جمع الوسائل في شرح الشمائل

الملا على القاري

خطبة الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ وَالْأَخْلَاقَ وَالْأَرْزَاقَ وَالْأَفْعَالَ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى إِسْبَاغِ نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِالْإِفْضَالِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ الْمُخْتَصِّ بِحُسْنِ الشَّمَائِلِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْفَوَاضِلِ وَالْفَضَائِلِ، وَعَلَى أَتْبَاعِهِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ بِالدَّلَائِلِ. (أَمَّا بَعْدُ) : فَيَقُولُ أَفْقَرُ عِبَادِ اللَّهِ الْغَنِيِّ الْبَارِي عَلِيُّ بْنُ سُلْطَانَ مُحَمَّدٍ الْقَارِيُّ، لَمَّا كَانَ مَوْضُوعُ عِلْمِ الْحَدِيثِ ذَاتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ نَبِيٌّ، وَغَايَتُهُ الْفَوْزَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَهُوَ نَعْتُ كُلِّ وَلِيٍّ، - وَمَعْرِفَةُ أَحَادِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْرَكَ الْعُلُومِ وَأَفْضَلَهَا. وَأَكْثَرَهَا نَفْعًا فِي الدَّارَيْنِ وَأَكْمَلَهَا بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ تَوَقُّفِ مَعْرِفَتِهِ عَلَى مَعْرِفَتِهَا ; لِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ مُجْمَلِهِ وَتَقْيِيدِ مُطْلَقِهِ، وَلِأَنَّهَا كَالرِّيَاضِ وَالْبَسَاتِينِ تَجِدُ فِيهَا كُلَّ خَيْرٍ وَبِرٍّ وَثَمَرَةٍ وَنَتِيجَةٍ بِطُرُقِهِ، وَقَدْ قِيلَ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ فَأَهْلَ الْحَدِيثِ أَهْلُ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنْشَدَ: أَهْلُ الْحَدِيثِ هُمُ أَهْلُ النَّبِيِّ وَإِنْ ... لَمْ يَصْحَبُوا نَفْسَهُ أَنْفَاسَهُ صَحِبُوا. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا صُنِّفَ فِي شَمَائِلِهِ وَأَخْلَاقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابُ التِّرْمِذِيِّ " الْمُخْتَصَرُ الْجَامِعُ " فِي سِيَرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ بِحَيْثُ إِنَّ مُطَالِعَ هَذَا الْكِتَابِ كَأَنَّهُ يُطَالِعُ طَلْعَةَ ذَلِكَ الْجَنَابِ. وَيَرَى مَحَاسِنَهُ الشَّرِيفَةَ فِي كُلِّ بَابٍ. وَقَدْ سَتَرَ قَبْلَ الْعَيْنِ أَهْدَابَهُ وَلِذَا قِيلَ. (وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا) : وَقَدْ قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَزَرِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْعَلِيَّ.

أَخِلَّايَ إِنْ شَطَّ الْحَبِيبُ وَرَبْعُهُ ... وَعَزَّ تَلَاقِيهِ وَنَاءَتْ مَنَازِلُهُ وَفَاتَكُمُ أَنْ تُبَصِرُوهُ بِعَيْنِكُمْ ... فَمَا فَاتَكُمْ بِالْعَيْنِ هَذِي شَمَائِلُهُ. وَلِلْأَدِيبِ مُحْيِي الدِّينِ عَبْدِ الْقَادِرِ الزَّرْكَشِيِّ مُضَمِّنًا لِعَجُزَيْ بَيْتَيْنِ مِنْ قَصِيدَةِ الْبَهَاءِ زُهَيْرٍ وَكَتَبَهَا عَلَى الشَّمَائِلِ: يَا أَشْرَفَ مُرْسَلًا كِرِيمًا ... مَا أَلْطَفَ هَذِي الشَّمَايِلْ مَنْ يَسْمَعْ وَصْفَهَا تَرَاهُ ... كَالْغُصْنِ مَعَ النَّسِيمِ مَايِلْ. وَلِبَعْضِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى. يَا عَيْنُ إِنْ بَعُدَ الْحَبِيبُ وَدَارُهُ ... وَنَأَتْ مَرَابِعُهُ وَشَطَّ مَزَارُهْ فَلَقَدْ ظَفِرْتِ مِنَ الْحَبِيبِ بِطَائِلٍ ... إِنْ لَمْ تَرِيهِ فَهَذِهِ آثَارُهْ. رَزَقَنَا اللَّهُ طُلُوعَ حَضَرْتِهِ وَحُضُورَ طَلْعَتِهِ الشَّرِيفَةِ عِنْدَ رَوْضَتِهِ الْمُنِيفَةِ وَحُصُولَ صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ مَنَامًا وَكَشْفًا فِي الدُّنْيَا، وَوُصُولَ رُؤْيَتِهِ الْحَقِيقَةَ فِي الْعُقْبَى مُنْضَمَّةً إِلَى رُؤْيَةِ الْمَوْلَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَعْلَى وَالطَّرِيقِ الْأَغْلَى، أَحْبَبْتُ أَنْ أَدْخُلَ فِي زُمْرَةِ الْخَادِمِينَ بِشَرْحِ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَأَنْ أَسْلُكَ فِي سِلْكِ الْمَخْدُومِينَ بِهَذَا الْبَابِ ; رَجَاءَ دَعْوَةٍ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تُسْتَجَابُ، وَسَمَّيْتُهُ. (جَمْعُ الْوَسَائِلِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ) : فَأَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ تَمَامُ التَّحْقِيقِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ مُسْتَعِينًا بِذِكْرِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ، مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّ مَقَالٍ كَمَا هُوَ دَأْبُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) : أَيْ بِاسْتِعَانَةِ اسْمِ الْمَعْبُودِ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْمُبْدِعِ لِلْعَالَمِ الْمُحَقِّقِ أُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابَ إِجْمَالًا وَأُؤَلِّفُ بَيْنَ كُلِّ بَابٍ وَبَابٍ تَفْصِيلًا وَفِي تَأْخِيرِ الْمُتَعَلِّقِ إِيمَاءً لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ وَإِشْعَارٍ بِاسْتِحْقَاقِ تَقْدِيمِ ذِكْرِ اسْمِهِ الْخَاصِّ لَا سِيَّمَا وَمَا هُوَ السَّابِقُ فِي الْوُجُودِ وَالْفِكْرِ يَسْتَحِقُّ السَّبْقَ فِي الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَهُ وَهُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً وَأَغْلَى مَقَامًا مِمَّنْ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّهَ بَعْدَهُ أَوْ مَعَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، وَفِي نَظَرِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ هُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ (وَاللَّهُ) : اسْمُ لِذَاتِ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِ بِالصِّفَاتِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ لَا اتِّصَافِهِ ; وَلِذَا قِيلَ إِنْ كُلَّ اسْمٍ لِلتَّخَلُّقِ إِلَّا اللَّهَ فَإِنَّهُ لِلتَّعَلُّقِ، وَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَتَمِّ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ لِتَأْثِيرِهِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ. وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ سِوَاهُ. (وَالرَّحْمَنُ) : هُوَ الْمُفِيضُ لِلْوُجُودِ وَالْكَمَالِ عَلَى الْكُلِّ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَتَحْتَمِلُ الْقَوَابِلُ عَلَى وَجْهِ الْبِدَايَةِ. (وَالرَّحِيمُ) : هُوَ الْمُفِيضُ لِلْكَمَالِ الْمَعْنَوِيِّ الْمَخْصُوصِ بِالنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ بِحَسَبِ النِّهَايَةِ، وَفَائِدَةُ لَفْظِ الِاسْمِ بَقَاءُ هَيَاكِلِ الْخَلْقِ بِتَعَلُّقِ الرَّسْمِ إِذْ لَوْ قِيلَ بِاللَّهِ لَذَابَ تَحْتَ حَقِيقَةِ الْحَقِّ جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَمَعَ هَذَا لَمَّا قَدَّمَ لَفْظَ اللَّهِ اضْمَحَلَّتِ الْعُقُولُ فِي ابْتِدَاءِ عَظَمَتِهِ وَتَلَاشَتِ الْأَرْوَاحُ فِي بِحَارِ أُلُوهِيَّتِهِ فَأَتْبَعَهُ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِيُسَلِّيَ قُلُوبَ الْمُوَحِّدِينَ وَيَشْفِيَ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الصِّفَتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِي النَّشْأَتَيْنِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ ". ثُمَّ لَمَّا شَاهَدَ الْمُصَنِّفُ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ وَرَأَى فِي ضِمْنِ الْوَصْفَيْنِ عُمُومَ الْإِنْعَامِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ أَرْدَفَ الْبَسْمَلَةَ بِالْحَمْدَلَةِ فَقَالَ. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) :، وَإِيثَارُهُ عَلَى الشُّكْرِ لِيَعُمَّ النِّعْمَةَ وَغَيْرَهَا، مَعَ أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ غَيْرَهَا فَلَيْسَ فِي الْكَوْنِ غَيْرُ الْمُنْعِمِ وَنِعَمِهِ ; وَلِذَا وَرَدَ: الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ، مَا شَكَرَ اللَّهَ مَنْ لَمْ يَحْمَدْهُ، وَالْحَمْدَلَةُ خَبَرِيَّةٌ لَفَظًا وَإِنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ بَلِ الْحَقِيقِيِّ أَيْ كُلُّ حَمْدٍ صَدَرَ مِنْ كُلِّ حَامِدٍ فَهُوَ مُخْتَصٌّ وَمُسْتَحِقٌّ لَهُ تَعَالَى حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ لِغَيْرِهِ صُورَةٌ بَلِ الْمَصْدَرُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنَ الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ فَهُوَ الْحَامِدُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ سِوَى اللَّهِ، وَاللَّهُ مَا فِي الْوُجُودِ وَوَجْهُ تَخْصِيصِ اسْمِ الذَّاتِ دُونَ سَائِرِ الصِّفَاتِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ بِذَاتِهِ مَعَ قَطْعِ

النَّظَرِ عَنْ صِفَاتِهِ وَمُلَاحَظَةِ نُعُوتِهِ وَبَرَكَاتِهِ فَسَوَاءٌ حُمِدَ أَوْ لَمْ يُحْمَدْ وَعُبِدَ أَوْ لَمْ يُعْبَدْ لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ بِوُجُودِ الْخَلْقِ وَعَدَمِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ وَحَمْدِهِمْ وَتَرْكِهِمْ وَجُهْدِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ وَجَحْدِهِمْ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ إِنَّمَا هُمْ مَظَاهِرُ الصِّفَاتِ فَبَعْضُهُمْ مَرَائِي النُّعُوتِ الْجَمَالِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ مَجَالِي الْأَوْصَافِ الْجَلَالِيَّةِ، فَمَنْ عَبَدَهُ أَوْ حَمِدَهُ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِأَغْرَاضِ حَقِّهِ وَتَعَلُّقَاتِهِ فَلَيْسَ بِعَابِدٍ وَحَامِدٍ بَلْ وَلَا مُؤْمِنٍ مُوَحِّدٍ. (وَسَلَامٌ) : أَيُ تَسْلِيمٌ عَظِيمٌ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أَوْ سَلَامٌ كَثِيرٌ مِنَّا أَوْ ثَنَاءٌ حَسَنٌ مِنْ جَانِبِنَا. (عَلَى عِبَادِهِ) : الْمُخْتَصِّينَ بِشَرَفِ الْعِبَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْقَائِمِينَ بِوَظَائِفِ الْعَبْدِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى أَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ الْوَاصِلِينَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْعِنْدِيَّةِ لَا مِنْ عِنْدِهِمْ بَلْ بِمُوجَبِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ الِاصْطِفَائِيَّةِ. (الَّذِينَ اصْطَفَى) : أَيْ هُمُ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَارْتَضَاهُمْ وَصَفَّاهُمْ عَمَّا كَدَّرَ بِهِ سِوَاهُمْ، وَهُمُ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنَ النَّاسِ وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَمِيعُ أَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الْأَصْفِيَاءِ، فَدَخَلَ الْمُصْطَفَى وَآلُ الْمُرْتَضَى وَصَحْبُهُ الْمُجْتَبِي فِيهِمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا فَلَا وَجْهَ لِمَنْ ذَكَرَ هُنَا كَلَامًا اعْتِرَاضِيًّا مَعَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ إِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) : أَوِ ابْتِدَاءً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ خِطَابُ الْعَامِّ ; فَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَتَضَمُّنٌ لِمَعْنَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَكَ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ". وَهَاهُنَا مَبَاحِثُ صَدَرَتْ مِنَ الشُّرَّاحِ بَعْضُهَا ضِعَافٌ وَبَعْضُهَا صِحَاحٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَتَقْرِيرِهَا وَتَوْضِيحِهَا وَتَحْرِيرِهَا ; مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: مَعْنَاهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْآلَامِ الوَاقِعَةِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحِ: " أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ "، وَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمُشَاهَدِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: لَا خَفَاءَ فِي حُسْنِ تَنْكِيرِ السَّلَامِ عَلَى الْعِبَادِ الْمُنْبِئِ عَلَى التَّحْقِيرِ فِي مُقَابَلَةِ تَعْرِيفِ الْحَمْدِ لِلَّهِ الْكَبِيرِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْفَطِنِ بِالْمَرَامِ ; لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ تَحْقِيرَ الْعِبَادِ فَهُوَ كَلَامٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَنِهَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ، وَإِنْ أَرَادَ تَحْقِيرَ السَّلَامِ فَلَا مَعْنَى لَهُ فِي الْمَقَامِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ السَّلَامَ أَدْنَى رُتْبَةً مِنَ الْحَمْدِ فَالتَّنْكِيرُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْجَهْدِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: مَنْ كَرِهَ إِفْرَادَ السَّلَامِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا

فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ، وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا فِي أَوَاخِرِ زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ انْتَهَى ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ ظُهُورُ نَسْخِهِ فِي زَمَنِ غَيْرِهِ، ثُمَّ الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي مِفْتَاحِ الْحِصْنِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ هُوَ الْأَوْلَى وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا، حَتَّى الْإِمَامِ وَلِيِّ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ الشَّاطِبِيِّ فِي قَصِيدَتِهِ الرَّائِيَةِ وَاللَّامِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ أَوْ مَنْ نَصَّ مِنْهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ السَّلَامِ ; فَلَيْسَ بِذَاكَ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمُ. انْتَهَى، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّ إِفْرَادَ السَّلَامِ عَنِ الصَّلَاةِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: تَبِعَ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقَ الْأَقْدَمَ، فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا لَمْ يَكُونُوا مُوَشِّحِينَ صُدُورَ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ بِالصَّلَاةِ ; فَإِنَّهُ أَمْرٌ حَدَثَ فِي الْوِلَايَةِ الْهَاشِمِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تُنْكِرْهَا وَعَمِلُوا بِهَا عَلَى مَا فِي الشِّفَاءِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّ كَرَاهَةَ الْإِفْرَادِ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي خُصُوصِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنَ الْمَرَاتِبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْأَذْكَارِ: إِذَا صَلَّيْتَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَجْمَعْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَلَا تَقْتَصِرْ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَإِفْرَادُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ فَلَا تَقُلْ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِمُ اسْتِقْلَالًا أَوْ لَا يَجُوزُ ; فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَمَّا مَنْ صَلَّى وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَآلِ النَّبِيِّ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ جَائِزٌ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِشَخْصٍ مُفْرَدٍ بِحَيْثُ يَصِيرُ شِعَارًا وَلَا سِيَّمَا إِذَا تُرِكَ فِي حَقِّ مِثْلِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَلَوِ اتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ شِعَارًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا لَهُمْ فِي السَّلَامِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; إِذْ عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَ الْبَعْضِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمِ اسْتِقْلَالًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ فِي ضِمْنِ الْأَنْبِيَاءِ مَذْكُورُونَ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْآيَةَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ إِنْ أَرَادُوا الْإِطْلَاقَ. وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِعِبَادِهِ هُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خُصُوصُ الْمُرْسَلِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) ، أَوْ عُمُومُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) . وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: " كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ "، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، فَقِيلَ لَعَلَّهُ تَشَهَّدَ نُطْقًا وَلَمْ يَكْتُبْهُ اخْتِصَارًا، وَقِيلَ لَعَلَّهُ تَرَكَهُ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْ مَحْمُولٌ عِنْدَهُ عَلَى خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشَهُّدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْجَزَرِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّهَادَتَيْنِ لِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ "، وَكَذَا تَصْرِيحُ الْعَسْقَلَانِيِّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّهَادَتَانِ فَلَا يُنَافِي التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ ; إِذْ مُرَادُهُ أَنَّ التَّشَهُّدَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، وَسُمِّيَ تَشَهُّدُ الصَّلَاةِ تَشَهُّدًا لِتَضَمُّنِهِ إِيَّاهُمَا، لَكِنِ اتُّسِعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَمْدِ لَهُ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُ شَارِحٍ بِأَنَّ ارْتِكَابَ الْمَجَازِ بِلَا قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; فَهُوَ صَحِيحٌ مَنْقُولٌ لَكِنَّهُ لَمَّا تَرَكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ فَيُؤَوَّلُ بِأَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ تُحْمَلَ الْخُطْبَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْخُطَبِ الْمُتَعَارِفَةِ فِي زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ التَّصْنِيفَ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ الشُّرَّاحُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ اصْطَفَى فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ أَوْ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، ثُمَّ جُمْلَةُ (سَلَامٌ) مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا إِجْمَالِيًّا وَإِنْشَاءً دُعَائِيًّا وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِنْشَاءِ، وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ وَتَكْثُرُ الْبَرَكَةُ وَهَذَا الْكِتَابُ بِكَمَالِهِ مَخْصُوصٌ بِنُعُوتِ جَمَالِهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ ذَكَرَ السَّلَامَ بِطَرِيقِ الْعَامِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ لِتَعُمَّ بَرَكَاتُهُمْ عَلَيْنَا أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ آمِينَ، وَفِي ذِكْرِ هَذَا الْعَامِّ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى الْخَاصِّ بِالشَّمَائِلِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلُ التَّحِيَّةِ. (قَالَ الشَّيْخُ) : هُوَ مَنْ كَانَ أُسْتَاذًا كَامِلًا فِي فَنٍّ يَصِحُّ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَلَوْ كَانَ شَابًّا، وَأَمَّا قَوْلُ مَوْلَانَا عِصَامِ الدِّينِ: وَنَحْنُ نَقُولُ الشَّيْخُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْخَمْسِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، وَهُوَ السَّنُّ الَّذِي يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ إِسْمَاعُ الْحَدِيثِ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ فَخِلَافُ الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ مَدَارَ صِحَّةِ الْإِسْمَاعِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُحَدِّثِ وَاحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ حَدَّثُوا فِي زَمَنِ شَبَابِهِمْ وَجَمَاعَةً مِنْ أَحْدَاثِ التَّابِعِينَ رَوَوْا لِأَصْحَابِهِمْ، وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي حَقِّ الْبُخَارِيِّ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّابِّ وَاكْتُبُوا عَنْهُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً رَدَّ عَلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ غَلَطًا وَقَعَ لَهُ فِي سَنَدٍ حَتَّى أَصْلَحَ كِتَابَهُ مِنْ حِفْظِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَفَادَ مَالِكٌ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ عِشْرُونَ سَنَةً، وَالشَّافِعِيُّ تَلْمَذَهُ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ فِي حَدَاثَةِ السِّنِّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَبْلُغِ الْأَرْبَعِينَ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ ابْنُ خَلَّادٍ: إِذَا بَلَغَ الْخَمْسِينَ وَلَا يُنْكَرُ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ وَتُعِقِّبَ بِمَنْ حَدَّثَ قَبْلَهَا كَمَالِكٍ. (الْحَافِظُ) : الْمُرَادُ بِهِ حَافِظُ الْحَدِيثِ لَا الْقُرْآنِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ حَافِظًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ الْحَافِظُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ: مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَتْنًا وَإِسْنَادًا، وَالطَّالِبُ هُوَ: الْمُبْتَدِئُ الرَّاغِبُ فِيهِ، وَالْمُحَدِّثُ وَالشَّيْخُ وَالْإِمَامُ هُوَ: الْأُسْتَاذُ الْكَامِلُ، وَالْحُجَّةُ: مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَتْنًا وَإِسْنَادًا، وَأَحْوَالِ رُوَاتِهِ جَرْحًا وَتَعْدِيلًا وَتَارِيخًا، وَالْحَاكِمُ هُوَا: الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: الرَّاوِي نَاقِلُ الْحَدِيثِ بِالْإِسْنَادِ، وَالْمُحَدِّثُ: مَنْ تَحَمَّلَ رِوَايَتَهُ وَاعْتَنَى بِدِرَايَتِهِ، وَالْحَافِظُ: مَنْ رَوَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَوَعَى مَا يَحْتَاجُ لَدَيْهِ. (أَبُو عِيسَى) : قَالَ فِي شَرْحِ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ: وَلَا يُسَمَّى مَنْ وَلَدُهُ عِيسَى أَبَا عِيسَى لِإِيهَامِهِ أَنَّ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبًا ; لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَسَمَّى أَبَا عِيسَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ عِيسَى لَا أَبَ لَهُ " فَكَرِهَ ذَلِكَ، انْتَهَى. لَكِنْ تُحْمَلُ الْكَرَاهَةُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ ابْتِدَاءً بِهِ، فَأَمَّا مَنِ اشْتُهِرَ بِهِ فَلَا يُكْرَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ وَالْمُصَنِّفِينَ عَلَى تَعْبِيرِ التِّرْمِذِيِّ بِهِ لِلتَّمْيِيزِ. (مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى) : مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَلَوْ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ جَازَ (بْنِ سَوْرَةَ) : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ عِيسَى وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى حَذْفِ مُبْتَدَئِهِ وَنَصْبُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَسَوْرَةُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ رَاءٌ وَفِي آخِرِهَا هَاءٌ ; عَلَى وَزْنِ طَلْحَةَ وَأَصْلُهَا لُغَةً الْحِدَّةُ، ابْنِ عِيسَى بْنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيِّ بِضَمِّ السِّينِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ مُصَغَّرٌ قَبِيلَةٍ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ عَصْرِهِ وَأَجِلَّةِ حُفَّاظِ دَهْرِهِ قِيلَ وُلِدَ أَكْمَهَ سَمِعَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ وَحُفَّاظِ مَشَايِخِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَنُظَرَائِهِمْ، وَجَامِعُهُ دَالٌّ عَلَى اتِّسَاعِ حِفْظِهِ وَوُفُورِ عِلْمِهِ فَإِنَّهُ كَافٍ لِلْمُجْتَهِدِ وَشَافٍ لِلْمُقَلِّدِ. وَنُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَامِعُ التِّرْمِذِيُّ عِنْدِي أَنْفَعُ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّ الْإِمَامَ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا خَارِجَ الصَّحِيحِ وَأَعْلَى مَا وَقَعَ لَهُ فِي الْجَامِعِ حَدِيثٌ ثُلَاثِيُّ الْإِسْنَادِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ (التِّرْمِذِيُّ) : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ فِيهِ

باب ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

الْجَرُّ وَالنَّصْبُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: كَسْرُ التَّاءِ وَالْمِيمِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَضَمُّهَا وَفَتَحُ التَّاءِ وَكَسْرُ الْمِيمِ، وَهِيَ بَلْدَةٌ قَدِيمَةٌ عَلَى طَرَفِ نَهْرِ بَلْخٍ الْمُسَمَّى بِالْجَيْحُونِ، وَيُقَالُ لَهَا مَدِينَةُ الرِّجَالِ مَاتَ بِهَا سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً، نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ جَدِّي مَرْوَزِيًّا فِي أَيَّامِ لَيْثِ بْنِ سَيَّارٍ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تِرْمِذَ. قِيلَ: قَالَ الشَّيْخُ. . . إِلَى آخِرِهِ ; وَقَعَ مِنْ تَلَامِذَةِ الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا الْحَمْدُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَنُكْتَةُ تَأْخِيرِ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الْحَمْدِ وُقُوعُ الِافْتِتَاحِ بِالْبَسْمَلَةِ وَيَحْتَمِلُ احْتِمَالًا بَعِيدًا أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ تَلَامِذَتِهِ، وَقِيلَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ مِنْ نَفْسِهِ لِلِاعْتِمَادِ لَا لِلِافْتِخَارِ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يُنْسَبَ الْبَسْمَلَةُ وَالْحَمْدَلَةُ إِلَى الْمُصَنِّفِ عَمَلًا بِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِبْدَاعُ لَفْظِ الْحَمْدِ وَالسَّلَامِ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ ثُمَّ إِنَّ تَلَامِذَتَهُ كَتَبُوا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عِيسَى. . . إِلَى آخِرِهِ، وَلِمَا قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الْمُحَدِّثُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ اسْمَ شَيْخِهِ وَكُنْيَتَهُ وَنِسْبَتَهُ ثُمَّ يَسُوقَ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ هَذَا وَيَحْتَمِلُ احْتِمَالًا قَرِيبًا أَنْ يَكُونَ فِي نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ، قَالَ أَبُو عِيسَى. . . إِلَخْ، وَزِيَادَةُ الشَّيْخِ الْحَافِظِ مِنَ التَّلَامِذَةِ إِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ التَّصَرُّفُ فِي الْأُصُولِ أَصْلًا بَلْ تُحْفَظُ عَلَى وُجُوهٍ وَقَعَتْ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ سَهْوٌ فِي تَصْنِيفٍ وَلَوْ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا يُغَيَّرُ بَلْ يُنَبَّهُ عَلَيْهِ. باب ما جاء في خلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَابُ مَا جَاءَ) : أَيْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ. (فِي خَلْقِ رَسُولِ اللَّهِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ صُورَتُهُ وَشَكْلُهُ. (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :

قَالَ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا وَالنُّسَخِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ الْعِظَامِ وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَلَمْ أَرَ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَبِرَةٍ خِلَافَ ذَلِكَ، وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ فِي خَلْقِ النَّبِيِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الرَّسُولِ، وَشَرَعَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ الْفَاسِدِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا وَجَعْلَ أَلْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي نُسْخَتِنَا الْمُصَحَّحَةِ وَأُصُولِ مَشَايِخِنَا الْمُعْتَبَرَةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ فَإِنَّ لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ فِي عُرْفِ هَذَا الْفَنِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ صَارَ كَالْعَلَمِ لِذَاتِ أَشْرَفِ الْكَوْنَيْنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انْتَهَى. وَقَدْ كَرِهَ الشَّافِعِيُّ إِطْلَاقَ الرَّسُولِ لِلْإِيهَامِ، وَقَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَا يَسْتَدْعِي الْفَرْقَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَإِنْ تَحَقَّقَتَا فِي حَقِّهِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ الْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّ النَّبِيَّ وَالرَّسُولَ هُنَا هُوَ الْمَوْصُوفُ بِهِمَا الْمُسَمَّى بِمُحَمَّدٍ وَلَوْ قَبْلَ الِاتِّصَافِ بِهِمَا، قَالَ الْكَافِيَجِيُّ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، إِلَى هَاهُنَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَمَا بَعْدَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالنَّضْرُ أَبُو قُرَيْشٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ فِهْرٌ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ أُمُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا مَوْلِدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامَ الْفِيلِ، وَقِيلَ بَعْدَهُ بِثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ وَأَنَّهُ يَوْمُ الْإِثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ثَانِيهِ أَوْ ثَامِنِهِ أَوْ عَاشِرِهِ أَوْ ثَانِي عَشَرِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ ضَبَطْتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِي الْمَوْرِدِ الرَّوِيِّ لِلْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ. قِيلَ الْبَابُ لُغَةً اسْمٌ لِمَدْخَلِ الْأَمْكِنَةِ كَبَابِ الْمَدِينَةِ وَالدَّارِ، وَفِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ الْبُلَغَاءِ يُقَالُ لِمَا تُوُصِّلَ مِنْهُ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ هُنَا مَعْرِفَةُ أَحَادِيثَ جَاءَتْ فِي بَيَانِ خَلْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُوقِشَ فِيهِ بِأَنَّ الْبَابَ اسْمٌ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْكِتَابِ لَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ مَعْلُومَانِ، وَلَيْسَتْ مَدْخَلًا فِي شَيْءٍ، بَلْ هِيَ بَيْتٌ مِنَ الْمَعَانِي، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْبَابُ اسْمًا لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْهَا لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ بِمَعْنَى الْوَجْهِ إِذْ هُوَ مِنْ مَعَانِيهِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَكُلُّ بَابٍ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْكَلَامِ سُمِّيَ بَابًا لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ كَاخْتِلَافِ الْوُجُوهِ إِلَّا أَنَّ جَمْعَ الْمُؤَلِّفِينَ لَهُ عَلَى الْأَبْوَابِ يُلَائِمُ الْأَوَّلَ إِذْ جَمْعُ الثَّانِي بَابَانِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْكِتَابَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ وَالْبَابُ بِمَنْزِلَةِ النَّوْعِ وَالْفَصْلُ بِمَنْزِلَةِ الصِّنْفِ، ثُمَّ إِنَّهُ شَبَّهَ الْمَعْقُولَ بِالْمَحْسُوسِ فَالْكِتَابُ كَالدَّارِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْبُيُوتِ فَكُلُّ نَوْعٍ مِنَ الْمَسَائِلِ كَبَيْتٍ وَأَوَّلُهُ كَبَابِهِ الَّذِي يُدْخَلُ مِنْهُ فِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ مُضَافٌ إِلَى قَوْلِهِ مَا جَاءَ وَلَمْ يَقِلْ بَابُ خَلْقِ رَسُولِ اللَّهِ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْبَابِ لَيْسَ الْخَلْقَ بَلْ مَا جَاءَ فِي الْخَلْقِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخَلْقِ، قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: اعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ الْمَسْمُوعَةَ فِي أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ بَابُ مَا جَاءَ إِلَى آخِرِهِ بِطَرِيقِ إِضَافَةِ الْبَابِ إِلَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا الْبَابُ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ; قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ حَدَّثَنَا إِلَى آخِرِ الْبَابِ بِتَأْوِيلِ هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بَابٌ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْضًا، وَيَكُونُ مَا جَاءَ اسْتِئْنَافًا كَأَنَّ الطَّالِبَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ «بَابٌ» خَطَرَ فِي بَالِهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ، وَيَقُولَ: أَيُّ شَيْءٍ يُورَدُ فِي هَذَا الْبَابِ؟ فَيُجِيبَ بِقَوْلِهِ: مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي بَيَانِ خَلْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَكَلَّفَ وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: الِاسْتِئْنَافُ ; يَكُونُ جُمْلَةً. وَقَوْلُهُ: مَا جَاءَ صِلَةٌ وَمَوْصُولٌ أَوْ صِفَةٌ وَمَوْصُوفٌ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُونُ جُمْلَةً، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا؟ قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ مُبْتَدَأٌ أَيِ الْمَوْرُودُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا جَاءَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ جَاءَ كَمَا فِي قَوْلِ الْبُخَارِيِّ بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؟ تَأَمَّلْ، وَجَوَّزَ الشَّارِحُ الْكَرْمَانِيُّ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ بَابٌ بِالْوَقْفِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ لِلْأَبْوَابِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ وَمَا بَعْدَهُ اسْتِئْنَافٌ كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ يَخْدِشُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ التَّعْدَادَ فِي عُرْفِ الْبُلَغَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ لِضَبْطِ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَعْدُودِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَضْلًا عَنْ إِيرَادِ الْأَحْوَالِ الْكَثِيرَةِ بَيْنَ الْمَعْدُودَاتِ. وَالْخَلْقُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوَافِقُ لِلْحِكْمَةِ ; يُقَالُ: خَلَقَ الْخَيَّاطُ الثَّوْبَ إِذَا قَدَّرَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَعَلَيْهِ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي إِبْدَاعِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَفِي إِيجَادِ الشَّيْءِ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ. وَالْخُلُقُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ وَسُكُونٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ الدِّينُ وَالطَّبْعُ وَالسَّجِيَّةُ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لِصُورَةِ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نَفْسُهُ وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَلْقِ بِفَتْحِ اللَّامِ لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا، قِيلَ: وَقَدَّمَ الْأَوْصَافَ الظَّاهِرَةَ عَلَى الْبَاطِنَةِ مَعَ أَنَّ مَنَاطَ الْكَمَالِ هُوَ الْبَاطِنُ، وَلِذَا

سُمِّيَ الْكِتَابُ بِالشَّمَايِلِ بِالْيَاءِ جَمْعُ شِمَالٍ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الطَّبِيعَةِ لَا جَمْعُ شَمْأَلٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْهَمْزِ ; لِأَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْمَكْسُورِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الرِّيحِ الْغَيْرِ الْمُنَاسِبِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ ; لِأَنَّهُمَا الْجُزْءُ الْأَشْرَفُ مِنْهُ فَغَلَبَ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ أَوْ سُمِّيَ الْكُلُّ بِاسْمِهِ سُلُوكًا بِطَرِيقِ التَّرَقِّي وَرِعَايَةً لِتَرْتِيبِ الْوُجُودِ أَوْ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَبْدُو لِلْإِنْسَانِ وَلِأَنَّهُ كَدَلِيلٍ عَلَيْهِ وَلِذَا قِيلَ: عُنْوَانُ الظَّاهِرِ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ الَّذِي وَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ أَيْ صُورَتُهُ وَشَكْلُهُ الَّذِي يُطَابِقُ كَمَالَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ الْخِلْقَةُ وَنُوزِعَ فِيهِ بِأَنَّ الْخِلْقَةَ مَصْدَرٌ أَيْضًا لَكِنَّهُ مَصْدَرٌ نَوْعِيٌّ بِمَعْنَى الْخَلْقِ الْحَسَنِ وَغَيْرُ نَوْعِيٍّ بِمَعْنَى التَّرْكِيبِ كَمَا فِي الْمُغْرِبِ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ حَاصِلٍ بِالْمَصْدَرِ كَمَا تَرَى، نَعَمْ قَدْ تُطْلَقُ الْخِلْقَةُ عَلَى الصُّورَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ إِلَّا أَنَّهُ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ اسْمُ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ هَيْئَةُ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةُ وَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَهُوَ بَعِيدٌ مُوهِمٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْخَلْقُ فِي التَّرْجَمَةِ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ وَالْمَعْنَى بَابُ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي بَيَانِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى صُورَةَ رَسُولِهِ الْأَعْظَمِ وَنَبِيِّهِ الْأَكْرَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ ; وَلِذَا قِيلَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ فِي بَدَنِ آدَمِيٍّ مِنَ الْمَحَاسِنِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَحَاسِنِهِ الْبَاطِنَةِ مَا اجْتَمَعَ فِي بَدَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ ثَمَّ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ تَمَامُ حُسْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا لَمَا أَطَاقَتْ أَعْيُنُ الصَّحَابَةِ النَّظَرَ إِلَيْهِ، انْتَهَى. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) ، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: أَكْثَرُ النَّاسِ عَرَفُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا عَرَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ حِجَابَ الْبَشَرِيَّةِ غَطَّتْ أَبْصَارَهُمْ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحٍ مِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي مَحَلِّهِ بَلِ الْمَقَامُ يَسْتَدْعِي أَكْثَرَ مِنْهُ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَسِيَرِهِ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى أَنْ بُعِثَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَكِنْ قَوْلُهُ وَإِنْ أَغْفَلَهُ الْمُصَنِّفُ لَيْسَ وَارِدًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَهُ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِإِسْنَادِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَقَالَ: (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا، وَفِي نُسْخَةٍ أَنَا تَخْفِيفُ كِتَابَةِ أَخْبَرَنَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: جَرَتِ الْعَادَةُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّمْزِ فِي حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا، وَاسْتَمَرَّ الِاصْطِلَاحُ مِنْ قَدِيمِ الْأَعْصَارِ إِلَى زَمَانِنَا، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى فَيَكْتُبُونَ مِنْ حَدَّثَنَا: ثَنَا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَالنُّونِ وَالْأَلِفِ، وَرُبَّمَا حَذَفُوا الْمُثَلَّثَةَ وَيَقْتَصِرُونَ بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ، وَرُبَّمَا يَكْتُبُونَ دَنَا بِالدَّالِ قَبْلَ نَا، انْتَهَى. وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَابْنِ الْعِرَاقِيِّ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ فِي حَدَّثَنَا: دَثَنَا بِزِيَادَةِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْضًا، قَالَ وَيَكْتُبُونَ مِنْ أَخْبَرَنَا: أَنَا، زَادَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِيهِ أَرَنَا، وَزَادَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِيهِ ابْنَا وَرَنَا، قَالَ مِيرَكُ وَنَقَلَ بَعْضٌ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي وُجُوهِ اخْتِصَارِ أَخْبَرَنَا: بَنَا أَيْضًا بِالْمُوَحَّدَةِ وَالنُّونِ، وَلَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِهِ لَا فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَلَا فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ افْتِرَاءٌ مَحْضٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ بِاخْتِصَارِ حَدَّثَنَا ثَنَا لِاتِّحَادِ صُورَتِهِمَا، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ يَحْسُنُ مَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ كِتَابَةِ أَخْبَرَنَا بِالْأَلِفِ مَعَ عَلَامَةِ بَنَا فَيَكُونُ ابَنَا وَإِنْ كَانَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِمَّنْ فَعَلَهُ. قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَ وَجْهُ عَدَمِ الْحُسْنِ أَنَّهُ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ بِاخْتِصَارِ أَنْبَأَنَا فَإِنَّهُمْ يَقْتَصِرُونَهُ بِأَنْبَأَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ وَالْإِنْبَاءِ وَالسَّمَاعِ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى الْقَطَّانِ وَأَكْثَرِ الْحِجَازِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَعَلَيْهِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمَغَارِبَةِ وَرَأَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ صِيَغِ الْأَدَاءِ بِحَسَبَ افْتِرَاقِ التَّحَمُّلِ فَيَخُصُّونَ الْحَدِيثَ وَالسَّمَاعَ بِمَا يَلْفِظُ بِهِ الشَّيْخُ وَسَمِعَ الرَّاوِي عَنْهُ وَالْإِخْبَارَ بِمَا يَقْرَأُ التِّلْمِيذُ عَلَى الشَّيْخِ وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الشَّرْقِ ثُمَّ أَحْدَثَ أَتْبَاعُهُمْ

تَفْصِيلًا آخَرَ ; فَمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ أُفْرِدَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي وَسَمِعْتُ، وَمَنْ سَمِعَ مَعَ غَيْرِهِ جَمَعَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَسَمَّعَنَا، وَمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ عَلَى الشَّيْخِ أَفْرَدَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي، وَمَنْ سَمِعَ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا. وَكَذَا خَصُّوا الْإِنْبَاءَ بِالْإِجَازَةِ الَّتِي يُشَافِهُ بِهَا الشَّيْخُ مَنْ يُجِيزُهُ، وَكُلُّ هَذَا مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادُوا التَّمْيِيزَ بَيْنَ أَحْوَالِ التَّحَمُّلِ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ فَتَكَلَّفَ بِالِاحْتِجَاجِ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، نَعَمْ يَحْتَاجُ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَى مُرَاعَاةِ الِاصْطِلَاحِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً عِنْدَهُمْ فَمَنْ يَجُوزُ عَنْهَا احْتَاجَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ وَإِلَّا فَلَا يُؤْمَنُ اخْتِلَاطُ الْمَسْمُوعِ بِالْمَجَازِ وَبَعْدَ تَقُرُّرِ الِاصْطِلَاحِ لَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِينَ، هَذَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ ; هَلْ تُسَاوِي السَّمَاعَ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ هِيَ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَمُعْظَمُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبُخَارِيُّ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ إِلَى تَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِهِ، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَشُعْبَةَ وَابْنِ لَهِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الشَّرْقِ إِلَى تَرْجِيحِ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ عَلَى الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ، قَالَ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ وَكَذَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُمَا إِلَى التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الِاخْتِلَافُ اخْتِلَافُ عَصْرٍ فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ لَهُمْ قَابِلِيَّةٌ تَامَّةٌ بِحَيْثُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْقِرَاءَةَ وَالْحَدِيثَ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ أَخْذًا كَامِلًا مُسْتَوْفِيًا يَصْلُحُ لِلِاعْتِمَادِ فِي التَّحَمُّلِ بِخِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِقِلَّةِ اسْتِعْدَادَاتِهِمْ وَبُطْءِ إِدْرَاكَاتِهِمْ فَهُمْ إِذَا قَرَءُوا الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ أَوِ الْحَدِيثَ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَقَرَّرَهُ فِي قِرَاءَتِهِ وَإِذَا أَخْطَأَ بَيَّنَ لَهُ مَوْضِعَ خَطَأِهِ كَانَ أَقْوَى فِي الِاعْتِمَادِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّرَّاحَ لَهُمْ هُنَا إِطْنَابٌ فِي الْإِعْرَابِ مَعَ كَثِيرٍ مِنَ الِاضْطِرَابِ أَضْرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ لِقِلَّةِ فَائِدَتِهِ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ. (أَبُو رَجَاءٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَجِيمٍ بَعْدَهُ أَلِفٌ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ. (قُتَيْبَةُ) : بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ وَفَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ قَبْلَ هَاءٍ وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. (ابْنُ سَعِيدٍ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ مَوْلَاهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى بَلْخٍ، قِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ يَحْيَى وَلَقَبُهُ قُتَيْبَةُ وَقِيلَ: اسْمُهُ عَلِيٌّ، رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَسَمِعَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْأَعْلَامِ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَخَلْقٌ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي شَعْبَانَ وَكَانَ ثَبْتًا. (عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) : الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، أَخَذَ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عَمْرَ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا قِيلَ بَلَغَ مَشَايِخُهُ تِسْعَمِائَةٍ وَأَخْذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَمْثَالُهُمَا، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، قِيلَ مَكَثَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَدِ اجْتَمَعَ بِالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَخَذَ عَنْهُ وَقِيلَ أَخَذَ كُلٌّ عَنِ الْآخَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْجَارُّ يَتَعَلَّقُ بِأَخْبَرَنَا أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمَذْكُورِ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُقَدَّرِ أَيْ أَخْبَرَنَا أَبُو رَجَاءٍ هَذَا الْحَدِيثَ حَالَ كَوْنِهِ نَاقِلًا أَوْ مَنْقُولًا وَجُوِّزَ كَوْنُهُ اسْتِئْنَافًا جَوَابًا لِمَنْ قَالَ عَمَّنْ يُحَدِّثُهُ. (عَنْ رَبِيعَةَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، وَقَدْ بَالَغَ الْأَئِمَّةُ فِي جَلَالَتِهِ أَيْ حَالَ كَوْنِ مَالِكٍ نَاقِلًا عَنْ رَبِيعَةَ (بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : حَالَ كَوْنِهِ نَاقِلًا (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) : وَهُوَ أَبُو النَّضْرِ الْأَنْصَارِيُّ الْبُخَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَعُمْرُهُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَقِيلَ وُلِدَ لَهُ مِائَةُ وَلَدٍ مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ ذَكَرًا، رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ. (أَنَّهُ) : أَيْ أَنَّ رَبِيعَةَ وَقِيلَ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. (سَمِعَهُ) : أَيْ سَمِعَ رَبِيعَةَ أَنَسًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَبِيعَةَ أَخَذَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ بِطَرِيقِ التَّحْدِيثِ لَا بِالْإِخْبَارِ. (يَقُولُ) : حَالٌ أَيْ قَائِلًا، وَقِيلَ بَيَانٌ،

