم، بنص القرآن. وأن يقولوا له: إن الدعوة إلى مخالفة

نص القرآن تخرج المسلم من الإسلام. أيها المسلمون! يجب أن تقولوا هذا قولًا صريحًا واضحًا لكل من دعاكم إلى انتهاك حرمة دينكم، وأنتم تعرفون من كتابكم أن الله لعن أمة من الأمم بأنهم {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}. [المائدة: 79] وتعرفون أن نبيكم الكريم قال: "إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب". ومن عجب أن يجرؤ الأستاذ ..... الحكيم فيصف تأمل المرأة الجميلة بأنه صلاة، وهو عند المسلمين وفي شرعة الإسلام زنا، وقد قال رسول الله: "زنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه". وما أظن أن مسلما يجهل هذا من دينه. وأعجب من هذا أن يخطئ الأستاذ ... الحكيم معنى الصلاة في الشريعة الإسلامية، وأنها أقوال وأفعال بصفة وهيئات معروفة وركوع وسجود، ويفهمها على معنى الصلاة التى يقرؤها في الروايات الإفرنجية! ولستُ أدري ماذا يقولُ المسلمون في شأن هذا الكاتب وهو يستدل بالحديث الشريف: "حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْياكُمُ النِّساءُ والطِّيبُ، وجَعَلْتُ قُرَّةَ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ". على إنكار أن يكون تعطر المرأة في غير البيت زنًا وعلى أن تأمل المرأة الجميلة عبادة! بلى إني أدري، وإن الأستاذ ... الحكيم

في تعليم النساء وصلاتهن في المساجد

يدري، وإن كل مسلم يدري، ولكنه وأمثاله يدعون إلى شيء يعملون له جاهدين. أرأيتم أيها الناس أعجب من رجل لا يعرف بديهيات الإسلام، ثم يرى نفسه موضعًا للاستدراك على الأستاذ العلامة الحجة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، ويرى نفسه أهلًا للرد عليه والإفتاء بغير فتواه! ! بل إنه لا يرد على الأستاذ المفتي وإنما يرد على السنة النبوية نفسها؛ لأن الأستاذ العلامة المفتي يقول: "وقد جاء في السنة أن المرأة إذا خرجت من بيتها متعطرة فهى زانية" فيقول الأستاذ ... الحكيم بجرأته: (أنا لا أرى هذا، ولا أعتقد أن الشريعة الإسلامية تقرره؛ لأن في الروائح الزكية نشوة شعرية لا شهوانية) ولكن لعل عذره أنه أخذ الشريعة من باريس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية". فهذه هي السنة التي أشار إليها العلامة المفتي، وهذه هي الشريعة الإسلامية التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أفنأخذ بها أم نأخذ بالشريعة التى يريد أن يضعها الأستاذ ... الحكيم وأمثاله؟ ! اللهم غفرًا. ورحم الله من قال: "لو سكت من لا يعلم عما لا يعلم سقط الاختلاف". في تعليم النساء وصلاتهن في المساجد رغب إليَّ أخ كريم أن أكتب كلمة موجزة في تعليم النساء الدين مع الرجال، ومشاركتهن إياهم في الصلوات والتعلم في المساجد

وما إلى ذلك. ورأيت أن الإبانة عن الحق الموافق للشرع في هذا واجبة، بأن كثيرًا من الناس يخطئون فهم شرائع الإسلام في المرأة، ويخدعون بما يتأول بعض الكتاب والدعاة نصوص القرآن والسنة، وما ينكر بعضهم من بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، والله المستعان. فأساس البحث في هذا كله وجوب تعليم المرأة كتعليم الرجل سواء بسواء، والمراد بالتعليم تعليم ما يجب معرفته من شؤون الدين والفقه فيه، حتى يعرف الرجل والمرأة ما يأتي وما يدع وما وجب وما حرم، وكيف يؤدي ما أمره الله بأدائه، وهذا يختلف باختلاف الزمن واختلاف البيئة، ولكن الضروري لكل إنسان مفهوم بداهة، وليس في هذا أدلة خاصة بل هو من عموم الأدلة التي لم تخص رجلًا أو امرأة. وقد وردت أحاديث في تعليم المرأة بهذا المعنى، منها حديث أبي موسى الأشعري في البخاري أن رسول الله قال: "ثلاثة لهم أجران". فذكر منهم "رجل كانت عنده أمة، فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران". وحديث ابن عباس في البخاري أيضًا: "أن رسول الله خرج ومعه بلال فظن أنه لم يسمع النساء، فوعظهن وأمرهن بالصدقة" إلخ. وذلك في صلاة العيد في المصلى أي الصحراء. وقد عرف من النساء بالعلم والفتيا كثيرات جدًّا أعظمهن شأنًا عائشة أم المؤمنين، وغيرها من الصحابة كأم الدرداء ومن التابعين وغيرهم. وأما الإجازات العلمية

فإنها لم تكن معروفة، ولكن في تواريخ المحدثين ذكر كثير من النساء العالمات بالحديث الراويات له عن شيوخهن ورواه عنهن تلاميذهن. وكل هذا مبني على شيء آخر مهم جدًّا وهو الحجاب، أي أن النساء كن يتلقين العلم أو يعلمن غيرهن وهن محجبات، الحجاب الواجب على كل مسلمة، والذي يدل عليه القرآن والحديث والعمل المتواتر، وأما التهتك العصري الذي يريد المجددون - أو المجردون الهدامون - تأويل نصوص الإسلام إليه، فإنه إشاعة للمنكر، ومن دعا إليه وذعن أنه مطابق للإسلام فقد خرج من الإسلام؛ لأنه ينكر الشيء المعلوم من الدين بالضرورة، ونقول هذا ونحن نعرف معناه ونقصده، أيا كان الشخص الذي يطبق عليه، لا نقصد إلى الطعن في أحد بعينه، فلا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يظهر منها غير وجهها وكفيها، ولا يجوز لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يأذن لامرأة له عليها سلطان بغير هذا، ولا أن يرضى للنساء بغير هذا، وفي هذا تتفاضل عزائم الرجال. والثابت من الأحاديث الصحيحة التي لا خلاف فيها؛ أن النساء كن يصلين الجماعات مع الرجال في المساجد وكذلك الجمعة والعيدان، ولهن مقام خاص بهن في آخر المسجد في صفوف وراء صفوف الرجال، وأنه لا يجوز لهن الصلاة في صفوف الرجال، وكان رسول الله ينهى الرجال عن منعهن من المساجد، ويأمر الرجل أن يأذن لامرأته بالذهاب إلى الصلاة إذا أرادت.

وكن يتلقين العلم في المساجد بالضرورة؛ إذ يسمعن الموعظة في الخطبة في الجمعة والعيدين، كما سبق في حديث ابن عباس. وكن يذهبن إلى المساجد لاستفتاء النبي ثم أصحابه من بعده ثم العلماء، فيما ينوبهن من مواطن السؤال، أما الاختلاط الحديث كما في الجامعة مثلًا، فإنه شيء غير جائز، وليس من دين المسلمين. وأما الإمامة الكبرى، أعني إمامة الحكم والسلطان وولاية القضاء، فإنها لا تجوز للمرأة أبدًا، وإن خالف في بعض تفصيل ذلك بعض الفقهاء، لقوله عليه السلام: "لن يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً". وأما الإمامة الصُّغرى أي إمامة الصلاة، فإنه لا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال قطعًا، ولكن يجوز لها أن تؤم النساء عند بعض الفقهاء، والأفضل أن يصلين في المساجد في جماعة الرجال في صفوفٍ خاصةٍ بِهِن. * * *

نظام الطلاق في الإسلام

بين عالمين نظامُ الطَّلاق في الإسلامِ (*) منذ بضعة أشهر أخرجتُ كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) فتقبله العلماء الأعلام في مصر، وفي سائر الأقطار بقبول حسن والحمد لله، وأكثروا من الثناء عليه وعلى مؤلفه، وجاءتني كتب متواترة من كبار علماء الإسلام في الحجاز والهند والعراق والشأم وغيرها، ومن كبار المستشرقين في أقطار أخرى، ولا أراني أهلًا لكل ما أثنوا به عليَّ، وإنما هو حسن الظن منهم، وقد أعجزني أن أوفيهم حقهم من الشكر على هذا الفضل الجم، وأسأل الله أن يجزل لهم المثوبة على فضلهم. وفي بعض ما جاءني من الكتب أبحاث قيمة من النقد العالي المبني على الحجة والبرهان، مما يصلح أن يكون مثالًا يُحتذى للباحثين والمجتهدين، في دقة النظر، وعلو الفكر، وأدب القول والتسامي عن العصبية والهوى، والتزام ما ينصره الدليل الصحيح، وهي الخصال التي نرجو أن يسير على نهجها كل عالم مفيد، وكل طالب مستفيد، وخصوصا في علوم الدين وهي الخصال التي جاهد أسلافنا في سبيل حمل الناس على الأخذ بها واتباعها، ثم تبعانها ¬

_ (*) مجلة الرسالة العدد 157 الاثنين 17 ربيع الثاني سنة 1355 هـ 6 يوليه سنة 1936 م (السنة الرابعة).

من بعدهم، فجاهد إخواني وجاهدت معهم في سبيل ذلك جهادًا كثيرًا، منذ نيف وعشرين سنة، ولا نزال - والحمد لله - نسير على هذا النهج القويم والصراط المستقيم. ومما يجب عليَّ، إحقاقًا للحق، واتباعًا لسبيل الهدى، أن أفكر فيما ورد على كتابي من اعتراض ونقد، وأعيد النظر فيما اخترت ورأيت، وأكشف عن حجة خصمي وعن حجتي لي وللناظرين فإما انتصر قول خصمي ورجعت عن قولي، وأما انتصرت لقول وزدته بيانًا وتأييدًا، لا أبالي أي ذنب كان، وإنما أنا طالب علم، فأي قول أو رأي نصره عندي الدليل، فإنه العلم الذي أطلبه وأسعى إليه، لا أبغي به بدلًا. ولذلك رأيتُ أن أنشر في الرسالة الغراء مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية - ما أراه جديرًا بالنشر مما جاءني من نقد واعتراض، وأساجل كاتبيه البحث، أملًا في أن يشترك معنا كثير من العلماء الأعلام في هذا المجال، عَلَّنا نصل إلى الحقيقة فيما كان موضع اختلاف ونظر، وقديمًا قال الناس: الحقيقة بنت البحث. ومن أشرف ما وصل إليَّ وأعلاه: كتاب كريم من صديقي الكبير وأستاذي الجليل، شيخ الشريعة، وإمام مجتهدي الشيعة بالنجف الأشرف، العلامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، فقد تفضل - حفظه الله - بمناقشة رأي في مسألة من مسائل الكتاب، وهي (مسألة اشتراط الشهود في صحة مراجعة الرجل مطلقته) فإنني

ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وأنه إذا حصل الطلاق بغير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقًا، ولم يتعد به، وهذا القول وإن كان مخالفًا للمذاهب الأربعة المعروفة إلا أنه يؤيده الدليل، ويوافق مذهب الأئمة أهل البيت والشيعة الإمامية، وذهبت أيضًا إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد قولين للإمام الشافعي، ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة، واستغربت من قولهم أن يفرقوا بينهما والدليل واحد فيهما، فرأي الأستاذ - بارك الله فيه - أن يشرح لي وجهة نظرهم في التفريق بينهما فقال: * * * بسم الله الرحمن الرحيم، وله الحمد والمجد: من النجف الأشرف 8 صفر سنة 1355 إلى مصر لفضيلة الأستاذ العلامة المتبحر النبيل الشيخ أحمد محمد شاكر المحترم، أيده الله. سلامة لك وسلام عليك .. وصلتني هديتك الثمينة رسالة (نظام الطلاق في الإسلام)، فأنعمت النظر فيها مرة بل مرتين إعجابًا وتقديرًا لما حوته من غور النظر، ودقة البحث، وحرية الفكر، وإصابة هدف الحق والصواب، وقد استخرجت لباب الأحاديث الشريفة، وأزحت عن محيا الشريعة الوضاءة أغشية الأوهام، وحطمت قيود التقاليد القديمة وهياكل الجمود بالأدلة القاطعة، والبراهين الدامغة، فحياك الله، وحيا ذهنك الوقاد وفضلك الجم.

وأمهات مباحث الرسالة ثلاث: (1) طلاق الثلاث. (2) الحلف بالطلاق والعتاق. (3) الإشهاد على الطلاق. وكل واحدة من هذه المسائل الثلاث قد وفيتها حقها من البحث، وفتحت فيها باب الاجتهاد الصحيح على قواعد الفن ومدارك الاستنباط القويم من الكتاب والسنة، فانتهى بك السير على تلك المناهج القويمة إلى مصاص الصواب، وروح الحقيقة، وجوهر الحكم الإلهي، وفرض الشريعة الإسلامية. وقد وافقت آراؤك السديدةُ في تلك المسائل ما اتفقت عليه الإمامية من صدر الإسلام إلى اليوم، لم يختلف فيها منهم اثنان، حتى أصبحت عندهم من الضروريات، كما اتفقوا على عدم وجوب الإشهاد في الرجعة، مع اتفاقهم على لزومه في الطلاق، بل الطلاق باطل عندهم بدونه. وقد ترجح عندك قول من يقول بوجوب الإشهاد فيهما معا فقلت في صفحة (120) ما نصه: "وذهبت الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب شرائع الإسلام .... ولم يوجبوه في الرجعة، والتفريق بينهما غريب ولا دليل عليه". انتهى.

وفي كلامك هذا (أيدك الله) نظر أستميحك السماح في بيانه، وهو أن من الغريب حسب الفن مطالبة النافي بالدليل والأصل معه! وإنما يحتاج المثبت إلى الدليل، ولعلك (ثبتك الله) تقول قد قام الدليل عليه، وهو ظاهر الآية، بناء على ما ذكرته في صفحة (118) حيث تقول: "والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: {وَأَشْهِدُوا}. راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معًا" إلى آخر ما ذكرت، وكأنك (أنار الله برهانك) لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة، كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام، وإلا لما كان يخفي عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، ولابتداء الكلام في صدرها بقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}. ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة أي؛ لا يكون في طهر المواقعة، ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شأنه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي؛ إذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة، وتركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعًا واستطرادًا، ألا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه وأن تستقبله، سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه، ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فإنك لا

تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم، لا له ولخادمه ورفيقه، وإن تأخرا عنه، وهذا لعمري حسب قواعد العربية والذوق السليم جلي واضح، لم يكن ليخفى عليك، وأنت خرِّيتُ العربية، لولا الغفلة (والغفلات تعرض للأديب). هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة، وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها، وهو: أن من المعلوم؛ أنه ما من حلال أبغض إلى الله - سبحانه وتعالى - من الطلاق، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعي اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة، سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة، بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى، فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثر قيوده وشروطه، على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده عز أو قل وجوده، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أولًا ولحصول الأناة والتأخير ثانيًا، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان، أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة، كما أشير إليه بقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم مضافًا إلى الفوائد الأخر. وهذا كله بعكس قضية الرجوع: فإن الشارع يريد التعجل به،

ولعل للتأخير آفات، فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط، وتصح عندنا - معشر الإمامية - بكل ما دل عليها من قول أو فعل أو إشارة. ولا يشترط فيها صيغة خاصة، كما يشترط في الطلاق، كل ذلك تسهيلا لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده، والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرقتهم. وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع، وهي، أي المطلقة الرجعية عندنا، معشر الإمامية، لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدة، ولذا ترثه ويرثها، وتغسله ويغسلها، وتجب عليه نفقتها، ولا يجوز أن يتزوج بأختها وبالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية. فهل في هذا كله مقنع لك في صحة ما ذهبت إليه الإمامية من عدم وجوب الإشهاد في الرجعة بخلاف الطلاق؟ ! فإن استصوبته حمدنا الله وشكرناك، وإلا فأنا مستعد للنظر في ملاحظاتك وتلقيها بكل ارتياح، وما الغرض إلا إصابة الحقيقة، واتباع الحق أينما كان، ونبذ التقليد الأجوف، والعصبية العمياء، أعاذنا الله وإياك منها، وسدد خطواتنا عن الخطأ والخطيئات، إن شاء الله، ونسأله تعالى أن يوفقكم لأمثال هذه الآثار الخالدة، والأثريات اللامعة، والمآثر الناصعة، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملًا، ولكم في الختام أسنى تحية وسلام من: محمد الحسن آل كاشف الغطاء

ملاحظة: ومن جملة المسائل التي أجدتَ فيها البحث والنظر: مسألة بطلان طلاق الحائض، وقد غربلت حديث ابن عمر بغربال الدقيق، وهذه الفتوى أيضًا مما اتفقت عليها الإمامية وهي بطلان طلاق الحائض إلا في موارد استثنائية معدودة. * * * هذا هو نص كتاب الأستاذ شيخ الشريعة، لم أحذف منه شيئًا إلا كلمة خاصة لا علاقة لها بالموضوع، وإنما هي عن تفضله بإهداء بعض كتبه إلي. وسأحاول أن أبين وجهة نظري وأناقش أستاذي فيما رآه واختاره، بما يصل إليه جهدي في عدد قادم، إن شاء الله. * * *

نظام الطلاق في الإسلام 2

بين عالمين نظام الطلاق في الإسلام (*) نشرت في الرسالة (العدد 157 في 6 يوليو سنة 1936) كتاب أستاذنا الكبير العلامة شيخ الشريعة، إمام مجتهدي الشيعة، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، في نقد ما ذهبت إليه في كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) من اشتراط الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، خلافًا لما ذهب إليه أئمة الشيعة من اشتراطه في الطلاق دون الرجعة، وقد انتصر الأستاذ - حفظه الله - لمذهبهم بأبدع بيان، مما لم نجد له نظيرًا فيما بين أيدينا من كتب العلماء من الشيعة الإمامية. ووعدتُ أن أناقش الأستاذ فيما أرتأى واختار، وأن أبين وجهة نظري، ملتزمًا ما رسمته لنفسي من شرعة الإنصاف في البحث والنظر "فأكشف عن حجة خصمي وعن حجتي، لي وللناظرين: فإما انتصر قول خصمي ورجعت عن قولي، وإما انتصرت لقولي وزدته بيانًا وتأييدًا، لا أبالي أي ذينك كان". ووفاء بما وعدت، أنشر هنا ما قلته في الكتاب (ص 118 - 121): "قال الله تعالى في أول سورة الطلاق: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ ¬

_ (*) العدد 159، أول جمادى الأولى سنة 1355 هـ - 20 يوليه سنة 1936 م، السنة الرابعة.

بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}. [الطلاق: 1، 2]. والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: {وَأَشْهِدُوا}. راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معًا، والأمر للوجوب؛ لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلا بقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه إلى غير الوجوب، بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب؛ لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل - هو أحد طرفي العقد - وحده، سواء أوافقته المرأة أم لا، كما أوضحنا ذلك مرارًا، وتترتب عليه حقوق للرجل قِبَل المرأة، وحقوق للمرأة قِبَل الرجل، وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإنكار من أحدهما، فإشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قبل الآخر، فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له، فوقع عمله باطلًا لا يترتب عليه أي أثر من آثاره". "وهذا الذي اخترنا هو قول ابن عباس، فقد روى عنه الطبري في التفسير (ج 28 ص 88) قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين، كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. عند الطلاق وعند المراجعة. وهو قول عطاء أيضًا، فقد روى عنه

عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود. نقله السيوطي في الدر المنثور (ج 6 ص 232) والجصاص في أحكام القرآن بمعناه (ج 3 ص 456) وكذلك هو قول السدي، فقد روى عنه الطبري قال: في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. على الطلاق والرجعة". "وذهب الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق، وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب (شرائع الإسلام ص 208 - 209 طبعة سنة 1302) ولم يوجبوه في الرجعة، والتفريق بينهما غريب، ولا دليل عليه". "وأما ابن حزم فإن ظاهر قوله في المحلى (ج 10 ص 251) يفهم منه أنه يرى اشتراط الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وإن لم يذكر هذا الشرط في مسائل الطلاق، بل ذكره في الكلام على الرجعة فقط، قال: فإن راجع ولم يشهد فليس مراجعًا؛ لقول الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. فقرن (¬1) - عز وجل - بين المراجعة والطلاق والإشهاد، ¬

_ (¬1) في النسخة المطبوعة من المحلى (فرق) وهو خطأ مطبعي واضح من سياق الكلام، وقد صححناه في الكتاب على غالب الظن (لم يفرق) إذ لم نتمكن حين الكتابة من مراجعة النسخ المخطوطة بدار الكتب، ثم رجعت إليها بعد، ففي نسخة المحلى (رقم 45 فقه حنبلى) هذه الكلمة (ففرق) ولكنها غير واضحة النقط، وهي خطأ كالنسخة المطبوعة، وفي النسخة (رقم 15 فقه حنبلي) (فقرن) وهي واضحة الحروف بينة النقط، وهي الصواب، والحمد لله. ونرجو القراء أن يصححوها في المحلى وفي كتابنا.

فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وكان من طلق ولم يشهد ذوي عدل، أو راجع ولم يشهد ذوي عدل: متعديا لحدود الله تعالى، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ". "واشتراط الإشهاد في الرجعة هو أحد قولي الشافعي، قال الشيرازي في المهذب (ج 2 ص 111): لأنه استباحة بضع مقصود، فلم يصح من غير إشهاد كالنكاح، وهو أيضًا أحد قولي الإمام أحمد، انظر المقنع (ج 2 ص 259) والمغني (ج 8 ص 482) والشرح الكبير (ج 8 ص 472 - 473". "والقول باشتراط الإشهاد في صحة الرجعة، يلزم منه أنها لا تصح إلا باللفظ، ولا تصح بالفعل، كما هو ظاهر، وهو مذهب الشافعي". هذا ما قلته في المسألة، وقد ردَّ عليه الأستاذ شيخ الشريعة من جهتين: من لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة، ومن جهة الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية، فقال في الوجه الأول: "إن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}. ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة، أي لا يكون في طهر المواقعة ولا في الحيض، لزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شأنه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.

أي إذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرُّجعة التي لم تذكر إلا تبعًا واستطرادًا". وأما أن السورة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى إنها سميت سورة الطلاق: فنعم. ولكن هل معنى هذا أنها مسوقة لأحكام إنشاء الطلاق وإيقاعه: من اشتراط حصوله في قُبُل الْعِدَّة، ومن وجوب الإشهاد عليه، لا غير؟ ! ما أظن أحدًا يرضى أن يدعي ذلك! ولو سميت السورة سورة الطلاق! ! فإن في السورة اثنتي عشر آية فيها نحو من خمسين ومائتي كلمة، لم يذكر فيها من الأحكام الخاصة بإنشاء الطلاق وإيقاعه إلا إحدى عشرة كلمة في الآيتين الأوليين، ثم سيق نصف السورة تقريبًا لبيان الأحكام المتعلقة بالطلاق عامة، من إنشاء وإيقاع، ومن إمساك بمعروف أو مفارقة بمعروف، ومن عدة وإنفاق وإسكان وإخراج وأجرة إرضاع، ومن بيان لحدود الله في الطلاق ووعيد شديد لمن تعداها، ومن ترغيب في تقوى الله والتوكيل عليه، كل أولئك في الآيات السبع الأولى من السورة الكريمة، ثم سيق سائرها لأشياء أخرى ليست لها علاقة بالطلاق. فهل كل هذا ذكر تبعًا لسبع كلمات في الأحكام الخاصة بإنشاء

الطلاق في الآية الأولى، والأربع كلمات في الآية الثانية؟ ! كلا! أنها سورة الطلاق، ذكر فيها كثير من أحكامه عامة، وسيق نحو نصفها لإرشاد الرجال إلى ما يجب عليهم عند الطلاق وبعده، وكل ذلك أصل مقصود، لم يذكر شيء منه تبعًا ولا استطرادًا. ولو قرأ القارئ الآيتين الأوليين بأناة وروية، وتأمل فيهما، على ما تقتضيه الفطرة العربية المستقيمة والذوق السليم، لتبين له أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الأشياء الثلاثة المذكورة في الآيتين، وهي الطلاق: أي إنشاؤه، والإمساك بالمعروف: أي الرجعة، والمفارقة بالمعروف: أي إنفاذ الطلاق بتسريحها بإحسان عقيب انقضاء عدتها، وأنه لو كان المراد الأمر بالإشهاد عند إنشاء الطلاق فقط لكان موضع ذكره في صدر الآية الأولى عند قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}. أما تأخيره بعد ذكر الإمساك أو المفارقة، فإنه صريح في عودته إلى جميع ما تقدم عليه. وهذا هو الذي فهمه أكثر العارفين باللغة والمتمكنين منها، ولم يستهجن أحد منهم عوده إلى الرجعة، ولا ادعى أنها ذكرت تبعًا واستطرادًا، فابن عباس وعطاء والسدي وغيرهم فهموا أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معًا، ولذلك قال ابن حزم: "فقرن عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض". وكذلك قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من أعلم

الناس باللغة وأفصحهم، فقد قال في كتاب الأم (ج 5 ص 226): "ينبغي لمن راجع أن يشهد شاهدين عدلين على الرجعة، لما أمر الله به من الشهادة، لئلا يموت قبل أن يقر بذلك؛ أو يموت قبل أن تعلم الرجعة بعد انقضاء عدتها، فلا يتوارثان إن لم تعلم الرجعة في العدة، ولئلا يتجاحدا أو يصيبها فتنزل منه إصابة غير زوجة". وقال محمد بن جرير الطبري في التفسير (ج 28 ص 88): "وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهن، وذلك هو الرجعة". وقال العلامة جار الله الزمخشري في الكشاف (ج 2 ص 403: "وأشهدوا، يعنى عند الرجعة والفرقة جميعًا، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وقيل: فائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث". وقال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (ج 8 ص 282): "وأشهدوا: الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك. وهو الرجعة، أو المفارقة وهي الطلاق، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. وعند الشافعية واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل: وأشهدوا، يريد به على الرجعة فقط، والإشهاد شرط في صحتها، فلها منعه من نفسها

حتى يُشْهِدَ. وقال ابن عباس: الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع من النوازل أشكالًا كثيرة". وبنحوه قال سائر المفسرين، حتى لقد قال العلامة أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي المفسر من كبار أئمة الشيعة الإمامية، المتوفى سنة 548 في تفسيره مجمع البيان (ج 2 ص 430 طبع إيران): {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة، ولا الرجل الطلاق. وقيل معناه: وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، وهو المروي عن أئمتنا، وهذا أليق بالظاهر؛ لأنا إن حملناه على الطلاق كان أمرًا يقتضي الوجوب، وهو من شرائط صحة الطلاق، ومن قال: إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب". فهذا الإمام الشيعي لا يرى مانعًا من جهة اللغة والسياق، أن يرجع الأمر بالإشهاد إلى الرجعة وإلى الطلاق معًا، ويتأول ذلك أو يدعي أن الظاهر رجوعه إلى الطلاق فقط، انتصارًا لمذهب الأئمة من أهل البيت في اشتراطه الطلاق دون الرجعة. ومع ذلك فإن مذهب الإمامية أن الإشهاد على الرجعة مندوب إليه مستحب، نص على ذلك في كتبهم في مواضع مختلفة. وقد ورد في رواياتهم عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - في

بيان طلاق العدة أنه: "إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق العدة، فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضها، ثم يطلقها تطليقة من غير جماع، ويشهد شاهدين عدلين، ويراجعها، يومه ذلك إن أحب، أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض، ويشهد على رجعتها ... إلخ". نقله الطبرسي في التفسير، وشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي في التهذيب، والإمام السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي في كتاب "من لا يحضره الفقيه" وغيرهم، فهذا يدل على أنهم يرون أن الأمر بالإشهاد في الآية راجع إلى الرجعة كما هو راجع إلى الطلاق، وإن كانوا لا يشترطونه في صحة المراجعة، فذاك لشيء آخر وهو اتباع الأئمة من أهل البيت، ولولا أن الأمر راجع إليهما لما كان لديهم دليل على استحباب الإشهاد في الرجعة، ولما قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: "ويشهد على رجعتها". فإنه لم يرد طلب الإشهاد فيها في شيء من القرآن إلا في هذه الآية، ولم يرد أيضًا في شيء من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد ورد في أقوال الصحابة والتابعين، كما نقلنا عن ابن عباس وغيره. وكما روى أبو داود (ج 2 ص 257)، وابن ماجه (ج 1 ص 319) عن مطرف بن عبد الله: "أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها؟ فقال: طلقت لغير سنة، ورجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد". وروى البيهقي في السنن الكبرى

(ج 7 ص 373) نحوه من طريق ابن سيرين عن عمران بن حصين، وإسناده عند أبي داود إسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (ص 228). وروى البيهقي بإسناد صحيح عن نافع قال: "طلق ابن عمر امرأته صفية بنت أبي عبيد تطليقة أو تطليقتين، فكان لا يدخل عليها إلا بإذن، فلما راجعها أشهد على رجعتها ودخل عليها". فعبد الله بن عمر فهم من الآية أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الرجعة؛ ولذلك أشهد على رجعة مطلقته، وعمران بن حصين فهم ذلك أيضًا، وأنكر على من طلق ولم يشهد وراجع ولم يشهد واعتبره مخالفًا للسنة؛ إذ خالف ما أمر به في القرآن، وهما عربيان يفهمان لغتهما بالفطرة السليمة، قبل فساد الألسنة، ودخول العجمة على الناس. وأنا إذ أحتجُّ بأقوال من نقلتُ قولَهم من الصحابة والتابعين والمفسرين، فإنما أحتج بها من وجهة الدلالة العربية وفهم مناحي الكلام في الآيات الكريمة، لا من جهة الرأي الفقهي الاستنباطي، فقد اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا، فبعضهم يرى وجوب الإشهاد على الطلاق وحده ويجعله شرطًا في صحتها، وبعضهم يراه مستحبًّا على الرجعة وحدها ويجعله شرطًا في صحتها، وبعضهم يراه مستحبًّا فقط في الأمرين، وبعضهم يراه واجبًا فيهما ولا يراه شرطًا في صحة واحد منهما، كما يفهم من كلام عمران بن حصين.

وأما الذي أراه وأذهب إليه، فهو وجوب الإشهاد في الأمرين جميعًا وأنه شرط في صحة كل منهما؛ لأنه ثبت من دلالة الآيتين في أول سورة الطلاق أن الله سبحانه أمر الرجلين بالإشهاد عند الطلاق وعند المراجعة؛ والأمر في حقيقته دائمًا للوجوب، ولا يدل على الندب إلا دلالة مجازية؛ والمجاز لا يراد من الكلام إلا بوجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، ولا قرينة هنا أبدا تمنع إرادة المعنى الحقيقي، وإن ادعى الشوكاني في نيل الأوطار ذلك؛ إذ قال (ج 7 ص 43 - 44): "ومن الأدلة على عدم الوجوب؛ أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق، كما حكاه الموزعي في تيسير البيان". وما أكثر دعوى العلماء الإجماع، خصوصًا في مسائل الطلاق! ! وهي دعوى عريضة، يدعونها في كثير من المواطن إذا ما غلبتهم الحجة وأعوزهم البرهان، وليس لهم عليها أي دليل! كما قلت في (نظام الطلاق) وبينت هناك المعنى الصحيح للإجماع "لكثرة إرجاف المرجفين بدعوى الإجماع في الطلاق، ليرعبوا العلماء المجتهدين الصادقين المخلصين، ويصرفوهم عن البحث فيه، أو يؤلبوا عليهم العامة والغوغاء، فتحاماه أكثرهم وأحجموا عنه، إلا من ثبّت الله قلبه وأيده بروح من عنده" (ص 96 - 103). * * *

نظام الطلاق في الإسلام [بقية المقال المنشور في العدد السابق]

بين عالمين نظام الطلاق في الإسلام (*) [بقية المقال المنشور في العدد السابق] هذا عن الدليل على وجوب الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وأما الدليل على أنه شرط في صحتهما، وأن من طلق أو راجع بغير إشهاد فقد بطل طلاقه وبطلت رجعته، ولم يصح واحد منهما، فإن الطلاق عمل استثنائي صرف، يخالف القواعد العامة في العقود والفسوخ، وكذلك الرجعة؛ لأن كلًّا منهما تصرف في عقد بين اثنين، يقوم به أحد طرفي العقد وحده، وهو الرجل من غير اختيار، أو مشاركة له فيه من الطرف الآخر، وهو المرأة، أذن بهما الشارع الحكيم، في حدود معينة، وبنظام خاص، وليسا مما يملكه الرجل وحده بطبيعة التعاقد؛ لأن الزواج عقد كسائر العقود، لا يملك أحد طرفي العقد التصرف فيه بالإلغاء أو الإنهاء وحده، لولا ما أذن به الله للرجل من حق الانفراد بالطلاق، وكذلك الرجعة هي إعادة للعقد الذي نسخه الرجل وحده، بما جعل الله له من الحق في ذلك، وهي إنما يملك الرجل الانفراد بها - دون الطرف الثاني من العقد بما أذن الله له فيها، ولو لم يأذن الله بالطلاق وبالرجعة للرجل، لم يكن له أن ينفرد بواحد منهما من غير رضا الطرف الآخر في العقد. ¬

_ (*) العدد 160، 8 جمادى الأولى 1355 هـ 27 - يوليه 1936 م، السنة الرابعة.

وقد أذن الله في شريعته للرجل بالاستقلال بإيقاع الطلاق، وبالانفراد برد المطلقة إلى عصمته، بصفات معينة، وفي أوقات خاصة، فتكون كلها شروطًا في صحة ما يفعله المطلق حين طلاقه، والمراجع حين رجعته، فإذا تجاوز الصفات التي رسمت له فيهما، أو الأوقات التي أقتت له، كان عمله باطلا؛ لأنه خرج عن الحد الذي ملك فيه الانفراد بالتصرف بالأذن من الشارع الحكيم. ولذلك قلنا ببطلان الطلاق لغير العدة، وببطلان الطلاق من غير إشهاد، وببطلان سائر أنواع الطلاق الذي يسمى (الطلاق البدعي) وقلنا أيضًا ببطلان الرجعة من غير إشهاد، وببطلانها إذا قصد بها المضارة، ولم يقصد بها الإصلاح، كما قال الفقهاء جميعًا ببطلان الرجعة إذا كانت بعد انقضاء العدة، وببطلانها إذا كانت بعد الطلقة الثالثة وهكذا. وهذا المعنى قد أوضحته مرارًا في كتاب (نظام الطلاق في الإسلام)، فمما قلته (ص 60 - 63): "وليس المقصود من الطلاق اللعب واللهو، حتى يزعم الرجل لنفسه أنه يملك الطلاق كما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء، وأنه إن شاء أبان المرأة بتة، وإن شاء جعلها معتدة يملك عليها الرجعة". "كلا، ثم كلا، بل هو تشريع منظم دقيق من لدن حكيم عليم، شرعه الله لعباده ترفيهًا لهم، ورحمة بهم، وعلاجًا شافيًا لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضرار، ورسم قواعده، وحد

حدوده بميزان العدالة الصحيحة التامة، ونهي عن تجاوزها، وتوعد على ذلك؛ ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذكر حدود الله، والنهي عن تعديها وعن المضارة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}. "وهو تشريع تقطعت دونه أعناق الأمم قبل الإسلام وبعده، وهأنت ذا ترى الأمم العظيمة التي تزعم لنفسها المدنية، ويزعمها لها الناس، تحاول إصلاح نظام الأسرة، وتشريع القوانين لديها للطلاق، فلا تصل إلى شيء معقول، بل تتخبط في الظلمات، وتأتي بالبلايا والمضحكات، وذلك أنها تصدر في تشريعها عن العقل الإنساني القاصر، أما التشريع الإسلامي فإنه وحي إلهي كريم، أرسل به أعظم رجل وأعقل رجل ظهر في هذا الوجود، وأمره أن يفسره للناس ويبينه لهم، ثم يحملهم على طاعته والعمل به". "وإنما المقصود من الطلاق في هذه الشريعة النقية الواضحة الكاملة: أن بين الزوجين عقدًا - كسائر العقود - على المعايشة والمعاشرة بالمعروف، فإن هما فعلا تحقق المقصد الصحيح من الزواج وطاب عيشهما، وإن هما تباغضا وتنافرا وخافا ألا يقيما حدود الله، ورغبا في الفراق، فهما كغيرهما من كل متعاقدين: لهما أن يتفقا على الانفصال في مقابل عوض من المرأة للرجل، كما

تعاقدا في أصل النكاح في مقابل الصداق من الرجل للمرأة، وبذلك جاء نص القرآن الكريم: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. فشرع لهما الخلع والمبارأة، وكانت المرأة به بائنًا تملك أمر نفسها، وليس للرجل عليها حق المراجعة إلا بعقد جديد واتفاق آخر، ولم يكن عليه للمرأة حقوق أخرى من حقوق العقد، كالصداق والنفقة وغيرهما، إلا أن يتشارطا على شيء: فالمسلمون عند شروطهم". "واختار الله لعباده - لحكمة سامية - أن يستثنى النكاح من القاعدة العامة في فسخ العقود، فأباح للرجل أن ينفرد بفسخ هذا العقد بإرادته وحده، بشرائط خاصة ونظام واضح (¬1)، ورتب لكل من المتعاقدين حقوقًا قبل صاحبه، لا يجوز لأحدهما أن يتهرب منها، فمن وقف عند حدود الله وفسخ عقد النكاح الذي بينه وبين زوجه في دائرة الحدود والتي حد الله له، كان قد استعمل حقًّا يملكه بتمليك الله إياه، وجاز عمله، وترتبت عليه آثاره، ومن تجاوز حدود الله، واجترأ على حل عقدة النكاح على غير المنهج المرسوم له، وكان ¬

_ (¬1) قلنا في حاشية (ص 15) من الكتاب: يظن أكثر الباحثين أن الطلاق الرجعي ليس حلًّا لعقد النكاح، وأن الرجعية لا تزال زوجًا؛ لأن آثار العقد باقية بينهما، وهو وهم، بل الطلاق يزيل عقد النكاح، سواء الرجعي وغيره. ونقل ابن حجر في الفتح (ج 9 ص 426) عن ابن السمعاني قال: "الحق أن القياس يقتضي أن الطلاق إذا وقع زال النكاح، كالعتق، لكن الشرع أثبت الرجعة في النكاح دون العتق فافترقا".

عابثًا، وكان عمله باطلًا لغوًا، كما إذا انفرد أحد المتعاقدين بإلغاء عقد البيع أو عقد الرهن مثلًا، فإن عمله لاغ لا أثر له في العقد، فكذلك المطلق في غير الحدود التي أذن فيها". وقلت أيضًا (ص 71): "إذن، فقد منح الله الرجل حق الانفراد بالطلاق، وهو حل لعقدة النكاح: بين الزوجين عقد كسائر العقود، وهو عقد الزواج، فإذا أراد أن يطلق بمحض إرادته وحده، فلن يملك من ذلك إلا أن يتبع أمر ربه الذي شرع له هذا الحق وأذن به". فهذا التفسير لمعنى الطلاق ولمعنى الرجعة، هو المطابق كل المطابقة لنصوص القرآن الكريم، ولمقاصد الشارع الحكيم، ولقواعد العقل السليم، وللفقه الصحيح في الدين، وليس من المعقول أن ترك هذه الشريعة الدقيقة - شريعة الطلاق والرجعة - لأهواء الناس وآرائهم وألاعيبهم في الألفاظ إنما هي مقاصد سامية، تتعلق بأدق الشؤون الاجتماعية، وأشدها خطرًا في حياة الإنسان، وأشرف الروابط بين الناس، وأعلاها وأنفعها للنوع الإنساني، وهي رابطة الحياة الزوجية، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. فلم يكن الطلاق - في الشريعة الإسلامية - حقًّا مطلقًا للرجل من غير قيد، كما يفعل ذلك أكثر الناس، بل عامتهم، وإنما هو مقيد بقيود كثيرة، بعضها قيود في نفس إنشائه وإيقاعه، وهي شروط في صحته عندي، وفي رأي بعضها قيود تعلق بحال المطلق وظروف

طلاقه، وهي تعليم من الشارع وتأديب؛ لأنها ترجع إلى أمور نفسية وأحوال دقيقة في المعايشة والمعاشرة، لا تدخل تحت القواعد القضائية التي تكاد تكون مادية، فجعل الرجل فيها أمين نفسه، ورقيبًا على أعماله، أو جعلت تحت رقابة ضميره - كما يعبر الكتاب من أهل هذا العصر - فإن اتبع في ذلك أوامر الله في كتابه وفي سنة رسوله، ووقف عند حدود الله: كان طلاقه صحيحًا، وبرئ من إثم العدوان في الطلاق، وإن لم يتبع ما أمر به، ولم يجعل طلاقه في الحدود التي حدت لإنشائه وإيقاعه، فكأنه لم يعمل شيئًا ولم يوقع طلاقًا، وإنما كسب خطيئة وإثمًا بمخالفة أمر ربه. وإن جعل طلاقه في الحدود التي حدت للإنشاء والإيقاع، ولكنه تجاوز في القيود الأخرى التي تتعلق بحاله وظروف طلاقه، كان طلاقه واقعًا، ولكنه كان آثمًا بمخالفته وعدوانه؛ لأن هذه الشؤون ليست مما يدخل تحت سلطان الحاكم وتقدير القاضي، وإنما يحاسب عليها بين يدي ربه يوم القيامة. لأن الشريعة الإسلامية يمتزج فيها - دائما - التشريع القانوني القضائي بالشؤون الدينية النفسية والخلقية التهذيبية وتجمع في أحكامها بين الوجوب أو الإباحة أو الندب أو الكراهة أو الحل أو الحرمة: وبين الصحة أو البطلان أو الفساد، وهكذا فهي شريعة ودين معًا. وكذلك الرجعة: ليست من حقوق الرجل بإطلاق من غير قيد،

بل هي مقيدة بقيود كالطلاق، ولكنها أقل قيودًا منه، تيسيرًا من الشارع الحكيم، وترغيبًا في وصل ما انقطع من علائق الزوجية؛ فمن قيودها ما هو راجع لأصل إيقاع الفعل وإنشائه، فيكون شرطًا في صحته، وكلها منصوص عليه في القرآن نصًّا، فمن ذلك ما اتفق عليه أهل العلم ولم ينقل فيه خلاف عن أحد منهم، وهو أن تكون المطلقة مدخولًا بها، وألا يكون ذلك بعد الطلقة الثالثة، وأن تكون الرجعة وهي في عدة المطلق أيضًا. ومن ذلك ما اختلف فيه، واخترنا أنه شرط في صحة الخلع أيضًا ونصرنا القول به، وهو أن تكون الرجعة بإشهاد شاهدين على ما بينا آنفًا {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وأن يريد برجعتها إصلاح ما أفسد الطلاق، وإصلاح حاله وحالها {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}. لا يقصد بها الإضرار والعدوان {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}. وقد بينا ذلك في كتابنا بوضوح (ص 121، 124) ومما قلنا هناك: "إن الطلاق والرجعة بإرادة الرجل وحده عملان مستثنيان من القواعد العامة، أذنه الله بهما بصفات خاصة، فلا يملك منهما إلا ما أذن به، والشأن هنا في الرجعة أقوى؛ لأن الله سبحانه يجعل الرجل أحق بها بشرط صريح، وهو إرادة الإصلاح، فإذا تخلف الشرط لم يكن الرجل أحق بردها فصار لا يملك هذا الحق". وهذا الذي اخترناه وذهبنا إليه لا ينافي ما ذكره أستاذنا شيخ

الشريعة "مما هو أدق وأحق بالاعتبار، من حيث الحكمة الشرعية، والفلسفة الإسلامية، وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها"؛ لأن القيود التي قيد بها حق الطلاق أوثق وأقوى مما اشترط في صحة الرجعة "على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده، عز أو قل وجوده". وما اشترط في صحة الرجعة، إنما اشترط ضمانًا لبقاء الحياة الزوجية صحيحة سالمة من إرادة العبث بها، بعدًا بها عن مواطن الشبهات، وعن الإضرار بالمرأة عن إرادة النكول والجحد لإضاعة حقها. ولست أظن أني بحاجة إلى بيان وجه "الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية" فاشتراط إرادة الإصلاح في صحتها؛ إذًا هو واضح بالبداهة، وصريح من نص الكتاب الكريم. وأما اشتراط الإشهاد فإنه ليس قيدًا به مقصد الشارع في تقليل وقوع الطلاق والفرقة، وفي إرادة التعجيل بالرجعة وإنما هو شرط يقيد في ضمان ثباتها وبقائها، وفي حفظ عزة المرأة وكرامتها، فالرجل حين يطلق يشهد على طلاقه، وهو إعلان له وإثبات، ثم يذهب فيراجع سِرًّا من غير حضرة الشاهدين، ولعله قد يبدو له أن يندم على رجعته، أو يرى له فائدة مادية حقيرة في إنكار ما فعله وجحده، وتعجز المرأة عن إثبات حقها وإثبات إجرامه، ولا ترى لها شاهدًا ولا دليلًا، وقد يفعل ذلك ورثته إذا مات قبل إعلان

رجعته، فيضيع في الحالين حقها، وتهدر كرامتها، ويمس عرضها، وهي عاجزة في أول أمرها وآخره. ولو رأى الأستاذ - حفظه الله - ما نرى في مجالس القضاء من ألاعيب الناس وحيلهم، وإقدامهم على إضاعة الحقوق، وحرصهم على أكل أموالهم بينهم بالباطل، وجرأتهم على تعدي حدود الله، لعلم أن هذه الشروط ليست قيودًا يعز معها وجود الرجعة أو يقل، ولا يستيقن أنها تطابق الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية، وتدل على شموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها. وبعد .. فإني أرسل تحياتي إلى أستاذي الجليل على صفحات (الرسالة) الغراء، مجددًا ذكرى صداقة لم تزدها الأيام إلا ثباتًا وقوة، مذ كان الأستاذ حفظه الله في مصر، من نحو خمس وعشرين سنة، وكنا نقتبس من بحار علومه، ونقتدي به في مكارم أخلاقه، وكنت له كالتلميذ الخاص، ألازمه في غدواته وروحاته. بارك الله فيه، ونفع به الإسلام والمسلمين. وأخيرًا: أدعو المثقفين من المسلمين، وقادتهم من علماء الدين، لينظروا في مسائل الزواج ومشاكله، وهي جمة متوافرة، لا بالنظر التقليدي القديم، ولا بالنظر الإفرنجي الحديث، ولكن بالنظر الإسلامي الصحيح. * * *

تراجم وأعلام

تراجم وأعلام 1 - أستاذنا حجة الإسلام محمد رشيد رضا 2 - محمد شاكر 3 - نابغة الشباب الأستاذ رياض محمود مفتاح

أستاذنا الإمام حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا

أستاذنا الإمام حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا (*) فقد الإسلام في هذه الأيام عَلَمًا عاليًا من أعلامه، وإمامًا حجةً من أئمة الهدى، ومجاهدًا كبيرًا، ومصلحًا عظيمًا، عاش حميدًا ومات شهيدًا (¬1). ولد أستاذنا الإمام (السيد محمد رشيد رضا) - رضي الله عنهُ - في يوم الأربعاء 27 جمادى الأولى سنة 1282 (18 أكتوبر سنة 1865) بقرية (القلمون)، وهي قرية من قرى جبل لبنان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وتبعد عن مدينة (طرابلس الشام) نحو ثلاثة أميال. وأسرة أبيه من السادة الأشراف الذين ينتهي نسبهم إلى جدّنا الأعلى سيدنا الحسين بن علي - عليهما السلام - وهم من أهل العلم ¬

_ (*) مجلة المقتطف، المجلد السابع والثمانون، الجزء الثالث، 4 رجب 1354 - 1 أكتوبر 1935. (¬1) فإنه رحمه الله خرج مع ركب الأمير سعود حين سفره من مصر إلى الحجاز، فذهب معهم إلى السويس، مات في العودة عندما وصل إلى مصر الجديدة، وما كان خروجه هذا مجاملة أو تقربًا للأمير، وإنما كان ليحدثه في شؤون المسلمين، ويعرض عليه آراءه في طرق الإصلاح؛ ليعرضها سمو الأمير على جلالة والده الملك عبد العزيز بن آل سعود، فكان خروجه عملًا من أعمال الجهاد في سبيل الله، ولم يقو جسمه في هذه السن على احتمال المشاق، فمات مجاهدًا شهيدًا، إن شاء الله. وكان ذلك في يوم الخميس 23 جمادى الأولى سنة 1354 (22 أغسطس سنة 1935).

والإرشاد والرياسة، ذوو كرم وكرامة، ودين وتقوى، وعزة نَفْسٍ وتَرَفُّعٍ. وقد عاشرنا في مصر منهم أفرادًا، فكانوا من أنبل الناس خُلُقًا، وأطهرهم قلبًا، وأصدقهم حديثًا. وكان أبوهُ من أعزِّ الرِّجال نفسًا، وأجرئهم جنانًا، وأسخاهم يدًا، وأمهُ: من أسلم النساء فطرة، وأكرمهنَّ أخلاقًا، وأوفاهنَّ لزوج، وأحناهنَّ على ولد، وأسرة أمه ينتهي نسبها إلى سيدنا الحسن بن علي - عليهما السلام -. أول ما تعلمَّ - رحمهُ الله - في كتَّاب قريتهِ، فتعلم قراءة القرآن والخط وقواعد الحساب الأربع، ثم أدخل في (المدرسة الرشدية) بمدينة "طرابلس الشام" وهي مدرسة ابتدائية للدولة العثمانية، يدرس فيها الصرف والنحو والحساب ومبادئ الجغرافية، والعقائد والعبادات، واللغة العربية واللغة التركية، وكان جميع التدريس فيها باللغة التركية (¬1). ثم دخل "المدرسة الوطنية الإسلامية" في سنة 1299، وهي أرقى من المدرسة الرشدية، وجميع التعليم فيها باللغة العربية، إلَّا اللغتين التركية والفرنسية، وتدرس فيها العلوم العربية والشرعية، والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية. وكان أستاذه العلامة الشهير "الشيخ حسين الجسر الأزهري" هو المدير لها، بعد أن كان هو الذي سعى لتأسيسها؛ لأن رأيه أن الأمة الإسلامية لا تصلح ولا رقي إلَّا بالجمع بين علومِ الدِّين وعلوم الدُّنيا على الطريقة العصرية الأوربية، مع ¬

_ (¬1) المنار والأزهر (ص 139).

التربية الإسلامية الوطنية، تجاه التربية الأجنبية في مدارس الدول الأوربية والأمريكانية (¬1). فلم يدخل المدارس إلَّا بعد تجاوزه الخامسة عشرة من عمره، وكان ذلك عن رأي والده وإرشاده، خوفًا عليه مما يعرض في المدن للناشئين من الفتن، فلما أن وثق من دينه وخلقه ورشده أذن له بالإقامة في مدينة طرابلس الشام لطلب العلم في المدارس. وكان قبل دخوله المدارس شديد العناية بمطالعة كتب الأدب وكتب التصوف، قال في كتابه "المنار والأزهر" ص 140: "وكان أعجب كتب التصوف إليَّ إحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، فهو الذي طالعته كله، وكنت أكثر مراجعته وقراءَة بعض أبوابه عودًا على بدء، ثم صرتُ أقرؤه للناس، وكان له أكبر التأثير في ديني وأخلاقي وعلمي وعملي، وإنهُ لتأثير صالح نافع في أكثره، ضارّ في أقله، وقد عالجتُ الضار منهُ بعد العلم به: فما كان فيه من خطأ علميٍّ فقد رجعت عنهُ بالتدريج، بعد اشتغالي بعلم الحديث، ولا سيما عقيدة الجبر والتأويلات الأشعرية والصوفية والغلوّ في الزهد، وبعض العبادات المبتدعة، وأما تأثيره الوجداني في الزهد واحتقار الدنيا، والمتكالبين عليها وعلى وظائف الحكومة، فلم أستطع الاعتدال فيه، فضلًا عن التفصي منهُ" وقد تلقى العلم عن كثير من العلماء الأعلام، فمنهم العلامة الشهير الشيخ حسين الجسر: ¬

_ (¬1) المنار والأزهر (ص 139، 181).

أخذ عنهُ العلوم العربية والشرعية والعقلية، ومنهم شيخ الشيوخ الشيخ محمود نشابه: أخذ عنهُ الحديث وفقه الشافعية، ومنهم العالم المحدث العابد الشيخ محمد القاوقجي الكبير: تلقى عنهُ بعض مؤلفاته في الحديث، ومنهم العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي: حضر عليهِ قليلًا من نيل الأوطار للشوكاني، واستفاد كثيرًا من معاشرته في العلم والأدب والتصوف. ونشأ عابدًا متعبدًا، زاهدًا متنكسًا، يذهب إلى المسجد في السَّحَر، ولا يعود إلى البيت إلَّا بعد ارتفاع الشمس، ويصلي في الليل متهجدًا تحت الأشجار في بساتين آلِه، ورباهُ أهلُه ثُمَّ رَبَّى نفسه على الحياء والصدق والإخلاص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشجاعة في ذلك، فلا يخشى إلَّا الله، وكَمَّل نفسه بكثير من العلوم العصرية، ووسع دائرة تفكيره بالاطلاع على شؤون الاجتماع وسياسة العصر؛ فكان يطالع المجلات العلمية، وفي مقدمتها "المقتطف"، والمجلات السياسية وأهمها "العروة الوثقى" التي كان يصدرها في باريس المرحوم الأستاذ السيد جمال الدين الأفغاني والمرحوم الإمام الشيخ محمد عبده. ولقد حدثني صديقي الكاتب الفاضل السيد محيي الدين رضا؛ أنهُ مع عمِّه المرحوم السيد رشيد يعترف بفضل "المقتطف" عليه في توسيع دائرة معارفه في نشأته، وأنه كان يواظب على قراءته ما وجد سعةً من وقتِه. وأما مجلة (العروة الوثقى) فإنها كان لها أكبر الأثر في توجيه

تفكيره إلى الوجهة الإصلاحية للمسلمين (¬1)، وإلى وضع منهج واضح يسير عليه في سبيل الإصلاح، وقد اتبع ما رسم لنفسه من خطة لم يحد عنها قيد شعرةٍ حتى لقي الله. وأوتي موهبة الكتابة العالية في إبان نشأته، ونشر بعض مقالات في جريدة (طرابلس) فكان صحفيًّا بطبعه وفطرته، وما زال يكتب ويحرّر إلى حين وفاته، فكان من أبلغ الكتاب قلمًا، وأوسعهم مجالًا، وأقومهم بِحُجة. وقد عزم على الاتصال بالمرحوم السيد جمال الدين الأفغاني "لتكميل نفسه بالحكمة والجهاد في خدمة الملة، فلما توفاه الله تعالى إليه، واشتهر أن السياسة الحميدية هي التي قضت عليه، ضاقت عليه المملكة العثمانية بما رحبت، وعزم على الهجرة إلى مصر، لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم، ومن مناهل العلم العذبة الموارد، ومن طرق النشر الكثيرة المصادر، وكان أعظم ما يرجوه من الاستفادة في مصر الوقوف على ما استفادهُ الشيخ محمد عبده من الحكمة والخبرة، وخطة الإصلاح التي استفادها من صحبة السيد جمال الدين، وأن يعمل معهُ وبإرشاده في هذا الجوّ الحرّ" (¬2). ثم يسَّر الله لهُ أسباب السفر إلى مصر، ورضي به والداه رحمهما الله، ولما وصل إلى بيروت في طريقهِ إلى مصر عرض عليهِ ¬

_ (¬1) تاريخ الإمام محمد عبده (ج 1 ص 84 و 303 و 995 - 996). (¬2) المنار والأزهر (ص 191).

عبد القادر أفندي القباني أن يقيم في بيروت، ويتولى رئاسة التحرير لجريدته (ثمرات الفنون). قال السيد رحمهُ الله: "فقلتُ لهُ: إن الحرية التي في بيروت لا تسعني. قال: أو تريد أن تنقد جلالة السلطان عبد الحميد أو تخوض في سياسته؟ قلت: إنما أريد إصلاح الأخلاق والاجتماع والتربية والتعليم. قال: إن لك أوسع الحرية في هذا. قلت: إذا أردت أن أكتب في فضيلة الصدق ومضارّ الكذب ومفاسده فأبيّن أن أكبر أسباب فشوّ الكذب في الأمم الحكم الاستبدادي، أتنشر لي ذلك جريدتكم؟ ! قال: لا، لا، عجّل بالذهاب إلى مصر ولا تخبر أحدًا! (¬1) ". ويجدر بنا في هذا الموضع أن نصحح خطأ مشهورًا، يظنه أكثر الناس صوابًا، وذلك: أنهم يزعمون أن السيد رشيد - رحمهُ الله - جاء إلى مصر لإتمام الدراسة العلمية ولذلك تتلمذ للشيخ محمد عبده، والحقيقة أنهُ - رحمهُ الله - لم يغادر بلاده إلَّا بعد إتمام دراسته، وبعد نيل الشهادة العالمية والأذن له من شيوخه بالتدريس، وكان قد جاوز الثلاثين من عمره، وإنما اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده كما يتصل العالم الصغير بالعالم الكبير، وبقي تلميذًا لهُ - على هذا المعنى - إلى حين وفاته، كما كان يفعل سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - ولو بقي الأستاذ الشيخ محمد عبده حيًّا إلى الآن لبقي السيد رشيد تلميذه إلى الآن، ولوَفَّى لهُ في حياته كما وَفَّى لهُ بعد مماته رضي الله عنهما. ¬

_ (¬1) المنار والأزهر (ص 192).

فكان السيد - رحمه الله - مع الأستاذ الإمام تلميذًا لهُ وصديقًا، وناصحًا ومخلصًا، وكان مستودع أسراره والداعية لآرائه، والمدافع عنهُ في كل معركة من معارك جهاده، بل كان كما وصفهُ الأستاذ الإمام لوالدي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد شاكر - حفظه الله - "ترجمان أفكاره". جاء السيد رشيد إلى مصر وقد وضع نصب عينيه صحبة الأستاذ الإمام، ثم إنشاء صحيفة إصلاحية يستمد فيها من حكمته وخبرته، فوصل إلى الإسكندرية مساء الجمعة 8 رجب سنة 1315 "30 يناير سنة 1898" فأقام فيها أيامًا ثم انتقل منها إلى طنطا فالمنصورة فدمياط، ثم عاد إلى طنطا وسافر منها إلى القاهرة قبل الظهر من يوم السبت 23 رجب "18 يناير سنة 1898" وفي ضحوة اليوم الثاني (الأحد 4 رجب) ذهب إلى زيارة الأستاذ الشيخ محمد عبده في داره بالناصرية، ثم اتصل الأمر بينهما واستشار السيد أستاذه في إنشاء الصحيفة التي يريدها، وشاوره في تسميتها، وذكر له اسم (المنار). مع أسماء أخرى، فاختار الإمام اسم (المنار)، ثم شرع السيد في تحريره، وكتب فاتحة العدد الأول بقلم الرصاص في جامع الإسماعيلي المجاور لدار الأستاذ بالناصرية - وكان ذلك في منتصف شوال سنة 1315 (مارس سنة 1898) - وذهب بها إلى داره وعرضها عليه، فأعجب بها كل الإعجاب، وارتضى كل ما ذكره فيها من المقاصد والأغراض، إلَّا كلمة واحدة: هي تعريف الأمة بحقوق الإمام، والإمام بحقوق الأمة،

قال ما معناه: "إن المسلمين ليس لهم اليوم إمام إلَّا القرآن، وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة يخشى ضره ولا يرجى نفعه الآن" فحذف السيد هذه الكلمة عن رأي الأستاذ وإشارته (¬1). وقد اقترح السيد على الأستاذ الإمام عقيب اتصاله به - وكان أول اقتراح له عليهِ - أن يكتب تفسيرًا للقرآن ينفخ فيه من روحه التي وجد روحها ونورها في مجلة (العروة الوثقى) فاعتذر الإمام عن ذلك، فاقترح عليهِ أن يقرأ دروسًا في التفسير، فكان يعتذر، ثم لم يزل بهِ حتى أقنعهُ برأيه، فبدأ الأستاذ الإمام في قراءة التفسير بالأزهر الشريف في غرة المحرم سنة 1317 وانتهى منهُ منتصف المحرم سنة 1323 عند تفسير قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا}. من الآية 126 من سورة النساء، فقرأ زهاء خمسة أجزاء في ست سنين، ثم توفي الإمام إلى رحمة الله يوم 8 جمادى الأولى سنة 1323 هـ. وكان السيد رحمهُ الله يكتب في أثناء الدرس مذكرات بأهم ما يقوله الأستاذ، ثم بدا لهُ باقتراح بعض الراغبين في الاطلاع على تفسير الإمام: أن ينشر هذا التفسير في المنار، فشرع في ذلك في المحرم سنة 1318 هـ. قال السيد رحمهُ الله: "وكنت أولًا أطلع الأستاذ الإمام على ما أعده للطبع كلما تيسر ذلك بعد جمع حروفه في المطبعة وقبل طبعه، ¬

_ (¬1) تاريخ الأستاذ الإمام (ص 995 - 1005 وص 913).

فكان ربما ينقح فيه بزيادة قليلة أو حذف كلمة أو كلمات، ولا أذكر أنه انتقد شيئًا مما لم يره قبل الطبع، بل كان راضيًا بالمكتوب بل معجبًا به. على أنه لم يكن كله نقلًا عنهُ ومعزوًّا إليه، بل كان تفسيرًا للكاتب من إنشائه، اقتبس فيهِ من تلك الدرس العالية جل ما استفاده منه" (¬1). ثم استقلَّ السيد - رحمه الله - بعبء التفسير وحده بعد أستاذه، فقام به خير قيام، بل فاق في هذا المجال أستاذه الإمام؛ فإن الأستاذ الشيخ محمد عبده إنما كان روحًا وثابًا، وحكيمًا عظيمًا، وقائدًا ماهرًا، ولكن لم يكن مطلعًا على السنة النبوية اطلاعًا كافيًا، ولا يكون المفسر للقرآن مفسرًا حقًّا إلَّا بالتوسع في دراسة الحديث النبوي والتشبع منه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ببيان الكتاب للناس، فقوله وفعله وكل حالاته شرح لهذا الكتاب الكريم. وقد أتمَّ السيد تفسير اثني عشر جزءًا من أجزاء القرآن، طبعت كلها. وفسر بعض آيات من أول الجزء الثالث عشر، ثم فقدناهُ أحوج ما كنا إليه، رحمهُ الله ورضي عنهُ. وإن أخوف ما كنتُ أخاف هو هذا الموقف الذي صرنا إليه: مات السيد رشيد ولم يكمل تفسير القرآن. ولقد أذكر أني تحدثتُ إليه في هذا المعنى منذ عشرين سنة تقريبًا، وكنتُ من أقرب الناس إليه وأبرّهم به، فألححت عليه في أن يوجه عزمه وهمته إلى إتمام ¬

_ (¬1) تاريخ الأستاذ الإمام ص (765 - 768).

التفسير، وأن يدع كل مشاغله الأخرى ويتفرغ لهذا العمل الجليل النافع، الذي لا نعرف أحدًا من العلماء يضطلع به، ولا نرى له أهلًا غيره، ولكن هكذا قُدّر فكان. ولعلنا نجد من علمائنا من يوفق لاقتفاء أثر السيد - رحمه الله - في تفسير القرآن حتى يتمهُ، إن شاء الله. وبعد: فإن آثار السيد رشيد في دفاعهِ عن الإسلام، وتقريبهِ للأذهان لا يحصيها مقال أو كتاب، فإنهُ رجل مكث قريبًا من أربعين سنة يكتب في مجلتهِ وفي الصحف الأخرى، ويؤلف الكتب والرسائل، كل هذا لله وفي سبيل الله، ولا يخشى في الله لومة لائم. ولكن أعظم آثاره وأنفعها، وأرجاها للمسلمين، وأبقاها على الدهر هو هذا التفسير العظيم. وإني كنت قد وصفت بعض مزاياه في مقال نشرتهُ في مجلة (المنار) في العدد (3 من المجلد 31 ربيع الآخر سنة 1349 سبتمبر سنة 1930، ومما قلت فيه: إنهُ "خير تفسير طبع على الإطلاق، ولا أستثني؛ فإنهُ هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح - إذ هو كتاب هداية عامة للبشر - لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين". "ثم هو يظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة، غير مقلد ولا متعصب، بل على سنن العلماء السابقين: كتاب الله وسنة رسوله. ولقد أوتي الأستاذ من الاطلاع على السنة

ومعرفة عللها، وتمييز الصحيح من الضعيف منها ما يجعله حجة وثقة في هذا المقام، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه". "ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلَّا وأبان حكمة الله فيها، وأرشد إلى الموعظة بها، وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها، وأعلن حجة الله على الناس؛ فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر، ممن اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنهُ، ويظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء، مع البلاغة العالية، والقوة النادرة. لله دره! " ... "ولقد عرض للكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في شؤون المسلمين، فأفسدت على كثير من شبانهم هداهم ودينهم، فحللها تحليلًا دقيقًا، وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة، وأقام الحجة القاطعة على أن الإسلام دين الفطرة، وأنهُ دين كل أمة في كل عصر. ونفى عن الإسلام كثيرًا مما ألصقهُ به الجاهلون، أو دسهُ المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من أبنائه عن سبيله، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة ليضموهم إلى صفوفهم، وينزعوهم من أحضان أمتهم". "وإنه لكتاب العصر الحاضر يفيد منهُ العالم والجاهل والرجعي والمجدد بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين".

"وأنا أرى من الواجب على كل من عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته، والاستفادة منهُ وبث ما فيهِ من علم نافع، لعلَّ الله أن يجعل منهُ نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها بالجهالات المتكررة". ولو شئنا أن نطيل في ترجمة السيد رشيد وتعداد مناقبه وفضائله، أو في بيان مزايا تفسيره ونفعه للناس عامة؛ لكان مجال القول أمامنا واسعًا، ولأعجزنا أن نستوعب ما نريد من ذلك. ونسأل الله سبحانهُ أن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء، وأن يجعلهُ من السابقين الأولين. وإن الأخ الفاضل السيد عبد الرحمن عاصم - ابن عم أستاذنا وصهره - أعلم الناس بسيرته الشخصية والاجتماعية، والسياسية الإسلامية والعربية، وقد شهد لهُ بذلك السيد رشيد نفسه في كتاب المنار والأزهر (ص 194). وأنا أرى أنهُ جدير به أن يكتب ترجمة وافية، أو يعين غيره على كتابتها، وقد عاش معهُ نحوًا من خمس وعشرين سنة، ويخيل إليّ أن هذه الشهادة للسيد عاصم تشير إلى رغبة الأستاذ في ذلك، وكأنها وصية منه ينبغي تحقيقها. وبعد فإن من أمارات الخير ودلائل التوفيق أن السيد - رضي الله عنه - ركب السيارة يوم وفاته من السويس، وشرع في قراءة القرآن، ولم ينقطع عن التلاوة حتى قبضهُ الله إليه في مصر الجديدة. وأخرى: أن آخر ما كتب في تفسير القرآن تحت عنوان (دعاء

يوسف عليه السلام بحسن الخاتمة)؛ أنهُ فسر قوله تعالى حكايةً عن النبي يوسف - عليهِ السلام -: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: 101]. وكتب في آخر تفسيرها: "فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظًّ منهُ بالموت على الإسلام". فكانت دعوةً استُجِيبت، وكانت - إن شاء الله - أمارةَ حُسْنِ الختام. * * *

محمد شاكر

محمد شاكر (*) شوال سنة 1282 - 11 جمادى الأولى سنة 1358 مارس سنة 1866 - 29 يونيه 1939 فقدت مصرُ وفقد العالم الإسلامي كله عالمًا من كبار العلماء، ومجاهدًا من أعلام المجاهدين وقف حياته على خدمة الوطن، وخدمة الإسلام، وخدمة الشرق في سبيل الله. وقد رغب إليَّ صديقي الأستاذ فؤاد صرُّوف - محرر المقتطف - أن أترجم له ترجمة موجزة فأحببتُ ثقةً مني أن سيغلبُ الجانبُ العلميُّ فيَّ عاطفة البنوة، وقد مرنتُ نفسي على فنون الحديث والتاريخ ونقد الرجال، وزعمتُ أني مستطيعٌ أن أكتب عنهُ تاريخًا صحيحًا، لا غلوّ فيه ولا إسراف، وإني إن كتبت مدحًا أو ثناءً فإنما هو حقُّ التاريخ عليَّ. السيد محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، من آل أبي علياء، وهم أسرة معروفة من أشراف الصعيد، بمدينة جرجا. ولد بها في منتصف شوَّال سنة 1282 (مارس سنة 1866) وحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ التعليم، ثم رحل إلى القاهرة، إلى ¬

_ (*) مجلة المقتطف، أغسطس 1939 م.

الأزهر الشريف، فتلقى العلم فيه عن كبار الشيوخ في ذلك العهد، وفي 15 رجب سنة 1307 (4 مارس سنة 1890) عين أمينًا للفتوى، مع أستاذه العظيم، الشيخ العباسيّ المهديّ، مفتي الديار المصرية إذ ذاك. ثم أصهر إلي جدّي لأمي، العلامة الكبير، إمام العربية غير مدافع، الشيخ هارون بن عبد الرازق (المولود بقرية بنجا من قرى مركز طهطا في يوم الخميس 25 جمادى الأولى سنة 1249 والمتوفى بالقاهرة في يوم السبت 26 جمادى الأولى سنة 1336 رضي الله عنهُ). ثم ولي منصب "نائب محكمة مديرية القليوبية" وصدر الأمر العالي بذلك في 7 شعبان سنة 1311 (13 فبراير سنة 1894) ومكث فيه أكثر من ست سنين. وكان في عمله القضائي يفكر في إصلاح المحاكم الشرعية، بل لعله - فيما نعلم - أول من فكر في ذلك، فقد أخبرني - رضي الله عنهُ - أنهُ حين كان أمينًا للفتوى جاءت امرأة شابة حكم على زوجها بالسجن مدة طويلة، وهي تخشى الفتنة، وتريد عرض أمرها على المفتي ليرى لها رأيًا في الطلاق من زوجها، حتى تتزوج رجلًا آخر، تعصم به نفسها، فصرفها الوالد رحمهُ الله معتذرًا آسفًا متألمًا إذ كانت الأحكام مقيدة بمذهب أبي حنيفة، والعلماء المقلدون يأبون التفكير في مخالفة مذهبه، بل يكادون يرون في الخروج عن المذهب أكبر المنكرات. وليس في مذهب أبي حنيفة ما يجيز للقاضي أن يطلق على

الزوج المعسر أو المحبوس أو نحو ذلك. ثم عرض الوالد أمرها على شيخه المفتي، واقترح عليه اقتباس بعض الأحكام من مذهب الإمام مالك في مثل هذه المشاكل المعضلة، فأبى الشيخ كل الإباء، واستنكر هذا الرأي أشد استنكار، وكان بين الأستاذ وتلميذه جدال حادٌّ في هذا الشأن، ولكنهُ لم يؤثر في ما كان بينهما من مودة وعطف، وما زال مقتنعًا برأيه، واثقًا بصحتهِ وفائدتهِ للناس. حتى كانت سنة 1899 وقد مكث في المحاكم الشرعية نحو خمس سنوات، وظهر على كثير من عيوبها، وما يرهق الناس من أحكامها، سواء أكان ذلك في التشريع المعمول به، وهو التقيد بمذهب أبي حنيفة، أستغفر الله، بل التقيد بما قال علماء من متأخري اتباعهِ، والتمسك بألفاظهم الحرفية، أم كان في سوء اختيار عمالها، من قضاة وغيرهم، أم كان في إجراءاتها المعقدة المطولة، أم كان في نظمها وحقارة أمكنتها، أم كان في إعراض الحكومات المصرية عن العمل على إصلاحها اتباعًا لسياسة مرسومة في القضاء عليها تقليدًا للإفرنج، ولمن أشربوا آراءهم وعقائدهم، رأى الوالد كل هذا وأكثر منهُ، فوضع تقريرًا نفيسًا قدمهُ لأستاذه الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية - رحمة الله عليه - نقد فيه هذه المحاكم وقضاتها وعمالها وكل حالاتها، وأبان عن أوجه النقصِ والخطأ في اللائحة التي كان معمولًا بها في ذلك الوقت، واقترح طرق الإصلاح تفصيلًا، ومنها اقتباس بعض الأحكام من مذهب

مالك، في التطليق للإعسار، وللضرر، وللغيبة الطويلة، وغير ذلك، وكان ذلك التقرير فاتحة العمل الصحيح في سبيل إصلاح المحاكم الشرعية، والرقي بها إلى مقامها السامي في الإسلام وهذا التقرير لا تزال صورته الأصلية عندنا بخط الوالد، وقد قدمته إلى دار الكتب المصرية فصورتهُ بالتصوير الشمسي، ليكون بها أثرًا علميًّا تاريخيًّا، لمن شاء أن يرجع إليه. قدَّم الوالد هذا التقرير في أوائل سنة 1899، وفي صيف تلك السنة طاف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده على كثير من محاكم الوجه البحري، واطلع على سَيْر الأعمال فيها، ليصف لها الدواء والعلاج بحكمته، ثم وضع هو أيضًا تقريره المشهور في إصلاح المحاكم في نوفمبر سنة 1899، وهو التقرير الذي طبع بمطبعة المنار في شوال سنة 1317 (سنة 1900)، فاتفق رأي الأستاذ الإمام ورأي تلميذه، في كثير من أنواع النقد وطرق الإصلاح. ولكن يظهر أن الأستاذ الإمام لم يجد الفرصة مواتية لاقتراح أحكام تخالف مذهب الإمام أبي حنيفة، وخاصة في التطليق من القاضي، فترك الكلام في ذلك، وأشار في الكلام في المرافعات إشارة عامة، ودعا إلى الأخذ بشيء من أحكام المذاهب الثلاثة الأخرى (ص 38). وأظن أن الأستاذ الإمام رأى أن يمكّن للوالد في بعض البلدان حتى ينفذ آراءه في الإصلاح، ولذلك زكَّاه لمنصب قاضي قضاة

السودان، وأخذ وليّ الأمر بتزكية الإمام، فصدر الأمر العالي بإسناد هذا المنصب إليه في يوم 10 ذي القعدة سنة 1317 (11 مارس سنة 1900) وكان ذلك يعقب انتهاء الثورة المهدية، وعودة السودان إلى حظيرة مصر مُلْكًا واحدًا ودولةً واحدةً، وإن فرقت بينهما في المظاهر مقتضيات السياسة. وكانت بلاد السودان حينئذ كما تكون البلاد بعد الثورات الماحقة، هدمت النظم والقوانين والحكومة، فكأنها كانت بلادًا بكرًا، ينشأ فيها كل شيء من ذلك إنشاءً جديدًا، وكان ذلك أيسر له في وضع النظم للمحاكم هناك على النحو الذي يريد، وتنفيذ آرائه كلها أو أكثرها في الإصلاح والتجديد، على مثال لم يسبق إليه، واقتبس في التشريع من المذاهب الإسلامية ما كانت الحاجة إليه ماسة مما تنصره أدلة الشريعة وفقهها الصحيح، وأشد ذلك ظهورًا للمتصلين بالقضاء الشرعي الحكم بالتطليق للغيبة والإعسار والحبس والضرار ونحوها، مما اقتبس في مصر بالقانون رقم 25 لسنة 1920 ووضع كثيرًا من القواعد الدقيقة الإجراءات مما اقتبس بعضه في مصر في اللائحة التي صدرت سنة 1910، فسبق السودان مصر في بعض نواحي الإصلاح بعشر سنين، وفي بعضها بعشرين سنة. ولولا أن السياسة العامة للدولة المصرية في التشريع والقضاء وضعها ناس لا يعرفون الشريعة الإسلامية ودقائقها، وغرَّهم ما رأوا من ضعف القضاء الشرعي بضعف رجاله في ذلك العهد، واحتكر

تنفيذها ناس جهلوا دينهم فأعرض عنهُ بعضهم وعاداه بعضهم، لولا هذا لسار في القضاء الشرعي سيرة تمكّن لهُ في البلاد أن يكون القضاء العامَّ في الشؤون كلها، من مدنية وجنائية وشخصية، ليكون الحكم في بلاد الإسلام بشريعة الإسلام، كما هو الواجب على كل مسلم أن يعمل لهُ، طاعة لله ورسوله، ولا تزال آثاره في السودان قائمة، يسترشد بها العلماء والقضاة والحكام، ولا يزال أهل السودان - وهم أهلنا وإخواننا - يحفظون لهُ أجمل الذكرى، ويعرفون لهُ مواقفه الحازمة في خدمة البلاد ونصر الإسلام، ويحفظون لهُ أنهُ لم يشغلهُ القضاءُ، ولم يلهه المنصب السامي عن تعليم الناس شؤون دينهم، بالدروس العلمية والخطب والمواعظ، وقرأ لهم صحيح البخاري كله، وهو أصح مصدر للسنَّة النبوية. * * * ثم في 26 أبريل سنة 1904 صدر الأمر العالي بتعيينه شيخًا لعلماء إسكندرية، فبعث فيها نهضة علمية كانت فاتحة خير، بزغ نورها في أرجاء المملكة المصرية، وقصدها الطلاب من أطراف البلاد، وبث فيهم من روحه الوثابة، فأحياهم حياة أخرى غير ما كانوا يعرفون في المعاهد الدينية، وضع أسس النظم في التعليم، وأحسن اختيار الكتب والمقررات في الدراسة، من العلوم الدينية والعربية وما إليها، ومن العلوم الأخرى التي يحتاج إليها طالب العلم في ثقافته العامة، مما يسميه الناس "العلوم الحديثة" وأكثرها كان

معروفًا في الأزهر يتدارسه أهله، إنما كانت اختيارية لا اختبار فيها، فجعلها إجبارية، واختار لعونه في عمله نوابغ العلماء من الأزهر، والرعيل الأول منهم أربعة: الشيخ عبد الله دراز، والشيخ عبد المجيد الشاذلي، والشيخ عبد الهادي مخلوف - رحمهم الله - والشيخ إبراهيم الجبالي شيخ معهد طنطا الآن متعنا الله بحياته. وكانت هذه "العلوم الحديثة" يعلمها للطلاب علماءُ الأزهر أنفسهم. وسنَّ حينذاك سُنَّةً حسنة، أن يحتفل في آخر كل عام دراسي احتفالًا رسميَّا بالناجحين من الطلاب، تُعطى لهم المكافآت من الكتب العلمية النفيسة، ويحضره سموّ الخديوي أو نائب عنهُ ويحضره الوزراء والكبراء والعلماء والطلاب، في مسجد أبي العباس، ويخطب فيه شيخ العلماء خطبة تناسب المقام، وهي خطب مشهورة معروفة، ومن أشهرها الخطبة التي ألقاها في الاحتفال يوم السبت 22 رجب سنة 1325 (31 أغسطس سنة 1907) والتي ردَّ فيها على اللورد كرومر بكلمات تعرض فيها للإسلام، وكان من شهود هذا الحفل (أصحاب العطوفة حسين فخري باشا القائم برئاسة مجلس النظار، وناظر الأشغال العمومية، وأحمد مظلوم باشا ناظر المالية، وأصحاب السعادة والعزة محافظ الإسكندرية، ورئيس الديوان العربي الخديوي، ووكيل ديوان عموم الأوقاف) إلى آخر من ذكروا في وصف الاحتفال في (التقرير الرابع عن أعمال مشيخة علماء إسكندرية سنة 1324 دراسية المرفوع للحضرة الفخيمة الخديوية) فقام بالواجب

عليه من الذبّ عن الإسلام، في هذا المقام الخطير، خير قيام. وكان مما قال في هذه الخطبة كلمته المحفوظة السائرة: (ويقولون: "إن هذا الدين يجيز الرق، ويتضمن سننًا وشرائع في علاقات النساء بالرجال تناقض آراء أهل هذا العصر". نعم إن الدين الإسلامي أباح الاسترقاق، كما أباحته كل الشرائع السماوية من قبل، ولكنهُ سوى بين الأرقاء وبين الآباء والأمهات في الوصية بالإحسان، والرفق والحنان، أليس يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} [النساء: 36]. أباح الدين الإسلامي استرقاق الأفراد، ولكنه بحمد الله لم يبح استرقاق الشعوب، ولا مصادرة الأمم في مقومات حياتها القومية والاجتماعية أما علاقات النساء بالرجال فليس وراء الشريعة الإسلامية غاية في عدل ولا في مرحمة، ولا في محافظة على الأعراض المصونة، يتطلع إليها أصحاب النفوس الأبية). والمناهج التي رسمها للمعاهد الدينية هي الأسس الثابتة للتعليم الصحيح، الذي يؤتي الثمرة المرجوة منهُ، ولا يزال أكثرها قائمًا إلى الآن، وهي مفصلة في التقارير التي كان يرفعها لولي الأمر في آخر كل عام. وكانت غايته من التعليم الديني أن يخرج رجالًا كاملين، يعرفون دينهم ويخشون ربهم، يقولون قولة الحق، لا يخافون في الله لومة

لائم، يتصلون بأمتهم أوثق الصلات، فيشعرون بما تشعر، ويحسون ما تحس، في شؤونها الدينية والدنيوية، يهيؤهم علمهم وتربيتهم وثقافتهم لقيادة الأمة إلى طرق المجد، وإلى سبل الإصلاح في الأحوال كلها، اجتماعية كانت أو سياسية. وقد أشار إلى هذا المعنى في مقدمة التقرير الذي رفعه عن أعمال المشيخة سنة 1322 قال: "ومما يجب أن يتنبه له عقلاء الإسلام وعظماء الأمة، أن التعليم الديني قد كاد يكون منحصرًا في طبقات الفقراء، وبعض الطبقات الوسطى من الأمة الإسلامية، دون الطبقات العليا منها، وذلك خطر غير قليل على الجامعة الإسلامية، بمرور الدهور والأعوام، إذا قدر أن ينتهي الأمر بانحصار التعليم الديني في تلك الطبقات، فتكون الرئاسة الدينية منحصرة فيهم لا يتولاها سواهم من الطبقات الأخرى، وبالتالي تكون كل الوظائف الدينية في أيدي أولئك الأقوام ومن خصائصهم، وبعبارة أصرح: تكون الفضائل والمزايا الدينية مجردة عن القوة المالية، والقوة المالية بعيدة عن المزايا الدينية. وبين أيدينا من نتائج هذا التفريق في القوى الفعالة وهذا التدلي في التربية الدينية ما يصلح عبرة لكرام القوم، وخاصة المسلمين وعقلاء الأمة. فلينظر العقلاء وسادات الإسلام إلى موقفهم هذا، فلعلهم إذا فكروا فيه كثيرًا يترجح عندهم أن يتربى أبناؤهم تربية دينية إسلامية محضة، تحت كفالة خيرة العلماء العاملين المرشدين، حتى إذا تخرجوا على هذا المبدأ القويم كانوا أقدر على خدمة دينهم وأمتهم، الخدمة التي

ترجى من أمثالهم، مع الترفع عن الدناءة وعن السقوط في مهاوي الخسران، وإذا شاء عظماء الأمة أن يتربى أبناؤهم هذه التربية فإنهم يساعدون على ترقية التعليم الديني، ويجعلون له المكانة العليا في أفئدة الناس أجمع، وما ذلك على الله بعزيز. نسأله الهداية والتوفيق لأقوم طريق". وقد بدأ بنفسه في تنفيذ ما دعا الناس إليه، ليكون مثالًا يقتدى به، فأخرجنا - أنا وأخي السيد علي - من المدارس المدنية إلى المعاهد الدينية، وكنت في السنة الرابعة بكلية غردون بالخرطوم، فاستأنفت الدراسة في السنة الأولى بالقسم الأوَّلي من معهد الإسكندرية. وكان أكثر ما يحرص عليه في طالب العلم أن يكون قويّ الخلُق عزيز النفس مستقل الرأي، تمهيدًا لما كان يرجو، من إخراج رجال يزجّ بهم في معترك الحياة، ويبعث منهم في أعمال الدولة من إدارة وغيرها، وقد كان متفاهمًا على هذا مع ولاة الأمور، كما سمعت منهُ مرارًا، في سبيل الإصلاح العامّ، حتى تُبَثَّ الروح الإسلامية في نظم الدولة، وتقاوم تغلغل النفوذ الأجنبي، الذي كاد يخرج بالدولة وبالأمة عن دينها وعن مقومات حياتها، كان يرجو أن يعيد للإسلام مجده لو تحقق ما كان يرجو. وفي أواخر سنة 1324 ندب للقيام بأعباء منصب مشيخة الجامع الأزهر نيابة عن المرحوم الشيخ عبد الرحمن الشربيني بالإضافة إلى عمله في مشيخة الإسكندرية، أربعة أشهرٍ، من رمضان إلى ذي الحجة.

وفي 9 ربيع الثاني سنة 1327 (29 إبريل سنة 1909) صدرت الإرادة السَّنية بتعيينه وكيلًا لمشيخة الأزهر، فسار فيه سيرته في الإصلاح، ومهّد لذلك برحلة واسعة إلى الصعيد، صدر بها إليه أمرٌ عالٍ، زار فيها مدن الصعيد وكثيرًا من قُراه، يستطلع أحوال الدراسة الدينية في مساجده، تمهيدًا لإنشاء معاهد علمية فيه، تكون فروعًا من الأزهر، كما تحقق أخيرًا بإنشاء معهد أسيوط وقنا. ثم صدر قانون النظام في الأزهر سنة 1911 وأنشئت فيه (هيئة كبار العلماء) فكان في الفوج الأول منها إلى أن مات. وعهد إليه بتطبيق هذا القانون، فأنشأ القسم الأوَّلي، وعُين شيخًا له مع عمله في وكالة الأزهر، وكانت في القانون بعض نظم لا يرضاها، وضعت على الرغم من معارضته، فكان يبذل جهده في التخفيف من أخطاء القانون، وله في ذلك مواقف معروفة مشهورة، لا يسع المقام تفصيلها. وفي سنة 1913 أنشئت الجمعية التشريعية، وكان في السابعة والأربعين من عمره، وليس بمستطيع أن يطلب الإحالة إلى المعاش قانونًا وهو في تلك السن، وكان من قانون الجمعية أن الموظف إذا انتخب أو عين عضوًا فيها خُيّر بينها وبين عمله الحكومي، فإن اختارها أحيل إلى المعاش، وكان له الحق في العودة إلى منصبه، فرأى الفرصة سانحة لطرح أغلال المناصب الحكومية، والتفلت من إسارها، وما يحاك حوله فيها، في الأزهر وخارج الأزهر، فرغب إلى أخيه وصديقه وصفيّه المغفور له (محمد سعيد باشا)، وكان ناظر

النظار إذ ذاك، أن يكون عضوًا معينًا في الجمعية، فأجاب طلبه؛ وبذلك ترك المناصب الرسمية، وأبى أن يعود إلى شيء منها، ولم يخضع بعد ذلك لشيء من مغرياتها، بل فضَّل أن يعيش حرَّ الرأي والعمل والقلب والقلم. وعاش في حريته كما عاش في مناصبه، للناس لا لنفسه، ما قصده طالب حاجة إلَّا بذل له من نفسه وماله وجاهه، يعمل الخير للخير، ولوجه الله. وكانت له في كبريات الصحف، وفي المقطم خاصةً، أثناء الحرب العظمى، جولات صادقة ومقالات نيرة، لا يزال صداها يدوي في آذان كثير ممن عُنُوا بالشؤون السياسية في ذلك الوقت: إذ كان مرمى كتاباتِه كلها إلى الدفاع عن بيضة الإسلام، وردِّ كيد المهاجمين، من المعتدين والخائنين، خشية أن يكون ما كان، من تقطع أوصال الأمة الإسلامية، وتفرقها أممًا متباينة، ببدعة القوميات التي اخترعتها أوربة، لتفرّق بها كلمة المسلمين، وتضربَ بعضَهم ببعضٍ، ولتفتنهم عن المبدأ السياسيّ والاجتماعيّ السليم الذي شرعهُ الله لهم، وأمرهم باتباعهِ والعضّ عليه بالنواجذ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة الأنبياء آية 92، وسورة المؤمنون آية 52]. ثم قامت الثورة المصرية في سنة 1919، فضرب فيها بسهمٍ وافرٍ، وتبعهُ أهل الأزهر قاطبة، فكان هو الروحَ الوثابةَ فيهم، وكان هو القائدَ، وكان هو الزعيم.

وكتب في الشؤون السياسية المصرية عشرات من المقالات في الصحف، أبانت عن بعد نظره، وصدق فراسته، حتى لقد توقع فيها كثيرًا مما كان بعد سنين، إذ درس مرامي السياسة الإنكليزية، في شؤون الأمة المصرية والأمة الإسلامية، وعرف كيف يسعون إلى نيل مقاصدهم حتى لقد كنا في العهد القريب، إذا ادْلهمَّ الخطبُ، واضطربت الأمور رجعنا إلى مقالاته في الظروف المشابهة لها، فوجدنا أنهُ يكاد يصف ما نحن فيه، وكأنهُ يكتبهُ حين قرأناه وكأنهُ ينظر إليه بنور الله. ولم يفكر يومًا واحدًا في خوض معترك الأحزاب المصرية، بل كان يترفَّع عن أن يُسلم مَقادَه إلى أحدٍ من الناس، كائنًا من كان، كما أَبَى من قبلُ أن يعودَ إلى إسارِ المناصب الحكومية، وكان يقول للزعماء والقادة قولة الحقّ، فينقد خطأ المخطئ ويمدح صواب المصيب، وعن ذلك كان يظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ لهُ هوًى أو ضلعًا مع بعض الأحزاب أو الزعماء؛ إذ كان يكثرُ خطأ المخطئ، فيُكْثرُ من نقده والنصيحة لهُ، فيظنُّ المنتقَدُ أو أنصارُه وأتباعُه أن الناقد من خصومه، أو من أنصار خصومه. وبجانب هذا لم يَدَعْ مسألة شرعية أو اجتماعية أثيرت في الصحف، بما يتعلق بشؤون الإسلام والمسلمين، إلَّا قال فيها ما يراهُ حقًّا وصوابًا، وصَدَعَ بما أمر الله به الدعاة والهداة، وأعْرَضَ عن المنكرين، ثقةً بربّهِ، وتوكلًا عليهِ؛ إذ كان أبرزُ سجاياه، أنهُ صُلْبٌ في

دينه، صلبٌ في عقيدته، صلبٌ في رأيه، شجاعٌ غير جبانٍ، لا يرهب أحدًا من الناس، ولا يخشى إلَّا الله. * * * أما الناحية العلمية منهُ فإنهُ كان عالمًا بكتاب الله يفقههُ ويعرفهُ، ويداوم مدارسته والغوص على أسراره، وكانت له في التفسير نظرات دقيقة، وقد قرأ لنا التفسير مرتين: مرة في تفسير البغوي، وأخرى في تفسير النسفي. وله في السُّنَّة اطلاعٌ جيدٌ وفقهٌ سليمٌ، وقرأ لنا صحيح مسلم، وسنن الترمذي، والشمائل، وسنن النسائي، وبعض صحيح البخاري. وقرأ لنا فقه الحنفية في كتاب الهداية، على طريقة السلف، في استقلال الرأي وحرية الفكر، ونبذ العصبية لمذهب معين، وكثيرًا ما خالف مذهب الحنفية عند استعراض الآراء وتحكيم الحجة والبرهان، ورجح ما نصره الدليل الصحيح، وقرأ لنا في الأصول جمع الجوامع وشرح الإسنوي على المنهاج، وفي المنطق شرح الخبيصي، وشرح القطب على الشمسية وغيرهما، وفي البيان الرسالة البيانية، إلى غير ذلك من الرسائل الصغيرة في علوم مختلفة. وكان في العلوم العقلية آيةً من الآيات، بل هو أقوى رجل ظهر في الأزهر فيها؛ ولذلك لم يكن يصمُد لهُ أحد في مناظرة أو جدال، لإبداعه في إقامة الحجة وإفحام المناظر؛ لخصب ذهنه وتسلسل أفكاره، وانتظامهما على قواعد المنطق الصحيح السليم، ولست أقول هذا فخرًا أو غلوًّا، بل أشهد به عن يقين وخبرةٍ، وقد تلقيتُ عنهُ

أكثر العلوم العالية، ولازمت دروسه أكثر من ثمان سنين، في الصباح والمساء، كما يعرف ذلك ويشهد به إخواني في الدرس والطلب، وكما يقر به المنصفون من أقرانه من أهل العلم. وأخلاقهُ كانت أخلاق العلماء الأولين، كان رجلًا مسلمًا يخاف الله ويرجو رحمته، ولا يخاف غيره ولا يرجوه، يعمل ما يعمل، أو يقول ما يقول، خالصًا لله، أذكر أنهُ في أوائل الثورة المصرية، كتب نداءً شديد اللهجة، يزيد في وقود الثورة، ثم دعاني أنا وأخي السيد علي، وقرأه علينا، يطلب رأينا، فأعجبنا به، وقلت له: ولكن بعده الاعتقال، فما عبأ بذلك، وأذاعَهُ على الناس في الصحف. ولم تكن الدنيا من همه في شيءٍ، وقد كانت تجري على يديه، وكان له من النفوذ في الدولة ما يمكن له من الغنى لو أراد، وكان دائمًا مقربًا إلى العرش، بل أتى عليه حينٌ من الدهر كان أقرب الناس إليه زلفى، فعصمه زهده وعفته وإباؤه، ولقد حدثني واحد من شيوخي حفظهُ الله، منذ أكثر من خمس وعشرين سنة؛ أنهُ حاوره مرة ليحمله على شراء دار لأولاده، فأبى رحمه الله، وقال له: إنما أُحسن تربيتهم وتعليمهم، ولهم رزقهم عند الله، وكان يضع الميزانية سنويًّا لمعهد إسكندرية ثم في الأزهر، وكان يقرر فيها ما يستحقه العلماء والموظفون من علاوات ونحوها، فكان يكتب لنفسه أمام اسمه ما لا يخطر على بال أي رئيس أو عامل أن يصنعه، كان يكتب بخطه لنفسه (لا يستحق شيئًا) ولو أراد لنفسه عرض المال لاستحق شيئًا كثيرًا. * * *

ومنذ سنة 1931 اعتزل الدنيا، ثم أقعده المرض في المنزل، وألزمه الفراش؛ إذ أصابه الفالج، فاحتمله صابرًا محتسبًا، راضيًا عن ربه وعن نفسه، موقنًا أنهُ قضى دَيْنَه، فقام بما وجب عليه خير قيامٍ، نحو دينه ونحو أمته، منتظرًا دعوة ربه لعباده الصالحين: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}. إلى أن جاءتهُ الدعوةُ فأجاب، هادئًا راضيًا مطمئنًا، فقبضهُ الله إليه في منتصف الساعة الثامنة من صباح يوم الخميس 11 جمادى الأولى سنة 1358 (29 يونيه سنة 1939). ونسأل الله أن يلحقهُ بآبائه الطيبين الطاهرين، وإخوانه الصالحين السابقين: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. * * *

نابغة الشباب الأستاذ رياض محمود مفتاح

محاضرة: نابغة الشباب الأستاذ رياض محمود مفتاح (*) تقدمة بين يدي المحاضرة (¬1) أرى من الواجب عليَّ أن أعرّف الأستاذ إلى إخواني أعضاء الجماعة وقراء المجلة. وأنا الذي عرفته إلى رئيسنا الأخ الشيخ محمد حامد الفقي، وإلى إخواننا الذين سمعوا المحاضرة، بل لعلي أكون أول من كشف الستار عن عبقرية هذا الشاب ونبوغه، وأفخر بأن نظرتي إليه كانت صادقة شبيهة بالإلهام. ولا أزال أحمد الله في كل حين على هذا التوفيق. ولمعرفتي به قصة طريفة: وأول ذلك يوم مبارك لا ينسى على الدهر، عصر يوم الخميس غرة السنة الحاضرة، اليوم الأول من شهر المحرم سنة 1362 (7 يناير سنة 1943)، ولم أكن أعرف عن الأستاذ شيئًا ولا سمعتُ به، فكنت جالسًا في مكتبة الخانجي بمصر، فرأيت كتابًا بجواري لم أره من قبل، فنظرت فيه فإذا عنوانه (الحرب الحديثة وما تلقيه على مصر والشرق العربي من دروس) فلمحت فيه لمحات، وتصفحت منه ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة السابعة، العدد السابع، رجب 1362 هـ. (¬1) (ألقاها بدار جماعة أنصار السنة المحمدية بعد صلاة العشاء من يوم الأربعاء 15 جمادى الأولى سنة 1362 - 19 مايو 1943 م).

صفحات، فوجدتُ فيه كلمات نفيسة في الدين والسياسة والاجتماع توافق كثيرًا مما ندعو إليه من الآراء للنهوض بالأمة العربية وسائر الشعوب الإسلامية ولنصر الإسلام وإعلاء كلمته، فعجبت لهذا الكتاب، ولم أجد فيه شيئًا عن مؤلفه إلَّا اسمه (رياض محمود مفتاح المحامي)، وزاد عجبي أن الكتاب مطبوع في أغسطس سنة 1940، وأني لم أسمع به ولم أره من قبل، وأخذت الكتاب وقرأته كله، فكنت كلما قرأتُ فيه ازداد سموًّا في نظري، وازداد مؤلفه نبلًا وقدرًا حتى قرأته كله، ثم كتبت على نسختي ما نصه (أتممت قراءته عصر يوم الثلاثاء 13 محرم سنة 1362 (19 يناير سنة 1943)، واستفدت منه علمًا جمًّا وآراء نافعة. فلله در مؤلفه العظيم. إنه شاب ينظر بنور الله وأرجو أن يكون له من الأثر في العالم الإسلامي ما لأكبر المصلحين، نفع الله به، ووفقه وأيده). فهو في كتابه يدعو المسلمين إلى أن يتمسكوا بدينهم، وأن لا يفتنهم عنه ما يرون من المدنية الأوربية الزائفة، وأن يهيمن الإيمان في القلب على كل أعمال المسلم؛ من عبادة ومعاملة وسياسة واجتماع، وأن يحافظ المسلم على العبادة التي أمر بها لله وحده ليكون ذلك هاديًا له في كل شأن من شؤونه في حياته، وأن يقوم المسلمون بدعوة العالم كله إلى الأخذ بشريعة الإسلام، وإن ذلك هو السبيل الوحيد لحل المشكلات الدولية التي تثير الحروب الماحقة في فترات متقاربة.

وسأنقل لكم هنا بعض فقرات من هذا الكتاب النفيس المدهش: يقول في (ص 22): (وهنا تكون الكلمة للشرق العربي؛ ليؤدي رسالته للعالم في العصر الحديث بالاستمساك بالدين الإسلامي، وتنظيم أحوال البشر على مبادئه السامية؛ من الإيمان والعدالة والتضامن والتسوية والأخوة الإنسانية جمعاء، فهي المبادئ التي لا صلاح للبشر إن خرجوا عليها، وهي المبادئ الخالدة يرجع إليها الناس بعد طول تقلب وتجارب فيجدون فيها الهدى؛ فالبشر اليوم أحوج ما يكونون إلى مبادئ جديدة، وأذهانهم على الأُهبةِ لفحص الجديد من المذاهب والمبادئ، بعد أن فشلت مذاهبهم، وشَكَّكَتْهم التطورات العالمية الأخيرة في قيمتها وصلاحيتها). ويقول (ص 26): (ولست أعني بالحضارة الإسلامية ما كان عليه أهل العواصم الكبرى من الترف والنعيم، وما ازدانت به دار السلام والقاهرة وإستانبول من جميل المناظر فالقصور ووشيها، ومجالس الغناء والندمان، وما فيها من العزف والحبور، ليست من الحضارة الإسلامية في شيء بل فيها مما يخالف الإسلام. دين البساطة والرجولة. أكثر مما يوافقه، وإنما خلود الحضارة الإسلامية في مبادئها الموجهة لمخاطبة البشر كافة؛ فالناس فيما بينهم أخوة كأعضاء الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر. لا يعتبر أحدهما مسلمًا إلّا إذا أحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهم

سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي منهم إلّا بالتقوى، يهيمن فوق هذه المبادئ مبدأ الإيمان بالله الأحد خالق الدنيا وما فيها من خير وشر، فهو الذي يعبد، ومنه تلتمس الهداية لسلوك طريق الخير ولتطهير النفس من أدران الأثرة والظلم، ولملئها بعوامل المحبة والأخوة والعطف على الفقير، والعدل والإحسان والخضوع لأوامره تعالى. فهذا الإيمان وهذه العبادة للخالق المسير للأمور ابتغاء مرضاته وحسن الجزاء منه في دار الخلود: هذه العبادة هي زاد النفس؛ للتغلب على عوامل الشر، والاهتداء لعوامل الخير في كل المعاملات الإنسانية سواء منها ما كان بين الفرد وأسرته، أو ما كان بين الفرد وأخيه، أو ما كان بين الحكام والمحكومين، أو ما كان بين دولتهم بأكملها والدولات الأجنبية. وهذه المبادئ الخالدة أساسية لكل حضارة، وإلَّا كانت واهية الأساس ينهار بناؤها برمته مرة واحدة، تأمل المدن الأوربية وكيف نسقت، وناطحات السحاب وكيف تعالت، والمصانع الضخمة وكم تنتج في اليوم بل في الساعة. تأمل كل هذا، وتأمل كيف يأكل بعض هذه الحضارة بعضًا؛ فتدك ما شيدت، وتقتل ما ولدت، وتسبب للإنسان من المتاعب أضعاف ما جلبته له من الرفاهية؛ ذلك أنها فقدت عنصر الإيمان الأساسي الذي يطهر النفس، ويملؤها بحب الخير للإنسانية لا لوطن واحد ولا لجنس واحد) إلى أن يقول في

(ص 29): (وكانت نظمنا - نحن المسلمين في الشرق العربي - إلى عهد قريب من ذلك النوع الذي يحوي الكثير من الشر لأنفسنا، والتي ليست مثالًا يحتذى به أو توجه الدعوة للغير للاقتداء به، وخير لنا أن نلتمس علاج أدوائنا في مبادئ شريعتنا الغراء، لا في المذاهب الأوربية الضيقة النطاق). ومما يقول في النظم الاقتصادية بعد أن شرح كثيرًا منها، وتكلم عن الرأسمالية والاشتراكية وغيرهما، قال (ص 116): (غير أن هذا التفكير يجب أن ينأى عن التقليد والاقتباس من المذاهب الأجنبية، فمهما أدى بعضها من نفع، ومهما بدا براقًا، فلا حاجة لنا به، وإنما لدينا نظامنا الإسلامي: (الزكاة) نرجع إليه فنرى فيه علاجًا لعيوبنا الاقتصادية، علاجًا لا يصلح لنا فحسب، بل للإنسانية جمعاء في كل زمان ومكان). إلى آخر هذا البحث النفيس الذي قل أن تجد مثله لباحث. وهو يقول في مزية التشريع الإسلامي (ص 170): (على أن أبرز خاصية للشريعة الإسلامية، وأميز ما في الثقافة الشرقية بوجه عام، هو قيامها على الإيمان الديني الذي لا يقتصر على تنظيم عبادة المخلوق للخالق، بل يسيطر على كل الأنظمة الاجتماعية للخلق. ذلك ما يقع وجوب تأديته للعالم على مصر والشرق العربي اليوم، لعل فيه الشفاء والإنقاذ من الخراب والفساد) إلى أن قال (ص 206): (فالمستقبل فيما نرى للشريعة الإسلامية، وسينتهي العالم إليها بعد أن كاد يضيع

الإيمان من النفوس، وبعد أن أدى ذلك إلى قيام أنظمة تستغل الإيمان استغلالًا وحشيًّا، سينتهي العالم إلى تلك المبادئ المطهرة للنفوس، النازعة منها الشرور والأنانية، والدافعة إياها للتضامن، موجهة للإنسانية بلا تفرقة بين الأجناس، سينتهي العالم إلى تلك المبادئ كأساس لتشريعاتهم) إلى أخر ما قال في الكتاب من أبحاث نيرة موفقة، تسمو عن أكثر ما يكتب الباحثون في هذا العصر، فاقرأه كله واستوعبه، فليس يغني بعضه عن بعض. وكنت أثناء قراءتي الكتاب أسأل كل من لقيت من إخواني وخاصة من المحامين الأهليين، عن مؤلفه، فلم يكن لواحد منهم حظ معرفته، حتى أرشدتني نقابة المحامين، إلى عنوانه، وأنه مقيم في دسوق، وأن اسمه مقيد في جدول المحامين سنة 1938، فعرفت أنه شاب ناشئ، فكتبت له كتابًا يوم الإثنين 12 محرم سنة 1362 (18 يناير سنة 1943)، ذكرتُ له فيه رأي في كتابه، وإعجابي بآرائه وعلمه، وبفقهه في الإسلام، وإدراكه حقائقه، أكثر مما يدركها كثير من علمائه، وذكرت له أنه كتب في قضية نعمل في سبيلها منذ أكثر من عشرين سنة، حتى لقد كدنا أن نضعف، ودعوته أن يضع يده في يدنا، وأن يكون قائدنا في جهادنا، يبث فينا من عزيمته القوية الفتية، ويرشدنا بما وفقه الله إليه من علم ونور، ثم كانت فترة علمت بعد أنه كان فيه مسافرًا، ثم جاءني جوابه المؤرخ 29 محرم سنة 1392 (5 فبراير 1943) فكان جوابًا أقوى روحًا ونفسًا من الكتاب، ثم تواترت

بيننا الكتب، حتى أذن الله باللقاء، فزارني عصر الخميس 17 ربيع الثاني (22 أبريل)، ولم أكن بالمنزل، ثم جاء في اليوم التالي ضحوة الجمعة، فكان فوق ما ظننتُ، وكان أكثر مما أملت، وإن أفخر بشيء فإني أفخر بصدق فراستى في هذا الشاب الناشئ النابغة، عن غير خبر ولا معرفة إلَّا من قراءة كتابه، حفظه الله ووفقه وسدد خطواته. وقد عرفته بعد ذلك إلى رئيسنا الأخ الشيخ محمد حامد، وإلى الإخوان، فكان إعجابهم به مثل إعجابي أو أكثر، واتصلت بيننا أسباب المودة المبنية على العلم والنور والإخلاص والحمد لله رب العالمين. وسأجتهد في نشر كتبه الخاصة التي كتبها؛ لما فيها من علم جم، وآراء عظيمة النفع، وقوة روح تبعث في النفوس الحزم والعزم، إن شاء الله. وقد دعوناه ليحاضر جماعتنا (جماعة أنصار السنة المحمدية) فأجاب الدعوة وألقى المحاضرة التي جعلت هذه الكلمة تقدمة بين يديها، وها هي ذه.

مناسبات

مناسبات 1 - استقبال شهر رمضان 2 - تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين 3 - بمناسبة الإشراف على مجلة الهدي النبوي 4 - لا علاج لأدواء المسلمين إلا أن يكونوا مسلمين 5 - في الإسراء والمعراج

استقبال شهر رمضان

استقبال شهر رمضان (*) (¬1) أيها السادة: لقد أظلكم شهر رمضان، شهر الصيام، شهر العبادة، شهر سمو الروح ونقائها، ويوشك أن تصبحوا غدًا صائمين، أَوْ لا فبعد غد، فهل أعددتم العدة لاستقباله، فحاسبتم أنفسكم على ما أسلفتم من خير تحمدون الله عليه، وتسألونه التوفيق إلى المزيد منه، أو شرٍّ تأسفون عليه وتتوبون وتستغفرون الله منه، وتسألونه أن يحفظكم من العودة إليه. هكذا يستقبل شهر رمضان، وأخشى أن يفهم كثير من الناس أن رمضان يستقبل بالاحتفالات الرسمية، والاستعداد للتأنق في المأكل والمشرب، والاستكثار من ألوان الطعام والشراب، والاستعداد لأصناف من اللهو واللعب في السهرات، ثم لا يفكرون فيما وراء ذلك! ! أيها الناس: إن الله شرع لكم الصيام تطهيرًا لأرواحكم، وحفظًا ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة السادسة، العددان التاسع عشر، والعشرون، شوال 1361 هـ. (¬1) ألقاها صاحب الفضيلة العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر في الحفل الذي رأسه بمدينة بنها لاستقبال هلال رمضان.

لها من طغيان الجسد وشهواته، ولم يشرعه لتقاسوا آلام الجوع والعطش فقط؛ ولذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والْعَمَلَ بِهِ، فليس للَّهِ حاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ". شرع الله لنا صيام نهار رمضان، وقيام ليله، فجعله شهر عبادة، بذكر الله وقراءة القرآن، والإكثار من الصلاة، وخاصة صلاة الليل، وجعل ثوابه أعظم الثواب، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ يُضاعَفُ، الحسنةُ بَعَشْرِ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعْفٍ، قال الله تعالى: إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لِي وأنا أجزي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي: للصائمِ فرحتان: فَرْحَةٌ عِندَ فِطْرِهِ، وفَرْحَةٌ عِندَ لقاءِ رَبِّه، ولَخلوفِ فَمِ الصَّائمِ عِنْدَ اللَّهِ أطيبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ". أيها السادة إني أرى في كثير مِمّا اتخذنا مِنَ العاداتِ في الصَّوْمِ ما يُنافِي حقيقته، بَلْ ما يُحْبِطُ الأجرَ عليه، بل ما يزيد الإنسان به إثمًا، فَهِمنا أن معنى قيام الليل، سهر الليل، فصرنا نسهر في القهوات والنوادي، لا نفكر إلّا في اللهو واللعب إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم نأكل ما شاء الله أن نأكل، ثم نصبح مرهقين متعبين، وقد ضاقت صدورنا، واضطربت أعصابنا، وساءت أخلاقنا، فلا يكاد اثنان يتحدثان، حتى ينفجر الغضب وتثور الثائرة، وتتدفق الألفاظ النابية، إلى ما ترون من حالٍ كلكم تعرفونها، وقد تتعذرون لصاحبها بأنه صائم. ولا أستثني من ذلك أحدًا إلّا من عَصَم اللهُ.