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ بَدَلٌ أَيْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ وَالْفِعْلُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ عِلْمُهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِسَمِعَهُ وَالسَّمَاعُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ عَلَى مَا فِي التَّاجِ، وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا أَخْبَرَنَا، انْتَهَى. وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَالَ الْعِصَامُ: سَمِعَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لَوْ دَخَلَ عَلَى الصَّوْتِ يَقُولُ: سَمِعْتُ قَوْلَ زِيدٍ، وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ لَوْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ الصَّوْتِ وَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي فِعْلًا مُضَارِعًا، وَالْعَارِي عَنِ الْقَوَاعِدِ رُبَّمَا يَقُولُ فِيهِ مَا يَشَاءُ، وَقَالَ مِيرَكُ: لَا يَخْفَى أَنَّ السَّمَاعَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْقَوْلِ فَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ مَحْذُوفَةٌ أَيْ سَمِعَ مِنْهُ يَقُولُ أَيْ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ سَمِعَ قَوْلَهُ وَحِينَئِذٍ يَقُولُ بَيَانٌ لَهُ فَإِنْ قِيلَ الْمُنَاسِبُ لَسَمِعَ قَالَ لِيَتَوَافَقَا مُضِيًّا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ إِلَى الْمُضَارِعِ أُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ الْقَوْلِ لِلْحَاضِرِينَ وَالْحِكَايَةُ عَنْهَا كَأَنَّهُ يُرِيهِمْ أَنَّهُ قَائِلٌ بِهِ الْآنَ. (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قِيلَ كَانَ يُفِيدُ التَّكْرَارَ لُغَةً، وَقِيلَ عُرْفًا، وَقِيلَ لَا يُفِيدُهُ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. (لَيْسَ بِالطَّوِيلِ) : الْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ وَالْمُنَاسِبُ هُنَا مَذْهَبُ غَيْرِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهَا لِنَفْيِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ حَالًا لَا مَاضِيًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى تُكَلِّفُ حِكَايَةِ حَالٍ مَاضِيَةٍ قُصِدَ دَوَامُ نَفْيِهَا. (الْبَائِنُ) : بِالْهَمْزِ وَوَهِمَ مَنْ جَعَلَهُ بِالْيَاءِ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَانَ أَيْ ظَهَرَ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ مِنْ بَانَ بِمَعْنَى بَعُدَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا مِنَ التَّوَسُّطِ أَوْ مِنْ بَانَ بِمَعْنَى فَارَقَ مَنْ سِوَاهُ، وَسُمِّيَ فَاحِشُ الطُّولِ بَائِنًا لِأَنَّ مَنْ رَآهُ يَتَصَوَّرُ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْضَائِهِ مُبَانٌ عَنِ الْآخَرِ أَوْ لِأَنَّهُ يُبَايِنُ الِاعْتِدَالَ أَوْ كَأَنَّ طُولَهُ يَظْهَرُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ. (وَلَا بِالْقَصِيرِ) : أَيِ الْمُتَرَدِّدِ الدَّاخِلِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى بِالطَّوِيلِ وَلَا مُذَكِّرَةٌ لِلنَّفْيِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الطُّولِ وَالْقِصَرِ لَا زَائِدَ الطُّولِ وَلَا الْقِصَرِ، وَفِي نَفْيِ أَصْلِ الْقِصَرِ وَنَفْيِ الطُّولِ الْبَائِنِ لَا أَصْلِ الطُّولِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَرْبُوعًا مَائِلًا إِلَى الطُّولِ وَأَنَّهُ كَانَ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَلَا يُنَافِيهِ وَصْفُهُ الْآتِي بِأَنَّهُ رَبْعَةٌ لِأَنَّهَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ الْبَرَاءِ كَانَ رَبْعَةً وَهُوَ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ، وَقَدْ وَرَدَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ عَسَاكِرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُمَاشِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا طَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَرُبَّمَا اكْتَنَفَهُ الرَّجُلَانِ الطَّوِيلَانِ فَيَطُولُهُمَا فَإِذَا فَارَقَاهُ نُسِبَ إِلَى الرَّبْعَةِ، وَفِي خَصَائِصِ ابْنِ سَبْعٍ كَانَ إِذَا جَلَسَ يَكُونُ كَتِفُهُ أَعْلَى مِنَ الْجَالِسِ، قِيلَ وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَطَاوَلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ صُورَةً كَمَا لَا يَتَطَاوَلُ عَلَيْهِ مَعْنًى. (وَلَا بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ) : أَيِ الشَّدِيدِ الْبَيَاضِ الْخَالِي عَنِ الْحُمْرَةِ وَالنُّورِ كَالْجَصِّ وَهُوَ كَرِيهُ الْمَنْظَرِ وَرُبَّمَا تَوَهَّمَهُ النَّاظِرُ أَبْرَصَ، بَلْ كَانَ بَيَاضُهُ نَيِّرًا مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ كَمَا فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ مِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَزْهَرَ اللَّوْنِ، فَالنَّفْيُ لِلْقَيْدِ فَقَطْ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَمْهَقَ لَيْسَ بِأَبْيَضَ فَمَقْلُوبَةٌ أَوْ وَهْمٌ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ. (وَلَا بِالْآدَمِ) : أَفْعَلُ صِفَةٌ مَهْمُوزُ الْفَاءِ وَأَصْلُهُ

أَءْدَمُ أُبْدِلَتِ الْفَاءُ أَلِفًا وَالْأُدْمَةُ شِدَّةُ السُّمْرَةِ وَهِيَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، فَنَفْيُهُ لَا يُنَافِي إِثْبَاتَ السُّمْرَةِ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ تَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَاضِ الْمَنْفِيِّ مَا لَا يُخَالِطُهُ الْحُمْرَةُ وَالْمُرَادُ بِالسُّمْرَةِ الْحُمْرَةُ الَّتِي يُخَالِطُهَا الْبَيَاضُ. (وَلَا بِالْجَعْدِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ مِنَ الْجُعُودَةِ وَهِيَ فِي الشَّعْرِ أَنْ لَا يَتَكَسَّرَ تَكَسُّرًا تَامًّا وَلَا يَسْتَرْسِلُ. (الْقَطَطُ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرِ الثَّانِي وَهُوَ شِدَّةُ الْجُعُودَةِ. (وَلَا بِالسَّبِطِ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَتُسَكَّنُ وَتُفْتَحُ، وَالسُّبُوطَةُ فِي الشَّعْرِ ضِدُّ الْجُعُودَةِ وَهُوَ الِامْتِدَادُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَعَقُّدٌ وَلَا نُتُوءٌ أَصْلًا، وَالْمُرَادُ أَنَّ شَعْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْجُعُودَةِ وَالسُّبُوطَةِ. (بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى) : خَبَرٌ ثَانٍ لِكَانَ ; أَيْ أَرْسَلَهُ الْحَقُّ إِلَى الْخَلْقِ لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ وَالْحُكْمِ لِلْأُمَّةِ، قِيلَ وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. (عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَقِيلَ عَلَى بِمَعْنَى فِي، وَقِيلَ الرَّأْسُ مُقْحَمٌ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ أَيِ الْوَحْيُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ الْمُرَادُ بِالرَّأْسِ الطَّرَفُ الْأَخِيرُ مِنْهُ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ مِنْ أَنَّهُ بُعِثَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّأْسُ هُنَا مَجَازٌ عَنْ آخِرِ السَّنَةِ كَقَوْلِهِمْ رَأْسُ الْآيَةِ أَيْ آخِرُهَا، وَتَسْمِيَةُ آخِرِ السَّنَةِ رَأْسَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَبْدَأٌ مِثْلُهُ مِنْ عَقْدٍ آخَرَ، انْتَهَى. وَأَمَّا لَفْظُ الْأَرْبَعِينَ فَتَارَةً يُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُ السِّنِينَ مِنْ أَوَّلِ الْوِلَادَةِ إِلَى اسْتِكْمَالِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ السَّنَةُ الَّتِي تَنْضَمُّ إِلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَالِاسْتِعْمَالَانِ شَائِعَانِ ; فَالْأَوَّلُ كَمَا يُقَالُ عُمْرُ فُلَانٍ أَرْبَعُونَ، وَالثَّانِي كَقَوْلِهِمُ الْحَدِيثُ الْأَرْبَعُونَ ; وَإِيرَادُ التَّمْيِيزِ وَهُوَ قَوْلُهُ سَنَةً يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ بُعِثَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وُلِدَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَبُعِثَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ حِينَ بُعِثَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ، فَمَنْ قَالَ أَرْبَعُونَ أَلْغَى الْكَسْرَ أَوْ جَبَرَهَا، لَكِنْ قَالَ الْمَسْعُودِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ بُعِثَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ

لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً سَوَاءٌ، وَقِيلَ بُعِثَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ عِشْرُونَ يَوْمًا، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رِوَايَةً شَاذَّةً أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعَثَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، انْتَهَى. وَلَعَلَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ بَعْثَ النُّبُوَّةِ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ وَبَعْثَ الرِّسَالَةِ فِي رَأْسِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ. (فَأَقَامَ) : أَيْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ. (بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ) : بِسُكُونِ الشِّينِ أَيْ رَسُولًا وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً نَبِيًّا وَرَسُولًا ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقَوْلُهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ مُحْتَاجٌ إِلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنِ الرَّاوِيَ اقْتَصَرَ عَلَى الْعَقْدِ وَتَرَكَ الْكَسْرَ، وَلَا خِلَافَ فِي قَوْلِهِ (وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ) : لَكِنْ يَشْكُلُ قَوْلُهُ. (فَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى) : أَيْ قَبَضَ رُوحَهُ. (عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً) : لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سِنُّهُ سِتِّينَ، وَالْمُرَجَّحُ أَنَّهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ وَقِيلَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ وَجُمِعَ بِأَنَّ مَنْ رَوَى الْأَخِيرَ عَدَّ سَنَتَيِ الْمَوْلِدِ وَالْوَفَاةِ وَمَنْ رَوَى ثَلَاثًا لَمْ يَعُدَّهُمَا، وَمَنْ رَوَى السِّتِّينَ لَمْ يَعُدَّ الْكَسْرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ هِجْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ قَدِمَ بِهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضُحًّى لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. (وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا. (عِشْرُونَ شَعْرَةً) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ فَقَطْ وَقَدْ يُفْتَحُ وَأَمَّا الشَّعْرُ فَبِالْفَتْحِ وَيُسَكَّنُ. (بَيْضَاءَ) : صِفَةٌ لِشَعْرَةٍ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ تَوَفَّاهُ وَجَعْلُهُ مَعْطُوفًا يُفْسِدُ الْمَعْنَى خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا كَانَ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِحْيَتِهِ إِلَّا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِ عَشْرَةَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ، وَأَمَّا مَا جَاءَ مِنْ نَفْيِ الشَّيْبِ فِي رِوَايَةٍ فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ كَثْرَتِهِ لَا أَصْلِهِ وَمِنْ ثَمَّ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ وَلَمْ يُشِنْهُ اللَّهُ بِالشَّيْبِ، وَحِكْمَةُ قِلَّةِ شَيْبِهِ مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ الشَّيْبَ وَقَارٌ وَنُورٌ وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; أَنَّ النِّسَاءَ بِالطَّبْعِ يَكْرَهْنَهُ غَالِبًا فَلَا يَحْصُلُ الْمُلَائَمَةُ وَالْمُمَايَلَةُ كَامِلًا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَمَنْ كَرِهَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَفَرَ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ الطَّبِيعِيَّةَ خَارِجَةٌ عَنِ الْأُمُورِ التَّكْلِيفِيَّةِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ الْبَحْثِ لِبَحْثِ عُمْرِهِ وَشَيْبِهِ فِي بَابَيْهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ (حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ) : بِالتَّصْغِيرِ. (ابْنُ مَسْعَدَةَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ. (

الْبَصْرِيُّ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتُكْسَرُ وَحُكِيَ الضَّمُّ، وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ السَّامِيُّ مِنْ بَنِي سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ، وَاسِعُ الرِّوَايَةِ، كَثِيرُ الْحَدِيثِ، وَرَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، سَمِعَ أَيُّوبَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ وَغَيْرَهُمَا، قِيلَ تَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَهُوَ مِنْ أَوْسَاطِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (قَالَ) : أَيْ حُمَيْدٌ (حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ بِدُونِ قَالَ فَقِيلَ التَّقْدِيرُ إِنَّهُ قَالَ، وَقِيلَ إِنَّهُ حَدَّثَنَا ثُمَّ قَالَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ لَفْظُ قَالَ إِنْ كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ حَدَّثَنَا الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَهَلُمَّ جَرَّا فَبِهَا وَإِلَّا فَهُوَ مَحْذُوفٌ خَطًّا وَيَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) : بِفَتْحَتَيْنِ نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ قَبِيلَةٍ. (عَنْ حُمَيْدٍ) : أَيْ أَبِي عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيِّ الْبَصْرِيِّ، يُقَالُ لَهُ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الطَّوِيلُ لِقِصَرِهِ أَوْ لِطُولِ يَدِهِ أَوْ لِكَوْنِ جَارِهِ طَوِيلًا ثِقَةٌ مُدَلِّسٌ، وَعَابَهُ زَائِدَةُ لِدُخُولِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْأُمَرَاءِ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ. (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) : أَيْ نَاقِلًا عَنْهُ. (قَالَ) : أَيْ أَنَّهُ قَالَ وَالْقَائِلُ أَنَسٌ وَأَبْعَدَ الْعِصَامُ فَقَالَ الْقَائِلُ حُمَيْدٌ. (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبْعَةً) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا بِمَعْنَى الْمَرْبُوعِ الْخَلْقِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِ ; يُقَالُ رَجُلٌ رَبْعَةٌ وَامْرَأَةٌ رَبْعَةٌ، وَمَعْنَاهُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ. (وَلَيْسَ بِالطَّوِيلِ) : أَيِ الْبَائِنِ الْمُفْرِطِ فِي الطُّولِ، فَيُصْرَفُ الْمَفْهُومُ الْمُرَادُ إِلَى الْكَامِلِ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ. (وَلَا بِالْقَصِيرِ) : أَيِ الْمُتَرَدِّدِ فَلَا يُنَافِي مَا يُذْكَرُ بَعْدُ أَنَّهُ أَطْوَلُ مِنَ الْمَرْبُوعِ، وَالْجُمْلَةُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَيُرْوَى لَيْسَ بِدُونِ الْوَاوِ فَيَكُونُ بَيَانًا لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَقَالَ مُلَّا حَنَفِيٌّ: الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى رَبْعَةٍ وَلَا بُعْدَ فِي عَطْفِ جُمْلَةٍ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى مُفْرَدٍ وَلَا حُسْنَ فِي عَطْفِهِ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ حَسَنُ الْجِسْمِ يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ تَامٍّ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِدُونِ الْوَاوِ كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ بِعَلَامَةِ التِّرْمِذِيِّ فَهُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. (حَسَنَ الْجِسْمِ) : أَيْ لَوْنًا وَنُعُومَةً وَاعْتِدَالًا فِي الطُّولِ وَاللَّحْمِ وَنَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ آخَرُ لِكَانَ وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. (وَكَانَ شَعَرُهُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ. (لَيْسَ بِجَعْدٍ) : أَيْ قَطَطٍ ; لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرِّرَةِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَهُمَا. (وَلَا سَبِطَ) : وَمَرَّ مَعْنَاهُمَا وَجَعَلَهُمَا هُنَا وَصْفًا لِلشَّعْرِ، وَفِيمَا مَرَّ وَصْفًا لِصَاحِبِهِ لِبَيَانِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْعِصَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نِسْبَتَهُمَا هُنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهُنَاكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى حَدِّ رَجُلٍ عَدْلٍ. (أَسْمَرَ اللَّوْنِ) : يُرِيدُ نَفْيَ الْبَيَاضِ الْقَوِيِّ مَعَ حُمْرَةٍ قَلِيلَةٍ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مَعَ قَوْلِهِ وَلَا بِالْآدَمِ الْمُرَادِ بِهِ شَدِيدِ السُّمْرَةِ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ انْفَرَدَ بِهَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْهُ بِلَفْظِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَى مَنْ رَوَى صِفَةَ لَوْنِهِ صلّى الله عليه

وسلم غَيْرَ أَنَسٍ فَكُلُّهُمْ وَصَفُوهُ بِالْبَيَاضِ دُونَ السُّمْرَةِ وَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، انْتَهَى. وَقِيلَ هَذَا يُنَافِي مَا سَيَجِيءُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبْيَضَ كَأَنَّمَا صُبِغَ مِنْ فِضَّةٍ، وَجُمِعَ بِأَنَّ السُّمْرَةَ كَانَتْ فِيمَا يَبْرُزُ لِلشَّمْسِ وَالْبَيَاضَ فِيمَا تَحْتَ الثَّوْبِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ رَقَبَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ مَعَ أَنَّ الرَّقَبَةَ بَارِزَةٌ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا كَالْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ الصَّفَاءِ وَاللَّمَعَانِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَنَحْنُ نَقُولُ تَصَرُّفُ الشَّمْسِ فِيهِ يُنَافِي مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ تَظَلُّهُ سَحَابَةٌ، قَالَ ابْنُ حَجْرٍ وَهُوَ غَفْلَةٌ إِذْ ذَاكَ كَانَ إِرْهَاصًا مُتَقَدِّمًا عَلَى النُّبُوَّةِ وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلَمْ يُحْفَظْ ذَلِكَ كَيْفَ وَأَبُو بَكْرٍ قَدْ ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِثَوْبِهِ لَمَّا وَصَلَ الْمَدِينَةَ وَصَحَّ أَنَّهُ ظُلِّلَ بِثَوْبٍ وَهُوَ يَرْمِي الْجَمَرَاتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ خَبَرٌ آخَرُ لِكَانَ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ: وَكَانَ شَعْرُهُ. . . إِلَخْ ; جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَخْبَارِهِ ; إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُ «أَسْمَرَ اللَّوْنِ» خَبَرًا لِكَانَ الثَّانِي، وَلَوْ قُدِّرَ قَبْلَ قَوْلِهِ «أَسْمَرَ» كَلِمَةٌ وَكَانَ لِئَلَّا يَلْزَمَ الِاعْتِرَاضُ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَقِيلَ ضَمِيرُ كَانَ الثَّانِي إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُ الْأَوَّلِ، «وَأَسْمَرَ اللَّوْنِ» خَبَرُهُ الثَّانِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «أَسْمَرُ» بِالرَّفْعِ أَيْ هُوَ أَسْمَرُ (إِذَا مَشَى يَتَكَفَّأُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بَعْدَهُ هَمْزٌ مُوَافِقًا لِمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ يُتْرَكُ هَمْزُهُ تَخْفِيفًا، قِيلَ وَرُوِيَ «يَتَكَفَّا» بِقَلْبِ هَمْزَتِهِ أَلِفًا، وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ وَقْفًا أَيْ يَتَمَايَلُ إِلَى قُدَّامٍ كَالسَّفِينَةِ فِي جَرْيِهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَتَوَكَّأُ أَيْ يَعْتَمِدُ وَالْمُرَادُ التَّثَبُّتُ وَهَذَا لَا يُنَافِي سُرْعَةَ الْمَشْيِ بَلْ يُؤَيِّدُهَا، وَالْحَاصِلُ مِنْهُمَا أَنَّ خُطُوَاتِهِ كَانَتْ مُتَّسِعَةً لَا مُتَقَارِبَةً كَخُطُوَاتِ الْمُخْتَالِينَ، وَيَتَكَفَّأُ اسْتِقْبَالٌ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ التَّكَفُّأَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمَشْيِ وَنَظِيرُهُ سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَ الْبَلَدَ، أَوْ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، أَوْ يَجْعَلُ كَانَ مَحْذُوفًا، وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: إِذَا مَشَى تَكْفَّأَ، بِصِيغَةِ الْمَاضِي كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ ثَنَا. (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَهُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَيْسَانَ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِبُنْدَارٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ وَخَلْقًا، رَوَى عَنْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَخَلْقٌ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْآخِذِينَ عَنْ تَبَعِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ لَمْ يَلْقَ التَّابِعِينَ. (يُعْنَى الْعَبْدِيَّ) : قَالَ شَيْخُنَا مِيرَكُ شَاهْ: كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا يَعْنَى بِصِيغَةِ الْغَائِبِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ تَلَامِذَتِهِ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الرُّوَاةِ إِدْرَاجَ كَلَامِهِمْ فِي تَصَانِيفِ مَشَايِخِهِمْ كَصَنِيعِ مَنْ رَوَى الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الشَّيْخَيْنِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ «نَعْنِي» بِالنُّونِ عَلَى وَزَانِ حَدَّثَنَا

وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ، لَوْ كَانَ الرِّوَايَةُ مُسَاعَدَةً لَهُ، هَذَا وَقَدْ سَرَقَ بَعْضُ الْمُنْتَحِلِينَ هَذَا التَّحْقِيقَ مِنْ كَلَامِنَا وَأَوْرَدَهُ فِي شَرْحِهِ إِظْهَارًا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فَلَا تَغْتَرَّ بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ، انْتَهَى. وَأَرَادَ بِبَعْضِ الْمُنْتَحِلِينَ مُلَّا حَنَفِي فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ بِعَيْنِهِ وَأَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ التَّلَامِذَةِ لِتَكُفَّ الِالْتِفَاتَ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ السَّكَاكِيِّ، وَلَوْ قِيلَ عَلَى التَّجْرِيدِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ أَيْضًا، وَلَوْ قُرِئَ مَجْهُولًا لَكَانَ أَوْجَهُ لَوْلَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمَضْبُوطَةِ لَكِنْ يُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ الْعِصَامُ أَوْ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ أَيِ الْمُفَسِّرَةِ إِذْ لَا قَصْدَ إِلَّا التَّفْسِيرُ وَيُعْنَى عَلَى صِيغَةِ الْغَيْبَةِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً إِذْ لَا يُلَائِمُ جَعْلُهُ كَحَدَّثَنَا لِعَدَمِ مُشَارَكَتِهِمَا فِي تَشْرِيكِ الْغَيْرِ إِذِ التَّشْرِيكُ فِي التَّحْدِيثِ دُونَ الْعِنَايَةِ بِلَفْظِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، انْتَهَى. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى قَوْلِهِ يَعْنِي بَلْ قَالَ مِنْ أَوَّلِ الْوَهْلَةِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمَنْسُوبَةِ، ثُمَّ الْعَبْدِيُّ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ نِسْبَةً إِلَى عَبْدِ قَيْسٍ وَهُوَ قَبِيلَةٌ مِنْ رَبِيعَةَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) : أَيْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِغُنْدَرٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي صِحَاحِهِمْ، رَوَى عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَجَالَسَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) : كَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ ابْنُ بِسْطَامَ - بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ - بْنِ الْحَجَّاجِ الْعَتْكِيُّ مَوْلَاهُمْ بَصْرِيُّ الْأَصْلِ كَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَرُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ بِهِ حَفِظَ اللَّهُ أَكْثَرَ الْحَدِيثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَا شُعْبَةُ مَا عُرِفَ الْحَدِيثُ بِالْعِرَاقِ، سَمِعَ الْحَسَنَ وَالثَّوْرِيَّ وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : أَيْ رَاوِيًا عَنْهُ، وَقَالَ الْعِصَامُ مُتَعَلِّقٌ بِحَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ مِيرَكُ: اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ رَأَى عَلِيًّا وَخَلْقًا، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الرِّوَايَةِ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ. (قَالَ) : أَيْ أَنَّهُ قَالَ: (سَمِعْتُ الْبَرَاءَ) : عَلَى وَزْنِ سَحَابٍ وَحُكِيَ فِيهِ الْقَصْرُ، وَهُوَ أَبُو عِمَارَةَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ الْخَنْدَقُ، وَهُوَ مِنَ الْمَشَاهِيرِ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَافْتَتَحَ الرَّيَّ وَمَاتَ بِالْكُوفَةِ أَيَّامَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ. (ابْنُ عَازِبٍ) : بِكَسْرِ الزَّايِ صَحَابِيَّانِ. (يَقُولُ) : حَالٌ وَقَالَ الْعِصَامُ مَفْعُولٌ ثَانٍ. (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ الْجُعُودَةِ وَالسُّبُوطَةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ وَفِي الْجَامِعِ شَعْرُ رَجُلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةِ وَلَا شَدِيدَ السُّبُوطَةِ بَيْنَهُمَا، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ بِضَمِّ الْجِيمِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ الْمُتَعَارَفَ الَّذِي يُرَادُ بِلَفْظِ الرَّجُلِ وَهُوَ الْمُقَابِلُ لِلْمَرْأَةِ وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ خَبَرٌ مُوَطِّئٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلُهُ. (مَرْبُوعًا) : إِذْ هُوَ يُفِيدُ الْفَائِدَةَ الْمُعْتَدَّ بِهَا وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا طَوِيلًا وَلَا قَصِيرًا، فَيُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ

فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «كَانَ رَبْعَةً» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ شَعْرُهُ الْأَطْهَرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذِ الرَّجِلُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا وَسُكُونِهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الَّذِي فِي شَعْرِهِ تَكَسُّرٌ يَسِيرٌ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِهَا وَحِينَئِذٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَوْطِئَةِ الْخَبَرِ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى أَصْوَبُ ; إِذْ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الصَّحَابِيِّ وَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ رَجُلًا بِالْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي غَيْرِ هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرُ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُنْوَانٍ كَانَ رَجُلًا كَذَا بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ مِمَّنْ دُونَ الصَّحَابِيِّ فَإِنَّ الْحَدِيثَ سَيَأْتِي فِي بَابِ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَرَاءِ بِلَفْظِ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعًا» إِلَى آخِرِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا بِدُونِ لَفْظِ «رَجُلٌ» ، كَذَا حَقَّقَهُ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَكِنَّ الطَّعْنَ فِي الرُّوَاةِ مُسْتَبْعَدٌ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ إِجْمَاعًا وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِفِ أَوْ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَيُرَادُ بِهِ كَامِلُ الرُّجُولِيَّةِ أَوْ مُوِّطِئٌ لِلْخَبَرِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ فُلَانٌ رَجُلٌ كَرِيمٌ وَرَجُلٌ صَالِحٌ، قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ «أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» ، «أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» ، فَقَوْلُهُ «مَرْبُوعًا» صِفَةٌ لِرَجُلٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَخَبَرٌ آخَرُ لِكَانَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَكَذَا إِعْرَابُ قَوْلِهِ. (بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ) : وَالْبَعِيدُ ضِدُّ الْقَرِيبِ وَيُقْرَأُ مُضَافًا إِلَى مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَقِيلَ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ بَعِيدًا مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ بِدُونِ الْإِضَافَةِ وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَقِيلَ زَائِدَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَأَرَادَ بِبَعِيدِ مَا بَيْنَهُمَا السِّعَةَ ; إِذْ هِيَ عَلَامَةُ النَّجَابَةِ، وَقِيلَ «بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا» كِنَايَةٌ عَنْ سِعَةِ الصَّدْرِ وَشَرْحِهِ الدَّالِّ عَلَى الْجُودِ وَالْوَقَارِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمَنْكِبُ مَجْمَعُ عَظْمِ الْعَضُدِ وَالْكَتِفِ وَمَعْنَاهُ عَرِيضُ أَعْلَى الظَّهْرِ، انْتَهَى. وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَرْضِ الصَّدْرِ وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي سَعْدٍ رَحِيبَ الصَّدْرِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ وَهُوَ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ كَغُلَامٍ وَغُلَيْمٍ، وَالْأَصْلُ فِي تَصْغِيرِهِمَا بُعَيِّدٌ وَعُلَيِّمٌ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِيهِمَا، ثُمَّ فِي هَذَا التَّصْغِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَصْغِيرِ الْبُعْدِ الْمَذْكُورِ أَيْ أَنَّ طُولَ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ الشَّرِيفَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاهِيًا إِلَى الْعَرْضِ الْوَافِي الْمُنَافِي لِلِاعْتِدَالِ الْكَافِي، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ: وَقَدْ يُرْوَى مُصَغَّرًا فَمَحَلُّ نَظَرٍ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ النُّسْخَةِ الرِّوَايَةُ وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيلَ بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ غَرِيبٌ بَلْ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِعِيدٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ، وَكَذَا. (عَظِيمَ الْجُمَّةِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ كَثِيفَهَا، فِي النِّهَايَةِ: الْوَفْرَةُ الشَّعْرُ إِلَى شَحْمَتَيِ الْأُذُنِ وَاللُّمَّةُ دُونَ الْجُمَّةِ ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا أَلَمَّتْ بِالْمَنْكِبَيْنِ، وَالْجُمَّةُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ: مَا سَقَطَ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَنَقَلَ الْجَزَرِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْجُمَّةَ هِيَ الشَّعْرُ إِلَى شَحْمَتَيِ الْأُذُنِ، قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا نَقَلَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ، قَالَ مُلَّا حَنَفِي: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ جَمْعِهَا إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ وَيُلَائِمُهُ عِظَمُهَا وَوُصُولُهَا إِلَى الْمَنْكِبِ فِي حَالِ إِرْسَالِهَا، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الصِّحَاحِ: الْجُمَّةُ ; الشَّعْرُ الْمَجْمُوعُ عَلَى الرَّأْسِ، وَمَا فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ: أَنَّ الْجُمَّةَ ; الشَّعْرُ مُطْلَقًا، وَيَنْصُرُهُ كَلَامُ الْعَسْقَلَانِيِّ: أَنَّ الْجُمَّةَ هِيَ مُجْتَمَعُ الشَّعْرِ إِذَا تَدَلَّى مِنَ الرَّأْسِ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ وَإِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يُجَاوِزُ الْأُذُنَيْنِ فَهُوَ الْوَفْرَةُ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: (إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ) : بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْجُمَّةِ بِتَقْدِيرِ الْوَاصِلَةِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ أَوْ حَالٌ مِنْهَا أَيْ

وَاصِلَةٌ إِلَى شَحْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُذُنَيْهِ، وَهِيَ مَا لَانَ مِنْهَا فِي أَسْفَلِهَا وَهُوَ مَحَلُّ الْقُرْطِ وَمُعَلَّقُهُ مِنْهَا، وَالْأُذُنُ بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الذَّالِ لُغَتَانِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُهَا وَالثَّانِي أَشْهَرُ، وَأَفْرَدَ الشَّحْمَةَ مَعَ إِضَافَتِهَا إِلَى التَّثْنِيَةِ كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ التَّثْنِيَتَيْنِ مَعَ ظُهُورِ الْمُرَادِ، وَقِيلَ أَنَّهُ ظَرْفٌ لَغْوٌ لِعَظِيمٍ ; لِبَيَانِ أَنَّ عَظِيمَ جُمَّتِهَا وَكَثْرَتَهَا مُنْتَهِي إِلَى شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ فَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ نِهَايَةِ غِلَظِهَا وَعِظَمِهَا لَا بَيَانُ نِهَايَةِ الْجُمَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ شَعْرُهُ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ، وَفِي أُخْرَى إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ، وَفِي أُخْرَى إِلَى أُذُنَيْهِ، وَفِي أُخْرَى يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ، وَفِي أُخْرَى إِلَى كَتِفَيْهِ، وَجَمَعَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ إِذَا تَرَكَ تَقْصِيرَهَا بَلَغَتِ الْمَنْكِبَ وَإِذَا قَصَّرَهَا كَانَتْ إِلَى الْأُذُنِ أَوْ شَحْمَتِهَا أَوْ نَصِفِهَا فَكَانَتْ تَطُولُ وَتَقْصُرُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. (عَلَيْهِ حُلَّةٌ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. (حَمْرَاءُ) : وَقِيلَ حَالٌ بِالضَّمِيرِ وَحْدَهُ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: «وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ» بِالْوَاوِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْحُلَّةُ بِالضَّمِّ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ مِنْ بُرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ حُلَّةً إِلَّا مِنْ ثَوْبَيْنِ أَوْ ثَوْبٍ لَهُ بِطَانَةٌ، انْتَهَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْحُلَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا ثَوْبَيْنِ وَيَكُونُ غَالِبًا إِزَارًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْحُلَلُ بُرُودُ الْيَمَنِ، وَالْحُلَّةُ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَلَا تُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى تَكُونَ ثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِفْرَادُ الْوَصْفِ إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى لَفْظِ الْحُلَّةِ أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ الثَّوْبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِمَا مَعًا فِي سَتْرِ الْبَدَنِ أَوْ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَبِهِ اسْتَدَلَّ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى حِلِّ لُبْسِ الْأَحْمَرِ وَإِنْ كَانَ قَانِيًا، وَحَمَلَهُ عَلَى ذِي الْخُطُوطِ - سَيَأْتِي رَدُّهُ -، قُلْتُ: قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هِيَ ثِيَابٌ ذَاتُ خُطُوطٍ، انْتَهَى. أَيْ لَا حَمْرَاءَ خَالِصَةً وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي بُرُودِ الْيَمَنِ وَهُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ ; وَلِذَا أَنْصَفَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: فَعَلَى هَذَا أَيْ نَقْلِ الْعَسْقَلَانِيِّ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ بِجَوَازِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ - وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ فِي بَابِ لِبَاسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَغْرَبَ الْعِصَامُ حَيْثُ غَفَلَ عَنْ مَذْهَبِهِ وَقَالَ: قَوْلُهُ: حَمْرَاءُ يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنَ الْمَنْعِ عَنْ لُبْسُ الْأَحْمَرِ ; فَلِذَا أُوِّلَ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْبُرُودِ الْيَمَانِيَةِ الَّتِي فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ غَلَبَتْ حُمْرَتُهُ، انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَنَا يُؤَوَّلُ الْحَمْرَاءُ بِالَّتِي لَهَا خُطُوطٌ حَمْرَاءُ أَوْ يُعَدُّ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَوْ يُحْمَلُ لُبْسُهُ عَلَى مَا قَبْلَ نَهْيِهِ. (مَا رَأَيْتُ شَيْئًا) : أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. (قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ) : إِعْرَابُهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِئْنَافُ

لِبَيَانِ إِجْمَالِ جَمَالِهِ لِتَعَذُّرِ تَفْصِيلِ أَحْوَالِ كَمَالِهِ ثُمَّ الْأَحْسَنُ أَنَّ «أَحْسَنَ» مَفْعُولٌ ثَانٍ لِرَأَيْتَ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ عَمَلِيَّةٌ فَإِنَّهَا أَبْلَغُ مِنْ تَكْمِيلِ الْوَصْفِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِشَيْئًا عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ رُؤْيَةِ شَيْءٍ أَحْسَنَ مِنْهُ نَفْيُ رُؤْيَةِ الْأَحْسَنِ وَالْمُسَاوِي مَعًا كَمَا يُقَالُ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ أَفْضَلُ مِنْ زَيْدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ كُلِّ اثْنَيْنِ هُوَ التَّفَاضُلُ دُونَ التَّسَاوِي فَإِذَا نُفِيَ أَفْضَلِيَّةُ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ الْآخَرِ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَحَاصِلُهُ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ كَانَ حُسْنُهُ مِثْلَ حُسْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ كُلِّ حَسَنٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجْرٍ يَعْنِي مِثْلَ حُسْنِهِ ; إِذْ أَفْعَلُ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْفِعْلِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا وَإِنْ قُرِنَ بِمَنْ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ وَالصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ، فَمَحَلُّ بَحْثٍ إِمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ نَفْيَ أَفْعَلَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ ; إِذْ لَا يُوجَدُ لَهُ مِثَالٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَتَقْدِيرُ الْمِثْلِ خِلَافُ الظَّاهِرِ بَعْدَ خِلَافِ الظَّاهِرِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِهِ، وَإِمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَنْ قَالَ لَا يَكُونُ أَفْعَلُ بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ إِذَا قُرِنَ بِمَنْ مَحَلُّهُ إِذَا كَانَ يُمْكِنُ مُشَارَكَةُ أَصْلِ الْفِعْلِ كَزَيْدٍ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو، وَالْمِثَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي كَلَامِهِ خَارِجَانِ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ بَلْ يُعَدَّانِ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمَجَازِ فَتَنَبَّهْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّضِيُّ وَالدَّمَامِينِيُّ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ أَنَّ أَفْعَلَ إِذَا كَانَ عَارِيًا عَنِ أَلْ وَالْإِضَافَةِ وَمِنْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أَيْ عَالِمٌ أَوْ صِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ كَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيْ هَيِّنٌ، وَأَمَّا مَعَ إِحْدَاهِمَا فَلَا، وَفِي التَّسْهِيلِ: وَاسْتِعْمَالُهُ دُونَ مِنْ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ مُطَّرِدٌ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قِيلَ: قَدْ بَالَغَ الصَّحَابِيُّ حَيْثُ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ شَيْئًا» دُونَ أَنْ يَقُولَ مَا رَأَيْتُ إِنْسَانًا لِيُفِيدَ التَّعْمِيمَ حَتَّى يَتَنَاوَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، قَالَ الْعِصَامُ: وَهَذَا مَعَ إِظْهَارِ جَمَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَازُ كَمَالِ إِيمَانِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لِأَنَّ هَذَا فَرْعُ كَمَالِ الْمَحَبَّةِ، وَفِي لَفْظِ قَطُّ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا يَنْبَغِي لَهُ حَتَّى يَكُونَ مُؤْمِنًا صَادِقًا وَلِذَا قَالَ: «مَا رَأَيْتُ» وَلَمْ يَقُلْ «مَا كَانَ شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ» ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَكَانَ صَادِقًا أَيْضًا إِذْ نَفِيُهُ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى رُؤْيَتِهِ أَوْ عَمَلِهِ، ثُمَّ إِنَّ «قَطُّ» مِنَ الظُّرُوفِ الْمَبْنِيَّةِ مَفْتُوحَ الْقَافِ مَضْمُومَ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهَذَا أَشْهَرُ اللُّغَاتِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ الطَّاءُ الْمَضْمُومَةُ وَقَدْ يُضَمُّ الْقَافُ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَوِ الْمُخَفَّفَةِ، وَجَاءَ «قَطْ» سَاكِنَةُ الطَّاءِ مِثْلَ قَطِ الَّذِي هُوَ اسْمُ فِعْلٍ ; فَهَذِهِ خَمْسُ لُغَاتٍ لِلْمَاضِي الْمَنْفِيِّ، كَذَا فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي النَّحْوِ. (حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ دَثَنَا ; وَلِذَا قَالَ الْعِصَامُ أَيْ حَدَّثَنَا. (مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهُوَ أَبُو أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، سَمِعَ الْفَضْلَ بْنَ مُوسَى وَغَيْرَهُ، ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ الْآخِذِينَ عَنْ تَبَعِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ لَمْ يَلْقَ التَّابِعِينَ. (حَدَّثَنَا) :، وَفِي نُسْخَةٍ ثَنَا، وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ حَدَّثَنَا، قَالَ الْعِصَامُ: هُوَ بَيَانٌ لِحَدَّثَنَا مَحْمُودٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ» فَاسْتَغْنَى عَمَّا يُقَالُ فِي أَمْثَالِهِ أَنَّهُ جَوَابُ مَا حَدَّثَكَ. (وَكِيعٌ) : أَيِ ابْنُ الْجَرَّاحِ، مِنْ كِبَارِ الطَّبَقَةِ السَّابِعَةِ أَبُو سُفْيَانَ الْكُوفِيُّ، ثِقَةٌ حَافِظٌ عَابِدٌ، قِيلَ أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ، سَمَعَ الثَّوْرِيَّ وَخَلْقًا، رَوَى عَنْهُ قُتَيْبَةُ وَخَلْقٌ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الثِّقَةِ الْمَعْمُولِ بِحَدِيثِهِمُ الْمَرْجُوعِ إِلَى قَوْلِهِمْ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَكَانَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، مَاتَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهُوَ رَاجِعٌ مِنْ مَكَّةَ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ فَيْدٌ. (حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ ثَنَا. (سُفْيَانُ) : بِضَمِّ السِّينِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَجَعَلَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ مُثَلَّثَةً كَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، قَالَ: مِيرَكُ شَاهْ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ جَزْمًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ فَبَطَلَ تَرَدُّدُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ فِي كَوْنِهِ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَوِ الثَّوْرِيَّ، وَسَقَطَ عَلَى دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ قَوْلُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ جَزْمًا، انْتَهَى. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْأَخِيرِ مَوْلَانَا الْعِصَامُ ; حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ الْأَوَّلِ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِيَمْتَازَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، انْتَهَى. ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا آخَرَ ذَكَرَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ الثَّوْرِيَّ، وَقَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كُنْيَتُهُ أَبُو أَحْمَدَ، وُلِدَ بِالْكُوفَةِ، كَانَ إِمَامًا عَالِمًا ثَبْتًا حُجَّةً زَاهِدًا وَرِعًا مُجْمَعًا عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِهِ وَرِوَايَتِهِ، سَمِعَ الزُّهْرِيَّ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ مَاتَ بِمَكَّةَ وَدُفِنَ بِالْحَجُونِ، وَكَانَ حَجَّ سَبْعِينَ حَجَّةً، انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الثَّوْرِيُّ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِهِ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْخَلِيفَةَ تَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ وَقَدْ أَرْسَلَ النَّجَّارِينَ لِيَنْصِبُوا الْخُشْبَانَ فِي مَكَّةَ لِيَصْلِبَهُ عَلَيْهَا، وَسُفْيَانُ كَانَ مَضْطَجِعًا وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَرِجْلُهُ فِي حِجْرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ اخْتَفِ لَا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءَنَا،

فَقَامَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْهَا إِنْ دَخَلَ أَبُو جَعْفَرٍ مَكَّةَ، فَمَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، وَذَهَبَ سُفْيَانُ إِلَى بَصْرَةَ مُخْتَفِيًا بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا وَدُفِنَ لَيْلًا فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَأَكْثَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ قَبْرَهُ فِي عَزِيٍّ الْمَعْرُوفِ بِالنَّجَفِ الْآنَ وَيُزَارُ وَيُتَبَرَّكُ بِهِ. (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : يَعْنِي الْهَمْدَانِيَّ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ مَنْزِلُهُ كُوفَةُ، مُكْثِرٌ عَابِدٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ. (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) : وَقَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي إِسْحَاقَ وَخَالَفَهُمْ أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ فَقَالَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ: إِسْنَادُ جَابِرٍ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ عَنِ الْبَرَاءِ، وَأَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ ضَعِيفٌ، انْتَهَى. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَحَسَّنَهُ وَنَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ حَدِيثُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ صَحِيحَانِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، كَذَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أَقُولُ وَسَيَأْتِي حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ أَيْضًا، لَكِنْ بَيْنَ سِيَاقِهِ وَسِيَاقِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثَانِ مَعًا عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ فَلَا مَعْنَى لِتَخْطِئَةِ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ وَقَدْ وَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مُتَابَعَةً. (قَالَ) : أَيْ أَنَّهُ قَالَ: (مَا رَأَيْتُ) : حَمْلُهُ عَلَى الْبَصَرِيَّةِ أَظْهَرُ هُنَا بَلْ مُتَعَيَّنٌ كَمَا لَا يَخْفَى مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ. (مِنْ ذِي لِمَّةٍ) : بِكَسْرِ اللَّامِ، وَسَبَقَ مَعْنَاهَا مَفْعُولٌ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى اسْتِغْرَاقِهِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ تُرِكَتْ لَمْ يَخْتَلَّ أَصْلُ الْمَعْنَى فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَوْلُهُ. (فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ) : صِفَةٌ، وَقَوْلُهُ. (أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مَجْرُورًا أَوْ مَنْصُوبًا صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِذِي لِمَّةٍ أَوْ حَالٌ عَنْهُ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً وَ (ذِي لِمَّةٍ) مَفْعُولَهُ الْأَوَّلَ (وَأَحْسَنَ) مَفْعُولَهُ الثَّانِيَ، وَقَوْلُهُ فِي حُلَّةٍ إِمَّا صِفَةُ ذِي لِمَّةٍ أَوْ ظَرْفٌ لَرَأَيْتُ. (لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ ذِي لِمَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنِفَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ وَإِيرَادُهُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ كَأَنَّهُ حِينَ الْوَصْفِ مِنْ غَلَبَةِ الْمَحَبَّةِ جَعَلَهُ حَاضِرًا مَوْجُودًا فِي خَيَالِهِ وَكَمَالِ وِصَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهُ لَفْظُ كَانَ، قَالَ مِيرَكُ: وَرِوَايَتُنَا فِي الشَّعَرِ فَتْحُ الْعَيْنِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا أَيْضًا، وَالضَّرْبُ كِنَايَةٌ عَنِ الْوُصُولِ. (بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ) : قَالَ مِيرَكُ: مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمُقَدَّرُ أَوْ مَرْفُوعٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ، وَضُبِطَ فِي الرِّوَايَةِ بِالْوَجْهَيْنِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (بُعَيْدِ) بِالتَّصْغِيرِ، انْتَهَى. وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ عِبَارَةَ الْعِصَامِ وَالْحَنَفِيِّ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا وَمُصَغَّرًا وَمُكَبَّرًا غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ. (لَمْ يَكُنْ بِالْقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ) : إِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِ سَابِقِهِ وَالتَّقْيِيدُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُرَادٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) : أَيِ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ، كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رُوِيَ أَنَّهُ رُؤِيَ فِي الْبَصْرَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ لِحْيَتُهُ وَخَلْفَهُ أُلُوفٌ مِنْ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ، وَرَوَى أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرِ صَحِيحٍ. (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) : بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ التَّدْوِينِ أَنَّهُ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ، قِيلَ وَكَانَ مَزَّاحًا ذَا دُعَابَةٍ مَعَ فِقْهِهِ وَدِينِهِ وَكَانَ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَهُوَ حُجَّةٌ. (حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ) : اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْكُوفِيُّ الْمَسْعُودِيُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، قَالَ الْعِصَامُ: صَدُوقٌ اخْتَلَطَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَمَنْ سَمِعَ عَنْهُ بِبَغْدَادَ فَبَعْدَ الِاخْتِلَاطِ، انْتَهَى. وَقَالَ النَّسَائِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. (عَنْ عُثْمَانَ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزٍ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَفِي نُسْخَةٍ مُنْصَرِفٌ، وَهُوَ نَسَائِيٌّ وَعُثْمَانُ هَذَا فِيهِ لِينٌ، أَخْرَجَ

حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي مُسْنَدِ عَلِيٍّ لَهُ. (عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ) : بِالتَّصْغِيرِ. (بْنِ مُطْعِمٍ) : كَمُسْلِمٍ وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، سَمِعَ عَلِيًّا وَعِدَّةً مِنَ الْأَصْحَابِ، وَأَبَوْهُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ. (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) : قَالَ الْعِصَامُ: يَعْنِي بِهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ تِسْعَةٌ، فَتَرْكُ وَصْفِهِ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خِلَافُ الْأَوْلَى، انْتَهَى. وَهَذَا غَفْلَةٌ عَنِ اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ عَلِيٌّ فِي آخِرِ الْإِسْنَادِ فَهُوَ الْمُرَادُ كَمَا إِذَا أُطْلَقَ عَبْدُ اللَّهِ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِذَا أُطْلِقَ الْحَسَنُ فَهُوَ الْبَصْرِيُّ، وَنَظِيرُهُ إِطْلَاقُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُمْ بِقَيْدِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي عَدَمِ مُشَارَكَةِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ لِهَذَا الْوَصْفِ بَلْ وَلَا يُعْرَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ يُسَمَّى بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ غَيْرُهُ، فَهَذَا نِشَأَ مِنْ عِرْقِ الْعَجَمِ - وَإِنْ كُنْتُ مِنْهُمْ - وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو تُرَابٍ، وَاسْمُ أَبِي طَالِبٍ عَبْدُ مَنَافٍ الْهَاشِمِيُّ الْقُرَشِيُّ، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ الْهَاشِمِيَّةُ أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ، وَهُوَ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ وَقِيلَ مِنَ الذُّكُورِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّهِ يَوْمَئِذٍ فَقِيلَ كَانَ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَقِيلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَقِيلَ ثَمَانِي سِنِينَ وَقِيلَ عَشْرُ سِنِينَ شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا غَيْرَ تَبُوكَ فَإِنَّهُ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ وَفِيهَا، قَالَ لَهُ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، اسْتُخْلِفَ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَضَرَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيُّ بِالْكُوفَةِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ ضَرْبَتِهِ وَغَسَّلَهُ ابْنَاهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَسَنُ وَدُفِنَ سَحَرًا وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ يَوْمَ مَاتَ أَفْضَلَ الْأَحْيَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الِاسْتِيعَابَ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ذِكْرِ الْأَصْحَابِ فَلَمْ يَذْكُرْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُسَمَّى بِعَلِيٍّ خَمْسَةَ أَنْفُسٍ أَحَدُهُمْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ صُحْبَةٌ. (قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ) : كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي سَنٍّ، فَإِنَّهُ فِي كُلِّ سَنٍّ مِنْ سِنِي النُّبُوَّةِ كَانَ رَبْعَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ دَائِمًا يُوصَفُ بِالِاعْتِدَالِ. (شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) : قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ فِيهِ بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ خَبَرًا لِهُوَ الْمَحْذُوفِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ لِيُكُونَ خَبَرًا لِكَانَ الْمُقَدَّرِ وَلَا يَخْلُو تَكَلُّفُهُ وَلَيْسَ هُوَ رِوَايَةَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُنْتَحِلِينَ، وَقَالَ الْعِصَامُ: يُرْوَى مَرْفُوعًا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَتَى بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بَعْدَ الْمَاضَوِيَّةِ لِأَنَّهُ خَيَّلَهُ غَلَبَانُ مَحَبَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ مُتَحَقِّقٌ فَجَرَى لِسَانُهُ فِي الْوَصْفِ جَرَيَانَهُ فِي وَصْفِ الْمَوْجُودِ بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَالشَّثْنُ جَعْلُهُ حَالًا أَوِ اسْتِئْنَافًا لَيْسَ بِذَلِكَ فَرِوَايَةُ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ لَيْسَتْ بِتِلْكَ الْجَزَالَةِ وَجَعْلُهُ خَبَرًا لِكَانَ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ فِي مَعْنَى كَانَ رَبْعَةً تَكَلُّفٌ جَدًّا، انْتَهَى. وَقَدْ أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ رَجَّحَ النَّصْبَ عَلَى الرَّفْعِ، ثُمَّ الشَّثْنُ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا أَوْ كَسْرِهَا أَيْضًا بَعْدَهَا نُونٌ فَسَّرَهُ الْأَصْمَعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمُؤَلِّفُ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - بِالْغَلِيظِ الْأَصَابِعِ مِنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ غَلِيظُ الْأَصَابِعِ وَالرَّاحَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ضَخْمُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، قَالَ: وَفَسَّرَهُ الْخَطَّابِيُّ بِالْغِلَظِ وَالِاتِّسَاعِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، قَالَ: وَنُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ فَسَّرَ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ الشَّثْنَ بِالْخَشِنِ فَقِيلَ لَهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي وَصْفِ كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّينُ وَالنُّعُومَةُ فَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُفَسِّرَ شَيْئًا فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ

هُوَ غِلَظٌ فِي الرَّاحَةِ وَالْأَخْمَصِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَتْ كَفُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْتَلِئَةً لَحْمًا غَيْرَ أَنَّهَا مَعَ غَايَةِ ضَخَامَتِهَا وَغِلْظَتِهَا كَانَتْ لَيِّنَةً كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَرْوِيِّ فِي الصَّحِيحِ مَا مَسِسْتُ خَزًّا وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ مَا فَسَّرَ الْأَصْمَعِيُّ بِهِ الشَّثْنَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي وَصَفَ حَالَتَيْ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ إِذَا عَمِلَ فِي الْجِهَادِ أَوْ مِهْنَةِ أَهْلِهِ صَارَ كَفُّهُ خَشِنًا لِلْعَارِضِ الْمَذْكُورِ وَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ صَارَ كَفُّهُ إِلَى أَصْلِ جِبِلَّتِهِ مِنَ النُّعُومَةِ وَقَالَ الْقَاضِي: فَسَّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ اللُّغَوِيُّ: الشَّثْنُ بِغِلَظِ الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ مَعَ الْقِصَرِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ سَائِلَ الْأَطْرَافِ - كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ أَيْضًا - وَيُؤَيِّدُهُ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَسِطُ الْكَفَّيْنِ، أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مُعَلَّقًا. . . وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: وَالْبَسِطُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: سَبِطُ بِمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ وَهْمَا بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ أَنَّ فِي كَفِّهِ وَأَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولًا غَيْرَ مُفْرِطٍ وَهُوَ مِمَّا يُحْمَدُ فِي الرِّجَالِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ لِقَبْضِهِمْ وَيُذَمُّ فِي النِّسَاءِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْبَسْطَ بِبَسْطِ الْعَطَاءِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ مُرَادًا هُنَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّثْنَ الْوَاقِعَ فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ الْغِلَظُ مِنْ غَيْرِ قَيْدِ قِصَرٍ وَلَا خُشُونَةٍ، انْتَهَى. وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّهُمَا يَمِيلَانِ إِلَى الْغِلَظِ وَالْقِصَرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ جَمَعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَاللُّغَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ: وَالشَّثْنُ بِمُثَلَّثَتَيْنِ أَوْ بِمُثَلَّثَةٍ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَمُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَإِنْ كَانَ لُغَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. (ضَخْمَ الرَّأْسِ) : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى وَزْنِ الضَّرْبِ الْغَلِيظِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَظِيمَ الْهَامَةِ، وَوَصْفُهُ بِذَلِكَ وَرَدَ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى كَمَالِ الْقُوَى الدِّمَاغِيَّةِ وَبِكَمَالِهَا يَتَمَيَّزُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ. (ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ) : أَيْ رُءُوسِ الْعِظَامِ نَحْوَ الْمَنْكِبَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ، جَمْعُ كُرْدُوسٍ بِضَمَّتَيْنِ: كُلُّ عَظْمَتَيْنِ الْتَقَيَا فِي مَفْصِلٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، أَرَادَ أَنَّهُ جَسِيمُ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ وَمَا قَبْلُهُ يَدُلُّ عَلَى نَجَابَةِ صَاحِبِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْكَرَادِيسِ أُفْرِدَ كُلٌّ بِالْإِضَافَةِ بِخِلَافِ الْكَفِّ وَالْقَدَمَيْنِ. (طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ شَعْرٌ بَيْنَ الصَّدْرِ وَالسُّرَّةِ عَلَى مَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَفِي رِوَايَةِ ذُو مَسْرُبَةٍ وَفِي أُخْرَى عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ سُرَّتِهِ تَجْرِي كَالْقَضِيبِ لَيْسَ عَلَى صَدْرِهِ وَلَا عَلَى بَطْنِهِ غَيْرُهَا، وَعِنْدَ الطَّيَالِسِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ مَا رَأَيْتُ بَطْنَهُ إِلَّا ذَكَرْتُ الْقَرَاطِيسَ الْمُثَنَّى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَا دَقَّ مِنْ شَعْرِ الصَّدْرِ سَائِلًا إِلَى السُّرَّةِ - كَمَا سَيُذْكَرُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَسْرُبَةُ الشَّعْرُ الدَّقِيقُ الَّذِي كَأَنَّهُ قَضِيبٌ مِنَ الصَّدْرِ إِلَى السُّرَّةِ. (إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا) : بِالْهَمْزِ فِيهِمَا، وَفِي نُسْخَةٍ تَكَفَّى بِالْأَلِفِ الْمُنْقَلِبَةِ عَنْ يَاءٍ تَكَفِّيًا بِكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ أَيْ تَمَايَلَ إِلَى قُدَّامٍ، وَهِيَ جُمْلَةٌ أُخْرَى مُسْتَأْنَفَةٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَتَكَفُّؤًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَهْمُوزٌ وَيُخَفَّفُ، فَإِذَا رُوِيَ عَلَى الْأَصْلِ يُقْرَأُ بِضَمِّ الْفَاءِ كَتَقَدَّمَ تَقَدُّمًا، وَإِذَا خُفِّفَ يُقْرَأُ تَكَفَّى تَكَفِّيًا بِكَسْرِ الْفَاءِ كَتَسَمَّى تَسَمِّيًا، وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، انْتَهَى. وَفِي النِّهَايَةِ هَكَذَا رُوِيَ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَالْأَصْلُ الْهَمْزُ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مَهْمُوزًا ; لِأَنَّ مَصْدَرَ تَفَعَّلَ مِنَ الصَّحِيحِ تَفَعُّلٌ كَتَقَدَّمَ تَقَدُّمًا وَتَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا وَالْهَمْزَةُ حَرْفٌ صَحِيحٌ وَأَمَّا إِذَا اعْتُلَّ انْكَسَرَ عَيْنُ الْمَصْدَرِ مِنْهُ نَحْوَ تَخَفَّى تَخَفِّيًا فَإِذَا خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ الْتَحَقَ بِالْمُعْتَلِّ فَصَارَ تَكَفِّيًا بِالْكَسْرِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَزَعَمَ كَثِيرٌ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُرْوَى بِلَا هَمْزَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. (كَأَنَّمَا) : وَفِي نُسْخَةٍ كَأَنَّهُ. (يَنْحَطُّ) : وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ. (مِنْ صَبَبٍ) : قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى التَّكَفُّؤِ فَهُوَ مُبَيِّنٌ

لِمَفْهُومِ إِذَا مَشَى كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تَكَفَّأَ، وَالِانْحِطَاطُ النُّزُولُ وَالْإِسْرَاعُ وَأَصْلُهُ الِانْحِدَارُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَأَسْرَعُ مَا يَكُونُ الْمَاءُ جَارِيًا إِذَا كَانَ مُنْحَدِرًا فَمِنْ بِمَعْنَى فِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالصَّبَبُ بِفَتْحَتَيْنِ الْحُدُورُ فَالْمَعْنَى فَكَأَنَّمَا يَنْزِلُ فِي مَوْضِعٍ مُنْحَدِرٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَا انْحَدَرَ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي حَدِيثِ الطَّوَافِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي أَيِ انْحَدَرَتْ فِي الْمَسْعَى وَفِي رِوَايَةٍ كَأَنَّمَا يَهْوَى فِي صُبُوبٍ وَهُوَ بِالضَّمِّ جَمْعُ صَبَبٍ، قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَشْيًا قَوِيًّا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا ثَابِتًا لَا كَمَنْ يَمْشِي اخْتِيَالًا وَيُقَارِبُ خُطَاهُ تَنَعُّمًا، قِيلَ: وَلَمْ يُدْغَمْ صَبَبٌ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِالصَّبِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعَاشِقِ. (لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ) : جُمْلَةٌ أُخْرَى مُنْبِئَةٌ عَنْ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ وَتُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي نَفْيِ الشَّبِيهِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةِ الْقَبْلِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ وَمَفْهُومُهَا فِي الْخَارِجِ حَتَّى يَرِدَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَرَ أَحَدًا قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُجَابُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَمْ أَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَعْدَهُ مِثْلَهُ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً، ثُمَّ نَفْيُ الْمِثْلِ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى كَوْنِهِ أَحْسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يُقَالُ فِي لَيْسَ فِي الْبَلَدِ مِثْلُ زَيْدٍ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا نُفِيَ الْمِثْلُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْسَنِ فِي مَقَامِ ذِكْرِ الْمَحَاسِنِ فَكَانَ نَفْيُ الْأَحْسَنِ بِالْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ) : أَيُ ابْنُ الْجَرَّاحِ بْنِ مَلِيحٍ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الرُّوَاسِيُّ الْكُوفِيُّ، كَانَ صَدُوقًا إِلَّا أَنَّهُ ابْتُلِيَ بِالْوِرَاقَةِ وَهِيَ حِرْفَةُ ضَرْبِ الدَّرَاهِمِ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ فَنُصِحَ فَلَمْ يَقْبَلْ فَسَقَطَ حَدِيثُهُ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ قِيلَ وَكَانَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الْحَدِيثِ وَجَمْعِهِ، يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ وَمُطَلِّبِ بْنِ زِيَادٍ، قِيلَ: هُوَ ضَعِيفٌ. (قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي) : يُرِيدُ أَبَاهُ وَكِيعًا. (عَنِ الْمَسْعُودِيِّ) : مُتَعَلِّقٌ بِحَدَّثَنَا أَبِي. (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) : مُتَعَلِّقٌ بِكُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَقَوْلِهِ حَدَّثَنَا أَبِي عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ، وَالْإِسْنَادُ رَفْعُ الْحَدِيثِ إِلَى قَائِلِهِ، وَالسَّنَدُ الْإِخْبَارُ عَنْ طَرِيقِ الْمَتْنِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَلِذَا يَسْتَعْمِلُهُمَا الْمُحَدِّثُونَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ. (نَحْوَهُ) : أَيْ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. (بِمَعْنَاهُ) : أَيْ بِلَفْظٍ آخَرَ مُفِيدٍ لِمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا رُوِيَ بِإِسْنَادَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادٍ أَوَّلًا ثُمَّ سَاقُوا إِسْنَادًا آخَرَ يَقُولُونَ فِي آخِرِهِ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ اخْتِصَارًا،

وَالْمِثْلُ يُسْتَعْمَلُ بِحَسَبِ الِاصْطِلَاحِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَالنَّحْوِ يُسْتَعْمَلُ إِذَا كَانَتِ الْمُوَافَقَةُ فِي الْمَعْنَى فَقَطْ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ بِمَعْنَاهُ لَا إِرَادَةَ أَنَّ النَّحْوَ يُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ مَجَازًا، انْتَهَى. وَقَالَ الْعِصَامُ: نَحْوَهُ ; مَفْعُولُ حَدَّثَنَا الثَّانِي أَوِ الْأَوَّلُ وَمَفْعُولُ الْأَخِيرِ مَحْذُوفٌ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْأَوَّلُ، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ تَحَقَّقَ أَنَّ سُفْيَانَ سَاقِطُ الْحَدِيثِ فَكَيْفَ ذُكِرَ الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ بَعْدَ الْإِسْنَادِ الْعَالِي؟ قُلْتَ: صَارَ سَاقِطَ الْحَدِيثِ آخِرًا وَرِوَايَةُ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ رُبَّمَا تُذْكَرُ فِي الْمُتَابَعَةِ وَالشَّاهِدِ فَأَرَادَ تَأْيِيدَ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ بِالشَّاهِدِ، وَالشَّاهِدُ مَا يُوَافِقُ الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الْمَعْنَى، وَالْمُتَابِعُ مَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْمُوَافِقِ فِي اللَّفْظِ الْمُخَالِفِ فِي الْإِسْنَادِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُوَافَقَةِ فِي مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِسْنَادِ، فَإِنْ وَافَقَ فِي شَيْخِ الرَّاوِي فَالْمُتَابَعَةُ تَامَّةٌ وَإِلَّا فَنَاقِصَةٌ، وَتَفْصِيلُ هَذَا الْبَحْثِ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) : بِعَيْنٍ مَفْتُوحَةٍ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ. (الضَّبِّيُّ) : بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي ضَبَّةَ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ سُكَّانِ الْبَصْرَةِ ; وَلِذَا قَالَ: (الْبَصْرِيُّ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتُكْسَرُ، قِيلَ احْتَرَزَ بِالضَّبِّيِّ مِنَ الْأُبُلِّيِّ وَهُوَ أَوْثَقُ مِنَ الْأُبُلِّيِّ فَإِنَّ الضَّبِّيَّ ثِقَةٌ، رُمِيَ بِالنَّصْبِ يَعْنِي بِكَوْنِهِ مِنَ الْخَوَارِجِ دُونَ الْأُبُلِّيِّ، وَفِيهِ أَيْضًا سُوءُ الْمَذْهَبِ، قَالَ شَارِحٌ: رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَخَلْقٍ، وَعَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَخَلْقٌ، وَثَّقَهُ. . . أَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ. (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ، ثِقَةٌ حَافِظٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ مُقَاتِلِ بْنِ مُخَادِشٍ السَّعْدِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، سَمِعَ كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. (وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَهُوَ) : أَيِ الْحُسَيْنُ عَلَى مَا ذَكَرَ مِيرَكُ وَالْحَنَفِيُّ، وَقَالَ الْعِصَامُ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مُحَمَّدٍ إِذْ لَوْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْحُسَيْنِ لَقَالَ: الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي حَلِيمَةَ لَكِنْ فِي شَرْحَيْنِ لِهَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْحُسَيْنِ وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ سَهْوٌ إِذْ ذُكِرَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّرْحَيْنِ فِي تَكْمِلَةِ شَرْحِهِ فِي ضَبْطِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي حَلِيمَةَ، انْتَهَى. وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بَيَانًا لِمَا أَجْمَلَهُ أَوَّلًا وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ أَحَدِ تَلَامِذَتِهِ بَيَّنَ إِجْمَالَ كَلَامِهِ وَتَحْقِيقَ مَرَامِهِ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ عَلَى كُلِّ مَقَالٍ. (ابْنُ أَبِي حَلِيمَةَ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَاللَّامِ الْمَكْسُورَةِ مَقْبُولٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَكَأَنَّهُ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ بَالَغَ فِي تَوْضِيحِهِ. (وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ) : بِالْوَاوِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ حَدَّثُونَا حَالَ كَوْنِ الْمَعْنَى فِي أَحَادِيثِهِمْ وَاحِدًا، قَالَ مِيرَكُ: أَيْ مَرْوِيَّاتُهُمْ وَقَعَتْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ ; أَيْ حَالَ كَوْنِ الْمَعْنَى فِي أَحَادِيثِهِمْ وَاحِدًا، وَالْأَحَادِيثِ حَالَ كَوْنِهَا بِحَسَبِ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ الْوَاوِ صِفَةٌ لِمَفْعُولِ حَدَّثَنَا ; أَيِ الْأَحَادِيثُ الْمَعْنَى فِيهَا وَاحِدٌ، انْتَهَى. وَتَوْضِيحُهُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ إِلَى آخِرِهِ الْأَحَادِيثَ الْمَعْنَى فِيهَا وَاحِدٌ، قَالَ الْعِصَامُ: أَيْ حَدَّثَنَا بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمَرْوِيَّ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَفْظُ عَلِيٍّ بِعَيْنِهِ وَهُنَا بَحْثٌ هُوَ مِنْ أَسْرَارِ الْمَبَاحِثِ وَهُوَ أَنَّ الِاتِّحَادَ فِي اللَّفْظِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ الْعِبَارَةُ بَلْ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ اللَّفْظَانِ فِي الصِّيغَةِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ وَالِاتِّحَادُ فِي الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَسُوقًا لِمَعْنًى وَيَلْزَمُ مَا سِيقَ لَهُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّهُمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالتَّابِعِ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّاهِدَ حَدِيثٌ بِمَعْنَى حَدِيثٍ وَالتَّابِعُ مَا يَكُونُ بِلَفْظِهِ، وَذَكَرُوا فِي أَمْثَالِ الْمُتَابَعَةِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا نَزَعْتُمْ جِلْدَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ» ، وَجَعَلُوهُ مُتَابِعًا لِقَوْلِهِ: «لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَاسْتَمْتَعُوا بِهِ» ، وَذَكَرُوا شَاهِدًا لَهُ قَوْلَهُ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» فَأَحْسِنِ التَّأَمُّلَ لَوْ بَلَغْتَ حَقِيقَةَ التَّحْقِيقِ بِمَعُونَةِ التَّوْفِيقِ. (قَالُوا) : هُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِحَدَّثَنَا الْأَوَّلِ أَيْ «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ وَعَلِيٌّ وَمُحَمَّدٌ» ، وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ وَاحِدٌ حَيْثُ قَالُوا أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. (حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ) : ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، رَأَى جَدَّهُ أَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ وَسَمِعَ مِنْهُ، وَرَوَى عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ أَبُوهُ يُونُسُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ، سَكَنَ الشَّامَ، وَيُقَالُ لَمَّا حَجَّ الرَّشِيدُ دَخَلَ الْكُوفَةَ أَمَرَ أَبَا يُوسُفَ أَنْ يَأْمُرَ الْمُحَدِّثِينَ بِمُلَاقَاتِهِ فَأَطَاعُوهُ إِلَّا اثْنَيْنِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِدْرِيسَ وَعِيسَى بْنَ يُونُسَ، فَأَرْسَلَ وَلَدَيْهِ الْمَأْمُونَ وَالْأَمِينَ أَنْ يَرُوحَا إِلَيْهِ وَيَقْرَأَا بِالْحَدِيثِ عَلَيْهِ فَفَعَلَا، فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَامْتَنَعَ، فَظَنُّوا أَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا فَضُوعِفَتْ لَهُ فَقَالَ: إِنْ مَلَأْتُمُ الْمَسْجِدَ إِلَى السَّقْفِ ذَهَبًا لَمْ آخُذْ شَيْئًا عَلَى الْحَدِيثِ. كَانَ عَلَمًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، كَانَ يَغْزُو سَنَةً وَيَحُجُّ سَنَةً قِيلَ، حَجَّ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ حَجَّةً وَغَزَا خَمْسًا

وَأَرْبَعِينَ غَزْوَةً. (عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) : كَثِيرُ الْإِرْسَالِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، يُقَالُ أَدْرَكَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَنَسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ. (مَوْلَى غُفْرَةَ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا رَاءٌ فَهَاءٌ. (قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ) : صَدُوقٌ، رَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) : صِفَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا بِالْمَقَامِ أَنْسَبُ اهْتِمَامًا بِحَالِ الرَّاوِي، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْوَلَدُ بِفَتْحَتَيْنِ قَدْ يَكُونُ مُفْرَدًا وَجَمْعًا، وَكَذَلِكَ الْوُلْدُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي جَمْعًا لِلْأَوَّلِ مِثْلَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ، وَالْوِلْدُ بِالْكَسْرِ لُغَةٌ فِي الْوَلَدِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ بِالْوَاوِ وَاللَّامِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ لِبَيَانِ مُحَمَّدٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْوَلَدِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُكَنَّى بِأَبِي الْقَاسِمِ الْمُشْتَهِرَ بِالْعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلَادِ عَلِيٍّ بَعْدَ السِّبْطَيْنِ، انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ تَعْيِينِ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ (مِنْ وَلَدِ) حَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لَكِنْ لَا حُسْنَ فِي تَقْيِيدِ الْعَامِلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَنَفِيَّةُ أُمُّهُ حَصَلَتْ لِعَلِيٍّ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ، قِيلَ مِنْ سَخَافَةِ عُقُولِ طَائِفَةٍ مِنَ الرَّافِضَةِ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي مُحَمَّدٍ هَذَا الْأُلُوهِيَّةَ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْمُعْطِي عَلِيًّا أُمَّهُ فَلَوْلَا إِعْطَاؤُهُ لَهُ لِحَقِيَّةِ كَوْنِهِ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ لَكَانَ إِلَهَهُمْ دَعِيًّا، ثُمَّ أَغْرَبَ الْعِصَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَبَقَ تَحْقِيقُ الْمَرَامِ. (قَالَ كَانَ عَلِيٌّ) : قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ انْقِطَاعٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هَذَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جِدِّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، وَلِذَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ. (إِذَا وَصَفَ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ (النَّبِيَّ) . (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) : أَيْ عَلِيٌّ. (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّوِيلِ الْمُمَّغِطِ) : قَالَ مِيرَكُ: بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الِانْمِغَاطِ مِنْ بَابِ الِانْفِعَالِ أَيِ الْمُتَنَاهِي فِي الطُّولِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: امَّغَطَ النَّهَارُ إِذَا امْتَدَّ، وَأَصُلُهُ مُنْمَغِطٌ وَالنُّونُ لِلْمُطَاوَعَةِ فَقُلِبَتْ مِيمًا وَأُدْغِمَتْ فِي الْمِيمِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي تَصْحِيحِ هَذَا اللَّفْظِ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: هُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُونَهُ بِتَشْدِيدِ الْغَيْنِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَكَذَا النِّهَايَةُ أَيْضًا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، قَالَ: وَيُقَالُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَصَحَّحَهُ الْجَوْهَرِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّفْعِيلِ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ قَوْلَهُ: وَأَغْرَبَ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ الْمَعْرُوفُ بِزَيْنِ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. (وَلَا بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ) : أَيِ الْمُتَنَاهِي فِي الْقِصَرِ كَأَنَّهُ رُدَّ بَعْضُ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ وَتَدَاخَلَتْ أَجْزَاؤُهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ) : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ كَانَ بِدُونِ الْوَاوِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ كَالْمُبَيِّنِ أَوِ الْمُؤَكِّدِ لِمَا قَبْلَهُ، وَيَنْبَغِي

أَنْ يُرَادَ بِرَبْعَةٍ نَوْعًا مِنْهُ وَهُوَ الْمَائِلُ إِلَى الطُّولِ فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ أَطْوَلَ مِنَ الْمَرْبُوعِ. (لَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطِطِ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ الْأُولَى وَيُفْتَحُ. (وَلَا بِالْسَّبِطِ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُسَكَّنُ وَيُفْتَحُ وَسَبَقَ مَعْنَاهُمَا. . (كَانَ) : بِلَا وَاوٍ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ. (جَعْدًا رَجِلًا) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَقَدْ يُضَمُّ وَقَدْ يُفْتَحُ وَقَدْ يُسَكَّنُ أَيْ فِيهِ تَكَسُّرٌ يَسِيرٌ فَكَانَ بَيْنَ السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ. . . . (لَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلَا بِالْمُكَلْثَمِ) : قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ فِيهِمَا بِلَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لَا غَيْرِ، الْأَوَّلُ مِنَ التَّطْهِيمِ وَالثَّانِي مِنَ الْكَلْثَمَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ التَّكَلْثُمُ مِنَ الْمُتَكَلْثِمِ عَلَى وَزْنِ التَّفَعُّلِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي شَرْحِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ، انْتَهَى. وَمَعْنَى الْمُطَهَّمِ: الْمُنْتَفِخُ الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ جَهَامَةٌ أَيْ عُبُوسٌ مِنَ السِّمَنِ، وَقِيلَ النَّحِيفُ الْجِسْمِ وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالْمُكَلْثَمُ الْمُدَوَّرُ الْوَجْهِ، وَقَالَ الشَّارِحُ: التُّورِبِشْتِيُّ: لَمَّا كَانَ الْمُكَلْثَمُ الْمُسْتَدِيرُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَكَانَ فِي وَجْهِهِ تَدْوِيرٌ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: «فِي الْوَجْهِ» بَدَلَ «فِي وَجْهِهِ» ، وَأَمَّا جَعْلُ الْحَنَفِيِّ «فِي الْوَجْهِ» أَصْلًا، وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ «وَجْهَهُ» فَلَا وَجْهَ لَهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْأُصُولَ ; أَيْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَدِيرًا كُلَّ الِاسْتِدَارَةِ بَلْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ ذَلِكَ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ فِي وَجْهِهِ تَدْوِيرٌ مَا، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ سُهُولَةٌ وَهِيَ أَحْلَى عِنْدَ الْعَرَبِ، وَالسُّهُولَةُ ضِدُّ الْحُزُونَةِ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الِاسْتِدَارَةِ وَالْإِسَالَةِ كَذَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (أَبْيَضُ) : أَيْ هُوَ أَبْيَضُ. (مُشْرَبٌ) : صِفَةُ أَبْيَضَ أَيْ مُشْرَبٌ حُمْرَةً كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْإِفْعَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْإِشْرَابُ خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ كَأَنَّ أَحَدَ اللَّوْنَيْنِ سَقَى اللَّوْنَ الْآخَرَ، يُقَالُ بَيَاضٌ مَشْرَبٌ حُمْرَةً بِالتَّخْفِيفِ فَإِذَا شُدِّدَ كَانَ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ فَعَلَى هَذَا الْبَيَاضُ الْمُثْبَتُ هُنَا مَا يُخَالِطُهُ الْحُمْرَةُ وَالْبَيَاضُ الْمَنْفِيُّ فِيمَا سَبَقَ مَا لَا يُخَالِطُهُ الْحُمْرَةُ. (أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ) : أَيْ شَدِيدُ سَوَادِ حَدَقَتِهِمَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: «كَانَ أَسْوَدَ الْحَدَقَةِ» لَكِنْ قُيِّدَ مَعَ سِعَةِ الْعَيْنِ وَشِدَّةِ بَيَاضِهَا. (أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ شُفْرٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَقَدْ يُفْتَحُ وَهُوَ حَرْفُ جَفْنِ الْعَيْنِ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْهُدْبُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهُ مُوَحَّدَةٌ، فَفِي الْقَامُوسِ هَدِبَ الْعَيْنُ كَفَرِحَ طَالَ أَهْدَابُهَا أَيْ أَشْفَارُهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَهْدَبَ هُوَ الَّذِي شَعْرُ أَجْفَانِهِ كَثِيرٌ مُسْتَطِيلٌ. (جَلِيلُ الْمُشَاشِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ ; أَيْ عَظِيمُ رُءُوسِ الْعِظَامِ كَالْمِرْفِقَيْنِ وَالْكَتِفَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ. (وَالْكَتَدِ) :

بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ مَجْمَعِ الْكَتِفَيْنِ وَهُوَ الْكَاهِلُ أَيْ عَظِيمُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْقُوَّةِ وَفَخَامَةِ الشَّجَاعَةِ. (أَجْرَدَ) : أَيْ هُوَ أَجْرَدُ أَيْ غَيْرُ أَشْعَرَ، وَهُوَ مَنْ عَمَّ الشَّعْرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، فَالْأَجْرَدُ مَنْ لَمْ يَعُمَّهُ الشَّعْرُ فَيَصْدُقُ بِمَنْ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ شَعْرٌ كَالْمَسْرُبَةِ وَالسَّاعِدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَقَدْ كَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَعْرٌ، فَوَصْفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِ مَوَاضِعِهِ إِمَّا بِجَعْلِ الْأَكْثَرِ فِي حُكْمِ الْكُلِّ أَوْ تَغْلِيبِ مَا لَا شَعْرَ لَهُ عَلَى مَا لَهُ شَعْرٌ، قَالَ الْعِصَامُ: وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ جَاءَ أَجْرَدَ، بِمَعْنَى صَغِيرِ الشَّعْرِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ وَصْفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِغَرِ شَعْرِ بَدَنِهِ، فَفِيهِ أَنَّهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالْأَهْدَابِ وَالْحَاجِبَيْنِ يَرُدُّهُ مَا فِي الْقَامُوسِ أَنَّ الْأَجْرَدَ إِذَا جُعِلَ وَصْفًا لِلْفَرَسِ كَانَ بِمَعْنَى صِغَرِ شَعْرِهِ، وَأَمَّا إِذَا جُعِلَ وَصْفًا لِلرَّجُلِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَقِيلَ أَجْرَدُ أَيْ لَيْسَ فِيهِ غِلٌّ وَلَا غِشٌّ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَنُورُ الْإِيمَانِ يُزْهِرُ فِيهِ وَفِيهِ أَنَّهُ بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ. (ذُو مَسْرُبَةٍ شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) : مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا. (إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ) : جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى طَرِيقِ التَّعْدِيدِ، وَقَوْلُهُ. (كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ) : فِي مَوْقِعٍ الْبَيَانِ لِلْجَزَاءِ يُقَالُ تَقَلَّعَ فِي مَشْيِهِ إِذَا كَانَ كَأَنَّهُ يُقْلِعُ رِجْلَهُ مِنْ رَجَلَ إِذَا أَرَادَ قُوَّةَ مَشْيِهِ كَأَنَّهُ يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا بَائِنًا لَا كَمَنْ مَشَى اخْتِيَالًا وَيُقَارِبُ خُطَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَشْيِ النِّسَاءِ، فَالتَّقَلُّعُ قَرِيبٌ مِنَ التَّكَفِّي وَقَدْ سَبَقَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنِ التِّرْمِذِيِّ يَمْشِي بَدَلَ يَنْحَطُّ، وَقَوْلُهُ. (فِي صَبَبٍ) : قِيلَ بِمَعْنَى مِنْ صَبَبٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَلِأَنَّهُ بِالتَّقَلُّعِ أَنْسَبُ، وَيَجُوزُ وُقُوعُ قِيَامِ بَعْضِ حُرُوفِ الْجَرِّ مَقَامَ بَعْضٍ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِي ظَرْفِيَّةٌ إِذْ هِيَ مُنَاسِبَةٌ لِلِانْحِطَاطِ كَمَا لَا يَخْفَى. (وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا) : أَيْ جَمِيعًا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُسَارِقُ النَّظَرَ، وَقِيلَ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَلْوِي عُنُقَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الطَّائِشُ الْخَفِيفُ وَلَكِنْ كَانَ يُقْبِلُ جَمِيعًا إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ مَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ وَيُدْبِرُ جَمِيعًا بَعْدَ مَا قَضَى حَاجَتَهُ عَنْهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى إِنْسَانٍ لِلتَّكَلُّمِ أَوْ غَيْرِهِ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ بِجَمِيعِهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِلَيِّ الْعُنُقِ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُخْتَالِينَ، قِيلَ وَلَعَلَّ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ أَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي فِي وَصْفِهِ «جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلَاحَظَةُ» أَيِ النَّظَرُ بِلِحَاظِ الْعَيْنِ. (بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا مَا يُخْتَمُ بِهِ الْأَوَّلُ اسْمٌ وَالثَّانِي صِفَةٌ فَعَبَّرَ عَنِ الْآلَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ خُتِمَ بِهِ بَيْتُ النُّبُوَّةِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ تَمَامِهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ يُخْتَمُ بَعْدَ تَمَامِهِ - وَسَيَأْتِي مَزِيدُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ -، وَهُوَ جُمْلَةٌ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ (وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا وَأَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا لِوُجُودِ الْمُنَاسَبَةِ، وَهُوَ كَالْخَاتَمِ الْمَذْكُورِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَيْ خَاتَمُ نُبُوَّةِ النَّبِيِّينَ بِمَعْنَى عَلَامَةِ تَمَامِهَا أَوْ عَلَامَةِ الْوُثُوقِ بِالنُّبُوَّةِ أَوْ خَاتِمِ بَيْتِ نُبُوَّتِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَسْرَ التَّاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَتَمَهُمْ أَيْ جَاءَ آخِرَهُمْ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ أَيْ لَا يُتَنَبَّأُ أَحَدٌ بَعْدَهُ فَلَا يُنَافِي نُزُولَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَابِعًا لِشَرِيعَتِهِ مُسْتَمِدًّا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا فَتْحُ التَّاءِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِهِ خُتِمُوا فَهُوَ الطَّابَعُ وَالْخَاتَمُ لَهُمْ. (أَجْوَدُ النَّاسِ صَدْرًا) : جَعَلَ صَدْرَهُ أَجْوَدَ لِأَنَّ الْجُودَ فَرْعُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَالصَّدْرُ مَحَلُّ الْقَلْبِ الَّذِي فِيهِ الْجُودُ فَيَكُونُ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ أَوْ مُجَاوَرِهِ، وَالْمَعْنَى أَجْوَدُ النَّاسِ قَلْبًا

أَيْ قَلْبُهُ أَجْوَدُ الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَبْخَلُ شَيْئًا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ عَوَارِفِ الْمَوْلَى، وَالْمُرَادُ أَنَّ جُودَهُ كَانَ عَنْ طِيبِ قَلْبٍ وَشَرْحِ صَدْرٍ وَسَجِيَّةِ طَبْعٍ لَا عَنْ تَكَلُّفٍ وَتَصَلُّبٍ، وَقِيلَ أَنَّهُ مِنَ الْجَوْدَةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ بِمَعْنَى السِّعَةِ أَيْ أَوْسَعُهُمْ قَلْبًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمَلُّ وَلَا يَضْجَرُ قَلْبُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَالْحَكَمِ بْنِ مُوسَى، قَالَا: ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ «أَجْوَدُ النَّاسِ كَفًّا وَأَرْحَبُ النَّاسِ صَدْرًا» وَالرُّحْبَ بِمَعْنَى السِّعَةِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَقَطَ مِنْ رَاوِيَةِ التِّرْمِذِيِّ شَيْءٌ، وَقِيلَ: أَجْوَدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَوْدَةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَصْدَرُ جَادَ إِذْ صَارَ جَيِّدًا أَيْ أَحْسَنُهُمْ قَلْبًا بِسَلَامَتِهِ مِنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ مِنْ بُخْلٍ وَغِشٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَدْنَاسِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالصِّفَاتِ الدَّنِيَّةِ كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ جِبْرِيلَ شَقَّهُ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، وَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتِ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ. (وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ لِسَانًا عَلَى مَا فِي الْمُهَذَّبِ أَوْ تَحْرِيكُهُ عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ وَالْمَعْنَى أَصْدَقُهُمْ قَوْلًا، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ وَقَالَ: يُرِيدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِسَانُهُ أَصْدَقَ الْأَلْسِنَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَخَارِجِ الْحُرُوفِ كَمَا يَنْبَغِي بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. (وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً) : أَيْ طَبِيعَةً وَزْنًا وَمَعْنًى أَيْ سَلِسًا مُطَاوِعًا مُنْقَادًا قَلِيلَ الْخِلَافِ وَالنُّفُورِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ كَمَالِ مُسَامَحَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُفُورِ حِلْمِهِ وَتَوَاضُعِهِ مَعَ أُمَّتِهِ. (وَأَكْرَمُهُمْ عَشِيرَةً) : بِوَزْنِ الْقَبِيلَةِ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُوَافِقِ لِلتِّرْمِذِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ عِشْرَةً بِكَسْرِ أَوَّلِهَا وَسُكُونِ ثَانِيهَا صُحْبَةً وَيُؤَيِّدُهُ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَادِقٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَبِيلَتَهُ أَشْرَفُ الْقَبَائِلِ كَمَا وَرَدَ: «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً» ، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ) بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَمُعَاشَرَتُهُ وَمُخَالَطَتُهُ أَكْرَمُ مِنْ جَمِيعِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً) : أَيْ رُؤْيَةَ بَدِيهَةٍ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ أَوَّلَ رُؤْيَةٍ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ. (هَابَهُ) : أَيْ خَافَهُ لِأَنَّ مَعَهُ الْهَيْبَةَ وَالْمَهَابَةَ السَّمَاوِيَّةَ. (وَمَنْ خَالَطَهُ) : أَيْ عَاشَرَهُ وَصَاحَبَهُ. (مَعْرِفَةً) : أَيْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً تَبَيَّنَ بِهَا حُسْنَ خُلُقِهِ. (أَحَبَّهُ) : لِكَمَالِ مُعَاشَرَتِهِ وَبَاهِرِ عَظِيمِ مُؤَالَفَتِهِ حُبًّا شَدِيدًا حَتَّى صَارَ عِنْدَهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. (يَقُولُ نَاعِتُهُ) : أَيْ وَاصِفُهُ إِجْمَالًا عَجْزًا عَنْ بَيَانِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَفْصِيلًا. (

لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ) : إِذْ لَيْسَ فِي النَّاسِ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي الْجَمَالِ وَلَا فِي خُلُقٍ مَنْ يُشَابِهُهُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. (قَالَ أَبُو عِيسَى:) : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَفْظُ «أَبُو عِيسَى» ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: يُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ إِذْ هَذِهِ كُنْيَتُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرُّوَاةِ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ مِثْلُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَيُشْعِرُ بِهِ ذِكْرُ الْكُنْيَةِ. (سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ) : يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَلِيمَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الشُّيُوخِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ قِيلَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ. (يَقُولُ:) : قَالَ الْحَنَفِيُّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: قَالَ الْعِصَامُ: يَقُولُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: «سَمِعْتُ» ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا فَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَدَلُ يَقُولُ قَالَ، لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي، انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ يَقُولَ حَالٌ. (سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ) : لُغَوِيٌّ مَشْهُورٌ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ أَصْمَعَ، بَصْرِيٌّ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ، قِيلَ: وَكَانَ هَارُونُ الرَّشِيدُ اسْتَخْلَصَهُ لِمَجْلِسِهِ، وَكَانَ يُقَدِّمُهُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي، وَكَانَ عِلْمُهُ عَلَى لِسَانِهِ، وَرَوَى الْأَزْهَرِيُّ عَنِ الرِّيَاشَيِّ قَالَ: كَانَ الْأَصْمَعِيُّ شَدِيدَ التَّوَقِّي لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَانَ شَدِيدَ التَّوَقِّي لِلتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ. (يَقُولُ فِي تَفْسِيرِ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ فِي شَرْحِ بَعْضِ اللُّغَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُرَاعِ تَرْتِيبَ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ غَرِيبِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ رَوَى كَلَامَ الْأَصْمَعِيِّ كَمَا سَمِعَ، وَالْأَصْمَعِيُّ لَمْ يُذْكُرْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِي تَفْسِيرِ صِفَةِ النَّبِيِّ دُونَ أَنْ يَقُولَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ. (الْمُمَّغِطُ) : وَسَبَقَ ضَبْطُهُ. (الذَّاهِبُ طُولًا) : أَيِ الشَّخْصُ الَّذِي يَكُونُ طُولُ قَامَتِهِ مُفْرِطًا، وَطُولًا تَمْيِيزٌ عَنْ نِسْبَةِ الذَّاهِبِ إِلَى فَاعِلِهِ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ الْعِصَامُ: الطُّولُ الِامْتِدَادُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيِ الذَّاهِبُ طُولُهُ، وَالْإِسْنَادُ إِلَى مَفْعُولِهِ بِوَاسِطَةِ فِي أَيِ الذَّاهِبِ فِي طُولِهِ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَفْعُولًا لَهُ لَا أَظُنُّ أَنَّهُ صَارَ مَفْعُولًا لَهُ. (قَالَ:) أَيِ الْأَصْمَعِيُّ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فَاعِلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ جَوَّزَ احْتِمَالَ رُجُوعِهِ إِلَى الْمُصَنِّفِ. (وَسَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا) : قِيلَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَقْدِيمِ الْوَاوِ عَلَى مَا قَالَ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ لَا وَاوَ أَصْلًا. (يَقُولُ:) : أَيِ الْأَعْرَابِيُّ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْإِعْرَابِ ; أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ وَهُمْ أَفْصَحُ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْحَضَرِ مِنَ الْقُرَى لِمُخَالَطَتِهِمُ الْعَجَمَ يَقُولُ: (فِي كَلَامِهِ) : أَيْ فِي أَثْنَاءِ عِبَارَاتِهِ. (تَمَغُّطٌ) : إِنَّمَا أَتَى بِهَذَا الْكَلَامِ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَعْنَاهُ وَبَيْنَ أَصْلِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الِامْتِدَادُ وَإِلَّا فَمَا فِي الْحَدِيثِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ بَابِ الِانْفِعَالِ - كَمَا سَبَقَ - لَا مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِنَ الْمَادَّةِ الَّتِي الْكَلَامُ فِيهَا وَهُوَ الْمُمَّغِطُ فَذِكْرُهُ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَادَّتَيْنِ تَقَارَبَتَا لَفْظًا وَمَعْنًى فَبَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ مَادَّتَهُمَا مُتَّحِدَةٌ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ بَابَهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ نَظِيرُ الْمَبْحُوثِ عَنْهُ، وَذِكْرُهُ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ وَاقِعٌ وَتَفْسِيرُهُ نَافِعٌ. (فِي نُشَّابَتِهِ) : بِضَمِّ النُّونِ وَشَدِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِحَذْفِ الْفَوْقِيَّةِ

وَهُوَ السَّهْمُ، وَ «فِي» لِلتَّعْدِيَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: تَمَغَّطَ فِي قَوْسِهِ وَمَغَّطَهُ أَغْرَقَ فِيهِ، وَالتَّمَغُّطُ فِي النُّشَّابَةِ مَجَازٌ عَنِ التَّمَغُّطِ فِي الْقَوْسِ ; لِأَنَّ النُّشَّابَةَ سَبَبُ التَّمَغُّطِ فِي الْقَوْسِ، وَقِيلَ إِضَافَةُ الْمَدِّ إِلَى النُّشَّابَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمَمْدُودَ حَقِيقَةً وَتَرُ الْقَوْسِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ تَوْضِيحِ اللُّغَةِ بِتَوْضِيحِ نَظِيرِهِ، وَبَيَانِ أَنَّ الْكَلِمَةَ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْمَدِّ وَالِامْتِدَادِ، وَمِثْلُهُ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ. فَقَوْلُهُ: (أَيْ مَدَّهَا مَدًّا شَدِيدًا) : إِشَارَةٌ إِلَى لُزُومِ الْمَدِّ وَالِامْتِدَادِ لِلْكَلِمَةِ، وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا اسْتَصْعَبَهُ الشَّارِحُ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظُ التَّمَغُّطِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّعَرُّضِ لَهُ وَمِنْ أَنَّهُ كَيْفَ فَسَّرَ التَّمَغُّطَ بِالْمُتَعَدِّي فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ «فِي» مَزِيدَةٌ لِتَقْوِيَةِ الْعَمَلِ وَلَا رِيبَةَ لِلْمُتَدَرِّبِ فِي كَثْرَةِ زِيَادَةِ حُرُوفِ الْجَرِّ لِلتَّقَوِّي، وَلَا يَخْفَى مَا فِي اعْتِذَارِهِ فَإِنَّ الْمَسْمُوعَ زِيَادَةُ اللَّامِ لِلتَّقْوِيَةِ، لَكِنْ لَا لِتَقْوِيَةِ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ لِتَقْوِيَةِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالتَّمَغُّطُ لَازِمٌ، وَمَا اسْتَصْعَبَهُ الشَّارِحُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِيءُ سِوَى الْبَاءِ لِلتَّعْدِيَةِ فَكَيْفَ جَعَلَ تَمَغَّطَ مُتَعَدِّيًا بِفِي، انْتَهَى. وَقِيلَ: تَفْسِيرُهُ هَذَا يُقَوِّي أَنَّ مَقُولَ الْأَعْرَابِيِّ هُوَ النُّشَّابَةُ بِالتَّأْنِيثِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ النُّشَّابَ بِدُونِ التَّاءِ جِنْسٌ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُ ضَمِيرِهِ. (وَالْمُتَرَدِّدُ الدَّاخِلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فِي بَعْضٍ بِدُونِ الضَّمِيرِ. (قِصَرًا) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ مَفْعُولٌ لَهُ لِلدُّخُولِ يَعْنِي مَنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِصَرِ يُقَالُ لَهُ الْمُتَرَدِّدُ بِلَا تَرَدُّدٍ قَالُوا: كَأَنَّ بَعْضَ أَعْضَائِهِ تَرَدَّدَ إِلَى بَعْضٍ وَتَدَاخَلَتْ أَجْزَاؤُهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ فِيهِ هَلْ هُوَ صَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ. (وَأَمَّا الْقَطَطُ) : أَيْ عَلَى الضَّبْطِ السَّابِقِ. (فَالشَّدِيدُ الْجُعُودَةِ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَشَدِيدُ الْجُعُودَةِ بِدُونِ اللَّامِ أَيْ كَالزُّنُوجِ وَفِي بَعْضِ الْهُنُودِ. (وَالرَّجِلُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِهَا. (الَّذِي فِي شَعْرِهِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا وُصِفَ صَاحِبُ الشَّعْرِ بِهِ مَجَازًا وَالْحَقِيقَةُ وُصِفُ نَفْسِ الشَّعْرِ الْمَذْكُورِ بِهِ، وَقِيلَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ دُونَ اللُّغَةِ. (حُجُونَةٌ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ أَيِ انْعِطَافٌ. وَقَوْلُهُ: (أَيْ تَثَنٍّ) : بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مَصْدَرُ تَثَنَّى عَلَى زِنَةِ تَفَعَّلَ تَفْسِيرٌ لِكَلَامِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ غَيْرِهِ أَعَمُّ مِنْ أَبِي عِيسَى أَوْ أَبِي جَعْفَرٍ فَلَا يُرَدُّ أَنَّ الْأَوْلَى الَّذِي فِي شَعْرِهِ تَثَنٍّ قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ. وَقَوْلُهُ: (قَلِيلًا) : أَيِ انْعِطَافٌ بِوَصْفِ الْقِلَّةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا فِي الْقَامُوسِ: شَعْرٌ حَجِنٌ كَكَتِفٍ مُتَسَلْسِلٌ مُسْتَرْسِلٌ رَجِلٌ جَعْدُ الْأَطْرَافِ، انْتَهَى. فَكَانَ وَصْفُ الْقِلَّةِ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَيِ التَّفْسِيرِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ الْأَصْمَعِيَّ لَمَّا قَالَ: فِي شَعْرِهِ حُجُونَةٌ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَقَيَّدَهُ مَنْ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ أَيْ تَثَنٍّ قَلِيلًا. (وَأَمَّا الْمُطَهَّمُ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. (فَالْبَادِنُ) : وَتَقَدَّمَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَعْنَاهُ، وَالْبَادِنُ هُوَ الضَّخْمُ، مِنْ بَدَنَ بِمَعْنَى ضَخُمَ. (الْكَثِيرُ اللَّحْمِ) : بِخَفْضِ اللَّحْمِ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ. (وَالْمُكَلْثَمُ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ. (الْمُدَوَّرُ الْوَجْهِ وَالْمُشْرَبُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ. (الَّذِي فِي بَيَاضِهِ حُمْرَةٌ) : فَإِذَا شُدِّدَ كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْإِشْرَابُ خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ آخَرَ كَأَنَّ أَحَدَ اللَّوْنَيْنِ سَقَى اللَّوْنَ الْآخَرَ، فَالتَّقْيِيدُ بِالْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ وَقَعَ مَثَلًا أَوْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَالْأَدْعَجُ الشَّدِيدُ سَوَادِ الْعَيْنِ) : بِإِضَافَةِ الشَّدِيدِ إِلَى سَوَادِ الْعَيْنِ، وَقِيلَ الدَّعَجُ شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهَا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِمَقَامِ الْمَدْحِ. (وَالْأَهْدَبُ الطَّوِيلُ الْأَشْفَارِ) : قَالَ مِيرَكُ: الْأَشْفَارُ جَمْعُ شُفْرَةٍ بِالضَّمِّ وَقَدْ تُفْتَحُ، وَهُوَ حُرُوفُ الْأَجْفَانِ أَيْ أَطْرَافُهَا الَّتِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الشَّعْرُ وَهُوَ الْهَدَبُ، وَالْأَهْدَبُ هُوَ الَّذِي شَعْرُ أَجْفَانِهِ كَثِيرٌ مُسْتَطِيلٌ، وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: الطَّوِيلُ الْأَشْفَارِ يُوهِمُ أَنَّ الْأَشْفَارَ هِيَ الْأَهْدَابُ لَكِنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيِ الطَّوِيلُ شَعْرِ الْأَشْفَارِ، قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: إِنَّ أَحَدًا مِنَ الثِّقَاتِ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْأَشْفَارَ الْأَهْدَابُ. (وَالْكَتَدُ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا. (مَجْتَمَعُ الْكَتِفَيْنِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ اسْمُ مَكَانٍ، وَقَوْلُ الْعِصَامِ: عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ، مُوهِمٌ فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ، وَالْكَتِفُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ عَلَى مَا ضُبِطَ فِي الْأُصُولِ، وَفِي الْقَامُوسِ: كَفَرِحَ وَمَثِلَ وَحَبِلَ. (وَهُوَ) : أَيْ مُجْتَمَعُهُمَا. (الْكَاهِلُ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَيُقَالُ بِالْفَارِسِيَّةِ مَيَانْ هَرْدُوشَانَهْ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْكَاهِلِ إِلَى الظَّهْرِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْكَاهِلُ كَصَاحِبِ الْحَارِكِ، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ بَالْ وَبِالْعَرَبِيَّةِ الْغَارِبُ أَوْ مُقَدَّمُ أَعْلَى الظَّهْرِ مِمَّا يَلِي الْعُنُقَ وَهُوَ الثُّلُثُ الْأَعْلَى أَوْ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، غَيْرُ صَحِيحٍ. (

وَالْمَسْرُبَةُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الرَّاءِ. (هُوَ الشَّعْرُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ. (الدَّقِيقُ الَّذِي كَأَنَّهُ قَضِيبٌ) : أَيْ غُصْنٌ نَظِيفٌ أَوْ سَيْفٌ لَطِيفٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَوْ سَهْمٌ ظَرِيفٌ عَلَى مَا فِي الْمُهَذَّبِ. (مِنَ الصَّدْرِ) : أَيِ ابْتِدَاؤُهَا. (إِلَى السُّرَّةِ) : أَيِ انْتِهَاؤُهَا. (وَالشَّثْنُ) : بِسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ. (الْغَلِيظُ الْأَصَابِعِ مِنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) : وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ. (وَالتَّقَلُّعُ أَنْ يَمْشِيَ بِقُوَّةٍ) : كَأَنَّهُ يَرْفَعُ رِجْلَهُ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا قَوِيًّا لَا كَمَشْيِ الْمُخْتَالِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ وَلَا كَمَشْيِ النِّسَاءِ وَالْمَرِيضِينَ. (وَالصَّبَبُ) : بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى. (الْحُدُورُ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ضِدُّ الصُّعُودِ وَكَذَا الْحَدْرُ عَلَى مَا فِي الْمُهَذَّبِ. (تَقُولُ: انْحَدَرْنَا) : أَيْ أَنْزَلْنَا. (فِي صَبُوبٍ) : أَيْ مَكَانٍ مُنْحَدِرٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا أَيْضًا، وَقِيلَ: بِالضَّمِّ جَمْعٌ. (وَصَبَبٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَلَمْ يُدْغَمْ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ بِالصَّبِّ الَّذِي بِمَعْنَى الْعَاشِقِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فِي صُبُوبٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِذَا فَتَحْتَ الصَّادَ كَانَ اسْمًا لِمَا يُصَبُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ مَاءٍ وَنَحْوِهِ كَالطَّهُورِ وَالْغَسُولِ وَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَعَلَى أَنَّهُ جَمْعُ الصَّبَبِ، وَهُوَ مَا انْحَدَرَ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ، قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ «مِنْ» بِمَعْنَى «فِي» لَا عَكْسُهُ كَمَا سَبَقَ عَنْ بَعْضٍ، وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَشْيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْقُوَّةِ وَعَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : أَيْ تَوَسَّطْ بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالتَّوَانِي، وَقَوْلُهُ: (جَلِيلُ الْمُشَاشِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ جَمْعُ مُشَاشَةٍ. (يُرِيدُ رُءُوسَ الْمَنَاكِبِ) : أَيْ وَنَحْوَهَا كَالْمَرَافِقِ وَالْكَتِفِ وَالرُّكَبِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمُ تَفْسِيرِ «الْمُشَاشِ» عَلَى «الْكَتَدِ» لِتَقَدُّمِهِ فِي الْأَصْلِ. (وَالْعِشْرَةُ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ. (الصُّحْبَةُ وَالْعَشِيرُ الصَّاحِبُ) : أَيِ الْمُعَاشِرُ أَيْ وَمِنْهَا الْعَشِيرُ بِمَعْنَى الصَّاحِبِ وَإِلَّا فَالْعَشِيرُ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ الْجَمْعُ بَيْنَ تَفْسِيرِ الْعَشِيرِ أَوِ الْعِشْرَةِ مُشْعِرٌ بِوُجُودِ النُّسْخَتَيْنِ، وَتَقْدِيمُ الْعِشْرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ الْأَصَحُّ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَالْعَشِيرُ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» فِيهِ أَنَّهُ صَاحِبٌ أَيْضًا، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْعَشِيرَةُ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ أَيْضًا مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ لِأَنَّ الْغَالِبَ صُحْبَةُ الْعَشِيرَةِ. (وَالْبَدِيهَةُ الْمُفَاجَأَةُ) : بِالْهَمْزَةِ أَيِ الْبَغْتَةُ، وَمِنْهُ الْبَدِيهِيُّ الْحَاصِلُ مِنْ غَيْرِ التَّرَوِّي. (يُقَالُ: بَدَهْتُهُ) : مِنْ حَدِّ سَأَلَ. (بِأَمْرٍ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. (أَيْ فَجَأْتُهُ) : مِنْ حَدِّ عَلِمَ أَوْ مَنَعَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ رِوَايَتُنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَاجَأْتُهُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ وَالْبَدِيهَةُ الْمُفَاجَأَةُ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا جُمَيْعٌ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: جُمَيْعٌ ضَعِيفٌ رَافِضِيٌّ، انْتَهَى. وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُبْتَدَعِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُ لَيْسَتْ بِكُفْرٍ وَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ إِلَى بِدْعَتِهِ فَيُقْبَلُ إِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِالضَّبْطِ وَالْوَرَعِ. (بْنُ عُمَرَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الشَّمَائِلِ مُكَبَّرًا وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ وَتَبِعَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ جُمَيْعُ بْنُ عُمَيْرٍ بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : انْتَهَى. وَجَعَلَ الْعِصَامُ أَصْلَهُ (عَمْرٍو) بِالْوَاوِ، وَقَالَ: هَكَذَا فِي شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي عِيسَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عُمَرَ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ بِالتَّصْغِيرِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ دَقَّ نَظَرُ الشَّارِحِ الْمُحَدِّثُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ: وَكَأَنَّهُ غَيَّرَ اسْمَ أَبِيهِ تَارَةً إِلَى عَمْرٍو وَتَارَةً إِلَى عُمَيْرٍ كَمَا هُوَ دَأْبُ الرَّافِضَةِ مِنَ التَّنَفُّرِ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قُلْتُ: لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشِدَّاءِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَبَالَغُوا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أُحِبُّ الْعُمْرَ لِشَبَهِهِ الصُّورِيِّ بِعُمَرَ. (الْعِجْلِيُّ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ نِسْبَةً إِلَى عِجْلٍ قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ يُنْسَبُ إِلَيْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ

وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. (إِمْلَاءً) : مَصْدَرٌ مَنْسُوبٌ أَيْ قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا جُمَيْعٌ حَالَ كَوْنِهِ مُمْلِيًا أَوْ مُلْقِيًا أَوْ تَالِيًا. (عَلَيْنَا مِنْ كِتَابِهِ) : أَيْ لَا مِنْ حِفْظِهِ، وَإِيثَارُهُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ أَوْ لِنِسْيَانِ بَعْضِ الْمَرْوِيِّ، وَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَوْ يَكُونُ أَمْلَأٌ مَصْدَرًا لِقَوْلِهِ: " حَدَّثَنَا جُمَيْعٌ " مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَمْلَيْتُ بِمَعْنَى أَمْلَلْتُ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُضَاعَفُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُمْلِي حَدَّثَنَا رَجُلٌ إِلَخْ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَمْلَاهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَاتِّصَالِ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ بِهِ وَهُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ حَدَّثَنَا بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَعِيدٌ جِدًّا، وَلَمَّا كَانَ الْإِمْلَاءُ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحِفْظِهِ أَوْ كِتَابِهِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْإِمْلَاءُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ إِلْقَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى الطَّالِبِ مَعَ بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ شَرْحِ اللُّغَاتِ وَتَوْضِيحِ الْمَعَانِي وَالنِّكَاتِ. (قَالَ حَدَّثَنِي) : وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنِي وَهُوَ بَيَانٌ لِحَدَّثَنَا الثَّانِي. (رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) : صِفَةُ رَجُلٍ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ مَجْهُولُ الْحَالِ. (مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ) : صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا بِمَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَسْبَاطِهِ فَالْمُرَادُ وَلَدُهُ بِالْوَاسِطَةِ. (زَوْجُ خَدِيجَةَ) : صِفَةٌ لِأَبِي هَالَةَ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: هِنْدُ بْنُ زُرَارَةَ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَرُؤَسَائِهِمْ مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا خَدِيجَةُ فَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَكَانَتْ تُدْعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الطَّاهِرَةُ، كَانَتْ أَوَّلًا فِي حِيَالِ عَتِيقِ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَبِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ عَتِيقٌ وَخَلَفَهُ أَبُو هَالَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ ذَكَرَيْنِ هَالَةَ وَهِنْدًا، ثُمَّ مَاتَ أَبُو هَالَةَ فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَهَا يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَنَشَأَ هِنْدٌ فِي حِجْرِ تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَارَتْ خَدِيجَةُ أُمَّ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ سِوَى إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَقَامَتْ تَحْتَ فِرَاشِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَنَاقِبُهَا كَثِيرَةٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، تُوُفِّيَتْ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ النُّبُوَّةِ بِمَكَّةَ وَهِيَ بِنْتُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَتْ بِالْحَجُونِ، وَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَهَا وَلَمْ تُشْرَعْ صَلَاةُ الْجَنَازَةِ حِينَئِذٍ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ وَخَالَفَهُ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي هَالَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَتِيقٌ. (يُكْنَى) : صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِرَجُلٍ لَا لِزَوْجٍ عَلَى مَا تُوُهِّمَ، وَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ يُكَنَّى مِنَ التَّكْنِيَةِ، فِي الْقَامُوسِ: كَنِيَ زَيْدٌ، يُكْنَى أَبَا عَمْرٍو، وَبِهِ كُنْيَةٌ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ سَمَّاهُ بِهِ كَأَكْنَاهُ وَكَنَّاهُ. فَقَوْلُهُ: (أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) : مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ سَوَاءٌ كَانَ مُشَدَّدًا أَوْ مُخَفَّفًا مُجَرَّدًا أَوْ مَزِيدًا، قَالَ الْحَنَفِيُّ: يُكْنَى عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ التَّكْنِيَةِ، وَفِي الصِّحَاحِ فُلَانٌ يُكْنَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَكَنَّيْتُهُ أَبَا زَيْدٍ، وَبِأَبِي زَيْدٍ تُكَنِّيهِ، فَعَلَى هَذَا النُّسْخَةُ الثَّانِيَةُ ظَاهِرَةٌ وَالْأُولَى تَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ يُكْنَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَنْصُوبًا بِالْمَدْحِ ; أَعْنِي بِتَقْدِيرِ يَعْنِي، وَتَعَقَّبَهُ الْعِصَامُ بِقَوْلِهِ: يُكْنَى عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا مُجَرَّدًا أَوْ مَزِيدًا وَمُشَدَّدًا عَلَى اخْتِلَافِ النُّسَخِ، وَالْكُلُّ بِمَعْنًى، وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى الثَّانِي بِحَرْفِ الْجَرِّ كَذَا فِي الْقَامُوسِ فَلَا تَقْصُرْ نُسْخَةَ الْمُخَفَّفِ عَلَى كَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا مُجَرَّدًا فَتَكُونَ مِنَ الْقَاصِرِينَ وَلَا تَجْعَلْهَا مُحْتَاجَةً إِلَى النَّصْبِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ فَتَخْرُجَ عَنْ زُمْرَةِ الْمُتَبَصِّرِينَ، ثُمَّ قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ مِنَ الطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ، وَلَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الصِّحَاحِ إِلَّا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَلِقَاؤُهُ ابْنَ أَبِي هَالَةَ مُنْتَفٍ قَطْعًا ; لِأَنَّ الطَّبَقَةَ السَّادِسَةَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ لِقَاءَ الصَّحَابَةِ وَابْنُ أَبِي هَالَةَ مِنْ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ لَا مَحَالَةَ قُلْتُ إِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا لَوْ أُرِيدَ بِابْنِ أَبِي هَالَةَ وَلَدُهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَأَمَّا عَلَى مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَفِيدُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي الِاتِّصَالِ. (

عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ) : فِي الْمِيزَانِ أَنَّ اسْمَهُ عُمَرُ، وَفِي نُسْخَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي هَالَةَ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَفِيدُ أَبِي هَالَةَ لَا ابْنُهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَاسْمُهُ هِنْدٌ، وَهُوَ ابْنُ هِنْدٍ شَيْخُ الْحَسَنِ كَمَا ذَكَرَهُ الدُّولَابِيُّ، وَقَالَ: وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ اسْمَ أَبِي هَالَةَ هِنْدٌ أَيْضًا فَهُوَ مِمَّنِ اشْتَرَكَ مَعَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ فِي الِاسْمِ وَهُوَ مِنَ الظُّرَفِ التَّارِيخِيَّةِ. (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : سِبْطِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَيْحَانَتُهُ الْأَكْبَرُ وَسَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وُلِدَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ بَايَعَهُ عَلَى الْمَوْتِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، ثُمَّ سَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ تَحْقِيقًا لِمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ "، مَاتَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَبَقِيَ نَسْلُهُ مِنْ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ وَزَيْدِ بْنِ حَسَنٍ. (قَالَ سَأَلُتُ خَالِي) : يَعْنِي أَخَا أُمِّهِ الْإِضَافِيَّ، وَهِيَ فَاطِمَةُ الْكُبْرَى سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بَنْتُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. (هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ) : رَبِيبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمُّهُ خَدِيجَةُ الْكُبْرَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ. (وَكَانَ وَصَّافًا عَنْ حِلْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ " سَأَلْتُ " بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَالْوَصَّافُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ وَصَفَ الشَّيْءَ وَصْفًا وَصِفَةً، وَفِي الْقَامُوسِ الْوَصَّافُ الْعَارِفُ لِلصِّفَةِ وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ وَصَّافًا حِلْيَتَهُ بِدُونِ عَنْ أَوْ وَصَّافًا لِحِلْيَتِهِ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ وَكَأَنَّهُ عَلَى تَضْمِينِ الْكَشْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَصْفًا صَادِرًا أَوْ نَاشِئًا عَنْ حِلْيَتِهِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) :، كَذَا قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجَارَّ مُتَعَلِّقٌ بِسَأَلْتُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الشِّفَاءِ سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ عَنْ حِلْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ وَصَّافًا، فَجُمْلَةُ وَكَانَ وَصَّافًا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَفْعُولَيْ " سَأَلْتُ "، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَنَازَعَهُ سَأَلْتُ وَوَصَّافًا لِتُضَمِّنِهُ مَعْنًى مُخْبَرًا، ثُمَّ الْحِلْيَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ الْهَيْئَةُ وَالشَّكْلُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الزِّينَةِ، وَقِيلَ هِيَ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ. (وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ يَصِفَ لِي) : أَيْ لِأَجْلِي، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ سَأَلْتُ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ عَلَى التَّدَاخُلِ وَالتَّرَادُفِ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا لِوُجُودِ الرَّابِطَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ أَيْضًا عَطْفًا عَلَى الْأُولَى. (مِنْهَا) : أَيْ عَلَى حِلْيَتِهِ. (شَيْئًا) : أَيْ بَعْضًا مِنْ أَوْصَافِهِ الْجَلِيلَةِ وَنُعُوتِهِ الْجَمِيلَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ أَوْ لِلتَّقْلِيلِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالسِّيَاقِ. (أَتَعْلَقُ بِهِ) : أَيْ أَتَشَبَّثُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ وَأَجْعَلُهُ مَحْفُوظًا فِي خِزَانَةِ خَيَالِي، وَقِيلَ أَيْ أَتَمَسَّكُ بِهِ وَاتَّصِفُ بِهِ، وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وَهُوَ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ لِلسُّؤَالِ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَإِنَّمَا قَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ فِي سَنٍّ لَا يَقْتَضِي التَّأَمُّلَ فِي الْأَشْيَاءِ وَيَحْفَظُ الْأَشْكَالَ وَالْأَعْضَاءَ. (فَقَالَ) : أَيْ هِنْدٌ، عُطِفَ عَلَى سَأَلْتُ. (كَانَ) : لِمُجَرَّدِ الرَّابِطَةِ، وَأَغْرَبَ الْعِصَامُ: فَقَالَ كَانَ لِلِاسْتِمْرَارِ أَيْ كَانَ مِنَ ابْتِدَاءِ طُفُولِيَّتِهِ إِلَى آخِرِ زَمَانِهِ، وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّ هِنْدًا لَمْ يُدْرِكْ حَالَ صِغَرِهِ مَعَ أَنَّهُ يُنَافِي بَعْضَ الْأَوْصَافِ الْآتِيَةِ فَتَدَبَّرْ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخْمًا) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ، وَقَالَ مِيرَكُ: ضَبَطْنَاهُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ لَكِنَّ

الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ بِسُكُونِ الْخَاءِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا، وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى السُّكُونِ. قُلْتُ: السُّكُونُ هُوَ الصَّحِيحُ رِوَايَةً وَالْكَسْرُ حِكَايَةً. (مُفَخَّمًا) : خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِكَانَ وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّفْعِيلِ أَيْ كَانَ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ مُعَظَّمًا فِي الصُّدُورِ وَالْعُيُونِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ رَآهُ وَلَمْ يُرِدْ بِالْفَخَامَةِ فَخَامَةَ الْجِسْمِ، وَإِنْ كَانَ ضَخْمًا فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَحِيفًا وَزَادَتِ الضَّخَامَةُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ لَمَّا أَتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ سُؤْلِهِ وَأَرَاحَهُ مِنْ غَمِّ أُمَّتِهِ، وَكَانَ حِكْمَتُهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ لِمَا قِيلَ لَهُ: مَا هَذَا السِّمَنُ؟ قَالَ: كُلَّمَا تَذَكَّرْتُ كَثْرَةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا اخْتَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ ازْدَدْتُ سِمَنًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: كُلَّمَا تَذَكَّرْتُ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَإِنَّهُ أَهَّلَنِي لِلْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ زَادَ سِمَنِي. وَأَمَّا مَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ السَّمِينَ ; فَمَحْمَلُهُ إِذَا نَشَأَ عَنْ غَفْلَةٍ وَكَثْرَةِ نِعْمَةٍ حِسِّيَّةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ يُبْغِضُ اللَّحَّامِينَ، وَقِيلَ: مَا وُصِفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّمَنِ، وَقِيلَ: الْفَخَامَةُ فِي وَجْهِهِ ; نُبْلُهُ وَامْتِلَاؤُهُ مَعَ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ مُعَظَّمًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بُرَآءُ مِنَ التَّكَلُّفِ. (يَتَلَأْلَأُ) : أَيْ يَسْتَنِيرُ. (وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ) : وَبِالنَّصْبِ أَيْ لَمَعَانِهِ. (لَيْلَةَ الْبَدْرِ) : أَيْ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِطَهَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ ; لِأَنَّ الْقَمَرَ فِيهَا فِي نِهَايَةِ إِضَائَتِهِ ثُمَّ تَشْبِيهُ بَعْضِ صِفَاتِهِ بِنَحْوِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِنَّمَا جَرَى عَلَى عَادَةِ الشُّعَرَاءِ وَالْعَرَبِ أَوْ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالتَّمْثِيلِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ يُعَادِلُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِهِ إِذْ هِيَ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَآثَرَ ابْنُ أَبِي هَالَةَ ذِكْرَ الْقَمَرِ ; لِأَنَّهُ يُتَمَكَّنُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَيُؤْنِسُ مَنْ شَاهَدَهُ بِخِلَافِ الشَّمْسِ ; لِأَنَّهَا تُغْشِي الْبَصَرَ وَتُؤْذِيهِ، وَفِي الصِّحَاحِ سَمِّيَ بَدْرًا ; لِأَنَّهُ يَسْبِقُ طُلُوعُهُ غُرُوبَ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَبْدُرَهُ بِالطُّلُوعِ، انْتَهَى. وَقِيلَ الْبَدْرُ مَعْنَاهُ التَّمَامُ. (أَطْوَلَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ آخَرُ. (مِنَ الْمَرْبُوعِ) : أَيِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ مَا بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ يُقَالُ رَجُلٌ رَبْعَةٌ وَمَرْبُوعٌ، وَمَا سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ رَبْعَةً مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمَرْبُوعَاتِ أَوْ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي بَادِئِ النَّظَرِ وَأَطْوَلُ مِنْهُ عِنْدَ إِمْعَانِ النَّظَرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَوَّلَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَالثَّانِي بِحَسَبِ الْوَاقِعَ، نَعَمْ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ طِوَالٍ كَانَ فِي نَظَرِ الْحَاضِرِينَ أَطَوَلَ مِنْهُمْ جَمِيعًا، كَمَا رَوَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُمَاشِيهِ مِنَ النَّاسِ إِلَّا طَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَرُبَّمَا اكْتَنَفَهُ الرَّجُلَانِ فَيَطُولُهُمَا فَإِذَا فَارَقَاهُ نُسِبَا إِلَى الطُّولِ وَنُسِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّبْعَةِ، وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَطَاوَلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ صُورَةً كَمَا لَا يَتَطَاوَلُونَ عَلَيْهِ مَعْنًى. (وَأَقْصَرُ مِنَ الْمُشَذَّبِ) : عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّشْذِيبِ وَهُوَ الطَّوِيلُ الْبَائِنُ الطُّولِ مَعَ نَقْصٍ فِي لَحْمِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّخْلَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي شُذِّبَ عَنْهَا جَرِيدُهَا أَيْ قُطِعَ وَفُرِّقَ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَطُولُ، كَذَا قِيلَ: وَالْمَعْنَى بَيَانُ طُولِهِ وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمُشَذَّبُ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ طَوِيلٌ حَسَنُ الْجِسْمِ، وَفِي نُسْخَةٍ هِيَ أَصْلُ مِيرَكَ مِنَ الْمُتَشَذِّبِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَلَمْ نَجِدْهُ فِي اللُّغَةِ قُلْتُ: مُطَاوَعَةُ التَّفَعُّلِ لِلتَّفْعِيلِ قِيَاسٌ كَالتَّنْبِيهِ وَالتَّنَبُّهِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّذَكُّرِ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ بِمَعْنَى لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ.