فانظروا وتفكروا، وقارنوا هذه الحال الشاذة الشائعة في الصوم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائمٌ إني صائمٌ". وذلك أن الصائم ينبغي أن يكون هادئ النفس، رضيَّ الخلق يضع نُصْبَ عينيه أن الصيام جُنَّة له من الإثم، جنة له من سوء الخلق، جنة له من المعاصي، جنة له من فحش القول، جنة له من قول الزور والعمل به. والذي ينبغي لكم في هذا الشهر المبارك - إن سمعتم لنصحي - أن تتبعوا شرائعكم في الصيام؛ فتقتصدوا في الطعام والشراب عند الفطور وعند السحور، وأن تجعلوا سهركم إن سهرتم في قراءة القرآن وتدبره، ومن استطاع منكم أن يقوم الليل فليفعل؛ وذلك أن يصلي في بيته أو مسجده ما شاء الله له أن يصلي، وهذه هي صلاة التراويح التي غيرت عن أصلها، فصار المصلون ينقرونها سِراعًا في وقت قصير بعد صلاة العشاء، صلاة لا تنفع ولا تقبل، وإنما الصلاة ما كانت في خشوع وطمأنينة، وكلما أخرها المصلي إلى ما بعد الثلث الأول من الليل كان أفضل، ثم ينام أحدكم ما شاء الله له أن ينام، ثم يقوم قبل الفجر فيطعم طعامًا خفيفًا للسحور، ثم يصلي الفجر، وإن شاء نام بعد ذلك، وإن شاء تصرف في شأنه وعمله. أما الذين يأكلون عند انقضاء سهرتهم ثم ينامون إلى ما بعد طلوع الشمس، فإنهم يخالفون سنة الإسلام في السحور، وأخشى أن يذهب تركهم صلاة الفجر بثواب صيامهم، فلا هم صاموا ولا هم أفطروا،

وليس لله حاجة في أن يدعوا طعامهم وشرابهم؛ إذ لم يطيعوا أمره، ولم يأخذوا بسنة نبيه، وإذ أضاعوا صلاة الفجر عن وقتها عمدًا. أيها السادة: إن الأمم تُصهر الآن في النيران عقابًا لها على ما كفرتْ بأَنْعُم اللهِ، ولعل اللهَ قد صان بلادَ الإسلامِ من كثيرٍ مما يُلاقي غيرها، لحكمةٍ يَعْلَمُها، ومأثرة يدخرها لهم؛ أن يعود للإسلام مجده، وأن يعود المسلمون حكام الدنيا كما كانوا، ولكن هذا إذا كانوا مسلمين، وإذا تمسكوا بدينهم وأقاموا شريعته، واهتدَوْا بهديه والنذُرُ من بين أيديكم ومن خلفكم فاعتبروا واخْشَوْا رَبَّكم، فقد نرى من تهافتِ المسلمين على المنكرات ما نخشى أن يُعَمِّمَ اللهُ بالعقابِ من أجلِه، وها أنتم أولاء تَرَوْنَ المُجاهِرين بالمعاصي لا يخافون الله ولا يستحيون من الناس ولا يخشون عاقبة ما يصنعون. وقد كان مما نرى من مُجاهرتهم ربهم بالحرب أن يجاهروا بالإفطار في رمضان في الطرقات والأماكن العامة، وفي دواوين الحكومة، ويزعمون أنهم يحتمون بما يدعونه الحرية الشخصية، وما هكذا كانت الحرية وما هكذا تكون الأمم في تمسكها بمقوماتها وعاداتها وشعائرها الدينية، وكان هذا العمل يؤذي المسلمين الصادقين في شعورهم ويحرج صدورهم، وقد وفق الله الرجل الصالح: الزعيم الجليل صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس، فأصدر بالأمس القريب كتابًا عظيمًا في هذا الشأن، حفظ على المسلمين كرامتهم وصان لهم شعورهم، ورفع الحرج عن قلوبهم،

فأمر أن لا يُجاهِرَ مُفطرٌ بفطرِه، مُسلمًا كان أو غير مسلم، احترامًا لحق الأمة في الاستمساك بشعائرها وتقاليدها، فكان عمله عمل رجل يعرف ما يريد، ويعرف كيف يضع الأمور مواضعها، مستعينًا بربه متوكلًا عليه. إن الله قد مَنَّ علينا في هذه السنين الشداد بمليكنا الفاروق الملك الحازم النقي، نعم القدوة هو لشباب أمته وكهولها وشيوخها، مُلِئَ قلبُه إيمانًا وحكمة، يقود أمته إلى المجد بخطوات سراع، مهتديًا بهدي الإسلام، متمسكًا بعروته الوثقى. وإنا لنرجو بيُمْنِ طَلْعَتِه أن يكون المستقبل لنا إن شاء الله. * * *

تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين

تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين (*) (¬1) يا حماة الحمى، وقادة الإسلام وزعماء المسلمين. لو كنتُ شاعرًا لنَظَمْتُ في تحية ضيوفنا العظماء الكرام قلائد الدرر، ولو كنتُ خطيبًا لنثرتُ بين أيديهم بدائعَ الزُّهورِ، واعترافي بعجزي أبلغ الأعذار. وإنما مثلت أمامكم أداء لغرض، وقيامًا بواجب، وكم كنت أتمنى أن يقوم في مقامي هذا والدي الأستاذ الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقًا، وما حبسه عن ذلك إلا المرض، فقد ألزمه الفراش منذ بضع سنين، ولولا هذا لسمعتم صوته يجلجل في أنحاء العالم الإسلامي، انتصارًا للمظلومين، ودفاعًا عن فلسطين. وإني أتشرف أن أرحب بنواب الأمم الإسلامية وممثليها باسمه واسم إخوانه الذين جاهدوا معه في الصفوف الأولى لهذه النهضة. وما يكون لي أن أتحدث إليكم في السياسة وأنتم هداتها وأساطينها، ولو بدا لي هذا لأقعدني الخجل والعجز، ولكني أتحدث إليكم بكلمة موجزة في شأن قضية المسلمين من الواجهة العلمية الدينية. ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة الثانية، العدد الثامن عشر، رمضان 1357 هـ. (¬1) ألقاها صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل العلامة الشيخ أحمد شاكر القاضي الشرعي في حفلة الشاي التي أقامتها للمؤتمرين جمعية الشبان المسلمين بناديها).

لقد ألقى الإنكليز الحديد والنار على فلسطين، حماية لقضية خاسرة، وانتصارًا لأمة لا تقوم لها قائمة، ولن تكون لها دولة. كُلُّكُم مسلم أو عربي، والمسلم يؤمن بالله وبرسوله وبالقرآن الذي نزل على رسوله، والمَسيحِيُّ العربي يصدق بنبوة محمد، ويعرف أن البشائر التي في القرآن بشائر صدق، وأن آياته كلها حق. والله تعالى يقول في شأن هؤلاء اليهود: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}. آل عمران: 112. ويقول في شأنهم: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64]. ثم الله يحكم عليهم حكمًا أبديًّا {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: 167، 168]. أيها السادة: هذه صواعق من الله تنصبّ على رؤوس أعدائكم، وعلى رؤوس حملتهم، هذا وعد الله لكم بنصركم عليهم، والله منجز وعده، وحسب أعدائكم عهد بلفور، وهو وقومه واليهود أعجز من أن يفوا بعهده، بل هم أعجز من أن يخلفوه؛ لأن الله هو الذي يتولى إخلافه بأيديكم وأيدي أعدائكم. {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد 35].

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]. أيها السادة قد أكون أصغر سنًّا من أكثركم، وأظنني أقلكم جميعًا علمًا ومعرفة، ولكني أطمع في تواضعكم إذا قمت في حضرتكم بواجب النصيحة للمسلمين ليكون ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين. إنكم تمثلون أمة الإسلام، أمة واحدة عربية، لا تفرق بينها فوارق الجنسية، فالأعجمي المسلم عربي الدين واللسان، والعربي عربي مسلمًا كان أو مسيحيًّا وسِمة هذه الأمة عند الله العزة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}. [سورة المنافقون 8]، إنكم تناوؤون أمة قد ضربها الله بالذل والصغار، وضمن لكم النصر عليهم وإن استنصروا بسائر أمم الأرض: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} فلا تعطوهم من أنفسكم ما لا مطمع لهم فيه وإن بلغوا أسباب السماء. إن هؤلاء الأذلاء كتب الله عليهم الجلاء، فقد أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة وأرباضها، ثم جلاهم الفاروق من الحجاز، ثم سكت عنهم المسلمون، بل حموهم حين رأوهم مضطهدين مستضعفين، فلما عادوا سيرتهم من البغي والعدوان، أعادهم الله سيرتهم من الجلاء، فجلاهم الألمان والطليان عن بلادهم، وستكون عاقبة أمرهم - إن شاء الله - أن يجليهم المسلمون عن كل بلاد الإسلام. إن أوربة لم تتمكن من دول الإسلام في فترة ضعفهم إلا حين أرهبتهم بغول التعصب، حتى صار كل مسلم يتخاذل عن دينه وعن

شريعته، خشية أن يُتهم بالتعصب، ثم ألقت بينهم بدعة القوميات، لتفتنهم عن وَحْدَتهم وقُوَّتِهم. وإني ليُلقى في رَوْعي أن سيكون مؤتمركم هذا فاتحة لعشرات من أمثاله، تبنون فيهما حصن الإسلام، وتذودون عن حوضه، حتى تعود هذه الأمة أمة واحدة، كما أمرها الله ولا تخافوا تهمة التعصب التي يريدون أن يصلوا من ورائها إلى ما يسمونه (حقوق الأقليات) فما كان المسلمون يومًا معتدين ولا ظالمين، وإن كلمة (حقوق الأقليات) لها ما بعدها، من تغلغل النفوذ الأجنبي في كل شأن من شؤون المسلمين. ولقد قال الزعيم الخطير، صاحب المعالي محمد على علوية باشا، بالأمس بالمؤتمر كلمة خالدة أرجو أن تكون على ذكر منا دائما. قال: (وليعلم اليهود أنهم إذا فرحوا اليوم بظفر يستند إلى حراب غيرهم فإنهم سيندمون لا محالة يوم تغيب هذه الحراب عنهم، وأحداث الدهر كثيرة، والفرص آتية لا ريب فيها، ومن أنذر فقد أعذر). وإني أعتقد أن هذه الكلمة مما يلهم الله بعض عباده؛ فهي عبرة لمن شاء أن يعتبر، وهي نذير لمن أراد أن يتدبر النذر. وأستغفر الله لي ولكم.

بمناسبة الإشراف على مجلة (الهدي النبوي)

بمناسبة الإشراف على مجلة (الهدي النبوي) (*) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، سيدنا وسيد الخلق أجمعين، أرسله الله رحمة للعالمين، وهدى وذكرى لقوم يعقلون. وهذه هي السنة الخامسة عشر لمجلة (الهَدْي النبوي) وهي تسير على هُدًى، موفقة إلى الخير بعون الله، داعيةً إلى الحق، إلى كتاب الله وسنة رسوله، متبعةً مذهب السلف الصالح - رضي الله عنهم - لا تَفَرَّقُ بها السُّبُل عن سبيل الله. وقد رأى إخواني أعضاء مجلس الإدارة لجماعة أنصار السنة، ومعهم أخي ورفيقي زميل العمر في الدعوة الحقة، الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي رئيس الجماعة ورئيس تحرير المجلة أن يعهدوا إليّ بالإشراف على تحريرها وإصدارها، تفضلًا منهم، ليكون لي شرف الاشتراك العملي معهم فيما هم بسبيله. ولقد ترددتُ أولًا، خشية أن لا أكون أهلًا لهذا الشرف الذي يُضْفُونه عليّ، ثم قبلتُ متوكلًا على الله مستعينًا به، آملًا أن أكون عند حسن ظنهم. ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، المجلد الخامس عشر، العدد الأول، محرم 1370 هـ.

ثم اتفقنا على استحداث أبواب جديدة في المجلة، تكون ثابتة في كل عدد ما استطعنا ليعُمَّ النفعُ بها، ويزداد الإقبال عليها والرغبة فيها. وهي - كما نشر في العدد الخاتم للسنة الرابعة عشرة، عدد ذي الحجة سنة 1369 هـ -: 1 - (باب الكتب للتعريف بنفائس الكتب وجليل الآثار، مما ذخرت به المكتبة الإسلامية في عصورها، منذ بدء الإسلام إلى الآن، مخطوطة كانت أم مطبوعة، ترغيبًا للقراء في الغذاء الروحي الذي لا قوام للعقول بغيره. ولنقد الكتب التي تخرجها المطبعة العربية في أنحاء العالم، في أنواع العلوم من مؤلف قديم أو حديث. 2 - (باب التاريخ) لنشر تراجم لعظماء المسلمين وأبطالهم وقادتهم قديمًا وحديثًا. 3 - (باب علوم الحديث) وهو باب فَنِّيٌّ صرف؛ لنشر أبحاث علمية دقيقة في علوم الحديث، مما يتعلق بالسنة وبالمتن، ومما يتعلق بفقه الحديث والتمسك به، ويكون مجالًا لأقلام المحدِّثين في أنحاء العالم. 4 - (باب "كلمة الحق") خاصًّا بي، أقول (كلمة الحق) في شؤون المسلمين كلها، ما وجدت لقولها سبيلًا. وأملي كبيرٌ في إخواني من أهل العلم والمعرفة، ومن أنصار السُّنَّة ومن الباحثين المدققين المتعمقين، ومن أحرار الرأي والفكر،

أن يستجيبوا لدعوة اللجنة العليا للمجلة فيغذّوها بمقالاتهم وأبحاثهم النفيسة، في هذه الأبواب وغيرها، مما يتصل بالأدب وبالخلق وبالاجتماع، وبالدعوة إلي الحق وإلى الخير، وفي شؤون المسلمين كلها، تعاونًا على البر والتقوى، ودعوة إلى الله وفي سبيل الله. وسأرحب إن شاء الله بكل ما يرد للمجلة من نقد أو توجيه، أدرسه مع إخواني دراسة صحيحة بإخلاص، ثم نأخذ بالنافع منه أيًّا كان قائله، اتباعًا للحق حيث كان. وأسأل الله الهدى والسداد، والحكمة والتوفيق.

لا علاج لأدواء المسلمين إلا أن يكونوا مسلمين

لا علاج لأدواء المسلمين إلا أن يكونوا مسلمين (*) (¬1) أول ما يجب أن نبدأ به، ونحن نستبشر بعام جديد: أن نرفع تحياتنا وتهانينا إلى سيد مضر وموضع فخرها، وإمام المسلمين وقائد نهضتهم، حضرة صاحب الجلالة فاروق الأول، أعز الله الإسلام بتأييده، وهو الذي توسمنا في طلعته الكريمة أن سيبعث الله هذه الأمة الإسلامية على يديه المباركتين بعثًا جديدًا، وأن سيجعل الله لها شأنًا، وأن سيهب لها بيمين نقيبته من بعد ضعف قوة، ومن بعد استكانة عزًّا ومجدًا. وهو الملك الحازم الموفق إن شاء الله. أيها السادة: إنا نستقبل عامًا جديدًا، ونستقبل عهدًا جديدًا، في مُلك مَلِكٍ رشيدٍ، وهذا أول عام يحتفل فيه برأس السنة الهجرية من أعوام ملكه السعيد، إن شاء الله. ومن محاسن المناسبات أن يكون إمامنا "الفاروق" سَمِيَّ أمير المؤمنين "الفاروق"، وقد سماه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه فرق الله ¬

_ (*) مجلة الهدي النبوي، السنة الأولى، العدد الحادي عشر، صفر 1357 هـ. (¬1) ألقى العلامة المحقق، صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي المحاضرة الآتية بدار جمعية الشبان المسلمين في الاحتفال الذي قامت به جماعة إحياء مجد الإسلام، في مساء الجمعة 9 محرم سنة 1357 هـ.

به بين الحق والباطل، وأن يكون الفاروق عمر أول من أرخ التاريخ الإسلامي من الهجرة النبوية، وأنه اختار التاريخ منها؛ لأنها فرقت بين الحق والباطل، فكان هذا أمارة لنا، وبشرى تطمئن بها قلوبنا، وتنشرح لها صدورنا، أن وفق الله للمسلمين هذا الفاروق خلفًا للفاروق، يفرق الله به فى عصرنا الحاضر بين الحق والباطل، ويعز به الإسلام كما أعزه بعمر - رضي الله عنه -. أيها السادة: إن أبرز الحوادث وأبعدها أثرًا في تاريخ الإسلام حادثان خطيران، بنى عليهما كل ما قام للإسلام من مجد ودولة: أولهما: هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، وثانيهما: غزوة بدر الكبرى. الهجرة استنقذت الإسلام من مخالب الكفر، وغزوة بدر بدء الصراع وفاتحة الفتوح بل هي صرعة الضعيف المسكين، للقوي المستطيل. وأقوى الحادثين وأخطرهما في الإسلام: الهجرة؛ إذ صبر المسلمون على ما كانوا عليه فيه من بلاء، واحتملوا ما افتن فيه أعداؤهم من ألوان الأذى والمكروه، حتى أمرهم الله بالهجرة إلى المدينة، ثم أمر رسوله بذلك، فكان بدء الاستقلال للدولة الإسلامية الناشئة، وكانت الهجرة أمرًا عظيمًا، لعلنا لا ندرك الآن ما فيها من شدة وعناء، فإن الله قد حرم على المهاجرين أن ينقضوا هجرتهم، فلا يرجع واحد منهم إلى بلده (مكة) إلا لحج أو عمرة أو نحو ذلك،

ولم يجز لهم أن يعودوا إلى الإقامة فيها؛ ولذلك لما مرض سيدنا سعد بن أبي وقاص بمكة في حجة الوداع بكي وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة). فدعا له الرسول بالشفاء وقال: "اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة". قال ابن أبي وقاص: (يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن توفي بمكة). فكان المهاجرون يحجون ويعتمرون، دخلوا مكة فاتحين، وكانوا يدخلونها زائرين، ولم يكن لأحد منهم أن يقيم فيها إلا على قدر حاجته، وهو يرى بلده الذي ولد فيه ونشأ، ويرى أهله وإخوانه، وتتوق نفسه إلى ذكريات صباه، ثم هو يغالب هواه ويطيع أمر ربه فيعود إلى دار هجرته قد باع نفسه وماله إلى الله، وخرج عن كل شيء في الدنيا، إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، ولذلك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله عن الهجرة: "ويحك إن الهجرة شأنها شديد". وقال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا". وقال لمن أراد أن يبايعه على الهجرة: "إن الهجرة قد مضت لأهلها". إن هؤلاء السادة المهاجرين لم يهاجروا ليكونوا رهبانًا في أديار، لا مقصد لهم إلا الصلاة والصيام، وقد كان ذلك ميسورًا لهم في بلدهم وبين قومهم، وإنما هاجروا ليقيموا دولة الإسلام، وليكونوا حكام الأرض وسادة الدنيا، ثقة بما وعدهم ربهم على لسان نبيهم،

من غير أن يكون لواحد منهم مطمع خاص في شيء من محقرات هذه الحياة، ولكن سعيًا وراء الوحدة الإسلامية، التي لا قيام للدول إلا بها: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} [الأنبياء: 92] {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} [المؤمنون: 52]. وقد كانوا بضع مئين، ثم قواهم الله بإخوانهم الذين آووهم ونصروهم من أهل المدينة، فوضعوا الأساس الثابت لاستقلال الدولة الإسلامية: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 8، 9]. أيها المسلمون: إن الصحابة الذين مات عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا مائة ألف أو يزيدون قليلًا، وهم الذين نشروا الإسلام في أنحاء الأرض، وهم الذين أنشأوا هذا الملك العريض، والمسلمون الآن يعدون أكثر من أربعمائة مليون، أي؛ أن الواحد من الأولين خلفه أكثر من أربعة آلاف من المسلمين الحاليين، فهل فيهم من غناء للإسلام؟ هل حفظوا ما بأيديهم مما ترك لهم هؤلاء الأبطال من مجد وسلطان؟ إني لأخشى - والله - أن يكون قد تحقق في المسلمين قول

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". فقال قائل: أَوَ مِنْ قِلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت". ليس بالمسلمين علة إلا ترك الاستمساك بدينهم، والعنود عن الخضوع له، والإعراض عن العمل بما أنزل الله في كتابه، وبما بَيَّن عنه رسوله في سنته، سواء أكان ذلك في العبادات، أم في المعاملات، أم في الأخلاق والآداب، كله من شرع الله، وكله من دين الإسلام فمن أعرض عن بعضه فقد أعرض عن جميعه، والإسلام دين حكم وسلطان، كما هو دين خلق وفضائل، وكما هو دين عبادة وترقية للروح، لا يفرق بين شيء من ذلك فيه؛ ولذلك قال أبو بكر الخليفة الأول: لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة. وسَمَّى هو والصحابة مانعيها مرتدين. لا علاج لأدواء المسلمين إلا أن يكونوا مسلمين: يعودون إلى العمل بدين الله الذي ارتضى لهم، ويتمسكون بدين الله وسنة نبيه في شأنهم كله؛ كبيره وصغيره، لا يعرضون عنه عنادًا، ولا يتركونه تَأَوُّلًا، ويدعون أهواءهم، ونزوات رؤوسهم، ويخضعون لأمر ربهم {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)} [الشورى: 10].

إن إثم التقصير في الدعوة إلى العمل بالدين في كل شأن من شؤون المسلمين إثم كبير، كل مسلم مسؤول عن ذلك بين يدي الله - عز وجل - ليس لمسلم عذر عند الله في الإعراض عن الدعوة إلى طاعة الله ورسوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 104، 105]. وكونوا كمن وصفهم الله بأنهم {يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]. اسمعوا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحقرَن أحدكم نفسه". قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله له يوم القيامة: "ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ " فيقول: خشية الناس. فيقول: "فإياي كنتَ أحق أن تخشى". رواه ابن ماجه. وإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول أيضًا: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده؛ فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم". أخرجه أحمد. ويقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].

ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 58 - 65]. ويقول أيضًا تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى

اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 48 - 50]. إن إيفاء القول في هذا الموضوع الخطير لا يسعه عشرات من المحاضرات والخطب، ولكن أشرت إشارة موجزة، وأرجو أن يحذر المسلمون سنة الله في خلقه فيما وعظهم به من أخبار الأمم السابقة، فإن أمة من الأمم قبلهم خالفت بعض أمر ربهم فكان جزاؤها ما قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)} [الأعراف: 167]. إن الله تعالى يقول لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يحذرهم مخالفة أمره، وقد كانوا مقيمي أحكام دينه، وهم خيرته من خلقه، وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولستم أكرم عليه منهم، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه. يقول الله لهم: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38].

في الإسراء والمعراج

في الإسراء والمعراج (*) (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1]. أيها السادة: يجتمع حفلنا هذا المبارك الليلة إشادة بذكرى آية من أعظم آيات النبوة، اختص الله بها عبده محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من دون سائر الأنبياء عليهم السلام، وأمره أن يصلي بهم في بيت المقدس، موطن النبوات الأولى، وأمرهم أن يقتدوا به، تشريفًا لقدره وتعظيمًا؛ ولذلك كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي". وإشارة إلى عموم بعثته، كما قال الله - تعالى - في كتابه الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} [سبأ: 28]. وتعليمًا لأممهم وأتباعهم أن يؤمنوا به ¬

_ (*) مجلة المنار، المجلد الخامس والثلاثون الجزء التاسع، جمادى الآخرة 1359/ أغسطس 1940 م. (¬1) محاضرة فضيلة الأستاذ أبي الأشبال الشيخ محمد شاكر القاضي الشرعي، بقاعة المحاضرات في جمعية الشبان المسلمين.

ويصدقوه ويقتدوا به كما اقتدى أئمتهم الأنبياء، ودخلت إمامتهم في إمامته إلى يوم القيامة، فهو إمام الأئمة، وهو الإمام الأعظم، فمن آمن به من أتباع الأنبياء فقد آمن بهم، ومن لم يؤمن به فلم يؤمن بواحد منهم، ومصداق ذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: 81]. وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه عمر بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه: "والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني". أيها السادة: إن الإسراء والمعراج حادثان من أبرز الحوادث في السيرة المحمدية الشريفة، وقد دُعيت لأن أتحدث إليكم في شأنهما، وما أراني أهلًا لهذا المقام الخطير، ولكني على ثقة من إغضائكم عن قصوري وتقصيري عفوًا منكم وفضلًا. والكلام في شأنهما يدور على أنحاء شتى من القول، أوقن أني عاجز عن الإحاطة بها واستيعابها، وحسبي أن أقصر قولي على النحو الذي أرجو أن يكون لي به علم، والذي أظن أنه لي به علم شيء من الاختصاص، وهو البحث في إثباتهما من الوجهة التاريخية، وأعني بذلك الوجهة الحديثية؛ إذ إن نسبة أي قول أو فعل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يدخل على المحدث، وهو الذي يرجع إليه في إثباته أو نفيه، بعد

تحديد موضوعات العلوم وخصوص كل صنف من العلماء بما أحسنوه من العلم. والقواعد التي سار عليها علماء هذا الفن - فن الحديث - هي أصح القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها وأدقها، وإن أعرض عنها كثير من الناس وتحاموها بغير علم ولا بينة، بل إنا لنجد بعض الباحثين يعرضون لإثبات الأحاديث ونفيها بآرائهم وأهوائهم، فمهما رأوا من شيء نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان موافقًا لرأي ينصرونه فهو الحديث الصحيح عندهم، وإن كان مكذوبًا موضوعًا، ومهما رأوا من حديث صحيح ثابت وكان مخالفًا لما تنصره أهواؤهم فهو الحديث الضعيف أو المكذوب، وإن كان إسناده من أقوى الأسانيد وأصحها وأثبتها عند العارفين بها، ولعلهم لم يقرؤوا طول حياتهم إسنادًا صحيحًا أو ضعيفًا، ولم يعلموا قليلًا ولا كثيرًا مما بذله علماء الحديث من الجهد في التحري والتوثق والتتبع لأحوال الرواية وألفاظ الأحاديث ومعانيها، وما ألفوا في ذلك من الدواوين الكبار والمعاجم الموسوعة من منتصف القرن الثاني للهجرة إلى أوائل القرن العاشر. أيها السادة: قد عني المسلمون بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعنَ به أمة قبلهم؛ فحفظوا القرآن ورووه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواترًا، آية آية، كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، حفظًا في الصدور، وإثباتًا بالكتابة في المصاحف، حتى رووا أوجه نطقه بلهجات

القبائل، ورووا طرق رسمه في الصحف، وألفوا في ذلك كتبًا؛ لو حدثتكم عن شيء منها لأخذكم العجب، ولعل بعضكم يكون أعلم بها مني، وحفظ المسلمون أيضًا عن نبيهم كل أقواله وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه والمبين لشرعه والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله بيان للقرآن. وهو الرسول المعصوم والأسوة الحسنة، اسمعوا قوله - تعالى - في صفته: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. [النحل: 44]، وقوله أيضًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول، فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلّا حق". ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا الأحاديث عنه، وبعضها متواتر: إما لفظًا ومعنى، وإما معنى فقط، وبعضها مشهور، وبعضها بالأسانيد الصحيحة الثابتة، مما يسمى على قواعد المصطلح: الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا في دينهم بغير هذه الأنواع التي لا يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر. وقد بين الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم هذه الأنواع في كتاب

المِلَل والنِّحَل، وقال عن النوع الأخير - المسمى عند علماء المصطلح بالآحاد -: إنه هو ما رواه الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان، على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكوافّ، إما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وإما إلى الصاحب، وإما إلى التابع، وإما إلى إمام أخذ عن التابع، يعرف ذلك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن، والحمد لله رب العالمين. وهذا نقل خص الله - تعالى - به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه عندهم غضًّا جديدًا حديثًا على قديم الدهور منذ أربعمائة وخمسين عامًا، في المشرق والمغرب والجنوب والشمال، يرحل في طلبه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم إلى الآفاق البعيدة، ويواظب على تقييده، قد تولى الله - تعالى - حفظه عليهم والحمد لله رب العالمين، فلا تفوتهم زلة في كلمة فما فوقها في شيء من النقل إن وقعت لأحدهم، ولا يمكن فاسقًا أن يقحم فيه كلمة موضوعة، ولله تعالى الشكر. أيها السادة: هذه صورة مصغرة، بل لمحة خاطفة على المجهود الهائل الذي بذل سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - للمحافظة على آثار نبيهم - صلى الله عليه وسلم - طاعة لما أمر به أصحابه في حجة الوداع: "أَلَا فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ

الغائبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِن سامِعٍ". أفيجوز بعد ذلك لكل من ركب رأسه، وأعجبه عقله، ورضي عن نفسه، أن يقول هذا حديث صحيح وهذا حديث غير صحيح؟ ! أولا يعلم أنه حين يردُّ حديثًا صحيحًا - إما بنفي ثبوته وإما بتأويله عن غير وجهته - يرمي رجالًا من الثقات الأثبات والعلماء الحافظين، بأنهم كاذبون أو جاهلون، وهو لا يعرف شيئًا من أخبارهم ولا أحوالهم، وأنه يرميهم في دينهم وأمانتهم وصدقهم، وأنه حين يرضى عن حديث مفترى؛ فيزعم أنه صحيح ثابت، يشارك من افتراه في فريته، ويدخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين". أيها السادة: أرجو أن تعذروني إذا أطلت القول في ذلك؛ فإنه بسبيل مما نعرض من إثبات حديث الإسراء والمعراج، ولأن الجرآء من الناس استرسلوا في العبث بالسنة الشريفة عدوًا وبغيًا. فلم يكتفوا بتكذيب الرواة الثقات والأئمة الأثبات، بل زادوا عدوانًا وطغيانًا، اجترؤوا على تكذيب بعض أصحاب رسول الله - عليه الصلاة والسلام - وهم رسله إلى من بعدهم، والأمناء على دينه وشريعته، وهم الذين أثنى الله عليهم في القرآن بما لم يثن على غيرهم من أصحاب الأنبياء، وهم السابقون المقربون، رضي الله عنهم ورضوا عنه.

أيها السادة: إن حديث الإسراء والمعراج من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وقد جاء بروايات كثيرة متواترة، منها المطول ومنها المختصر، ألفاظه مختلفة، وكلها تدل في مجموعها على صحة هذه الحادثة وعلى ثبوتها التاريخي، مما يسميه العلماء (التواتر المعنوي) وقد ورد من حديث أنس بن مالك، ومن حديث غيره من الصحابة، ونقل الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 243) عن الحافظ أبي الخطاب عمر ابن دِحْية أنه ذكره من حديث أنس، ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصة وأبي هريرة وأبي سعية وابن عباس وشداد بن أوس وأبيّ بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حية وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة، وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم أجمعين، منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد. وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة والملحدون: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} [التوبة: 32]. فهؤلاء ستة وعشرون صحابيًّا رووا حديث الإسراء، وقد جمع الحافظ ابن كثير أكثر رواياتهم بأسانيدها

في تفسيره (ج 5، ص 197 - 243) على معرفة مواطنها من كتب الحديث الصحاح الستة وغيرها، وسأحدثكم ببعض الروايات الصحيحة فيها: روينا بالإسناد الصحيح المتصل عن إمام المحدثين أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل في مسنده قال: حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُتيت بالبراق، وهو دابة أبيض، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، وقال جبريل: أصبت الفطرة. ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: ومن أنت. قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: ومن أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. قال: ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد - صلى الله عليه وسلم -. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف

- عليه السلام - وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: قد أرسل إليه؟ قال: وقد أرسل إليه. ففتح الباب، فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير. [قال] ثم يقول الله - عز وجل -: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57] ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بهارون، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بموسى، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها. قال: فأوحى الله - عز وجل - إلي ما أوحى، وفرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى

موسى، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قال: قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي - عز وجل - فقلت: أي رب خفف عن أمتي. فحَط عني خمسًا، فرجعت إلى موسى، فقال: ما فعلت؟ قلت: حط عني خمسًا. قال: إن أمتك لا تُطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: ولم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمسًا، حتى قال: يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكلٍّ عشر، فتلك خمسون صلاة، ومَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، فإن عملها كتبت عشرًا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئًا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد رجعت إلى ربي حتى لقد استحييت". هذه الرواية إحدى روايات الحديث، وهي أجودها وأنقاها، وقد رجحها كثير من الحفاظ على غيرها، وإن كان فيها شيء من الاختصار في بعض المواضع، وقد رواها مسلم بن الحجاج في صحيحه (1 - 99): حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك. وإسنادها من الأسانيد التي نص أئمة الحديث على أنها أصح الأسانيد، وروى الإمام أحمد أيضًا

عن عبد الرزاق عن عمر عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بالبراق ليلة أسري به ملجمًا ليركبه، فاستصعب عليه، وقال جبريل: ما يحملك على هذا؟ والله ما ركبك أحد قط أكرم على الله - عز وجل - منه. قال: فارفضَّ عرقًا. وروي أيضًا بنفس هذا الإسناد عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل، ما هذان؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات". وهذان أيضًا حديثان صحيحان رواتهما أئمة ثقات إثبات. أيها السادة: ومما ورد من الأحاديث الصحيحة ما رواه الإمام أحمد، ومسلم في صحيحه من طريق معمر عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام". فنعته النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رجل ضَرِب، رَجِل الرأس كأنه من رجال شنوءة". قال: "فلقيت عيسى". فنعته النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني حمامًا -". قال: "ورأيت إبراهيم - صلوات الله عليه - وأنا أشبه ولده به". قال: "فأُتيت بإناءين في أحدهما لبن، وفي الأخرى خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت. فأخذت اللبن فشربته، فقال: هديت الفطرة - أو أصبت الفطرة - أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك".

وروى الإمام أحمد من طريق عوف الأعرابي عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما كان ليلة أُسري بي وأصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي". فقعد معتزلًا حزينًا. قال: فمر به عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، وقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". قال: ما هو؟ قال: "إنه أسري بي الليلة". قال: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: "نعم". قال: فلم يُرِ أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي. فانتفضت إليه المجالس، وجاؤوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدِّث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أسري بي الليلة". قالوا: إلى أين؟ قلت: "إلى بيت المقدس". قالوا: ثم أصبحت بين ظَهْرَانَيْنَا؟ قال: "نعم". قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبًا للكذب زعم". قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت". قال: "فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه، حتى وضع دون دار عقال - أو عقيل - فنعتُّه وأنا أنظر إليه" قال: "فقال القوم: أما النعت، فوالله لقد أصاب".

وهذا - أيها السادة - حديث صحيح، أسنده رجال ثقات أثبات، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة والنسائي والبزار والضياء في المختارة وغيرهم، وجاء هذا المعنى عن جابر بن عبد الله مختصرًا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر، فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه". رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والطبري في تفسيره. وقال الحافظ: الثقة محمد بن سعد في كتاب الطبقات الكبير (ج 1 - ق 1 - 144 - 145): أخبرنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربًا ما كربت مثله قط، فرفعه الله إلي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب، جعد، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي، أقرب الناس به شبهًا عروة ابن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة، قال لي قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار فسلم عليه. فالتفتُّ إليه فبدأني بالسلام".

وهذا أيضًا حديث صحيح ثابت، رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب عن حجين بن المثنى شيخ ابن سعد فيه. هذا قليل من كثير مما ورد من الأخبار الصحيحة في الإسراء والمعراج، وكلها تدل دلالة صريحة واضحة عن أن الإسراء والمعراج كانا بشخصه الكريم - صلى الله عليه وسلم - أي بجسده وروحه، ولا يفهم منها سامعها غير ذلك، وقد بدا لبعض المتأولين من المتقدمين والمتأخرين أن يتأولوا كل النصوص، ويفهموا منها أن الإسراء والمعراج كانا بروحه فقط، وزعم بعضهم أن ذلك كان رؤيا في المنام، ولا تجد لواحد من هذين الفريقين دليلًا يعتمد عليه في نقل دلالة الأخبار عن ظاهرها وصريحها، وهو مدلولها الحقيقي في وضع اللغة، فإنما التأول نوع من المجاز الذي لا يصار إليه في الكلام إلا بدليل أو قرينة واضحة. نعم، قد تجد حديثين عن عائشة ومعاوية، يفهمان أن الإسراء لم يكن بجسده الشريف، وهما حديثان ليسا مما يحتج بمثلهما أهل العلم بالحديث، وقد رواهما ابن إسحاق في السيرة، قال: حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الله أسرى بروحه. وقال: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية ابن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت رؤيا من الله صادقة. قال ابن إسحاق عقيب ذلك: فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن: هذه الآية نزلت في ذلك، [يعني] قول الله

- عز وجل -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. ولقول الله - عز وجل - في الخبر عن إبراهيم عليه السلام، إذ قال لابنه: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] ثم مضى على ذلك، فعرفت أن الوحي من الله يأتي الأنبياء أيقاظًا ونيامًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني يقول: "تنام عيني وقلبي يقظان". فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله، على أي حاليه كان: نائمًا أو يقظانًا، كل ذلك حق صدق. هذا كلام ابن إسحاق الذي نقله عنه ابن هشام في تهذيب سيرته، وهو ظاهر في أن ابن إسحاق لما رأى كلمتي عائشة ومعاوية تردد في أنه كان في اليقظة أو في النوم، ولم يستطع أن يجزم بشيء، ولكنه لم يستطع أيضًا أن ينفي ما دلت عليه الأخبار أن ذلك كان يقظة عيانًا بروحه وجسده - صلى الله عليه وسلم -. أيها السادة: إن كلمة ابن إسحاق واستدلاله بخبرَي عائشة ومعاوية - في غالب رأينا - هي أول ما نقل عن العلماء المتقدمين من الخلاف في هذه المسألة، ثم جاء بعد من جَزم بما تردد فيه، واستدلال ابن إسحاق بهذين الخبرين غير جيد، فإنهما خبران ضعيفان ليس لهما إسناد صحيح، وقد أطلت البحث عنهما فلم أجد لهما إسنادًا غير ما ذكر ابن إسحاق، أما خبر معاوية، فإنه منقطع؛ لأن راويه يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس لم يدرك معاوية، ولم يدرك أحدًا من

الصحابة أصلًا، وإنما يروي عن التابعين فقط، ومات سنة 128، ومعاوية مات سنة 60، وأما حديث عائشة فإنه كما ترون لا إسناد له؛ لأن قول ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبي بكر. إيهام للراوي، فلا نعرف منه من الذي حدثه، وهل هو ثقة أو ليس بثقة؟ وهل أدرك عائشة أو لم يدركها؟ فكلا الحديثين منقطع الإسناد، مجهول الراوي، لا يحتج بمثله عند أهل العلم. وقد نقل الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره قول ابن إسحاق، ثم رده أبلغ رد؛ فقال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله، حمله على البراق حتى أتاه وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه من الآيات. ولا معنى لقول من قال: أسري بروحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن فيه ما يوجب أن يكون دليلًا على نبوته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه؛ إذ لم يكن منكَرًا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل؟ ! وبعد: فإن الله أخبرنا في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزًا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره، ولا دلالة تدل على أن مراد الله من قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ}.

[الإسراء: 1] أسرى بروح عبده، بل الأدلة الواضحة والأخبار المتتابعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله أسرى به على دابة يقال لها البراق، ولو كان الإسراء بروحه، لم تكن الروح محمولة على البراق؛ إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجسام، إلا أن يقول قائل إن معنى قولنا أسرى بروحه، رأى في المنام أنه أسري بجسده على البراق، فيكذب حينئذ بمعنى الأخبار التي رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل حمله على البراق؛ لأن ذلك إذا كان منامًا - على قول قائل هذا القول - ولم تكن الروح عنده مما تركب الدواب، ولم يحمل على البراق جسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوله حُمل على البراق، لا جسمه ولا شيء منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين، وذلك دفع لظاهر التنزيل، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءت به الآثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين. اهـ. أيها السادة: هذا ما قاله الطبري في الرد على ابن إسحاق، وقد رأيتم وهن حجته فيما روى عن عائشة ومعاوية، وقد جاء عن عائشة ما يخالف رواية ابن إسحاق، فروى الحاكم في المستدرك من طريق إبراهيم بن الهيثم البلدي عن محمد بن كثير الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه

أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أَوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك، فقد صدق. فقالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق. وقد رواه البيهقي، عن الحاكم فيما نقله الحافظ ابن كثير، ورواه أيضًا ابن الأثير في أسد الغابة، بإسناده من طريق المفضل بن غسان عن محمد بن كثير الصنعاني، وهذا إسناد صحيح صححه الحاكم ووافقه الحافظ الذهبي، وهو ينقض رواية ابن إسحاق المجهول إسنادها؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - تروي أن خبر الإسراء كان من أثره أن كذب من كذب، وارتد من ارتد، وأن أباها الصديق - رضي الله عنه - صدق الخبر وأبان عن حجته في التصديق، فلو كانت ترى أن ذلك كان بالروح، أو أنه كان منامًا لما كان هناك معنى عندها للتصديق والتكذيب، ولا فتنة يفتن بها من ضعف يقينه فيرتد عن دينه؛ إذ كان لا غرابة فما يراه النائم، وإذ كان العرب يصدقون الكهان فيما يخبرونهم به عما غاب عن أبصارهم، فلم يكن لهم أن يكذبوا رجلًا يحدثهم عن رحلة روحية تكون أقرب إلى خيالات الأوهام إذا فهموا من كلامه أنه إنما أسري بروحه ثم عرج بها إلى السماء، وإنما المفهوم الواضح أنهم يكذبون من يحدثهم بشيء يرونه غير داخل تحت قدرة البشر، وشيء يعجز الإنسان بجسمه وعقله وبروحه أن يقوم به وحده.

أيها السادة: قد اجترأ بعض الباحثين من المتقدمين والمتأخرين، فجزموا بما تردد فيه ابن إسحاق، وزعموا أن الإسراء كان بالروح، أو كان منامًا، ولم ينتبهوا إلى أنه لو كان ما زعموا صحيحًا لما جعله الله سبحانه من آيات النبوة لنبيه، ولما أثنى على نفسه بهذه المعجزة الباهرة؛ إذ قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1]. ومن الغرائب أنهم احتجوا بما نقله من غير إسناد عن عائشة، ثم أخطؤوا في نقلهم خطأ ينقض حجتهم، فإن رواية ابن إسحاق عنها: ما فُقد جسد رسول الله. بالبناء للمجهول، فنقلوها: ما فقدت جسد رسول الله. فجعلوا حجتهم تحمل معول هدمها؛ لأن الثابت الصحيح أن الإسراء كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، ولم تكن عائشة إذ ذاك تزيد سنها على السابعة، ولم تكن في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يدخل بها إلا في المدينة بعد الهجرة، فليس من المنطق السليم أن يحكى عن لسانها أنها تقول: ما فقدت جسد رسول الله. أيها السادة: نقل بعض المؤلفين عن الحسن بن أبي الحسن البصري القول؛ بأن الإسراء كان منامًا، وهذا أيضًا نقل خاطئ؛ فإنه لم يرو عنه هذا

القول بأي إسناد، والذي يبدو لي أن الذين نقلوا عنه هذا القول قرؤوا كلام ابن إسحاق وفهموه على غير وجهه؛ لأنه نقل روايتي عائشة ومعاوية، ثم احتج لتأييدهما بأنه لم ينكرهما أحد؛ لأن الحسن قال: إن قوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. أنزل في ذلك، أي؛ الإسراء والمعراج، فهو يريد الاحتجاج بكلمة (الرؤيا) لغلبة استعمالها فيما كان منامًا، وبأنه إذا كانت الآية نزلت في هذه الحادثة كان ذلك لا ينفي قول من زعم أن الإسراء والمعراج لم يكونا في اليقظة، ففهم بعض من قرأ قوله: أنه ينقل عن الحسن ما يوافق كلمتي عائشة ومعاوية، وهذا فهم خطأ يظهر خطؤه واضحًا لمن تأمل سياق الكلام ومعناه. وقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. نزل في شأن الإسراء والمعراج على القول الراجح عند العلماء، ولكن احتجاج ابن إسحاق بذلك لتأييد كلمتي عائشة ومعاوية غير جيد؛ لأن الرؤيا تستعمل أيضًا في الرؤية بالعين، ففي لسان العرب: قال ابن بري: وقد جاءت الرؤيا في اليقظة: قال الراعي: فكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشر نفسًا كان قبل يلومها وعليه فسر قوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. وعليه قول أبي الطيب: ورؤياك أحلى في العيون من الغمضِ

وقد روى الإمام أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به إلى بيت المقدس، وليست برؤيا منام. وفي لفظ: شيء أريه النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة، رآه بعينه حين ذُهب به إلى بيت المقدس. وليس أصرح من هذا نص ولا أقوى منه حجة؛ لأن ابن عباس - وهو ترجمان القرآن - يفسر به الآية، ويرى أن الإسراء كان في اليقظة، وينقل - وهو العربي القرشي الهاشمي الفصيح - أن كلمة الرؤيا تكون وهي لغة القرآن بمعنى الرؤية. أيها السادة: لما طغت على أوروبا موجة الإلحاد، وارتكس أهلها في عبادة المادة، بعد أن كانوا في ظلمات من الجهالة في دينهم ودنياهم، حتى سموا الحقبة الماضية من تاريخها - حقبة القرون الوسطى - بالعصور المظلمة، ثم ملكوا زمام الصناعات بما فتح لهم من زهرة الدنيا وزينتها، وكانت الأمة الإسلامية قد تخاذلت شعوبها ودب فيها الضعف والانحلال، بما تركت من دينها، وما نسيت من مجدها، وكانت أوروبا لم تنس هزيمتها أمام المسلمين في الحروب الصليبية، انتهزت هذه الفرصة وزحفت على بلاد الإسلام تفتحها بالسيف والمادة، وتفتح عقول أبنائها بعلوم الدنيا، وتنزع منها علوم الدين، وتتغلغل في معتقداتهم لتسلَّها من قلوبهم بما ملك رجالها من السلطان على تربية أبناء المسلمين، وبما وضعوا عليه أيديهم من

شؤون الحكومات، وبما احتكروا من طرق التكسب الحر، واستغلوا الضعف الإنساني بالحاجة إلى طلب العيش، فأخرجوا لنا من صنع أيديهم رجالًا مسلمين تأبى نفوسهم أن تسلم بكثير من عقائد الإسلام، وما ورد في الكتاب والسنة، ويستنكرون بعض التشريعات الإسلامية بخصوصها في الحدود والربا وحجاب النساء والزواج والطلاق والمواريث والأوقاف، وهم يوقنون بأنهم مسلمون، ولا ترضى قلوبهم وضمائرهم أن ترتطم في لجة الردة من الإسلام، فترى فيهم حالة نفسية شاذة، وحيرة روحية غريبة، لا مخلص لهم منها ولا نجاة، ويمنعهم التكبر العلمي أن يخضعوا تفكيرهم لما يخالف ما نشأ عليه معلموهم خطوة خطوة، فلا يجدون أمامهم ليقنعوا أنفسهم ويرضوا ضمائرهم، إلا أن يتأولوا مخالف آرائهم من نصوص القرآن وظواهره، سواء احتملت التأويل أم لم تحتمل، وكان شأنهم في السنة عجبًا، فمنهم من يرفضها كلها ويريد أن يقنع الناس - قبل أن يقنع نفسه - بتكذيب كل الرواة وبوضع كل الأحاديث، ومنهم من يتأول ما أمكنه تأوله ثم يرفض سائرها. أيها السادة: كان من آثار هذه التعاليم ومن نتائج هذه الحيرة في كثير من المتعلمين ما ترون من التهالك على التجديد في الدين - زعموا - ومن محاولة إنكار وجود الملائكة والجن، وتأول النصوص الواردة في ذلك، ومن محاولة إنكار الخوارق الكونية التي جعلها الله - سبحانه -

معجزات أيد بها أنبياءه ورسله إلى الناس، بتأويلها إلى ما يخرجها عن وجه الإعجاز ويدخلها تحت مقدور الإنسان، ومن إنكار كل المعجزات الكونية التي أيد الله بها نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والتي ثبتت عند المسلمين بالتواتر طبقة عن طبقة، مما لا يحتمل الشك أو التردد فضلًا عن تكذيبه كله تحكيمًا للعقل فيما يظنون. أيها السادة: إن العالم ليس محصورًا فيما يقع تحت الحس الإنساني فقط، ومن زعم ذلك فقد حد من قدرة الله، بل إنه لم يؤمن به؛ ولذلك وصف الله المتقين بأنهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]. أي يؤمنون بما أخبرهم به الأنبياء مما خرج من إدراك البشر بقواهم المحدودة، وقد أخبرنا الله - سبحانه - في كتابه بصريح القول أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه عُرج به إلى السماوات، وأشار الله - سبحانه - إلى ذلك في القرآن، اقرؤوا قوله - تعالى -: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 1 - 18].

فليس للمؤمن الذي يؤمن بالغيب مندوحة عن تصديق ما أخبر الله به ورسوله، وإن عجز عقله عن إدراك حقيقة ما آمن به وَكَّل علمه إلى عالمه، كالشأن في المتشابه من القرآن، يقول الله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7]. فمن حاول تأويل آيات الله التي أيد بها أنبياءه، فما زاد عن أنه يكذب بها وهو يظن أنه يستر تكذيبه. أيها السادة: إن الذين زعموا أن الإسراء والمعراج كانا بالروح أو منامًا من المتقدمين، إنما زعموا ذلك استدلالًا بأخبار رأوها في ذلك، وقد بينت لكم أنها أخبار ضعيفة وأن الاستناد إليها خطأ، وأما الذين يزعمون ذلك من المعاصرين، فإنما يدعون أن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم تكن له معجزة غير القرآن، وينكرون كل الأخبار المتواترة في المعجزات، ويظنون أن الإسراء والمعراج ينافيان ما اصطلحا على تسميته في هذا العصر (بالعلم)؛ لأن العلوم المادية لم تثبت قدرة الإنسان على نقل الأجسام بمثل هذه الصورة التي حكيت في حديث الإسراء والمعراج، وما أنا بمتعرض الآن لما يثبته العلم وما ينفيه، ولكني أسألهم: هل يؤمنون بما حكى الله في القرآن من قصة سليمان

مع ملكة سبأ؟ ! فقد أخبرنا الله - سبحانه - بما دار بين سليمان وبينها من المراسلة، ثم قال - تعالى -: {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 38 - 40]. فهذه حادثة لا تحتمل تأويلًا، استطاع فيها رجل من أصحاب سليمان - عليه السلام - بما علَّمه اللهُ من الكتاب، أن ينقل عرش الملكة من اليمن إلى الشام في مثل لمح البصر، ويؤمن بصحتها كل مسلم يصدق القرآن، وهي من نوع الإسراء والمعراج في نقل الأجسام، فماذا تسمون من يؤمن ببعض الآيات وينكر بعضها؟ ! أيها السادة: قد فشت بدعة منكرة في هذا العصر، وهي بدعة تأويل نصوص القرآن لتطابق ما يسمونه (العلم الصحيح أو العلوم الكونية) تقريبًا إلى متعلمي هذه العلوم، أو تملقًا إلى أساتذتهم المستشرقين، وهم طلائع المبشرين، وسواء عليهم أكانت هذه النظريات العلمية ثابتة بثبوت اليقين، أم كانت من الظنون التي يفترضها العلم افتراضًا ويرجحها؛ لأنه لا يوجد فرض آخر أرجح منها، وإنما الذي يهم هؤلاء المتأولين أن يسميهم الناس مجددين! ! ! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها السادة: لقد أطلت الكلام فيما عمدت إليه، وأحس أني قد أمللتكم، ومجال القول ذو سعة، وحسبي أن قد تفضلتم بالإصغاء إليَّ، وأستغفر الله لي ولكم. * * *

أهم تعقبات الشيخ أحمد محمد شاكر على دائرة المعارف

أهم تعقبات الشيخ أحمد محمد شاكر على دائرة المعارف

المادة: أسامة بن زيد بن حارثة

المادة: أسامة بن زيد بن حارثة الجزء: 2/ الصفحة: 78 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وكان أسامة يشبه أمه، فقد كان أسود أفطس الأنف، وتوكيد الروايات لحب النبي له يرجع من ناحية إلى الرغبة في التقليل من شأن بيت علي، ومن ناحية أخرى إلى إظهار أن النبي كان ديمقراطيًّا حقًّا بريئًا من التعصب للون". تعليق أحمد شاكر: هذه والتي قبلها دسيستان؛ ليشك الناس في صحة رواية الأحاديث، وليظن القارئ أن هذه الروايات إنما وضعها الراوون لمقاصد في أنفسهم، ومن الأسف أننا نرى كثيرين من الذين يسمون بأسماء المسلمين يغترون بمثل هذا الكلام، ويذهبون إلى مثل هذه الآراء، وإنما الأحاديث روايات صحيحة جاءت عن رواة موثوق بهم بعد أن فحصها أئمة الإسلام الكبار، وعرفوا الراوي الثقة والراوي الذي ليس بثقة، فقبلوا ما وثقوا به واطرحوا ما لم يحز عندهم شيئًا من الاطمئنان إليه. وقد تواترت الروايات عن أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكرمه وتواضعه ومساواته بين المسلمين، ويكفي في هذا أن يصفه الله الذي أرسله في القرآن الكريم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} - صلى الله عليه وسلم -.

المادة: استحسان

المادة: استحسان الجزء: 2/ الصفحة: 84 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن الاستحسان والاستصلاح: "ولم يتفق العلماء قط على أنهما من القواعد الصحيحة في أصول الفقه". تعليق أحمد شاكر: الاستحسان: اصطلاح فقهي عند علماء الأحناف، وقد اضطربت أقوالهم فيه كثيرًا، واختلف الفقهاء في جواز الأخذ به، وذهب الأكثرون إلى أنه دليل باطل لا يعتمد عليه، حتى قال الإمام الشافعي: "من استحسن فقد شرع". قال الشوكاني في إرشاد الفحول (ص 224 طبعة السعادة سنة 1327): "قال جماعة من المحققين: الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه؛ لأنهم ذكروا في تفسيره أمورًا لا تصلح للخلاف؛ لأن بعضها مقبول؛ اتفاقًا، وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقًا، وما هو مردود اتفاقًا، وجعلوا من صور الاتفاق على القبول قول من قال: إن الاستحسان العدول عن قياس إلى قياس أقوى. وقول من قال: إنه تخصيص قياس بأقوى منه. وجعلوا من المتردد بين القبول والرد قول من قال: إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه؛ لأنه إن كان معنى

المادة: استسقاء

قوله: "ينقدح" أي؛ يتحقق ثبوته والعمل به واجب عليه فهو مقبول اتفاقًا، وإن كان بمعنى أنه شاك فهو مردود اتفاقًا؛ إذا لا تثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك. وجعلوا من المتردد أيضًا قول من قال: إنه العدول عن حكم الدليل إلى حكم العادة لمصلحة الناس. فقالوا: إن كانت العادة هي الثابتة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت بالسنة، وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة من غير إنكار فقد ثبت بالإجماع. وأما غيرها؛ فإن كان نصًا أو قياسًا مما ثبت حجيته فقد ثبت ذلك به، وإن كان شيئًا آخر لم تثبت حجيته فهو مردود قطعًا". وقد أطال الإمام الشافعي الكلام في إبطال الاستحسان والرد على القائلين به، وألف فيه رسالة خاصة موجودة ضمن كتاب (الأم) (ج 7، ص 267 - 277) وانظر في هذا البحث حاشية ابن عابدين على شرح المنار في الأصول طبعة الآستانة سنة 1300 (ص 244 - 245) وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب طبعة الخيرية سنة 1319 (جـ 2 ص 288 - 289). المادة: استسقاء الجزء: 2/ الصفحة: 92 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن الطقوس والشعائر التي يستنزل بها المطر في البلاد الإسلامية: "وتختلف الطقوس والشعائر في البلاد الإسلامية، وهي جميعًا

- حتى ما ورد منها في السنة - متشبعة بالسحر والروحانيات، ويمكن جمعها في عدة معان: الاعتقاد في كرامات الأولياء، والآلام الجسدية والمعنوية التي يفرضها المؤمنون على أنفسهم، والصيغ والأغاني والتراتيل والشعائر المتصلة بنوع من التقديس للمطر، وتسمى في اللغة البربرية (غنجة) أو ما يشابهها، ثم تقديم الضحايا والقرابين، والإتيان بأفعال رمزية يقصد التقرب بها إلى الله". تعليق أحمد شاكر: هذا كلام غريب، وما كنا نظن أن رجالًا يزعمون لأنفسهم صفة العلم التي تُنقي الإنسان من أدران العصبية يفترون على الإسلام هذه الأقاويل، فليس في شعائر صلاة الاستسقاء التي وردت في الأحاديث والتي قال بها أئمة الإسلام شيء من السحر أو مما يمت إليه بأية صلة، وإنما هي عبادة شرعها الله سبحانه لعباده المؤمنين: يتضرعون إليه فيها عند الشدة، ويخرجون إلى ربهم متبذلين خاشعين يسألون من فضله ويرجون رحمته، وهذه عاطفة طبيعية في كل نفس إنسانية، بل تراها في الحيوان أيضًا. وليس في شعائر هذه الصلاة شيء من الأغاني والتراتيل، وليس إلا الصلاة والدعاء - مع تحويل الرداء عنده - والاستغفار والخشوع. ويظهر أن الكاتب تأثر بما في بعض الأديان الأخرى من الأغاني والتراتيل، ولو سمحنا لأقلامنا أن تتعرض لشعائر الأديان الأخرى - كما فعل كاتب هذا المقال - لأظهرنا الفرق بين الإسلام

المادة: استصحاب

وبين غيره في هذا المعنى، ومن الغريب جدًّا إشارة هذا الكاتب إلى الضحايا والقرابين في الاستسقاء فهو أمر لا نعرفه ولا يقول به أحد من المسلمين. مصادر أخرى: (1) المحلى لابن حزم جـ 5 ص 93 - 94. (2) المجموع للنووي جـ 5 ص 63 - 68. (3) نيل الأوطار للشوكاني جـ 4 ص 26 - 43. المادة: استصحاب الجزء: 2/ الصفحة: 94 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن حجية الاستصحاب: "ولا يعترف الأحناف بالاستصحاب إلا في حالة الحق المكتسب، أما الشافعية فيقولون بالاستصحاب حتى عندما يتعلق الأمر بحقوق جديدة، فالغائب مثلًا لا يجعله الأحناف وارثًا شرعيًّا لميراث حل في غيبته، أما الشافعية فيقولون بحقه في الميراث؛ لأنهم يرون أن هذا الغائب يستطيع في غيبته الحصول على حقوق جديدة". تعليق أحمد شاكر: إطلاق القول بأن الاستصحاب حجة عند الشافعية غير موافق للمعروف؛ فإن الاستصحاب حجة عند الإمام مالك والإمام أحمد

المادة: إسماعيل

وعند بعض علماء الشافعية؛ مثل المزني والصيرفي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم. ولبعض علماء الحنفية تفصيل طويل في الأخذ ببعض صوره وعدم الاحتجاج بالبعض الآخر. المادة: إسماعيل الجزء: 2/ الصفحة: 171 جاء في دائرة المعارف الإسلامية الإسلامية: " .. وتعرف الروايات الإسلامية تلك القصة التي وردت في سفر التكوين (الإصحاح 22) غير أن كثيرًا من علماء الدين يؤكدون أن الذبيح كان إسماعيل وليس بإسحاق .. ". تعليق أحمد شاكر: القول الراجح عن أئمة الإسلام وعلمائه أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأنه هو أول ولد بشر به إبراهيم، وهو أكبر من إسحاق، وقد أمر إبراهيم بذبح "وحيده" وفي بعض روايات أهل الكتاب "بكره" وهذا لا يصدق إلا على إسماعيل؛ لأن إسحاق ولد بعد إسماعيل بأكثر من عشر سنين. قال الإمام الحافظ ابن كثير في تفسيره (ج 7 ص 146): "وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أيضًا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلمًا من غير حجة، وهذا كتاب

المادة: الأشعث

الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل؛ فإنه ذكر البشارة بغلام حليم وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)} [الصافات: 112]. ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]. أي؛ يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل، ولا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير؛ لأن الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرًا؟ وإسماعيل وصف ها هنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام". اهـ. المادة: الأشعث الجزء: 2/ الصفحة: 217 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: " .. وهزمت جيوش المسلمين الأشعث فلجأ إلى حصن النجير، ولما رأى استحالة نجاته من أيديهم صالحهم بعد أن أمنوه وتسعة من أتباعه على حياتهم وسلم لهم الحصن، ويروى أنه نسي أن يذكر اسمه الصحيح في عقد الأمان، فتعرض بذلك للقتل". تعليق أحمد شاكر: قيل: إن الأشعث نسي أن يكتب نفسه في عهد الأمان. وقيل: إنه آثر رجالًا غيره حتى استوفى العدد المحدود للأمان، فلم يجد

المادة: أضحى

لاسمه موضعًا. انظر معجم البلدان (مادة النجير) وتاريخ الطبري (جـ 3 ص 275 طبعة مصر). المادة: أضحى الجزء: 2/ الصفحة: 291 جاء في دائرة المعارف الإسلامية في بيان بعض أحكام الضحية في الإسلام: "ولا شك في أن الشرع لا يفرض الضحية على أحد إلا إذا اضطره إلى ذلك نذر أو إثم، وكانت الأنعام التي تساق للهَدْي في هذا العيد تجعل لها علامة بأن تقلد بالنعال القديمة أو بأن يشرّط جلدها". تعليق أحمد شاكر: هذا ليس في الضحية، وإنما هو في الهدي الذي يسوقه المحرم بالحج أو العمرة من الحل إلى الحرم، وكان إشعاره بالدم أو تقليده أمارة على أنه مساق ومهدى للبيت الحرام فلا يعتدى عليه. المادة: اقتباس الجزء: 2/ الصفحة: 457 جاء في دائرة المعارف الإسلامية في بيان معنى (الاقتباس): "وفي كتاب (أساس الاقتباس) لاختيار الدين المتوفى عام 928 هـ

المادة: إقرار

(بروكلمان جـ 2، ص 103) جعل الاقتباس يشمل الأمثال والأشعار والحكايات القصيرة". تعليق أحمد شاكر: وهذا أيضًا ليس مطابقًا تمامًا للمراد من المعنى الاصطلاحي، بل إن مؤلف الكتاب - وهو مطبوع في الآستانة سنة 1298 ثم طبع بمصر - أتى فيه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم من الشعر والنثر ونحو ذلك؛ فهو مجموعة أدبية مقتبسة من أصول الأدب، بمعنى الاقتباس اللغوي فقط. المادة: إقرار الجزء: 2/ الصفحة: 464 جاء في دائرة المعارف الإسلامية في ذكر بعض فروع (الإقرار): "ولا قيمة للإقرار ببنوة أبناء السفاح في الشريعة الإسلامية، وإذا شُكّ في أبوة ابن شرعي وجاء الزوج وأقر صراحة بأبوة هذا الابن فلا حاجة بعد هذا الإقرار إلى دليل آخر، ويجب ألا يكون الإقرار مخالفًا للواقع أو الشرع، وفي حالات أخرى يمكن أن يثبت نسب شخص بالإقرار دون حاجة إلى دليل آخر، مثال ذلك إذا أقر مسلم رشيد أن شخصًا ما هو أبوه أو أخوه أو عمه، وإذا كانت القرابة المزعومة تتصل بشخص ما وكان هذا الشخص على قيد الحياة، وجب عليه أن يوافق على الإقرار إلا إذا كان عاجزًا عن ذلك لأنه قاصر أو معتوه".