(عَظِيمَ الْهَامَةِ) : بِالنَّصْبِ وَهِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ ; الرَّأْسُ وَجَمْعُهَا الْهَامُ، وَقَالَ فِي الْمُهَذَّبِ: الْهَامَةُ وَسَطَ الرَّأْسِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأُولَى هُوَ الْمُرَادُ هُنَا ثُمَّ الْهَامُ وَالْهَامَةُ مِثْلُ التَّمْرِ وَالتَّمْرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ وَاوٌ وَشَذَّ الْجَوْهَرِيُّ فَذَكَرَهُ فِي الْهَاءِ وَالْيَاءِ. (رَجِلُ الشَّعْرِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِهَا، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا ; أَيْ كَانَ فِي شَعْرِهِ جُعُودَةٌ وَتَثَنٍّ وَفِيهِ تَجْرِيدٌ. (إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيقَتُهُ) : أَيْ شَعْرُ رَأْسِهِ، وَالْعَقِيقَةُ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّعْرُ الَّذِي يُوَلَدُ عَلَيْهِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ أَنْ يُحْلَقَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، فَإِذَا حُلِقَ وَنَبَتَ ثَانِيًا فَقَدْ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْعَقِيقَةِ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ الشَّعْرُ عَقِيقَةً بَعْدَ الْحَلْقِ أَيْضًا عَلَى الْمَجَازِ لِأَنَّهُ مِنْهَا وَنَبَاتُهُ مِنْ نَبَاتِهَا، وَبِذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ شَعْرُهُ بَاقِيًا مِنْ حِينِ وِلَادَتِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا فِي الْعَادَةِ، فَإِنَّ عَادَتَهُمْ حَلْقُ شَعْرِ الْمَوْلُودِ فِي السَّابِعِ وَكَذَا ذَبْحُ الْغَنَمِ وَإِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِئَلَّا يُذْبَحَ بِاسْمِ الْآلِهَةِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيُّ فِي فَتَاوِيهِ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يُعَقَّ عَنْهُ أَنْ يَعُقَّ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا اعْتَبَرَ عَقِيقَتَهُمْ لِكَوْنِهَا عَلَى اسْمِ غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَقِيصَتُهُ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الْقَافِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ الْخَصْلَةُ إِذَا لُوِيَتْ وَضُفِّرَتْ فَالْمُرَادُ شَعْرُهُ الْمَعْقُوصُ، قِيلَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى وَالِانْفِرَاقُ مُطَاوِعٌ بِهِ التَّفْرِيقُ وَالْفَرْقُ، وَالثَّانِي أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: (فَرَقَ) : بِالتَّخْفِيفِ، يُقَالُ: فَرَقَ شَعْرَهُ أَيْ أَلْقَاهُ إِلَى جَانِبَيْ رَأْسِهِ فَانْفَرَقَ أَيْ صَارَ مُتَفَرِّقًا، وَالْمَعْنَى إِذَا انْفَرَقَتْ وَانْشَقَّتْ بِنَفْسِهَا مِنَ الْمَفْرِقِ فَرَّقَهَا أَيْ أَبْقَاهَا عَلَى انْفِرَاقِهَا. (وَإِلَّا) : أَيْ وَإِنْ لَمْ تَنْفَرِقْ بِنَفْسِهَا. (فَلَا) : أَيْ فَلَا يُفَرِّقُهَا بَلْ يَتْرُكُهَا مَعْقُوصَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِقَوْلِهِ: (يُجَاوِزُ) : أَيْ أَحْيَانًا. (شَعْرُهُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ. (شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ) : بِضَمِّ الذَّالِ وَسُكُونِهَا. (إِذَا) : ظَرْفٌ لِيُجَاوِزَ. (هُوَ) : أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَفَّرَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ جَعَلَ شَعْرَهُ وَافِرًا وَأَعْفَاهُ مِنَ الْفَرْقِ، وَفِي التَّاجِ: أَيْ فَتَحَهُ، وَقِيلَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ يُجَاوِزُ مَدْخُولَ النَّفْيِ أَيْ إِنِ انْفَرَقَ شَعْرُهُ بَعْدَ مَا عَقَصَهُ فَرَقَ أَيْ تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ مَنْبَتِهِ وَإِلَّا يَنْفَرِقَ بَلِ اسْتَمَرَّ مَعْقُوصًا كَانَ مَوْضِعُهُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ فَلَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِذَا هُوَ وَفَّرَهُ أَيْ جَمَعَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ، وَفِي مُسْلِمٍ نَحْوُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْدِلُ شَعْرَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ يُحِبُّ مُوَافِقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَدْلُ الشَّعْرِ إِرْسَالُهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا إِرْسَالُهُ عَلَى الْجَبِينِ وَاتِّخَاذُهُ كَالْقُصَّةِ، وَأَمَّا فَرْقُهُ فَهُوَ فَرْقُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَيَجُوزُ الْفَرْقُ وَالسَّدْلُ لَكِنَّ الْفَرْقَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أَزْهَرَ اللَّوْنِ) : بِالنَّصْبِ أَيْ أَبْيَضَهُ بَيَاضًا

نَيِّرًا مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: الزَّهْرَةُ ; بَيَاضٌ وَحُسْنٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَحْسَنَ اللَّوْنِ، وَأَزْهَرُ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مُتَلَأْلِئُ اللَّوْنِ، وَفِي الْمُهَذَّبِ: الْأَزْهَرُ الْأَبْيَضُ الْمُسْتَنِيرُ، قَالَ الْعِصَامُ: اللَّوْنُ مُسْتَدْرَكٌ وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَوْ أُطْلِقَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى السِّنِّ وَنَحْوِهِ. (وَاسِعَ الْجَبِينِ) : أَيْ وَاضِحُهُ وَمُمْتَدُّهُ طُولًا وَعَرْضًا وَهِيَ بِمَعْنَى الصَّلْتِ الْجَبِينِ فِي رِوَايَةٍ وَعَظِيمِ الْجَبْهَةِ، وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَالْجَبِينُ فَوْقَ الصُّدْغِ وَهُمَا جَبِينَانِ عَنْ يَمِينِ الْجَبْهَةِ وَشَمَالًا. (أَزَجَّ الْحَوَاجِبِ) : الزَّجَجُ تُقَوُّسٌ فِي الْحَاجِبِ مَعَ طُولٍ فِي طَرَفِهِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي الصِّحَاحِ: دِقَّةُ الْحَاجِبَيْنِ بِالطُّولِ، وَفِي الْأَسَاسِ: الدِّقَّةُ وَالِاسْتِقْوَاسُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ ثُمَّ الْحَاجِبُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى السَّاتِرِ، وَالْمَانِعُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ السَّاتِرُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْبَشَرَةِ، وَجُمِعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ الْآتِي " بَيْنَهُمَا عَرْقٌ " أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي طُولِهِ كَأَنَ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْ حَاجِبَيْهِ حَاجِبٌ وَيُنَاسِبُهُ وَصْفُهُ بِالسُّبُوغِ بِقَوْلِهِ: (سَوَابِغَ) : أَيْ كَوَامِلَ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْحَوَاجِبِ ; لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى فَاعِلٌ، أَيْ دَقَّتْ وَتَقَوَّسَتْ حَالَ كَوْنِهَا سَوَابِغَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِكَانَ إِذْ لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْ مُفْرِدٍ مُذَكَّرٍ بِجَمْعٍ مُؤَنَّثٍ فِيهِ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى ذَلِكَ الْمُفْرَدِ، وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْحَوَاجِبِ فَإِنَّهُ كَالنَّكِرَةِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَصْفُ ذِي اللَّامِ الْمُنَكَّرِ فِي الْمَعْنَى بِمُفْرَدٍ يَصِحُّ دُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ بِدُونِ اللَّامِ اتِّفَاقًا. (فِي غَيْرِ قَرَنٍ) : بِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ قَوْلِكِ رَجُلٌ أَقْرَنُ أَيْ مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ حَاجِبَيْهِ قَدْ سَبَغَا حَتَّى كَادَا يَلْتَقِيَانِ وَلَمْ يَلْتَقِيَا، وَالْقَرَنُ غَيْرُ مَحْمُودٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَيَسْتَحِبُّونَ الْبَلَجَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ مَا رَوَتْهُ أُمُّ مَعْبَدٍ حَيْثُ قَالَتْ فِي صِفَتِهِ: " أَزُجُّ أَقْرَنُ "، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ رِوَايَتِهَا بِأَنْ يُقَالَ: كَانَ بَيْنَ حَاجِبَيْهِ فُرْجَةٌ دَقِيقَةٌ لَا تَتَبَيَّنُ إِلَّا لِمُتَأَمِّلٍ فَهُوَ غَيْرُ أَقْرَنَ فِي الْوَاقِعِ وَإِنْ كَانَ أَقْرَنَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ مِنْ لَطَافَةِ الْعَرَبِ وَظَرَافَةِ الْعَجَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ قَرَنٍ فَفِي بِمَعْنَى مِنْ وَغَيْرُ بِمَعْنَى لَا ; أَيْ بِلَا قَرَنٍ وَهُوَ حَالٌ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُتَدَاخِلًا. وَقَوْلُهُ: (بَيْنَهُمَا عِرْقٌ) : وَارِدٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْحَوَاجِبَ فِي مَعْنَى الْحَاجِبَيْنِ وَهُوَ أَيْضًا حَالٌ مِنَ الْحَاجِبِ، وَيَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَرْكُ الْوَاوِ، وَالْعِرْقُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ أَجْوَفُ يَكُونُ فِيهِ الدَّمُ وَالْعَصَبُ غَيْرُ أَجْوَفَ. (يُدِرُّهُ

الْغَضَبُ) : مِنَ الْإِدْرَارِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْ يَجْعَلُهُ الْغَضَبُ مُمْتَلِئًا، قَالَ مِيرَكُ: وَصَحَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَدُرُّهُ مِنْ حَدِّ نَصَرَ مُتَعَدِّيًا، انْتَهَى. وَيُقَالُ دَرَّ اللَّبَنُ، وَمِنَ الْمَجَازِ: دَرَّتِ الْعُرُوقُ امْتَلَأَتْ يَعْنِي كَانَ بَيْنَ حَاجِبَيْهِ عِرْقٌ يَمْتَلِئُ دَمًا إِذَا غَضِبَ كَمَا يَمْتَلِئُ الضَّرْعُ لَبَنًا إِذَا دَرَّ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْفَائِقِ يُقَالُ: فِي وَجْهِهِ عِرْقٌ يُدِرُّهُ الْغَضَبُ أَيْ يُحَرِّكُهُ وَيُظْهِرُهُ وَهَذَا أَظْهَرُ لِمَعْنَى الْإِدْرَارِ. (أَقْنَى الْعِرْنِينِ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ طَوِيلُ الْأَنْفِ، وَقِيلَ رَأْسُهُ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي رِوَايَةِ " أَقْنَى الْأَنْفِ "، وَالْقَنَأُ طُولُ الْأَنْفِ وَدِقَّةُ أَرْنَبَتِهِ وَحَدَبٌ فِي وَسَطِهِ، فَفِي الْإِضَافَةِ تَجْرِيدٌ أَوْ مُبَالَغَةٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَفْعَلَ الصِّفَةِ قَدْ يَجِيءُ لِغَيْرِ اللَّوْنِ وَالْعَيْبِ خِلَافًا لِبَعْضِ النُّحَاةِ. (لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ رَاجِعَانِ إِلَى الْعِرْنِينِ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ تَتِمَّاتِ صِفَاتِ الْأَنْفِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي " لَهُ " عَائِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى " أَقْنَى ". (يَحْسَبُهُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ يَظُنُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ) : أَيْ قَبْلَ التَّأَمُّلِ. (فِيهِ) : أَيْ فِي وَجْهِهِ وَأَنْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أَشَمَّ) : مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَحْسَبُ، وَالشَّمَمُ ارْتِفَاعُ الْقَصَبَةِ مَعَ اسْتِوَاءِ أَعْلَاهَا وَإِشْرَافُ الْأَرْنَبَةِ قَلِيلًا، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ لِحُسْنٍ قَنَاهُ وَلِنُورٍ عَلَاهُ بِحَيْثُ يَمْنَعُ النَّاظِرَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِيهِ وَلَوْ أَمْعَنَ النَّظَرَ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَشَمَّ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ. (كَثَّ اللِّحْيَةِ) : بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ غَلِيظُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ، وَفِي أُخْرَى عَظِيمَ اللِّحْيَةِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، فَمَا فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرِ وَغَيْرِهِ أَيْ غَيْرُ دَقِيقِهَا وَلَا طَوِيلِهَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ وَالدِّرَايَةَ ; لِأَنَّ الطُّولَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ مَعَ أَنَّ عِظَمِ اللِّحْيَةِ بِلَا طُولٍ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عُرْفًا، فَإِنْ كَانَ الطُّولُ الزَّائِدُ بِأَنْ تَكُونَ زِيَادَةً عَلَى الْقَبْضَةِ فَغَيْرُ مَمْدُوحٌ شَرْعًا. (سَهْلَ الْخَدَّيْنِ) : أَيْ سَائِلَ الْخَدَّيْنِ غَيْرَ مُرْتَفِعِ الْوَجْنَتَيْنِ، وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ: كَانَ أَسِيلَ الْخَدَّيْنِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا تَقَرَّرَ. (ضَلِيعَ الْفَمِ) : أَيْ عَظِيمَهُ، وَقِيلَ وَاسِعَهُ، وَهُوَ يُحْمَدُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَالضَّلِيعُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي عَظُمَتْ أَضْلَاعُهُ وَوَفُرَتْ فَاتَّسَعَ جَنْبَاهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعِ الْعَظِيمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَضْلَاعٌ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قُوَّةِ فَصَاحَتِهِ وَسِعَةِ بَلَاغَتِهِ، وَقَالَ شِمْرٌ: أَرَادَ عَظِيمَ الْأَسْنَانَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ شِدَّةُ الْأَسْنَانِ وَكَوْنُهَا تَامَّةً. (مُفَلَّجَ الْأَسْنَانِ) : بِصِيغَةِ

الْمَفْعُولِ مِنَ التَّفْلِيجِ بِالْفَاءِ وَالْجِيمِ أَيْ مُنْفَرِجَهَا، وَهُوَ خِلَافُ مُتَرَاصِّ الْأَسْنَانِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَيُرْوَى: أَفْلَجَ الْأَسْنَانَ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ، وَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ كُلٌّ بِمَا رَآهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سِوَاهُ، وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوْ مُطْلَقٌ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَشْنَبُ وَالشَّنَبُ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ بَعْدَهُ مُوَحَّدَةٌ رِقَّةُ الْأَسْنَانِ وَمَاؤُهَا وَرَوْنَقُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ: مُبْلِجَ الثَّنَايَا بِالْمُوَحَّدَةِ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ عَسَاكِرَ: بَرَّاقُ الثَّنَايَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ دَلْوٍ فَصُبَّ فِي بِئْرٍ فَفَاحَ مِنْهَا مِثْلُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ: أَنَّهُ بَزَقَ فِي بِئْرٍ بِدَارِ أَنَسٍ فَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ بِئْرٌ أَعْذَبَ مِنْهَا، وَالْبَيْهَقِيُّ: أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَتْفُلُ فِي أَفْوَاهِ رُضَعَائِهِ رُضَعَاءِ بِنْتِهِ فَاطِمَةَ وَيَقُولُ: " لَا يُرْضَعُونَ إِلَى اللَّيْلِ " فَكَانَ رِيقُهُ يُجْزِيهِمْ، وَالطَّبَرَانِيُّ: أَنَّ نِسْوَةً مَضَغْنَ قَدِيدَةً مَضَغَهَا فَمُتْنَ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَفْوَاهِهِنَّ خَلُوفٌ، وَأَنَّهُ مَسَحَ بِيَدِهِ وَبِهَا رِيقُهُ ظَهْرَ عُتْبَةَ وَبَطْنَهُ فَلَمْ يُشَمَّ أَطْيَبَ مِنْهُ رَائِحَةً، وَابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ الْحَسَنَ اشْتَدَّ ظَمَؤُهُ فَأَعْطَاهُ لِسَانَهُ فَمَصَّهُ حَتَّى رَوِيَ، وَبَصَقَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِعَيْنَيْ عَلِيٍّ وَبِهِمَا رَمَدٌ فَبَرِئَ. (دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ ; الشَّعْرُ الْمُسْتَدَقُّ مَا بَيْنَ اللَّبَةِ إِلَى السُّرَّةِ، وَوَصْفُهَا بِالدِّقَّةِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى التَّجْرِيدِ، وَأَمَّا بِفَتْحِهَا فَوَاحِدَةُ الْمَسَارِبِ وَهِيَ الْمَرَاعِي. (كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ. (عُنُقَهُ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ. (جِيدُ دُمْيَةٍ) : بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ رَقَبَتُهُ صُورَةٌ مُصَوَّرَةٌ مِنْ عَاجٍ وَنَحْوِهِ، وَالْجِيدُ بِكَسْرِ الْجِيمِ بِمَعْنَى الْعُنُقِ، وَغَايَرَ بَيْنَهُمَا كَرَاهَةَ التَّكْرَارِ اللَّفْظِيِّ وَإِرَادَةَ التَّفَنُّنِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ طُولَ عُنُقِهِ فِي غَايَةِ الِاعْتِدَالِ وَكَيْفِيَّةَ هَيْئَتِهِ مِنْ نِهَايَةِ الْجَمَالِ، إِذِ الْغَالِبُ تَشْبِيهُ الْأَشْكَالِ وَالْهَيْئَاتِ بِالصُّورَةِ، وَإِيرَادُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ لِأَنَّهَا يُتَأَنَّقُ فِي صِفَتِهَا وَيُبَالَغُ فِي تَحْسِينِهَا. (فِي صَفَاءِ الْفِضَّةِ) : قِيلَ: صِفَةٌ لِدُمْيَةٍ أَوْ لِجِيدِ دُمْيَةٍ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِكَانَ عُنُقُهُ وَهُوَ الْأَوْلَى وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى بَيَاضِ عُنُقِهِ الَّذِي يَبْرُزُ لِلشَّمْسِ الْمُسْتَلْزِمِ أَنَّ سَائِرَ أَعْضَائِهِ أَوْلَى وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَيَاضَهُ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ لَا أَنْ بَيَاضَهُ كَرِيهُ اللَّوْنِ كَلَوْنِ الْجَصِّ وَهُوَ الْأَبْيَضُ الْأَمْهَقُ. (مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ) :

بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ كَانَتْ أَعْضَاؤُهُ مُتَنَاسِبَةً غَيْرَ مُتَنَافِرَةٍ وَكَأَنَّهُ إِجْمَالٌ بَعْدَ تَفْصِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَبَقَ، وَإِجْمَالٌ قَبْلَ التَّفْصِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَحِقَ، وَإِنْكَارُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ الْعِظَامِ مُكَابَرَةٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مُعْتَدِلُ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِ ذَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ حَمَاهُ خَلْقًا وَشَرِيعَةً وَأُمَّةً مِنْ غَائِلَتَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ يُوهِمُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَاللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ: عَالِمُ الْقَوْمِ هَذَا، وَقَدْ قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الْفِقْرَةُ صُحِّحَتْ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ مَعًا، فَالنَّصْبُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِكَانَ السَّابِقِ أَوِ الْمَحْذُوفِ كَالْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ، انْتَهَى. وَالنَّصْبُ أَظْهَرُ. (بَادِنٌ مُتَمَاسِكٌ) : قَالَ الْحَنَفِيُّ: قَوْلُهُ: " بَادِنٌ " رِوَايَتُنَا إِلَى هُنَا بِالنَّصْبِ وَمِنْهُ إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ بِالرَّفْعِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الصَّحِيحُ فِي أُصُولِ مَشَايِخِنَا " بَادِنٌ مُتَمَاسِكٌ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِكَانَ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " بَادِنٌ مُتَمَاسِكٌ " مَنْصُوبًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ، وَيُكْتَفَى بِحَرَكَةِ النَّصْبِ عَلَى الْأَلِفِ كَمَا هُوَ رَسْمُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي كُتُبِهِمُ الْمَنْصُوبَاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ نَقْلًا عَنِ الشَّمَايِلِ " بَادِنًا مُتَمَاسِكًا " بِالْأَلِفِ وَكَذَا فِي الْفَائِقِ وَكَذَا فِي الشِّفَاءِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ كُتِبَ بِالْأَلِفِ أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْغَرَضَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْجُمَلِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَكِنْ لَا يَسْتَقِيمُ النَّصْبُ فِي بَعْضِ الْجُمَلِ كَقَوْلِهِ: " سَوَاءٌ الْبَطْنُ وَالصَّدْرُ "، وَقَوْلِهِ: " نَظَرُهُ إِلَى الْأَرْضِ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ "، وَقَوْلِهِ: " جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلَاحَظَةُ " فَتَأَمَّلْ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَقْلَ جَامِعِ الْأُصُولِ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعْنَى وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِوَايَتُهُ بِالنَّصْبِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ النَّصْبِ هَاهُنَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْجُمَلِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ قَوْلُهُ: " بَادِنٌ " اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَدَنَ بِمَعْنَى ضَخُمَ، وَالضَّخَامَةُ قَدْ تَكُونُ بِعِظَمِ الْأَعْضَاءِ وَقَدْ تَحْصُلُ بِالسِّمَنِ، وَلَمَّا لَمْ يُوصَفْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّمَنِ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْمُرَادُ بِهِ عِظَمُ الْأَعْضَاءِ، وَأَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: " مُتَمَاسِكٌ " وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ بَعْضُ أَعْضَائِهِ بَعْضًا لُيُعْلَمَ أَنَّ عِظَمِ أَعْضَائِهِ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، وَقِيلَ: الْمُتَمَاسِكُ هُوَ الْمُكْتَنِزُ اللَّحْمِ غَيْرُ سَهْلٍ وَلَا مُسْتَرْخٍ كَأَنَّ سِمَنَهُ اسْتَمْسَكَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَادِنِ السَّمِينَ، وَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: " مُتَمَاسِكٌ " لِنَفْيِ الِاسْتِرْخَاءِ الْمَذْمُومِ عِنْدَ الْعَرَبِ الْمَكْرُوهُ فِي الْمَنْظَرِ أَيْ فَهُوَ مُعْتَدِلُ الْخَلْقِ بَيْنَ السِّمَنِ وَالنَّحَافَةِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ سَمِنَ أَوْ مَا سَمِنَ لَفْظِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبَادِنَ فَسَّرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِذِي لَحْمٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ أَوْ تَذْيِيلٌ وَتَتْمِيمٌ. (سَوَاءٌ الْبَطْنُ وَالصَّدْرُ) : صِفَةُ " بَادِنٍ " أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، قَالَ مِيرَكُ: صُحِّحَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا وَأَكْثَرُ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُصَحِّحَةِ سَوَاءٌ بِالرَّفْعِ مُنَوَّنًا وَالْبَطْنُ وَالصَّدْرُ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ سَوَاءٌ بَطْنُهُ وَصَدْرُهُ، انْتَهَى. وَنَظِيرُهُ (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ مِنْهُ نَحْوُ السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ أَيْ مِنْهُ فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي) فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْعِصَامُ: أَنَّ الْبَطْنَ وَالصَّدْرَ مَرْفُوعَانِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ دُونَ الِابْتِدَاءِ لَكِنْ يَلْزَمُ كَوْنُ التَّرْكِيبِ قَبِيحًا لِخُلُوِّهِ عَنْ ضَمِيرِ الْمَوْصُوفِ كَمَا عُلِمَ فِي مَسَائِلِ الْحَسَنِ الْوَجْهَ فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْإِضَافَةِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْفَائِقِ، نَعَمْ لَوْ نَصَبَ الْبَطْنَ لَكَانَ أَحْسَنَ وَبِالْجُمْلَةِ سَوَاءٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَجَاءَ فِي سَوَاءٍ كَسْرُ السِّينِ وَالْفَتْحُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. قُلْتُ وَالرِّوَايَةُ بِالْفَتْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا مُسْتَوَيَانِ لَا يَنْبُو أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَسَوَاءُ الشَّيْءِ وَسَطُهُ لِاسْتِوَاءِ الْمَسَافَةِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَطْرَافِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ سَوَاءٍ غَيْرِ مُنَوَّنٍ وَخَفْضِ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: سَوَاءٌ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ يُوصَفُ بِهِ كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصَادِرِ، فَهُوَ هَاهُنَا بِمَعْنَى مُسْتَوٍ أُضِيفَ إِلَى الْبَطْنِ وَفِيهِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْمَعْنَى أَنَّ صَدْرَهُ

وَبَطْنَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى صَدْرِهِ، وَصَدْرُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى بَطْنِهِ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ بَطْنَهُ ضَامِرٌ فَهُوَ مُسَاوٍ لِصَدْرِهِ وَصَدْرُهُ عَرِيضٌ فَهُوَ مُسَاوٍ لِبَطْنِهِ. فَقَوْلُهُ: (عَرِيضُ الصَّدْرِ) : كَالْمُؤَكِّدِ لِمَا قَبْلَهُ، وَكَوْنُ الصَّدْرِ عَرِيضًا مِمَّا يُمْدَحُ فِي الرِّجَالِ. (بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ضَخْمُ الْكَرَادِيسِ) : سَبَقَ مَعْنَاهُمَا. (أَنْوَرُ الْمُتَجَرَّدِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ وَهُوَ مَا جُرِّدَ عَنْهُ الثَّوْبُ مِنَ الْبَدَنِ، يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الْجُرْدَةِ، وَالْمُجَرَّدُ وَالْمُتَجَرَّدَةُ وَالتَّجْرِيدُ التَّعْرِيَةُ عَنِ الثَّوْبِ، وَالْمُتَجَرَّدُ الْمُعَرَّى كَقَوْلِهِمْ حَسَنُ الْعُرْيَةِ وَالْمُعَرَّى وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْمَعْنَى أَنَّ عُضْوَهُ الَّذِي سَتَرَهُ الثَّوْبُ كَانَ أَنْوَرَ إِذَا صَارَ مَكْشُوفًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَنْوَرِ النَّيِّرُ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ، وَالنَّيِّرُ الْأَبْيَضُ الْمُشْرِقُ فَإِنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ لَا يُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ الْمَعْرِفَةِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِيَ الْمُتَجَرِّدُ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّجَرُّدِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ أَيِ الْعُضْوُ الَّذِي كَانَ عَارِيًا عَنِ الثَّوْبِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ مِنْهُ أَيِ الْعُضْوُ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ التَّجَرُّدِ عَنِ الثَّوْبِ وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ، وَقَالَ الْعِصَامُ: رُوِيَ الْمُتَجَرَّدُ مَفْتُوحُ الرَّاءِ وَمَكْسُورُهُ فَفِي الْقَامُوسِ: امْرَأَةٌ بَضَّةُ الْجُرْدَةِ وَالْمُجَرَّدِ وَالْمُتَجَرَّدِ أَيْ بَضَّةٌ عِنْدَ التَّجَرُّدِ، وَالْمُتَجَرَّدُ مَصْدَرٌ فَإِنْ كَسَرْتَ الرَّاءَ أَرَدْتَ الْجِسْمَ، انْتَهَى. وَلَيْسَ كَسْرُ الرَّاءِ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ، وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي حَاشِيَةِ شَرْحَهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَ عَلَى الْفَتْحِ، وَيُوَافِقُهُ الْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ، انْتَهَى. فَتَأَمَّلْ. (مَوْصُولُ مَا بَيْنَ اللَّبَةِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ النُّقْرَةُ الَّتِي فَوْقَ الصَّدْرِ. (وَالسُّرَّةِ بِشَعْرٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِمَوْصُولِ الْمُضَافِ إِلَى مَعْمُولِهِ إِضَافَةَ الْوَصْفِ وَالْمَعْنَى، وُصِلَ مَا بَيْنَ لَبَّتِهِ وَسُرَّتِهِ بِشَعْرٍ، وَمَا إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ. (يَجْرِي) : أَيْ يَمْتَدُّ ذَلِكَ الشَّعْرُ. (كَالْخَلْطِ) : أَيْ طُولًا وَرِقَّةً وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَالْخَلِيطِ وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْأَشْعَارَ مُشَبَّهَةٌ بِالْحُرُوفِ وَهَذَا الشَّعْرُ مَعْنَى هُوَ دَقِيقُ الْمَسْرُبَةِ (عَارِي الثَّدْيَيْنِ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ. (وَالْبَطْنِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ) : قَالَ الْحَنَفِيُّ. إِشَارَةٌ إِلَى مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالسُّرَّةِ، وَالظَّاهُرُ أَنْ يُقَالَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ الشَّعْرِ أَوِ الْخَطِّ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ عَلَى ثَدْيَيْهِ وَبَطْنِهِ شَعْرٌ غَيْرُ مَسْرُبَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَعْدٍ: لَهُ شَعْرٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ يَجْرِي كَالْقَضِيبِ لَيْسَ فِي بَطْنِهِ وَلَا

صَدْرِهِ شَعْرٌ غَيْرُهُ. وَفِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: " عَارِي الثَّدْيَيْنِ " أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَعْرٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا لَحْمٌ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي صِفَتِهِ أَشْعَرُ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَأَعْلَى الصَّدْرِ، انْتَهَى. وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى قِيلَ وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ إِبِطَيْهِ شَعْرٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنْتِفُ شَعْرَ إِبِطَيْهِ، وَلَعَلَّ النَّفْيَ مُنْصَبٌّ عَلَى كَثْرَةِ شَعْرِهِ. (أَشْعَرُ الذِّرَاعَيْنِ) : وَهُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى الْأَصَابِعِ. (وَالْمَنْكِبَيْنِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ مُجْتَمَعُ رَأَسِ الْكَتِفِ وَالْعَضُدِ. . (وَأَعَالِي الصَّدْرِ) : أَيْ أَنَّ شَعْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ غَزِيرٌ كَثِيرٌ وَالْأَشْعَرُ ضِدُّ الْأَجْرَدِ وَهُوَ أَفْعَلُ صِفَةٌ لَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَالْأَشْعَرُ كَثِيرُ الشَّعْرِ وَطَوِيلُهُ، وَفِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ أَيْ كَثِيرُهُ وَقِيلَ طَوِيلُهُ وَالْمَقَامُ يَحْتَمِلُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (طَوِيلُ الزَّنْدَيْنِ) : بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مَا انْحَسَرَ عَنْهُ اللَّحْمُ مِنَ الذِّرَاعِ عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: هُمَا طَرَفَا عَظْمِ السَّاعِدَيْنِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْكُوعُ بِالضَّمِّ طَرَفُ الزَّنْدِ الَّذِي يَلِي الْإِبْهَامَ، وَالْكَاعُ طَرَفُ الزَّنْدِ الَّذِي يَلِي الْخِنْصِرَ وَهُوَ الْكُرْسُوعُ. (رَحْبُ الرَّاحَةِ) : أَيْ وَاسِعُ الْكَفِّ حِسًّا وَمَعْنًى وَالرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى السِّعَةِ، قِيلَ: رَحْبُ الرَّاحَةِ دَلِيلُ الْجُودِ وَضِيقُهَا دَلِيلُ الْبُخْلِ. (شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) : سَبَقَ مَعْنَاهُ. (سَائِلُ الْأَطْرَافِ) : بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِهَمْزٍ مَكْسُورٍ بَعْدَ أَلْفٍ وَفِي آخِرِهِ لَامٌ، وَقَوْلُ الْحَنَفِيِّ: بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْيَاءِ آخِرُ الْحُرُوفِ ; مُوهِمٌ وَمُرَادُهُ الْأَصْلُ، وَفَسَّرَهُ الشِّفَاءُ بِالطَّوِيلِ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ امْتِدَادُ الْيَدَيْنِ وَارْتِفَاعُ الْأَصَابِعِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ وَبِالنُّونِ وَهُوَ لُغَةٌ فِي سَائِلٍ كَجِبْرِيلَ وَجِبْرِينَ. (أَوْ قَالَ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَيْ قَالَ ابْنُ أَبِي هَالَةَ أَوِ الْحَسَنُ أَوْ مَنْ دُونَهُمَا مِنْ مَشَايِخِ الرَّاوِي. (شَائِلُ الْأَطْرَافِ) : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ يَئُولُ إِلَى ارْتِفَاعِ الْأَصَابِعِ وَهُوَ ضِدُّ انْقِبَاضِهَا وَإِلَى طُولِ الْيَدَيْنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَالَتِ الْمِيزَانُ إِذَا ارْتَفَعَتْ إِحْدَى كِفَّتَيْهِ، قِيلَ: لَمْ يَذْكُرِ الْهَرَوِيُّ وَلَا صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَالشَّوْلُ: الِارْتِفَاعُ، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ مَائِلٌ إِلَى الطُّولِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: قِيلَ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ " وَسَائِرِ الْأَطْرَافِ " أَوْ قَالَ " سَائِرُ الْأَطْرَافِ " بِالْمُهْمَلَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " سَائِلُ أَوْ سَائِرُ الْأَطْرَافِ " ; فَالسَّائِرُ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الْبَاقِي مِنَ السُّؤْرِ عَطْفًا عَلَى الْقَدَمَيْنِ أَيْ شَثْنُ سَائِرِ الْأَطْرَافِ، قَالَ مِيرَكُ: وَنَقَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ " وَسَائِرِ الْأَطْرَافِ " بِوَاوِ الْعَطْفِ وَبِالرَّاءِ بَدَلَ اللَّامِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا رِوَايَةً كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " وَسَائِرِ الْأَطْرَافِ " فَإِشَارَةٌ إِلَى فَخَامَةِ جَوَارِحِهِ كَمَا وَقَعَتْ مُفَصَّلَةً فِي الْحَدِيثِ، لَكِنْ لَا يُلَائِمُ سِيَاقَ التِّرْمِذِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ " سَائِلُ الْأَطْرَافِ "، ثُمَّ فُسِّرَ بِقَوْلِهِ: أَوْ قَالَ سَائِرُ الْأَطْرَافِ، فَلَوْ قَالَ الشَّارِحُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَكَانَ أَوْلَى وَأَصْوَبَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَنَقَلَ جَامِعُ الْأُصُولِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الشَّمَايِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَوْ قَالَ " شَائِلُ الْأَطْرَافِ " لَكِنَّهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى قَانُونِ الْعَرَبِيَّةِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - مَعَ ثُبُوتِ نَقْلِهِ عَنِ الثِّقَاتِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ وَقَعَ سَهْوًا مِنَ النَّاسِخِ بَدَلًا مِنَ السَّائِنِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ كَمَا وَقَعَ فِي سَائِرِ كُتُبِ الْحَدِيثِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: سَائِلُ الْأَطْرَافِ وَبِالنُّونِ أَيْ مُمْتَدُّ الْأَصَابِعِ. (خُمْصَانُ الْأَخْمَصَيْنِ) : بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، فِي الْقَامُوسِ: الْخُمْصَانُ بِالضَّمِّ وَبِالتَّحْرِيكِ ضَامِرُ الْبَطْنِ فَهُوَ صِفَةٌ مُؤَنَّثَةٌ بِالتَّاءِ، وَقَالَ

ابْنُ الْأَثِيرِ: الْأَخْمَصُ مِنَ الْقَدَمِ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَلْصِقُ بِالْأَرْضِ مِنْهَا عِنْدَ الْوَطْءِ، وَالْخُمْصَانُ الْمَبَالِغُ مِنْهُ أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ أَسْفَلِ قَدَمَيْهِ شَدِيدُ التَّجَافِي عَنِ الْأَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِذَا كَانَ خَمْصُ الْأَخْمَصِ بِقَدْرٍ لَمْ يَرْتَفِعْ جِدًّا وَلَمْ يَسْتَوِ أَسْفَلُ الْقَدَمِ جِدًّا فَهُوَ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ وَإِذَا اسْتَوَى أَوِ ارْتَفَعَ جِدًّا فَهُوَ ذَمٌّ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْأَنْسَبُ بِأَوْصَافِهِ أَنَّ أَخْمَصَهُ مُعْتَدِلُ الْخَمْصِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، انْتَهَى كَلَامُ النِّهَايَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَخِيرَ مَا فِي الْفَائِقِ: يَعْنِي أَنَّهُمَا مُرْتَفِعَانِ عَنِ الْأَرْضِ لَيْسَ بِالْأَرَحِّ الَّذِي يَمَسُّهَا أَخْمَصَاهُ، وَالْأَرَحُّ بِالرَّاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ خِلَافُ هَذَا، قَالَ فِيهِ: إِذَا وَطِئَ بِقَدَمِهِ وَطِئَ بِكُلِّهَا لَيْسَ لَهُ أَخْمَصَ، قَالَ: وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ: مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ، وَبِهِ قَالُوا سُمِّي الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَخْمَصَ كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ أَيَّدَهُ بِمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ أَنَّ الرَّاوِيَ ذَكَرَ قَوْلَهُ: " مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ " عَقِيبَ قَوْلِهِ: " خُمْصَانُ الْأَخْمَصَيْنِ " فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَخْمَصَ لَكَانَ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ صَرِيحٌ، فَظَهَرَ أَنَّ لِقَوْلِهِ: " مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ " مَعْنًى آخَرَ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ -، وَظَهَرَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مِمَّا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنْ خَمْصَهُ فِي غَايَةِ الِاعْتِدَالِ فَمَنْ أَثْبَتَ الْخَمْصَ أَرَادَ أَنَّ فِي قَدَمَيْهِ خَمْصًا يَسِيرًا، وَمَنْ نَفَاهُ نَفَى شِدَّتَهُ، قَالَ مِيرَكُ: هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ قَوِيَّةٍ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِ هِنْدٍ هَذَا لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ لِأَجْلِ جُمَيْعِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ النُّقَّادِ وَإِنْ كَانَ ابْنُ حِبَّانَ ذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ وَفِيهِ مَجْهُولَانِ أَيْضًا، انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ: إِنَّ النِّهَايَةَ جَعَلَهَا مُبَالَغَةً فِي ارْتِفَاعِهَا، وَزَعَمَ أَنَّ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ مَفْهُومَةٌ مِنْ إِضَافَةِ " الْخُمْصَانِ " إِلَى " الْأَخْمَصَيْنِ "، ثُمَّ قَدْ يُقَالُ لِبَاطِنِ الْقَدَمِ أَخْمَصُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَيُنَافِيهِ مَا فِي الْمُهَذَّبِ مِنْ أَنَّ الْأَخْمَصَ هُوَ الشَّخْصُ لَا الْمَوْضِعُ الْخَاصُّ مِنْهُ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ سُمِّيَ أَخْمَصَ لِضُمُورِهِ وَدُخُولُهُ فِي الرِّجْلِ، يُقَالُ خَمُصَ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ خَمْصًا وَرَجُلٌ خُمْصَانٌ بِالضَّمِّ وَامْرَأَةٌ خُمْصَانَةٌ إِذَا كَانَا ضَامِرَيِ الْبَطْنِ. (مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ) : أَيْ أَمَلَسُهُمَا لَيْسَ فِيهِمَا تَكَسُّرٌ وَلَا شِقَاقٌ، وَفِي الْفَائِقِ يُرِيدُ مَمْسُوحَ ظَاهِرِ الْقَدَمَيْنِ أَيْ مَلْسَاوَانِ لَيِّنَتَانِ، فَالْمَاءُ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِمَا مَرَّ مَرًّا سَرِيعًا، وَيُفَسِّرُهُ أَوْ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (يَنْبُو) : عَلَى وَزْنِ يَدْعُو أَيْ يَتَبَاعَدُ وَيَتَجَافَى. (عَنْهُمَا الْمَاءُ) : وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ: أَيْ ظَهْرُ قَدَمِهِ أَمْلَسُ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْمَاءُ لِمَلَاسَتِهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ الَّذِي لَيْسَ بِكَثِيرِ اللَّحْمِ فِيهِمَا. (إِذَا زَالَ) : أَيْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَفَعَ عَنْ مَكَانِهِ، أَوْ زَالَ قَدَمُهُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، فَإِنَّ الْقَدَمَ مُؤَنَّثٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ رَدًّا عَلَى الْجَوْهَرِيِّ، وَأَغْرَبَ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ إِلَى الْمَاءِ نَظَرًا إِلَى الْقُرْبِ اللَّفْظِيِّ وَغَفَلَ عَنِ الْفَسَادِ الْمَعْنَوِيِّ. . (زَالَ قَلْعًا) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ أَيْ رَفَعَ رِجْلَهُ عَنِ الْأَرْضِ رَفْعًا بَائِنًا بِقُوَّةٍ لَا كَمَنْ يَمْشِي اخْتِيَالًا وَيُقَارِبُ خُطَاهُ تَبَخْتُرًا، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: رُوِيَ قَلْعًا بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ فَبِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيْ يَزُولُ قَالِعًا لِلرِّجْلِ مِنَ الْأَرْضِ وَبِالضَّمِّ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْفَتْحِ أَيْضًا، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: قَرَأْتُ هَذَا الْحَرْفَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قَلْعًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَكَذَلِكَ قَرَأْتُهُ بِخَطِّ الْأَزْهَرِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلْعًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا أَوِ اسْمًا بِمَعْنَاهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْ زَالَ زَوَالَ قَلْعٍ، وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِمَّا وَرَدَ فِي وَصْفِ مَشْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ فِي صَبَبٍ إِذْ الِانْحِدَارُ مِنَ الصَّبَبِ وَالْقَلْعُ مِنَ الْأَرْضِ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعْمِلُ التَّثْبِيتَ وَلَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ حِينَئِذٍ اسْتِعْجَالٌ وَلَا اسْتِمْهَالٌ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أَيْ تَوَسَّطْ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، قَالَ الْعِصَامُ: قَلِعًا كَكَتِفٍ حَالٌ وَغَيْرُهُ

مَنْصُوبٌ مَصْدَرٌ أَيْ ذَهَابَ قَلِعٍ أَوْ تَقَلَّعَ قَلْعًا، وَقَوْلُهُ: (يَخْطُو) : بِوَزْنِ يَعْدُو أَيْ يَمْشِي. (تَكَفِّيًا) : جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَفِي نُسْخَةٍ تَكَفُّؤًا بِضَمِّ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَسَبَقَ تَحْقِيقُهَا أَيْ مَائِلًا إِلَى سَنَنِ الْمَشْيِ لَا إِلَى طَرَفَيْهِ. (وَيَمْشِي) : تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ. (هَوْنًا) : قَالَ الْحَنَفِيُّ: مَصْدَرٌ بِغَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ أَيْ يَمْشِي مَشْيَ هَوْنٍ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَشْيًا هَوْنًا أَوْ حَالٌ أَيْ هَيِّنًا فِي تَؤُدَةٍ وَسَكِينَةٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَوَقَارٍ وَحِلْمٍ لَا يَضْرِبُ بِقَدَمَيْهِ وَلَا يَخْفِقُ بِنَعْلَيْهِ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) أَيْ بِالطَّاعَةِ وَالْعَفَافِ وَالتَّوَاضُعِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: حُلَمَاءُ إِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجْهَلُوا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سُرْعَةُ الْمَشْيِ تُذْهِبُ بِبَهَاءِ الْوَجْهِ ; يُرِيدُ الْإِسْرَاعَ الْخَفِيفَ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْوَقَارِ إِذِ الْخَيْرُ فِي الْأَمْرِ الْوَسَطِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْأُخْرَى رَفْعًا بَائِنًا بِقُوَّةٍ لَا كَمَنْ يَمْشِي مُخْتَالًا وَيُقَارِبُ خُطَاهُ تَنَعُّمًا. (ذَرِيعُ الْمِشْيَةِ) : خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ لِلنَّوْعِ، وَمَعْنَاهُ الْمَشْيُ الْمُعْتَادُ لِصَاحِبِهِ عَلَى مَا فِي الْجَارَبَرْدِيِّ أَوْ سَرِيعُ الْمَشْيِ وَاسِعُ الْخُطَا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مِشْيَتَهُ مَعَ سُرْعَتِهِ كَأَنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى إِلَيْهِ - كَمَا سَيَأْتِي - كَانَتْ بِرِفْقٍ وَتَثَبُّتٍ دُونَ الْعَجَلَةِ، وَأَمَّا إِسْرَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ جِبِلِّيًّا لَا تَكَلُّفِيًّا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مِيرَكَ فَقَوْلُهُ: إِذَا زَالَ زَالَ قَلْعًا ; إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ رَفْعِ رِجْلَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ: " يَمْشِي هَوْنًا " إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ وَضْعِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ: " ذَرِيعُ الْمِشْيَةِ " أَيْ وَاسِعُ الْخَطْوِ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ ذَرِيعٌ أَيْ وَاسِعُ الْخَطْوِ بَيْنَ الذِّرَاعَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى سِعَةِ خَطْوِهِ فِي الْمَشْيِ وَهِيَ الْمِشْيَةُ الْمَحْمُودَةُ لِلرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يُوصَفْنَ بِقَصْرِ الْخُطَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَيْ أَنَّ مَشْيُهُ كَانَ يَرْفَعُ فِيهِ رِجْلَيْهِ بِسُرْعَةٍ وَيَمُدُّ خَطْوَهُ خِلَافَ مِشْيَةِ الْمُخْتَالِ، وَيَقْصِدُ هِمَّتَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَثَبَتٍ دُونَ عَجَلَةٍ كَمَا قَالَ: (إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ) : وَالظَّرْفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ كَالْمُبَيِّنِ لِقَوْلِهِ: " ذَرِيعُ الْمِشْيَةِ "، وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ) : عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ الْأُولَى أَعْنِي إِذَا زَالَ قَلْعًا لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مِنْ لَوَاحِقِهَا. (جَمِيعًا) : عَلَى وَزْنِ فَعِيلًا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ جَمْعًا عَلَى وَزْنِ ضَرْبًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوِ الْحَالِ، أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُسَارَقُ النَّظَرَ، وَقِيلَ لَا يَلْوِي عُنُقَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الطَّائِشُ الْخَفِيفُ وَلَكِنْ كَانَ يُقْبِلُ جَمِيعًا وَيُدْبِرُ جَمِيعًا لِمَا أَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِجَلَالَتِهِ وَمَهَابَتِهِ. (خَافِضُ الطَّرْفِ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَالْمُرَادُ بِالْخَفْضِ ضِدُّ الرَّفْعِ وَالطَّرْفُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ الْعَيْنُ وَلَمْ يُجْمَعْ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَصَدَرٌ وَاسْمُ جِنْسٍ يَعْنِي إِذَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ يَخْفِضُ بَصَرَهُ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمُتَأَمِّلِ الْمُشْتَغِلِ بِالْبَاطِنِ وَلِأَنَّهُ