تعليق أحمد شاكر: هذه الفروع المذكورة هنا هي مذهب علماء الحنفية في الأغلب، وعبارة الكاتب غير واضحة، ونص ما قاله الأحناف: "يصح إقرار الرجل بالولد، بشرط أن يكون المقر له بحال يولد مثله لمثله، وأن لا يكون المقر له ثابت النسب من غيره، وأن يصدق المقر له المقر في إقراره إذا كانت له عبارة صحيحة، وبالوالد إذا كان المقر يولد لمثله، وأن لا يكون المقر ثابت النسب من غيره، وأن يصدق المقر في إقراره إذا كانت له عبارة صحيحة، وبالمرأة إذا صدقته وكانت خالية عن زوج وعدة، وأن لا تكون تحت المقر أختها ولا أربع سواها ... ولا يصح إقراره بما عدا هؤلاء، نحو الأخ والعم والخال ومن أشبههم. وتفسير صحة الإقرار فيما يلزم المقر والمقر له من الحقوق، وفيما يلزم غيرهما، حتى إنه إذا أقر بالابن مثلًا، فالابن المقر له يرث مع سائر ورثة المقر، وإن جحد سائر الورثة نسبه، ويرث أيضا من أبي المقر وهو جد المقر له، وإن جحد الجد نسبه. وتفسير عدم صحة الإقرار بمن ذكرنا عدم اعتبار إقراره فيما يلزم غير المقر والمقر له من الحقوق، أما فيما يلزمهما من الحقوق فإقراره صحيح معتبر، حتى إن من أقر مثلا بأخ وله ورثة سواه يجحدون أخوته فمات المقر لا يرثه الأخ مع سائر ورثته، وكذلك لا يرث من أبي المقر إذا كان الأب يجحد نسبه، وإنما يستحق النفقة على المقر حال حياته". انظر الفتاوى الهندية (ج 4 ص 163).

المادة: الله

المادة: الله الجزء: 2/ الصفحة: 587 تعليق أحمد شاكر على مادة (الله) في دائرة المعارف: يبدو لمن قرأ هذا المقال أن كاتبه لم يطلع على الآيات القرآنية التي فيها أسماء الله وصفاته، وإنما أخذ أرقامها من الفهارس فقط، أو لعله قرأها ولم يتدبرها ولم يفقه معانيها، وقد يكون له في هذا شيء من العذر؛ فإنه يقرأ في لغة لم يتقنها ولم يمرن عليها لسانه ولا تفكيره، فلا يصل إلى شيء من أسرار معانيها وبلاغتها، أضف إلى ذلك سمو القرآن في عبارته إلى أعلى درجات البلاغة والإعجاز، مما كان سببًا في اختلاف كثير من علماء الإسلام: أهل اللغة وأبناء العربية. وظاهرة أخرى نشير إليها إشارة سريعة على مضض، وهي أن روح المقال يشعر منه القارئ بأن الكاتب لا يؤمن بالله ولا بشيء من صفاته المعروفة لأرباب الأديان السماوية؛ فهو ينقد كثيرًا من عقائد المسلمين التي تتفق مع عقائد اليهود والنصارى في صفات الله سبحانه وتعالى بعبارات فيها ألوان من التلاعب بالأفهام والعقول، وقد تكفل الكاتبون الكرام، والعلماء الكبار: السيد محمد عاشور الصدفي، والشيخ محمد حامد الفقي، والشيخ محمد أحمد عرفه، والأستاذ محمد جاد المولى بك، وهم الذين تفضلوا بالتعليق على هذا المقال؛ تكفلوا بنقد كثير من أخطاء الكاتب، وبيان وجه الحق فيما عمد إلى العدول به عن

وجهه الصحيح، فجزاهم الله أحسن الجزاء. وبقي مما هاجم به الكاتب الشريعة الإسلامية، أن عمد إلى أساس من أقوى دعائمها - وهو الأحاديث النبوية - يحاول هدمه بالتشكيك فيه. وقد كان الرأي تأخير هذا الرد ليكتب في موضعه، عند الكلام على الحديث، ولكن رأى إخواني أن أبادر بالكتابة في هذه المناسبة، احتياطًا من الأثر السيئ لكتابة الكاتب عند نشر أقواله باللغة العربية، وذيوع آرائه بين أبناء العروبة في مختلف الأقطار الإسلامية، وقد كان ضررها قاصرًا على من يقرأ الدائرة باللغات الأجنبية وحدها. لم يأت الكاتب بأي دليل يؤيد طعنه على صحة الأحاديث وثبوتها إلا رأيه ورأي أخ له هو المستشرق (جولدزيهر) ثم إثارة الشكوك بكلمات جوفاء لا طائل تحتها؛ كادعائه أن من الواضح أن هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أن تكون صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن محاولة وجود شيء في الحديث يمكن القطع بصحة نسبته إليه تاريخيًّا - محاولة فاشلة، وأن الفرق الإسلامية لما اختلفت في الآراء أخذ كل فريق منها يضع أحاديث يؤيد بها رأيه، وأن الأحاديث التي فيها مشابهة لما ورد في القرآن مشكوك فيها أيضًا، وكدعوى جولدزيهر: "أن الأحاديث ليست في الواقع إلا سجلًّا للجدل الديني في القرون الأولى، ومن ثم كانت قيمتها التاريخية، لكن هذا السجل مضطرب كثير الأغلاط التاريخية، وفيه معلومات

مضللة لم تؤخذ من مصادرها الأولى" إلى آخر ما ألقاه من دعاوي، وما أثاره من شكوك. وقد عني المسلمون بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة، بما لم تعن به أمة قبلهم، فحفظوا القرآن، ورووه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواترًا، آية آية، وكلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، حفظًا في الصدور، وإثباتًا بالكتابة في المصاحف حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في الصحف، وألفوا في ذلك كتبًا مطولة وافية، وحفظ المسلمون أيضًا عن نبيهم كل أقواله وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه والمبين لشرعه، والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله بيان للقرآن، وهو الرسول المعصوم، والأسوة الحسنة، قال تعالى في صفته: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4] وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وقال أيضًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق". ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا الأحاديث عنه، بعضها متواتر إما لفظًا ومعنى، وإما معنى فقط، وبعضها بالأحاديث الصحيحة الثابتة، مما يسمى الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا في دينهم بغير هذه الأنواع، التي لا

يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر. ومعنى "المتواتر" عند علماء المصطلح والأصول وغيرهم؛ أنه خبر يرويه جمع من الناس يمتنع اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب، عن جمع كثير مثلهم، وهكذا طبقة بعد أخرى، حتى يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يمكِّن أحدًا أن يشك في صحته وثبوته، اللهم إلا أمثال الكاتب من المستشرقين وأتباعهم، وهذا النوع من المتواتر كثير جدًّا في السنة، والقليل منه متواتر بلفظه ومعناه، وأكثره متواتر بالمعنى، كعدد الصلوات الخمس، وعدد الركعات في كل صلاة، ومثل كثير من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن حاول بعض الناس في هذا العصر إنكار المعجزات المادية. ومعنى "المشهور" أنه حديث يرويه رواة ثقات صادقون، طبقة عن طبقة حتى يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن لا يقل عدد الرواة في كل طبقة عن ثلاثة، وهذا أيضًا كثير جدًّا في السُّنة، باللفظ وبالمعنى، وفي الحقيقة أن المتواتر قسم من هذا النوع - المشهور - ولكنه أعلى أقسامه في الثبوت، فجعل نوعًا على حدة. وباقي الأحاديث الصحيحة بعد ذلك يسمى "آحادًا" في اصطلاحهم، وهو الحديث الذي رواه الراوي الثقة الصادق عن مثله طبقة بعد طبقة، حتى يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يخبر كل واحد من هؤلاء الرواة باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان، ليس في أحد منهم مغمز في دينه،

ولا مطعن في صدقه وأمانته، مع التحري والضبط لما رووه كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، وإن كان مرويًّا بالمعنى، ثم وصلت هذه الأحاديث الصحيحة، المعروف نقلتها، الموثوق برواتها، إلى أئمة هذا الفن الذين تفرغوا لدرسها ونقدها، فنقدوا أحوال الرواة وتراجمهم واحدًا واحدًا، ونفوا رواية كل من كانت روايته موضع شك، ومن كان صدقه وأمانته موضع ريبة، مهما ضؤلت، وجمعوا هذه الأحاديث في الكتب، ورواها الناس عنهم رواية مستفيضة منتشرة، تبلغ حد التواتر إليهم، وأكثر هذه الأحاديث منقول بنقل الكافة من الناس عن مثلهم إلى أن يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو داخل في المتواتر أو في المشهور، وإما إلى أحد، الصحابة، وإما إلى أحد التابعين، وإما إلى أحد الأئمة الأعلام الذين أخذوا عن التابعين أو الذين أخذوا عن أتباع التابعين، وكلهم موضع الصدق والثقة، لا مغمز في واحد منهم، وكما قال الإمام أبو محمد بن حزم: "هذا نقل خص الله تعالى به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه عندهم غضًّا جديدًا على قديم الدهور ... فلا تفوتهم زلة في كلمة فما فوقها في شيء من النقل، إن وقعت لأحدهم، ولا يمكن فاسقًا أن يقحم فيه كلمة موضوعة، ولله تعالى الشكر". وقد كتب في (الملل والنحل) فصلًا بديعًا طريفًا في هذا البحث، أفاض فيه القول كعادته (ج 2 ص 81 - 84)، وقارن فيه بين طرق الإثبات التاريخي لأسانيد الشريعة الإسلامية وبين طرق الإثبات لأسانيد غيرها، ولو

أردنا الدفاع عن شريعتنا بالهجوم على غيرها لنقلنا كلامه كله، ولكننا لا نرضى أن نسير في هذا الطريق. إن أئمة هذا الفن - في الحديث - احتاطوا أشد الاحتياط في النقل، فكانوا يحكمون بضعف الحديث لأقل شبهة في سيرة الناقل الشخصية، أما إذا اشتبهوا في صدقه، وعلموا أنه كذب في شيء من كلامه، فقد رفضوا روايته وسموا حديثه "موضوعًا" أو "مكذوبًا" وإن لم يعرف عنه الكذب في رواية الحديث، مع علمهم بأنه قد يصدق الكذوب. وكذلك توثقوا من حفظ كل راو، وقارنوا رواياته بعضها ببعض، وبروايات غيره، فإن وجدوا منه خطأ كثيرًا، وحفظًا غير جيد ضعفوا روايته، وإن كان لا مطعن عليه في شخصه، ولا في صدقه خشية أن تكون روايته مما خانه فيه الحفظ. وقد حرروا القواعد التي وضعوها لقبول الحديث، وحققوها بأقصى ما في الوسع الإنساني، احتياطًا لدينهم، ونفيًا للخطأ عن سنة نبيّهم، فكانت قواعدهم التي ساروا عليها أصح القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها وأدقها، وإن أعرض عنها كثير من الناس وتحاموها بغير علم منهم ولا بينة. ثم جمعوا هم ومن جاء بعدهم كل ما وصل إليهم من روايات في الحديث، صحيحة أو ضعيفة، مع بيان قوتها أو ضعفها في أكثر الأحوال، وبعضهم جمع في كتابه أحاديث صحيحة واقتصر عليها، كالبخاري ومسلم، رضي الله عنهما، وكتاباهما أصح الكتب ثبوتًا

بعد القرآن، وأحاديثهما لا شك في صحة شيء منها عند العلماء بهذا الشأن وبعض العلماء عني بجمع الأحاديث التي ثبت أنها مكذوبة على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ليحذر الناس منها. وجمعوا أيضًا كل ما وصل إلى علمهم من أسماء الرواة وأنسابهم وأحوالهم وتفاصيل تراجمهم؛ ليكون الباحث على بينة من بحثه في صحة الحديث، وألفوا في كل هذا الدواوين الكبار في مئات من المجلدات بل آلاف، مما لا تجد النزر اليسير منه عند أية أمة من سائر الأمم. أفبعد هذا العمل الضخم، والإنتاج الهائل العظيم يأتي أولئك المستشرقون ليسحروا أعين الناس، ويستهووا عقولهم، ويضعوا الغشاء على أبصارهم: فيزعموا أنه ليس في الإمكان التحقق من صحة أي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يثبتوا الأحاديث وينفوها بما تشتهي أنفسهم، وترضى عقائدهم، ثم يلقوا على السُّنة كلها ظلالًا من الشك والريبة، بالهوى والبهتان، وبغير برهان ولا دليل؟ ! إن المطلع على أقوال هؤلاء الناس يراهم يقبلون من الأحاديث أضعفها سندًا وأوهاها رواية، وافق رأيهم وهواهم، وإن كان في كتاب من كتب التاريخ أو السير أو غيرها بدون إسناد، ويحكمون بالكذب والوضع على أكثر الأحاديث الصحاح، بما أجمع المسلمون على صحته وثبوته، ولن تجد لهم قاعدة أو خطة يسيرون عليها في قبول الأحاديث أو رفضها، وكما ترى كاتب هذا المقال: يزعم أن

الأحاديث التي تجد فيها مشابهة لما ورد في القرآن مشكوك فيها! ! وهذا أقبح ألوان الافتراء، وأسقط أنواع الاستدلال، فإن المعقول الواضح أن الحديث الذي يوافق معنى القرآن، ويؤيده القرآن يكون معناه ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يثبت لفظه ولم يقم إسناده، ولكن القوم لا يرمون إلى التحقيق العلمي، والبحث العقلي وإنما يرمون إلى التشكيك، ثم إلى الشك. ومن الأمثلة الدالة على مقدار علمهم بإثبات الأحاديث ونفيها؛ أن كاتب مقال "أم الولد" الآتي في الدائرة، نقل حديثًا، ثم زعم أنه تأيدت صحته بما ورد في كتاب "كنز العمال" مع أن كنز العمال ليس كتابًا في رواية الحديث، بل هو مجموع لأحد المتأخرين من أهل الهند في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري، وهو نفسه كتاب "الجامع الكبير" للسيوطي المتوفى سنة 911 هـ ولكنه مرتب على الأبواب؛ لأن الجامع الكبير فهرس لأكثر كتب السنة، رتب مؤلفه الأحاديث على الحروف الهجائية في أوائل الألفاظ النبوية، وجمع فيه الصحيح والضعيف من غير بيان لقيمة كل واحد منها، ولكنه نسب الأحاديث إلى رواتها من كتب المحدثين، فهل يرى أي عاقل أن نقل الحديث في كنز العمال يؤيد نفس الحديث في مصدره الأصلي؟ ! . ثم ترى نفس كاتب مقال "أم الولد" يجزم بكذب أحاديث صحيحة، وبعضها في الصحيحين "البخاري ومسلم".

المادة: إمام

المادة: إمام الجزء: 2/ الصفحة: 614 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ويطلق على كل واحد من واضعي المذاهب الأربعة في الإسلام لقب (الإمام)، أضف إلى ذلك أن أبا حنيفة كان يعرف بين تلاميذه بالإمام الأعظم، ويطلق هذا اللقب كذلك على سوق بالقرب من بغداد كان اسمه أول الأمر الرصافة، وهو المكان الذي دفن فيه أبو حنيفة، ثم أصبح لفظ إمام يخلع على كل العلماء الذين وضعوا المذاهب المختلفة". تعليق أحمد شاكر: كلا، بل إن كلمة (الإمام) من الوجهة العلمية كانت تطلق على كل العلماء العظماء الذين يُقتدى بهم في الدين من المجتهدين، ومنهم الأئمة الأربعة وغيرهم، فلم تكن الكلمة خاصة بهم في أول الأمر، وإنما خصصت بهم أخيرًا بعد شيوع تقليد الأربعة، وصار ذلك اصطلاحًا خاصًّا عند بعض المتأخرين فقط. المادة: أمة الجزء: 2/ الصفحة: 631 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن كلمة (أمة) أنها دخلت لغة العرب في زمن متقدم بعض الشيء، ثم قال:

" .. ومهما يكن من شيء فإن محمدًا أخذ هذه الكلمة واستعملها، وصارت منذ ذلك الحين لفظًا إسلاميًّا أصيلًا". تعليق أحمد شاكر: يزعم كاتب المقال أن هذه المادة دخيلة في اللغة العربية، مأخوذة من العبرية أو الآرامية، وهذه دعوى عريضة يدعيها هؤلاء الناس دائما في كل كلمة عربية يوجد بمعناها كلمة في لغة أخرى وتتفقان في حرفين فأكثر، ولو بتقارب المخارج في الحروف أو مع التصحيف والتحريف، وما نراه بعيدا عنهم أن يدعوا مثل ذلك إن اتفقتا في حرف واحد! وليس من شك في أن الكلمة مستعملة في لغة العرب قبل الإسلام وقبل نزول القرآن، ومع ذلك فإن الكاتب خشي أن يسترسل في ادعائه، فرضي أن يقر باحتمال دخولها في لغة العرب "في زمن متقدم بعض الشيء! ! ". ومن الثابت تاريخيًّا أن اللغة العربية واللغة العبرية متشابهتان أو متقاربتان، ولم يمكن الجزم بأيتهما أسبق وأقدم من الأخرى فتكون المتأخرة فرعًا من السابقة، أو بأنهما كلتيهما فرعان من لغة أخرى أقدم منهما، فلا يسوغ الجزم في أية كلمة بأنها مأخوذة من إحدى اللغتين لأختها، وإن كنا نرجح أن العربية أسبق وأقدم من العبرية، ترجيحًا فقط. وقد كانت في جزيرة العرب أمة ضخمة، حينما جاء إبراهيم عليه السلام إلى مكة بأم ولده هاجر ومعهما ابنهما إسماعيل عليه السلام، (انظر قصص الأنبياء لأستاذنا الشيخ عبد الوهاب

المادة: أمة

النجار ص 136 - 137 من الطبعة الثانية). وقد كانت لهذه الأمة لغة قطعًا، وليس هناك دليل على أنها لغة أخرى غير العربية التي بقيت حية نامية متوارثة فيهم إلى عصر النبوة، ثم إلى عصرنا هذا، ثم إلى ما شاء الله، وما يدرينا لعل إبراهيم اقتبس كثيرًا من ألفاظ هذه اللغة إلى لغته حين كان يزور ابنه في مكة، ويبني معه الكعبة المقدسة بأمر ربه، ولعل جوار الأمتين وتواصلهما بالتجارة ونحوها له أثر في انتقال بعض الكلمات من إحدى اللغتين إلى الأخرى، إن لم تكونا معًا من أصل واحد، وإن لم تكن العبرية فرعًا محرفًا من اللغة العربية، ولسنا نرضى أن نجزم في هذا بشيء، ولكنا ندل على تمحل هؤلاء الناس وتحكمهم في النظريات بغير دليل ولا برهان. المادة: أمة الجزء: 2/ الصفحة: 632 جاء في دائرة المعارف الإسلامية بعد ذكر إطلاقات كلمة (أمة) في القرآن الكريم: " .. وفيما عدا هذا يدل لفظ الأمة دائمًا على جماعات كبيرة، أو على الأقل على جماعات تنطوي في غيرها أكبر منها". تعليق أحمد شاكر: ادعى الكاتب أن كلمة "أمة" التي وردت في آيات القرآن لا يمكن تحديد معناها بالتدقيق، وهذا مما يعذر فيه؛ فإنه يبحث في لغة غير

لغته، ولن يصل إلى تحقيق ألفاظها ومعانيها، وإلَّا فأصل معنى الكلمة محدود، واختلاف المراد بها في الآيات مرجعه إلى القرائن الدالة على المعنى الذي هو داخل في المعنى الأصلي للكلمة، وهاك مثالًا لذلك؛ قول الإمام الراغب الأصفهاني في المفردات ص 21: "الأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء أكان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أم اختيارا، وجمعها أمم، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]. أي؛ كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع، وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213]. أي؛ صنفًا واحدًا وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر". ثم قال: وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120]. أي؛ قائمًا مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة. وروي أنه يحشر زيد بن عمرو بن نفيل أمة واحدة". قد يستغرب القارئ نقل نص أقوال الراغب؛ إذ إنها تقارب في الجملة ما نقله الكاتب هنا من معاني الكلمة وهذا صحيح، ولكني إنما نقلته لأدل على الفرق بين اللونين من التعبير؛ الراغب: رجل عالم مسلم كبير، فهو يكتب كتابة علمية مبنية على المعروف له من لغة العرب، مما وجده في كتب من سبقه من أئمة اللغة، ومن أقوال

المفسرين وغيرهم، وهم حفظة اللغة والدين، وكاتب هذا المقال: رجل مستشرق، أي؛ أنه يبحث في موضوع متعلق بلغة ليس له إلمام بأسرارها؛ ولذلك فهو يحاول أن يلقي في روع القارئ أن معاني هذه الكلمة في القرآن غير محددة وغير واضحة! ! نحن لا نرغم الكاتب ولا غيره أن يصدق بالإسلام، ولا أن يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أن يعتقد أن القرآن كتاب من عند الله، ولكنا نستطيع أن نحمله على احترام الحقائق التاريخية، وعلى احترام المنطق الصحيح، بالحجة والبرهان. لست أظن أنه هو أو غيره بمستطيع ادعاء أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عربيًّا خالص النسب، وأنه كان في عصر لم تختلط العجمة بألسنة العرب ولغتهم، وأنه كان أفصحهم وأعلمهم باللغة، وقد أتى قومه وهم أساطين البلاغة بهذا الكتاب، وتحداهم بأقصر سورة منه أن يأتوا بمثلها، وخاطبهم بلغتهم التي كانوا بها يفخرون، فآمن منهم من آمن، وكفر من كفر، ولكنا لم نسمع أن واحدًا منهم أنكر عليه شيئًا من لغة القرآن، أو زعم أنه يضطرب في تحديد معنى الكلمات، وأنه خرج عن المعاني المعروفة عندهم للألفاظ المفردة وحدها، أو للألفاظ متحدة مع غيرها في تركيب الجمل، ولو كان شيء من هذا، لكان أهون عليهم أن يردوا به قوله من أن يقولوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. وقد قالوا حين سمعوا القرآن يتلى عليهم:

المادة: أم الولد

{قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. [الأنفال: 31]. ولم يقولوا: إن هذا ليس مما يوافق لغتنا، وأنت تدعي أنه كتاب عربي مبين. المادة: أم الولد الجزء: 2/ الصفحة: 636 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ولم يحدد القرآن مكانة أم الولد، والمحقق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع أي نظام يغير من مكانتها أو مكانة أبنائها، ولا يمكننا أن نتخذ عتقه لمارية عندما ولدت له إبراهيم سنّةً عامّة، وإن كانت هذه الحادثة لها صلة بالأحاديث الخاصة بأم الولد، وقد تكون الرواية التي ذهبت إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعترف بابن مارية بعد تردد طويل، معقولة من ناحية موضوعها، وإن كانت غير معقولة من ناحية الصيغة التي وردت فيها". تعليق أحمد شاكر: نص الرواية في طبقات ابن سعد (ج 8 ص 154 - 155): "عن أنس بن مالك قال: كانت أم إبراهيم سرية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مشربتها، وكان قبطي يأوي إليها ويأتيها بالماء والحطب، فقال الناس في ذلك: علج يدخل على علجة؟ فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل علي بن أبي طالب فوجده علي على نخلة، فلما رأى السيف وقع في نفسه، فألقى الكساء الذي كان عليه، وتكشف، فإذا هو مجبوب، فرجع عليٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

المادة: أم الولد

فأخبره، فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا أمرت أحدنا بالأمر، ثم رأى في غير ذلك أيراجعك؟ قال: نعم. فأخبره بما رأى من القبطي. قال: وولدت مارية إبراهيم، فجاء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم. فاطمأن رسول الله إلى ذلك". وهذا هو الذي يسميه كاتب البحث "ترددًا طويلًا" في اعتراف الرسول بابنه من مارية، كما اعتاد أمثاله أن يتوسعوا في تحميل الكلام مالا يحتمله، وهذا هو الذي دعاه لأن يزعم أن الرواية "غير معقولة في الصيغة التي وردت فيها" وذلك أنه لا يريد أن يسلم بأي شيء يدل على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والوحي إليه وخطاب جبريل له. المادة: أم الولد الجزء: 2/ الصفحة: 637 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والسنة التي استنها عمر تؤيدها عدة روايات، ولو أن تفصيلاتها تختلف فيما بينها، كما أنها مشوبة بالأساطير (انظر بوجه خاص كنز العمال، جـ 4، 5118، 5122، 5124، الصنعاني، سبل السلام، كتاب البيوع، رقم 11) ". تعليق أحمد شاكر: الأثر عن عمر الذي يزعم الكاتب أنه مشوب بالأساطير رواه الحاكم في المستدرك (ج 2 ص 458) ونصه: "عن عبد الله بن بريدة

المادة: أم الولد

عن أبيه قال: كنت جالسًا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذ سمع صائحة، فقال: يا يرْفأ، انظر ما هذا الصوت. فانطلق فنظر ثم جاء فقال: جارية من قريش تباع أمها. فقال عمر: ادع لي. أو قال: علي بالمهاجرين والأنصار. قال: فلم يمكث إلا ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد؛ فهل تعلمونه كان مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية. ثم قرأ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [سورة محمد: 22]. ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ فيكم وقد وسع الله لكم. قالوا: فاصنع ما بدا لك. قال: فكتب في الآفاق: أن لا تباع أم حر، فإنها قطيعة، وإنه لا يحل". وهذا أثر صحيح، صححه الحاكم والذهبي، ونسبه في سبل السلام لابن المنذر وابن عساكر أيضًا. ولست أرى وجهًا لزعم الكاتب أنه مشوب بالأساطير؛ فإنه يحكي قصة لا غرابة في شيء منها. المادة: أم الولد الجزء: 2/ الصفحة: 640 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وحسبنا أن نقول هنا إن العزل عن الإماء كان جائزًا، ويجوز للسيد أن ينكر أبوته لابنه من أم الولد حتى لا يجعلها أم ولده".

المادة: أم الولد

تعليق أحمد شاكر: هذا غير صحيح، ولا يجوز للمسلم أن ينفي ولده الذي تحقق أبوته سواءً أكان من زوجته أم من أمته، ولكنه إذا نفاه وكان من حرة وجب اللعان، وإن كان من أمته فلا يجب اللعان، ولكنه يكون آثمًا إثمًا كبيرًا؛ لأنه رمى امرأة بريئة بالباطل والبهتان، أما إذا وثق أنه ليس ابنه فإنه لا إثم عليه في نفيه عنه، ومرجعه في ذلك إلى دينه وأمانته، والله مطلع على سريرته. المادة: أم الولد الجزء: 2/ الصفحة: 642 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وبالرغم من تحسن مركز أم الولد خلال تطور الفقه الإسلامي، فقد ظل النفور من زواج الأمة وإيلادها، وهو نفور قديم، قائمًا أمدًا طويلًا. وهناك حديث من الأحاديث التي تذم التسري ظل إلى زمن البخاري، وهذا الحديث لا شك في أن خصوم العباسيين هم الذين وضعوه ثم حُرِّف عن معناه". تعليق أحمد شاكر: انظر إلى كاتب المقال كيف يجزم بأنه لا شك في أن خصوم العباسيين هم الذين وضعوا هذا الحديث؟ ولو ذهبت تسأله عن دليله على ما يقول لسكت، أو لأتى لك

بكلمات جوفاء لا تنطبق على أي قاعدة علمية أو تاريخية، ثم اسأله ما علاقة العباسيين بهذا الحديث حتى يكون تاريخهم أو سيرتهم أو سياستهم دليلًا على وضعه في زعمه؟ إن للحديث النبوي قواعد وضعها أئمة الحفاظ، وهي أوثق القواعد العلمية وأدقها في الإثبات التاريخي، وقد احتاطوا أشد الاحتياط في نقد رواة الأحاديث وفي نقد ما رووه، وإنما يدرك قيمة عملهم ويستوثق منه ويطمئن إليه قلبه من مارس قواعدهم وتشبعت نفسه منها، وصار له فيها ملكة فنية، كما يكون ذلك في كل علم من العلوم. وبعد: فإن الحديث الذي يجزم الكاتب بوضعه حديث صحيح جدًّا، اتفق على روايته البخاري ومسلم في كتابيهما الصحيحين، وهما أصح الكتب بعد القرآن الكريم، وهما اللذان لا مطعن في صحة حديث من أحاديثهما عند العارفين من أهل العلم، وقد رواه غيرهما أيضًا بأسانيد صحيحة، وهو حديث سؤال جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمور الإسلام والإيمان وعن أشراط الساعة، وفيه أن من أشراطها "أن تلد الأمة ربها" أي؛ تلد المملوكة سيدها. وفي شرح هذا الحديث كلام طويل، والحديث معروف لأكثر المسلمين، فقد رواه البخاري (ج 1 ص 105 - 115 فتح الباري طبعة بولاق) ومسلم (ج 1 ص 18 طبعة بولاق) من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم أيضًا (ج 1 ص 17 - 18) من حديث عمر بن الخطاب، ونقله النووي من حديث عمر في الأربعين النووية، وهو الحديث الثاني منها، وعن ذلك اشتهر عند الكافة حتى العوام، وحديث أبي هريرة رواه البخاري

المادة: أم الولد

أيضًا في مواضع أخرى من صحيحه، ورواه أيضًا ابن ماجه، ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبي ذر وأبي هريرة وحديث عمر رواه أيضًا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة وابن خزيمة في صحيحيهما، وكذلك الإمام أحمد في مسنده والطبراني، وقد ورد الحديث أيضًا من رواية أنس بن مالك، رواه البزار بإسناد حسن، ومن حديث جرير بن عبد الله البجلي، رواه أبو عوانة في صحيحه، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث أبي عامر الأشعري، رواهما الإمام أحمد في مسنده، وانظر تفصيل الكلام على طرقه وأسانيده في شرح العيني على البخاري (ج 1 ص 283 - 284) وفي شرح الأربعين لابن رجب (ص 16 - 17) وفي كثير من كتب السنة وشروحها، فهؤلاء الرواة الثقات والأئمة والصحابة كلهم في نظر كاتب المقال كذابون وضاعون، لماذا؟ لأنه يعتقد أنهم خصوم للعباسيين. المادة: أم الولد الجزء: 2/ الصفحة: 643 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وكان فيه آخر صدى للاتجاه الجاهلي القديم، وتغيرت الأحوال الاجتماعية عنه تغيرًا تامًّا، فتقررت المساواة المطلقة بين الأبناء الذين يولدون من زوجة حرة وبين أبناء السرية منذ عهد طويل". تعليق أحمد شاكر: ما يوهمه كلام الكاتب غير صحيح، فإنه يريد أن يزعم أن

الحديث الذي ظل إلى عصر البخاري ومسلم (منتصف القرن الثالث الهجري) وضعه خصوم العباسيين، وأن ذلك دليل على التفرقة في نظر المسلمين في ذلك العصر بين أبناء الحرة وبين أبناء الأمة، وهذا رمي بالقول على عواهنه، لا يؤيده أي نص تاريخي، ولا أي نظر سليم، بل كان المسلمون من أول الإسلام، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم من بعده في سائر عصور الإسلام: لا يفرقون بين أبنائهم من الحرائر والإماء، وآية ذلك أن إبراهيم، كان الابن الوحيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أواخر حياته، وكان بهذه الصفة معززًا مكرمًا، وقد حزن الرسول والمسلمون أشد الحزن عند موته طفلًا، وأن أكثر الصحابة في عصره وبعد عصره كان لهم أبناء من الحرائر والإماء، ولم نسمع شيئًا في التفرقة بينهم. وانظر تراجمهم في كتاب (الطبقات الكبير) لابن سعد، تجده يذكر في ترجمة كل صحابي أبناءه - إن كان له عقب - ويذكر أم كل واحد منهم، حرة أو أمة، على قدم المساواة، وانظر ترجمة سيد التابعين وسيد المسلمين في عصره، وهو (زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب) في طبقات ابن سعد (ج 5 ص 156) وفي ابن خلكان (ج 1 ص 403) وفي التهذيب (ج 7 ص 304) وأمه أم ولد، ولم يضع ذلك من شرفه وفضله ونبله شيئًا عند المسلمين، وكذلك الإمامان العالمان الفقيهان: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وغيرهما من السادة الأخيار، والأئمة الأبرار، والله الهادي إلى سواء السبيل.

المادة: أمي

المادة: أمي الجزء: 2/ الصفحة: 645 تعليق أحمد شاكر على مادة (أُمّي) في دائرة المعارف: كاتب هذا البحث هو كاتب البحث السابق عن كلمة "أمة"، وقد بنى بحثه هنا كما بناه هناك، على أن أصل الكلمة ليس من اللغة العربية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد معناها بالدقة، بل زاد هنا زعمه أن كلمة "أمي" لم تظهر إلا بعد الهجرة، وأن الكلمة مما أطلقه اليهود على العرب، وأنهم يريدون بـ "الأميين" الوثنيين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف نفسه بأنه "النبي الأمي"؛ لأنه "ربما لم يكن على بينة مما تدل عليه كلمة أمي عند اليهود، وأنه ربما جعل لهذه الكلمة معنى جديدًا". وهذا الذي زعمه ينهار كله بنقض أساسه، فإن كلمة "الأمي" وصف الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - في آيتين في سورة الأعراف، وهي مكية، أي؛ أنها نزلت عليه عندما كان بمكة قبل الهجرة، وهي السورة (39) في ترتيب نزول السور، وهي أول السور الطوال نزولًا بمكة، والسور المكية (83) سورة، من (114) عدد سور القرآن. ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - صلة باليهود عندما كان بمكة، حتى يمكن للكاتب أن يزعم أن الكلمة أطلقها اليهود في ذلك الوقت على الوثنيين.

وقد جاءت الكلمة في ست آيات من القرآن الكريم، وها هي بنصها ليظهر المراد منها. قال الله تعالى في سورة الأعراف - وهي مكية -: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}. [157]. {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [158]. وقال تعالى في سورة آل عمران - وهي مدنية -: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}. [20]. وقال تعالى في هذه السورة: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}. [75]. وقال تعالى في سورة الجمعة - وهي مدنية -: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ

كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}. [2]. وقال تعالى في سورة البقرة - وهي مدنية - في وصف اليهود: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}. [78]. ولم تذكر عادة "أمي" في غير هذه الآيات من الكتاب الكريم، وسياقها كلها يدل على أن المراد بالأمي هو من لا يعرف القراءة والكتابة، كما هو المعنى المعروف في لغة العرب، وتجاهل كاتب المقال ذلك لا يؤثر في حقائق اللغة والعلم، والقرآن الكريم أوثق كتاب في الدنيا في ثبوت إسناده التاريخي، فليس من شك عند أحد من الناس أن محمدًا بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله عز وجل أوحى به إليه، لا يخالف في ذلك أحد. وبذلك فسرها أئمة اللغة العارفون بها، فمن ذلك قول محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 في التفسير (ج 1 ص 296 طبعة بولاق): "إن الأمي عند العرب هو الذي لا يكتب. وأرى أنه قيل للأمي أمي: نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمه؛ لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه، كما ذكرنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب". والطبري من أعلم العلماء باللغة العربية، وكتابه أقدم كتاب في أيدينا لتفسير القرآن، والحديث الذي استدل به حديث صحيح ثابت، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فسر به كلمة "أمي" في لغة قومه، وخاطبهم بذلك وهم يسمعون. وقال أبو حيان الأندلسي المتوفى سنة 754 في تفسيره (البحر

المحيط ج 1 ص 269): "الأمي: الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأم؛ لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن أو يقرأن في كتاب، أو لأنه بحال ولدته أمه لم ينتقل عنها، أو نسب إلى الأمة، وهي الخلقة، أو إلى الأمة؛ إذ هي ساذجة قبل أن تعرف المعارف". وأبو حيان هذا من أعلم الناس باللغة وعلومها في القرن الثامن. وما لنا نذهب بعيدًا، وهذا كتاب الله قد وصف محمدًا - عليه السلام - بأنه "أمي" في سورة الأعراف كما قدمنا، ثم فسر معنى هذا الوصف في سورة العنكبوت، وهي سورة مكية أيضًا ما عدا الآيات (من 1 - 11) منها، فقال في الآية [48]: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}. وهذه السورة نزلت بعد الأعراف بوقت طويل؛ لأنها من آخر السور المكية نزولًا، بل إنه لم ينزل بعدها بمكة إلَّا سورة واحدة. وقد ثبت بالتواتر الذي لا شك فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أميًّا بمعنى أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وأن هذا من آيات نبوته؛ لأنه وهو أمي أتى بكتاب يعجز كل واحد من البشر، ويعجز الإنس والجن مجتمعين من أن يأتوا بسورة من مثله، وكان يتلوه على الناس، ويعاود تلاوته عليهم، لا يتغير منه حرف، ولا يختلف في كلمة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فإن الرجل الفصيح إذا ألقى كلامًا مرتجلًا غير مكتوب فلا يمكنه أن يعيده كله ولا أكثره بنصه وحروفه، وإن أمكنه أن يعيد كثيرًا من معانيه بعبارات أخرى، وهذا مشاهد

بديهي، قال السهيلي في (الروض الأنف ج 2، ص 230): "وبكونه أميًّا في أمة أمية قامت الحجة وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة". وبذلك يظهر بطلان ما ادعاه كاتب المقال من أن إطلاق كلمة "أمي" على النبي ليس راجعًا إلى أنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وهو لا يريد بذلك إلا الإشارة إلى ما يدعيه كثير من المغرضين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارئًا؛ ليصلوا بذلك إلى ادعاء أنه اقتبس دينه وكتابه من الأديان السابقة والكتب المتقدمة، وهذه دعوى تنافي كل ما ثبت بالتواتر القاطع من التاريخ الإسلامي، ولا تقوى على الثبات أمام أي سند تاريخي صحيح، وأظهر ما في ذلك لكل ناظر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى عن ربه أنه وصفه بصفة واضحة بينة هي أنه "أمي" ثم أوضح هذه الصفة بأجلى بيان: أنه ما كان يتلو قبل هذا القرآن شيئًا من الكتاب، ولا يحفظ منه شيئًا، وقد عاش في قومه إلى حين نزول هذه الآية - آية العنكبوت - نحو خمسين سنة، وهم يعرفونه ويعرفون أحواله وأخباره، لا يخفى عليهم منها شيء، وهم في قرية صغيرة، أهلها محصورون معروفون غير متكاثرين، ولا تزال هذه القرية قائمة إلى اليوم، ومن دخلها ورآها علم أنه إن أقام بها بضعة أشهر عرف أكثر أهلها، وأحاط بكثير من أخبارهم مفصلة، كالمعهود في القرى، مع ازدياد سكانها في هذه العصور، واختلاف أجناسهم ولغاتهم، بخلاف ما كان في أول عهد النبوة، فلو كان قومه يعلمون عنه معرفة شيء من القراءة والكتابة لكان لهم السبيل إلى نفي قوله، ولقامت عليه

حجتهم واضحة ظاهرة، بل ما أظن أن أحدًا مستقيم الفكر يتصور هذا الموقف وأنه مما يجوز وقوعه: موقف رجل يدعي لنفسه صفة بين قوم يعرفونه ويعرفون أحواله طفلًا ثم شابًّا ثم رجلًا ثم كهلًا، ثم هو يقرعهم بهذه الصفة التي ينسبها لنفسه، بل يجعلها آية ومعجزة له تؤيد دعواه النبوة، ثم لا يكون صادقًا فيما وصف به نفسه من أنه لا يقرأ ولا يكتب؟ وأما ادعاء الكاتب أن وصف بعض اليهود في الآية (78) من سورة البقرة بأنهم "أميون" لا يراد منه جهلهم بالقراءة والكتابة، بل يراد منه عدم معرفتهم بالكتب المنزلة، فإن هذا الرأي قد سبقه إلى نحوه بعض المفسرين، بل نقل الطبري (ج 1 ص 296) أثرًا عن ابن عباس بتأويل الآية على معنى أنهم لم يصدقوا رسولًا أرسله الله ولا كتابًا أنزله الله، وأنه سماهم أميين؛ لجحودهم كتب الله ورسله. وهذا الأثر ضعيف الإسناد، غير ثابت النقل؛ لأنه من رواية الضحاك ابن مزاحم عن ابن عباس، والضحاك وإن كان ثقة لم يلق ابن عباس ولا غيره من الصحابة، ثم لو صح هذا لكان له وجه على سبيل المجاز، ومع ذلك فقد رده الطبري فقال: "وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم". وإطلاق الكلمة على بعض اليهود في الآية صحيح، لأنه لم يزعم أحد أن اليهود الذين كانوا بالمدينة إذ ذاك يقرءون ويكتبون جميعًا، بل كان فيهم الكاتبون والجاهلون، ولذلك قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ

أُمِّيُّونَ}. وهؤلاء الأميون لا يعلمون الكتاب إلا بالأماني التي كان علماؤهم يبثونها في نفوسهم من أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله يعفو عنهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، ونحو ذلك مما رده الله عليهم في آيات كثيرة من القرآن. وأما ادعاء الكاتب أن الآية في سورة الجمعة "تدل دلالة لا تقبل الشك على أن محمدًا رسول من الأميين إلى الأميين" فإنما يشير إلى ما يزعمه بعض المستشرقين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادعى أولا في مكة أنه رسول إلى العرب، ثم لما هاجر إلى المدينة توسع في دعوته وادعى أنه مرسل إلى أهل الكتاب وغيرهم، ثم يستدلون ببعض آيات من القرآن، كفعل الذين يتبعون ما تشابه منه. ولكن أقوالهم هذه تنقضها الآيات الصريحة في القرآن بعموم البعثة إلى جميع الأمم إلى يوم القيامة وأنه خاتم النبيين، وينقضها التواتر الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مرسل إلى الناس كافة. وأكثر من هذا دلالة أن الله تعالى يقول في سورة سبأ - وهي مكية -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}. [28]. ويقول في سورة الأعراف - وهي من أقدم السور المكية -: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [158]. وهي الآية التي ذكرناها في أول المقال، وهي في دعوة اليهود والنصارى إلى الإِيمان به واتباعه. وآية الجمعة التي يستدل بها الكاتب هي آية نزلت بالمدينة بعد الهجرة، فهل يزعم

المادة: إنجيل

هؤلاء أن الرسول ادعى أولًا أنه مرسل إلى جميع الأمم، ثم رجع عن ذلك في المدينة واقتصر على الأميين فقط؟ ! المادة: إنجيل الجزء: 3/ الصفحة: 24 تعليق ونقد أحمد شاكر على مادة (إنجيل) في دائرة المعارف: بعد نقد أغلاطه تفصيلًا في مواضعها لم أقرأ فيما قرأت من مقالات "دائرة المعارف الإسلامية" مقالًا مضطربًا كهذا المقال. فإن كاتبه خلط فيه خلطًا غريبًا؛ فشرَّق وغربٌ، وأسهب وأوجز، وأشار وصرح، وهو يدور في حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها، ولا يعرف كيف يخرج منها، وقد وضع نصب عينيه غاية يرجو الوصول إليها، ثم يعجز عن إدراكها؛ إذ كانت خيالًا يضطرب في ذهنه، ليس لها وجود في حقائق التاريخ، فهو يحاول أن يثبت أن الدين الإسلامي مقتبس من الكتب التي يسمونها عندهم "أناجيل"، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على علم بها أو بشيء منها، فجاءت في القرآن أشياء من الإنجيل كما يزعم، وأن المسلمين عرفوا هذه الكتب، فذهبوا ينقلون عنها علومهم ودينهم، ويفترون الأحاديث بمعاني ما عرفوا منها على نبيهم، ويزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان أكثر معرفة بالأناجيل المنحولة منه بالأناجيل الصحيحة، ولم تصل إليه تلك المعرفة من مصادر مسيحية خالصة، وإنما نقلت إليه على يد يهود اعتنقوا النصرانية" وأن الشعراء

عند ظهور الإسلام كانوا يترددون على الحيرة "فنقلوا إلى بلاد العرب ما سمعوه من القصص في حاناتها" إلى آخر ما تهافت فيه ليرجعه إلى شيء واحد سماه "المسألة العامة الخاصة بأصل الإسلام ومصادره". ثم ذهب يضطرب به القول؛ فتارة يشير إلى بعض آيات من القرآن فيها ذكر مريم وعيسى وغير ذلك، مما يظن أنه يتفق والمروي عندهم أو يخالفه، وتارة يذكر "الطب وأعمال الحكومة" وأنها من الوسائل التي وثقت الصلات بين المسلمين والنصارى، وتارة يذكر بعض معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابتة بالأحاديث الصحيحة؛ ليحاول أن ينسبها إلى أصول عندهم، حتى يتهيأ له أن يشكك القارئ، ثم يوهمه أن المسلمين أخذوها عن النصارى ونسبوها إلى نبيهم على أنها معجزات له، ثم يزداد اضطرابا، فيذكر بعض مؤرخي المسلمين ويصفهم بأنهم "كانوا على علم واسع بالإنجيل" ويحرف في تلخيص كلامهم حتى يوقع في نفس القارئ أنهم كانوا يحتجون بهذه الأسفار، ويعتبرونها مصادر صحيحة لبعض التاريخ، ثم يناقض نفسه فينقل عن البيروني أنه قال: "لا يوجد من الأناجيل إذن من كتب الأنبياء ما يعتمد عليه" ويغلبه ما يجد في نفسه من الحرص على رأيه حتى يغفل عن خطأ من الناسخين في نسخة البيروني فينسب إليه أنه كان يعرف تفسير الإنجيل لرجل اسمه "داذ يشوع" وهو شخص لم يوجد قط، وإنما أتى من خطأ النسخة، ولو حرص على التحقيق العلمي ما وقع في هذه الغلطة الشنيعة.

ولكنه نسي بجوار هذا أن يذكر كثيرًا من علماء المسلمين الذين اطلعوا على هذه الأناجيل، وأبانوا ما فيها من اختلاف وأخطاء، وألفوا في ذلك كتبًا وافية، كابن حزم وابن تيمية وابن قيم الجوزية والقرافي، وغيرهم ممن قبلهم، وممن بعدهم. وأخيرًا يدعي أن المسلمين على وجه عام يحترمون الأناجيل، وأن الترك يسمونها "الإنجيل الشريف" وأن كثيرًا منهم "يؤثرون الإنجيل على القرآن دون أن يجهروا بهذا الرأي" ويحتج لذلك برجل تركي ارتد عن الإسلام في عهد سليمان الأول فحكم بقتله جزاء ردته. وهي كما ترى أقوال متهاترة، لا يأخذ بعضها بناصية بعض، ولا يدل مجموعها على شيء له قيمة علمية. وهذه مسائل شائكة، الخوضُ فيها قد يثير النفوس، ويوغر الصدور، ولو شاء القائل منا أن يقول، لوجد مجال القول ذا سعة، ولكنا لسنا من دعاة الفتنة، ولا ممن يحرصون على الجدال، وقد دأب أمثال هذا الكاتب على مهاجمة الإسلام والعدوان عليه في عقائده، ومحاولة إثارة الشكوك في الحقائق التاريخية الثابتة، التي تتعلق بالإسلام، وليس علينا من بأس أن نقف موقف الدفاع بالقول الرقيق المؤدب، لإقرار الحق في نصابه، وخدمةً خالصةً للعلم الصحيح. إن الاتصال العقلي والفكري بين المسلمين وبين أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد كان اليهود بجوار المسلمين في المدينة حتى أجلاهم عنها عمر، وكان المسلمون

قد فتحوا مصر والشام وغيرهما من الأقطار التي كان يدين أهلها بالنصرانية، وكان أهلُ الكتاب أهلَ ذمة للمسلمين وفي حمايتهم، يرفرف عليهم عدل الإسلام ونَصَفَتُه، وكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا راضين مختارين، مما رأوا من كرم المسلمين، بعد أن ذاقوا ألوان الظلم والعذاب من زعمائهم ورؤسائهم، ولكنه كان في أول أمره اتصالًا في الشؤون العامة الدنيوية، ولم يوجد اتصال علمي بالمعنى المفهوم إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة تقريبًا، عند البدء في نقل كتب الأوائل إلى اللغة العربية، وكان ذلك مقصورًا على الفلسفة وفروعها والطب وما أشبه هذا، ولم تترجم إلى اللغة العربية الكتب الدينية ولا القصص (الروايات)، ولعله قد ترجم شيء من التوراة والأناجيل تراجم نادرة محصورة بين اليهود والنصارى الذين نشؤوا في الدولة العربية؛ ليسهل عليهم معرفة دينهم إذا عسر عليهم قراءتها باللغات التي كانت بها، وأما أن تكون هذه التراجم معروفة لعلماء المسلمين ودهمائهم، كما يريد الكاتب وأمثاله أن يرجفوا به: فذاك شيء غير ثابت ولا معروف في التاريخ الإسلامي، ولذلك لم يجد كاتب هذا المقال سندًا يؤيد به وجود تراجم للإنجيل إلا الترجمة التي قال عنها إنها نقلت عن السريانية، ونقل عن "جلد مستر" أنه يرى أنها ترجمت بين سنتي (750 و 850 م) أي بين سنتي (132 و 235 هجرية) ويظهر من هذا أنها غير ثابتة التاريخ، وأن هذا التاريخ الذي نسبت إليه ظن فقط، ونحن لم نر هذه النسخة المترجمة، فلا نستطيع الجزم بشيء في صحة هذا النقل وهذا التاريخ أو عدم صحتهما، وأما

الترجمة التي يدعي ابن العبري أنه "قام بها البطريق يوحنا بأمر الأمير عمرو بن سعد بين سنتي 631 و 640 م" أي ما يوافق السنة التي قبل الهجرة إلى السنة 18 هـ: فهذا شيء لا سند له ولا قيمة، وأبو الفرج ابن العبري ليس حجة في مثل هذا النقل، ولا يوثق بشيء ينقله عن عصر بينه وبينه أكثر من (600 سنة) ولم يسنده إلى نقل يقارب العصر المنقول عنه، فإنه عاش بين سنتي 623 و 685 هـ، ثم هذا ابن العبري رجل متعصب معروف بالتحامل على العرب وعلى المسلمين، وهو صاحب الحكاية الباطلة التي نقلها عن حرق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية، حتى إن الدكتور (بَتْلَر) صرح بأنه "ليس من دليل على أن أصل هذه الرواية أقدم من أيام أبي الفرج" (انظر فتح العرب لمصر تعريب الأستاذ فريد أبو حديد ص 350 طبعة سنة 1933) فمثل هذا الرجل غير ثقة ولا مأمون على النقل، حتى لو نقل شيئًا عن عصره أو ما يقاربه، فضلًا عن تفرده بنقل يستند إلى ما قبل عصره بمئات السنين. وأما كل ما أرجف به الكاتب ليصل إلى ما يدعيه من معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يسمونه "الأناجيل" حتى يمكنه الإعلان بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان أكثر معرفة بالأناجيل المنحولة منه بالأناجيل الصحيحة" وبأن "هذا الموضوع ليس إلا مسألة فرعية من المسألة العامة الخاصة بأصل الإسلام ومصادره"، فإنه شيء لا يثبت أمام النقد، ولا تؤيده أية حقيقة من حقائق التاريخ، وقد كان النصارى من قبل الإسلام بمئات السنين مختلفين في صحة الكتب التي يطلقون عليها اسم "الأناجيل" وهي أكثر من سبعين كتابًا، حتى تحكم فيهم الزعماء والرؤساء في

مجمع "نيقية" في القرن الرابع الميلادي، فاعتبر المجمع أن هذه الكتب الأربعة المعروفة الآن هي الأناجيل الصحيحة، وبذلك صارت الكتبَ الرسمية للدين المسيحي، واعتَبَر ما عداها منحولًا أو غير صحيح، وهذه الكتب التي اعتبرت منحولة غير مشتهرة وغير معروفة تفصيلًا إلا قليلًا، فمن أين يعرفها العرب قبل الإسلام وعند بدء ظهوره؟ ! وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا أَميًّا لا يقرأ ولا يكتب، كما ثبت بالتواتر الصحيح في التاريخ، وكما نص الله عليه في القرآن الكريم، وقد أقمنا الحجة على ذلك فيما مضى من الدائرة في التعليق على مادة "أمي" (ص 647 من المجلد الثاني). ثم أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة، وبعثه إلى الناس كافة بهذا القرآن الكريم، وجعله مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء السابقين، إجمالًا لها من غير تفصيل، وجعل كتابه "مُهَيْمِنًا" على هذه الكتب، أي رقيبًّا عليها كلها، كما قال تعالى في سورة المائدة [آية 48]: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. وهذا الرجل الأمي لم يقرأ شيئًا من كتبهم، ولم يبلغه من الكتب التي في أيدي النصارى - مع ما فيها من الاختلاف - قليل ولا كثير، ومع ذلك فإنه لا يذكر إنجيل عيسى - عليه السلام - في القرآن إلا باللفظ المفرد "إنجيل"، فلو كان هذا القرآن من عند غير الله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف هذه الروايات؛ لجاء التَّعبير عنها في القرآن ولو مرة واحدة

بلفظ الجمع "أناجيل" وهي التي كانت ولا تزال معروفة عند النصارى، من صحيح في زعمهم ومنحول. ثم انظر في شأن هذا الرجل الأمي - صلى الله عليه وسلم - لو كان يعرف هذه العشرات من الكتب التي تسمى "أناجيل" وأراد أن يحقق أمرها، ويعرف الزَّيْف منها من الصحيح، ويحكم فيها حكمًا قاطعًا صحيحًا، ويأتي بكتاب ثبت مهيمن عليها رقيب، فإلى أي أنواع من الثقافة والعلوم الدينية والتاريخية والأثرية يحتاج؟ ! . وهل كانت هذه العلوم كلها موجودة في كتب مؤلفة قبل بدء الإسلام؟ ! سواء باللغة العربية أم بغيرها من اللغات؟ ! وكم يستغرق تعلم ذلك ومعرفته فقط من السنين؟ ! وأين كان أعداؤه من المشركين وأهل الكتاب، إذا كان قد تعلم كل هذه العلوم، ودرسها الدراسة الكاملة التي تمكنه من الحكم بتحريف كتبهم ونسيانهم {حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}؟ ! [المائدة: 13] نعم إن بعض المشركين زعم أنه تعلم بعض الشيء من غيره، وقد حكى الله ذلك في القرآن عنهم، ثم ردّ عليهم قولهم بأقوى رد؛ فخرست ألسنتهم وألسنة غيرهم، فلم يدَّع ذلك أحد منهم ولا من أهل الكتاب بعد ذلك، مع كفرهم به وعداوتهم له، وتربصهم به وبالمسلمين أن يجدوا حجة تنصرهم عليهم؛ إذ علموا أنهم لو عادوا إلى هذه الدعوى، لكانت حجتهم داحضةً، ودعواهم كاذبة، فإنه نشأ بينهم وعرفوا تاريخ حياته وأحواله تفصيلًا وإجمالًا، ولم يجدوا من

يصدقهم من أهل عصرهم المشاهدين الحاضرين في أنه تعلم كل هذه العلوم والشرائع من بعض القارئين والكاتبين في مكة. وقد اتصل المسلمون بالنصارى واليهود بعد الفتح العربي للبلاد اتصالًا وثيقًا، وقامت في بعض الأوقات حرب الجدال الديني بين الفريقين واحتدمت، ومع ذلك فإنه لم يزعم أحد - فيما نعلم - من أعداء المسلمين أن القرآن مقتبس كله أو بعضه من التوراة أو الأناجيل أو الآراء المسيحية، إلا في هذه العصور المتأخرة، حينما ضعف شأن الدول الإسلامية ماديًّا، وقام المستشرقون وفي أعقابهم المبشرون بالهجوم العلمي على المسلمين، بعد أن وضعوا أيديهم على أكثر بلاد الإسلام، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 32، 33]. وبعد: فإن الله تعالى يقول في سورة النحل، وهي سورة مكية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}. قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآيات (ج 4 ص 185 - 186 الطبعة الأولى ببولاق): "اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة

أخرى من شبهات منكري نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك: أنهم كانوا يقولون إن محمدًا إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات؛ لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه - ثم ذكر اختلاف الروايات في اسم هذا البشر، وقال: وبالجملة فلا فائدة في تعديد هذه الأسماء، والحاصل أن القوم اتهموه بتعلم هذه الكلمات من غيره، ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه، ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ". ثم قال في تقرير أوجه الرد عليهم وتكذيبهم: "الأول: أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون، ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلام العدى ضرب من الهذيان، ولا شهادة لمتهم. الثاني: أن أمر التعليم لا يتأتى في جلسة واحدة، ولا يتم في الخفية، بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المتعلم إلى المعلم أزمنة متطاولة ومددًا متباعدة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمدًا - عليه السلام - يتعلم العلوم من فلان وفلان. الثالث: أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشارًا إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا! ! فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟ ! واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت ظاهرة باهرة، فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها، ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكة". إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت لك أنه لم يتعلم شيئًا من كتب الأديان السابقة، ولم يدرس شيئًا من العلوم والمعارف: يخبرنا عن الله سبحانه أنه يقول في شأن النصارى وكتبهم: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]. أيمكنك أن تتصور أن هذا الأمي يحكم الحكم القاطع الصريح البين بأن النصارى نسوا الكثير مما ذكرهم به عيسى - عليه السلام - من نفسه ومن علمه بدون وحي من الله؟ ! إن الذي يأتي بهذا القرآن، وبما فيه من تشريع تقطعت دونه أعناق الأمم، وبما فيه من توحيد وتمجيد لله، وبما فيه من القصص والأخبار الصادقة، وبما فيه من المواعظ والحكم، وبما فيه من مكارم الأخلاق، هذا القرآن الذي أعجزَ الإنسَ والجن أن يأتوا بسورة من مثله، وهو الهدى ودين الحق، أقول: إن الذي يأتي بكل هذا في كتاب واحد لن يعقل أن يكون تعلمه من كتب يحكم هو عليها بأنها محرفة مبدلة، أو كلمات يسمعها عرضًا على ألسنة بعض أهل الكتاب في جزيرة العرب، أو نقلًا عن بعض الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وهم في كل واد يهيمون، وهم يقولون ما لا يفعلون.

ومن المضحك، بل مما يؤسف له؛ أن كاتب المقال لم يصن قلمه في مثل هذا البحث - الذي يزعمه بحثا علميًّا - عن ذكر الحانات. وكان الأجدر به أن يَفْقَه أن ما يتحدث به السكارى في الحانات، وخاصةً الشعراء منهم، لا يصلح أن يكون أساسًا لدين عظيم يهدي إلى الله، ويعلم الناس الشرائع والمكارم، ويدعو إلى إعلاء كلمة الله، وإلى نشر الفضيلة وحرب الرذيلة، وإلى النهي عن الخمر والميسر وغيرهما من المنكرات، ويصفها بأنها رجس من عمل الشيطان. وقد كان الأولى به، وهو يشرح مادة "إنجيل": أن يذكر تاريخ هذه الكتب التي بأيديهم أولًا، ثم يدعي بعد ذلك ما شاء من الدعاوي، ولكنه - فيما نظن - أحجم عن ذلك لئلا يكون نقضًا لكل ما يدعيه. وقد ذكر أستاذنا الإمام العلامة السيد محمد رشيد رضا الكثير من تاريخها في مواضع متعددة من تفسيره، وكان - رحمه الله - من أعلم الناس في هذا العصر بتاريخها وبدراستها، هو وأستاذنا العلامة الكبير الشيخ عبد الوهاب النجار أطال الله بقاءه. وهاك قطرة من غيث مما قاله السيد رشيد - رحمه الله - (ج 6 ص 287 - 288 من التفسير): "بَيّن الله لنا أن النصارى نسوا حظًّا مما ذكروا به كاليهود، وسبب ذلك أن المسيح - عليه السلام - لم يكتب ما ذكرهم به من

المواعظ وتوحيد الله وتمجيده والإرشاد لعبادته، وكان من اتبعوه من العوام، وأمثلهم حواريه، وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود في عداوتهم ومطاردتهم، فلم تكن لهم هيئة اجتماعية ذات قوة وعلم، تدون ما حفظوه من إنجيل المسيح وتحفظه، ويظهر من تاريخهم وكتبهم المقدسة أن كثيرًا من الناس كانوا يبثون بين الناس في عصرهم تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب في ذلك، حتى إن الذين كتبوا كتبًا سموها الأناجيل كثيرون جدًّا، كما صرحوا به في كتبهم المقدسة وتواريخ الكنيسة، وما ظهرت هذه الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح، عندما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النصرانية، وإدخاله إياها في طور جديد من الوثنية. وهذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح، وهي متعارضة متناقضة مجهولة الأصل والتاريخ، بل وقع الخلاف بينهم في مؤلفيها، واللغات التي ألفوها بها. وقد بينا في تفسير أول سورة آل عمران حقيقة إنجيل المسيح، وكون هذه الكتب لم تحو إلا قليلًا منه، كما تحتوي السيرة النبوية عندنا على القليل من القرآن والحديث، وهذا القليل من الإنجيل قد دخله التناقض والتحريف". ثم ذكر الأدلة على ذلك تفصيلًا، ثم قال (ص 301 - 302): "فثبت بهذا البيان الوجيز صدق قول القرآن المجيد: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14]. وثبت به أنه كلام الله ووحيه؛ إذ ليس هذا مما يعرف بالرأي حتى يقال: إن

النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اهتدى إليه بعقله ونظره، كيف وقد خفى هذا عن أكثر عُلمائنا الأعلام عدة قرون لعدم اطلاعهم على تاريخ القوم". وقال أيضًا في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}. (ج 3 ص 158): "أما لفظ الإنجيل فهو يوناني الأصل، ومعناه البشارة، وهو يطلق عند النصارى على أربعة كتب، تعرف بالأناجيل الأربعة، وهي ما يسمونه العهدَ الجديد، وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل، أي الحواريين، ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، أي على المجموع، فلا يطلق على شيء مما عدا الكتب الأربعة بالانفراد، والأناجيل الأربعة عبارة عن كتب وجيزة في سيرة المسيح - عليه السلام - وشيء من تاريخه وتعليمه، ولهذا سميت أناجيل، وليس لهذه الكتب سند متصل عند أهلها، وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، ففي السنة التي كتب فيها الإنجيل الأول تسعة أقوال، وفي كل واحد من الثلاثة عدة أقوال أيضًا، على أنهم يقولون إنها كتبت في النصف الثاني من القرن الأول للمسيح، لكن أحد الأقوال في الإنجيل الأول: أنه كتب سنة، 37 ومنها أنه كتب سنة 64، ومن الأقوال في الرابع، أنه كتب في سنة 98 للميلاد، ومنهم من أنكر أنه تصنيف يوحنا، وإن خلافهم في سائر كتب العهد الجديد لأقوى وأشد". "وأما الإنجيل في عرف القرآن فهو ما أوحاه الله إلى رسوله

عيسى ابن مريم - عليه السلام - من البشارة بالنبي الذي يقيم الشريعة والحكم والأحكام، وهو ما يدل عليه اللفظ، وقد أخبرنا سبحانه أن النصارى نسوا حظًّا مما ذكروا به كاليهود، وهم أجدر بذلك؛ فإن التوراة كتبت في زمن نزولها، وكان الألوف من الناس يعملون بها، ثم فقدت، والكثير من أحكامها محفوظٌ معروف، ولا ثقة بقول بعض علماء الإفرنج: إن الكتابة لم تكن معروفة في زمن موسى، عليه السلام. وأما كتب النصارى فلم تعرف، ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح؛ لأن أتباع المسيح كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، فلما أمِنوا باعتناق الملك قسطنطين النصرانية سياسةً ظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة، فتحكم الرؤساء حتى اتفقوا على هذه الأربعة، فمن فهم ما قلناه في الفَرق بين عُرْف القرآن وعُرْف القوم في مفهوم التوراة والإنجيل، تبينَ له أن ما جاء في القرآن هو الممحص للحقيقة التي أضاعها القوم، وهي ما يفهم من لفظ التوراة والإنجيل، ويصح أن يُعَد هذا التمحيص من آيات كون القرآن موحًى به من الله، ولولا ذلك ما أمكن ذلك الأمي الذي لم يقرأ هذه الأسفار والأناجيل المعروفة ولا تواريخ أهلها أن يعرف أنهم نسوا حظًّا مما أوحي إليهم وأوتوا نصيبًا منه فقط، بل كان يجاريهم على ما هم عليه، ويقول: الأناجيل. لا الإنجيل، ثم إن من فهم هذا لا تروج عنده شبهات القسيسين الذين يوهمون عوام المسلمين أن ما في أيديهم من التوراة

والأناجيل هي التي شهد بصدقها القرآن". "وقال الأستاذ الإمام - يريد الشيخ محمد عبده - في تفسير هذه الجملة: المتبادر من كلمة "أنزل" أن التوراة نزلت على موسى مرة واحدة، وإن كانت مرتبة في الأسفار المنسوبة إليه فإنها مع ترتيبها مكررة، والقرآن لا يعرف هذه الأسفار ولم ينص عليها، وكذلك الإنجيل نزل مرة واحدة، وليس هو هذه الكتب التي يسمونها أناجيل؛ لأنه لو أرادها لما أفرد الإنجيل دائمًا مع أنها كانت متعددة عند النصارى حينئذ". وقال الأستاذ العلامة الشيخ عبد الوهاب النجار في كتاب قصص الأنبياء (ص 465 - 466 طبعة ثانية): "أين يوجد اليوم إنجيل المسيح الذي ذكره القرآن الكريم؟ إن الإنجيل الذي أتى به المسيح وسلمه إلى تلاميذه وأمرهم أن يُبشروا به لا يوجد الآن، وإنما توجد قصص ألفها التلاميذ وغير التلاميذ، لم تسلم من المسخ والتحريف بالزيادة والحذف". وإن شئت معرفة تاريخ هذه الأسفار الأربعة التي تسمى الأناجيل ومقدار ما فيها من التناقض والاختلاف، ومقدار الوثوق بها من الوجهة التاريخية، ثم قيمتها العلمية عند علماء الإسلام، فاقرأ الجزء الثاني من كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) للإمام الحافظ الحجة أبي محمد بن حزم المتوفى سنة 456، وكتاب (الجواب الصحيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728، وكتاب (هداية

الحيارى) للإمام المحقق ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751، وكتاب (الأجوبة الفاخرة) للعلامة الكبير شهاب الدين القرافي المتوفى سنة 684، وكتاب (الفاروق بين المخلوق والخالق) لصاحب السعادة الحاج عبد الرحمن بك أفندي باجه جي زاده، وكتاب (دين الله في كتب أنبيائه) للعلامة الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي رحمه الله، وكتاب (قصص الأنبياء) لأستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار، وما كتبه المرحوم الإمام السيد محمد رشيد رضا في التفسير والمنار، وأخيرًا كتاب (الإنجيل والصليب) تأليف الأب عبد الأحد داود الأشوري العراقي، وقد ترجمه عن التركية أحد الأفاضل من مسلمي العراق، وطبع في القاهرة سنة 1351. وإذا كانت عقيدة المسلمين من عصر النبوة إلى الآن أن هذه الكتب محرفة مبدلة، أو مصنوعة موضوعة، فكيف يتصور ذو عقل أنهم يأخذون عنها دينهم؟ ! أو أن يدخل في أذهانهم وآرائهم بعض ما يقرءونه أو يسمعونه منها، وهم يرون رسولهم - صلى الله عليه وسلم - قد جاءهم بالدين الحق، وترك في أيديهم كتابًا جعله إمامًا لهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأبان لهم في سنته كل ما احتاجوا إليه في شؤون دينهم ودنياهم، وهم يسمعون حكم الله في الكتب التي عندَ أهل الكتاب أنها محرفة لا يوثق بها، ويسمعون قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم". وهذا حديث صحيح رواه البخاري من حديث أبي هريرة (انظر فتح الباري 8: 129 و 13: 282 و 430 طبعة بولاق)،

ويقرون حديث جابر بن عبد الله: أن عمر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب وقال: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني". رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار، وإسناده صحيح (انظر الفتح 13: 281). وهذا المعنى متواتر عند المسلمين معلوم من الدين بالضرورة. وكان المسلمون في تشريعهم وفقههم مستقلين تمام الاستقلال بكتابهم وسنة نبيهم، لم يتأثروا في شيء من ذلك بكتب النصارى ولا بقوانين الرومان ولا بغيرها من آراء من سبقهم، يعرف ذلك من توسع في دراسة الشريعة الإسلامية وأصولها من الكتاب والسنة، وقد يخفى على من قصر دراسته ومعرفته على كتب الفروع الفقهية، فيخدعه ما يرى فيها من شبه ببعض القواعد القانونية عند غير المسلمين. وبعد هذا البيان الموجز، لا أراني في حاجة إلى مناقشة الكاتب تفصيلًا في المواضع التي زعم أن القرآن اتفق مع الأناجيل فيها أو خالفها، وأن للعهد الجديد أثرًا في الحديث، أو في كتب الصوفية أو غيرها، وقد دَمرنا الأساس الذي بنيت عليه هذه الدعاوى الباطلة: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ

المادة: أنس بن مالك

رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15, 16]. المادة: أنس بن مالك الجزء: 3/ الصفحة: 48 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن (أنس بن مالك): "وهو لا يعدّ أعظم المحدّثين، ويقال: إن أبا حنيفة رفض اتخاذه حجة في الحديث، والأحاديث التي رواها عن المعراج وغيره لم تبرأ من القصص الخيالي، وتوجد مجموعة كبيرة من أحاديثه في مسند أحمد بن حنبل". تعليق أحمد شاكر: لم أجد ما يؤيد النقل الذي نقله المستشرق "فنسنك" عن أبي حنيفة، والمعروف عند علماء المصطلح، بل عند عامة العلماء، من أتباع أبي حنيفة وغيره من الأئمة: أن الصحابة كلهم عدول، وقد خالف بعض العلماء في الأخذ برواية بعض الصحابة خلافًا لا يقام له وزن، ولكن أنس بن مالك ليس ممن اختلف في الأخذ بروايته، وأما زعم الكاتب أن روايته لحديث المعراج فيها قصص خيالي: فإنه زعم باطل لا دليل عليه؛ لأن رواية أنس تأيدت برواية كثير من الصحابة غيره، بل إن الحديث في مجموعه ورد متواترًا لا شك في صحته، وقد جمع الحافظ بن كثير في تفسيره أكثر الروايات الواردة فيه بأسانيدها

المادة: الأنصار

(ج 5 ص 107 - 143) غاية الأمر أن الحديث دل على معجزات للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يريد الكاتب أن يصدق بصحتها، فهذا شيء مرجعه لعقيدته، لا نتحكم فيها، ولكن لا علاقة له بالقواعد الصحيحة الدقيقة التي يرجع إليها في صحة الأحاديث وضعفها، كما بينا ذلك في التعليق على ما كتبوه في الدائرة في شأن اسم "الله" جل وعلا، وفي مقدمة شرحنا على كتاب "اختصار علوم الحديث" للحافظ ابن كثير. المادة: الأنصار الجزء: 3/ الصفحة: 55 تعليقات أحمد شاكر على مادة (الأنصار) في دائرة المعارف: (1) ليس في الكلمة معنى شرعي ومعنى غير شرعي، بل هي كلمة استعملت في معناها اللغوي على الحقيقة، كسائر أنواع الاستعمال اللغوي، فكل أناس نصروا شخصًا معينًا أو عقيدة خاصة - كانوا أنصارًا لمن قاموا بنصره، فالكلمة استعملت هنا في معناها اللغوي الحقيقي، وأطلقت على بعض أفراد مدلولها؛ ولذلك قال في لسان العرب: "النصير: الناصر. قال الله تعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] والجمع أنصار، مثل: شريف وأشراف. والأنصار أنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبت عليهم الصفة، فجرى مجرى الأسماء، وصار كأنه اسم الحيّ، ولذلك أضيف إليه بلفظ الجمع، فقيل أنصاري".

(2) هذه دعوى غريبة لا توافق أي دليل، ولا نجد لكاتبها وجهًا يستند إليه ولا على سبيل الشبهة، فإنه يرمي بذلك الأمة العربية، في أوج فصاحتها وبلاغتها بأنها لا تفرق بين كلمتين تشابهتا في بعض الحروف وهما كلمتان مختلفتا المعنى: إحداهما عربية خالصة، مرجعها إلى مادة "نصر" التي اشتقت منها مشتقاتها، والأخرى نسبة شاذة على غير قياس إلى كلمة أعجمية الأصل، هي علم جامد لا يشتق منه شيء، وهي كلمة "ناصرة" اسم قرية قيل: إن المسيح عيسى - عليه السلام - ولد فيها أو نشأ بها. ولن يشتبه الأمر بين الكلمتين على أجهل عربي بلغة قومه، فضلًا عن القرآن الكريم، وهو معجزة العرب، وقد جاء به سيدهم وأفصحهم وأعلمهم بالعربية، وصدع به قومًا كان جلّ فخرهم بالفصاحة والبلاغة. ثم ماذا يرى الكاتب من البأس في وصف الحواريين - رضي الله عنهم - بأنهم "أنصار الله"؟ ! هل يرى في هذا الوصف مذمة تعيبهم أو منقصة تلحقهم أراد أن يبرئهم منها؟ ! . أما نحن فنصدق ما حكاه الله عن نبيه عيسى - عليه السلام - وعن الحواريين: من أنهم كانوا أنصار الله، نصروا نبيهم عيسى في مواقف الشدة ضد أعدائه وأعداء دينه، وآمنوا به وصدقوه، ونصروا ما جاء به من توحيد الله وتنزيهه، ومن الدعوة إلى الحق، فكانوا بذلك أنصار الله. (3) ادعى الكاتب في هذا الموضع دعاوى لا توافق شيئًا من الحقائق التاريخية الثابتة، فإنه لم يزعم أحد قط أن لقب "الأنصار" إذا

أطلق كان المقصود به الخزرج فقط، بل الأوس والخزرج كلاهما أطلق عليهما اسم الأنصار، وإنما رأى الكاتب كلمة فنقلها على غير وجهها، ولعله لم يصل إلى حقيقة معناها في اللغة العربية، ونصها في مسند الإمام أحمد بن حنبل (ج 3، ص 460 - 462) في قصة بيعة العقبة الثانية من رواية ابن إسحاق عن مَعْبَد بن كعب بن مالك عن أخيه عُبيد الله عن أبيهما كعب بن مالك وكان ممن شهد العقبة: إن العباس بن عبد المطلب حضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لقاءه الخزرج والأوس في موعدهم بالشعب. قال كعب: "فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج. قال: وكانت العرب مما يسمون هذا الحيّ من الأنصار الخزرج: أوْسَهَا وخزْرَجَها". وهذا حديث إسناده صحيح، ورواه ابن هشام في السيرة من رواية ابن إسحاق أيضًا (ص 294 - 297 طبعة أوروبا) ونقله الحافظ بن كثير في تاريخه عن ابن إسحاق (ج 3، ص 160) ونقله الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد عن مسند الإمام أحمد وعن الطبراني (ج 6 ص 42 - 45). فلم يفهم كاتب المقال وجه الكلام، وظن أن إطلاق اسم "الخزرج" على الأوس والخزرج معناه أن "الأنصار" لقب الخزرج وحدهم، وفاته أن الخزرج كانوا في ذاتهم أكثرية في المدينة، وأن الأوس كانوا أقل منهم عددًا، ولذلك كان العرب يسمون الفريقين "الخزرج" كقاعدتهم في التغليب بالكثرة أو بالشهرة أو ما إلى ذلك، كقولهم "العمران" و"القمران" ونحوهما.

وكذلك نقل الكاتب "أن الأوس وقفت من النبي موقفًا محايدًا إن لم تكن ناصبته العداء أحيانًا" إلى آخر ما ألقاه هنا كأنه حقيقة تاريخية مقررة: فإنه شيء لم نجد له مثيلًا ولا شبيهًا مما في أيدينا من كتب التاريخ والسير والأحاديث، ولا نرى شبهة له في نقله هذا، وإن الأوس كانوا والخزرج سواءً في نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته إلى الإقامة بين أظهرهم، وكان الحاضرون من الأنصار في بيعة العقبة الأولى 12 رجلا منهم رجلان من الأوس، ثم شهد بيعة العقبة الثانية 73 رجلًا وامرأتان، منهم 11 رجلًا من الأوس (انظر المصادر المتقدمة وغيرها من كتب السيرة) وشهد غزوة بدر 314 رجلًا، منهم 83 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخزرج، انظر سيرة ابن هشام (ص 485 - 506)، وتاريخ ابن كثير (ج 3 ص 314). (4) قال الله تعالى في سورة آل عمران في شأن الأنصار: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. [103]. وقال في سورة الأنفال: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [62، 63]. وخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار فكان مما قال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ " فكلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنّ. ونقل ابن إسحاق

وغيره: أن آية آل عمران نزلت في شأن الأوس والخزرج، وأنهم كاد يثور بينهم القتال بدسيسة من بعض اليهود، فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يسكنهم ويقول: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ ! ". وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح، رضي الله عنهم. انظر تفسير ابن كثير (ج 2 ص 200 - 208) فهذا الذي يشير إليه كاتب المقال، وهو حادث بسيط لا أثر له في إثارة الإحن السابقة، والأحقاد الماضية، بعد الإخاء والصفاء، ولكنه ابتلاء واختبار، ثبت الله فيه قلوبهم على الإيمان والألفة والمحبة، وكان سببًا في نزع ما لعله بقي في نفوس بعض الأفراد من الشحناء والبغضاء، رضي الله عنهم. (5) هذا كلام ليس فيه شيء من التحقيق العلمي، ولا هو مما يوافق أدب التحدث عن الأنبياء، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بالله، وأرجاهم له، وأشدهم خشية لله، واعتمادًا عليه، ولا يعتمد إلَّا على الله، ولا يرجو النصر إلَّا من عنده سبحانه وتعالى، وليس في شيء من الصدق أن الأنصار لم يجاهدوا إلا كارهين، فإن كل الروايات متضافرة على خلاف هذه الدعوى الباطلة: فروى ابن إسحاق في شأن غزوة بدر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار الناس فأشار عليه كثير من المهاجرين بلقاء قريش وقتالهم، قال ابن إسحاق: ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشيروا عليّ أيها الناس". وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عَدَدُ الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برءاء من ذمامك حتى نصل إلى ديارنا، فإذا

وَصلتَ إلينا فإنك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوّه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوّ من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل". قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردتَ، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تَخَلَّفَ منا رجل واحد، وما نكره أن نَلقى عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منًّا ما تَقَرّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله. انظر سيرة ابن هشام (ص 434 - 435) وتاريخ ابن كثير (ص 362) وطبقات ابن سعد (ج 2 ق 1 ص 8) ومغازي الواقدي ص 44. وروى الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح عن حميد عن أنس ابن مالك قال: "لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر خرج فاستشار الناس فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه، ثم استشارهم فأشار الناس فأشار عليه عمر رضي الله عنه فسكت، فقال رجل من الأنصار: إنما يريدكم. فقالوا: يا رسول الله، والله لا نكون كما قالت بنو إسرائيل لموسى - عليه السلام -: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن والله لو ضربت أكباد الإبل حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك". المسند رقم (12047 ج 3 ص 105) ورواه أيضًا بإسناد آخر صحيح عن حميد عن

أنس (رقم 12986 ج 3 ص 188) ورواه أيضًا بإسناد صحيح عن ثابت عن أنس (رقم 13330 و 13739 ج 3 ص 220 و 257 - 258). وكان أنس بن النضر بن ضمضم، عم أنس بن مالك: لم يشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، قال أنس بن مالك: "فشقّ عليه وقال: في أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غبتُ عنه؟ ! لئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيَرَيَنّ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. قال: فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، فاستقبل سعدَ بنَ معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، أينَ؟ واهًا لريح الجنة، أجِدُهُ دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الرُّبَيِّعُ بنتُ النضر: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]. قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه". رواه الإمام أحمد في المسند رقم 13047 و 13117 و 13693 ج 3 ص 194 و 201 و 253) ورواه البخاري (ج 6 ص 16 - 17 فتح الباري). فهذه الأحاديث الصحيحة - وهي من رواية أنس بن مالك، وهو أنصاري - صريحة في أن قومه لم ينكصوا عن الجهاد، ولم يترددوا في بذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الدعوة إلى الله، وإلى الدين الحق الذي آمنوا به، وعاهدوا نبيهم على السمع والطاعة والنصر والتأييد، وحسبنا هذا لندل على بطلان ما ادعاه كاتب هذا المقال.

(6) روى مسلم في صحيحه (ج 2 ص 63) عن أبي هريرة في شأن غزوة الفتح قال في حديث: "فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الأنصار". قالوا لبيك يا رسول الله. قال: "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ " قالوا: قد كان ذلك. قال: "كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرتُ إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضَّنَّ بالله وبرسوله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم". وانظر سيرة ابن هشام (ص 824)، والسيرة الحلبية (ج 3 ص 128 طبعة بولاق)، والمواهب اللدنية (ج 1 ص 157 طبعة الشرفية)، وشرح المواهب للزرقاني (ج 2 ص 397 طبعة بولاق). (7) هذا غير صحيح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عفا عن مناوئيه من قريش كرمًا منه وفضلًا، وقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وهم قومه وعشيرته، ومع ذلك فإنه عاد إلى دار هجرته مع أنصاره وفاء بوعده لهم، واتباعًا لأمر ربه في إمضاء هجرته، ولعل الكاتب يشير إلى قسمة غنائم حنين، إذ أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغنائم لقريش ولم يعط الأنصار شيئًا، فقال ناس من الأنصار: "يغفر الله لرسول الله،

المادة: أهل البيت

يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ ) فبلغ ذلك رسول الله، فأرسل إلى الأنصار ولم يَدْعُ معهم غيرهم، وسألهم فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟ " فقال فقهاء الأنصار: (أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئًا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإني لأعطي رجالًا حديثي عهد بكفرٍ أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به". قالوا: (يا رسول الله، قد رضينا). رواه البخاري. وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن قريشًا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟ " قالو: بلى. قال: "لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار". وانظر تاريخ ابن كثير (ج 4 ص 356 - 357) فهذا التألف لقلوب المؤلفة قلوبهم لا يعطى المعنى الذي أراد أن يرمي إليه الكاتب، بل هو سياسة عليا، وخلق كريم. المادة: أهل البيت الجزء: 3/ الصفحة: 92 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وأشار ابن سعد إلى أن تسمية أهل البيت (جـ 4، ق 1، ص 59، س 15) تطلق على أسرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تمييزًا لهم عن

المادة: أهل الحديث

المهاجرين والأنصار" (¬1). تعليق أحمد شاكر: الذي في ابن سعد في هذا الموضع قصة فيها: أن المهاجرين والأنصار اختلفوا في سلمان الفارسي، كل فريق يريد أن يعمل معه في حفر الخندق "وكان رجلًا قويًّا" فقال كل فريق منهم: (سلمان منا). وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حينئذ: "سلمان منا أهل البيت". وهذا حديث ضعيف الإسناد، ورواه الحاكم أيضًا باختصار في المستدرك (3: 598). وإن صح فإنما هي كلمة تكريم لسلمان، لا يفهم منها في لغة العرب أن أهل البيت فريق آخر غير المهاجرين والأنصار، بل هم من المهاجرين جميعًا. المادة: أهل الحديث الجزء: 3/ الصفحة: 93 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن (أهل الحديث): "ويسمون أيضًا أصحاب الحديث تمييزًا لهم عن أهل الرأي، وعن أصحاب الفرق جملة، ويسمي الوهابيون في الهند أنفسهم بهذا الاسم". تعليق أحمد شاكر: إطلاق كلمة "الوهابيين" على أهل الحديث في الهند إنما هو ¬

_ (¬1) أحمد محمد شاكر.

المادة: أهل الحق

تصرف من خصومهم، كما يفعل أمثالهم هنا في مصر وفي غيرها من البلاد، وأهل نجد لا يعرفون لقب "وهابي" الذي يرميهم به أعداؤهم خدمة للأهواء السياسية التي استعمل لنصرتها العصبيات المذهبية. المادة: أهل الحق الجزء: 3/ الصفحة: 104 تعليق أحمد شاكر على مادة (أهل الحق) في دائرة المعارف: إن العقائد التي نقلها الكاتب ونسبها إلى هؤلاء الناس الذين يسميهم، أو يسمون أنفسهم "أهل الحق" عقائد لا تمت إلى الإسلام بصلة، ويبرأ منها كل مسلم يدين بدين الإسلام، ومحاولة إرجاع عقائدهم إلى عقائد الشيعة محاولة لا أساس لها، فإن مذاهب الشيعة الإمامية بريئة من هذه الآراء الباطلة التي لا تستند إلى عقل ولا نقل. المادة: أهل الصُّفة الجزء: 3/ 105 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وكان أهل الصفة من حيث قبائلهم غرباء في المدينة، فكان منهم مثلًا أبو ذر الغفاري وأبو سعيد اليمني". تعليق أحمد شاكر: لا يوجد في الصحابة من يسمى (أبا سعيد اليمني) فلعل الاسم تصحف على كاتب المقال فلم يحسن قراءته بالعربية.

المادة: بحيرا

المادة: بحيرا الجزء: 3/ الصفحة: 396 جاء في دائرة المعارف الإسلامية في قصة (بحيرا) مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ويذكر بعض المؤلفين الآخرين أن أبا بكر كان حاضرًا ذلك الحادث، وكان حتى في ذلك الوقت نفسه على استعداد للاشتراك في الحوادث المقبلة". تعليق أحمد شاكر: حضور أبي بكر تلك الحادثة لم يثبت، بل استغربه علماء الحديث، ورأوا أن ذكره خطأ من الراوي. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (ج 1 ص 183): (قد وردت هذه القصة بإسناد رجال ثقات، من حديث أبي موسى الأشعري، أخرجها الترمذي وغيره، ولم يسم فيها الراهب، وزاد فيها لفظة منكرة، وهي قوله: "وأتبعه أبو بكر بلالًا" وسبب نكارتها أن أبا بكر حينئذ لم يكن متأملًا، ولا اشترى يومئذ بلالًا، إلا أن يحمل على أن هذه الجملة مقتطعة من حديث آخر وأدرجت في هذا الحديث، وفي الجملة هي وهم من أحد رواته). وكذلك ضعفها الحافظ ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية ج 2 ص 285). المادة: بحيرا الجزء: 3/ الصفحة: 397 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ويذكر المسعودي أن هذا الراهب كان يدعى جرجس".

تعليق أحمد شاكر: كذا في نسخة المسعودي المطبوعة ببولاق (ج 1، ص 35)، وفي جميع الكتب التي نقلت ذلك عن المسعودي سمى باسم (جرجيس) بزيادة ياء بعد الجيم الثانية. المادة: بحيرا الجزء: 3/ الصفحة: 397 جاء في دائرة المعارف الإسلامية بعد ذكر قصة (بحيرا) مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وليس لدينا ما نقوله إلا القليل من الناحية التاريخية عن صحة هذه الأساطير؛ لأن المعلومات تنقصنا في هذا الموضوع، وهذه القصص قسم خاص من مجموعة الأساطير التي أحاطت بسيرة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولها نظائر كثيرة من نفس النوع، وكلها ترمي إلى أن (أهل الكتاب) عرفوا من كتبهم من قبل ببعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -". تعليق أحمد شاكر: ليست هذه القصص بالأساطير، بل كثير منها ثابت بأسانيد صحيحة، وعلم أهل الكتاب بالبشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم ثابت عند المسلمين بنص القرآن الصريح، وليسوا في حاجة إلى افتعال أساطير يؤيدون بها ما أثبته الوحي المنزل من عند الله، وهو ثابت أيضا عند المسلمين فيما قرؤه من كتب أهل الكتاب مما بقي في أيديهم من

الصحيح من أقوال أنبيائهم المنقولة في كتبهم. المادة: بحيرا الجزء: 3/ الصفحة: 398 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "فنجد مثلًا أن تيوفانس وجرجيوس فرانتز يذكران أنه بعد ظهور جبريل لأول مرة وإصابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغشيان ملئت خديجة فزعًا، فلجأت إلى راهب ملحد منبوذ يدعى سرجيوس، فطمأنها وأكد لها أن الملك جبريل يرسل لجميع الأنبياء". تعليق أحمد شاكر: الزعم بأن قصة خديجة كانت مع من يدعي سرجيوس خطأ، ومخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم قصة تعبد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء ومجيء الملك إليه بالوحي أول مرة ونزول قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} وفيها: (فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: "زملوني، فزملوه". حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة - وأخبرها الخبر -: "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به

المادة: براق

خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان أمرءًا تَنَصَّر في الجاهلية" إلى آخر الحديث. وهو مشهور معروف في أول صحيح البخاري. فهذا صريح في أنها ذهبت به إلى ابن عمها العربي النسب، ولم تذهب إلى رجل أعجمي يدعى "سرجيوس". المادة: براق الجزء 3/ الصفحة: 486 تعليق أحمد شاكر على مادة (براق) في دائرة المعارف: في حديث الإسراء والمعراج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به أتي بدابة "دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه" وهذا هو الوصف الوارد في الأحاديث الصحاح للبراق، وهي أحاديث لا شك في صحتها عند أهل العلم بالحديث، بل هي في جملتها متواترة قطعية الثبوت. وهذا الوصف وصفه به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من أقوال المفسرين كما يزعم كاتب المقال، وإن لم يصدق هو وأمثاله ذلك فلا شأن لنا بإقناعهم؛ إذ إن هذه الشؤون من الغيب الذي لا يدخل تحت الحس والمشاهدة، فلا يؤمن به إلا من يؤمن بأصل الإسلام، وبنبوة محمد ورسالته، فمن شاء أن يناظر فليناظر على أصل الإسلام أولًا. وقد كان لكاتب المقال مندوحة أن يتحاشى الألفاظ الجافة في تعبيره، إذ يزعم أنه (في الأساطير للدلالة على حيوان خرافي) وليس من الأساطير ما ثبت عند علماء الإسلام بالتواتر الذي لا شك عند

المسلمين في صحته واليقين به. وهذا البراق ليس حيوانًا كما يظن الكاتب من ظاهر لفظ "دابة" الذي عبر عنه في الأحاديث؛ لأنه من أمور الغيب التي أخبرنا بها النبي - صلى الله عليه وسلم - مما وراء هذه المادة التي في متناول الحس البشري، ولا يستطيع العقل الإنساني أن يفهم مدلول هذه الأشياء الخارجة عن نطاق قوته التي منحت له: إلا بالتعبير عنها بألفاظ تدل على مدلولات مما يحس ويرى ويشعر، كما جاء وصف الجنة والنار في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وكما جاءت بعض أوصاف في الأديان السابقة، على لسان الأنبياء قبل نبينا، صلى الله عليهم أجمعين. إن هذه الأمور الغيبية إنما أمرنا بالإيمان بها كما وردت، لا نتكلف أن نصورها بأكثر مما عبر عنها الله في كتابه أو رسوله في سنته، وقد جعل الله من أول فضائل المؤمنين أنهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. فيصدقون رسولهم فيما أخبرهم، مما غاب عن حسهم، وقصرت عقولهم عن إدراكه، وليس بضارهم شيئًا أن يؤمنوا به، بل في الإيمان به كل الخير: ثقة النفس بالله، والاعتراف بقدرته وضعف الإنسان، فيتبع أوامر ربه كلها، فيما فهم وما لم يفهم، وفيما أحب وفيما كره {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}. [البقرة آية 1 - 3]. والمثل على ذلك حاضرة: يأمر أحدنا طفله بأمر كله لطفله نفع

ورضى، والطفل يعجب لأبيه، ويرى أمره أحيانًا مخالفًا عقله الصغير، وليس بمستطيع أن يدخله في نطاق تصوره، ومع ذلك يأبي أبوه إلا أن يلزمه الطاعة، ولعله في بعض الأمور لو خالف أباه كان فيها هلاكه. ويرى الرجل العاقل أشياء من عمل من هم أكبر منه عقلًا وعلمًا، ينكرها ويجزم بأنها خطأ لا صواب فيه، ثم إذا أمكن لغيره أن يفهمه علتها أو ملابساتها علم أنه أنكر صوابًا، وأن العلة إنما كانت في قصور فهمه. وإنا لنقرأ كثيرًا عن أبحاث الراصدين من علماء الفلك، فنجد فيها أخبارًا عما ظهر لهم من الرصد والحساب من أبعاد الكواكب من الأرض التي نعيش عليها، لا يمكن للرجل العادي الذي لم يدرس هذه العلوم أن يتصورها (بعض الكواكب يبعد عن الأرض 220 ألف سنة ضوئية، أي باعتبار أن الضوء يسير في الفضاء بسرعة 186 ألف ميل في الثانية الواحدة) وإنما يصدق بها ثقة بالعلماء الذين بحثوا ونقبوا، وقد يكون الخطأ في حسابهم جللا، ولعل الغلطة في رقم من أرقام حسابهم تنتج فروقًا بما لا يتصور عده من ملايين الأميال. هذا كله في عقل إنساني أمام عقل إنساني، فماذا نرى في عقل إنساني ضعيف أمام قدرة الخالق وعلمه الذي يحيط بكل شيء {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف آية 109].

المادة: برزخ

وأما ما نقله الكاتب من أن بعض الناس تخيل صورة البراق، فصوره أو وصفه، فذاك شيء لا يعرفه الإسلام ولا المسلمون، ولسنا نعبأ إلا بالبراءة منه. وقد تعرض الكاتب للإشارة إلى الإسراء والمعراج، وعبر عنهما بأنهما رؤيا للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وله شيء من العذر في هذا، إلا في نسبته إلى النبي، فإن الأحاديث الصحيحة المتواترة صريحة في أنهما لم يكونا في عالم الرؤيا، إنما كانا في اليقظة، بالجسم والروح، وكان هذا موضع الإعجاز، وكان هذا مما أنكرته قريش، ومما ارتد بسببه بعض ضعفاء الإيمان إذ ذاك، ولم تكن قريش لتكذب رجلًا يدعي أنه يرى رؤيا في المنام، فإن هذا مما يمكن أن يكون لكل إنسان، إنما هم ينكرون شيئًا معجزًا خارجًا عن حدود القدرة البشرية، وكاتب المقال إنما تبع في كلامه بعض من أخطؤوا من الكاتبين الإسلاميين فزعموا أن الإسراء والمعراج بالروح، توهمًا منهم؛ لحديث زعموه عن عائشة أنها ما فقدت جسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، وهو حديث لا أصل له ولا إسناد، بل هو حديث مكذوب مفترى، وعائشة كانت حين الإسراء طفلة صغيرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دخل بها بالمدينة، والإسراء كان بمكة قبل الهجرة. المادة: برزخ الجزء: 3/ الصفحة: 534 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وقد ورد هذا المعنى أيضًا في سورة النمل الآية 61، وذكر في

هذه الآية كلمة (حاجز) بدلًا من كلمة برزخ". تعليق أحمد شاكر: في سورة النمل (61): {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا}. المادة: برزخ الجزء: 3/ الصفحة: 535 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والأفلاك السماوية برزخ حيّ، وعلى عكسها الأجسام التي لا حياة فيها، فهي برزخ ميت". تعليق أحمد شاكر: قال الراغب الأصفهاني في المفردات: "البرزخ: الحاجز بين الشيئين، وقيل: أصله برزه، فعرب. وقوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20]. والبرزخ في القيامة الحائل بين الإنسان وبين بلوغ المنازل الرفيعة في الآخرة، وذلك إشارة إلى العقبة المذكورة في قوله عز وجل: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} [البلد: 11]. قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]. وتلك العقبة موانع من أحوال لا يصل إليها إلا الصالحون، وقيل: البرزخ ما بين الموت إلى يوم القيامة. ونحو ذلك في لسان العرب أيضًا فانظره. ونعرف من هذا أن البرزخ في لغة العرب: الحاجز، وأن كل حاجز يسمى برزخًا، سواء أكان حاجزًا حسيًّا أم حاجزًا معنويًّا، الحسي في الحسيات، والمعنوي في المعنويات.

المادة: برصيصا

المادة: برصيصا الجزء: 3/ الصفحة: 546 تعليق أحمد شاكر على مادة (برصيصا) في دائرة المعارف: أولًا: أن المفسرين الذين ذكروا قصة برصيصا عن تفسير هذه الآية إنما ذكروها على أنها مثال من مثل إغواء الشيطان للإنسان، لا أن ذلك هو المراد منها وحده، قال العلامة الحافظ ابن كثير في تفسيره (8: 300 من طبعة المنار): "وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل، هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها". ثانيًا: أن ابن هشام ذكر في السيرة في هذا الموضع: أن حادث يوم بدر كان مرويًّا على الشك على أنه مع أبي جهل أو مع عمير بن وهب. ثالثًا: أن المفسرين لم يذكروا أبا جهل في هذا الموضع على التعيين، وإمامهم الزمخشري قال: "كمثل الشيطان إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشًا يوم بدر وقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" فلم يذكر أبا جهل كما نسبه إليه كاتب المقال، وكذلك من تبعه من المفسرين. رابعًا: قصة هذا الراهب وردت بألفاظ مختلفة، بعضها مطول وبعضها مختصر، وكلها موقوفة على الصحابة أو التابعين، ليس شيء

منها مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا رواية ذكرها السهيلي في كتاب (التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام) طبعة مصر سنة 1356 ص 127 - 128) وإسنادها ضعيف جدًّا؛ لأنها من رواية عروة بن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إسناد مجهول لا قيمة له؛ لأن عبيد بن رفاعة تابعي، لم يدرك النبي، وأحاديثه عنه مرسلة، فابنه أبعد من ذلك وأصغر، ثم إن ابن سعد ذكر أولاده في كتاب الطبقات (ج 5، ص 204) ولم يذكر فيهم من يسمى "عروة" ونقله السيوطي في الدر المنثور (6: 200) عن عبيد بن رفاعة عن النبي ونسبه لابن أبي الدنيا وابن مردويه والبيهقي، وهو حديث ضعيف، لما قلنا من أن عبيد بن رفاعة لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك رواه ابن الجوزي في كتاب (تلبيس إبليس) مطولًا (ص 26 - 29) وجعله من رواية عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة. خامسًا: وأكثر أسانيد هذه القصة إلى الصحابة ضعيف، إلا إسناد روايتها عن علي بن أبي طالب، قال الطبري في التفسير (28: 33): "حدثنا خلاد بن أسلم قال حدثنا النضر بن شميل قال أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت عبد الله بن نهيك قال سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقول: إن راهبًا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنها، ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، فجاءوا بها. قال: فداواها وكانت عنده، فبينما هو يومًا عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها

فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجك مما صنعت بك، اسجد لي سجدة! ! فسجد له فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. فذلك قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)} [الحشر: 16]. وهذا إسناد جيد، عبد الله بن نهيك - بفتح النون وكسر الهاء - كوفي، ذكره ابن جنان في الثقات. ورواها أيضا الحاكم في المستدرك (ج 2، ص 484 - 485) من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن حميد بن عبد الله السلولي عن علي بن أبي طالب، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد". ووافقه الحافظ الذهبي، ولم أجد ترجمة لحميد بن عبد الله السلولي هذا. سادسًا: وهذه القصة المختصرة عن علي بن أبي طالب فيها عبرة وعظة، وليست من الأحاديث المسندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي من القصص الذي يحكى على سبيل الاعتبار، ولعلها مما سمع الصحابة من اليهود من أخبار بني إسرائيل، مما يسميه علماء المسلمين "الإسرائيليات" فسواء كانت حقيقية أو غير حقيقية فإنها ليست تفسيرًا للآية، وإنما هي مثل من المثل، وذكر المفسرين الأقدمين إياها على هذا المعنى، واستشهاد علي وغيره من الصحابة بالآية عقيب القصة على هذا المعنى أيضًا، ثم تزَّيد الرواة الوضاعون الكذابون في أمثال هذه الحكايات، وخرجوا بها عن الحد الذي نقله المتقدمون، واغتر

المفسرون المتأخرون وغيرهم من العلماء فذكروا هذه الروايات المخترعة الباطلة، ولم يكونوا يريدون إلا الوعظ والعبرة، وكثير منهم لا يعرف الصحيح من الضعيف، أو يعرفه ويكتفي بأن رواه بإسناده، وأن القارئ العالم بالأسانيد سيظهر له ضعف الإسناد فلا يظنه صحيحًا، ثم ازداد الجهل بالسنة الصحيحة وبأسانيدها في عامة العلماء، فاختلط عليهم الصحيح بالباطل، إلا من عصم الله، وآتاه حظه من الرشد والتوفيق من الله. سابعًا: كتاب "جامع البيان" الذي أشار إليه كاتب المقال هو تفسير نفيس لمعين الدين محمد بن عبد الرحمن الصفوي المولود سنة 832 والمتوفى سنة 905 هجرية، وقد طبع في دهلي قديمًا (سنة 1296 هجرية) وقد طبع الثلث الأخير من هذا الكتاب سنة 1355 بإشرافنا وتصحيح الشيخ محمد حامد الفقي، وقد ذكر في (ص 375) في التعليقات المنقولة عن طبعة الهند: أن السيوطي في الدر المنثور نقله عن ابن أبي أمامة مرفوعًا وعزاه للبيهقي، وهذا شيء لم أجده في الدر المنثور، فلا أدري ممن الخطأ فيه، ولكنه خطأ بكل حال. ثامنًا: إن تسمية الراهب المنسوب إليه القصة باسم "برصيصا" لم يذكر في كتب المتقدمين والروايات الأولى، ولكنه ذكر في كتب المتأخرين كالبغوي في تفسيره (ج 8، ص 300 - 303 من طبعة المنار) ثم من بعده. وقد قال السهيلي في كتاب التعريف والإعلام (ص 128): "ويقال اسم هذا الراهب برصيصا، ولم يذكر اسمه إسماعيل القاضي، ولا أنا منه على ثقة". وقال ابن كثير في تفسيره (8: 300):

المادة: برنك سبل

"واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا فالله أعلم". تاسعًا: نسبة هذه الحكاية على طريقة علمائنا في تخريج الروايات، لا على طريقة المستشرقين في خفاء هذه الطرق عليهم: أن القصة مروية عن علي بن أبي طالب، كما ذكرناها وذكرنا من رواها، ورواها أيضًا ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس، ورواها ابن جرير عن ابن مسعود، ورواها ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عبيد بن رفاعة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تكلمنا على هذه الرواية فيما مضى في رقم (4) ورواها ابن المنذر والخرائطي في اعتلال القلوب من طريق عدي بن ثابت عن ابن عباس، ورواها عبد الرزاق وعبد بن حميد عن طاوس. وهذه الروايات ملخصة من الدر المنثور للسيوطي (ج 6 ص 199 - 200) وذكرها أيضًا البغوي مطولة جدًّا بدون إسناد من طريق عطاء وغيره عن ابن عباس. عاشرًا وأخيرًا: لم نجد حاجة إلى ذكر شيء من تفاصيل هذه الحكاية واختلاف الروايات فيها، فهي أهون من أن يشتغل بها، إلا لبيان قيمتها، والتحذير من ربط الصلة بينها وبين تفسير القرآن. المادة: برنك سَبِل الجزء: 3/ الصفحة: 574 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ولقد دلت التجارب على أنه من المستحيل على المسلمين أن

يقوموا بما يفرضه الجهاد عليهم، وإن كان الفقهاء يقولون، والناس يصدقونهم، بأن الحرب لا تضع أوزارها ضد الكفار إلا عند اليأس من النصر". تعليق أحمد شاكر: هذا القول غير واضح، ولعل كاتب المقال اشتبه عليه الأمر، إذ رأى النصوص الدالة على أنه لا يجوز للمقاتل الفرار إلا أن يكون لخطة من خطط الحرب أو رجوعًا إلى باقي الجيش، كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}. [الأنفال آية 15, 16] وأما أن ييأس المسلمون من النصر فلا، وإنما قد تدعوهم الظروف السياسية أو الضرورات الحربية إلى ترك القتال في بعض الأوقات، وهم لا يقاتلون إلا مدافعين عن الدين وعن الحق، ولا يقاتلون بغيًا ولا عدوانًا. المادة: برنك سَبِل الجزء: 3/ الصفحة: 574 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والحق أن الشريعة الإسلامية تنص على أن الإمام هو الذي يدعو

الناس إلى الجهاد، ولا وجود للإمام اليوم، ولكن لما كان سلطان الترك هو الإمام المعترف به، فقد تغلبوا على ما يعتور نفوسهم من شك بسكوته عن الدعوة إليه". تعليق أحمد شاكر: لم يكن جميع المسلمين معترفين بإمامة سلطان الأتراك في ذلك الوقت، وإنما أعجز المسلمين عن الجهاد وعن نصرة دينهم تفرق كلمتهم، وضعف ملوكهم، وإحجام علمائهم عن كلمة الحق، ثم إعراضهم عن التمسك بدينهم وخوفهم من تهمة التعصب الديني التي خدعتهم بها أوربة بعد أن زلزلت أقدامهم في بلادهم، إلى غير ذلك من الأسباب التي يطول شرحها هنا. المادة: برنك سَبِل الجزء: 3/ الصفحة: 575 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والمسلمون خارج البقاع التي يقوم الجهاد فيها يعطفون بقلوبهم على المجاهدين، ويمتدح شيوخ المسلمين بصفة عامة إكراه أي شخص على اعتناق الإسلام في أية ناحية من نواحي جزائر الهند الشرقية، ويعدون هذا أداء لواجب من أهم واجبات الجهاد". تعليق أحمد شاكر: لسنا نعرف في أية بلدة من بلدان الإسلام أن هناك علماء من شيوخ

المادة: بسر

المسلمين يرضون عن إكراه إنسان على اعتناق الإسلام، ولا نظن كاتب المقال متحققًا من هذا النقل الذي ينسبه إلى بعض العلماء، بل لعله سمع بعض كلمات من أناس يتملقون أعداء الدين بأقاويل يزعمونها من أقاويل العلماء التماسًا لعرض الحياة الدنيا، وغرورًا بما يرون من قوة أعداء الإسلام وطغيانهم، وأما الإسلام وعلماء الإسلام فإنهما بريئان من إكراه غير المسلم على الدخول في الإسلام. وقد عرض كاتب المقال لأحكام تتعلق بالجهاد هنا، وليس هذا موضعها، ونرجو أن نتكلم عليها عند الكلام على مادة "جهاد" إن شاء الله. المادة: بُسر الجزء: 3/ الصفحة: 633 تعليق أحمد شاكر على مادة (بُسر) في دائرة المعارف: "بسر" بضم الباء وسكون السين المهملة، و"أرطاة" بفتح الهمزة وسكون الراء. والمشهور عند المحدثين "بسر بن أرطاة" ويقال "بسر ابن أبي أرطاه" والظاهر أن اسم أبيه "عمير" وكنيته "أبو أرطاة" فهذا معنى من قال "بسر بن أبي أرطاة" وأن اسم جده "أرطاة" فتارة ينسب إلى أبيه، وتارة ينسب إلى جده فيقال: "بسر بن أرطاة". ويرجح هذا ما في تاريخ بغداد للخطيب (ج 1 ص 211): "قال أبو الحسن أحمد بن عمير: حدثني بكار بن عبد الله بن بسر وسألته عن اسم أبي أرطاة؟ فحدثني عن أبيه بنسب جده: "بسر بن عمير بن أرطاة بن عويمر بن عمران".