شَأْنُ الْمُتَوَاضِعِ بِالطَّبْعِ وَيُؤَكِّدُهُ وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: (نَظَرُهُ) : أَيْ مُطَالَعَتُهُ. (إِلَى الْأَرْضِ أَطْوَلُ) : أَيْ أَكْثَرُ أَوْ زَمَنُ نَظَرِهِ إِلَيْهَا أَطْوَلُ أَيْ أَزْيَدُ وَأَمَدُّ (مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ) : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا بِرَأْسِهِ مُخْبِرًا عَنْ نِهَايَةِ تَوَاضُعِهِ وَخُضُوعِهِ وَغَايَةُ حَيَائِهِ مِنْ رَبِّهِ وَكَثْرَةُ خَوْفِهِ وَخُشُوعِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ نَظَرَهُ إِلَى الْأَرْضِ حَالَ السُّكُوتِ وَعَدَمِ التَّوَجُّهِ إِلَى أَحَدٍ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ يَتَحَدَّثُ يُكْثِرُ أَنْ يَرْفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّ الرَّفْعَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ تَوَقُّعِهِ انْتِظَارَ الْوَحْيِ فِي أَمْرٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْأَكْثَرُ لَا يُنَافِي الْإِكْثَارَ. (جُلُّ نَظَرِهِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مُعْظَمُهُ وَأَكْثَرُهُ. (الْمُلَاحَظَةُ) : وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ اللَّحْظِ وَهُوَ النَّظَرُ بِاللِّحَاظِ وَبِفَتْحِ اللَّامِ فِيهِمَا، يُقَالُ: لَحِظَهُ وَلَحِظَ إِلَيْهِ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ، وَاللِّحَاظُ بِالْفَتْحِ شَقُّ الْعَيْنِ مِمَّا يَلِي الصُّدْغَ، وَأَمَّا الَّذِي يَلِي الْأَنْفَ فَالْمَوْقُ وَالْمَاقُ، وَاللِّحَّاظُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ لَاحَظْتُهُ إِذَا رَاعَيْتَهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ جُلَّ نَظَرِهِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْخِطَابِ الْمُلَاحَظَةُ فَلَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا وَتُحْمَلُ الْمُلَاحَظَةُ عَلَى حَالِ الْعِبَادَةِ. (يَسُوقُ أَصْحَابَهُ) : أَيْ يُقَدِّمُهُمْ أَمَامَهُ وَيَمْشِي خَلْفَهُمْ تَوَاضُعًا وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ كَالرَّاعِي يَسُوقُهُمْ وَإِيمَاءً إِلَى مُرَاعَاةِ أَضْعَفِهِمْ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ رِعَايَةً لِلضُّعَفَاءِ وَإِعَانَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ " يُقَدِّمُ أَصْحَابَهُ " مِنَ التَّقْدِيمِ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطَأُ عَقِبُهُ عَقِبَ رَجُلٍ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى أَرْبَابِ الْجَاهِ مِنَ الْجُهَلَاءِ وَأَصْحَابِ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَلُّوا ظَهْرِي لِلْمَلَائِكَةِ "، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ أَمَامَهُ وَيَدَعُونَ ظَهْرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) وَيُرْوَى: " يَنُسُّ أَصْحَابَهُ "، فِي الْقَامُوسِ: النَّسُّ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُشَدَّدَةِ السَّوْقُ يَنُسُّ وَيَنِسُّ. (وَيَبْدُرُ) : مِنْ حَدِّ نَصَرَ بِمَعْنَى يَسْبِقُ وَيُبَادِرُ. (مَنْ لَقِيَ بِالسَّلَامِ) : مُتَعَلِّقٌ بَيَبْدُرُ أَيْ بِالتَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ

مَصْدَرُ سَلَّمْتُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ " يَبْدَؤُ " مِنَ الْبَدْءِ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُ سَلَامَهُ أَوَّلَ مُلَاقَاتِهِ، قِيلَ: لِأَنَّ ذَلِكَ سِمَةُ الْمُتَوَاضِعِ، وَقَالَ الْعِصَامُ: أَقُولُ إِيثَارًا لِمَنْ لَقِيَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَجْزَلِ الْمَثُوبَةِ لِأَنَّ جَوَابَ السَّلَامِ فَرِيضَةٌ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ ثَوَابِ السُّنَّةِ، قُلْتُ: هَذَا غَفْلَةٌ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ ; أَنَّ الْإِيثَارَ فِي الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَذُهُولٌ عَنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ إِنَّ هَذِهِ سَنَّةٌ أَفْضَلُ مِنَ الْفَرْضِ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِحُصُولِهِ، وَأَمَّا مَا قَالَ الْحَنَفِيُّ وَفِي النُّسَخِ يَبْدُو أَيْ بِالْوَاوِ فَمُنَافٍ لِقَوْلِهِ، وَقَالَ الْفَائِقُ: " يَبْدَأُ " أَيْ بِالْهَمْزَةِ وَتَبِعَهُ الْعِصَامُ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ وَإِنْ قَالَ الْحَنَفِيُّ، وَالْمُؤَدَّى فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ وَاحِدٌ. (حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) : اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّثْنِيَةِ، الْعَنَزِيُّ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالزَّمِنِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي صِحَاحِهِمْ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) : الْمَعْرُوفُ بِغُنْدَرٍ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ. (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بْنُ سِمَاكِ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ تَابِعِيٌّ أَدْرَكَ ثَمَانِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ. (بْنِ حَرْبٍ) : احْتِرَازٌ عَنِ ابْنِ الْوَلِيدِ. . (قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْمِيمِ كِلَاهُمَا صَحَابِيَّانِ. (يَقُولُ) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَلِيعَ الْفَمِ) : أَيْ وَاسْعَهُ، وَالْفَمُ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَتُشَدَّدُ فِي لُغَةٍ، وَهُوَ مَحْمُودٌ عِنْدَ الْعَرَبِ - كَمَا سَبَقَ - وَكِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ الْفَصَاحَةِ وَتَمَامِ الْبَلَاغَةِ. (أَشْكَلَ الْعَيْنِ) : الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ، وَفِي نُسْخَةٍ «الْعَيْنَيْنِ» بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ تَصْرِيحًا بِالْمَقْصُودِ أَيْ فِي بَيَاضِهَا مِنَ الْحُمْرَةِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ. (مَنْهُوسَ الْعَقِبِ) : ضَبَطَهُ الْجُمْهُورُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَقَالَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَابْنُ الْأَثِيرِ: رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَيْ قَلِيلَ لَحْمِ الْعَقِبِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ. (قَالَ شُعْبَةُ:) : أَيِ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ. (قُلْتُ لِسِمَاكٍ:) : أَيْ شَيْخِهِ. (مَا ضَلِيعُ الْفَمِ؟ قَالَ: عَظِيمُ الْفَمِ) : وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ عَظِيمُ الْأَسْنَانِ. (قُلْتُ: مَا أَشْكَلُ الْعَيْنِ؟ قَالَ: طَوِيلُ شَقِّ الْعَيْنِ) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ:

هَذَا وَهْمٌ مِنْ سِمَاكٍ وَالصَّوَابُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الْغَرِيبِ مِنْ أَنَّ الشَّكْلَةَ حُمْرَةٌ فِي بَيَاضِ الْعَيْنِ وَهُوَ مَحْمُودٌ عِنْدَ الْعَرَبِ جِدًّا، وَالشَّهْلَةُ بِالْهَاءِ حُمْرَةٌ فِي سَوَادِهَا، وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ مُشْرَبَ الْعَيْنِ بِحُمْرَةٍ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى بِاللَّيْلِ فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى بِالنَّهَارِ فِي الضَّوْءِ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَسُجُودُكُمْ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، انْتَهَى. وَلَعَلَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ الْجِدَارِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْأَخْبَارِ بِرِوَايَةِ الْأَخْيَارِ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَنِي اللَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمَّا ضَلَّتْ نَاقَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَنَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ فِي نُبُوَّتِهِ فَأُخْبِرَ فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي رَبِّي، وَقَدْ دَلَّنِي عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ كَذَا، حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِخِطَامِهَا» فَوُجِدَتْ كَمَا أَخْبَرَ، وَعِنْدِ السُّهَيْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الثُّرَايَا اثْنَيْ عَشَرَ نَجْمًا وَفِي الشِّفَاءِ أَحَدَ عَشَرَ نَجْمًا. (قُلْتُ: مَا مَنْهُوسُ الْعَقِبِ؟ قَالَ: قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ) : فِي الْقَامُوسِ: الْمَنْهُوسُ مِنَ الرِّجَالِ قَلِيلُ اللَّحْمِ مِنْهُمْ، فَقَيْدُ الْإِضَافَةِ يُفِيدُ نَفْيَ مَا عَدَا الْعَقِبِ. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ. (بْنُ السَّرِيِّ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ رَاءٍ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، الْكُوفِيُّ التَّمِيمِيُّ ثِقَةٌ (حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَرَاءٌ فِي آخِرِهِ. (بْنُ الْقَاسِمِ) : أَيِ الزُّبَيْدِيِّ بِالتَّصْغِيرِ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ. (عَنْ أَشْعَثَ) : بِفَتَحَاتٍ غَيْرِ الثَّانِيَةِ. (يَعْنِي) : هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ أَوْ هَنَّادٍ أَوْ عَبْثَرٍ ; حِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِالِالْتِفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ السَّكَاكِيِّ. (ابْنُ سَوَّارٍ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ الْكِنْدِيُّ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَهُ فِي التَّارِيخِ، فَقَوْلُ الْعِصَامِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ مُحَافَظَةً عَلَى لَفْظِ الشَّيْخِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَهَذَا دَأْبُهُمْ فِي رِعَايَةِ الْأَمَانَةِ. (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : تَقَدَّمَ. (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) : وَفِي الشَّرْحِ نَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ إِلَى جَابِرٍ وَإِلَى الْبَرَاءِ كِلَيْهِمَا صَحِيحٌ وَخَطَّأَ النَّسَائِيُّ الْإِسْنَادَ إِلَى جَابِرٍ وَصَوَّبَ الْإِسْنَادَ إِلَى الْبَرَاءِ فَقَطْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ. (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ) : بِالتَّنْوِينِ. . (إِضْحِيَانٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ وَفِي آخِرِهَا نُونٌ مُنَوَّنٌ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَلِفُهُ وَنُونُهُ زَائِدَتَيْنِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ لِوُجُودِ إِضْحِيَانَةٍ وَهِيَ صِفَةُ لَيْلَةٍ أَيْ مُقْمِرَةٍ أَيْ طَالِعَةٍ فِيهَا الْقَمَرُ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ الْبُرُوزُ وَالظُّهُورُ، وَقِيلَ صُرِفَ لِتَأْوِيلِ اللَّيْلَةِ بِاللَّيْلِ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا مِنْ وَصْفِ الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً كَطَالِقٍ وَحَائِضٍ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَمَانٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَفِي الْفَائِقِ: يُقَالُ لَيْلَةٌ ضَحْيَاءُ وَإِضْحِيَانٌ وَإِضْحِيَانَةٌ وَهِيَ الْمُقْمِرَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَإِنْ سَاعَدَتِ الرِّوَايَةُ قَوْلَهُ: «كَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ» لِأَنَّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ نُورَ الْقَمَرِ أَعَمُّ وَحُسْنَهُ أَتَمُّ. (وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ) : بَيَانٌ لِمَا وَجَبَ التَّأَمُّلُ فِيهِ لِمَزِيدِ حُسْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَوْ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى حِفْظِهِ وَضَبْطِهِ الْقَضِيَّةَ فَكَأَنَّهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ. (فَجَعَلْتُ) : أَيْ شَرَعْتُ فَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ. (أَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . (وَإِلَى الْقَمَرِ) : أَيْ تَارَةً. (فَلَهُوَ) : بِلَامِ الِابْتِدَاءِ وَالْقَسَمِ وَيَجُوزُ سُكُونُ هَائِهِ، وَالتَّقْدِيرُ فَوَاللَّهِ لَوَجْهُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (عِنْدِي) : لِبَيَانِ الْوَاقِعِ وَلِافْتِخَارِهِ بِاعْتِقَادِهِ لَا لِلتَّخْصِيصِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ غَيْرِهِ ; فَإِنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ رَآهُ بِنُورِ

النُّبُوَّةِ خِلَافًا لِعُمْيِ الْأَبْصَارِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) : أَيْ جَمَالَكَ وَكَمَالَكَ لِنُقْصَانِ بَصَرِهِمْ كَالْخُفَّاشِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُطَالَعَةِ نُورِ الشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ لَهَا. (أَحْسَنَ مِنَ الْقَمَرِ) : لِأَنَّ نُورَهُ ظَاهِرٌ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ مَعَ زِيَادَةِ الْكِمَالَاتِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ كُلُّ نُورٍ خُلِقَ مِنْ نُورِهِ، وَكَذَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) أَيْ نُورُ مُحَمَّدٍ ; فَنُورُ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتِيٌّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ سَاعَةً فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَنُورُ الْقَمَرِ مُكْتَسَبٌ مُسْتَعَارٌ يَنْقُصُ تَارَةً وَيُخْسَفُ أُخْرَى، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ بِالْفَارِسِيَّةِ مَضْمُونُهَا إِنَّكَ تُشْبِهُ الْقَمَرَ فِي النُّورِ وَالْعُلُوِّ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ النُّطْقُ وَالْحُبُورُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى خُلُوِّ الْقَمَرِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ نُعُوتِ جَمَالِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ) : بِالتَّصْغِيرِ. (بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسَيُّ) : بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهُ الْهَمْزَةُ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا وَاوًا وَالْيَاءُ لِلنِّسْبَةِ إِلَى رُؤَاسِ جَدِّهِ، وَقِيلَ: إِلَى بَايِعِ الرُّءُوسِ وَهُوَ ضَعِيفٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، قَالَ السَّمْعَانِيُّ: هَذِهِ النِّسْبَةُ إِلَى بَنِي رُؤَاسٍ هُوَ أَبُو عَوْفٍ كُوفِيٌّ. (عَنْ زُهَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ الْعِصَامُ: زُهَيْرٌ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا: أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ النَّسَائِيُّ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ، رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَثَانِيهُمَا: زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيِّ أَبُو الْمُنْذِرِ الْخُرَاسَانِيُّ، ضُعِّفَ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ رِوَايَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَنْهُ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدَّثَ بِالشَّامِ مِنْ حَفِظَهُ فَكَثُرَ غَلَطُهُ، وَزُهَيْرٌ فِي الْحَدِيثِ هُوَ التَّمِيمِيُّ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا إِسْحَاقَ، عَرَفْتُ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى تَارِيخِ وَفَاةِ أَبِي إِسْحَاقَ. (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ. (قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ أَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِدُونِ الْهَمْزَةِ أَيْ كَانَ. (وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ السَّيْفِ) : أَيْ فِي الْحُسْنِ وَاللَّمَعَانِ، وَقِيلَ فِي التَّمْدِيدِ لِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ «أَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدِيدًا مِثْلَ السَّيْفِ» ، وَالْمَعْنَى إِنَّهُ هَلْ كَانَ وَجْهُهُ طُولَانِيًّا مِثْلُهُ أَوْ لَا. (قَالَ) : أَيِ الْبَرَاءُ لِكَوْنِ تَشْبِيهِ السَّائِلِ نَاقِصًا. (لَا) : هِيَ نَقِيضَةُ نَعَمْ أَيْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ السَّيْفِ. (بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ) : بِالنَّصْبِ أَيْ بَلْ كَانَ مِثْلَ الْقَمَرِ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مِثْلِ السَّيْفِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِهِ تَقْدِيرًا لِيَكُونَ التَّشْبِيهُ جَامِعًا بَيْنَ صِفَتَيِ الْبُرُوقِ وَالْمِيلِ إِلَى الِاسْتِدَارَةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «كَانَ وَجْهُهُ قِطْعَةَ قَمَرٍ» ، وَقَدْ يُقَالُ

مَعْنَاهُ: لَمْ يَكُنْ مِثْلَ السَّيْفِ بَلْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ الْقَمَرِ بَلْ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ آنِفًا: «فَلَهُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنَ الْقَمَرِ» وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: إِذَا عِبْتَهَا شَبَّهْتَهَا الْبَدْرَ طَالِعًا ... وَحَسْبُكَ مِنْ عَيْبٍ لَهَا شَبَهُ الْبَدْرِ. وَيُلَائِمُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ رُبَيِّعِ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: «لَوْ رَأَيْتَهُ رَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً» ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ كَلِمَةُ بَلْ أَيْ وَجْهُهُ أَوْ هُوَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِثْلُ الْقَمَرِ ; لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِكَمَالِ النُّورِ وَغَايَةِ الْعُلُوِّ وَالظُّهُورِ، وَمَيْلُهُ إِلَى الِاسْتِدَارَةِ مَشْهُورٌ، وَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ جَامِعٌ وَالسَّيْفُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنْ نُورَانِيَّتِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَالْجَوَابُ بِتَرْجِيحِ الْحَالِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: أَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا، مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ التَّدْوِيرِ بَلْ كَانَ فِيهِ سُهُولَةٌ مَا، وَهِيَ أَحْلَى عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ خِلَافًا لِلتُّرْكِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ وَصْفُهُ أَنَّهُ أَسِيلُ الْخَدَّيْنِ، وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِمَا انْحِصَارُ النُّورِ الظَّاهِرِيِّ فِيهِمَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَقِيلَ جَمَعَ الْكَوْكَبَيْنِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَادُ بِهِ غَالِبًا التَّشْبِيهَ فِي الْإِشْرَاقِ وَالْإِضَاءَةِ، وَالثَّانِي فِي الْحُسْنِ وَالْمَلَاحَةِ. (حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْمَصَاحِفِيُّ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، نِسْبَةً إِلَى الْمَصَاحِفِ جَمْعُ مُصْحَفٍ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ أَيْ كَاتِبُهُ أَوْ بَائِعُهُ. (سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ لَامٍ، ثِقَةٌ. (حَدَّثَنَا النَّضْرُ) : بِسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، فِي الشَّرْحِ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ الْتَزَمُوا فِي النَّضْرِ اللَّامَ وَفِي النَّصْرِ تَرْكَهُ فَرْقًا بَيْنَهُمَا. (شُمَيْلٍ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ مَا قَبْلَ التَّحْتِيَّةِ السَّاكِنَةِ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ، نَزِيلُ مَرْوَ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (وَعَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ) : أَيِ الشَّامِيِّ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ضَعِيفٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي صِحَاحِهِمْ. . (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) : بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ الْمَنْسُوبُ إِلَى زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، الْفَقِيهُ الْحَافِظُ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، مُتَّفَقٌ عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِتْقَانِهِ. (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) : أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ مُكْثِرٌ، قِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَقِيلَ إِبْرَاهِيمُ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : الْأَصَحُّ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلًا أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ الدَّوْسِيُّ. (قَالَ) : أَيْ أَنَّهُ قِيلَ. (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ «النَّبِيُّ» . (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْيَضَ كَأَنَّمَا صِيغَ) : مِنَ الصَّوْغِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، بِمَعْنَى صُنْعِ الْحُلِيِّ وَالْإِيجَادِ أَيْ سُبِكَ وَصُنِعَ. (مِنْ فِضَّةٍ) : أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ يَعْلُو بَيَاضَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النُّورِ وَالْإِضَاءَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ وَالصِّحَاحِ: صَاغَ اللَّهُ فُلَانًا حَسَّنَ خَلْقَهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَمَاسُكِ أَجْزَائِهِ وَتَنَاسُبِ أَعْضَائِهِ وَنُورَانِيَّةِ وَجْهِهِ وَسَائِرِ بَدَنِهِ، فَهُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ

كَالْمُبَيِّنِ لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَبْيَضُ مَقْبُولٌ غَايَةَ الْقَبُولِ فَلَا يُنَافِي نَفْيَ الْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ - كَمَا سَبَقَ - وَهَذَا مَعْنَى مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ «شَدِيدُ الْوَضَحِ» ، وَفِي أُخْرَى «شَدِيدُ الْبَيَاضِ» ، فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ مَرَّتْ بِالسُّمْرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ الْخَالِصُ مُخْتَصًّا بِمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ تَوَلُّدِ الْحَرَارَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِكَثْرَةِ الدَّمِ النَّاشِئِ عَنْهَا الْحُمْرَةُ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حُمْرَتَهُ غَيْرُ ذَاتِيَّةٍ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ أَمْهَقَ وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُشَبَّهُ بِالْجَصِّ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبَيَاضُ ثَابِتٌ فِي لَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْآثَارُ الصَّرِيحَةُ، وَهُوَ مَمْدُوحٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَلَا عِبْرَةَ بِالسَّوَادِ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يَمِيلُونَ إِلَى الْبَيَاضِ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ الْجِنْسِيَّةِ، وَالْعِبْرَةُ بِالْأَكْثَرِ بَلْ بِمَا وَرَدَ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) ، وَقَوْلُهُ: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) ، (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) ، وَ (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) : أَيْ مَصُونٌ عَنِ الْغُبَارِ وَالْوَسَخِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَمَا أَبْعَدَ مَنْ خَصَّ الْبَيْضَ بِالنَّعَامِ وَأَخَذَ مِنْهُ الصَّفَارَ الْمُنَاقِضَ لِلَوْنِ الْيَاقُوتِ الْمُنَافِي لِكَمَالِ اللُّؤْلُؤِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ طَبْعَ بَعْضِ الْعَرَبِ مَائِلٌ إِلَى الصُّفْرَةِ مَعَ أَنَّ طَبْعَ بَعْضِهِمْ مَائِلٌ إِلَى الْوَشْمَةِ الْمَكْرُوهَةِ شَرْعًا وَطَبْعًا أَيْضًا، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءَ: مَنْ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ يَكْفُرُ ; لِأَنَّ وَصْفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ الثَّابِتَةِ بِالتَّوَاتُرِ نَفْيٌّ لَهُ وَتَكْذِيبٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَجِلَ الشَّعْرِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُسَكَّنُ وَقَدْ يُفْتَحُ، وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ لَمْ يَكُنْ قَطَطًا وَلَا سَبِطًا - وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُمَا - وَهُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ رُفِعَ بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ. . (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ. (أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ، إِمَامُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّهُ ضَيَّعَ فِقْهَهُ أَصْحَابُهُ. (عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) : بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الْمَكِّيٌّ الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمْ، صَدُوقٌ إِلَّا أَنَّهُ يُدَلِّسُ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ. (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) : أَيِ الْأَنْصَارِيِّ، غَزَا تِسْعَ عَشَرَ غَزْوَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمُكْثِرِينَ رِوَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَكَلَّمَهُ وَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَأَسْتَشْهِدَ مَرَّةً أُخْرَى. وَالْمَعْنَى أُرِيدُ زِيَادَةَ رِضَاكَ وَهِيَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَعْلَى مَقَامًا مِنْ حَالِ أَبِي يَزِيدَ حِينَ قِيلَ لَهُ: مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا أُرِيدَ. وَقَالَ بَعْضُ السَّادَةِ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ: هَذِهِ أَيْضًا إِرَادَةٌ. نِعْمَ مَنْ قَالَ: أُرِيدُ وِصَالَهُ وَيُرِيدُ هَجْرِي فَأَتْرُكُ مَا أُرِيدُ لِمَا يُرِيدُ. مُسْتَحْسَنٌ جِدًّا لِلْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: " تُرِيدُ وَأُرِيدُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ "، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ فَكَيْفَ مَا شِئْتَ فَاخْتَبِرْنِي. فَجُرْأَةٌ وَلِذَا ابْتُلِيَ فَلَمْ يَصْبِرْ، فَمَا أَيْسَرَ الدَّعْوَى وَمَا أَعْسَرَ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُرِضَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (عَلَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. (الْأَنْبِيَاءُ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَفْضَلِيَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَقُلْ عُرِضْتُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ كَالْحَشَمِ لَهُ، وَالْعَسْكَرُ تُعْرَضُ عَلَى السُّلْطَانِ دُونَ الْعَكْسِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ الْقَلْبِ فِي الْجَيْشِ وَالْأَنْبِيَاءُ مُقَدِّمَتُهُ وَالْأَوْلِيَاءُ سَاقَتُهُ وَالْمَلَائِكَةُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً مُتَظَاهِرِينَ مُتَعَاوِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) وَالشَّيَاطِينُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فِي الدِّينِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَنْبِيَاءِ: الْمَعْنَى الْأَعَمُّ الشَّامِلُ لِلرُّسُلِ، وَذَلِكَ الْعَرْضُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرُ كَرِوَايَةِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: كُوشِفَ لَهُ صُوَرُ أَبْدَانِهُمْ كَمَا كَانَتْ. وَقِيلَ كَانَ فِي الْمَنَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ "، وَذَكَرَ الْخَبَرَ، قِيلَ: عَلَى الثَّانِي: لَا إِشْكَالَ ; فَإِنَّهُ مُثِّلَتْ لَهُ أَرْوَاحُهُمْ بِهَذِهِ الصُّوَرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَجُوزُ أَنَّهُمْ مُثِّلُوا بِهَيْئَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِمْ، وَلِذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عِيسَى "، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَهُمْ مُتَمَثِّلُونَ فِي السَّمَاوَاتِ بِهَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، قِيلَ: لَا وَجْهَ لِهَذَا التَّرْدِيدِ بَلِ

الصَّوَابُ أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ إِنْ كَانَتْ نَوْمًا فَقَدْ مُثِّلَ لَهُ صُورَتُهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ أَوْ يَقَظَةً فَهُوَ رَآهُمْ عَلَى صُورَتِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا صَدَرَ عَنْهُمْ وَلِهَذَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّشْبِيهِ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَحَيْثُ أَطْلَقَهَا فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ - عَلَى مَا سَيَأْتِي - أَنَّهُ يَنْبَغِي تَبْلِيغُ صُوَرِ الْعُظَمَاءِ إِلَى مَنْ لَمْ يَرَهُمْ فَإِنَّ فِي إِحْضَارِ صُوَرِهِمْ بَرَكَةً كَمَا فِي مُلَاقَاتِهِمْ، وَفِيهِ مَزِيدُ حَثٍّ عَلَى ضَبْطِ خِلْقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ. (مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) : قِيلَ: فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ وَالتَّقْدِيرُ " فَرَأَيْتُ مُوسَى " بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: " وَرَأَيْتُ عِيسَى "، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى عُرِضَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ. (ضَرْبٌ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، أَيْ خَفِيفُ اللَّحْمِ. (مِنَ الرِّجَالِ) : صِفَةُ ضَرْبٍ أَيْ كَائِنٌ مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ. (كَأَنَّهُ) : أَيْ مُوسَى. (مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) : خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ كَالْمُبَيِّنِ لِلْأَوَّلِ، وَشَنُوءَةُ فَعُولَةٌ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ ثُمَّ وَاوٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ بَعْدَهَا تَاءٌ عَلَى زِنَةِ فَعُولَةٍ، اسْمُ قَبِيلَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنَ الْيَمَنِ، وَمِنْهُ أَزْدُ شَنُوءَةَ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَرُبَّمَا قَالَ شَنُوَّةُ بِالتَّشْدِيدِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. قُلْتُ: كَالنُّبُوَّةِ وَالْمُرُوَّةِ، وَأَمَّا مَا ضَبَطَهُ الْعِصَامُ بِضَمِّ أَوَّلِهَا فَغَيْرُ مَشْهُورٍ رِوَايَةً وَلُغَةً، وَعِبَارَةُ الْقَامُوسِ مُحْتَمِلَةٌ وَهُمُ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْخِفَّةِ وَالسِّمَنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ صُورَتِهِ بِهِمْ لَا تَأْكِيدَ خِفَّةِ اللَّحْمِ ; لِأَنَّ الْإِفَادَةَ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَاسْتُشْكِلَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " مُضْطَرِبٌ " بَدَلَ " ضَرْبٌ "، وَهُوَ الطَّوِيلُ سَبِطُ اللَّحْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " جَسِيمٌ سَبِطُ اللَّحْمِ "، وَدُفِعَ بِأَنَّ الْجَسَامَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الطُّولِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الطُّولِ وَخِفَّةِ اللَّحْمِ، وَبِأَنَّ اخْتِلَافَ الْبَيَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتَعَدُّدِ الرُّؤْيَا، وَالصُّوَرُ الْمَرْئِيَّةُ فِي الرُّؤْيَا كَثِيرًا مَا تَخْتَلِفُ، وَكَذَا الصُّوَرُ الْحَقِيقِيَّةُ لِلشَّخْصِ قَدْ تَتَعَدَّدُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِحْضَارُ كُلَّ صُورَةٍ بِصُورَةٍ، قِيلَ: وَشَبَّهَهُ بِمُتَعَدِّدَيْنِ دُونَ فَرْدٍ مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُ إِشَارَةً إِلَى تَمْيِيزِهِ عَلَيْهِمَا بِكَثْرَةِ أُمَّتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ شَبَّهَ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِعَدَمِ تُشَخُّصِهِ وَتَعَيُّنِهِ فِي خَاطِرِهِ أَوْ فِي نَظَرِهِمْ. (وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) : وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. (فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ) : مُبْتَدَأٌ مُضَافٌ إِلَى " مَنْ " أَيْ مَوْصُولَةٌ لَا مَوْصُوفَةٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَنْكِيرُ الْمُبْتَدَأِ. (رَأَيْتُ) : أَيْ أَبْصَرْتُ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمَوْصُولِ. (بِهِ) : صِلَةُ قَوْلِهِ: (شَبَهًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مُشَابَهَةً، وَنَصْبُهُ عَلَى

التَّمْيِيزِ مِنْ نِسْبَةِ أَقْرَبَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ بَيَانٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبِ الْقُرْبُ بِحَسَبِ الصُّورَةِ، وَضَمِيرُ " بِهِ " عَائِدٌ إِلَى " عِيسَى " قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهُوَ يُفِيدُ فَائِدَةَ صِلَةِ الْقُرْبِ الَّتِي هِيَ " مِنْ " أَوْ " إِلَى " أَنْ يُقَالَ: قَرُبَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَقَالَ الْعِصَامُ: صِلَةُ الْقُرْبِ مَحْذُوفَةٌ أَيْ إِلَيْهِ أَوْ مِنْهُ، وَحَذْفُهَا شَائِعٌ ذَائِعٌ، وَجَعْلُ الْبَاءِ صِلَةَ الْقُرْبِ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى إِلَى وَصِلَةُ شَبَهًا مَحْذُوفَةٌ تَعَسُّفٌ، انْتَهَى. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ شَبَهًا حَالٌ ضَعِيفٌ، وَقَالَ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ: قَدَّمَ الظَّرْفَ عَلَى الْعَامِلِ لِلِاخْتِصَاصِ تَأْكِيدًا لِإِضَافَةِ " أَفْعَلَ " إِلَى " مِنْ " أَيْ كَأَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا، فَتَأَمَّلْ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: (عُرْوَةُ) : وَهَذَا أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ. (ابْنُ مَسْعُودٍ) : أَيِ الثَّقَفِيُّ، شَهِدَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِفِ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الرُّجُوعِ فَرَجَعَ فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا، رَمَاهُ وَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ عِنْدَ تَأْذِينِهِ بِالصَّلَاةِ أَوْ حَالَ دُعَاءِ قَوْمِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُهُ: " مَثَلُ عُرْوَةَ مَثَلُ صَاحِبِ يَسِينَ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَقَتَلُوهُ " وَحِلْيَةُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لَمْ تُضْبَطْ، وَلَعَلَّهُ اكْتَفَى بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ فَلَا يَحَصُلُ لَنَا الْمَعْرِفَةُ بِحِلْيَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " فَإِذَا هُوَ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ أَيْ حَمَّامٍ "، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ " فَجَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حُمْرَةٌ وَأُدْمَةٌ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا فِي الْغَايَةِ فَوَصَفَهُ تَارَةً بِالْحُمْرَةِ وَتَارَةً بِالْأُدْمَةِ وَبِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الرُّؤْيَا وَالْحِلْيَةِ فِي الْأَوْقَاتِ وَبِأَنَّ السُّمْرَةَ لَوْنُهُ الْأَصْلِيُّ وَالْحُمْرَةَ لِعَارِضٍ نَصَبَ وَنَحْوِهِ، وَبِأَنَّهُ زَيْفٌ حَدِيثُ الْحُمْرَةِ بِإِنْكَارِ رَاوِيهِ وَتَأْكِيدِ إِنْكَارِهِ بِالْخَلْفِ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: " وَعِيسَى جَعْدٌ مَرْبُوعٌ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " أَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ مُضْطَرِبٌ "، وَالْمُضْطَرِبُ الطَّوِيلُ غَيْرُ الشَّدِيدِ وَقِيلَ الْخَفِيفُ اللَّحْمِ. (وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ) : وَفِي رِوَايَةٍ: " وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ ". (يَعْنِي نَفْسَهُ) : وَهُوَ مِنْ كَلَامِ جَابِرٍ أَوْ مَنْ دُونَهُ مِنَ الرُّوَاةِ، كَذَا قَالَهُ مِيرَكُ وَمُلَّا حَنَفِي، وَتَعَقَّبَهُمَا الْعِصَامُ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ مَقُولِ جَابِرٍ وَتَجْوِيزُ كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِ مَنْ بَعْدَهُ تَكَلُّفٌ " وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَتَجْوِيزِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ بِتَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ. نَعَمْ، يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِكَوْنِهِ بِصِيغَةِ الْغَائِبِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ: (وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: " عَلَيْهِ السَّلَامُ "، وَعُدَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِكَثْرَةِ اخْتِلَاطِهِ مَعَهُمْ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ تَغْلِيبًا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ قِصَّةٍ عَلَى

قِصَّةٍ، وَيَعْنِي أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عُرِضَ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسِّيَاقِ الْمُنَاسِبِ لِعَطْفِ رَأَيْتُ عَلَى رَأَيْتُ وَاللَّحَاقِ الَّذِي هُوَ التَّشْبِيهُ كَمَا تَرَى حَيْثُ قَالَ: وَمَا قِيلَ إِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ هَذَا عَامِلٌ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ رَأَيْتُ الْأَوَّلِ فَلَا تَغْلِيبَ فِيهِ وَفِيهِ أَنَّ التَّغْلِيبَ فِي قَوْلِهِ عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي سِيَاقِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ نَبِيٍّ لِاخْتِصَاصِ النُّبُوَّةِ بِالْبَشَرِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ سِرِّ الْوَحْيِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ النُّبُوَّةُ، قُلْتُ: لَا مَعْنَى لِلتَّغْلِيبِ إِلَّا هَذَا بِنُكْتَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْجَوَابُ بِأَنْ وَرَأَيْتُ عَطْفٌ عَلَى عُرِضَ عَلَيَّ بَعِيدٌ يَأْبَاهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ، قُلْتُ هَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ بَلْ قَوْلٌ آخَرُ مُبَايِنٌ لِلتَّغْلِيبِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ تَنَاقُضٌ، وَبَيْنَ سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ تَدَافُعٌ وَتَعَارُضٌ، ثُمَّ قَالَ: وَبِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْبِيَاءِ الرُّسُلُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ بَلْ تَأْوِيلٌ آخَرُ كَمَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَتَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْمَذْكُورِينَ كُلَّهُمْ رُسُلٌ وَالرَّسُولُ يُطْلَقُ عَلَى جِبْرِيلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ وَلَا يَضُرُّ اصْطِلَاحُ الشَّرْعِ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا أُطْلِقَ يَخْتَصُّ بِبَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالتَّبْلِيغِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ أَيْضًا فَيَشْمَلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ) : بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ عَلَى مَا قَالَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَاكُولَا فِي الْإِكْمَالِ: بِفَتْحِ الدَّالِ، وَهُوَ ابْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَشَهِدَ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، نَزَلَ الشَّامَ وَبَقِيَ إِلَى أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَتِهِ أَيْ غَالِبًا. وَرَوَى ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، قَالَ مِيرَكُ: قَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ وَقَعَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، لَكِنِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي مَكَانِ الْعَرْضِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: " مَرَرْتُ بِمُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ "، وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ " إِلَى آخِرِهِ، وَفِيهِ: " وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ ".