المادة: بسملة

وأما الخلاف في صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو خلاف معروف عند علماء الحديث؛ لأنه كان صغير السن عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه كان مميزًا، وسمع منه حديثين رواهما، ولذلك رجح المحدثون أنه صحابي، وحديثاه في مسند أحمد (ج 4 ص 181). وأما أحداثه في السياسة بعد ذلك وقسوته، فإنه شيء يسأل عنه بين يدي الله يوم القيامة، ونحن نطهر ألسنتنا عن دماء طهر الله منها أيدينا. وله تراجم أخرى غير ما أشار إليه كاتب المقال في تاريخ بغداد (ج 1 ص 210 - 211) وفي الاستيعاب لابن عبد البر (ج 1 ص 64 - 67 من طبعة الهند) وفي مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (ج 3 ص 220 - 225). المادة: بسملة الجزء: 3/ الصفحة: 641 تعليق أحمد شاكر على مادة (بسملة) في دائرة المعارف: هذه المسألة من أهم مسائل الخلاف بين القراء والمحدثين والفقهاء، وألف فيها الكثيرون كتبًا خاصة، فمن ذلك كتاب "الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف" للإمام الكبير أبي عمر يوسف بن عبدي البر القرطبي المتوفى سنة 463 هـ، وهو جزء في 42 صفحة، وقد طبع في مصر سنة 1343 هـ، وكتاب لأبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، ذكره النووي في المجموع، وقال: إنه مجلد كبير، ولخص أهم ما فيه، وألف فيها

أيضًا ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والخطيب. وقد جمع الحافظ الزيلعي في نصب الراية أكثر ما ورد فيها من الآثار والأقاويل في مقدار يصلح كتابًا مستقلًا (1: 168 - 191، من طبعة الهند، و 1: 323 - 363 من طبعة المجلس العلمي سنة 1357 هـ) وكذلك النووي في المجموع، كتب فيها مقدارًا وافيًا. واستيعاب ما قالوه لا يسعه المقام هنا، لكني أقول فيها كلمة أرجو أن أوفق إلى أن تكون القول الفصل، إن شاء الله: اتفق المسلمون جميعًا على أن البسملة جزء من آية في سورة النمل، ثابتة ثبوت التواتر القطعي الموجب لليقين. ثم اختلف الفقهاء وغيرهم بعد ذلك: هل هي آية من كل سورة من سور القرآن سوى براءة؟ أو هي جزء من آية؟ أو هي آية مستقلة نزلت مع كل سورة - سوى براءة - لافتتاحها وللفصل بينها وبين غيرها؟ أو هي آية من الفاتحة فقط؟ أو ليست آية أصلًا، لا في الفاتحة ولا في غيرها؟ فنقل العلماء عن مالك والأوزاعي وابن جرير الطبري وداود؛ أنهم ذهبوا إلى أنها ليست في أوائل السور كلها قرآنًا، لا في الفاتحة ولا في غيرها! وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو رواية عن أحمد، وقول لبعض أصحابه، واختاره ابن قدامة في المغني.

وقال أحمد: هي آية في أول الفاتحة وليست قرآنًا في أوائل باقي السور. وهو قول إسحاق وأبي عبيد وأهل الكوفة وأهل مكة وأهل العراق، فيما نقله العلماء، وهو أيضًا رواية عن الشافعي. وقال الشافعي وأصحابه: هي آية من كل سورة سوى براءة. وحكاه ابن عبد البر عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وطاوس ومكحول. وحكاه ابن كثير عن أبي هريرة وعلي وسعيد بن جبير والزهري، وهو رواية عن أحمد. وادعى أبو بكر الرازي الجصاص في أحكام القرآن، أن الشافعي لم يسبقه أحد إلى هذا القول! ! وذهب أبو بكر الرازي الجصاص إلى أنها آية في كل موضع كتبت فيه في المصحف، وليست آية من الفاتحة ولا من غيرها، وإنما أنزلت لافتتاح القراءة بها وللفصل بين كل سورتين - سوى ما بين الأنفال وبراءة - وهو المختار عند الحنفية، قال محمد بن الحسن: "ما بين دفتي المصحف قرآن". وهو قول ابن المبارك ورواية عن أحمد وداود، وقال الزيلعي في نصب الراية: "وهذا قول المحققين من أهل العلم". ونسبة هذا القول إلى الحنفية استنباط فقط، فقد قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (1: 8): "ثم اختلف في أنها من فاتحة الكتاب أم لا: فعدها قراء الكوفيين آية منها، ولم يعدها قراء البصريين، وليس عن أصحابنا رواية منصوصة في أنها آية منها، إلا أن شيخنا أبا الحسن الكرخي حكى مذهبهم في ترك الجهر بها، وهذا

يدل على أنها ليست منها عندهم؛ لأنها لو كانت آية منها عندهم لجهر بها كما جهر بسائر آي السور". وقال شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي في المبسوط (ج 1 ص 16): "وعن معلى قال: قلت لمحمد - يعني ابن الحسن -: البسملة آية من القرآن أم لا؟ قال: ما بين الدفتين كله قرآن. قلت: فلم لم تجهر؟ فلم يجبني، فهذا عن محمد بيان أنها آية أنزلت للفصل بين السور، لا من أوائل السور، ولهذا كتبت بخط على حدة، وهو اختيار أبي بكر الرازي رحمه الله، حتى قال محمد رحمه الله: يكره للحائض والجنب قراءة البسملة على وجه قراءة القرآن؛ لأن من ضرورة كونها قرآنًا حرمة قراءتها على الحائض والجنب، وليس من ضرورة كونها قرآنًا الجهر بها، كالفاتحة في الأخريين". وقد استدل كل فريق لقوله بأحاديث، منها الصحيح المقبول، ومنها الضعيف المردود. وأما أئمة القراءات فإنهم جميعًا اتفقوا على قراءة البسملة في ابتداء كل سورة، سواء الفاتحة أو غيرها من السور، سوى براءة. ولم يرو عن واحد منهم أبدا إجازة ابتداء القراءة بدون البسملة. وإنما اختلفوا في قراءتها بين السور أثناء التلاوة، أي؛ في الوصل: فابن كثير وعاصم والكسائي وأبو جعفر وقالون وابن محيصن والمطوعي وورش من طريق الأصبهاني يفصلون بالبسملة بين كل سورتين، إلا بين الأنفال وبراءة. وحمزة يصل السورة بالسورة من

غير بسملة، وكذلك خلف، وجاء عنه أيضا السكت قليلًا - أي بدون تنفس - من غير بسملة. وجاء عن كل من أبي عمرو وابن عامر ويعقوب وورش من طريق الأزرق؛ البسملة والوصل والسكت بين كل سورتين سوى الأنفال وبراءة. وكل من روى عنه من القراء العشرة حذف البسملة روى عنه أيضًا إثباتها، ولم يرد عن أحد منهم حذفها رواية واحدة فقط. وهؤلاء هم أهل الرواية المنقولة بالسماع والتلقي، شيخًا عن شيخ في التلاوة والأداء. وقد اتفقوا جميعًا على قراءتها أول الفاتحة وإن وصلت بغيرها. قال إمام القراء أبو الخير بن الجزري في كتاب النشر في القراءات العشر (1: 262): "ولذلك لم يكن بينهم خلاف في إثبات البسملة أول الفاتحة، سواء وصلت بسورة الناس قبلها، أو ابتدئ بها؛ لأنها ولو وصلت لفظًا فإنها مبتدأ بها حكمًا، ولذلك كان الواصل هنا حالًا مرتحلًا". ولا خلاف بين أحد من أهل النقل وأهل العلم في أن جميع المصاحف الأمهات، التي كتبها عثمان بن عفان، وأقرها الصحابة جميعًا دون ما عداها كتبت فيها البسملة في أول كل سورة، سوى براءة، وأن الصحابة - رضوان الله عليهم - إذ جمعوا القرآن في المصاحف جردوه من كل شيء غيره فلم يأذنوا بكتابة أسماء السور ولا أعداد الآي، ولا (آمين)، ومنعوا أن يجرؤ أحد على كتابة ما

ليس من كتاب الله في المصاحف، حرصًا منهم على حفظ كتاب الله، وخشية أن يشبه على أحد ممن بعدهم فيظن غير القرآن قرآنًا، فهل يعقل مع هذا كله أن يكتبوا مائة وثلاث عشرة بسملة زيادة على ما أنزل على رسول الله؟ ! ألا يدل هذا دلالة قاطعة منقولة بالتواتر العملي المؤيد بالكتابة المتواترة على أنها آية من القرآن في كل موضع كتبت فيه؟ ! والقاعدة الصحيحة عند أئمة القراء أن القراءة الصحيحة المقبولة هي: ما صح سنده ووافق رسم المصحف ولو احتمالًا وكان له وجه من العربية، وأنه إذا فقد شرط من هذه الشروط في رواية كانت قراءة شاذة أو ضعيفة أو مردودة. وقد ذهب بعض القراء إلى أن التواتر شرط لصحة القراءة. والحق أنه شرط في إثبات القرآن، وأما القراءة فيكفي فيها صحة السند مع ما سبق. وهذا الذي اعتمده إمام القراء ابن الجزري وغيره. ولكن لم يخالف واحد منهم في اشتراط موافقة رسم المصحف، وفي أن القراءة التي تخالفه قراءة غير صحيحة ولو صح سندها. فإذا سلكنا جادة الإنصاف في تطبيق القواعد الصحيحة على الأقوال والقراءات السابقة، وتنكبنا طريق الهوى والعصبية علمنا يقينًا ليس بالظن، أن القول الذي زعموا نسبته إلى مالك ومن معه، في أنها ليست آية أصلًا قول لا يوافق قاعدة أصولية ثابتة، ولا قراءة صحيحة، وأن قراءة من قرأ بأسقاطها في الوصل بين السور قراءة غير

صحيحة أيضًا؛ لأنها فقدت أهم شرط من شروط صحة القراءة، أو هو الشرط الأساسي في صحتها، وهو موافقة رسم المصحف، وظهر أن الحق الذي لا يتطرق إليه الشك، ولا يستطيع مجادل أن ينازع فيه: أنها آية في كل موضع كتبت فيه في المصحف. وأما أنها آية من السور المكتوبة في أولها أو آية مستقلة، فإنه محل نظر وبحث، والذي يظهر لي ترجيح أنها آية من كل سورة كتبت في أولها، أي؛ من جميع سور القرآن سوى براءة، وأنه لا يجوز لقارئ أن يقرأ أية سورة من القرآن - سوى براءة - من غير أن يبدأها بالتسمية التي هي آية منها في أولها، سواء أقرأها ابتداء أم وصلها بما قبلها، وهذا الذي اختاره الشافعي رضي الله عنه، فيما نقله عن العلماء، وهو الذي يفهم من كلامه الذي نقلنا آنفًا عن كتابه "الأم". وبعد: فقد يبدو للناظر بادئ ذي بدء أن يتكره هذا القول وينكره، لما فيه من الحكم على بعض أوجه القراءات السبع بعدم الصحة، لما شاع بين المتأخرين والعامة، من أن هذه القراءات السبع متواترة تفصيلًا، بما فيها من بعض الاختلاف في الحروف وبما فيها من أوجه الأداء، وهذه شائعة غير صحيحة، بدأ القول بها بعض متأخري العلماء، ثم تبعه فيها غيره، ثم أذاعها عامة القراء وعامة أهل العلم، من غير نظر صحيح، ولا حجة بينة، وقد ردها كثيرون من أئمة القراء والعلماء، قال أبو شامة المقدسي: "ونحن وإن قلنا: إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت، وعنهم نقلت فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم

بهذه الصفة، بل فيه الضعيف، لخروجه عن الأركان الثلاثة". وقال إمام القراء الحافظ أبو الخير بن الجزري في كتاب النشر (1: 9 - 10): "كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة، التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها: ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه، قال أبو شامة - رحمه الله - في كتابه المرشد الوجيز: فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة، ويطلق عليها لفظ الصحة، وأن هكذا أنزلت، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف، لا عمن تنسب إليه، فإن القراءات

المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم، تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم". ولم يكن الأئمة السابقون من العلماء يحجمون عن نقد بعض قراءة القراء السبعة وغيرهم، بل كثيرًا ما حكموا على بعض حروفهم في القراءة بأنها خطأ، وقد يكون الناقد هو المخطئ، ولكنه ينقد عن علم وحجة، فلا عليه إن أخطأ، ولو كانت حروف القراء كلها متواترة تفصيلًا كما يظن كثير من العلماء وغيرهم لكان الناقد لحرف منها خارجًا عن حد الإسلام، ولم يقل بهذا أحد، والعياذ بالله من أن نرمي أمثالهم بهذا. فمن أمثلة ذلك؛ أن إمام المفسرين وحجة القراء أبا جعفر محمد ابن جرير الطبري رد قراءة حفص عن عاصم من السبعة، ويعقوب من العشرة في قوله تعالى في سورة الحج [آية 25]: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} بنصب "سواء" فقال في تفسيره (17: 103): "وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه (سواء) نصبًا، على إعمال. (جعلنا) فيه، وذلك وإن كان له وجه من العربية فقراءة لا أستجيز القراءة بها، لإجماع الحجة من القراء على خلافه"! وقد رد الطبري والزمخشري، وهما إماما العربية والتفسير قراءة ابن عامر في قوله تعالى في سورة الأنعام [آية 137]: (وَكَذَلِكَ زُيَّنَ لكثيرٍ مِنْ المشرِكِين قَتَلُ أوَلادَهُم شُرَكَائِهم) فقال الطبري (8: 33)

"وقرأ ذلك بعض قراء أهل الشام (وَكَذَلِكَ زيِّن) بضم الزاي (لكثيرٍ مِنَ المشركين قَتلُ) بالرفع (أولادَهم) بالنصب (شِركائِهم) بالخفض، بمعنى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، ففرقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم، وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح، وقد روى عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيد قراءة من قرأ بما ذكرت من قراءة أهل الشأم رأيت رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه". وقال الزمخشري في الكشاف (2: 42): "وأما قراءة ابن عامر (قتلُ أولادَهم شركائهم) برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء، على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجًا مردودًا، كما سمج ورد * زج القلوص أبى مزاده * فكيف به في الكلام المنثور! فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته! ! ". وقد أطال الإمام ابن الجزري في النشر القول في الرد على الطبري والزمخشري في نقدهما هذا الحرف على ابن عامر، وعقد لذلك فصلًا نفيسًا (2: 254 - 256)، ولسنا بصدد تحقيق الصواب في هذا الخلاف هنا، ولا نبغي أن نحكم بالخطأ على ابن عامر، إنما نريد أن ندل على أن المتقدمين لم يكونوا يرون أن وجوه القراء في حروفهم متواترة كلها، وإلا كان في الإقدام على إنكار بعضها جرأة غير محمودة.

المادة: بعل

وكذلك أنكر أبو إسحاق الزجاج حرفًا من قراءة حمزة في قوله تعالى في سورة الكهف (آية 97): {فَمَا اسْطَاعُوا}. إذا قرأها بتشديد الطاء كما في النشر وغيره من كتب القراءات، قال في لسان العرب (10: 112): "وكان حمزة الزيات يقرأ (فَمَا اسْطَّاعُوا) بإدغام الطاء والجمع بين ساكنين. وقال أبو إسحاق الزجاج: من قرأ بهذه القراءة فهو لاحن مخطئ، زعم ذلك الخليل ويونس وسيبويه وجميع من يقول بقولهم". ولذلك كله لا نرى علينا بأسًا أن نقول: إن قراءة من قرأ بحذف البسملة بين السور في الوصل قراءة غير صحيحة؛ إذ هي تخالف رسم المصحف فتفقد أهم شرط من شروط صحة القراءة، وأن البسملة آية كل سورة في أولها سوى براءة، على ما ثبت لنا تواترًا صحيحًا قطعيًّا من رسم المصحف. المادة: بعل الجزء: 3/ الصفحة: 695 تعليق أحمد شاكر على مادة (بعل): بنى كاتب هذا المقال بحثه على نقطتين: معنى كلمة "بعل" بمعنى الزوج أو المالك أو السيد، ومعناها على أن تكون اسمًا لصنم معين، أو لامرأة كان قوم إلياس النبي يعبدونها. وبث في ثنايا مقاله ما اعتاد المستشرقون أن يبثوه في أبحاثهم:

من إرجاع كثير من الكلمات العربية، وخصوصًا ما يتعلق منها بالقرآن والسنة إلى اللغات الأخرى، كالعبرية ونحوها، ومن محاولة إقناع القارئ بأن هذا القرآن إنما أخذ من التوراة والإنجيل، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - درس كتب الأمم السابقة، واصطنع منها هذا الكتاب، حتى ليكادون يخرجون به في نظرهم عن عروبته وفصاحته، اتباعًا لهواهم، وانتصارًا لرأيهم، وتنفيذًا لخطط موضوعة معروفة عنهم. وقد رددت على إخوان له من قبل - في التعليق على بعض مواد هذه الدائرة - في مادتي "أمة" و"أمي" (في المجلد الثاني ص 631 و 645 - 648) وفي مادة "إنجيل" (في المجلد الثالث ص 18 - 33). وقد ادعى الكاتب هنا - فيما رجحه - "أن محمدًا قصد ببَعْل: بَعَل، كما سمعها في قصة من قصص التوراة"! ! وهذه دعوى عريضة كبيرة، تحتاج إلى قوائم من فولاذ تقف عليها، ولكنا نراهم بنوها على قوائم من ثلج أو ملح، وأسسوها على شفا جرف هارٍ. وفيما كتبنا فيما مضى الكفاية في نقضها. ومما يؤسف له حقًّا أن المفسرين نقلت إليهم أخبار من الإسرائيليات عن قوم كان لهم صنم اسمه "البعل" فيما يزعمون، فرأوا أن يذكروها عند تفسير آيات سورة الصافات، التي يقول فيها النبي إلياس لقومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} [الصافات: 124، 125]. وليس لهذه الأخبار أصل من الكتاب ولا من السنة، ونقل إليهم أيضًا - مما لا أصل له - أن "بعل" اسم امرأة

كانوا يعبدونها. فذكروا هذين القولين، على أنهما مما نقل في معنى "بعلًا" في الآية! ! وممن صنع ذلك الطبري - إمام المفسرين - ولكنه قال عقب ذلك: "وللبعل في كلام العرب أوجه: يقولون لرب الشيء: هو بعله. يقال: هذا بعل هذه الدار. يعني ربها، ويقولون لزوج المرأة: بعلها. ويقولون لما كان من الغروس والزروع مستغنيًا بماء السماء ولم يكن سقيًا: هو بعل، وهو العذى". والعارف بكتاب الطبري وطريقته في التفسير يجزم من صنيعه في تفسير الآية، أنه لم يرض إلا القول الأخير، وإن لم يرد الروايتين الأخريين ردًّا صريحًا. والبخاري - إمام أهل الحديث - لما ذكر هذه الآية في كتاب التفسير من صحيحه، قال: "بَعْلا: ربًّا". ولم يقل غير هذا، ولم يشر إلى الروايات الإسرائيلية (انظر فتح الباري ج 8 ص 417 طبعة بولاق سنة 1301 هـ) وقد أصاب. وأما كلمة "بعل" فإنها عربية أصيلة ليس فيها شية من العجمة، وإن ادعى كاتب المقال أنها سامية، وأنها "بَعَل" وسنذكر الأدلة على ذلك قوية واضحة إن شاء الله. قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن (54): "بعل: البعل هو الذكر من الزوجين، قال الله عز وجل: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]. وجمعه بعولة، نحو فحل وفحولة، قال تعالى:

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]. ولما تُصُوِّرَ من الرجل الاستعلاء على المرأة، فجعل سائسها والقائمَ عليها، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]. سمّى باسمه كلُّ مسْتَعْلٍ على غيره، فسمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله بعلًا [يعني أنهم جعلوه اسمًا نكرة لما يعبدون، كقولهم "صنم" ونحوه فلم يعتبره الراغب علمًا على صنم بعينه، وهو الصواب]. لاعتقادهم ذلك فيه، في نحو قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} [الصافات: 125]. ويقال: أتانا بعل هذه الدابة. أي المستعلي عليها. وقيل للأرض المستعلية على غيرها: بعلٌ. ولفحل النخل: بعل. تشبيها بالبعل من الرجال. ولما عظم حتى يشرب بعروقه: بعلْ، لاستعلائه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سُقى بعلًا العشر". ولما كانت وطأة العالي على المستولي عليه مستثقَلَةً في النفس قيل: أصبح فلان بعلًا على أهله، أي؛ ثقيلًا لعلوه عليهم. وبني من لفظ البعل: المباعلة والبعال، كناية عن الجماع، وَبَعَل الرجلُ يَبْعَلُ بعولةً واستبعل، فهو بعل ومستبعِل إذا صار بعلًا. واستبعل النخل: عظم. وتصُوَّرَ من البعل الذي هو النخل قيامه في مكانه فقيل: بَعِلَ فلان بأمره: إذا دُهش وثبت مكانه ثبوت النخل في مقرّه، وذلك كقولهم: ما هو إلا شجر، فيمن لا يَبرحُ". وهذا النص عند الراغب يجمع معاني هذا الحرف، وهو أدق النصوص؛ لأنه يردها كلها إلى معنى واحد، تفرعت عنه المعاني الأخر، وهو من دلائل عروبة الكلمة، فإنا إذا وجدنا العرب استعملوا

كلمة، ثم أكثروا من تصريفها والاشتقاق منها، والانتقال من معانيها إلى أنواع مختلفة باختلاف الأوزان، وانتقلوا بها إلى معاني تشبه أن تكون بينها وبين المعنى الأول علاقة علمنا أن الكلمة أصيلة عندهم، ومن لغتهم، فإذا وجدناهم خرجوا من هذا إلى تقليب حروفها بالتقديم والتأخير، واستعملوا تقاليب المادة أو أكثرها، بإعادة معنى جديد في كل تغيير منها كان في ذلك اليقين والجزم، وارتفعت كل شبهة في أنها عربية. وقد صنع العرب في هذا الحرف كل ذلك، فاشتقوا من مادة "بعل" ما نقلناه عن الراغب وغيره، ثم استعملوا تقاليبها كلها: قدّموا اللام على العين، فقالوا "بَلِعَ" الشيء بَلْعًا، وابتلعه ابتلاعًا، وقالوا: رجل "بُلَع" كثير الأكل. إلى آخر هذه المادة. ثم قدّموا العين على الباء، فقالوا: رجل "عَبْلٌ" إذا كان غليظًا، والمصدر "العبالة" و"العبولة"، وهكذا. ثم أخروا الباء بعد العين واللام، فقالوا: "العُلْبُ" وجمعه "عُلُوب" وهو الأثر في الجسد، واشتقوا منه فعلًا، وقالوا: "العلبة": و"استعلب" الجلدُ: إذا غلظ، وغير ذلك. ثم أخّروا الباء بعد اللام والعين، فقالوا: "لَعِبَ" ومشتقاتها. ثم قدّموا اللام قبل الباء والعين فقالوا: "ذَهَبَ به ضَبْعًا لَبْعًا". أي؛ باطلًا.

فها هي الصور العقلية كلها في تقليب هذه الحروف الثلاثة (ب ع ل) بالتقديم والتأخير، استعملها العرب جميعًا، وإذا ذهبنا نبحث فيما يخرج منها بتغيير بعض الحروف بما يقاربها في المخرج كما إذا أبدلنا من الباء فاء مثلًا وجدنا الصور الستة فيها مستعملة كلها: (فعل، فلع، عفل، لفع، لعف، علف). وكذلك إذا وضعنا بدل العين حاء، وجدنا تقاليب المادة مستعملة كلها: (بحل، بلح، حبل، لبح، لحب، حلب). وكذلك إذا وضعنا الفاء والحاء بدل الباء والعين: (فحل، فلح، حفل، لفح، لحف، حلف). وهكذا مما لو تتبعناه تفصيلًا طال الأمر جدًّا، فليس من المعقول بعد هذا أن يكون في كلمة "بعل" أية شبهة من العجمة، والنقول التي فيها أن الكلمة بمعنى "الرب" لغة أهل اليمن لا تنافي هذا، فاليمنية عربية، وكثير من الألفاظ التي تفردت باستعمالها عرفت قبل الإسلام في مضر، وقليل منها لم يعرفه سائر العرب، ثم عُرف بعد وكلها لغة واحدة. هذا إلى أني أذهب إلى ما ذهب إليه الشافعي وأبو عُبَيْدةَ: أنه ليس في القرآن كلمة واحدة غير عربية، حاشا الأعلام. وأنصر هذا القول وأجزم بأنه الحق، وإن خالفتُ فيه كثير من الأصوليين واللغويين. قال الشافعي في [كتاب الرسالة] (في الفقرات 131 - 136، ص 41 - 42 من طبعة الحلبي بتصحيحي): "فالواجب على العالمين أَلَّا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك

أولى به، وأقرب من السلامة له، إن شاء الله. فقال قائل منهم: إن في القرآن عربيًّا وأعجميًّا. والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، وَوَجَدَ قائل هذا القول مَن قَبِلَ ذلك منه، تقليدًا له، وتركًا للمسألة له عن حجته، ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أَغْفَلَ مَن أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم". وبعد أن أقام الحجة لقوله، ورد قول مخالفيه، اعتذر عن بدء كتابه بهذا البحث، وقال (في الفقرة 170، ص 50): "فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، وإدْراكُ نافلة خيرٍ لا يَدَعُها إلَّا مَن سَفِهَ نفسَهُ، وتَرَكَ موضعَ حظّه، وكان يجمع مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حَق، وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين من طاعة الله، وطاعة الله جامعة للخير". وقال أبو عبيدة، فيما نقله عنه أبو منصور الجواليقي في [كتاب المعرَّب] (ص 4 من طبعة ليزج سنة 1867): "من زعم أن في القرآن لسانًا سوى العربية فقد أعظَمَ على الله القول". ولعلي أُوَفَّق لتفصيل الحجج لما ذهبت إليه، في مقدمة [كتاب الرسالة] إن شاء الله، وأسأل الله التيسير والعون. بقيت الشبهة التي أثارها كاتب المقال، من أن في اللغة السامية

كلمة "بَعَل" بمعنى مالك الشيء، وأن في سفر الملوك إطلاق هذه الكلمة على صنم. أما ما في سفر الملوك، فإن الذي يبدو لي أن الكلمة لم تكن علمًا على صنم معين، وإنما كانت في الكلام مرادًا بها التنكير أيضًا، على قدر ما فهمت مما في الكلام من ضعف العبارة وسوء الترجمة. وأما وجود الكلمة في اللغة السامية، فإنه لا يدل إلى نقلها منها إلى العربية. وليس اشتراك أصل مادة في لغتين متجاورتين متقاربتين كالسريانية مع العربية، أو كالعبرية مع العربية: بدالّ على أن إحداهما أخذت الكلمة من الأخرى، إلا إذا ثبت يقينًا أن إحدى اللغتين أقدم من الأخرى وأسبق. والسريانية من اللغات القديمة، وكانت لغة إبراهيم النبي عليه السلام، ولم يثبت من وجه قاطع أنها أقدم من العربية، حتى يكون ما فيها من المتفق مع العربية أصلًا له. وقد قلنا شيئًا من هذا المعنى فيما مضى من الدائرة (في المجلد الثاني، ص 631) ثم وجدنا الآن بحثًا فيه جيدًا للحافظ الكبير العلامة ابن حزم في (كتاب الإحكام في أصول الأحكام ج 1، ص 31 - 32) قال: "إن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينًا أن السريانية والعبرانية والعربية، التي هي لغة مضر وربيعة - لا لغة حمير - لغة واحدة،

تبدلت بتبدل مساكن أهلها، فحدث فيها جَرْسٌ كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نَغْمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما. "ونحن نجد من سمع لغة أهل فحْص البَلوُّط، وهي على ليلة واحدة من قرطبة، كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلًا لا يخفى على من تأمله، ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلًا، وهو في البعد من أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق، فنجدهم يقولون في العنب: العِينب، وفي السوط أَسْطَوْط، وفي ثلاثة دنانير، ثلاثدًّا. وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال: السجرة. وإذا تعرب الجِلِّيقي أبدل من العين والحاء هاء، فيقول: مهمد. إذا أراد أن يقول محمد. ومثل هذا كثير، فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا، من تبديل ألفاظ الناس، على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل". وهذا ما قال ابن حزم، وهو قوي جدًّا، وواضح معقول، لا تنقضه أوهام الواهمين، ولا أهواء ذوي الأغراض، وقد وافقناه في أساس نظريته فيما كتبناه تعليقًا على مادة "أمة". ولكن ابن حزم بعد ذلك انتهى إلى نتيجة لا نوافقه عليها، إذ لم

يقم عليها دليل صحيح، فإنه قال: "وإذ قد تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معًا، والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام، فهي لغة ولده، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده، والسريانية بلا شك هي كانت لغة إبراهيم - صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم - بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم، فالسريانية أصل لهما". ووجه نقدنا لابن حزم: أن إسحاق بن إبراهيم، فمن البعيد جدًّا أن تكون له لغة خاصة غير لغة أبيه، وإلا فبماذا كانا يتخاطبان ويتفاهمان! وليس من السهل اعتقاد أن إسحاق اخترع لغة أخرى لنفسه بجوار لغته التي نشأ عليها، إنما المعقول أن تكون العبرانية لغة نشأت عن السريانية على توالي الأزمان في بني إسرائيل بعد أن هاجر إبراهيم من العراق إلى الشأم، ثم تطورت مع تجاور الأمم وتغاير اللهجات، حتى صارت لغة قائمة بنفسها. وأما الشأن في إسماعيل فشيء آخر: المعقول أيضًا أن لغته كانت لغة أبيه السريانية، ونزح به أبوه إلى مكة فأسكنه بين أمة موجودة - كانت في ذلك - هي الأمة العربية، وقد كانت لها لغة تتفاهم بها ولا بد، ومن الظاهر جدًّا أن تكون هي اللغة العربية، الباقية فيهم إلى اليوم وإلى ما شاء الله. وليس من المستساغ ادعاء أن قد كانت لهذه الأمة لغة غير لغتها المعروفة، ثم تنوسيت ودرست، ونشؤوا على لغة غيرها؛ لأنه لم

يأت بذلك خبر، ولا قام عليه دليل. ثم بماذا كان يخاطب إسماعيل هؤلاء الناس الذين نزل بجوارهم؟ أيعقل أن يخترع لغة ثم يفرضها عليهم فرضًا، حتى يدعوا لغتهم إليها؟ ! أظن أن المعقول المفهوم أن يتعلم هو لغتهم؛ إذ صار بجوارهم، وواحدًا منهم، وكان طفلًا رضيعًا، ثم أصهر إليهم، وولد فيهم، وبقي ببلدهم إلى أن مات، ثم كان ولده منهم. فإن لم تكن العربية أقدم من السريانية، فإنها على الأقل كانت بجوارها معروفة لقوم معروفين، ويحتمل جدًّا أن تكونا متقاربتين، وأن يكون الخلاف بينهما قليلًا كالخلاف بين اللهجات المتعددة في اللغة الواحدة، حتى كان ميسورًا لإبراهيم وإسماعيل وهاجر أن يَفْهَموا العرب ويُفْهِموهم، أما أن تكون العربية فرعًا من السريانية أو العبرية فلا. والذي شَبَّه على ابن حزم في هذا أنه سمع أخبارًا سماها "مستفيضة" أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل، وليس لهذا أصل صحيح، بل ورد فيه أثر رواه الحاكم في المستدرك (ج 2، ص 552 - 553) عن ابن عباس، وهو أثر ضعيف الإسناد جدًّا، والثابت الصحيح ينفيه، ففي صحيح البخاري (ج 6 ص 285 - 286) حديث لابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة إبراهيم وإسماعيل، وفيه: أن إسماعيل وهاجر بقيا وحدهما بجوار زمزم، حتى مرت بهم رفقة من جرهم، وأنهم استأذنوها في النزول عندها فأذنت، ثم قال في

المادة: البغوي

الحديث: "فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشَبَّ الغلام وتعلم العربية منهم". إلى آخر الحديث. فهذا نص صريح صحيح، عن خبر الصادق - صلى الله عليه وسلم - أن إسماعيل تعلم العربية من جرهم. وبعد: فإذا كانت كلمة "بَعْل" العربية لها شبه بكلمة في نحو معناها من اللغات السامية، فليس معنى هذا أن العرب أخذوها منهم، ولا يدل على أن ما في القرآن الكريم مأخوذ من التوراة. المادة: البغوي الجزء: 4/ الصفحة: 28 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وجمع البغوي الأحاديث النبوية كلها في كتابه (شرح السنة)، وترجع شهرته في العالم الإسلامي إلى مصنفه في الحديث المعروف بـ (مصابيح السنة)، وقد جمعه من كتب السنة السبعة الصحيحة، وبوبه على أبواب، وقسم الأحاديث في كل باب إلى ثلاث طبقات، صحيحة أخذها من البخاري ومسلم، وحسنة أخذها من السنن، وغريبة وضعيفة". تعليق أحمد شاكر: ليس هذا النقل مطابقًا بالدقة لصنيع البغوي في المصابيح؛ لأنه قسم أحاديث الكتاب في كل باب إلى قسمين فقط: صحاح وحسان.

المادة: البغوي

ثم قال في الحسان: "وأكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل، غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين في علو الدرجة، من صحة الإسناد، إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن، وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه". فيفهم من هذا أنه لم يجعل قسمًا خاصًّا للغريب والضعيف، بل هو داخل قسم (الحسان) عنده، وأن الغرابة والضعف ليسا إلى الدرجة التي تمنع الأخذ بما ذكره في الحسان. ثم هذا التقسيم للبغوي اصطلاح خاص به، ليس موافقًا لمصطلح أهل الحديث، بل هو اصطلاح غير صواب؛ لأنه يخلط الأمر على القارئ، فإن في كثير من كتب السنن الثلاث التي أخذ منها الحسان، وهي أبو داود والترمذي والنسائي: أحاديث صحيحة جدًّا، لا تقل في الصحة عن درجة ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وقد انتقد كثير من المتقدمين صنيع البغوي هذا وأبانوا عن خطئه، وإن كان اصطلاحًا خاصًّا به. المادة: البغوي الجزء: 4/ الصفحة: 28 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن شروح كتاب (المشكاة) للبغوي: "ونذكر من بين شروح هذا الكتاب شرح ابن حجر الهيثمي المتوفى عام 974 هـ (1566 م) الذي طبع بالقاهرة عام 1309 هـ (1891 م) في خمسة مجلدات".

المادة: بئر معونة

تعليق أحمد شاكر: هذا غلط من الأستاذ المستشرق بروكلمان ويظهر أنه سها عن النقل؛ إذ إن شرح ابن حجر الهيثمي على مشكاة المصابيح مجلد واحد، فقط واسمه (فتح الاله في شرح المشكاة)، وهو مخطوط بدار الكتب المصرية (رقم 354 حديث) ولم يطبع قط فيما نعلم، لا في مصر ولا في غيرها، وأما المطبوع في مصر سنة 1309 في خمسة مجلدات فهو (مرقاة المفاتيح لمشكاة المصابيح) تأليف العلامة ملا علي بن سلطان محمد الهروي القارئ المتوفى بمكة في شوال سنة 1014 هـ (فبراير سنة 1606 م) وهو شرح نفيس معروف، وقد أدرك العلامة بروكلمان غلطه هذا فأصلحه في الملحق الأخير لكتابه في تاريخ آداب العرب الصادر في العام الماضي، وقد أطلعني عليه بعض الإخوان العارفين باللغة الألمانية. المادة: بئر معونة الجزء: 4/ الصفحة: 387 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والحق أن أمامنا سرية حدثت بالفعل كما يستدل من كِتاب "المغازي"، وكما هو مؤكد من دراسة المصادر دراسة مقارنة. ولم تكن هناك حاجة تتطلب 70 قارئًا لتحفيظ القرآن، بل لا شك في أنه لم يكن في المدينة حينئذ مثل هذا العدد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه الأحوال لا يرسل سوى قارئ أو اثنين فقط (الأغاني ج 6 ص 19، 9 إلخ)

وقد اخترع المحدثون هذه القضية لتغطية حملة خانها التوفيق ولإثبات كثرة عدد القراء وشدة قدمهم وإصباغ القداسة عليهم ... وحدثت هذه الوقعة في صفر من العام الرابع للهجرة أو في الشهر الثالث والستين للهجرة بعد وقعة أحد بأربعة عشر شهرًا. ويقال إنه نزلت آية أخرى علاوة على الآية 163 من سورة آل عمران لتهدئة الخواطر الثائرة في المدينة ثم نسيت أو نسخت من القرآن. وهذه الآية نصها: (بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) ". تعليق أحمد شاكر: قصة سرية بئر معونة معروفة في كتب السير والمغازي والتاريخ والحديث. وهي أن رعلًا وذكوان وعصية طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مددًا يقاتلون به قومهم، وادعوا أنهم أسلموا، فأرسل إليهم رسول الله سبعين رجلًا فغدروا بهم وقتلوهم، وأن رسول الله مكث شهرًا يقنت في صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان وعصية الذين عصوا الله ورسوله، وأن الله أنزل في شأنهم قرآنًا يتلى، وأن الآية التي نزلت في شأنهم نسخت تلاوتها. ومن العجب أن يصور (الأب لامنس) كاتب المقال خيالًا يزعمه: (أن المحدثين اخترعوا قصة القراء لتغطية حملة خانها التوفيق، ولإثبات كثرة عدد القراء وشدة قدمهم وإسباغ القداسة عليهم)، وأن الآية التي نزلت ثم نسخت نزلت (لتهدئة الخواطر الثائرة في المدينة) .. وليس بالمحدثين من حاجة إلى اختراع

الأكاذيب - في زعمه - لتغطية حملة خانها التوفيق، فإن المسلمين كانوا يحاربون المشركين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، وكانوا ينتصرون، كما كان ينتصر عليهم عدوهم في بعض المواقع، فلم يخونوا التاريخ، ولم يخترعوا نصرًا موهومًا، كما نرى في غيرهم من الأمم، بل كانوا صادقي الرواية، مؤدي الأمانة على وجهها، وقد هزموا أو هزم بعضهم في غزوة أحد وفي غزوة حنين، ولم يخفوا ذلك، بل أنزل الله في شأن ذلك قرآنًا يتلى إلى اليوم، فما الحاجة بعد هذا إلى اختراع قصة لستر حملة خانها التوفيق؟ ! وأما ما رضيه قلمه لنفسه مما يقول فيه: (وكانت خطة النبي تقتضيه التدخل في مثل هذه الأمور الدنيوية). وما يريد أن يشير إليه في ذلك، مما يفهمه القارئ النبيه، فليس لنا إلا أن نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بدين رهبانية، بل جاء بدين لمعاملة الإنسان مع نفسه ومع ربه ومع الخلق، وجاء بدين يحض أتباعه على الجهاد وعلى العزة، وعلى العمل للدنيا وللآخرة، فإن كان هذا لا يرضي الأب لامنس فلسنا نستطيع أن نرضيه. وأما ما ورد في القصة أن السبعين كانوا من القراء وزعمه أن (لا شك في أنه لم يكن في المدينة حينئذ مثل هذا العدد) فإنه جرى فيه على طريقته وطريقة إخوانه في رد الأحاديث الصحيحة والأخبار المتواترة المتعلقة بالإسلام، وليس قوله في هذا إلّا تعرضًا لما لا يعلم، أو جحدًا لما يعلم ويوقن بصحته.

والمحدثون الذين يرميهم الأب لامنس وغيره باختراع الأحاديث، هم الذين ابتكروا أدق الطرق العلمية العقلية لنقد الأخبار المنقولة، وإثبات الصحيح منها ونفي الباطل، ومن درس آثارهم وعلومهم وفقه ما ارتضوه من ذلك أيقن في نفسه بصحة ما نقول. ومن إبداع الأب لامنس في الإيهام أن يقول: (وكان النبي في مثل هذه الأحوال لا يرسل سوى قارئ أو اثنين فقط، الأغاني جـ 6، ص 19، 9 ... إلخ). كأنه وضع يده على نص في الأغاني بما يزعم! ! وليس في الأمر شيء من هذا، إنما يريد أن يضع في ذهن قارئ مقاله صحة ما يرمي إليه بأنه أشار إلى مستند عظيم من كتب المسلمين! وهو يعلم أن أكثر قارئيه من الإفرنج ليس بيدهم كتاب الأغاني. وقد رجعنا إلى الموضع الذي أشار إليه في الأغاني فلم نجد شيئًا، بل وجدنا في (جـ 6، ص 89 وما بعدها من طبعة الساسي) وهي توافق (ص 92 وما بعدها من طبعة بولاق) أخبار أبي سفيان بن حرب، وفي أثنائها خبر إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل ملك الروم. فظننت أن في هذا الموضع خطأ مطبعيًّا في (دائرة المعارف) في الطبعة الإنجليزية فطلبت إلى إخواني مترجميها أن يرجعوا إلى الطبعة الفرنسية منها، فوجدوه فيها (الأغاني جـ 4، ص 19، 9 ... إلخ). فرجعت إلى الجزء الرابع فوجدت فيه (ص 17 - 33) قصة غزوة بدر! ولا أزال أعجب من أمر الأب لامنس في الإشارة إلى هذه المواضع، ولا أدري ماذا يريد أن يستدل به منها؟

وأما القول الذي يشير فيه من أن الآية 163 من سورة آل عمران تشير إلى ذلك فإن الآية المشار إليها هي قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}. وهي الآية 169 من السورة على عد المصحف المطبوع بأمر المغفور له الملك فؤاد الأول، فإن هناك رواية رواها الطبري في تفسيره، أنها نزلت في أهل بئر معونة، والصحيح أنها نزلت في قتلى أحد. وهو القول المعتمد عند أهل العلم. في قتلى أحد. وهو القول المعتمد عند أهل العلم. مصادر أخرى للبحث: تاريخ الطبري (جـ 3، ص 33 - 36 طبعة الحسينية بمصر). تفسير الطبري (جـ 4، ص 114 - 115 طبعة بولاق). تاريخ ابن كثير (جـ 4، ص 71 - 74). تفسير ابن كثير (جـ 2، ص 288 - 294 طبعة المنار بمصر). سيرة ابن سيد الناس (جـ 2، ص 43 - 48). سيرة ابن هشام (جـ 3، ص 184 - 191 طبعة التجارية بمصر). الدر المنثور للسيوطي (جـ 2، ص 94 - 97) أسباب النزول للسيوطي (ص 54). فتح الباري شرح البخاري (ج 7، ص 290 - 301 طبعة بولاق).

المادة: البيهقي

المادة: البيهقي الجزء: 4/ الصفحة: 430 تعليق أحمد شاكر على مادة (البيهقي) في دائرة المعارف: ومما طبع من مؤلفات البيهقي أيضًا كتاب (الأسماء والصفات) طبع بالهند سنة 1313 وطبع بمصر أيضًا أخيرًا، وكتاب (القراءة خلف الإمام) طبع بالهند في سنة 1915 م وهو جزء متوسط في 160 صفحة تصحيح المصادر ومصادر أخرى. ترجمة البيهقي في ابن خلكان (جـ 1، ص 24 - 25 طبعة بولاق) وطبقات الحفاظ للذهبي (جـ 3 ص 209 - 317) طبعة الهند، والبداية والنهاية لابن كثير (جـ 12، ص 94) وشذرات الذهب لابن العماد (جـ 3 ص 304 - 305). المادة: تابع الجزء: 4/ الصفحة: 437 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وهناك أيضًا طبقات من رواة الحديث الخاص بقراءة القرآن والخاص بالصوفية، والحسن البصري هو أشهر رواة الطبقة الأولى". تعليق أحمد شاكر: الحسن البصري تابعي مشهور، وهو من أئمة القراء، كما هو من

المادة: تأويل

أئمة الحديث والفقه والوعظ. ولد سنة 21، ومات سنة 110، وله ترجمة في طبقات ابن سعد (ج 7 ق 1 ص 114 - 129) وحلية الأولياء لأبي نعيم (ج 2 ص 131 - 161) وطبقات القراء لابن الجزري (ج 1 ص 35)، وفي التهذيب وابن خلكان وغيرها. والصوفية يرجعون بأسانيدهم في التصوف إليه، إن صحت هذه الأسانيد، وليست من الأسانيد التي يحتج بها علماء الحديث. المادة: تأويل الجزء: 4/ الصفحة: 524 تعليق أحمد شاكر على مادة (تأويل) في دائرة المعارف: أصل مادة "تأويل" من المعنى اللغوي "آل يؤول أولا" أي: رجع إلى أصله. ثم استعمل في كلام العرب وفي القرآن خاصة بمعنى التفسير، أو بشيء قريب من معناه، فالتفسير والتأويل: كشف المراد عن الشيء المشكل. وفرق بعض العلماء بينهما، فكثر استعمال التفسير فيما يتعلق بشرح المفردات والألفاظ، والتأويل فيما يتعلق بالمعاني والجمل. واصطلح الفقهاء وغيرهم على معنى آخر للتأويل؛ هو تفسير الآية أو الحديث بمعنى غير ما يفهم من ظاهر اللفظ، ولذلك يقول العلماء كثيرًا في عباراتهم مثلًا: إن هذا الحديث أو هذه الآية من الصريح الذي لا يحتمل التأويل، أي؛ لا يحتمل معنى آخر يخرجه عن المراد الظاهر من لفظه، فالمعنى الظاهر من

الكلام لا يخرج عن المفسر والمؤول إلا بدليل أو قرينة؛ لأنه يكون شبيها بالمعنى المجازي، وقد ورد لفظ "التأويل" في آيات من القرآن على المعنى اللغوي الأصلي، ولكن بعض العلماء والمفسرين ظنها مما يدخل في "التأويل" الاصطلاحي، فنشأ عن ذلك اختلاف واضطراب في آرائهم. والحق أن ذلك على المعنى اللغوي الواضح. ففي لسان العرب (13: 25): "وأما قول الله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] فقال أبو إسحاق: معناه: هل ينظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم من البعث، قال وهذا التأويل هو قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] أي: لا يعلم متى يكون أمر البعث، وما يؤول إليه الأمر عند قيام الساعة إلا الله. {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] أي: آمنا بالبعث والله أعلم. قال ابن منصور: وهذا حسن". وأقول: بل هو الصواب الذي لا يفهم من القرآن غيره. ثم دخل على المسلمين ناس اتبعوا المتشابه في مثل هذا، وأكثروا من القول في القرآن بغير علم، حتى ادعوا أن له ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن لا يعلمه هؤلاء إلا بشيء يزعمونه نحو الإلهام. وهم لم يفقهوا ظاهر القرآن ولم يعرفوا شيئًا من السنة، أو عرفوا وأعرضوا عنه لما وقر في نفوسهم من حب الإغراب، أو من آراء تنافي الإسلام فأرادوا أن يلصقوها به، وعن ذلك نشأت تأويلات الصوفية وغيرهم ممن أشار إليهم كاتب المادة. وهذه التأويلات لا تمت إلى الإسلام بصلة، وإن كان قائلوها يسمون بأسماء إسلامية،

المادة: التجارة

ويذكرون في تاريخ الإسلام، وتذكر أقوالهم وآراؤهم مع آراء علماء الإسلام. والإسلام دين واضح سهل، لا رموز فيه ولا ألغاز، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك المسلمين على المحجة الواضحة، ليلها كنهارها، فكل من حاد عن هذه السبيل، فإنما أعرض عن الصراط المستقيم، وتفرقت به السبل، حتى خرج بعضهم عن كل طريق من طرق الإسلام، أو من الطرق التي تشبه أن تتصل بالإسلام ممن وصفهم كاتب المادة بقوله: (بل صارت أحكام القرآن في رأي أصحابها غير واجبة الاتباع). ومن ذهب هذا المذهب أو قريبًا منه فلا يمكن أن يعد من المسلمين، ولا أن ينسب قوله إلى أقوال أهل الإسلام. المادة: التجارة الجزء: 4/ الصفحة: 581 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن كلمة (التجارة): "وعدم التيقن من الصيغة التي تجمع عليها بينة أخرى على أصلها الأعجمي، فابن الأثير يورد في كتابه النهاية إلى جانب صيغ الجمع التي تجرى على القواعد، وهي تجار وتِجار صيغة تُجار". تعليق أحمد شاكر: ليس فيما قاله كاتب المقال ما يدل أو يشير إلى عجمة الكلمة، بل هي عربية أصلية، لاستعمال القرآن أصل المادة (تجارة)، وليس في القرآن كلمة أعجمية إلّا من الأعلام، وهذا هو الصحيح الذي

المادة: التجارة

ذهب إليه الإمام الشافعي في كتاب الرسالة (انظره بشرحنا ص 4 - 50) ومطابقة بعض الكلمات في الآرامية أو غيرها للحرف العربي، أو مقاربتها إياه ليس دليلًا على نقل العربي من الأعجمي، فإن أرجح الاحتمالين أن العربية أقدم اللغات السامية (وانظر تعليقنا على مادة "بعلبك" في هذه الدائرة ج 3، ص 695 - 700)، وأغرب ألوان التشكيك في عربية الكلمة ما اخترعه كاتب المقال من كثرة جموع كلمة "تاجر" مما سماه هو "عدم التأكد من الصيغة التي تجمع عليها". ومن الواضح البديهي أن أغلب الكلمات العربية يكون لها جمعان أو ثلاثة أو أكثر. المادة: التجارة الجزء: 4/ الصفحة: 583 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وفي حديث أورده زيد في مجموع الفقه: "الاكتساب من الحلال جهاد، وإنفاقك إياه على عيالك وأقاربك صدقة، ولدرهم حلال من تجارة أفضل من عشرة حلال من غيره ... ". تعليق أحمد شاكر: هذا ليس حديثًا بل هو أثر مروي عن علي بن أبي طالب في مسند الإمام زيد المسمى (المجموع الفقهي) (ص 103، طبعة المنار، مصر، 134 هـ).

المادة: الترمذي

المادة: الترمذي الجزء: 5/ الصفحة: 230 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن (جامع الترمذي): "وفي طبعة القاهرة تعرف مجموعته في الأحاديث باسم الصحيح، أما في غيرها من الطبعات فتعرف بالجامع". تعليق أحمد شاكر: هذا ليس اختلافًا في التسمية من الطابعين، بل إن كتاب الترمذي يقال له: "السنن". كباقي السنن الأربعة، وقد سماه المتقدمون الجامع الصحيح؛ فسماه بذلك الحاكم صاحب المستدرك وغيره؛ لأن أكثر أحاديثه صحاح، والضعيف فيه قليل جدًّا، وقد بين هو ضعف الضعيف، وهو جامع؛ لأنه يجمع إلى أبواب الأحكام أبوابًا أخرى، كما بينه كاتب هذه المادة. المادة: الترمذي الجزء: 5/ الصفحة: 231 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن الترمذي: "هذا الموضوع في كتاب الأم ليست كاملة وقلما يوثق بصحتها". تعليق أحمد شاكر: ليس للكاتب دليل على هذا التشكيك.

المادة: تسنيم

مصادر أخرى عن الترمذي: - تهذيب الكمال للحافظ المزي، مخطوط بدار الكتب المصرية. - نكت الهميان للصلاح الصفدي ص 264 - 265. - الكامل لابن الأثير جـ 7، ص 164 - 165. - النجوم الزاهرة لابن تغري بردي جـ 3، ص 81 - 82. - مفتاح السعادة لطاشكبري زاده جـ 2، ص 11. - شذرات الذهب لابن العماد جـ 2، ص 174 - 175. - شروط الأئمة أصحاب الكتب الستة للحافظ أبي الفضل المقدسي، مخطوط. - شروط الأئمة الخمسة للحازمي، جزء صغير مطبوع. - كشف الظنون جـ 1، ص 375. - الفهرست لابن النديم ص 325. - عارضة الأحوذي للقاضي أبي بكر العربي جـ 1، ص 5 - 6. - مقدمة شرح الترمذي لأحمد محمد شاكر. المادة: تسنيم الجزء: 5/ الصفحة: 245 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وفي رأي الشافعي، أن القبور يجب ألا تُرفع إلا بقدر ما يُعرف

المادة: التشريق

به أنها قبور، لكيلا يطؤها الناس أو يجلسون عليها". تعليق أحمد شاكر: روى الترمذي (جـ 1، ص 195 طبعة بولاق) عن علي بن أبي طالب "أنه قال لأبي الهياج الأسدي: أبعثك على ما بعثني به النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته". ثم قال الترمذي: "حديث على حديث حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، يكرهون أن يرفع القبر فوق الأرض، قال الشافعي: أكره أن يرفع القبر إلا بقدر ما يعرف به أنه قبر، لكيلا يوطأ ولا يجلس عليه". وهذا هو الحق، فإن إظهار القبر قليلًا كما قال الشافعي لا بأس به، وأما تشريفه وإعلاؤه، فإنه حرام وتجب إزالته وتسويته، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المادة: التشريق الجزء: 5/ الصفحة: 262 جاء في دائرة المعارف الإسلامية في بيان معنى كلمة (التشريق) عند المسلمين: "وكانت كلمة التشريق تطلق في صدر الإسلام على الصلاة التي تقام في صبيحة العاشر من ذي الحجة، ولعلها كانت من كلمات الجاهلية فلم يقطع المسلمون فيها بتفسير، من ذلك أنهم أخذوا

المادة: التشريق

بظاهر الكلمة، فقالوا: إنها من تشريح اللحم المتبقى من الضحية في ذي الحجة وتقديده. وهو تفسير يشك فيه". تعليق أحمد شاكر: ما الداعي إلى الشك فيه؟ قال في اللسان: "تشريق اللحم تقطيعه وتقديده وبسطه، ومنه سميت أيام التشريق، وأيام التشريق ثلاثة، بعد يوم النحر؛ لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس، أي يشزر". المادة: التشريق الجزء: 5/ الصفحة: 262 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وفي حديث من أحاديث الآحاد، أن كلمة التشريق مأخوذة من تلاوة الكلمات الآتية: (أشرق ثبير كيما نغير) تعليق أحمد شاكر: ثبير جبل بظاهر مكة، والإغارة الدفع، والمعنى كما في لسان العرب: ادخل أيها الجبل في الشروق، وهو ضوء الشمس، كيما نغير، أي كيما ندفع للنحر، وكانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، فخالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض قبل طلوع الشمس، كما ثبت في الحديث الصحيح. وانظر نيل الأوطار للشوكاني، (جـ 5، ص 142 من الطبعة المنيرية).

المادة: التقليد

المادة: التقليد الجزء: 5/ الصفحة: 412 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن تقليد النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي: "ولا يبعد أن يكون محمد فعل ذلك". تعليق أحمد شاكر: بل قد ثبت في الأحاديث الصحاح، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلد هدية في حجة الوداع. وشك كاتب المقال في هذه الأحاديث لا يؤثر في صحتها، وأهل العلم بالحديث وعلماء الإسلام أعرف بالصحيح من الضعيف. المادة: التقليد الجزء: 5/ الصفحة: 412 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن حديث البخاري في تقليد الهدي: "ومن هنا اشتد الحديث الذي أورده البخاري (كتاب الأضاحي، باب 15) في إنكار هذا الإحرام، وهو حديث موضوع ظاهر الهوى". تعليق أحمد شاكر: لا ندري لماذا رضي كاتب المقال أن يحكم بوضع الحديث؟ وما دليله على ذلك، وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وسترى أنه هو الذي أخذ به كل العلماء أو أكثرهم.

المادة: التقليد

المادة: التقليد الجزء: 5/ الصفحة: 413 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن صيرورة الرجل محرمًا بتقليد الهدي: "ولما اكتمل الفقه ضاق بهذا الإحرام وأهمله، ولا شك في أن المسلمين نبذوه من عهد قريب. وإذا خلينا عبد الله بن عباس، وهو إمام القائلين بهذا الإحرام، وإن لم يدعم ذلك سند تاريخي، وعمر، وعلي، وقد ذكرا في هذا المقام خطأ، وعبد الله بن عمر الذي استشهد به في تأييد الرأي المناهض، فإن القول بالإحرام في هذه الحال لم ينسب إلا لقيس بن سعد بن عبادة، وإبراهيم النخعي، وعطاء، ومحمد بن سيرين، أما الإشارات العارضة إلى غيرهم فلا يعول عليها كثيرًا". تعليق أحمد شاكر: خلاصة القول في هذا؛ أن الرجل إذا قلد هديه وأرسله إلى مكة وهو باق في بلده، هل يصير بذلك محرمًا، فيمتنع عما يمتنع منه المحرم من اللباس والطيب والنساء وغير ذلك أولا؟ فذهب ابن عباس إلى أنه يحرم عليه ما يحرم على المحرم حتى ينحر هديه. قال النووي: "وكذا مذهب ابن عمر إن صح عنه في هذه المسألة شيء". وذهب كافة العلماء إلى أنه لا يصير محرمًا بذلك، وإنما يصير محرمًا

المادة: التقليد

بنية الإحرام إذا نواه. وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث، ويؤيده حديث النسائي الذي أشار إليه كاتب المقال: "عن جابر: أنهم كانوا إذا كانوا حاضرين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعث بالهدي، فمن شاء أحرم ومن شاء ترك". وانظر المجموع للنووي شرح المهذب (8: 360 - 361) ونيل الأوطار للشوكاني (5: 193 - 195) وتفسير القرطبي (6: 39 - 42). المادة: التقليد الجزء: 5/ الصفحة: 413 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وقد يسر سعيد بن المسيب الإحرام تيسيرًا كبيرًا، وإن كان قد أبقى على ركن من أركانه، فمنع الجماع في ليلة الجمعة". تعليق أحمد شاكر: هذا نقل عجيب! ! ولا نظن عالمًا يقول به. المادة: التقليد الجزء: 5/ الصفحة: 413 - 414 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ونختم ذلك فنقول؛ بأنه جاء في حديث أن تقليد الإبل بالأوتار (تسمى أيضًا قلائد) يدفع عنها العين، خصوصًا إذا تدلى منها ناقوس".

تعليق أحمد شاكر: نقل غريب عجيب أيضًا، ونخشى أن يكون تحريفًا، فإن كاتب المقال رأى حديثًا في الموطأ ليس في أبواب الحج، بل هو في أواخر الكتاب في باب "ما جاء في نزع المعاليق والجرس من العين" (ج 3 ص 118 طبعة الحلبي سنة 1343) وهو عن أبي بشير الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل للناس وهم في مقيلهم، يعني نزولهم للقيلولة في السفر: "لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وبر أو قلادة إلا وقطعت". قال يحيى: سمعت مالكا يقول: أرى ذلك من العين". فهذا الحديث في النهي عن تقليد الإبل في السفر، ولا علاقة له بالهدي، وقد ظن مالك أن هذا التقليد كانوا يصنعونه من أجل العين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عنه. فلا معنى لأن يأتي به الكاتب بشكل يوهم أن هذا العمل من شعائر الإسلام، والنبي قد نهى عنه. ثم قد ورد النهي عن تعليق الأجراس في أعناق الدواب، كما في حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر. وعن أنس نحو ذلك. رواهما ابن حبان في صحيحه. بل إن النهي عن اتخاذ الأجراس عام في أحاديث كثيرة. وانظر الترغيب والترهيب للمنذري (ج 4 ص 67 - 68 الطبعة المنيرية) وهناك حديث آخر في شأن الخيل رواه أحمد بن حنبل في مسنده (ج 3 ص 352): (عن جابر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخيل معقود في نواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فامسحوا بنواصيها وادعوا لها بالبركة، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار"). وفسره ابن الأثير في النهاية بمعان، أجودها:

"أراد بالأوتار جمع وتر القوس، أي لا تجعلوا في أعناقها الأوتار فتختنق؛ لأن الخيل ربما رعت الأشجار فنشبت الأوتار ببعض شعبها فخنقتها، وقيل: إنما نهاهم عنها؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن تقليد الخيل بالأوتار يدفع عنها العين والأذى، فتكون كالعوزة لها، فنهاهم وأعلمهم أنها لا تدفع ضررًا ولا تصرف حذرًا". المادة: التقليد الجزء: 5/ الصفحة: 415 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ويستعمل الشافعي (الرسالة، ص 8، س 18) لفظ التقليد بمعنى قريب جدًّا" تعليق أحمد شاكر: يشير إلى موضع الصفحة والسطر من رسالة الشافعي طبعة بولاق سنة 1321 وهما الفقرتان (135 - 136) من طبعة الحلبي بشرحنا سنة 1357 - 1938 (ص 42)، وهو ينكر على بعض من يزعم أن في القرآن كلمات معربة نقلت من غير اللغة العربية، وأن بعض الناس قلد من زعم هذا الزعم، ونص عبارته: "ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه، تقليدًا له، وتركًا للمسألة له عن حجته، ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم". وقد علقنا على هذا في شرحنا هناك بما نصه: "الشافعي لا

يرضى لأهل العلم أن يكونوا مقلدين، وكان - رضي الله عنه - حربًا على التقليد، وداعيًا إلى الاجتهاد والأخذ بالأدلة الصحيحة، وعن هذا قال تلميذه أبو إبراهيم المزني، المتوفى سنة 264، في أول مختصره الذي أخذه من فقه الشافعي: اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله؛ لأقربه على من أراده، مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه، ج 1 ص 2 من هامش كتاب الأم". المادة: التقليد الجزء: 5/ الصفحة: 416 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وللمقلد من الوجهة النظرية أن يختار اجتهادًا جديدًا كلما عرضت له مسألة من المسائل، ولكن المتبع أن يلتزم مذهب من المذاهب الأربعة المقررة". تعليق أحمد شاكر: ليس هناك أي دليل على وجوب اتباع مذهب من المذاهب الأربعة، وإنما هذه كلمة شاعت عند العوام في عصور ضعف فيها العلم، واشتدت العصبية بين العلماء لمذاهب الأئمة الذين تبعوهم، وقد كانت هناك أيام العصبية مذاهب أخرى يتعصب لها أتباعها، كمذهب داود الظاهري ومذهب ابن جرير الطبري - صاحب التفسير - ومذهب الأوزاعي وغيرهم. تم ضعف العلماء فقلدوا العوام

والجهال في العصبية للمذاهب الأربعة، ومن عجب أن يقلد العالم الجاهل. وأما الأئمة - رضي الله عنهم - فما كان أحد منهم ليرضى أن يقلده أحد، بل كانوا يعلمون العلم ويظهرون الناس على أدلته، ويجادلهم تلاميذهم وأتباعهم، ويوافقونهم ويخالفونهم، ولم يجعل الله قول أحد من العلماء حجة على الناس، بل الحجة في الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فما علمه العالم من الدليل واقتنع به وجب عليه اتباعه، وحرم عليه أن يخالفه لقول أحد كائنًا من كان، في كل عصر وحين. وإنما أوهم الناس في هذا الشأن أن ظنوا أن معنى "الاجتهاد" أن يكون العالم المجتهد إمامًا في كل علم وفي كل مسألة، وأن يضع للناس مذهبًا يتبعونه ويلزمون به، ولم يقل هذا أحد. والاجتهاد بلوغ الجهد في المسألة، فرب عالم متوسط درس مسألة واحدة وأتقنها وعرف وجه الحق فيها، ووصل إلى ما لم يصل إليه أعلم منه، وهذا أمر بديهي مشاهد في كل العلوم والمسائل. نعم قد يخطئ العالم، ولكن الله لم يكلفه إلا أن يعمل بما علم وبما وصل إليه اجتهاده. وهذا بالضرورة في المسائل النظرية الخلافية، وأما المسائل المعروفة من الدين معرفة قطعية؛ وهي الأشياء المتواترة تواترًا علميًّا أو عمليًّا فليست محل اجتهاد ولا خلاف، ولا يسمى الآخذ بها مقلدًا؛ لأنها قطعية يقينية. وأكثر العلماء المتقدمين من أئمة الفقه والحديث إنما كان هذا شأنهم،

المادة: التقية

درسوا المسائل، وعرفوا أدلتها، وعرفوا أقوال الأئمة، ورضوا منها ما اطمأنت له قلوبهم وأخذوا به، فظنهم الجاهلون مقلدين، وإنما هم مجتهدون وافق اجتهادهم اجتهاد غيرهم. وممن أفاض القول في وجوب الاجتهاد على العلماء ومنع التقليد العلامة ابن القيم في (إعلام الموقعين) فليرجع إليه من شاء يقتنع، والحمد لله. المادة: التقية الجزء: 5/ الصفحة: 419 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وفي مسائل العقائد تخلص محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه من العذاب في سبيل الدين بالقول: بأن عيسى لم يقتل ولم يصلب وإنما شبه لمن زعموا قتله، كما تخلص من العذاب في الحياة بالهجرة، وبإباحة إنكار العقيدة عند الضرورة، واتخاذ الكافرين أولياء، وأكل ما حرم، وهذه النظرة عامة في الإسلام". تعليق أحمد شاكر: يكفي أن نقول: ليس كذلك. المادة: التقية الجزء: 5/ الصفحة: 421 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "على أن النزوع إلى القول بأن التقية ليست في الأكثر إلا شيئًا

جائزًا وأنها ليست واجبة في جميع الأحوال كما يذهب بعض أهل السنة استنادًا إلى الآية (191) من سورة البقرة أدى إلى وضع أحاديث في التحذير منها، مثل: "رأس الفعل المداراة". تعليق أحمد شاكر: لا يفهم أن هذا اللفظ تحذير من التقية ولا حض عليها. ثم ما الذي يحفزهم على التزام ادعاء وضع الأحاديث عند كل مناسبة، والذي ورد في هذا حديث "رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس". وهو حديث في صحته خلاف. انظره في كشف الخفاء (ج 1، ص 421 - 422) وحديث: "مداراة الناس صدقة". وهو حديث رواه الطبراني وأبو نعيم وابن السني وابن حبان عن جابر وصححه ابن حبان. وانظر كشف الخفاء (ج 2، ص 200)، والجامع الصغير (طبعة التجارية سنة 1352، رقم 4368 و 8170)، وروضة العقلاء (لابن حبان)، ص 55)، وفتح الباري للحافظ ابن حجر (ج 10، ص 437، وليس في هذين الحديثين ما يدل على وجوب التقية أو التحذير منها، بل هما أمر بحسن معاملة الناس وتعليم في مكارم الأخلاق، لا يمنعان قائلًا أن يقول الحق في مواطن الصدق. المادة: التقية الجزء: 5/ الصفحة: 423 تعليق أحمد شاكر على مادة (التقية) في دائرة المعارف: قال الله تعالى في الآية 28 من سورة آل عمران: {لَا يَتَّخِذِ

الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]. فهذه الكلمة "تقية" رسمت هكذا في المصحف، فقرأها ثلاثة عشر من القراء الأربعة عشر "تُقَاةً" بضم التاء وفتح القاف وبعدها ألف، وقرأها ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والضحاك وأبو حيوة وسهل وحميد بن قيس والمفضل عن عاصم ويعقوب أحد القراء الأربعة عشر "تَقيَّةً" بفتح التاء وكسر القاف وتشديد الياء المفتوحة. وكلاهما مصدر فعل " اتَّقَى". فتقاة أصله "وُقَيَة" أبدلت الواو تاء كما أبدلوها في تُجاة وتُكاة، وأنقلب الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو مصدر على "فُعَلَة"، كالتُؤَدَة والتُخَمَة، والمصدر على "فُعَل" "وفُعَلَة" جاء قليلًا. "وتقيَّة" مصدر على وزن "فَعِيلَة"، وهو قليل، نحو النميمة، وكونه من "افْتَعَل" نادر. هذا تصريف الكلمة على القراءتين، كما قرره أبو حيان في تفسير البحر المحيط (ج 2 ص 424). فهذه الآية والآية الأخرى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. هما اللتان اتخذ منهما القائلون بالتقية أصل قولهم، ثم غلا أتباعهم في معناهما حتى أخرجوهما أو كادوا يخرجونهما عن أصل معناهما، وقد بين أئمة العلماء المراد في هذا المعنى، فقال أصحاب أبي حنيفة: التقية رخصة من الله تعالى، وتركها أفضل، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل، فهو أفضل ممن أظهر، وكذلك كل أمر فيه إعزاز للدين، فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من

الأخذ بالرخصة. وقال أحمد بن حنبل: وقد قيل له: إن عُرِضْتَ على السيف تجيب؟ قال: لا. وقال إذا أجاب العالم تقيةً والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟ والذي نقل إلينا خلفًا عمن سلف؛ أن الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم بذلوا أنفسهم في ذات الله، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا سطوة جبار ظالم. وقال الرازي: إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين، وأما ما يرجع ضرره إلى الغير، كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز ألبتة. فالظاهر من أقوال العلماء التي سقنا وغيرها مما امتلأت به الدواوين؛ أن التقية إنما تجوز عند الضرورة القصوى للمستضعف الذي يخشى على نفسه الفتنة، أن يجيب مكرهيه إلى ظاهر اللفظ مضطرًا على أن يطمئن قلبه بالإيمان والحق، ينظر في ذلك إلى حفظ حياته ومصلحة المسلمين، وعلى أن لا يكون ممن يقتدى به، فيخشى أن يخفي الحق على الجاهلين، وأن يضعف إيمانهم ويحجموا عن نصر حقهم، إقتداء بمن أجاب عند الإكراه تقية، وهم غافلون، وهذا هو الذي أضعف المسلمين في القرون الأخيرة: أن أحجم علماؤهم وزعماؤهم وقادتهم عن الضرب على أيدي الظالمين، وعن كلمة الحق في مواطن الصدق، فتهافت الناس وضعفت قلوبهم، وملئوا رعبًا من عدوهم، فكانوا لا غناء لهم، وكانوا غثاء كغثاء السيل. ولم يكن كذلك سلفهم الصالح، كانوا يتعرضون لصنوف البلاء، وأشد الإيذاء، وفي سبيل الله لم يجبنوا

ولا ينكصون، وسيرة رسول الله وأصحابه، ثم تاريخ الإسلام أكبر شاهد لما نقول، أما ما نسب إلى الشيعة الإمامية، من الغلو في التقية فما نظن كله صحيحًا (¬1)، بل لعل أكثره مما عري المسلمين من ¬

_ (¬1) راسلتُ فضيلة الشيخ ناصر القفاري في تاريخ 14/ 2/ 1424 هـ حول ما ذكره الشيخ أحمد شاكر عن التقية عند الشيعة، فوافى جوابه حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم دراسة نقدية لمقالة الشيخ أحمد شاكر عن التقية عند الشيعة الإمامية يقول الشيخ أحمد شاكر: " .. أما ما نسب إلى الشيعة الإمامية من الغلو في التقية فما نظن كله صحيحًا ... " إلخ. أولًا: لم يرجع شاكر إلى مصادر الشيعة الإمامية الأساسية، (كمصادرهم الثمانية في الرواية، ومصادرهم الأربعة في الرجال، وأصول أو أمهات كتب التفسير عندهم) ليقف على الحقيقة، ويتبين صحة هذا الاتهام أو كذبه، وغاية ما اعتمد عليه مجرد قول للشريف الرضي المتوفى سنة 406 وصفه بأنه من أقدم أقوال أئمتهم في ذلك كما بنى رأيه على "ظن" "ولعل" "فما نظن كله صحيحًا، بل لعل أكثره ... إلخ". وهذا يشير إلى عدم جزمه بما يقول، وتورعه رحمه الله أن يؤكد ما لا دليل عليه على سبيل اليقين ولو رجع إلى أصول الكافي أهم وأوثق المصادر في مقاييسهم أو غيره لرأى نصوصًا تجعل التقيَّة تسعة أعشار الدين بل تجرد من لا يعمل بمبدأ التَّقيَّة من الدين أصلًا فقد جاء في أحاديثهم (والتي ينسبونها لبعض آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذبًا): "تسعة أعشار الدين في التقيَّة ولا دين لمن لا تقية له" فهل فوق هذا غلو. فهذا النص يُسنده الكليني إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة 184 هـ (أي الذي عاش في فترة =

الضعف في القرون الأخيرة، وبعضه مما لقي متقدموهم من شدائد ¬

_ = عز الإسلام والمسلمين فأي حاجة إلى التقيّة في ذلك الزمن وماذا يبطن هؤلاء الشيعة الإمامية وهم يعيشون بين المسلمين). وهو أقدم من نص الشريف الرضي وهو واحد من ثلاثة وعشرين حديثًا من أحاديثهم جاءت في باب مستقل يحمل اسم "باب التقيَّة" في أوثق كتبهم وأهمها عندهم كما عقد الكليني بابًا آخر في هذا المعنى بعنوان "باب الكتمان" وذكر منه 16 حديثًا، وبابًا ثالثًا بعنوان "باب الإذاعة" وضمنه اثنى عشر حديثًا. وأخبارهم في هذا المبدأ شائعة في مصادرهم حتى تحولت التقيّة والتي هي في الإسلام رخصة عند الضرورة العارضة إلى أصل من أصول الدين عندهم؛ بل بلغت تسعة أعشار الدين، بل صارت هي الدين كله وقالوا: "اتقوا الله في دينكم فاحجبوه بالتقيّة فإنه لا إيمان لمن لا تقيَّة له، وقررت كتب العقائد عندهم "أن التقية واجبة لا يجوز رفضها إلى أن يخرج القائم (مهديهم المنتظر) فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله تعالى وعن دين الإمامية وخالف الله ورسول والأئمة" "وأن تارك التقية كتارك الصلاة". فكيف يقال بعد ذلك بأن "ما نسب إلى الشيعة الإمامية من الغلو في التقيّة ما نظن كله صحيحًا". ثانيًا: ما جاء في مصادرهم هي أحاديث ينسبونها إلى من يدعون عصمتهم، فهي تحمل صفة العصمة وهي المعول عليها عندهم في الاعتقاد والعمل أما ما يقوله الشريف الرضي أو غيره من شيوخهم فهي مجرد أقوال أو أراء قابلة للخطأ والصواب لأنها عندهم ليست من أقوال المعصومين، وما قاله الشريف الرضي حق ولكنه يشهد لنوع واحد من أنواع التقيّة عندهم وهي التقيّة الخوفية يقول آيتهم محمد صادق روحاني - معاصر -: "التقية أربعة أقسام: التقيّة الخوفية، والتقية الإكراهية، والتقيّة =

قد يضعف عن حملها بعضهم، ومن أقدم أقوال أئمتهم في ذلك قول الشريف الرضي، الإمام العالم الشاعر البليغ (المتوفى سنة 406) ¬

_ = الكتمانية، والتقية المدارانية". ثالثًا: ما أشار إليه شاكر إلى "أن مبالغتهم في التقية بسبب ما لقي متقدموهم من شدائد قد يضعف عن حملها بعضهم" يدل على خفاء حقيقة تقية الشيعة الإمامية عنده .. ذلك أنهم يعدون عهد الخلفاء الثلاثة، وعصر الإسلام الذهبي هو عهد تقية، ولذلك يقرر شيخهم المفيد بأن عليًّا في عهد الخلفاء الثلاثة يعيش في حالة تقيّة كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعيش في الوسط المكي بين الكافرين (1) وامتدت فترة التقية مع علي في نظر - شيخهم نعمة الله الجزائري - إلى وفاته، فكان عهد خلافته عهد تقية ومداراة يقول: "ولما جلس أمير المؤمنين - أي على كرسي الخلافة - لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن وإخفاء هذا لما فيه من إظهار الشنعة على من سبقه كما لم يقدر على النهي عن صلاة الضحى، وكما لم يقدر على إجراء متعة النساء، وكما لم يقدر على عزل شريح عن القضاء، ومعاوية عن الإمارة" (2). رابعًا: خلط - رحمه الله - بين الأئمة الذين تنتسب إليهم الشيعة الإمامية والذين منهم صحابة كعلي والحسن والحسين، ومنهم من كبار أئمة التابعين كعلي بن الحسين، ومحمد الباقر، وجعفر بن محمد، ومنهم من لم يبلغ رتبة هؤلاء مثل: موسى الكاظم، وعلي الرضا، ومنهم من لم يُعرف بعلم كالعسكريين، ومنهم من لا وجود له أصلًا - كمنتظرهم - خلط بين هؤلاء وبين شيوخ الرافضة وواضعي أساطيرهم، ولذلك لما نقل كلام الشريف الرضي المتهم بوضع نهج البلاغة على أمير المؤمنين علي =

في كتاب حقائق التأويل (طبعة النجف سنة 1355، ج 5، ص 74 - 75) "وقال بعضهم: معنى ذلك أن يكون المؤمن بين الكفار وحيدًا، أو في حكم الوحيد؛ إذا كان قليل الناصر، غائب المُظَاهِر، والكفار لهم الغلبة والكثرة والدار والحوزة، فمباح له أن يخالقهم بأحسن خلقه، حتى يجعل الله له منهم مخرجًا ويتيح له فرجًا، ولا تكون التقية بأن يدخل معهم في انتهاك محرَم، أو ¬

_ = قال: "فهذا وغيره يؤيد ما ذهبنا إليه من تبرئة الأئمة" ... إلخ. خامسًا: "دأب شيوخ الشيعة الإمامية إلى اليوم على التستر على هذا المعتقد والقول بأن معتقدهم في التقيّة لا يختلف عما يعتقده عموم المسلمين. فلعل الشيخ شاكر كان متأثرًا بشيء من ذلك، ولما قال أحد شيوخ الرافضة المعاصرين: انتهى عهد التقيّة اليوم ... قال الأستاذ محمود الملاح لمعرفة بأمرهم: "هذه تقيّة على التقيّة". سادسًا: تقيّة الشيعة الإمامية ليست هي تقيّة المسلم الوحيد بين الكفار الذين لهم الغلبة والدار ... بل هي تقية من المسلمين حيث يظهرون الإسلام والسنة ويبطنون الكفر والبدعة إذا كانوا بين ظهراني الأمة. أما سبب خفاء الحقيقة على شاكر وأمثاله فهو أمر طبيعي في بلاد سنيَّة لا يأبه أهلها بالكتاب الشيعي ولا يحفل علماؤها بتراث الرافضة ويضنون بأوقاتهم النفيسة أن تضيع وسط أكاذيب الروافض ولذلك فإنك لا تجد إلى اليوم انتشارًا للكتاب الشيعي في دور النشر المصرية بل لم يوجد بعضه إلا بسعي خفي من الرافضة ومحاولتهم لترويجه بشتى الوسائل، كما أن نشاط شيوخ الشيعة المحموم في تلميع صورتهم والعمل على إخفاء أمرهم بمختلف الأساليب ساهم في الجهل بمعتقداتهم. وللشيخ أحمد شاكر نظراء غابت عنهم الحقيقة كمحمود شلتوت، ومحمد الغزالي، لكن منهم من تبين لهم الأمر بعد حين كموسى جار الله ...

المادة: التلبية

استحلال محرّم: بل التقية بالقول والكلام، والقلبُ عاقد على خلاف ما يظهر اللسان". ثم قال: "وقد ذهب المحققون من العلماء إلى أن من أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل، أنه أفضل ممن أظهر الكفر بلسانه، وإن أضمر الإيمان بقلبه". فهذا وغيره يؤيد ما ذهبنا إليه من تبرئة الأئمة من الشيعة من عار هذه التهمة التي ألصقت بهم، وأن خطأ من أخطأ من علمائهم أو من عامتهم، لا يجيز أن ينسب إلى فرقتهم وشيعتهم. المادة: التلبية الجزء: 5/ الصفحة: 450 تعليق أحمد شاكر على ما جاء في دائرة المعارف عن اختلاف الألفاظ الواردة في دعاء التلبية: الفروق بين هذه الألفاظ مرجعها نية الملبي، فمن نوى الحج فقط أهل بالحج وقال: "لبيك بحجة". مثلًا، ومن نوى العمرة وحدها أهل بها وقال: "لبيك بعمرة". ومن نواهما معًا أهل بهما وقال: "لبيك بحجة وعمرة". فاختلاف الألفاظ لاختلاف الحال التي يلبي فيها المحرم عند إحرامه. المادة: تميم الداري الجزء: 5/ الصفحة: 485 تعليق أحمد شاكر على مادة (تميم الداري): نلاحظ على هذه المادة:

أولا: ادعاء أن تميمًا الداري بكونه نصرانيًّا من عرب الشأم استطاع أن يخبر رسول الله بتفاصيل العبادات التي استعارها من النصارى؛ ومنها استعمال السراج في المسجد. وهذا ادعاء عجيب! فإن استعمال السراج في المسجد ليس له علاقة بالعبادة، وإنما هو - إن صح أنه من إخبار تميم - شيء من العادات، أو نوع من الترفيه، واستعمال ما جاز استعماله من المباح؛ فليس عبادة ولا شبهها. وإنما يريد كاتب المقال أن يؤيد الفكرة التي يدور حولها أمثاله: من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ كثيرًا من الدين عن أهل الكتاب، وهيهات أن يستقيم لهم شيء مما يدعون، ثم أين تميم الداري الذي أسلم في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن استقرت قواعد الدين، وعلم النبي المسلمين تفاصيل الشريعة في العبادات والمعاملات والأخلاق والسياسة والحكم وغيرها؟ ! ولكن هكذا يريد أن يقول هؤلاء. ثانيًا: محاولته التشكيك في صحة إقطاع النبي لتميم وأخيه ما أقطعهم إياه بالشأم قبل أن يأخذ المسلمون بلاد الشأم. وهذا الإقطاع ثابت في المصادر التي ذكرها الكاتب، وفي مصادر أخرى صحيحة، من أهمها وأجلها كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 (طبعة القاهرة سنة 1353 بتصحيح الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي). وليس لتشكيك كاتب المقال قيمة علمية؛ لأن النصوص التي رويت عن هذا الإقطاع رويت حفظًا، فلا مناص من اختلاف بعض ألفاظ الرواة فيها، وأما

النصوص التي ذكرت عن الرقعة التي وجدت عند ذرية تميم بالشأم، فلا ندري قيمتها التاريخية؛ لأنا لم نر الكتابة نفسها حتى نقول فيها قولًا وثيقًا، فإن كانت صحيحة فلعل الاختلاف مرجعه إلى اختلاف نظر كل قارئ لها، لما في قراءة الخطوط القديمة من صعوبة ودقة، وقد روى قارئوها أن خطها كان غير واضح، فلا يدل اختلاف قراءتهم إياها على أنها مفتعلة أو مكذوبة، ولا نستطيع نحن من جانبنا أن نقطع بأنها صحيحة، وبأنها هي النسخة الأصلية. ثالثًا: وهو أعجب ما في المقال، محاولة كاتبه التشكيك في شخص تميم الداري، والإشارة إلى أنه قد يكون (شخصية أسطورية محضة)! ! وليس هذا القول من التحقيق العلمي بسبيل، فإن علماء التاريخ الإسلامي، ورواة الحديث ذكروا هذا الرجل، وذكروه في أحاديث جاءت بأسانيد صحاح، وطريق المحدثين الإسلاميين في رواية الحديث وتحقيق صحته من أدق الطرق العلمية للإثبات التاريخي، كما قلنا ذلك مرارًا في كتاباتنا، والبراهين عليه قائمة، لا يصل إليها تشكيك المشككين، ولا تكذيب المكذبين؛ فوجود تميم الداري ووجود أخيه نعيم، وأنهما صحابيان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفدا عليه في وفد الداريين منصرفة في غزوة تبوك، وجودهما هذا ثابت الثبوت التاريخي الصحيح، لمن درس التاريخ الإسلامي وطرق روايته، والحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وطرق إثباته. وأما وجود هبة قديمة في الكتب السابقة، لها وجه شبه بهبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لتميم وأخيه، فإن هذا لا يصلح دليلًا على الشك في صحة ما ورد في

المادة: الجاهلية

التاريخ الإسلامي، والتاريخ تتشابه أحداثه، فلا ينفي المتقدم المتأخر، ولا ينفي المتأخر المتقدم. ثم أين الطريق لإثبات ما ورد في الكتب التي قبل الإسلام، حتى يجعله الكاتب دليلًا على نفي التاريخ أو الشك فيه؟ ! المادة: الجاهلية الجزء: 6/ الصفحة: 266 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والواقع أن صلة الرجل بالمرأة كانت قبل الإسلام طيبة جدًّا في بعض نواحيها، ومهما يكن من شيء فقد كان في الإمكان تحسين هذه الصلات، فلما نفذت شريعة الإسلام لم يعد التغيير ممكنًا". تعليق أحمد شاكر: هذا كلام لا يتصل بالتحقيق العلمي في شيء. المادة: الجاهلية الجزء: 6/ الصفحة: 367 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ولما جعل السنة العربية قمرية خالصة، قضى على هذه الأسواق التي كانت تعقد كل سنة، ولكنه وجد الحج إلى الأماكن المقدسة متأصلًا في نفوس العرب لا يستطيع له دفعًا، وكان قصاراه

المادة: جبريل

ألا يبقى من بيوت العبادة إلا على بيت واحد جعله بيت الله الواحد". تعليق أحمد شاكر: الحج إلى البيت الحرام، وأن هذا البيت بيت الله، من شعائر نبي الله إبراهيم وشريعته، التي توارثها العرب، بما بقي فيهم من دين إبراهيم، وكان رسول الله يعرف ذلك، ثم أقر الله في الإسلام هذه الشعائر، بعد أن نفى عنها ما علق بها في الجاهلية من وثنية وشرك، وبعد أن طهر الله البيت من الأوثان والأصنام، ولم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما أمره به ربه وأدى الأمانة والرسالة. المادة: جبريل الجزء: 6/ الصفحة: 278 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ولجبريل شأن هام في إعداد التعاويذ والتمائم، فاسمه يكتب كثيرًا على هوامش المربعات السحرية مع أسماء الملائكة الكبار الآخرين: ميكائيل وعزرائيل وإسرافيل". تعليق أحمد شاكر: لا يسأل المسلمون، ولا تسأل علوم الإسلام عن الأكاذيب التي يفتريها القصاصون، ولا عن الخرافات التي قامت عليها التمائم والتعاويذ، فإنها أعمال محرمة ممنوعة في الإسلام، وإنما الدين الصحيح هو ما جاء في القرآن والسنة النبوية الثابتة، بالقواعد التي

المادة: الجمرة

قررها وسار عليها أئمة علم الحديث وأساطينه. المادة: الجمرة الجزء: 7/ الصفحة: 103 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن (رمي الجمرات): "ولاحظ بركارت أن الغرض الذي رمى إليه المسلمون من الشعيرة هو حماية أنفسهم من الشيطان، وقد أصاب بذلك كبد الحقيقة من حيث أن الرمي بالحصى كان يعدّ أصلًا في بلاد العرب، كما في غيرها شعيرة تقوم على صب اللعنات". تعليق أحمد شاكر: هذا لا أصل له. ورمي الجمرات شعيرة من شعائر العبادة فقط، كما قلنا. ولا يضير ذلك كلمات نقلت من بعض الشعراء أو في بعض القصص، قد يكون المراد بها معنى مجازيًّا. ولم يرد في السنة الصحيحة تعليل لمثل هذه الأعمال التعبدية، إنما هي عبادة فقط، يؤمر بها المؤمن ويجب عليه الطاعة، طاعة ربه وحده. ثم إن ما أتى به الكاتب بعد ذلك لا يقدم ولا يؤخر إذا نظر إلى هذه العبادة النظرة الإسلامية الصحيحة. المادة: الجمعة الجزء: 7/ الصفحة: 105 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن صلاة الجمعة: "على أن صلاة الجمعة لها ثوابها، وقد جرى المسلمون على

إقامة صلاة أخرى من ركعتين قبل الخطبة أيضًا". تعليق أحمد شاكر: صلاة الجمعة ركعتان فقط. وقد حضت الشريعة على التطوع بالصلاة، يعني، أن يصلي الإنسان ما يستطيع وما شاء من النوافل، فمن جاء إلى المسجد قبل الصلاة صلى ركعتين نافلتين سنهما رسول الله تحية للمسجد، ويصليهما وحده، وهي سنة عامة في كل وقت ليست خاصة بصلاة الجمعة، ثم هو مخير بعد ذلك أن يسكت أو يصلي من النوافل ما شاء إلى أن يصعد الخطيب المنبر. المادة: الجمعة الجزء: 7/ الصفحة: 105 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن صلاة الجمعة أيضًا: "ويصح أن نذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه جرى على إقامة صلاة عامة وإلقاء خطبة على طريقة اليهود في فناء داره بالمدينة". تعليق أحمد شاكر: لماذا يأخذ هذا عن اليهود؟ ! كل ما جاء في الشريعة الإسلامية ينظر إليه أمثال هذا الكاتب نظرة عجيبة، إن وافق شيئًا مما يعمل في الأديان الأخرى كان في نظرهم. مأخوذًا عنها، وكان محل نقد لذلك! ! وإن لم يوافق شيئًا مما يعمل في الأديان الأخرى كان شاذًّا، وكان محل نقد لذلك! فمتى ينظرون إلى الإسلام نظرهم إلى دين

خاص مستقل بنفسه؟ ! ثم إن النبي لم يكن لداره فناء بل كانت بيوته حول المسجد، وكان يصلي في المسجد الجمعة والصلوات كلها، فتعبير الكاتب غير دقيق، بل غير مطابق للواقع. المادة: الجمعة الجزء: 7/ الصفحة: 106 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن صلاة الجمعة أيضًا: "ولعل النهي عن صلاة الجمعة خارج المدينة وإقامتها في أكثر من مسجد واحد يرجع إلى ذلك العهد". تعليق أحمد شاكر: هذا غير صحيح أيضًا، بل كانت مساجد القبائل للصلوات اليومية، والمسجد الجامع، أي؛ المسجد الأكبر في البلدة، هو الذي يجمع الناس كلهم في صلاة الجمعة، حتى إذا اتسعت المدن وتفرقت القلوب تعددت الجمعات في المساجد، تبعًا لذلك. المادة: الجمعة الجزء: 7/ الصفحة: 106 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن صلاة الجمعة أيضًا: "وازداد تأثر خطب الجمعة في العهد الأموي المتأخر بالطقوس النصرانية؛ فأذان الجمعة الذي يلقى في المسجد قبل الصلاة بعد أن يجتمع فيه المصلون، والأسلوب الفريد الذي اتخذته الخطبة من

حيث انقسامها قسمين قبل صلاة الجمعة يبدو أنه قد تأثر (بالقداس) عند النصارى، وقد حلّ الخطيب المأجور على التدريج محل الخليفة، أو من يمثلونه في إمامة الصلاة". تعليق أحمد شاكر: هذا صحيح، وهو مما يأسف له المسلمون كل الأسف، وهو من أعظم أسباب ضعف المسلمين من عصور مديدة، فإن الأصل في خطبة الجمعة أن يخطبها الإمام الأعظم، وهو الخليفة بنفسه في المصر الأكبر "العاصمة" ويخطبها نوابه الحكام في الأمصار والعواصم وكبار القرى، يجتمع الناس لها في البلد الواحد في مكان واحد، لا يتخلف منهم إلا مريض أو معذور، أو متهم في دينه خارج عن قومه، في كل أسبوع مرة، فيخطبهم الإمام الأكبر، ويخطب نوابه في الأمصار والقرى، يعظون الناس، ويجمعون قلوبهم على الإيمان والتقوى ومكارم الأخلاق، ويتحدثون إليهم فيما ينوبهم من الأحداث السياسية أو الاجتماعية أو الخلقية أو نحو ذلك، ومن ذلك روح الأمة واتجاهاتها، ويرشدونهم إلى طرق الهدى وسديد الرأي، مع المساواة التامة بين الصغير والكبير، والغني والفقير، فتشعر الأمة بوحدتها وقوتها، حتى إذا ما ولي أمر المسلمين خلفاء جهال أو مستبدون احتجبوا عن الناس، وأنابوا غيرهم في الخطبة والصلاة، ووضعوا نظام الطبقات الذي جاء الإسلام بهدمه، وولوا ولاة جهالًا

المادة: الجن

بدينهم كمثل جهلهم، حتى صار الأمر إلى ما نرى، ولا صلاح للمسلمين إلا أن تعود هذه الفريضة سيرتها الأولى، فيكون أمراؤهم وحكامهم علماء بدينهم، يقومون في الناس بإقام الصلاة، كما يقومون بإقامة ميزان العدل، ويشعر الضعيف قبل القوي أن حاكمه مثله، لا سلطان له عليه إلا في حدود الشرع والعدل، وتكون الأمة كلها واحدة متحدة، أمة أعزة ليس من بينها ذليل وفي ذلك الفلاح والظفر، إن شاء الله. المادة: الجن الجزء: 7/ الصفحة: 112 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "فقد نوقشت الحالة الشرعية للجن من جميع نواحيها، ووضعت لها الحدود، كما درس كل ما يمكن أن يكون بين الجنّ والإنس من علائق كالزواج والملكية". تعليق أحمد شاكر: هذه أبحاث خيالية، تعدى باحثوها حدود ما يجوز لهم بحثه، فإن الله سبحانه، وهو الذي خلق هذا الدنيا بأرضها وسمائها، وهو الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وهو الذي خبرّنا في القرآن عن وجود الجن، كما أخبر الأنبياء

المادة: الجنة

السابقين، ونحن لم نرهم، ولا نعلم من أحوالهم إلا ما جاء به الوحي الصادق، من القرآن والسنة الصحيحة، فلا يجوز لنا أن نتجاوز في البحث ما ورد في الوحي، ومن تجاوز فقد اعتدى وأخطأ، ولم يكن عمله أو قوله حجة على الإسلام، بل القرآن والسنة حجّة عليه. وما كان سبيل البحث العلمي أن ندع الحقائق، ونجري وراء أوهام العوام وخيالات القصاص والشعراء. المادة: الجنة الجزء: 7/ الصفحة: 140 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن الجنة: "وقد ذُكِرت مرة واحدةً في القرآن بالاسم الفارسي (فردوس) ". تعليق أحمد شاكر: هكذا ادعى كاتب المقال أن كلمة "فردوس". فارسية الأصل، ومن قبله ادعى بعض علماء العرب أن أصلها رومي أو سرياني أو نبطي، وكلها أقوال لا دليل عليها، ودعاوي تخالف الواقع. وقد كان كثير من علماء العربية يغلون في ادعاء أصول أعجمية لألفاظ عربية خالصة، حتى ادعوا في كثير من ألفاظ القرآن ذلك. وصدق أبو عبيدة معمر بن المثنى في كلمته: "من زعم أن في القرآن لسانًا سوى العربية فقد أعظم على الله القول". وقد فصلنا الكلام في ذلك في مقدمتنا التي عملناها لكتاب (المعرب للجواليقي) (ص 10 - 14 من طبعة دار

الكتب المصرية سنة 1361) وكلمة "فردوس" نقل الجواليقي الأقوال في أنها معربة، ونقل قول الفراء: إنها عربية. وقلنا في التعليق عليه هناك (ص 241 - 242): (كذلك ادعى الأستاذ العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي في كتاب (نشوء اللغة العربية ص 84) أن الكلمة عن اليونانية فقال: "والفردوس للبستان، فإن جمعه فراديس، وفراديس تعريب لليونانية paradeisas واليونانية من الزفدية (بيرادايز) ". وما أبعد ما قال! فإن الكلمة اليونانية تقارب في النطق الكلمة العربية في صيغة الجمع، فمن المعقول أن يكونوا سمعوها مجموعة ممن خالطوا من العرب، كأهل الشأم. قال في اللسان: "وأهل الشأم يقولون للبساتين والكروم الفراديس" فهذا أصل ذاك كما ترى. فلو كانت الكلمة معربة لنقلت بصيغة تقرب من صيغة الجمع. ثم إن النص على أصلها وعروبتها حاضر بين، قال ابن دريد في الجمهرة (3: 333): "والفردسة: السعة. صدر مفردس: واسع. ومنه اشتقاق الفردوس". وفي اللسان: "والمفردس - أي؛ بصيغة اسم المفعول - المعرش من الكروم، والمفردس: العريض الصدر. والفردسة: السعة. وفردسه: صرعه. والفردسة أيضًا: الصرع القبيح، عن كراع. ويقال أخذه ففردسه: إذا ضرب به الأرض". فالنصوص متضافرة على صحة أصل المادة في العربية، وعلى صحة معناها، وعلى اشتقاقها من أصل معروف، ويظهر لي أن بعض العلماء الأقدمين سمع الكلمة الرومية فظنها أصلًا للعربية، على وهم أن العربية نقلت كثيرًا من اللغات الأخرى وعلى حبّ الإكثار من الإغراب! ! ".

المادة: الجنة الجزء: 7/ الصفحة: 141 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن الجنة أيضًا: "ومرة أخرى بصيغة جمعت بين لفظتي (جنات الفردوس)، ومرات عدة باسم (جنات عدن) (انظر تسميتها في التوراة باسم جن عيدن) ". تعليق أحمد شاكر: لا قيمة لهذا في التدليل على أن كلمة "عدن" معربة أو منقولة عن التوراة، وهي كلمة عربية خالصة "عدن بالمكان يعدن عدنا وعدونا" أي؛ أقام، قال في اللسان: "وجنات عدن: منه، أي جنات إقامة، لمكان الخلد". فهذا أصل الكلمة. والعبرية التي كانت بها التوراة حين أنزلت، إن لم تكن فرعًا محرفًا عن العربية، فما تكون إلا أختا لها مشتقة معها من أصل واحد، ولقد قلنا في مقدمة المعرب: "والعرب أمة من أقدم الأمم، ولغتها من أقدم اللغات وجودًا، كانت قبل إبراهيم وإسماعيل، وقبل الكلدانية والعبرية والسريانية وغيرها، بله الفارسية، وقد ذهب منها الشيء الكثير بذهاب مدنيتهم الأولى قبل التاريخ". انظر تعليقنا على مادة (أمة) في هذه الدائرة (في المجلد 2 ص 631) وعلى مادة بعل (مجلد 3، ص 695 - 700).

المادة: الجنة الجزء: 7/ الصفحة: 141 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وقد عرف أن فكرة محمد عن الجنة مادة حسية". تعليق أحمد شاكر: يكتب كاتب المقال طبعًا على أساس عقيدته، في أنه لا يؤمن بنبوة رسول الله، فينسب كل ما في القرآن إلى الرسول، ولكن المسلمين وغيرهم من أهل الإنصاف يثقون بأن هذا القرآن من عند الله، وأن الرسول يبلغ للناس ما أوحي إليه، فليس له فيه إلا التبليغ فقط. وصفة الجنة والنار من الغيب الذي لا يعلم الإنسان حقيقته بقوة عقله وحدها، وليس له من سبيل إلى معرفتها إلا فيما جاء به الوحي عن الله على لسان رسله الصادقين، وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن ظن كاتب المقال أن الفكرة في وصف الجنة في القرآن "مادية حسية" على المعنى الذي يشعر به الناس في هذه الحياة الدنيا، وأنه بذلك يجد مغمزًا في القرآن، فما أرى ظنه صحيحًا، ثم هو لا يضر الإسلام شيئًا. المادة: الجنة الجزء: 7/ الصفحة: 142 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن وصف نعيم الجنة: "ومن البين أن هذه الأوصاف جميعًا صور مرسومة لا شك أنه

أوحى بها فن التصوير، ولا بد من أن يكونَ محمدٌ أو معلّموه المجهولون قد رأوْا بعضَ التصاوير أو بعضَ قطع الفسيفساء المسيحية التي تصور حدائق الفردوس، وأوّلوا صورَ الملائكةِ كما لو كانت صورَ الوالدان والحور". تعليق أحمد شاكر: ليس لهذا الادعاء من سند، فرسول الله لم ير صورا في الكنائس، وما ادعى أحد أنه دخل كنيسة قط. ودعوى أن له معلمين مجهولين شنشنة قديمة يدعيها هؤلاء الناس، فما كان هذا القرآن مفترى، وما كان رسول الله يتعلم هذا الدين العظيم وهذه الشريعة الضخمة، الباقية على الدهر، من فرد أو أفراد من الضعفاء والجهال الذين كانوا بمكة ينتسبون إلى المسيحية أو غيرها! وكانوا هم أولى أن ينسبوا هذا المجد الخالد لأنفسهم، أو ينسبه لهم أنصارهم وأصدقاؤهم! ويجب أن يكون لهم أنصار وأصدقاء، إذا كانوا من العلم والمعرفة بالمكان الذي يجعل هذا كله من نتاج تعليمهم! وانظر ما علقنا به على مادة (أمي) من هذه الدائرة (المجلد الثاني ص 647 - 648) وما علقنا به على مادة (إنجيل) في (المجلد الثالث ص 27 - 30). المادة: الجنة الجزء: 7/ الصفحة: 142 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن الجنتين اللتين ذُكرَتا في سورة الرحمن الآية 55: "وليس تفسير هذه الإثنينيَّة يسيرًا إلا إذا كانت من أجل البحرين،

وقد يُقال إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد التزم في هذا المقام صيغة المثنى لأنها أوقع في السمع". تعليق أحمد شاكر: أظن أن الكاتب وأمثاله من المستشرقين آخر من يصلحون علميًّا للبحث في لغة القرآن وبلاغته، ومعرفتهم بالعربية محدودة، وأساطين البلغاء والفصحاء من العرب العرباء عجزوا عن معارضته، وأحجموا عن نقده، بل لم ينقل عن واحد منهم أنه عاب حرفًا فيه من ناحية البلاغة والسمو في العبارة، على كثرة الدواعي والدوافع. فأين هؤلاء من أولئك؟ ! ! المادة: الجنة الجزء: 7/ الصفحة: 143 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وهذه الجنة بما فيها كله فوق الأفلاك السماوية حيث تدور الكواكب، وهي تستقر على أنواع من البحار لها أسماء مجرَّدةٌ كبحر البقاء (المنقسم) وبحر الخلود، وبحر (الرب) ويمتد فوق الهرم عالم (الملكوت) وعالم (الجبروت) وعرشُ الله ودارُ المقرَّبين". تعليق أحمد شاكر: هذا كله كلام خيالي وتخليط، يعرف ذلك كل مسلم يقرؤه، ليس فيه شيء علمي يناقش، وما كانت أوهام المتأخرين الخياليين بحجة على الإسلام ولا على القرآن.

المادة: الجهاد

المادة: الجنة الجزء: 7/ الصفحة: 144 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وفيما يتعلق بصورة الجنة انظر معرفت نامه". تعليق أحمد شاكر: مما لا يشك فيه عاقل أن هذه الصورة التي يشهر إليها، ونحن لم نرها، إنما هي صورة خيالية لا قيمة لها، ولا يصح أن تنسب إلى الإسلام. المادة: الجهاد الجزء: 7/ الصفحة: 189 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن تشريع الجهاد في الإسلام: "تبين أن هذا الموقف حيال الناس جميعًا كان يخالجه، وأنه تطور على التحقيق عقب وفاته مباشرة عندما زحفت الجيوش الإسلامية إلى خارج جزيرة العرب". تعليق أحمد شاكر: من المفهوم أن كاتب المقال يكتب متأثرًا بعقيدته في الإسلام، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما المسلمون والمنصفون، فإنهم إذا فهموا

المادة: جهنم

القرآن حق فهمه وعرفوا مقاصد الإسلام وروحه، ودرسوا سنة الرسول وسيرته، علموا أن التشريع الإسلامي في الجهاد تشريع دقيق، لم يكن عن تطور أو ارتجال في الرأي، وإنما هو وحي من عند الله ليجعل هذا الدين دين الإنسانية كلها، ويظهره على الدين كله، كما وعد الله، وسيكون ما وعد {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} [ص: 88]. المادة: جهنم الجزء: 7/ الصفحة: 196 جاء في دائرة المعارف الإسلامية بعد ذكر تصوير جهنم في سورة الفجر الآيتين 22، 23: "ويلوح أن النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية يمثل جهنم على صورة الحيوان، فهي في نظره أشبه بوحش هائل فغر فاه، وكشف عن أنيابه، وتأهب لالتهام المغضوب عليهم، وقد صوّر أحيانًا فنانو الغرب في العصور الوسطى مطهر القديس برندان Brandan على هذا النحو". تعليق أحمد شاكر: ما قاله هنا كاتب المقال ليس فيه شيء يطابق المنهج العلمي للبحث، هو يكتب على عقيدته، لا يصدق برسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليست لنا حيلة في إقناعه! ومن عجب أن يفهم من آيات سورة الفجر أنه يلوح له "أن رسول الله يمثل جهنم على صورة الحيوان" إلخ!

وما أدري من أين يلوح هذا له، ولم يلح لأحد من العرب الذين سمعوا القرآن وكفروا به قبل أن يؤمنوا أو يؤمن أكثرهم، وإنما قوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}. أنها عرضت عليهم أو عرضوا عليها، جيء بهم إليها، وهذا مجاز معروف للعرب، فهي في معنى قوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)}. سورة الشعراء الآية 91، وقوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)}. سورة النازعات الآية 36. المادة: جهنم الجزء: 7/ الصفحة: 197 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ولم يكن لدى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا فكرة أولية عن بناء جهنم، فهو يتحدث عن أبوابها ويحدد عددها بسبعة (سورة لقمان، الآية 71) ". تعليق أحمد شاكر: كذا في أصل المقال. وهو خطأ، فإن سورة لقمان كلها 30 آية، وليس فيها شيء يتعلق بهذا المعنى، ولعل كاتب المقال أخذ من أحد فهارس ألفاظ القرآن لفظ "سبعة" فوجده في سورة لقمان في الآية 27 {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} فظنها في هذا المعنى من غير أن يرجع إلى الآية نفسها! !

المادة: جهنم الجزء: 7/ الصفحة: 197 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن تخطيط جهنم الذي ورد في الكتاب التركي (معرفتنامه) وما ورد فيه عن وصف القنطرة أو الصراط: "وتعبرها أرواح الأولياء في لحظة، وبتفاوت الزمن الذي يستغرقه عامة الصالحين في عبور هذه القنطرة، أما الضالون فلا يبلغون الجنة بل يسقطون في الهاوية". تعليق أحمد شاكر: وما قيمة هذا الكتاب التركي، وهل هو حجة في الإسلام؟ أو حجة على الإسلام؟ المادة: جهنم الجزء: 7/ الصفحة: 198 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ويقول ابن سينا: إن عذاب جهنم ينصب في الغالب على الأرواح المذنبة التي تحتفظ بشهواتها بعد الممات، ومن ثم فهي تتعذب أشد العذاب؛ لأنه ليس لها أجساد ترضى بها هذه الشهوات".

تعليق أحمد شاكر: كلام ابن سينا وأمثاله ممن ينسب إليهم إنكار بعث الأجساد، لا يؤيده شيء مما جاء في القرآن وصح في السنة. وهذا بحث طويل شائك، لا أظن أن كاتب المقال اطلع على شيء من تفصيله وأدلة الفريقين فيه. المادة: جهنم الجزء: 7/ الصفحة: 198 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والظاهر أن القرآن قد تردد بعض التردد في مسألة خلود العذاب في جهنم، فالآيات التي تشير إلى ذلك لا تتفق تمام الاتفاق، ولعل هذا التردد إنما يرجع إلى أن النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من الفلاسفة المتفكرين، فلم يستطع أن يعرض بوضوح لمشكلة كمشكلة الخلود يدخل فيها مثل هذا التصور المجرد". تعليق أحمد شاكر: ليس في القرآن شيء من التردد، وإنما يعرف القرآن من توسع في درسه ودرس السنة، أما وضع الأبحاث على صورة رؤوس مسائل من غير تعمق في بحثها ولا في وجه الاستدلال بالآيات والأحاديث فيها فليس من البحث العلمي ولا من منهج المحققين.

المادة: الحديبية

المادة: الحديبية الجزء: 7/ الصفحة: 327 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن الحديبية: "وكان هذا الوادي الممحل حوالي الهجرة مركزًا لعبادة يقوم بها أهل تلك الناحية، وكان فيها بئر وشجرة مقدسة". تعليق أحمد شاكر: هذا غير دقيق، إن لم يكن غير صحيح، فإنا لم نجد في المصادر التي أشار إليها كاتب المقال ولا في غيرها مما أطلعنا عليه ما يدل على أن هذه البقعة كانت مركزًا لعبادة يقوم بها أهل تلك الجهة. وكلامه يوهم أن الشجرة التي يسميها "مقدسة" كانت بهذه الصفة في ذلك الوقت، وليس كذلك، إنها شجرة قديمة حدباء سميت بها الناحية كما قال الخطابي، ولكن لم يكن لها أي تقديس، وكل ما في الأمر أنه بعد أن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه تحتها أو تحت شجرة غيرها بيعة الرضوان، توهم بعض الضعفاء من المسلمين في عهد عمر أن لها ميزة خاصة، فلما أن رأى عمر ذلك خشي شبهة تعظيمها، مما قد يشعر بمعنى يتصل بالوثنية من قريب أو من بعيد، والإسلام إنما جاء أولا وبالذات لتوحيد الله توحيدًا مطلقًا من كل شائبة، توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وحارب الوثنية الظاهرة والخفية، حربًا لا هوادة فيها، لما رأى عمر ذلك أمر بقطع الشجرة حتى أندثر أثرها

وخفي موضعها على من عرفها وحضرها، وعلى من لم يعرفها وجاء من بعدهم. المادة: الحديبية الجزء: 7/ الصفحة: 328 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ويبدو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكر أول الأمر في القيام بمظاهرة عسكرية، فقد كان المفروض أن يسير في عدد يتفاوت بين 1400 و 1600 من الرجال المسلمين، ولكنه عدل خطته وأعلن أنه انتوى العمرة، وما كان الهدي الذي أخذه معه إلا استكمالًا للخدعة". تعليق أحمد شاكر: سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه معروفة، لم يقل أحد من ألد أعدائه أنه كان يخدع أحدًا أو يرضى بالخداع. ولكن وكاتب المقال لم يتورع أن يقول، فما ينقص هذا من قدر الرسول، إنما ينبئ عن نفس القائل. المادة: الحديبية الجزء: 7/ الصفحة: 328 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن بيعة الرضوان: "وهي البيعة التي يقال لها بيعة الحديبية، وتسمى أيضًا (بيعة الشجرة) أو (بيعة الرضوان) (وهي إشارة مبهمة للآية 18 من سورة

الفتح) التي تواتر أنها تشير إلى هذه الحوادث". تعليق أحمد شاكر: لا ندري ماذا يريد هذا القائل أن يقول. إن آية سورة الفتح {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18] فهي إشارة إلى بيعة الشجرة إشارة صريحة لا مبهمة! أما إن كان يريد أن يوهم القارئ أن المسلمين يتواتر بينهم أن هذه الآية نزلت قبل البيعة، وهو لا يرضى أن يسلم بصحة النبوة وبصدق القرآن، فليس في المسلمين من يجهل أن سورة الفتح نزلت بعد بيعة الرضوان، وبعد العهد الذي تم في الحديبية مع قريش، فلم تكن إخبارًا عن مستقبل مغيب، بل كانت خبرًا عن شيء وقع فعلًا. المادة: الحديبية الجزء: 7/ الصفحة: 329 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وقد أطلق لقب (شجري) في تاريخ الإسلام على كل من اشترك في المبايعة، نسبة إلى الشجرة التي بويع النبي تحتها". تعليق أحمد شاكر: في هذا شيء من الصحة في أصله! ولكنه لا يعرف على إطلاقه،

فإن النسبة إلى "شجرة" في قواعد اللغة "شجري" فما من شيء يمنع إطلاق هذه النسبة، ولكنها لم تعرف معرفة شائعة بين الناس، ولم نسمع بها إلا في الندرة، ولم أجد من ذكرها إلا كلمة لسفيان بن عيينة، نقلها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (ج 5 ص 326) قال: سمعت سفيان بن عيينة يسمى النقباء، فسمى عبادة بن الصامت منهم، قال سفيان: "عبادة عقبي أحدي بدري شجري وهو نقيب". فهذا هو الموضع الواحد الذي وجدت فيه هذا الاستعمال، فما أظن بعد ذلك يستقيم قول كاتب المقال أنه يطلق "في تاريخ الإسلام على كل من اشترك في المبايعة". المادة: الحديبية الجزء: 7/ الصفحة: 329 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن آثار ونتائج صلح الحديبية: "ولم تعد المدينة تخشى شيئًا من مكة، وما كانت لتعوز النبي - صلى الله عليه وسلم - الوسيلة إلى التحايل على القيود الثقيلة التي رضي بها ونقض العهد الذي أبرمه". تعليق أحمد شاكر: هذه أخت تلك الماضية، ماجرؤ أجرأ عدو لله ولرسوله والإسلام أن يزعم أن رسول الله نقض العهد، وهو أهل الوفاء وهو الآمر بالعدل، وهو الذي علم الناس الصدق والإخلاص، وهو الذي

جعل من علامة المنافق أنه "إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف"، وهو الذي كان يسميه قومه شابًّا فتيًّا باسم "الأمين" وصفًا لخلقه فيهم وإقرارًا منهم بما يرونه من صدقه وأمانته، ثم عادوه وعاداه غيرهم فما أخذ عليه واحد منهم مأخذًا في صدقه أو وفائه، ولكن الأب لامنس اليسوعي لم ير على نفسه غضاضة أن يقول ما لم يقل أحد من هؤلاء. أما إنكاره تشريع الإسلام في القبلة وفي الحج، وادعاؤه أن رسول الله "زاد بعض المناسك في شعائر الحج" فما يستطيع أحد أن يرغمه على الإيمان، والله يقول لرسوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. المادة: الحديبية الجزء: 7/ الصفحة: 330 جاء في دائرة المعارف الإسلامية ضمن ذكر المصادر لمادة (الحديبية): "ابن حنبل: المسند جـ 3، ص 350". تعليق أحمد شاكر: هذان الموضعان في مسند أحمد (ج 3 ص 350، 384) ليس فيهما شيء له علاقة بهذه المادة، فما ندري لماذا أشار إليهما كاتب المقال.

المادة: الحديث

المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 331 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وفي أول الأمر كان الصحابة أحسن مرجع لمعرفة سنة محمد، فهم قد عاشروه، وسمعوا قوله بآذانهم، وشاهدوا فعله بأبصارهم، ثم كان على المسلمين بعد ذلك أن يطمئنوا إلى أخبار التابعين، وهم أهل الجيل الأول بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أخذوا الحديث عن الصحابة، واطمأنت نفوس المسلمين في الأجيال اللاحقة إلى الوثوق بروايات تابعي التابعين أيضًا، وهم من أهل الجيل الثاني بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عاشروا الصحابة وهكذا". تعليق أحمد شاكر: ليس هذا على إطلاقه؛ فالصحابة، وهم الطبقة الأولى من رواة الحديث الذين سمعوه وشاهدوه أو أخذ بعضهم عن بعض، كلهم ثقات مصدقون، إلا أن يخطئ أحدهم في الرواية فيتبين خطؤه من درس الروايات الأخرى وموازنة بعضها ببعض، والتابعون وتابعوا التابعين، وهم الطبقتان الثانية والثالثة، درس علماء الحديث أخبارهم وآثارهم ورواياتهم، فكان أكثرهم الثقة الصادق، وقليل منهم الضعيف أو المردود الرواية، وهذا علم واسع مفصل في كتب كبار ودواوين واسعة من درسها وفهمها استيقن واطمأن، وهذه الطبقات

الثلاث هي أساس علم الرواية، ومن جاء بعدهم فإنما أخذ عنهم، وفي عصر الطبقة الثالثة بدأ تدوين الحديث تدوينًا عامًّا في مؤلفات، كموطأ مالك، وهو من أتباع التابعين، من الطبقة الثالثة. المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 332 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ومع مضي الزمن ازداد ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل شيئًا فشيئًا في عدده وفي غزارته، وفي القرون الأولى التي تلت وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظم الخلاف بين المسلمين على جملة من الآراء في مسائل تختلف طبائعها أشد الاختلاف، وعملت كل فرقة على تأييد رأيها على قدر ما تستطيع بقول أو تقرير منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن استطاع أن يرد رأيه إلى أثر من آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو على الحق من غير شكل؛ ولهذا كثرت الأحاديث الموضوعة المتناقضة أشد التناقض في سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -". تعليق أحمد شاكر: أما أنه وجد بعض الكذابين الوضاعين الذين افتروا أحاديث على النبي - عليه الصلاة والسلام - وأما أنه وجد بعض المغفلين الذين دخلت عليهم هذه الأكاذيب فظنوها صحيحة وقبلوها، ودخلت عليهم الإسرائيليات فظنوها تصلح إيضاحًا تاريخيًّا لبعض ما ورد مجملًا من

أخبار السابقين في القرآن والسنة الصحيحة، وأما أنه وقعت أغلاط من بعض الرواة الصادقين في بعض الروايات، أما هذا كله فلا شك في وقوعه وهو الذي قام علماء الحديث بهذا المجهود الضخم الهائل في سبيل بنائه، فوزنوا الرجال، ورواة الحديث بميزان العدل والمعرفة، بحثوا في سيرتهم الشخصية، فقبلوا من ثبت عندهم أنَّه عدل لا تشوب سيرته شائبة من خلق ودين أو أمانة، وبحثوا رواياتهم ونقدوها، فرفضوا من كثر خطؤه وكثر في رواياته المخالفة لرواية غيره من الثقات، وقارنوا الروايات بعضها ببعض، فرفضوا ما خالف المعقول أو خالف صريح القرآن أو خالف المعلوم من الدين بالضرورة، أعني المتواتر العملي والاعتقادي، ونفوا عن الأحاديث كل ما حاول الوضاعون الكذابون إدخاله عليها، وحفظوا السنة بيضاء نقية، كل هذا كان، ويعرفه المسلمون ويتدارسونه بينهم، وأمَّا الصورة التي تبدو مما قال كاتب المادة أن كل تفصيل في الأحاديث، من حلال وحرام وطهارة إلخ. هو من الموضوعات، فإنما هي نفي للسنة جميعها وإبطال لها، وإنما معناها أن رسول الله لم يفعل شيئًا ولم يقل شيئًا؛ إذ أن كل ما روي عنه مكذوب في ظنه، وإنما معناه أن كل المسلمين، من عهد الصحابة فمن بعدهم، كاذبون مفترون على رسولهم، ليس فيهم أمين! وليس على وجه الأرض منصف يقول هذا ولست أدري إن قيل هذا في السنة التي رواها الثقات وبينوا طرق روايتها ووصلوا أسانيدها شيخًا عن شيخ سماعًا في أول أمرهم

وكتابة وسماعًا فيما بعد ذلك، ونقدوا الرواية والرواة أدق نقد وأحكمه، فماذا يقال في غيرها من الروايات والكتب التي لا سند لها ولا نقد لرواتها؟ ! المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 334 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ومع أن المسلمين كانوا يلعنون واضعي الأحاديث ومن يذيعها بين الناس عن سوء قصد، إلا أن ثمة اعتبارات مخفقة أخذ بها في بعض الأحوال، وبخاصة إذا كان الحديث الموضوع يتناول بعض العظات أو التعاليم الخلقية". تعليق أحمد شاكر: هذا كلام عجيب! يوهم أن المسلمين أجازوا وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، وهو ما حكاه كاتب المقال "بعض العظات أو التعاليم الخلقية؟ " ولعل كاتب المقال أتى من ناحية أنه اعتمد في مقاله على مصادر غير عربية فقط، فلو أنه رجع إلى أي مصدر عربي من كتب الحديث لما قال هذا، وأقرب كتب مصطلح الحديث كتاب: (علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح) فلو رجع إليه لرأى فيه (ص 100 من طبعة المطبعة العلمية بحلب سنة 1931) ما نصه: "والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من

المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتسابًا فيما زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم، وركونًا إليهم، ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عوارها ومحو عارها والحمد لله، وفيما روينا عن الإمام أبي بكر السمعاني؛ أن بعض الكرامية ذهب إلى جواز وضع الحديث في باب الترغيب والترهيب". ونحو ذلك في كتاب (تدريب الراوي شرح تقريب النواوي للسيوطي طبعة المطبعة الخيرية سنة 1307 ص 102) وقال النواوي في الرد على ما نقل من الكرامية: "وهو خلاف إجماع المسلمين الذين يعتد بهم". وقال السيوطي: "بل بالغ الشيخ أبو محمد الجويني فجزم بتكفير واضع الحديث". فهذا قول أئمة المسلمين وعلماء الحديث، لا ما نقله كاتب المقال عن كتب إفرنجية، مما يوهم أن المسلمين يجيزون وضع الحديث والكذب على رسول الله! ومعاذ الله أن يكون هذا منهم. وانظر تفصيل ما كتبنا عن الأحاديث الموضوعة في شرحنا على كتاب اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير طبعة مطبعة حجازي سنة 1937. المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 336 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والحكم على قيمة المحدث قد يختلف اختلافًا بينًا، فربما كان ثقة عند قوم، ولكن غيرهم كانوا يعدونه في منتهى الضعف، وربما اعتبروه كاذبًا في روايته، بل إن الثقة ببعض كبار الصحابة لم تكن من

الأمور المسلمة عند الجميع في أول الأمر؛ ولهذا نجد أن الثقة بأبي هريرة كانت محل جدل عنيف بين كثير من الناس". تعليق أحمد شاكر: لم تكن الثقة بأبي هريرة محل جدل إلا عند أهل الأهواء، ثم تبعهم بعض من اصطنع الجرأة في الطعن على السنة من المتأخرين، وإنما كان بعض الصحابة يأخذون عليه الإكثار من الحديث خشية الخطأ، ثم كانوا إذا حققوا ما أخذوا عليه أيقنوا من صحة ما روى، والأخبار في ذلك متكاثرة. وكان هو يرد على من أخذ عليه كثرة الرواية، يقول: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينًا أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم". وقال ابن عمر: "أكثر أبو هريرة". فقيل له: "هل تنكر شيئًا مما يقول؟ " قال: "لا، ولكن جرؤ وجبنا". فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: "ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا". وغاضبه مروان بن الحكم فقال له: "إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة الحديث، وإنما قدم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيسير". فقال أبو هريرة: "قدمت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، وأنا يومئذٍ قد زدت على الثلاثين، فأقمت معه حتى مات، وأدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو معه وأحج، فكنت أعلم الناس بحديث، وقد والله سبقني قوم بصحبته، فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديثه، منهم عمر

وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، ولا والله لا يخفى علي كل حديث كان بالمدينة، وكل من كانت له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة، ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه". قال الوليد بن رباح راوي هذه الحادثة "فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافًّا عنه". انظر ترجمة أبي هريرة في كتب الصحابة، وخاصة في الإصابة (جـ 7 ص 199 - 207 طبعة المطبعة الشرقية سنة 1907) وغزوة خيبر كانت سنة 7 من الهجرة فقد صحب أبو هريرة رسول الله أكثر من ثلاث سنين يلازمه ليلًا ونهارًا، يسمع حديثه ويروي عمله، ويفهم عنه ويفقه، فيحدث بما سمع ويصف ما يرى، وما الحديث عن رسول الله إلا هذا، أن يحدث بما سمع كما سمع، وأن يصف ما رأى كما رأى، وأن يحكي أحوال رسول الله التي يعلم، والتي جعل الله فيها للمسلمين، بل للناس كلهم أسوة حسنة، فمن اهتدى اتبع ومن لا فحسابه على الله. المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 336 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وكان الحكم على محدث يختلف باختلاف وجهة نظر كل طائفة أو فرقة معينة، ونشأ عن هذا خلافات مرّة، وينبغي أن نذكر في هذا المقام أن مادة الحديث المروي كانت في الواقع أصل التنازع، وإذا كانت الثقة بالمحدثين هي محلّ النزاع، فالغالب أن ما في موضوع

الحديث من هوى هو الذي كان يثير المعارضة دائمًا، فالحكم النهائي لم يكن مقصودًا به قيمة المحدث، وإنما كان المقصود به الحكم على مادة الروايات التي يرويها". تعليق أحمد شاكر: أما الخلاف في توثيق بعض الرواة وتضعيفهم، فإنه خلاف طبيعي في كل بحث يعرض له الإنسان، لا يؤخذ مغمزًا على علماء الحديث، وأما ادعاء أن "مادة الحديث المروي كانت في الواقع أصل التنازع، ولو أن الثقة بالمحدثين هي محل النزاع في الظاهر" فهذا كلام مجمل موهم، وليس نقدًا علميًّا لصناعة المحدثين وعلومهم، فإنهم بحثوا في تاريخ كل راو حتى عرفوا سيرته وصدقه أو كذبه وحفظه أو غلطه، ثم حكموا عليه بما تبين لهم، وتتبعوا ما روى كل راو فنفوا عن روايته الخطأ غير المقصود، وردوا ما كان فيه شبهة العمد إلى رواية شيء لا أصل له، وقارنوا الروايات بعضها ببعض، فنقدوا السنة ونقدوا المتن، فماذا في هذا؟ لا أدري، لو ذكر الكاتب مأخذًا معينًا يريده لبَحَثنا ما قال وحققناه، ولكن جاء بشيء مبهم، يوقع الوهم في نفس القارئ أنه نقد وما هو بنقد. المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 337 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن الأحاديث النبوية: "بل سُلِّم على وجه عام بصحة كثير من الأحاديث التي تتضمن

أخطاء تاريخية شديدة الوضوح". تعليق أحمد شاكر: أين الأحاديث التي تتضمن أخطاء تاريخية شديدة الوضوح؟ ! المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 337 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن أصناف الحديث: "ويسمى الحديث (حسنًا) إذا لم يكن بريئًا من الشوائب براءة تامة، كأن يكون غير متصل السند تمام الاتصال، أو كأن لا يقع الإجماع على الثقة براويه". تعليق أحمد شاكر: هذا الكلام ليس على وجهه، فإن انقطاع الإسناد موجب لضعف الحديث فلا يكون حسنًا، وإنما "الحديث الحسن" هو الذي لا يكون في إسناده راو متهم بالكذب، ولكن يوجد في رواته من أخذ عليه شيء في حفظه وضبطه، ثم يتابعه عليه رواة آخرون غير متهمين بالكذب أيضًا، فيقع في نفس المحدث الناقد أن لهذا الحديث أصلًا معروفًا، أو كما قال الترمذي في سننه التي تسمى (الجامع الصحيح طبعة بولاق ج 2 ص 340) "كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًّا ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن" وانظر بحث "الحديث الحسن" في كتاب

(علوم الحديث لابن الصلاح بشرح الحافظ العراقي ص 30 - 47 طبعة حلب سنة 1931) وكتاب (اختصار علوم الحديث لابن كثير بشرحنا ص 24 - 33، س 24 - 33) وكتاب (تدريب الراوي شرح تقريب النواوي للسيوطي ص 49 - 59). المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 340 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن المولفات في الحديث، وعن المسانيد: "وأحسن هذه الكتب هو (المسند) لابن حنبل المتوفى سنة 241 هـ 885 م". تعليق أحمد شاكر: هذا كلام غير دقيق تاريخيًّا، فإن كتب الحديث ألفت على النوعين - المسانيد والموضوعات - من القديم، بعضها مرتب على الأبواب, أي؛ موضوعات الفقه وغيره، ومن أقدمها موطأ مالك، وهو مؤلف قبل (المسند) للإمام أحمد بن حنبل بزمن طويل (فإن الإمام مالك ابن أنس توفى سنة 179 هـ المولود سنة 164 هـ، والإمام أحمد بدأ في سماع الحديث سنة 179 أي سنة وفاة مالك، ولكنه لم يسمع منه وسمع من تلاميذه.

المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 330 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "كان السير على سنة الآباء الأولين (والسنة هي المنهج القديم المأثور الذي يعتاده المرء في المبادلة والأخذ والعطاء) يعدّ حتى عند كفار العرب فضيلة من الفضائل. ولما جاء الإسلام لم تستطع السنة أن تبقى على قديمها، وهو أتباع عادات الآباء الكفار وأحوالهم، وكان لا بد للمسلمين من أن ينشؤوا لهم سنة جديدة، فأصبح واجبًا على المؤمن أن يتخذ من خلق الرسول وصحابته مثلًا يحتذيه في جميع أحوال معاشه، ولهذا بذل كل جهد ممكن في سبيل جمع أخبار النبي وصحابته". تعليق أحمد شاكر: هذا غير صحيح، فلم يكن أتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المسلمين عن عادة اتباع الآباء، وقد نعاها الله على الكفار نعيًا شديدًا وتوعد عليها وعيدًا كثيرًا، وأمر الناس باتباع الحق حيثما كان، وباستعمال عقولهم في التدبر في الكون وآثاره ونقد الزيف من الصحيح من الأدلة، وإنما كان حرص المسلمين على سنة رسول الله اتباعًا لأمر الله في القرآن {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. (الآية 21 من سورة الأحزاب). {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ

عَذَابٌ أَلِيمٌ}. (الآية 63 من سورة النور). {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. (الآية 44 من سورة النحل). إلى غير ذلك من أوامر الله في كتابه، مما لا يجهله مسلم، واتباعًا لأمر رسول الله نفسه، في الأحاديث الصحيحة المتكاثرة، وفيما ثبت عمليًّا بالتواتر، من عمل كبار الصحابة، ثم من بعدهم من التابعين والعلماء، لم يشذ بعد الصحابة إلا أناس غلبهم الهوى أو أعمتهم الجهالة. وهذا موضوع أطال البحث فيه العلماء السابقون وأبدعوا، حتى لم يدعوا قولًا لقائل أو كادوا. وكتب السنة وكتب الأصول وغيرها مستفيضة متناولة، والباحث المنصف يستطيع أن يتبين وجه الحق، ويكفي أن نشير إلى كتابين فيهما مقنع لمن أراد: كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي، بتحقيقنا وشرحنا (طبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1938)، وكتاب "الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم" للعلامة محمد بن إبراهيم الوزير اليمني المتوفى سنة 840 (طبعة المطبعة المنيرية)، فإني رأيت كاتب المقال لم يشر فيه من أوله إلى آخره إلى مصدر عربي أو إسلامي رجع إليه في بحثه، وهذا عجب! المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 341 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "على أن مجموعات الأحاديث التي صنفت في العصور المتأخرة كانت القاعدة في تصنيف معظمها؛ أن يكون ذلك وفقًا لمضمون

الأحاديث، وما صنف منها تبعًا للأبواب يسمى (المصنف) ". تعليق أحمد شاكر: ليس هذا صحيحًا، فكتب السنة المرتبة على الأبواب قديمة، أقدمها الموطأ كما قلنا آنفًا، ثم الكتب السنة الصحاح؛ البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم كسنن الدارمي، والدارقطني، والمصنف لابن أبي شيبة، إلى آخر ما هو معروف من كتب الحديث، وكلها مؤلف في القرن الثالث، إلا الموطأ كان في القرن الثاني، وإلا الدارقطني فإنه في القرن الرابع. المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 341 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "على أن شروط البخاري للصحة ليست هي هي الشروط التي رآها مسلم". تعليق أحمد شاكر: كلا، بل شروطهما واحدة، هي شروط صحة الحديث المعروفة، إلا في فرق واحد، هو أن البخاري يشترط، أن يثبت أن راوي الحديث لقي شيخه الذي يروي عنه، إذا قال في حديثه: "عن فلان". فإذا ثبت عنه أنه لقيه بأن قال: "حدثنا فلان". أو بأي طريق آخر من طرق ثبوت ذلك كان الحديث على شرطه، فهو أولى أن

يكون على شرط مسلم؛ لأن مسلمًا يكتفي، كما يكتفي أكثر أئمة الحديث بأن الشيخ والراوي عنه كانا في عصر واحد، وإن لم يثبت لقاء التلميذ للشيخ ثبوتًا صريحًا، وليس معنى هذا أن مسلمًا ومن وافقه يقبلون رواية منقطعة لم يسمعها الراوي من شيخه، فإن هذه تكون رواية ضعيفة باتفاقهم، وهي الحديث المنقطع، إنما معناه أن هؤلاء يرون أن الراوي الثقة، وأول شرط في توثيقه أنه لا يكذب، هذا الراوي إذا روى عن شيخ فإنه لا يروي عنه إلا ما سمعه منه أو أخذه عنه بأي طريق من طرق التلقي؛ إذ لو كان يروي ما لم يأخذه عن شيخه كان إما كاذبًا، والكاذب ليس بثقة، وإما مدلسًا، والمدلس هو الذي يروي عن شيخ معاصر له شيئًا لم يسمعه منه بل سمعه عن غيره عنه، ولكنه يرويه بصيغة "عن" أو شبهها، والمدلسون معروفون لهم، فلا يقبلون من أحاديثهم إلا ما صرحوا فيه بأنهم سمعوه، وذلك احترازًا من تدليسهم، وأما ما يرويه المدلس بصيغة توهم عدم السماع، فإن أكثر المحدثين على عدم قبوله، ومنهم مسلم نفسه. المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 343 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ولهذا نجد مثلًا أن "الدارقطني" - المتوفى سنة 385 هـ = 995 م - صنف كتابًا دلل فيه على ضعف مائتي حديث أوردها البخاري ومسلم".

تعليق أحمد شاكر: هذا غير صحيح، فإن الدارقطني إنما "علل" أحاديث في الصحيحين: البخاري ومسلم، بأنهما خالفا فيها شرطهما، وهو اختيار أعلى درجات الصحة في الإسناد، أو بأن بعض أسانيد الحديث الذي ينقده أصبح في نظره من الإسناد الذي رواه به البخاري ومسلم. ولم يتفق المحدثون على ضعف أي حديث في هذين الكتابين، بل اتفقوا على أن البخاري ومسلمًا مقدمان على أهل عصرهما ومن بعدهم من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح من غير الصحيح، وانظر تفصيل القول في ذلك في (مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر ص 344 وما بعدها، طبعة بولاق سنة 1301 هـ) وانظر أيضًا ما أشرنا إليه من كتب مصطلح الحديث. المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 343 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ونذكر من المصنفات المطولة التي ظهرت في عصر متأخر كتابين للسيوطي المتوفى سنة 911 هـ 1505 م: أحدهما (جمع الجوامع) والثاني (الجامع الصغير) وغاية السيوطي الأولى من هذين الكتابين هي وضع مؤلف شامل للمجموعات الموجودة". تعليق أحمد شاكر: كتاب "جمع الجوامع" ويسمى أيضًا "الجامع الكبير" كتاب

ضخم جدًّا، قصد به السيوطي إلى جمع كل الأحاديث التي وجدها فيما وقع له من كتب السنة، سواء أكانت صحيحة أم غير صحيحة، ورتب فيه الأحاديث على الحروف على أوائل اللفظ النبوي فيها، ورتب ترتيبًا مقاربًا لأحاديث "الأفعال" أي؛ التي فيها حكاية ووصف لحادثة ونحو ذلك وليس فيها حديث قولي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الكتاب لم يطبع، وتوجد منه نسخ غير كاملة في دار الكتب المصرية. وأما "الجامع الصغير" فإنه مختصر مشهور معروف طبع مرارًا، وطبع بعض شروح عليه للعلماء، وهو مرتب على الحروف أيضًا، على أوائل اللفظ النبوي اقتصر فيه مؤلفه السيوطي على الأحاديث الوجيزة، وصانه عما تفرد به وضاع أو كذاب, أي صانه عن الحديث الموضوع فقط. ففيه أحاديث ضعيفة قطعًا، وهما - في رأيي - محاولة لعمل فهارس متقنة لكتب الحديث؛ لأن مؤلفهما رتبهما على الحروف، ثم ذكر بعد كل حديث أسماء الكتب التي نقله منها، كالبخاري ومسلم وغيرهما، ورمز إلى أسماء هذه الكتب برموز اصطلاحية، مثل (خ) للبخاري، (م) لمسلم، (د) لأبي داود، (ن) للترمذي، وهكذا، وهذه الرموز بعضها قديم معروف عند المحدثين، وبعضها اختاره السيوطي وجعله اصطلاحًا له في كتابيه هذين. المادة: الحديث الجزء: 7/ الصفحة: 345 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "فالحديث يجب أن يسمع، وكان الطلاب يقطعون البيادي

المادة: الحسن بن علي

والقفار، ليحضروا دروس الشيوخ الذين كانوا حجة في هذا العلم ويسمونهم (حملة الحديث)، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة تقول: (سافر في طلب العلم) ". تعليق أحمد شاكر: لا نعرف حديثًا بهذا اللفظ. والأحاديث كثيرة في الحض على الرحلة في طلب العلم، منها حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع". رواه الترمذي وقال: "حديث حسن". وانظر (الترغيب والترهيب للحافظ المنذري ج 1 ص 62 - 63 الطبعة المنيرية). المادة: الحسن بن علي الجزء: 7/ الصفحة: 400 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وقد أنفق خير سني شبابه في الزواج والطلاق، فأحصي له حوالي المائة زيجة عدًّا، وألصقت به هذه الأخلاق السائبة لقب المطلاق". تعليق أحمد شاكر: ما أظن كاتب المقال وزن الأخلاق والشهوات بميزان صحيح، حين وصف الحسن بالميل للشهوات، وبالأخلاق السائبة. والكاتب يكتب بروح إفرنجية وعقل إفرنجي، ولا أريد أن أقول "مسيحية" فإن

دين المسيح - عليه السلام - وحي من عند الله كدين الإسلام، يزن الأخلاق والشهوات بالميزان الصحيح الذي فطر الله عليه الناس وأيدته الشرائع. وبالضرورة ليس الميزان في ذلك هو "الرهبانية" فإنها بدعة في دين المسيح - عليه السلام - ابتدعها أتباعه، كما قال الله سبحانه في القرآن الكريم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]. وقد نسخها الإسلام أو نفاها. ولسنا ننكر أن في الرهبان من كانوا حقًّا بعيدين عن الشهوات متحرزين في كل شأنهم، ولكنهم إنما فعلوا ذلك بقتل الفطرة الإنسانية السليمة في أنفسهم، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهو شيء شاذ نادر، لا يصح أن يكون مقياسًا للإنسانية عامة. والله أعلم بما كانوا عاملين. ولكنا نقيس الأخلاق بمقياس الفطرة الإنسانية التي جاءت الشرائع لتهذيبها والحد من طغيانها، ومنعت كبتها وقتلها في النفس. وكانت فطرة الرجال، ولا تزال، في أغلب أحوالهم وأكثر أعمارهم أن تتجه شهوتهم للنساء، إذا كانوا ذوي فطرة سليمة، غير ضعفاء، وغير مرائين منافقين، فكان العرب كغيرهم من الرجال، لا يكاد الرجل منهم يكتفي بامرأة واحدة إلا في القليل النادر، وكانوا ذوي غيرة على الأعراض، يستحي أحدهم أن يعتدي عليها في غير حلها إلا ما يندر وما لا تكاد تخلو منه أمة، وكانوا على بقايا من شريعة إبراهيم، فكان أحدهم يرى أن الأجدر به، والأشرف له ولغيره، أن يتزوج بأكثر من واحدة، وأن يطلق من عزفت نفسه عنها،

ولكنهم غلوا في ذلك غلوّ الجاهلية، فلم يجعلوا لعدد الزوجات حدًّا، وكانوا يطلقون المرأة أي عدد شاؤوا من الطلقات، وكان أمرًا جاهليًّا، فجاء الإسلام بالشريعة الوسطى، لم يقيد ولم يطلق في عدد الزوجات، وفيما يملك الرجل من الطلاق للمرأة الواحدة، تنظيمًا للأمور ووضعها موضعها الصحيح. وكانت الأمم الأخرى وخاصة الإفرنج، كما نرى ونسمع، لا غيرة عندهم، ولا يقيمون للعفاف وزنًا كبيرًا ولا أحب أن أذكر التفاصيل، ولكني لا أحب أن يغالط أحد فيزعم غير ذلك، والمثل حاضرة تقرأ أخبارها كل يوم. فمقاييس الأخلاق بيننا وبين الإفرنج متغايرة تمام المغايرة، رجالهم كرجالنا، أعني في الأكثر الأغلب، لهم شهواتهم ورغباتهم، ولكنهم قيدوا أنفسهم بالزوجة الواحدة، واتخذوا من العشيقات والأخدان ما شاؤوا علنًا، يعرف بعضهم ذلك عن بعض، وتعرفه زوجاتهم وأمهاتهم وأخواتهم. وذو الميسرة منهم يتخذ لأخذانه البيوت والقصور، وتعقد فيها مجالس اللهو ومجالس العلم، ومجالس المناظرة ولا يتحرجون؛ إذ كان كالأمر المعروف المقرر. وقيدوا أنفسه بمنع الطلاق، ثم أباحوه إلى حد التهافت والسخرية، وهم يعتقدون أن دينهم لا يبيحه، ولكن أباحته لهم القوانين، والقانون لا ينسخ الدين ولا ينفي ما ثبت بالعقيدة. فهم يغفلون من التردي في الشهوات أضعاف ما يفعل المسلمون،

المادة: الحسن بن علي بن أبي طالب

ولكن المسلمين يفعلون ما أباحه لهم دينهم، فيفعلون راضين مطمئنين؛ إذ كان حلالًا في دينهم حلًّا مطلقًا إلا في حدود ما أمر به الله، وأولئك يفعلون كل ما يفعلون حرامًا في دينهم وفي كل الأديان. فهذا هو الميزان الصحيح الذي يجب أن توزن به الأمور، لا إلقاء الكلام على عواهنه، والطعن في أخلاق رجل من أفضل الأمة، وسبط النبي، بأنه كان كثير الطلاق والزواج. المادة: الحسن بن علي بن أبي طالب الجزء: 7/ الصفحة: 403 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وهناك عاد إلى حياة اللهو واستسلم للذات". تعليق أحمد شاكر: لم يعرف عن الحسن قط أنه تبع حياة اللهو والاستسلام للذات، بل كان يعطي نفسه حقها مما أحله الله له، على النحو الذي شرحناه في التعليق رقم 3. المادة: الحسن بن علي بن أبي طالب الجزء: 7/ الصفحة: 403 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "كما أن الحسن المستهتر .. ".

المادة: الحسين بن علي

تعليق أحمد شاكر: أظن أن كاتب المقال يندم على هذه الكلمة وغيرها من الأوصاف التي نعت بها الحسن، عن عصبية وعن خطأ في النظر في مقاييس الأخلاق الصحيحة. المادة: الحسين بن علي الجزء: 7/ الصفحة: 402 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وتصور الروايات الحسين كما تصور أخاه الحسن غارقًا في فيض من حنان جده لأمه". تعليق أحمد شاكر: التعبير الذي عبر به كاتب المادة هنا يشعر القارئ أنه يرى في ذلك غرابة! ! ولست أدرى أية غرابة في أن يحب الرجل أسباطه (أبناء ابنته)، وخاصة إذا كان أبوهم ابن عمه الذي رباه وشمله بعنايته صغيرًا وشابًّا ورجلًا، وكان الجدّ مع هذا ليس له أولاد ذكور من صلبه. المادة: الحسين بن علي الجزء: 7/ الصفحة: 402 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ولقد كان من سوء طالع ذرية علي أن الحوادث قد أيدت صدق

المادة: حفصة

حكمه، فقد ثبت أن الابن ورث عن أبيه الصفتين اللتين كانتا السبب في هلاك أبيه، وهي التردد وقلة الفطنة". تعليق أحمد شاكر: الأب لمنس، كاتب هذا المقال، معروف عند المستشرقين، وعند العرب والمسلمين، بالعصبية التي تغلبه، فتميل عن سبيل الحق دائمًا أو في أكثر أحواله. وما رأينا له كتابة قط في الشؤون العربية والإسلامية إلا وقد نفث فيها من دخيلة نفسه، يغلبه فيها ما يجد، فلا يستطيع أن يلزم جادة العدل، بله الأدب ومراعاة العقائد التي تخالف رأيه. فما سمعنا قط من مؤرخ قديم أو حديث رمى علي بن أبي طالب بالتردد، ولا بقلة الفطنة، بل إن ذكاء علي وعزمه وحزمه مما اتفق المؤرخون على وصفه بها، بل لعل بعضهم يرى في خلقه شيئًا من الإقدام يدفع به إلى مضايق الخطر، لا يبالي ولا يخاف، وعلمه وذكاؤه وفطنته بالمنزلة التي لم يصل إليها في عصره وفيما بعد عصره إلا أفراد بعد أفراد. المادة: حفصة الجزء: 7/ الصفحة: 473 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وقد حرضت حفصة أخاها عبد الله، وكان رجلًا ضئيل الشأن".

المادة: حمزة بن عبد المطلب

تعليق أحمد شاكر: ما كان عبد الله بن عمر رجلًا ضئيل الشأن، ولكن كان زاهدًا في الحكم والسلطان، يخاف الله، ويخشى أن لا يقوم بحق الولاية، فاعتزل الخلافات السياسية في عصره، وله في هذا رأيه، وليس لأحد أن يجعل من ذلك مغمزًا فيه. المادة: حمزة بن عبد المطلب الجزء: 8/ الصفحة: 101 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "حمزة بن عبد المطلب: عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزيد الروايات أنه أخوه في الرضاعة سعيًا منها إلى تمجيد هذا البطل من أبطال الإسلام في عهده الأول". تعليق أحمد شاكر: هذا المستشرق "لامنس" عجيب في آرائه واستنباطه! والعصبية تطغى على بصره، والحقد على الإسلام يطمس بصيرته. يريد تكذيب الأحاديث والروايات الإسلامية بكل وجه وحيلة، فيندفع حتى يأتي بما لا يخطر على بال بشر! حمزة بن عبد المطلب: سيد الشهداء، وعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضله يعرفه كل مسلم، أما أن يجهله الأب لامنس، فلا يقدم في ذلك ولا يؤخر، بل إنه يعرفه وينكره، وقد وصف الله في القرآن

أقوامًا مثله، كانوا من قبله، وكانوا في عصر رسول الله، يرونه ويجالسونه، فيقول الله فيهم {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. فماذا يزيد في فضل حمزة أن يكون أخًا لرسول الله في الرضاع، وماذا ينقص من فضله أن لا يكون أخًا من الرضاع، وأفضل الصحابة - على الإطلاق - أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ومع ذلك لم يكذب المسلمون - في زعم الأب لامنس - فيدعوا أن واحدًا من هؤلاء كان أخًا لرسول الله في الرضاع! ثم هذا الخبر في أن حمزة أخو رسول الله في الرضاع، هل جاء في أثناء ذكر مناقب حمزة في سياق الرواية؟ كلا. إنه إنما جاء عرضًا، حين عرض علي بن أبي طالب على رسول الله أن يتزوج بنت حمزة، فأجابه: "إنها ابنة أخي من الرضاعة، وإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". فقد جاء هذا في سياق تقرير حكم شرعي يتعلق بالحل والحرمة، يعلمهم رسول الله أن الله جعل الرضاعة بمنزلة النسب، وحرم فيه من النكاح ما حرم من النسب، لم يذكر قط في سياق مدح حمزة أو ذكر مناقبه. ويتضح من ذلك أن الأب لامنس لم يستطع فهم معنى الحديث، في أخوة حمزة من الرضاع، على معناه الدقيق الواضح الذي يعرفه كل مسلم من عالم وجاهل، فظن أن هذا الخبر إنما يراد به إثبات صفة جديدة بقصد التمجيد، فكتب ما كتب.

المادة: خديجة

المادة: حمزة بن عبد المطلب الجزء: 8/ الصفحة: 102 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن عمر حمزة: "على أنه إذا صح رأينا الذي يحتم إسقاط عشر سنين من عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتراوح بين الستين والخامسة والستين على حد القول الشائع". تعليق أحمد شاكر: لماذا كان رأي لامنس أنه يجب إسقاط عشر سنين من عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ لا أدري، ولكنه لا غرض له إلا أن يفترى على المسلمين ويرميهم بالكذب. المادة: خديجة الجزء: 8/ الصفحة: 234 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن زواج خديجة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقد تزوجت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين، وأعقبت فيهما ذرية؛ فأما زوجها الأول فهو رجل من مخزوم، وأما الآخر فهو أبو هالة التميمي الذي اختلف الرواة في اسمه الحقيقي، وذكره بعضهم بين صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا صحت هاتان الروايتان فإن خديجة تكون امرأة مطلقة". تعليق أحمد شاكر: أبو هالة زوج خديجة قبل رسول الله، لم يذكره أحد من الذين

ألفوا في تراجم الصحابة، ممن وصلت إلينا كتبهم، إلا الحافظ ابن حجر، فإنه ذكره في الإصابة (ج 6، ص 270) باسم (نباش بن زرارة التميمي) في القسم الرابع من باب النون، وهو القسم الذي خصه في كل حرف من الحروف بتراجم من ذكره مترجمو الصحابة "على سبيل الوهم والغلط" كما صرح بذلك في مقدمة الإصابة "ج 1، ص 4" بل صرح بأنه لا يذكر في هذا القسم "إلا ما كان الوهم فيه بينا، وأما مع عدم احتمال الوهم فلا". ولذلك قال في الترجمة التي ذكرها لأبي هالة ما نصه: "زوج خديجة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ووالد هند، وخال الحسن بن علي. ذكره المستغفري، وتبعه أبو موسى في الذيل، وهو غلط". فمن عجب بعد هذا كله أن يذكره كاتب المادة بطريقة تدل على أن له أصلًا أو صحة، ويبني عليه احتمالًا. وما هذا شأن المحقق المنصف، وإنما يريد الكاتب وأمثاله الغمز فقط، شأنهم ودينهم! ثم ماذا في ذلك إذا صح؟ فيه في نظره أن تكون خديجة امرأة مطلقة! وماذا يكون؟ العرب يرون جواز الطلاق، ولا يرون فيه شيئًا يعيب الرجل أو المرأة، وجاء الإسلام فنظم الطلاق في التشريع، وجعل له حدودًا وقواعد دقيقة، ولم يجعل عيبًا في الرجل أن يطلق ولا أن يتزوج امرأة مطلقة، ولم يجعل عيبًا في المرأة أن تكون مطلقة، ولا أن تتزوج رجلًا آخر بعد الطلاق. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج زينب بنت جحش أم المؤمنين، وهي بنت عمته، بعد أن طلقها مولاه وعتيقه زيد ابن حارثة، ثابت ذلك بنص القرآن والسنة الصحيحة المتواترة، بل الطلاق مباح في كل الأديان، وإنما حرمه البابوات وشددوا في تحريمه، ثم صار في نظر أولئك القوم

عارًا عندهم، وغلوا في ذلك غلوًّا شديدًا، ولكن أيكون غلوهم هذا حكمًا يمضونه على غيرهم من الأمم، وعلى دين وشريعة لا يؤمنون بهما. ثم الذي لا شك فيه بعد هذا كله، أن أبا هالة مات في الجاهلية قبل زواج رسول الله خديجة، وأن خديجة لم تكن - حين تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة مطلقة. المادة: خديجة الجزء: 8/ الصفحة: 235 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن عرض خديجة على النبي - صلى الله عليه وسلم - الزواج منها: "وقد عارض في ذلك الزواج، ولم تستطع حمله على قبوله إلا بعد أن أسكرته، وهذا من الدوافع المقبولة في الروايات الخيالية". تعليق أحمد شاكر: هذا افتراء عجيب على المسلمين، فما كان المسلمون قط ليروا الإسكار من الدوافع المقبولة، ولا في الروايات الخيالية، والرواية القائلة بأن والد خديجة كان حيًّا إذ ذاك، وأنه لم يوافق على الزواج إلا حين سكره، رواية باطلة، بطلانها ثابت في النصوص التي أشار إليها كاتب المقال نفسه، فإنه أشار إلى ما ذكره ابن سعد في الطبقات (ج 1، ص 84 وما بعدها)، (ج 8، ص 7 - 11) وابن سعد نفسه قال في الموضع الأول، بعد حكاية شيء من هذا، ما نصه: "قال محمد

ابن عمر: فهذا كله عندنا غلط ووهل، والثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم؛ أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار، وأن عمرو بن أسد (يعني عمها)، زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وقال في الموضع الثاني ما نصه: "فإن أباها مات يوم الفجار، قال محمد بن عمر: وهذا هو المجمع عليه عند أصحابنا، ليس بينهم فيه اختلاف". فماذا بعد ذلك من دلالة لرجل منصف إذا أراد أن يقول الحق وحده؟ بل نريد كاتب المقال مصدرًا آخر لهذه الرواية الضعيفة، لم يره ولم يشر إليه، وهو حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده بإسنادين، برقم 2851، 2852 من طبعتنا للمسند، وقد بينت في شرحي للمسند ضعف هذين الإسنادين، وما كان ذلك بضار أحدًا إلا من أراد أن يمسك بالشبهات ويدع الحقائق. المادة: خديجة الجزء: 8/ الصفحة: 235 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وتذهب أكثر المصادر إلى أن محمدًا كان وقتذاك في الخامسة والعشرين، أما خديجة فكانت في الأربعين، على أن ما نعرفه من أن نساء العرب يهرمن بسرعة وأن خديجة قد أنجبت له خمسة أطفال على الأقل يجعل هذا القول بعيد الاحتمال". تعليق أحمد شاكر: وهذا لون آخر من ألوان المغالطة والتهافت في الغمز والتشكيك،

المادة: الخطبة

بل هو جرأة على تغيير الواقع المشاهد، فإن الواقع المشاهد لنا ولغيرنا، في عصرنا هذا وقبل عصرنا، أن نساء العرب لا يهرمن بسرعة، بل النساء اللائي يهرمن بسرعة هن نساء الأجناس الأخرى المتهالكة، يظهر ذلك لمن يرى بعيني رأسه لا بعين هواه. وليس فيما قاله كاتب المقال من بأس إذا كان صحيحًا، ولكنه باطل يخالف المشاهد الواضح. المادة: الخطبة الجزء: 8/ الصفحة: 372 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وقد وردت سنة ذكر اسم السلطان في الصلاة في عصر متقدم يرجع إلى القرن الخامس ق. م في البردي الآرامي الذي عثر عليه في فيلة". تعليق أحمد شاكر: هذا الشيء الذي يذكره كاتب المادة عن القرن الخامس ق. م لا علاقة له بالإسلام، ولا يكون له أثر علمي أو تاريخي في مثل هذا الموضوع الإسلامي الصرف. المادة: الخطبة الجزء: 8/ الصفحة: 372 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن شروط الخطبة: "كما يشترط فيها أن تكون كالصلاة قصدًا".

تعليق أحمد شاكر: هذا ليس بشرط، بل هو الأفضل فقط. المادة: الخطبة الجزء: 8/ الصفحة: 373 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن عدم ورود ذكر الخطبة في القرآن لصلاة الجمعة: "ومن الخطأ أن نستخلص من هذا الإغفال أن الخطبة لم تكن قد أصبحت جزءًا أساسيًّا في العبادات أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس من المحتمل كذلك أن الصلوات على اختلافها كانت قد تحددت تحديدًا دقيقًا منذ البداية". تعليق أحمد شاكر: قد حددت الصلاة تحديدًا واضحًا منذ الإسراء والمعراج، لم يزد عليها شيء ولم ينقص. والمثال الذي سيذكره مستدلا به على ما يريد، ليس في خطبة الصلاة، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس في الأحداث والمسائل العامة، وعند المناسبات دائمًا، ولم يكن لهذا علاقة بالصلوات، بل هي خطب للفصل بين الناس ولتعليمهم وإبلاغهم الوحي، بوصفه رسولًا، وبوصفه حاكمًا وقاضيًا ورئيس دولة، كما هو بديهي عند كل خبير بشؤون المجتمع الإسلامي حينئذ.

المادة: الخطبة الجزء: 8/ الصفحة: 373 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "فَلاجَّهُ رجل في صدقته .. ". تعليق أحمد شاكر: لاجَّه، بتشديد الجيم, أي نازعه وخاصمه، من اللجاج. المادة: الخطبة الجزء: 8/ الصفحة: 374 جاء في دائرة المعارف الإسلامية بعد ذكر خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضية شجاج أبي جهم لرجل من بني الليث: "ومن الواضح أن مثل هذه الخطبة يعد نموذجًا لخطب أمراء العرب الأولين في رعاياهم، ويتعذر القول بأن لها صلة بالخطبة الدينية، أضف إلى ذلك أنه ليس من اليسير التفريق بين أنواع الخطب كما قد يتضح ذلك من الأحاديث الآتية". تعليق أحمد شاكر: إن كان كاتب المقال يريد بالخطبة الدينية خطبة الصلاة، فنعم، ليس لهذه الخطبة علاقة بها، وإن كان يريد المعنى الأعمّ، فلا. ومن

الخطأ أن يظن الناس أن الدين الإسلامي لا علاقة له بالمعاملات ولا بغيرها من شؤون الدولة والحكم، وعن هذا كان خطأ كاتب المقال فيما سيأتي من الاضطراب والتناقض، ومن محاولة ادعاء أن الخطبة عند المسلمين مأخوذة من غيرهم، ولكن المعنى الصحيح إجمالًا ما أشرنا إليه من قبل في الهامشة (2، صفحة 373) من هوامش هذا المقال، والأمثلة التي سيذكرها الكاتب تؤيد ما قلنا وتوضحه، بل إن بعضها - ومثله كثير في السنة الصحيحة - يدل على أن الخطبة مطلقًا، سواء أكانت للجمعة أم العيدين أم غيرهما، إنما هي تعليم وتبليغ وإرشاد وتنظيم، في كل شؤون المسلمين من عبادة، ومن خلق، ومن نظم للحكم، ومن فصل القضاء في وقائع فردية، ومن تحريض على الجهاد، وتنظيم للجيوش والسرايا، وتعليم للأفراد، وإجابة سائل مستفيد، فهي تشمل كل هذا وغيره. وما ضعف المسلمون واضطرب أمرهم إلا بعد أن ترك أمراؤهم وحكامهم هذه الخطبة السامية الدقيقة التي رسمها لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما تركوها؛ لأن أكثرهم فقدوا الشرط الأول والأساسي في الإمام (أي الخليفة) والحاكم والوالي والقاضي، وهو معرفة الدين والعلم به إلى درجة الاجتهاد، فإذا فقدوا هذا فقدوا أكبر مقوم لهذه المناصب الجليلة العظيمة. المادة: الخطبة الجزء: 8/ الصفحة: 375 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ومهما يكن من أمر الشك في هذه الأحاديث، فلسنا نبتعد عن

المادة: الزهري

القصد إذا ذهبنا إلى أن النظام المحدد للصلاة يوم الجمعة والعيدين إنما نشأ بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -". تعليق أحمد شاكر: هذا غير صحيح، كما أوضحناه في الهامشة التي في العمود الثاني من ص 374، وإنما يدور كاتب المقال حول شيء واحد، يدور حوله معظم المستشرقين، وهو أن شعائر الإسلام وشرائعه كلها مقتبسة من عادات قديمة ومن ديانات سابقة. وقد رددنا على ذلك في أكثر من تعليق على هذه الدائرة، وأما بعد ذلك، فمناقشة كاتب المقال فيما سيذكر من (المثل المستقاة من اليهود والنصارى) فلا جدوى منها؛ لأنها قروض لم يسق عليها أي دليل. المادة: الزهري الجزء: 10/ الصفحة: 458 تعليق أحمد شاكر على مادة (الزهري): نلاحظ على ما جاء بهذه المادة ما يأتي: إن صحة كنية الزهري هي "أبو بكر" وقد عرف باسم "ابن شهاب" نسبه إلى جده الأعلى. ويقول الكاتب إن الزهري أدى فروض الولاء لمروان، وهذا تخريج من عندياته، فإن العبارة في التهذيب لابن حجر (ص 451، س 6 - 7 في آخر الترجمة) "عن ابن شهاب، قال: وفدت إلى مروان

وأنا محتلم". وليس في هذا معنى فروض الولاء، وإنما يريد الزهري بذلك بيان عمره: أنه كان إذ ذاك في نحو الخامسة عشرة أو أقل. أما الادعاء بأن عبد الملك منع الحج، فهو أكذوبة على عبد الملك بن مروان، اخترعها أعداء بني أمية، وكان عبد الملك أعلم بالدين، وأتقى لله من أن يفكر في مثل هذا العمل الذي هو خروج عن الإسلام صراحة. ويقول الكاتب فيما يختص بالحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى". أن الحج يكون إلى هذه المساجد الثلاثة. وهذا تحريف لمعاني الكلام، فليس في الإسلام شيء يسمى حجًّا إلا الحج إلى البيت الحرام، وأما المسجدان الآخران: الحرم النبوي، ثم مسجد بيت المقدس، فإنما يقصدان للصلاة فيهما فقط، لورود الحديث في مضاعفة الأجر فيهما بأقل مما يضاعف في المسجد الحرام بمكة. ويقول الكاتب: "ويصح لنا أن نفترض أن الزهري شخص إلى دمشق تحدوه آمال من هذا القبيل؛ ليروى لعبد الملك ذلك الحديث المؤيد لدعوته باسم شيخه سعيد بن المسيب". على أن هذا الفرض ساقه الكاتب من غير أي دليل، وهو مناف تمامًا لخلق الزهري العالم العظيم القوي في الحق. ولا أدل على ذلك مما رواه الذهبي (تاريخ الإسلام، جـ 5، ص 146): "قال يعقوب بن شيبة، حدثني الحسن الحلواني، حدثنا الشافعي، حدثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار

على هشام، فقال له: يا سليمان، من الذي تولى كبره منهم. فقال: ابن سلول. قال: كذبت بل هو علي. فدخل ابن شهاب، فقال: يابن شهاب من الذي تولى كبره؟ قال ابن أبيّ [أي ابن سلول]. فقال له: كذبت بل هو علي. قال: أنا أكذب لا أبالك؟ ! فوالله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت. أما ما رواه كاتب المادة عن اليعقوبي، فقد تشكك هو نفسه فيه بدليل قوله: وإذا كانت رواية اليعقوبي صحيحة. وأما صاحب حديث الإفك والذي تولى كبره، فهو عبد الله بن أبي بإجماع أهل العلم. وإصرار الزهري على ذلك هو إصرار الرجل الثابت الدين الواسع العلم على الحق، لا إرضاءً لفلان، أو خوفًا من فلان. وأما القصة الغرامية التي نقلها الكاتب عن فهرست ابن النديم فحسبنا أن نقول: إن ابن النديم لا يعتدّ بقوله في مثل هذه الأمور. ويريد الزهري بالعبارة التي نقلها عنه تلميذه معمر: أنهم كانوا يتحرجون من تأليف الكتب، ثم رأوا طاعة أمرائهم، ثم اقتنعوا بفائدة ذلك، نشرًا للعلم بين المسلمين. أما الكتابة في نفسها، فقد كانت شائعة عند أهل العلم - مع اعتمادهم على الحفظ - وفي نفس الصفحة من ابن سعد، قبل هذا الخبر (جـ 2، ق 2، ص 135) خبر عن صالح بن كيسان، زميل الزهري في الطلب، يتضمن أنهما اشتركا في كتابة ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أراد الزهري أن يكتب ما جاء عن الصحابة "فإنه سنّة" فخالفه صالح بن كيسان، ولم يرض أن يكتب ذلك. قال

المادة: تعليق

صالح: "فكتب ولم أكتب، فأنجحَ وضيَّعْتَ". ونزيد على المصادر التي فيها أخبار الزهري، مصدرين عظيمين، هما (تذكرة الحفاظ للذهبي، جـ 1، ص 102 - 106)، و (تاريخ الإسلام للذهبي، جـ 5، ص 136 - 152). المادة: تعليق الجزء: 11/ الصفحة: 245 تعليق أحمد شاكر على مادة (تعليق): يردد الكاتب في هذه المادة دعوى بعض المستشرقين: أن الإسلام مقتبس من الأديان السابقة، وليس وحيًا من عند الله، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتبس ممن عرف من أهل الكتاب! ! أما متى كان ذلك؟ وأين كان هؤلاء الذين أخذ عنهم؟ وأين أعداؤه الذين كانوا يحاولون أن يجدوا ثغرة في رسالته يطعنون بها عليه؟ هذا كله لا يهم كاتب المقال، ولا يبحث عن دليل عليه، بل هو يعرف أنه لا يجد؛ ولذلك تجد كلامه كله مبنيًّا على (لعل) و (ربما). المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 377 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "ولا يباح للمحرم أن يرتدي السراويل (هي وبعض الثياب الأخرى) بل إن الصلاة بالسروال كانت مكروهة في رأي المتشددين،

ولا مناص من إعادتها، وهي تعد أيضًا غير مناسبة للمؤذن". تعليق أحمد شاكر: أما حرمة لبس السراويل في الإحرام، فإن سببه هو الإحرام، لا خصوص السراويل، وأما كراهية الصلاة بالسراويل فإنما يراد بها السراويل الضيقة التي شاعت بين المسلمين الآن تقليدًا للإفرنج، فإن أقبح ما فيها أنها تحدد العورة تحديدًا مستنكرًا حين الركوع والسجود، وليس من شك في أن هذا عمل لا يجوز في الصلاة ولا خارج الصلاة. المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 375 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وجمع سروال سراويل، وجمع الجمع سراويلات، وكلا الجمعين تستبدل فيهما الشين بالسين، وفي لهجة سراوين، وهي ثنائية فحسب، ولكنها تستعمل غالبًا (شأنها شأن الكلمة المأخوذة من سروال في كثير من اللغات الأخرى) بمعنى المفرد، وتختلف باختلاف التذكير والتأنيث، والتصغير سريويل، وجمعها سريويلات. وقد اشتق من الكلمة الفعل تَسَروْل". تعليق أحمد شاكر: اختار كاتب المقال روايات ضعيفة في اللغة العربية تعتبر كلمة

"سراويل" جمع "سروال" أو "سروالة"، ولكن الراجح عند أئمة اللغة الموثوق بهم أن كلمة "سراويل" مفردة، وإن كانت صيغتها على وزن الجمع، وأن جمعها "سراويلات" انظر لسان العرب وغيره من المعاجم. وليس في هذا غرابة، فإن أصل الكلمة أعجمي، وعربها العرب على هذه الصيغة التي تشبه وزن الجموع، وليس لنا أن نتحكم في نقلهم؛ إذ نقلوها هكذا. المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 375 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "فقد ورد في حديث أن أول من لبس السروال النبي إبراهيم، وهو لذلك أول من يلبس لباسًا يوم القيامة". تعليق أحمد شاكر: الخبر بأن أول من لبس السراويل إبراهيم لا أعرفه، ولم أجده فيما بين يدي من المراجع. المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 376 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وفي حديث آخر أن موسى كان يلبس سراويل من الصوف يوم كلمه الله".

تعليق أحمد شاكر: حديث أن موسى كان يلبس "سراويل صوف يوم كلمه ربه" رواه الترمذي (جـ 3، ص 48 من شرحه تحفة الأحوذي طبعة الهند). وجزم الترمذي بأنه حديث ضعيف؛ لأن أحد رجال إسناده، وهو "حُمَيْد بن علي الأعرج" منكر الحديث؛ فهو حديث ضعيف جدًّا. المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 376 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وروي في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اشترى سراويل من بائعي الأصواف، ولكن ليس من الثابت أنه ارتداه فعلًا". تعليق أحمد شاكر: حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اشترى سراويل": ورد من رواية "سويد ابن قيس" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وكذلك روى الإمام أحمد من حديث "مالك بن عميرة الأسدي"، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه "سراويل". وقد استنبط بعض العلماء من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لبسها؛ لأنه لم يكن ليشتريها عبثًا دون استعمالها، وإن كان غالب لبسه الإزار. وقال ابن القيم: "وقد روي في غير حديث: أنه لبس السراويل وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه". انظر فتح الباري (ج 10 ص 231). وزاد المعاد (ج 1، ص 72).

المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 376 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: وقد أجاب مرة على سؤال سائل سأله: وإنك لتلبس السراويل؟ قال: "أجل، في السفر والحضر، وفي الليل والنهار، فإني أمرت بالستر، فلم أر شيئًا أستر منه". تعليق أحمد شاكر: هذا حديث ضعيف جدًّا، بل هو لا أصل له؛ لأن أحد رواته، وهو يوسف بن زياد البصري منكر الحديث، مشهور الأباطيل. انظر فتح الباري (ج 10 ص 231). ومجمع الزوائد (ج 5، ص 121، 122). ولسان الميزان (ج 6، ص 321). المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 376 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "وفي حديث آخر امتدح لبس السروال قائلًا: "تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب". تعليق أحمد شاكر: هذا الكلام لا أدري ما أصله؟ ولا أعرف من أين جاء به كاتب

المقال، ولم أجده في شيء من المراجع. المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 376 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن ورود مدح لبس النساء السراويل: "أما النساء فعلى خلاف ذلك؛ لأن الأحاديث تمتدح أن تلبس النساء السراويل، مثال ذلك ما ورد في حديث فحواه: "عليكم بالسراويل، فهي اللباس الذي يستركم على خير وجه، واستروا نساءكم بها إذا ما خرجن" أو "يرحم الله المتسرولات من النساء". تعليق أحمد شاكر: وهذا والذي قبله كذلك، لا ندري من أين نقله كاتب المقال؟ المادة: سروال الجزء: 11/ الصفحة: 376 جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "أو مرت امرأة على حمار ... فسقطت، فأعرض عنها بوجهه، فقالوا: يا رسول الله، إنها مسترولة. فقال: "اللهم اغفر للمتسرولات من أمتي". تعليق أحمد شاكر: هذا حديث ضعيف جدًّا؛ لأن أحد رواته، وهو "إبراهيم بن

المادة: السعي

زكريا المعلم" وقد كان يحدث بالأباطيل. وهذا الحديث "من بلاياه"، كما قال الحافظ الذهبي. انظر لسان الميزان (ج 1، ص 58 - 59) وفتح الباري (ج 10 ص 231) ومجمع الزوائد (ج 5، ص 122). المادة: السعي الجزء: 11/ الصفحة: 437 جاء في دائرة المعارف الإسلامية عن السعي: "وتجمع الآراء على أن السعي سبعة أشواط بسيطة، اللهم إلا رأيًا واحدًا يقول بغير ذلك". تعليق أحمد شاكر: لا يوجد قول آخر، فإن السعي سبعة أشواط بإجماع المسلمين. * * *

§1/1