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ لَقِيَهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: أَنَّهُ لَقِيَهُمْ بِالسَّمَاوَاتِ، وَطُرُقُ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ، فَقِيلَ اجْتِمَاعُهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْعُرُوجِ إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السِّيَرِ، لَكِنْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَتَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ هُوَ وَمَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلَقِيَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَّهُمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَانِيًا وَهُوَ فِيهِ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ، انْتَهَى. أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَقِيَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ حَالِهِمْ وَعَنِ اسْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُ مَا عَرَفَهُمْ، فَلَوْ رَآهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ يَبْعُدُ سُؤَالُهُ عَنْ حَالِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَصَلَاتُهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ وَيَثْبُتُ بِالنَّقْلِ، وَلَا دَاعِيَ لِصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُتْرَكُونَ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، فَإِنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ يُصَلُّونَ إِلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ ثُمَّ يَكُونُونَ مُصَلِّينَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ الرَّافِعِيُّ مَرْفُوعًا: " أَنَا أَكْرَمُ عَلَى رَبِّي مِنْ أَنْ يَتْرُكَنِي فِي قَبْرِي بَعْدَ ثَلَاثٍ " فَلَا أَصْلَ لَهُ، انْتَهَى. قَالَ مُلَّا الْحَنَفِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ التَّشَابُهَاتِ بَيَانُ حَالِ الْمُشَبَّهِ - أَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ وَجِبْرِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فَإِنَّ مُوسَى شُبِّهَ صِفَةً وَالْبَاقِي صُورَةً. وَمَا قَالَهُ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّ التَّشْبِيهَ الْأَوَّلَ لِمُجَرَّدِ الْبَيَانِ وَالْأَخِيرَانِ لِلْبَيَانِ مَعَ تَعْظِيمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ هُنَا بِتَعْظِيمِ بَعْضٍ وَمَدْحِهِ دُونَ بَعْضٍ، انْتَهَى. وَهُوَ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنَّ الطِّيبِيَّ لَمْ يَقُلْ بِالْغَرَضِ الْفَاسِدِ وَإِنَّمَا قَالَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْكَلَامِ، فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ لَكَ الْمَرَامُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ هَذِهِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ جَدُّ الْعَرَبِ وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَمُوسَى وَعِيسَى رَسُولَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمْ وَقَعَ تَدَلِّيًا ثُمَّ تَرَقِّيًا. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) : تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. (الْمَعْنَى وَاحِدٌ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لَا حَالَ حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُهُ ضَعِيفًا لِعَدَمِ الْوَاوِ. (قَالَا: أَخْبَرَنَا) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «حَدَّثَنَا» . (يَزِيدُ) : مُضَارِعُ الزِّيَادَةِ. (بْنُ هَارُونَ) : أَيِ السُّلَمِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، مُتْقِنٌ عَابِدٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، سَمِعَ كَثِيرِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَبَعِهِمْ، قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ فِي مَجْلِسِهِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُقَالُ أَنَّ فِي الْمَجْلِسِ سَبْعِينَ أَلْفًا. (عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، نِسْبَةً إِلَى أَحَدِ آبَائِهِ، قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مُحَدِّثُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: تَغَيَّرَ حِفْظُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَهُوَ حَسَنُ الْحَدِيثِ رَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ) : بِالتَّصْغِيرِ، اسْمُهُ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللِّيثِيُّ، أَدْرَكَ مِنْ زَمَنِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِ سِنِينَ وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ إِلَى سَنَةِ مِائَةٍ وَثِنْتَيْنِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صَحَابِيٌّ غَيْرُهُ، وَزَعْمُ أَنَّ مُعَمَّرًا الْمَغْرِبِيَّ وَرَتَنَ الْهِنْدِيَّ صَحَابِيَّانِ عَاشَا إِلَى قَرِيبِ الْقَرْنِ السَّابِعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ خِلَافًا لِمَنِ انْتَصَرَ لَهُ وَأَطَالَ بِمَا لَا يُجْدِي، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الْعِصَامُ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَفَاتُهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِائَةٍ عَلَى وَفْقِ إِخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ كَانَ فِي زَمَانِهِ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَصْحَابُهُ. (يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بَقِيَ) : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ «رَأَيْتُ» ، وَجَعْلُهُ حَالًا غَيْرُ جَيِّدٍ لِفَسَادِ الْمَعْنَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ أَطْنَبَ الْحَنَفِيُّ فِي تَصْحِيحِهِ. (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) : احْتَرَزَ بِهِ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ; فَإِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، قِيلَ: وَعَنِ الْخَضِرِ ; فَإِنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فِي الْبَحْرِ. (أَحَدٌ) : أَيْ مِنَ الْبَشَرِ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ فَلَا يَشْكُلُ بِالْمَلَكِ وَالْجِنِّ أَوِ الْمُرَادُ مِنْ أَصْحَابِهِ. (رَآهُ غَيْرِي) : صِفَةٌ لِأَحَدٍ لِعَدَمِ كَسْبِهِ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ أَوْ بَدَلٌ

أَوْ مُسْتَثْنَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَحَقُّ بِأَنْ يُسْأَلَ عَنْ وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْحِصَارِ الْأَمْرِ فِيهِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حَثُّ الْمُخَاطَبِ عَلَى اسْتِيصَافِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَا قَالَ سَعِيدٌ رَاوِيهِ. (قُلْتُ صِفْهُ لِي) : أَيْ بَيِّنْهُ لِأَجْلِي. (قَالَ كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا) : يُقَالُ: مَلُحَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ يَمْلُحُ مُلُوحَةً وَمَلَاحَةً أَيْ حَسُنَ فَهُوَ مَلِيحٌ وَمُلَاحٌ بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مَجَازٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمِلْحِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَزْهَرَ اللَّوْنِ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ وَهَذَا غَايَةُ الْمَلَاحَةِ وَالْحُسْنِ، وَقِيلَ: الْمَلَاحَةُ بِمَعْنَى الصَّبَاحَةِ وَهِيَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى حُسْنِ اللَّوْنِ مِنَ الْبَدَنِ. (مُقَصَّدًا) : بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ صَادٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْيَضَ مُعَصِّدًا أَيْ بِالْعَيْنِ بَدَلَ الْقَافِ كَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَعِينٍ وَهُوَ الْمُوَثَّقُ الْخَلْقِ، وَرُوِيَ: «مُعْضِلًا» بِمَعْنَاهُ وَالْمَحْفُوظُ مُقَصِّدًا، انْتَهَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : أَيْ تَوَسَّطْ فِيهِ وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ بِطَوِيلٍ وَلَا قَصِيرٍ وَلَا جَسِيمٍ وَلَا نَحِيفٍ. (صَلَوَاتُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ «وَسَلَامُهُ» . (عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْحَدِيثِ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ «مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» . وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعَجَبُ مِمَّنِ اعْتَبَرَ الْأَخْبَارَ الرَّتَنِيَّةَ وَالنُّسْطُورِيَّةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَكَاذِيبِ الْبَاطِلَةِ وَابْتَهَجَ بِهَذَا الْقُرْبِ الْمُزَيَّفِ وَالْعُلُوِّ الْمَوْهُومِ الْمُزَخْرَفِ حَتَّى صَارَ أُضْحُوكَةً عِنْدَ النَّقَّادِينَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَالَّذِي يُشْكِلُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو الطُّفَيْلِ وُجُودُ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أَهْلِ التَّصْدِيقِ عَلَى وُجُودِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْكَرَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ حِينَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مُسْتَثْنًى لَا يَنْفَعُ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَنْ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ كَانَ فِي زَمَانِهِ لَا أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِمَّنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلِأَنَّهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ يَنْفَتِحُ بَابُ صِدْقِ مَنْ يَدَّعِي الصُّحْبَةَ بِأَنْ يُقَالَ لَمْ يَكُنْ حِينَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ بِكَوْنِهِ غَالِبًا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَبِأَنَّهُ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَعْرُوفَانِ بِأَنَّهُمَا مِنَ الْمُعَمِّرِينَ وَبِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِمَّنْ أَدْرَكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْوُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْمُسْتَثْنَى. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : - أَيِ الطَّائِفِيُّ الثَّقَفِيُّ - بْنِ يَعْلَى أَبُو يَعْلَى، صَدُوقٌ، وَقِيلَ: الدَّارِمِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ صَاحِبُ

السُّنَنِ. (أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِنْذَارِ. (الْحِزَامِيُّ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهُ زَايٌ، نِسْبَةً إِلَى أَحَدِ آبَائِهِ، صَدُوقٌ، تَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَجْلِ الْقُرْآنِ، وَرَوَى عَنْهُ أَصْحَابُ السِّتَّةِ. (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ ثَابِتٍ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الثَّبَاتِ، بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ أَصْلُ سَمَاعِنَا وَكَثِيرٌ مِنَ النُّسَخِ، وَالصَّوَابُ «ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ» كَمَا حَقَّقَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَاسْمُ «أَبِي ثَابِتٍ عِمْرَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ» . (الزُّهْرِيُّ) : الْمَنْسُوبُ إِلَى بَنِي زُهْرَةَ، بِضَمِّ الزَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ فَحَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ فَاشْتَدَّ غَلَطُهُ فَتُرِكَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ. (حَدَّثَنِي) : وَفِي نُسْخَةٍ «قَالَ حَدَّثَنِي» . (إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) : أَيِ الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمْ، ثِقَةٌ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ - فِي الشَّمَائِلِ - وَالنَّسَائِيُّ. (ابْنُ أَخِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) : بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَالرَّفْعِ فِي ابْنٍ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِإِسْمَاعِيلَ، قِيلَ: بِدَلِيلِ كِتَابَتِهِ بِالْأَلِفِ، وَنُوقِشَ بِأَنَّهُ لَيْسَ صِفَةً بَيْنَ عَلَمَيْنِ. (عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ، فَقِيهٌ ثِقَةٌ، إِمَامٌ فِي الْمَغَازِي، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (عَنْ كُرَيْبٍ) : مُصَغَّرًا، ابْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْهَامِشِيُّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيُّ أَبُو رَشِيدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ثِقَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ ; تَثْنِيَةُ ثَنِيَّةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ «الثَّنَايَا» بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَلَجِ هُنَا: الْفَرْقُ ; بِقَرِينَةِ نِسْبَتِهِ إِلَى الثَّنَايَا فَقَطْ، إِذِ الْفَلَجُ: فُرْجَةٌ بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ، وَالْفَرْقُ: فُرْجَةٌ بَيْنَ الثَّنَايَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَتَبِعَهُ الشُّرَّاحُ، وَفِي الْقَامُوسِ: رَجُلٌ مُفَلَّجُ الثَّنَايَا: مُنْفَرِجُهَا، وَالْفَلَجُ بِالتَّحْرِيكِ: تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْأَسْنَانِ. (إِذَا تَكَلَّمَ) : الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرٌ ثَانٍ لِكَانَ وَالتَّقْيِيدُ بِهِ لِظُهُورِ النُّورِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ حِينَئِذٍ. (رُئِيَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: أُبْصِرَ، وَلَمْ يَقُلْ رَأَيْتُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَمْ تَكُنْ مُخْتَصَّةً بِأَحَدٍ. (كَالنُّورِ) : أَيْ مِثْلُهُ، وَالْكَافُ اسْمٌ بِمَعْنَى (مِثْلِ) فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ فِي كَوْنِهِ نَائِبَ الْفَاعِلِ، وَقِيلَ: الْكَافُ زَائِدَةٌ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِكَلَامِ الْحَنَفِيِّ لِلتَّفْخِيمِ نَحْوَ مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ، غَيْرُ ظَاهِرٍ كَمَا لَا يَخْفَى. (يَخْرُجُ) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ وَفَاعِلُهُ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَيْهِ، أَيْ: رُئِيَ مِثْلُ النُّورِ أَوْ نَفْسُ النُّورِ خَارِجًا. (مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ) :

(باب ما جاء في خاتم النبوة)

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) :، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ضَمِيرَ يَخْرُجُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى الْأَوَّلِ: مَدَارُ الْكَلَامِ عَلَى التَّشْبِيهِ وَوَجْهُهُ الْبَيَانُ وَالظُّهُورُ كَمَا يُشَبَّهُ الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالنُّورِ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا تَشْبِيهَ فِيهِ، وَيَكُونُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهِ مَقَالٌ إِلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمُا. (بَابُ مَا جَاءَ فِي خَاتَمِ النُّبُوَّةِ) أَيْ فِي تَحْقِيقِ وَصْفِهِ مِنْ لَوْنِهِ وَمِقْدَارِهِ وَتَعْيِينِ مَحِلِّهِ مِنْ جَسَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ كَوْنِهِ مِنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَهَا، وَالْخَاتَمُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ بِمَعْنَى: الطَّابَعِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِهِ لَا الطَّابَعُ، وَالْخِتَامُ: الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) ، وَقِيلَ: أَيْ آخِرُهُ ; لِأَنَّ فِي آخِرِهِ يَجِدُونَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ عَلَى مَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ: «خَاتَمُهُ» بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ: مَا يُخْتَمُ بِهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى النُّبُوَّةِ بِالْإِبْدَالِ أَوِ الْهَمْزِ ; إِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى النُّبُوَّةِ لِحِفْظِهَا وَحِفْظِ مَا فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ مَصُونَةٌ عَمَّا جَاءَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَنَّ الْخَتْمَ عَلَى الْكِتَابِ يَصُونُهُ وَيَمْنَعُ النَّاظِرِينَ عَمَّا فِيهِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَامِهَا كَمَا يُوضَعُ الْخَتْمُ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ تَمَامِهِ، أَوِ اسْتِيثَاقِهَا وَتَقْرِيرِهَا وَتَحْقِيقِهَا كَمَا يُضْرَبُ الْخَاتَمُ عَلَى الْكِتَابَةِ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِيثَاقِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِنُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ نُعِتَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَلْمَانَ، فَكَانَ عَلَامَةً عَلَى النَّبِيِّ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقْصَدَ مِنَ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا وَيُرَادُ بِهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ مُرْسِلِهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِضَافَتُهُ مِنْ قَبِيلِ خَاتَمِ فِضَّةٍ فَكَانَ ذَلِكَ الْخَاتَمُ أَيْضًا مِنْ نُبُوَّتِهِ، فَتَأَمَّلْ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى فَاعِلِ الْخَتْمِ فَمَحَلُّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَفِي الْبَابِ ثَمَانِيَةُ أَحَادِيثَ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَبُو رَجَاءٍ. (قَالَ) : قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. (أَنَا) : أَيْ أَخْبَرَنَا. (حَاتِمُ) : بِكَسْرِ التَّاءِ. (بْنُ إِسْمَاعِيلَ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَصْحَابُ السِّتَّةِ. (عَنِ الْجَعْدِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّصْغِيرِ. (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. (قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. (بْنَ يَزِيدَ) : رُوِيَ لَهُ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٍ: أَرْبَعَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَوَاحِدٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، يُكْنَى أَبَا يَزِيدَ الْكِنْدِيَّ، وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، حَضَرَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ. (يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْمُصَاحَبَةِ ; أَيْ أَذْهَبَتْنِي. (خَالَتِي) : أَيْ مَعَهَا. (إِلَى النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ «إِلَى رَسُولِ اللَّهِ» . (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ خَالَتِهِ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَاسْمُهَا عُلْبَةُ، بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، بِنْتُ شُرَيْحٍ، أُخْتُ مَخْرَمَةَ بْنِ شُرَيْحٍ. (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ ذُو وَجَعٍ، بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْأَلَمُ، وَقِيلَ: أَيْ مَرِيضٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَجَعَ كَانَ فِي لَحْمِ قَدَمِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَقِعٌ بِالْقَافِ الْمَكْسُورَةِ بَدَلَ الْجِيمِ، وَالْوَقَعُ بِالتَّحْرِيكِ هُوَ وَجَعُ لَحْمِ الْقَدَمِ، قِيلَ: يَقْتَضِي مَسْحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَأْسِهِ أَنَّ مَرَضَهُ كَانَ بِرَأْسِهِ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ وَإِيثَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ:

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَقَعَ بِلَفْظِ الْمَاضِي قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْعَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَقَعَ فِي الْأَرْضِ فَوَصَلَ إِلَى مَا حَصَلَ. (فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسِي) : وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَثَرَ مَسْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَأْسِ السَّائِبِ لَمْ يَزَلْ أَسْوَدَ مَعَ شَيْبِ مَا سِوَى رَأْسِهِ. (وَدَعَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «فَدَعَا» . (لِي بِالْبَرَكَةِ) : بِفَتْحَتَيْنِ، أَيِ: النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ، وَهُوَ فِي الْعُمْرِ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ أَوْ فِي غَيْرِهِ مَعَهُ أَوْ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ مَوْلَى السَّائِبِ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَقِّهِ: «بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ» . فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّهِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الْجَعْدِ رَاوِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ حَوْلًا مُعْتَدِلًا، وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنِّي مَا مُتِّعْتُ بِسَمْعِي وَبَصَرِي إِلَّا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَتَوَضَّأَ) : أَيِ اتِّفَاقًا أَوْ قَصَدَ الشُّرْبَ إِلْحَاقًا. (فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ) : الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ: مَاءِ وُضُوئِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَا أُعِدَّ لِلْوُضُوءِ أَوْ مَا فَضُلَ عَنْهُ أَوْ مَا اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ، انْتَهَى. وَالْأَنْسَبُ هُوَ الْأَوْسَطُ، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ الْأَدَبَ وَلِإِبْعَادِ فَاءِ التَّعْقِيبِ عَنْهُ، فَتَدَبَّرْ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ الْبَيْضَاوِيُّ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ، وَهُوَ مَا انْفَصَلَ عَنْ أَعْضَاءِ وَضَوْئِهِ ; لِأَنَّ مُلَاحَظَةَ التَّبَرُّكِ وَالتَّيَمُّنِ فِيهِ أَقْوَى وَأَتَمُّ، وَإِيرَادُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ وَاسْتِدْلَالِهِمْ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ رَجَّحُوا الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قُلْتُ: لَا يَظْهَرُ ظُهُورُ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي، بَلْ قَدْ يَتَعَيَّنُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «فَشَرِبْتُ» حَيْثُ لَمْ يَقُلْ «فَتَبَرَّكْتُ بِهِ» ، وَلَا يَضُرُّنَا إِيرَادُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ الْحَدِيثَ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ وَتَرْجِيحُهُمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ مَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ، وَلِذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى التَّدَاوِي، وَقَوْلُ مِيرَكَ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ ; لِأَنَّ النَّجِسَ حَرَامٌ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» ، قُلْتُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْخَمْرِ وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ شُرْبُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ لِلْعُرَنِيِّينَ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ إِذْ لَا ضَرُورَةَ لِحَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي الْمُخْتَلَفِ فِي جَوَازِهِ مَعَ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي فَرْضِ

الْوُضُوءِ لَا فِي التَّجْدِيدِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قِيلَ فِي فَضَلَاتِهِ، وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ طَهَارَتِهِ كَانَ مِنْ بَعْدِهِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ صَرِيحٍ وَتَارِيخٍ صَحِيحٍ. (وَقُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ) : أَيْ أَدَبًا أَوْ قَصْدًا وَطَلَبًا. (فَنَظَرْتُ) : لِانْكِشَافِ مَحَلِّهِ أَوْ لِكَشْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ لِيَرَاهُ لِعِلْمِهِ بِهِ مُكَاشَفَةً. (إِلَى الْخَاتَمِ) : ضُبِطَ هُنَا بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الطَّابَعِ أَصْرَحُ. (بَيْنَ كَتِفَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «إِلَى خَاتَمٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْخَاتَمِ أَوْ ظَرْفٌ لِنَظَرْتُ أَوْ صِلَةٌ لِلْخَاتَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ لِلتِّرْمِذِيِّ: «الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ» ، وَالرِّوَايَةُ فِيهِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ أَثَرُ شَقِّ الْمَلَكَيْنِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَاعْتَرَضَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ مَا قَالَهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ شَقَّهُمَا إِنَّمَا كَانَ فِي صَدْرِهِ وَأَثَرُهُ إِنَّمَا كَانَ خَطًّا وَاضِحًا مِنْ صَدْرِهِ إِلَى مِرَاقِ بَطْنِهِ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: فَلَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمَخِيطِ فِي صَدْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَلَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّهُ بَلَغَ بِالشَّقِّ حَتَّى نَفَذَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَلَزِمَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيلًا مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ إِلَى بَطْنِهِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي يُحَاذِي الصَّدْرَ مِنْ مَسْرُبَتِهِ إِلَى مِرَاقِ بَطْنِهِ، قَالَ: وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ بَعْضِ نُسَّاخِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ عَلَيْهِ فِيمَا عَلِمْتُ، انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ بِأَنَّ سَبَبَ التَّغْلِيظِ فَهْمُ أَنَّ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّقِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ بِأَثَرِ الْخَتْمِ لِخَبَرِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمَّا شَقَّا صَدْرَهُ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: خِطْهُ، فَخَاطَهُ وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ حَمَلَ الْقَاضِي جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الشَّقَّ لَمَّا وَقَعَ فِي صَدْرِهِ ثُمَّ خِيطَ حَتَّى الْتَأَمَ كَمَا كَانَ، وَوَقَعَ الْخَتْمُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَانَ كَذَلِكَ أَثَرُ الشَّقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَأَبِي نُعَيْمٍ - فِي الدَّلَائِلِ - أَنَّ: «الْمَلَكَ لَمَّا أَخْرَجَ قَلْبَهُ وَغَسْلَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ خَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ فَامْتَلَأَ نُورًا» ، وَذَلِكَ النُّبُوَّةُ وَالْحِكْمَةُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَهَرَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ ; لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَالْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، وَأَبِي نُعَيْمٍ - فِي الدَّلَائِلِ أَنَّ: «جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمَّا نَزَلَا لَهُ مِنْ عِنْدِ الْبَعْثَةِ هَبَطَ جِبْرِيلُ فَأَلْقَانِي عَلَى الْقَفَا، ثُمَّ شَقَّ عَنْ قَلْبِي فَاسْتَخْرَجَهُ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أَلْقَانِي وَخَتَمَ عَلَى ظَهْرِي حَتَّى وَجَدْتُ مَسَّ الْخَاتَمِ فِي قَلْبِي» . قَالَ: وَهَذَا مُسْتَنَدُ الْقَاضِي فِيمَا ذَكَرَ وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ، وَتَقْتَضِي هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْخَاتَمَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حِينَ وِلَادَتِهِ فَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ نَقَلَهُ أَبُو الْفَتْحِ، وَقِيلَ: وُضِعَ حِينَ وُضِعَ نَقَلَهُ مُغْلَطَايْ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ، وَفِيهِ: «جَعَلَ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيَّ كَمَا هُوَ الْآنَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَوَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَدَمَيْهِ» ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخَتْمَ وُضِعَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا شَكَّ النَّاسُ فِي مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ يَدَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَقَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رُفِعَ الْخَاتَمُ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ. ثُمَّ الْبَيْنِيَّةُ الْمَذْكُورُ تَقْرِيبِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ عَنَدًا عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ لِمَا فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ: فَنَظَرْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى. وَفِي رِوَايَةٍ: «غُضْرُوفِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ» ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَقَدْ كَانَتْ عَلَيْهِ شَامَةُ النُّبُوَّةِ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى إِلَّا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ شَامَةَ النُّبُوَّةِ كَانَتْ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ مِيرَكُ: فَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَرَجَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ رِوَايَةَ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ لِكَوْنِهَا أَصَحَّ وَأَوْضَحَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ رِوَايَتَيِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى لِتَعَارُضِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا هَلْ وُلِدَ بِهِ أَوْ وُضِعَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ؟ فَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ أَخْرَجَ الْمَلَكُ صُرَّةً مِنْ حَرِيرٍ أَبْيَضَ فِيهَا خَاتَمٌ فَضَرَبَ عَلَى كَتِفِهِ كَالْبَيْضَةِ، وَفِي حَدِيثِ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ وَبِمَ عَلِمْتَ حَتَّى اسْتَيْقَنْتَ؟ قَالَ: «أَتَانِي اثْنَانِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: شُقَّ بَطْنَهُ، فَشَقَّ بَطْنِي، فَأَخْرَجَ قَلْبِي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ الشَّيْطَانِ وَعَلَقَ الدَّمِ فَطَرْحَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اغْسِلْ بَطْنَهُ غَسْلَ الْإِنَاءِ وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غَسْلَ الْمِلَاءِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خِطْ بَطْنَهُ، فَخَاطَ بَطْنِي وَجَعَلَ الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيَّ، كَمَا هُوَ الْآنَ، وَوَلَّيَا عَنِّي وَكَأَنِّي أَرَى الْأَمْرَ مُعَايَنَةً» . (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ، وَكَوْنُ مَا بَعْدَهُ مُفَاجَأَةً بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ. (هُوَ) : أَيِ الْخَاتَمُ. (مِثْلُ زِرِّ الْحَجَلَةِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، وَهِيَ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ لَهَا أَزْرَارٌ كِبَارٌ وَعُرًى، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَجَلَةِ: الطَّائِرُ الْمَعْرُوفُ، يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ كَبَكْ وَبِالْعَرَبِيَّةِ الْقَبَجَةُ، وِزْرُّهَا: بَيْضُهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الثَّانِي: «مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ» ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ حَجْرٍ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، عَلَى أَنَّ الْخَطَّابِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيْضُ مِنْ أَرَزَتِ الْجَرَادَةُ إِذَا كَبَسَتْ ذَنَبَهَا فِي الْأَرْضِ فَبَاضَتْ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ، وَأَمَّا قَوْلُ التُّورِبِشْتِيُّ: تَقْدِيمُ الرَّاءِ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ لَا عَلَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ - أَيِ الْخَاتَمُ - يَنُمُّ أَيْ يَفُوحُ مِسْكًا، وَفِي مُسْلِمٍ: جُمْعَ، بِضَمِّ جِيمٍ وَسُكُونِ مِيمٍ، عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَنَّهُ الثَّآلِيلُ السُّودُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ، بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَتُفْتَحُ فَمُعْجَمَتَيْنِ: أَعْلَى كَتِفِهِ. وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا: كَبَيْضَةِ الْحَمَامِ، وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ: شَعْرٌ مُجْتَمِعٌ مِثْلُ السِّلْعَةِ، بِكَسْرِ السِّينِ قِطْعَةٌ نَاتِئَةٌ، وَلِلْمُصَنِّفِ - كَمَا سَيَأْتِي - بَضْعَةٌ نَاشِزَةٌ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ وَالْمُصَنِّفِ: كَالتُّفَّاحَةِ، وَلِابْنِ عَسَاكِرَ: كَالْبُنْدُقَةِ، وَلِلسُّهَيْلِيِّ: كَأَثَرِ الْمِحْجَمِ الْقَابِضَةِ عَلَى اللَّحْمِ، وَلِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ: شَامَةٌ خَضْرَاءُ مُخْتَفَرَةٌ أَيْضًا فِي اللَّحْمِ، وَلَهُ أَيْضًا: شَامَةٌ سَوْدَاءُ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ حَوْلَهَا شَعَرَاتٌ مُتَرَاكِبَاتٌ كَأَنَّهَا عُرْفُ الْفَرَسِ، وَلِلْقَطَاعِيِّ: ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ الْحَكِيمِ: كَبَيْضَةِ حَمَامٍ مَكْتُوبٌ بِبَاطِنِهَا: اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِظَاهِرِهَا: تَوَجَّهْ حَيْثُ كُنْتَ فَإِنَّكَ مَنْصُورٌ، وَلِابْنِ عَابِدٍ: كَانَ نُورًا يَتَلَأْلَأُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُخْتَلِفَةً حَقِيقَةً بَلْ كُلٌّ شَبَّهَ بِمَا سَنَحَ لَهُ، وَمُؤَدَّى الْأَلْفَاظِ كُلُّهَا وَاحِدٌ ; وَهُوَ قِطْعَةُ لَحْمٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ شَعْرٌ ; فَلِأَنَّ الشَّعْرَ حَوْلَهُ مُتَرَاكِبٌ عَلَيْهِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ كَانَ شَيْئًا بَارِزًا أَحْمَرَ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ، إِذَا قُلِّلَ جُعِلَ كَبَيْضَةِ الْحَمَامِ، وَإِذَا كُثِّرَ جُعِلَ كَجَمْعِ الْيَدِ، وَقَالَ الْقَاضِي: رِوَايَةُ «جَمْعِ الْكَفِّ» يُخَالِفُهُ «بَيْضَةُ الْحَمَامِ» ، «وَزِرُّ الْحَجَلَةِ» فَتُؤَوَّلُ عَلَى وَفْقِ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةِ أَوْ كَهَيْئَةِ الْجَمْعِ لَكِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ فِي قَدْرِ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَرِوَايَةُ: «كَأَثَرِ مِحْجَمٍ أَوْ كَرُكْبَةِ عَنْزٍ أَوْ كَشَامَةٍ خَضْرَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ مَكْتُوبٌ فِيهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ سِرْ فَإِنَّكَ الْمَنْصُورُ» لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ وَتَصْحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ ذَلِكَ وَهْمٌ. (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطَّالِقَانِيُّ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَتُفْتَحُ، نِسْبَةً لِبَلَدٍ عِنْدَ قَزْوِينَ، وَسَعِيدٌ ثِقَةٌ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: وَرُبَّمَا أَخْطَأَ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (أَنَا) : أَيْ أَخْبَرَنَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ) :

ضَعِيفٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. (عَنْ سِمَاكٍ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. (ابْنِ حَرْبٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) : مَرَّ ذِكْرُهُ. (قَالَ رَأَيْتُ الْخَاتَمَ) : أَيْ: أَبْصَرْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ. (بَيْنَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ظَرْفٌ لِرَأَيْتُ أَوْ صِفَةٌ لِلْخَاتَمِ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلِهِ مَعْرِفَةً أَوْ حَالٌ مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِهِ نَكِرَةً. (غُدَّةً) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ قِطْعَةُ اللَّحْمِ الْمُرْتَفِعَةُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِهَا. (حَمْرَاءَ) : أَيْ مَائِلَةً لِلْحُمْرَةِ لِئَلَّا يُنَافِيَ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَى لَوْنِ جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ) : حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ أَوْ مُتَرَادِفَانِ وَالتَّشْبِيهُ بِهَا فِي الْمِقْدَارِ وَالصُّورَةِ وَأَصْلُ اللَّوْنِ وَلَا يُنَافِي أَنَّ لَوْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُشْرَبًا بِالْحُمْرَةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْبَيَاضِ الصَّفَاءُ وَالنُّورُ وَالْبَهَاءُ. (حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. (الْمَدِينِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ «الْمَدَنِيُّ» وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النِّسْبَةِ بِالْحَذْفِ، وَمَنْ أَثْبَتَهَا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَفِي الصِّحَاحِ: النِّسْبَةُ لِطَيْبَةَ مَدَنِيٌّ وَلِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ - يَعْنِي بَغْدَادَ - مَدِينِيٌّ وَلِمَدَايِنِ كِسْرَى مَدَايِنِيٌّ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَدِينِيُّ هُنَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ مِنْ طَيْبَةَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: الْمَدِينِيُّ: مَنْ أَقَامَ بِطَيْبَةَ، وَالْمَدَنِيُّ: مَنْ أَقَامَ بِهَا ثُمَّ فَارَقَهَا، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ يَصِحُّ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمَدَنِيُّ نِسْبَةً إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْمَدِينِيُّ إِلَى مَدِينَةِ بَغْدَادَ. (أَنَا) : أَيْ أَخْبَرَنَا. (يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّ الشِّينِ وَبِكَسْرِ النُّونِ، فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَكَذَا ضَبَطَهُ السَّمْعَانِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بِفَتْحِ الْجِيمِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرَهُمَا، وَفِي الْأَنْسَابِ لِلسَّمْعَانِيِّ: وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمِاجِشُونُ لِحُمْرَةِ خَدَّيْهِ وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْمِاجِشُونُ الْمُوَرَّدُ، وَفِي الْقَامُوسِ: لَقَبٌ، مُعَرَّبُ مَاهْ كُونْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُعَرَّبَ مَيْ كُونْ فَانْصِرَافُهُ بِالتَّعْرِيفِ. (

عَنْ أَبِيهِ) : يُرِيدُ بِهِ جِدَّهُ الْأَعْلَى الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ; لِأَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ. (عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ) : بِفَتْحِ الْقَافِ، مَدَنِيٌّ أَوْسِيٌّ أَنْصَارِيٌّ، ثِقَةٌ، عَالِمٌ بِالْمَغَازِي، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (عَنْ جَدَّتِهِ رُمَيْثَةَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، صَحَابِيَّةٌ لَهَا حَدِيثَانِ ثَانِيهُمَا فِي صَلَاةِ الضُّحَى رِوَايَةٌ عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ كَلَامَهُ. (وَلَوْ أَشَاءُ) : أَيْ لَوْ أَرَدْتُ. (أَنْ أُقَبِّلَ الْخَاتَمَ) : بِالْوَجْهَيْنِ. (الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِنْ قُرْبِهِ) : «مِنْ» تَعْلِيلِيَّةٌ مَعْمُولُ (لَفَعَلْتُ) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ وَبَيَانِ الِاخْتِصَاصِ ; أَيْ لِأَجْلِ قُرْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِقُرْبِ الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَنْسَبُ لِئَلَّا يَفُوتَ إِفَادَتُهَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي جَانِبِ الْخَاتَمِ. (لَفَعَلْتُ) : جَوَابُ «وَلَوْ» وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مُبَاسَطَتِهَا وَخُصُوصِيَّتِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِهَايَةِ تَوَاضُعِهِ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ وَلُطْفِ خُلُقِهِ مَعَ أُمَّتِهِ لَا سِيَّمَا الْعَجَائِزَ وَالْمَسَاكِينَ. (يَقُولُ) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَفْعُولِ «سَمِعْتُ» أَوْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تُبَيِّنُ الْمَفْعُولَ الْمُقَدَّرَ الْمَذْكُورَ، وَأُتِيَ بِهِ مُضَارِعًا بَعْدَ «سَمِعَ» الْمَاضِي إِمَّا حِكَايَةً لِحَالِهِ وَقْتَ السَّمَاعِ أَوْ لِإِحْضَارِ ذَلِكَ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ، وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ فَاعِلِ «سَمِعْتُ» أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، وَاخْتَارَتِ الْمُضَارِعَ لَفْظًا لِيَتَوَافَقَ الْمَشِيئَةُ وَمَفْعُولُهَا لَفْظًا كَمَا تَوَافَقَا مَعْنًى وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، وَقِيلَ: «سَمِعْتُ» يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ فَلَا مَحْذُوفَ، وَاخْتَارَهُ الْعِصَامُ وَقَالَ: الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَفْعُولَيْ سَمِعْتُ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ دُونَ الْفَاعِلِ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَالًا مِنْهُ لَذَكَرَتْهَا بِجَنْبِهِ لِمَكَانِ الِالْتِبَاسِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَإِنْ ذَكَرَهَا بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالَ مِيرَكُ: حَالٌ مِنْ فَاعِلِ «سَمِعْتُ» وَجَعْلُهُ حَالًا مِنْ مَفْعُولِ «سَمِعْتُ» مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ السَّلِيمُ، وَلَعَلَّهُ لِتَقْدِيمِ «أَشَاءُ» وَأُقَبِّلُ الْمُنَاسِبُ لِلْفَاعِلِ، وَالْحَقُّ أَنَّ كِلَاهُمَا جَائِزٌ وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ. (لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) : أَيْ فِي شَأْنِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ أَوْ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِلْمُشَافَهَةِ لَتَحَقُقِ مَوْتُ سَعْدٍ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَنْصَارِ، أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارُهُمْ أَوَّلُ دَارٍ أَسْلَمَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، شَهِدَ بَدْرًا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُحُدٍ، وَرُمِيَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي أَكْحَلِهِ فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. (يَوْمَ مَاتَ) : ظَرْفٌ لِيَقُولُ، فَيَكُونُ مِنْ كِلَاهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ. (اهْتَزَّ) : أَيْ تَحَرَّكَ. (لَهُ) : أَيْ لِأَجْلِ مَوْتِ سَعْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَهَا» أَيْ: لِرُوحِهِ فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْعِصَامُ أَيْ لِجَنَازَتِهِ، وَفِيهِ مَزِيدُ شَاهِدٍ عَلَى حَمْلِ الْعَرْشِ عَلَى الْجَنَازَةِ كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَرْشُ الرَّحْمَنِ» ، وَأَيْضًا لَا فَضِيلَةَ فِي تَحَرُّكِ الْعَرْشِ لِسَعْدٍ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ فَضْلِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ فِي حَقِّهِ. (عَرْشُ الرَّحْمَنِ) : رَوَاهُ الشَّيْخَانِ

أَيْضًا، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهُ لِغَايَةِ ارْتِيَاحِهِ بِمُوَاصَلَةِ رُوحِهِ إِلَيْهِ أَوْ لِغَايَةِ حُزْنِهِ بِفِرَاقِهِ عَلَيْهِ، وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي ارْتِيَاحِهِ مَا لَا رُوحَ لَهُ وَحُزْنُهُ كَمَا لَا اسْتِبْعَادَ فِي تَكَلُّمِ الْجَمَادِ مِنْ تَسْبِيحِ الْحَصَى وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَنَحْوِهِمَا ; لِأَنَّ مَبْنَى أُمُورِ الْآخِرَةِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْجَمَادَاتِ فِي الدُّنْيَا: (وَإِنَّ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْحِجَارَةِ (لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ «اهْتَزَّ الْعَرْشُ فَرَحًا» ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَتَأَوَّلَهُ فَقَالَ: «اهْتَزَّ الْعَرْشُ فَرَحًا بِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى سَعْدًا» ، وَاخْتَارَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ حَرَكَةُ أَهْلِ الْعَرْشِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِقُدُومِ رُوحِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَوْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: «مَنْ هَذَا الْمَيِّتُ الَّذِي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَاسْتَبْشَرَ بِهِ أَهْلُهَا وَحَرَّكَتْهُمْ» إِمَّا لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْ لِلنُّزُولِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لِيُصَلُّوا عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ، وَيُقَوِّيهِ مَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا حُمِلَتْ جَنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جَنَازَتَهُ! ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ» ، وَقِيلَ اهْتِزَازُ الْعَرْشِ: حَرَكَتُهُ، وَجُعِلَ عَلَامَةً لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى مَوْتِهِ لِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَسُمُوِّ مَكَانِهِ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ وَفَاتِهِ، وَالْعَرَبُ تَنْسُبُ الشَّيْءَ الْمُعَظَّمَ إِلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُ: أَظْلَمَتِ الْأَرْضُ لِمَوْتِ فُلَانٍ، وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ لَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ قَصْدِ الشَّارِعِ وَإِنْ قَالَ الْحَنَفِيُّ: إِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَقِيلَ: الِاهْتِزَازُ فِي الْأَصْلِ الْحَرَكَةُ لَكِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الِارْتِيَاحُ كِنَايَةً أَيِ ارْتَاحَ بِرُوحِهِ حِينَ صَعِدَ بِهِ لِكَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ حَدِيثِ: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» ، وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِالسَّرِيرِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، يَعْنِي جَنَازَتَهُ وَنَعْشَهُ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرٍ، وَفِيهِ قَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: فَإِنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ اهْتَزَّ السَّرِيرُ فَقَالَ جَابِرٌ: إِنَّهُ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ ضَغَائِنُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ جَابِرٌ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْبَرَاءَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَالْخَزْرَجُ لَا يَقُولُ لِلْأَوْسِ بِالْفَضْلِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ الْبَرَاءَ أَيْضًا أَوْسِيٌّ، وَإِنَّمَا قَالَ جَابِرٌ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِلْحَقِّ وَاعْتِرَافًا بِالْفَضْلِ لِأَهْلِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنَ الْبَرَاءِ كَيْفَ قَالَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ أَوْسِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا وَإِنْ كُنْتُ خَزْرَجِيًّا وَكَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مَا كَانَ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ ذَلِكَ أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» بِإِضَافَةِ الْعَرْشِ إِلَى الرَّحْمَنِ، وَالْعُذْرُ لِلْبَرَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَغْطِيَةَ فَضْلِ سَعْدٍ وَإِنَّمَا بَلَغَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ بِلَفْظِ «اهْتَزَّ الْعَرْشُ» وَفَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ فَجَزَمَ بِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ لَا كَمَا فَهِمَهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَصَبِيَّةِ لِمَا بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مِنَ الضَّغَائِنِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا بِمِثْلِ مَا تَأَوَّلَهُ الْبَرَاءُ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَجَزَمَ بِأَنَّهُ اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ» عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الْحَاكِمُ: الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِاهْتِزَازِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ مُخَرَّجَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ لِمُعَارِضِهَا ذِكْرٌ فِي الصَّحِيحِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ. (الضَّبِّيُّ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ. (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) : بِضَمِّ جِيمٍ فَسُكُونِ حَاءٍ. (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) : هَذَا الْعَطْفُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِوَى أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ وَعَلِيِّ

بْنِ حُجْرٍ مُتَعَدِّدًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ سَبَقَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ إِلَّا أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ غَيْرَهُمْ أَيْضًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا. (قَالُوا: أَنَا) : أَيْ أَخْبَرَنَا. (عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ فَفَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ عُمَرَ. (قَالَ) : أَيْ عُمَرُ الْمَذْكُورُ. (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ) : وَالْوَلَدُ ضُبِطَ بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ. (قَالَ) : أَيْ إِبْرَاهِيمَ. (كَانَ عَلِيٌّ إِذَا وَصَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ) : أَيْ لِإِبْرَاهِيمَ أَوْ عَلِيٍّ وَهُوَ أَقْرَبُ. (الْحَدِيثَ) : أَيِ الْمَذْكُورُ. (بِطُولِهِ) : فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. (وَقَالَ) : أَيْ عَلِيٌّ، وَأَبْعَدَ الْعِصَامُ حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاعْتَرَضَ عَلَى غَيْرِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ مَسَاقُ الْكَلَامِ. (كَانَ) : كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (بَيْنَ كَتِفَيْهِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ. (خَاتَمِ النُّبُوَّةِ) : بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَيَجُوزُ بِهَمْزٍ بَعْدَ وَاوٍ سَاكِنَةٍ. (وَهُوَ) : أَيِ الْحَالُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) : بِالضَّبْطِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِهِ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: «بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَاتَمِ وَتَعْيِينِ مَحَلِّهِ مِنْ جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ ثَنَا. (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) : وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ. (أَنَا) : أَيْ أَخْبَرَنَا. (أَبُو عَاصِمٍ) : الشَّهِيرُ بِالنُّبَيْلِ مُصَغَّرًا بِالنُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ، مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، حَدِيثُهُ فِي الصِّحَاحِ السِّتَّةِ. (أَنَا) : أَيْ أَخْبَرَنَا. (عَزْرَةُ) : بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَزَايٍ سَاكِنَةٍ فِرَاءٍ. (بْنُ ثَابِتٍ) : أَيِ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْبَصْرِيُّ، ثِقَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (حَدَّثَنِي عِلْبَاءُ) : بِمُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ فَلَامٌ سَاكِنَةٌ فَمُوَحَّدَةٌ مَمْدُودَةٌ. (بْنُ أَحْمَرَ) : بَصْرِيٌّ صَدُوقٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ) : هُوَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ. (عَمْرُو) : بِالْوَاوِ. (بْنُ أَخْطَبَ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. (الْأَنْصَارِيُّ) : صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (قَالَ) : أَيْ أَبُو زَيْدٍ. (قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأَبَا زَيْدٍ) : يُكْتَبُ بِغَيْرِ أَلْفٍ لَكِنْ يُقْرَأُ بِهَا، وَيَتَلَفَّظُ بِهَمْزٍ بَعْدَهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُطَابِقُ لِرَسْمِ الصَّحَابَةِ فِي كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ يُتْرَكُ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا تَخْفِيفًا. (ادْنُ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَضْمُومَةٍ وَسُكُونٍ دَالٍّ مُهْمَلَةٍ وَضَمِّ نُونٍ أَيِ اقْرُبْ. (مِنِّي فَامْسَحْ) : بِفَتْحِ السِّينِ، أَيْ حُكَّ أَوِ افْحَصْ. (ظَهْرِي) : ظَنَّا أَنَّ فِي ثَوْبِهِ شَيْئًا يُؤْذِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لِحَاجَتِهِ إِلَى مَسْحِهِ لِعَارِضٍ أَوْ تَشْرِيفِهِ بِمَسِّ جَسَدِهِ الشَّرِيفِ وَإِطْلَاعِهِ عَلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ وَتُشَرُّفِهِ لَهُ بِوَجْهٍ لَطِيفٍ، وَبِالْجُمْلَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِ عِنَايَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ حَيْثُ شَرَّفَهُ بِهَذِهِ الرُّتْبَةِ الْعَلِيَّةِ وَخَصَّهُ بِتِلْكَ الْقُرْبَةِ السَّنِيَّةِ، وَفِي جَامِعِ الْمُصَنِّفِ: أَنَّهُ دَعَا لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ

قَالَ: «اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ» ، قَالَ عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ حَفِيدُهُ: إِنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ إِلَّا شَعَرَاتٌ بِيضٌ. (فَمَسَحْتُ) : أَيْ دَنَوْتُ فَمَسَحْتُ. (ظَهْرَهُ فَوَقَعَتْ) : أَيِ اتِّفَاقًا. (أَصَابِعِي) : أَيْ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا. (عَلَى الْخَاتَمِ) : بِالْوَجْهَيْنِ. (قُلْتُ) : قَائِلُهُ عِلْبَاءُ لِأَبِي زَيْدٍ لَا أَبُو زَيْدٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. (وَمَا الْخَاتَمُ؟) : أَيْ: أَيْ شَيْءٍ هُوَ، أَيْ: مَا قَدْرُهُ وَهَيْئَتُهُ؟ . (قَالَ) : أَيْ أَبُو زَيْدٍ. (شَعَرَاتٌ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ ذُو شَعَرَاتٍ أَوْ مَا فِيهِ شَعَرَاتٌ أَوْ مَا عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ. (مُجْتَمِعَاتٌ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْخَاتَمَ بِعَيْنِهِ فَأَخْبَرَ عَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ يَدَهُ وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا مَا قَدَّمْنَاهُ لِيَحْصُلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ «ذُو شَعَرَاتٍ» ; لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ سِوَى الشَّعَرَاتِ لَتَعَرَّضَ لَهُ فِي بَيَانِهِ مَعَ أَنَّ حَذْفَ الْمُضَافِ مِمَّا هُوَ سَائِغٌ وَشَائِعٌ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ. تَنْبِيهٌ هَذَا الْحَدِيثُ هَكَذَا أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ الْإِسْنَادَ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا رِمْثَةَ، ادْنُ مِنِّي فَامْسَحْ ظَهْرِي، فَمَسَحْتُ ظَهْرَهُ ثُمَّ وَضَعْتُ أَصَابِعِي عَلَى الْخَاتَمِ فَغَمَزْتُهَا. قُلْنَا لَهُ: وَمَا الْخَاتَمُ؟ قَالَ: شَعَرَاتٌ تُجْمَعُ عِنْدَ كَتِفِهِ. فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمٌ ; لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ، وَالْمُرَجَّحُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ ; لِأَنَّهُ أَوْثَقُ مِنَ ابْنِ سَعْدٍ، وَيُحْتَمَلُ احْتِمَالًا بَعِيدًا أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ لَهُمَا، انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْبُعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى. (حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «ثَنَا» . (أَبُو عَمَّارٍ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَتَشْدِيدِ مِيمٍ. (الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ رَاءٍ وَسُكُونِ يَاءٍ وَمُثَلَّثَةٍ. (الْخُزَاعِيُّ) : نِسْبَةً إِلَى خُزَاعَةَ، بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ، ثِقَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. (أَنَا) : أَيْ أَخْبَرَنَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ. (عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ) : بِكَسْرِ الْقَافِ، صَدُوقٌ يَهِمُ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي سُنَنِهِمْ. (حَدَّثَنِي أَبِي) : أَيْ حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ. (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) : أَيِ ابْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي سُنَنِهِمْ، وَبُرَيْدَةُ بِالتَّصْغِيرِ، وَكَذَا الْحُصَيْبُ. (قَالَ) : أَيْ عَبْدُ اللَّهِ. (سَمِعْتُ أَبِي) : وَهُوَ صَحَابِيٌّ سَكَنَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ الْبَصْرَةَ ثُمَّ مَرْوٍ، وَتُوَفِّيَ بِهَا. (بُرَيْدَةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ أَبِي أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. (يَقُولُ) : أَيْ بُرَيْدَةُ. (جَاءَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفِي لِسَانِ الْفَارْسِيِّ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَهُوَ لَحْنٌ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى

تَغْيِيرِ النِّسَبِ، قِيلَ: نِسْبَةً إِلَى كُورَةِ فَارِسَ ; لِأَنَّهُ مِنْ رَامَ هُرْمُزَ بَلْدَةٍ بَيْنَ تُسْتَرَ وَشِيرَازَ وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ فَارِسَ، وَسُمِّيَ الْفَارِسُ فَارِسًا ; لِأَنَّ أَهْلَهُ كَانُوا فُرْسَانًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ مُنْسُوبُونَ إِلَى فَارِسَ بْنِ كِيُومَرْثْ، وَفِي شَرْحٍ: أَنَّهُ مُعَرَّبُ بَارْسَ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَسَلْمَانُ مِنْ أَصْفَهَانَ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِفَارِسَ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُسَمُّونَ مَا تَحْتَ مُلُوكِ الْعَجَمِ كُلَّهُ فَارِسًا وَأَصْفَهَانُ كَانَ مِنْهَا وَلَمْ يُعْلَمِ اسْمُ أَبِي سَلْمَانَ، وَسُئِلَ عَنْ نَسَبِهِ فَقَالَ: أَنَا سَلْمَانُ بْنُ الْإِسْلَامِ، وَيُقَالُ: سَلْمَانُ الْحَبْرُ بِالْمُهْمَلَةِ فَالْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِمُ الْجَنَّةُ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ كَبِيرٌ، قِيلَ: عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: أَدْرَكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَرَأَ الْكِتَابَيْنِ، وَكَانَ عَطَاؤُهُ خَمْسَةَ آلَآفٍ يُفَرِّقُهُ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ بِعَمَلِ الْخُوصِ، وَلَهُ مَزِيدُ اجْتِهَادٍ فِي الزُّهْدِ فَإِنَّهُ مَعَ طُولِ عُمْرِهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِزِيَادَةِ الْحِرْصِ لَمْ يَزْدَدْ إِلَّا زُهْدًا، وَسُئِلَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْهُ فَقَالَ: عَلِمَ الْعِلْمَ الْأَوَّلَ وَالْعِلْمَ الْآخِرَ وَهُوَ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُ وَهُوَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، قِيلَ هَرَبَ مِنْ أَخِيهِ وَكَانَ مَجُوسِيًّا فَلَحِقَ بِرَاهِبٍ ثُمَّ بِجَمَاعَةِ رُهْبَانٍ فِي الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِمْ إِلَى وَفَاةِ أَخِيرِهِمْ، فَدَلَّهُمُ الْحَبْرُ إِلَى الْحِجَازِ وَأَخْبَرَهُ بِظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَصَدَ الْحِجَازَ مَعَ جَمْعٍ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَبَاعُوهُ فِي وَادِي الْقُرَى مِنْ يَهُودِيٍّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ يَهُودِيٌّ آخَرُ مِنْ قُرَيْظَةَ، فَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى قَدِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الرَّاهِبُ قَدْ وَصَفَ لَهُ بِالْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ فَجَاءَ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ. (حِينَ قَدِمَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ، ظَرْفٌ لِجَاءَ، أَيْ: حِينَ أَوْقَاتِ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (الْمَدِينَةَ بِمَائِدَةٍ) : بَاؤُهُ لِتَعْدِيَةِ جَاءَ وَلَا يَبْعُدُ جَعْلُهَا لِلْمُصَاحَبَةِ خِلَافًا لِابْنِ حَجَرٍ، بَلْ هِيَ أَظْهَرُ هُنَا لِزِيَادَةِ الْإِفَادَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى، بَلْ هِيَ مُتَعَيَّنَةٌ لِرِوَايَةِ (فَاحْتَمَلْتُهَا عَلَى عَاتِقِي) ; وَلِذَا اخْتَارَهَا مِيرَكُ وَجَوَّزَ التَّعْدِيَةَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَرْبَابِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَائِدَةَ خِوَانٌ عَلَيْهِ طَعَامٌ، فَلَا يُسَمَّى مَائِدَةً، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ. (عَلَيْهَا رُطَبٌ) : لِتَعْيِينِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الطَّعَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الرُّطَبَ طَعَامٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَلَيْسَ بِطَعَامٍ اسْتُعِيرَتِ الْمَائِدَةُ هُنَا لِلظَّرْفِ أَوِ اسْتُعْمِلَتْ لِلْخِوَانِ عَلَى وَجْهِ التَّجْرِيدِ، فَفِي الصِّحَاحِ أَنَّ الطَّعَامَ مَا يُؤْكَلُ، قَالَ صَاحِبُ الْمُحَكَمِ: الْمَائِدَةُ نَفْسُ الْخِوَانِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَدْ تُطْلَقُ الْمَائِدَةُ عَلَى كُلِّ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ ; لِأَنَّهَا مِمَّا تَمِيدُ أَيْ تَتَحَرَّكُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِوَصْفٍ مَخْصُوصٍ أَيْ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ تَكُونَ خِوَانًا. (فَوَضَعَهَا) :

أَيِ الْمَائِدَةَ. (بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ تَقْرِيبِ الْأَسَانِيدِ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا أَحْضَرَهُ سَلْمَانُ كَانَ رُطَبًا فَقَطْ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ: فَاحْتَطَبْتُ حَطَبًا فَبِعْتُهُ فَصَنَعْتُ طَعَامًا فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ: فَاشْتَرَيْتُ لَحْمَ جَزُورٍ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ طَبَخْتُهُ فَجَعَلْتُ قَصْعَةَ ثَرِيدٍ فَاحْتَمَلْتُهَا عَلَى عَاتِقِي، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهَا وَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ. فَلَعَلَّ الْمَائِدَةَ كَانَ فِيهَا طَعَامٌ وَرُطَبٌ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ أَيْضًا أَنَّهَا تَمْرٌ فَضَعِيفٌ، قُلْتُ: وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، وَلَعَلَّ الِاكْتِفَاءَ بِالرُّطَبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ الطَّعَامِ كَانَ رُطَبًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، فَبَعِيدٌ جِدًّا لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهُ جَاءَ الْغَدَ بِمِثْلِهِ. (فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوَّلُ مُلَاقَاتِهِ، وَعَلِمَ اسْمَهُ بِفَيَضَانِ أَنْوَارِ النُّبُوَّةِ أَوْ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ أَوْ بِسُؤَالِهِ إِيَّاهُ عَنِ اسْمِهِ أَوَّلًا أَوْ بِإِخْبَارِ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ الشَّرِيفَ مِمَّنْ عَرَفَ سَلْمَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَقِيَهُ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَعَرَفَهُ. (مَا هَذَا؟) : أَيِ الْمَأْتِيُّ الَّذِي أَتَيْتَهُ أَوِ الَّذِي وَضَعْتَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ أَيِ الرُّطَبِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمَائِدَةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ «مَا هَذِهِ؟» وَوَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ إِفَادَةُ الْعُمُومِ، وَاحْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ الْمَائِدَةُ مُغَطَّاةٌ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَقْصُودُ بِالسُّؤَالِ الْغَرَضُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى إِتْيَانِهِ وَوَضْعِهِ. (فَقَالَ) : أَيْ هَذَا وَهَذِهِ. (صَدَقَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى أَصْحَابِكَ) : قَالَ شَارِحٌ: إِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْحَةٌ يَمْنَحُهَا الْمَانِحُ طَلَبًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَتَكُونُ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، فَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ رُؤْيَةِ تَذَلُّلٍ لِلْآخِذِ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ، وَالْهَدِيَّةُ مِنْحَةٌ لَا يُرَى فِيهَا تَذَلُّلُ الْآخِذِ بَلْ يُطْلَبُ بِهَا التَّحَبُّبُ إِلَى الْآخِذِ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ، قَالَ الْعِصَامُ: فَمَفْهُومُ الصَّدَقَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةٌ فَرْضُهَا وَتَطَوُّعُهَا عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، فَمَنْ جَعَلَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ أَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ جَعَلَهَا مُحَرَّمَةً عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ أَبَدًا، وَمَنْ جَعَلَ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا دَفْعَ التُّهْمَةِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ حَقَّ الْفُقَرَاءِ لَمْ يَجْعَلْهَا بَعْدَهُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ. (فَقَالَ ارْفَعْهَا) : أَيِ الْمَائِدَةَ أَوِ الصَّدَقَةَ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ أَوْ عَنِّي لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: فِيهِ تَحْرِيمُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ لِاحْتِمَالِ امْتِنَاعِهِ وُجُوبًا أَوْ تَنَزُّهًا. (فَإِنَّا) : أَيْ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ أَنَا وَأَقَارِبِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ أَوِ الضَّمِيرُ لِلْعَظَمَةِ. (لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) : وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ نَفْسُهُ وَأَصْحَابُهُ ; إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى أَصْحَابِهِ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ الْحَاضِرُونَ عِنْدَهُ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ، وَيُحْمَلُ حِينَئِذٍ أَمْرُهُ بِالْأَكْلِ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَضَرُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ جَبْرًا لِخَاطِرِ سَلْمَانَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ «الصَّدَقَةُ» أَيِ الزَّكَاةُ، وَمِثْلُهَا كُلُّ وَاجِبٍ كَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ لِحُرْمَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَعُمُّ الْمَنْدُوبَةَ أَيْضًا كَانَتِ النُّونُ لِلتَّعْظِيمِ لِحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ دُونَ قَرَابَتِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَعُمُّ الْمَنْدُوبَةَ فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ مُتَعَيَّنَةٌ لِيَصِحَّ التَّعْلِيلُ عَنِ امْتِنَاعِ أَكْلِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ هَذَا مَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ، وَدَعْوَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِامْتِنَاعِ هُوَ التَّحْرِيمُ مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ عَقْلًا وَلَا نَقْلًا، وَأَغْرَبَ الْعِصَامُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِرَفْعِهَا مُطْلَقًا وَلَمْ يَأْكُلْ أَصْحَابَهُ ; لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَى النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَكْلُ أَصْحَابِهِ مِنْهُ، فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُمْ أَكَلُوهُ بَعْدَ جَعْلِ سَلْمَانَ كُلَّهُ صَدَقَةً عَلَى أَصْحَابِهِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِمَّا يُكْتَفَى بِالْعِلْمِ بِالْمَرْضِيِّ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَقِيَ أَنَّهُ بَعْدَ جَعْلِهِ صَدَقَةً لِأَصْحَابِهِ يَصِحُّ أَنْ يَأْكُلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ هَدِيَّةً لَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ شَاةِ صَدَقَةٍ أَخَذَتْهَا بَرِيرَةُ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ عَلَيْهَا وَهَدِيَّةٌ لَنَا» . إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُأْذِنْهُ أَصْحَابُهُ بِالْأَكْلِ

لِعَدَمِ حُكْمِهِمْ بِالْعِلْمِ، انْتَهَى. وَوَجْهُ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ، فَمَسْأَلَةُ بَرِيرَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى إِهْدَائِهَا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ تَمَلُّكِهَا عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةَ بِأَخْذِهَا، وَمَسْأَلَةُ الْأَصْحَابِ هُنَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ لَهُمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَلَا يَصِحُّ لَهُمُ الْإِبَاحَةُ لِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ. (قَالَ) : أَيْ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ. (فَرَفَعَهَا) : أَيْ سَلْمَانُ مِنْ عِنْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَوْ فَرَفَعَهَا بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ أَكْلِهَا، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، انْتَهَى. وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهٌ لِعَدَمِ أَكْلِ الْأَصْحَابِ مَعَ مُنَافَاتِهِ لِظَاهِرِ رِوَايَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ يَدَهُ. (فَجَاءَ) : أَيْ سَلْمَانُ. (الْغَدَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا أَيْ يَوْمًا أَوْ وَقْتًا آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ. (بِمِثْلِهِ) : أَيْ بِنَحْوِ مَا جَاءَ بِهِ أَوَّلًا، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ بِرُطَبٍ عَلَى مَائِدَةٍ، وَمِنْ قَوْلِ الْعِصَامِ: الضَّمِيرُ لِلْمَائِدَةِ لِتَأْوِيلِهَا بِالْخِوَانِ إِذْ لَا يَبْقَى فَائِدَةٌ لِلْمِثْلِ وَتَغْيِيرُ الْخِوَانِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكَ أَنَّ تَجْعَلَ قَوْلَهُ بِمِثْلِهِ حَالًا أَيْ مُلْتَبِسًا بِمِثْلِ هَذَا الْمَجِيءِ، يَعْنِي أَنَّ الْبَاءَ عَلَى مَا سَبَقَ لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ. (فَوَضَعَهُ) : أَيْ سَلْمَانُ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَ مَا سَبَقَ مِنْ وَضْعِهِ. (بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ) : خَاطَبَهُ بِاسْمِهِ ثَانَوِيًّا تَلَطُّفًا عَلَى مُقْتَضَى رَسْمِهِ وَإِشْعَارًا بِدُخُولِهِ فِي السِّلْمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَتَفَاؤُلًا، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَفِي وَضْعِ اسْمِهِ عَلَى صُورَةِ التَّثْنِيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعَدُّدِ قَضِيَّتِهِ وَاسْتِسْلَامِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (فَقَالَ: هَدِيَّةٌ لَكَ) : قَالَ الْحَنَفِيُّ: لَعَلَّ اخْتِيَارَ كَلِمَةِ «عَلَى» فِي الصَّدَقَةِ وَكَلِمَةِ «اللَّامِ» فِي الْهَدِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الضُّرِّ فِيهَا وَهُوَ الذُّلُّ، وَعَدَمِهِ فِي الْهَدِيَّةِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ، انْتَهَى. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ تَارَةً يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَتَارَةً بِعَلَى كَشَهِدَ لَهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ، وَحَكَمَ لَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ، وَدَعَا لَهُ وَدَعَا عَلَيْهِ، لَا أَنَّ اللَّامَ مَوْضُوعَةٌ

فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لِلنَّفْعِ وَعَلَى لِلضُّرِّ، مَعَ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَصْحَابِ لَيْسَتْ لِلضَّرَرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) نَعَمِ، الِاقْتِصَارُ فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى خِطَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْمِيمِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الصَّدَقَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْقَصْدَ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ مُشَارِكٌ لَهُ فِيمَا هُوَ الْغَرَضُ مِنَ الصَّدَقَةِ تَبَعًا لَهُ لَوْ جَازَتْ لَهُ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ) : أَيْ بِطَرِيقِ الِانْبِسَاطِ. (ابْسُطُوا) : دَفْعًا لِوَهْمِهِمْ أَنَّ هَذِهِ مُخْتَصَّةٌ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا، وَإِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ الْآدَابِ مَعَ الْخَدَمِ وَالْأَصْحَابِ إِظْهَارًا لِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ وَالْكَرْمِ الْعَمِيمِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْبَسْطِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ مِنْ حَدِّ «نَصَرَ» عَلَى مَا ضُبِطَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَمَعْنَاهُ أَوْصِلُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَائِدَةِ وَكُلُوا مِنْهَا مَعَنَا، فَبَسْطُ الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنْ إِيصَالِهَا إِلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) فَأَيْدِيكُمْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَوْ مِنَ الْبَسْطِ بِمَعْنَى النَّشْرِ أَيِ انْشُرُوا الطَّعَامَ فِي الْمَجْلِسِ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَيْهِ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ أَوِ اقْسِمُوا هَذِهِ الْهَدِيَّةَ بَيْنَكُمْ، أَوْ مَعْنَاهُ انْبَسِطُوا مِنْ سَلْمَانَ وَاسْتَبْشِرُوا بِقُدُومِهِ تَلَطُّفًا لَهُ وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: لِيَكُنْ وَجْهُكَ بَسْطًا أَيْ مُنْبَسِطًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ: «يَبْسُطُنِي مَا يَبْسُطُهَا» أَيْ يَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سُرَّ انْبَسَطَ وَجْهُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «انْشَطُوا» بِالنُّونِ ثُمَّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ أَوِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ، فَيَكُونُ مِنَ النَّشَاطِ قَرِيبًا مِنَ الِانْبِسَاطِ أَيْ: كُونُوا ذَا نَشَاطٍ لِلْأَكْلِ مَعِي، وَبِهِ صَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ حَدِّ «ضَرَبَ» ، وَيُقَالُ فِي مَعْنَاهُ افْتَحُوا الْعُقْدَةَ، وَلَعَلَّ مَائِدَةَ سَلْمَانَ كَانَتْ فِي لِفَافَةٍ مَعْقُودَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذِهِ؟» ، وَلَا يُشْكِلُ بِمَا فِي النِّهَايَةِ، يُقَالُ: نَشَطْتُ الْعُقْدَةَ إِذَا عَقَدْتُهَا وَأَنْشَطْتُهَا إِذَا حَلَلْتُهَا ; لِمَا فِي التَّاجِ أَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَمَصْدَرُهُ الْأُنْشُوطَةُ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنَ الْإِنْشَاطِ وَهُوَ الْحَلُّ، وَفِي قَلِيلٍ مِنَ النُّسَخِ: انْشَقُّوا، بِالنُّونِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ مِنَ الِانْشِقَاقِ بِمَعْنَى الِانْفِرَاجِ وَالتَّفَرُّقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِالِانْشِقَاقِ لِيَدْنُوَ سَلْمَانُ، وَيَقْرُبَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَجْلِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّهَا مِلْكُهُ اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ بَاطِنِ الْأَمْرِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ سَلْمَانَ كَانَ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ مِنْ مَالِكِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدَى لَهُ أَنْ يَعُمَّ الْحَاضِرِينَ مِمَّا أُهْدِيَ إِلَيْهِ، وَحَدِيثُ: «مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ فَجُلَسَاؤُهُ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا» وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا كَمَا قَالَهُ مِيرَكُ مُؤَيِّدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْأُصُولِ: الْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يُدَاوِمُونَ مَجْلِسَهُ وَيَعْتَكِفُونَ بَابَهُ وَيَتَفَقَّدُونَ أُمُورَهُ لَا كُلُّ مَنْ كَانَ جَالِسًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، انْتَهَى. وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ الْهَدَايَا مُشْتَرَكٌ فَلَيْسَ لِلَفْظِهِ أَصْلٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي مَعْنَى الضَّعِيفِ، وَوَقَعَ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ أُتِيَ بِهَدِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ جَسِيمَةٍ، وَكَانَ عِنْدَهُ فَقِيرٌ مُسَافِرٌ فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا، الْهَدَايَا مُشْتَرَكٌ، فَقَالَ الشَّيْخُ بِلِسَانِهِ أَمَاتَنْهَا خُوشْتَرْكْ أَيْ الِانْفِرَادُ أَحْسَنُ، فَظَنَّ الْفَقِيرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الِانْفِرَادَ لِنَفْسِهِ فَتَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لَكَ تَنْهَا خُوشْتَرْكْ، فَشَرَعَ فِي أَخْذِهِ، فَعَجَزَ عَنْ حَمْلِهِ وَحْدَهُ، فَأَشَارَ الشَّيْخُ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا يُوسُفَ أُتِيَ بِهَدِيَّةٍ مِنَ النُّقُودِ فَقِيلَ لَهُ: الْهَدَايَا مُشْتَرَكٌ، فَقَالَ: اللَّامُ لِلْعَهْدِ ; أَيْ: الْهَدَايَا مِنَ الرُّطَبِ وَالزَّبِيبِ وَأَمْثَالِهَا، فَانْظُرِ الْفَرْقَ الْبَيِّنَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. (ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ) : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ. (عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : هَذَا دَلِيلُ التَّرْجَمَةِ، وَأَتَى بِثُمَّ الدَّالَّةَ عَلَى التَّرَاخِي لِمَا فِي كُتُبِ السِّيَرِ أَنَّ سَلْمَانَ لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَظِرُ رُؤْيَةَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي أَخْبَرَهُ عَنْهَا آخِرُ مَشَايِخِهِ، أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَبِيبٌ عَنْ قَرِيبٍ وَمِنْ عَلَامَاتِهِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الَّذِي خُتِمَ بِهِ النُّبُوَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلِ الصَّدَقَةَ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَلَمَّا شَاهَدَ سَلْمَانُ الْعَلَامَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ انْتَظَرَ الْآيَةَ الثَّالِثَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ نُقَبَاءَ الْأَنْصَارِ فَشَيَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَتَهُ، وَذَهَبَ مَعَهَا إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَجَلَسَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَنْتَظِرُ دَفْنَهُ، فَجَاءَ سَلْمَانُ وَاسْتَدَارَ خَلْفَهُ لِيَنْظُرَ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِدْبَارَهُ عَرَفَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَثْبِتَ شَيْئًا وُصِفَ لَهُ، فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرَ سَلْمَانُ إِلَى الْخَاتَمِ. (فَآمَنَ بِهِ) : بِلَا تَرَاخٍ وَمُهْلَةٍ لَمَّا رَأَى مِنَ انْطِبَاقِ أَوْصَافِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي

التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْفَاءُ مُتَفَرِّعٌ عَلَى مَجْمُوعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ. (وَكَانَ لِلْيَهُودِ) : مُفْرَدُهُ الْيَهُودِيُّ ; أَيْ: كَانَ سَلْمَانُ مَوْثُوقًا عِنْدَهُمْ بِحِبَالِ رِقِّيَتِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ آمَنَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: «عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُمْ» ، لَكِنْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ: قَدِمَ فِي رَكْبٍ مِنْ بَنِي كَلْبٍ إِلَى وَادِي الْقُرَى، فَظَلَمُونِي وَبَاعُونِي عِنْدَ ابْنِ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ. وَفِي أُخْرَى: فَاشْتَرَتْنِي امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ. فَيُحْتَمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي اشْتِرَائِهِ، أَوْ يُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَجَعْلِ التَّابِعِ فِي دَائِرَةِ الْمَتْبُوعِ وَالْفَرْعِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ; أَيْ: لِبَعْضِ الْيَهُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ رُفَقَاءَهُ مِنْ بَنِي كَلْبٍ بَاعُوهُ فِي وَادِي الْقُرَى لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ ثُمَّ بَاعَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ. . . امْرَأَةً بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: تَدَاوَلَنِي بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ. (فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قِيلَ: أَيْ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَقِيلَ: أَمَرُهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ ; لِمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَنَّهُ كُوتِبَ فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابَتِهِ، وَقِيلَ: أَدَّى بَدَلَ كِتَابَتِهِ، وَسَمَّاهُ اشْتِرَاءً مَجَازًا، وَحَاصِلُ مَعْنَى الْكُلِّ أَنَّهُ خَلَّصَهُ عَنْ رِقِّهِ. (بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا) : قِيلَ: أَرْبَعُونَ أُوقِيَّةً مِنْ فِضَّةٍ، وَقِيلَ: مِنْ ذَهَبٍ، وَالْأُوقِيَّةُ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. (عَلَى أَنْ يَغْرِسَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. (لَهُمْ) : أَيْ لِمَنْ يَمْلِكُ سَلْمَانَ. (نَخِيلًا) : هُوَ وَالنَّخْلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالْوَاحِدَةُ النَّخْلَةُ، ثُمَّ «عَلَى» بِمَعْنَى «مَعَ» ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ «وَعَلَى» بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ شِرَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةً ; إِذْ لَا يَصِحُّ جَعْلُ الْغَرْسِ دَاخِلَ الثَّمَنِ وَلَا شَرْطًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، سَوَاءٌ جُعِلَ ضَمِيرُ «يَغْرِسَ» رَاجِعًا إِلَى سَلْمَانَ أَوْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْبَائِعَ قَدِ اسْتَثْنَى بَعْضًا مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ لِنَفْسِهِ مُدَّةً مَجْهُولَةً، وَهِيَ غَرْسُهُ لِتِلْكَ النَّخْلَةِ وَعَمَلُهُ فِيهَا وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَرَّرْنَاهُ مَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ، فَكَاتَبْتُ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْسِنُهَا، وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً ذَهَبًا، وَزَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَبَقِيَ الذَّهَبُ، فَجَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الْبَيْضَةِ مِنَ الذَّهَبِ مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَلْمَانَ: «أَدِّ هَذِهِ عَنْكَ» . (فَيَعْمَلَ سَلْمَانُ) : بِالنَّصْبِ مَعْطُوفٌ عَلَى «يَغْرِسَ» فَيُفِيدُ أَنَّ عَمَلَهُ مِنْ جُمْلَةٍ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَفِي نُسْخَةٍ «لِيَعْمَلَ» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُ مُتَبَرِّعٌ، وَهُوَ يُصَحِّحُ أَنَّ شِرَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةً، ثُمَّ فِي تَصْرِيحِ سَلْمَانَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فَاعِلَ «يَغْرِسُ» هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: أَيْ سَلْمَانُ، فَوَهْمٌ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأُصُولِ فِيهِ كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَيَعْمَلُ فِيهَا سَلْمَانُ. فَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ النَّخْلِ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ النَّخْلَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَهُ نَظَرًا لِلَّفْظِ وَالْأَوْلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: النَّخْلُ مَعْرُوفٌ كَالنَّخِيلِ وَيُذَكَّرُ وَوَاحِدَتُهُ نَخْلَةٌ جَمْعُهَا نَخِيلٌ، انْتَهَى. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: (نَخْلٍ مُنْقَعِرٌ) ، وَ (نَخْلٍ خَاوِيَةٌ) . (حَتَّى تُطْعِمَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ، لَا غَيْرَ عَلَى مَا فِي أَصْلِنَا، وَهُوَ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقَدْ سَبَقَ وَجْهُهَا، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تُثْمِرَ، يُقَالُ: أَطْعَمَتِ النَّخْلَةُ إِذَا أَثْمَرَتْ، قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّ رِوَايَتَنَا بِالتَّاءِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ لَكِنْ بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ لَا غَيْرَ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّهُ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فَلَيْسَ هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَأُصُولِ مَشَايِخِنَا، وَاللَّهُ الْهَادِي، انْتَهَى. وَأَرَادَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ مُلَّا حَنَفِي فَإِنَّهُ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ أَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ وَالِدِ مِيرَكَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ يُرْوَى مَعْرُوفًا وَمَجْهُولًا بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَمِنْ تَحْتٍ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ «أَنْ» بَعْدَ «حَتَّى» . وَفِي النِّهَايَةِ فِي الْحَدِيثِ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُطْعِمَ. يُقَالُ: أَطْعَمَتِ الشَّجَرَةُ إِذَا أَثْمَرَتْ، وَأَطْعَمَتِ الثَّمَرَةُ إِذَا أَدْرَكَتْ أَيْ صَارَتْ ذَاتَ طَعْمٍ يُؤْكَلُ مِنْهَا. وَرُوِيَ حَتَّى تُطْعَمَ أَيْ: تُؤْكَلَ، وَلَا تُؤْكَلُ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَتِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ وَجْهُ الرِّوَايَةِ مَعْرُوفًا وَمَجْهُولًا، تَمَّ كَلَامُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْوَجْهَيْنِ إِذَا ثَبَتَتْ فِي كَلِمَةٍ فِي حَدِيثٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُهُمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ، خُصُوصًا مَعَ اخْتِلَافِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ

الثَّمَرَةُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُمَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَالنَّخْلَةُ فِي هَذَا الْبَابِ هِيَ الْفَاعِلُ، فَمَعْنَى إِثْمَارِهَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: حَتَّى تُؤْكَلَ النَّخْلَةُ، فَمَا أَبْعَدَهَا عَنِ التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَطْعَمَ النَّخْلُ إِذَا أَدْرَكَ ثَمَرُهَا، فَهُوَ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى غَيْرِ أَيْ مَأْكُولٍ كَالثَّمَرَةِ جَازَ كَوْنُهُ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا كَمَا عُلِمَ مِنْ صَنِيعِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ، وَبِهِ انْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْضًا، وَرُوِيَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: يُؤْكَلُ ثَمَرُهَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، وَلَا يُعْدَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ، فَتَدَبَّرْ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كُتُبِ السِّيَرِ: أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَانُوا سَلْمَانَ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِإِعَانَتِهِ، فَجَمَعُوا الْفُسْلَانِ عَلَى مِقْدَارِ مَقْدِرَتِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ لَهُ ثَلَثُمِائَةُ فَسَيْلٍ، ثُمَّ حَفَرَ سَلْمَانُ لَهَا فِي أَرْضٍ عَيَّنَهَا أَصْحَابُهُ، وَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْغَرْسِ أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ. (فَغَرَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ بِيَدَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ. (النَّخْلَ) : أَيْ جَمِيعَهَا. (إِلَّا نَخْلَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. (وَاحِدَةً) : لِلتَّأْكِيدِ. (غَرَسَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَمَلَتْ) : أَيْ أَطْعَمَتْ. (النَّخْلُ) : أَيْ جَمِيعُهَا. (مِنْ عَامِهَا) : أَيْ مِنْ سَنَةِ غَرْسِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ: فِي عَامِهَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِضَافَةُ الْعَامِ إِلَيْهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَغْرُوسَةٌ فِيهِ، وَالضَّمِيرُ إِلَى النَّخِيلِ، وَقَالَ الْعِصَامُ: أَيْ مِنْ عَامِ الْغَرْسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فِي عَامِهِ، وَالضَّمِيرُ لِلْغَرْسِ، انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ، وَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ أَنَّ النَّخْلَ لَا تَحْمِلُ مِنْ عَامِ غَرْسِهَا. (وَلَمْ تَحْمِلْ نَخْلَةٌ) : بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فَقَطْ فِي أَصْلِنَا الْمُصَحَّحِ بِالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِيَ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَمِنْ تَحْتٍ وَوَجْهُ كِلْتَيْهِمَا ظَاهِرٌ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَأْنُ هَذِهِ) : أَيْ مَا سَبَبُ هَذِهِ النَّخْلَةِ الْوَاحِدَةِ فِي أَنَّهَا مَا حَمَلَتْ كَبَقِيَّةِ النَّخْلَةِ. (فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا غَرَسْتُهَا) : وَعَدَمُ حَمْلِ هَذِهِ النَّخْلَةِ فِي عَامِ غَرْسِهَا وَقَعَ عَلَى سُنَنِ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا عَرَفَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِالْغَرْسِ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ بَلْ مُجَرَّدَ الْمُعَاوِنَةِ. (فَنَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَرَسَهَا فَحَمَلَتْ مِنْ عَامِهِ) : أَيْ عَامَ الْغَرْسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: «مِنْ عَامِهَا» وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَانَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْمُعْجِزَةَ بِإِطْعَامِ الْكُلِّ سِوَى مَا لَمْ يَغْرِسْهُ كُلَّ الظُّهُورِ، وَيَتَسَبَّبَ لِظُهُورِ مُعْجِزَةٍ أُخْرَى وَهِيَ غَرْسُ نَخْلَةِ عُمَرَ ثَانِيًا وَإِطْعَامُهَا فِي عَامِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ) : بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ. (بْنُ الْوَضَّاحِ) : بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ، أَبُو الْهَيْثَمِ، بَصْرِيٌّ صَدُوقٌ. (أَخْبَرَنَا أَبُو عَقِيلٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ اسْمُهُ بَشِيرُ بْنُ عُقْبَةَ. (الدَّوْرَقِيُّ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى بَلَدٍ بِفَارِسَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ. (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) : بِفَتْحِ نُونِ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ، رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ، وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ مَالِكُ بْنِ قُطَعَةَ، بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الْمَحْفُوظُ بِنُونٍ مُعْجَمَةٍ، وَضَبَطَهُ شَارِحٌ بِمُوَحَّدَةٍ فَمُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمَحَلِّ بِالْبَصْرَةِ، انْتَهَى. وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّهُ كَلَامُ الْعِصَامِ وَعِبَارَتُهُ بِالنُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ كَالْمُوَحَّدَةِ، الْعُوفِيُّ نِسْبَةً إِلَى الْعُوفَةِ كَالْكُوفَةِ، وَهِيَ مَوْضِعٌ بِالْبَصْرَةِ، انْتَهَى. وَأَرَادَ بِالْمُوَحَّدَةِ: الضَّادَ الْمَنْقُوطَةَ ; لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ عَنِ الْبَاءِ بِالْمُوَحَّدَةِ التَّحْتَانِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بِشْرٍ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ إِلَى أَنَّهُ مَزِلَّةٌ إِلَى الْفَسَادِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَآلَ مُتَّحِدٌ عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكُ

وَاحِدٌ، فَكُلٌّ إِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشِيرُ. (قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ) : وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيُّ. (الْخُدْرِيَّ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي خُدْرَةَ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَ أُحُدٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَرْبَابُ الصِّحَاحِ السِّتَّةِ. (عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا. (يَعْنِي) : قَائِلُهُ أَبُو عَقِيلٍ، وَضَمِيرُ يَعْنِي لِأَبِي نَضْرَةَ. (خَاتَمَ النُّبُوَّةِ) : أَيْ لَا الْخَاتَمُ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ. (فَقَالَ) : أَيْ أَبُو سَعِيدٍ. (كَانَ) : أَيِ الْخَاتَمُ. (فِي ظَهْرِهِ) : ظَرْفُ لَغْوٍ. (بَضْعَةً) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: قَدْ تُكْسَرُ الْبَاءُ، أَيْ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ، وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَصِفَتُهَا. (نَاشِزَةً) : بِالزَّايِ، أَيْ: مُرْتَفِعَةً عَنِ الْجِسْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «بَضْعَةٌ نَاشِزَةٌ» اسْمُ كَانَ، «وَفِي ظَهْرِهِ» ، خَبَرُهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ «كَانَ» نَاقِصَةٌ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الْخَاتَمِ وَالظَّرْفُ خَبَرُهُ، وَ «بَضْعَةٌ» إِمَّا حَالٌ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَمَا أَبْعَدَ الْعِصَامُ عَنِ الْمَقَامِ بِقَوْلِهِ: وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَحِينَئِذٍ «فِي ظَهْرِهِ» خَبَرُ كَانَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ بَعْدَ تَعْيِينِ مَحَلِّهِ فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: «بَضْعَةٌ نَاشِزَةٌ» ، وَجَعْلُ «كَانَ» تَامَّةً لَا يُلَائِمُ الْجَوَابَ كَجَعْلِ «بَضْعَةٌ» اسْمَ «كَانَ» ، «وَفِي ظَهْرِهِ» خَبَرُهُ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْقِدْ بَصَرَهُ، انْتَهَى. فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ فَتَحَ بَصَرَهُ وَرَأَى خَبَرَهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «فِي ظَهْرِهِ» حَالٌ مِنْ «بَضْعَةٍ» أَوْ ظَرْفٌ لِكَانَ، وَ «بَضْعَةً» خَبَرُ «كَانَ» بِنَاءً عَلَى نَقْصِهَا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، وَيَجُوزُ جَعْلُهَا تَامَّةً فَيَكُونُ مَرْفُوعَةً، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ تَرْجِيحَ الثَّانِي، قَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى النَّقْضِ ثُبُوتٌ فِي ظَهْرِهِ لِلْبَضْعَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ، انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، بَلْ هُوَ مَقْصُودٌ وَأَيُّ مَقْصُودٍ، كَيْفَ وَقَدْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَمَامٍ لَا مِنْ خَلْفٍ، فَتَعَيَّنَ ذِكْرُ «فِي ظَهْرِهِ» رَدًّا لِهَذَا الزَّاعِمِ، انْتَهَى. مَعَ أَنَّ زِيَادَةَ الْإِفَادَةِ فِي الْجَوَابِ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي فَصْلِ الْخِطَابِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: «مِنْ بَضْعَةٍ» غَيْرُ صَحِيحٍ بِنَاءً عَلَى إِعْرَابِهِ ; لِأَنَّ الْحَالَ إِنَّمَا يَتَقَدَّمُ إِذَا كَانَ صَاحِبُهَا نَكِرَةٌ مَحْضَةٌ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَائِبَةُ تَخْصِيصٍ، ثُمَّ فِي شَرْحِ السُّنَّةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دَعْنِي أُعَالِجِ الَّذِي بِظَهْرِكَ فَإِنِّي طَبِيبٌ، فَقَالَ: أَنْتَ رَفِيقٌ، وَاللَّهُ الطَّبِيبُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الَّذِي فِي ظَهْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَتَوَهَّمَ الرَّائِي أَنَّهُ سَلْعَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنْ فَضَلَاتِ الْبَدَنِ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُعَالَجُ بَلْ كَلَامُكَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْعِلَاجِ حَيْثُ سَمَّيْتَ نَفْسَكَ طَبِيبًا وَاللَّهُ هُوَ الطَّبِيبُ الْمُدَاوِي الْحَقِيقِيُّ الشَّافِي عَنِ الدَّاءِ الْعَالِمُ بِحَقِيقَةِ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ الْقَادِرُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْبَقَاءِ وَأَنْتَ تَرْفُقُ بِالْمَرِيضِ فِي الْعِلَاجِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ. (أَبُو الْأَشْعَثِ) : بِالْمُثَلَّثَةِ. (الْعِجْلِيُّ) : بِكَسْرِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي عِجْلٍ. (الْبَصْرِيُّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتُكْسَرُ، صَدُوقٌ. (أَخْبَرَنَا حَمَّادُ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ. (بْنُ زَيْدٍ) : احْتَرَزَ بِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بَصْرِيٌّ، ثِقَةٌ، أُخْرِجَ حَدِيثُهُ فِي الصِّحَاحِ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ أَحَدٌ أَتْقَنَ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ يَحْيَى: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْفَظَ مِنْهُ، وَقَالَ الْمَهْدِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْهُ. (عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ) : هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيُّ، ثِقَةٌ، لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ إِلَّا ابْنُ الْقَطَّانِ وَكَأَنَّهُ بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي الْوِلَايَةِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي صِحَاحِهِمْ. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ) : بِمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِيمٌ مَكْسُورَةٌ كَنَرْجِسَ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَضْبُوطٌ بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ وَيُلَائِمُهُ قَوْلُ الْعِصَامِ كَجَعْفَرٍ، وَبَيَّنَّا وَجْهَهُمَا فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، صَحَابِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ جِئْتُهُ. (وَهُوَ فِي نَاسٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ أُنَاسٍ ; أَيْ جَمَاعَةٍ

مِنَ النَّاسِ. (مِنْ أَصْحَابِهِ) : وَالْجُمْلَةُ حَالٌ وَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِهِ، أَيْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي نَاسٍ، أَيْ مَعَ نَاسٍ، غَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ وُجُودِ قَوْلِهِ وَهُوَ كَمَا لَا يَخْفَى. (فَدُرْتُ) : بِضَمِّ الدَّالِ مَاضٍ مِنَ الدَّوْرِ عَطْفٌ عَلَى أَتَيْتُ. (هَكَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ دَوَرَانِهِ. (مِنْ خَلْفِهِ) : لِبَيَانِهِ، أَيِ انْقَلَبْتُ مِنْ مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ وَذَهَبْتُ حَتَّى وَقَفْتُ خَلْفَهُ. (فَعَرَفَ) : أَيْ بِنُورِ النُّبُوَّةِ أَوْ بِقَرِينَةِ الدَّوْرَةِ. (الَّذِي أُرِيدُ) : أَيْ أَنْوِيهِ وَأَقْصِدُهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْخَاتَمِ. (فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَأَيْتُ) : أَيْ أَبْصَرْتُ. (مَوْضِعَ الْخَاتَمِ) : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ، أَيِ الطَّابَعِ الَّذِي خُتِمَ بِهِ كَمَا مَرَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ مَا أُرِيدُ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ مَنْكِبِهِ، فَدُرْتُ حَتَّى قُمْتُ خَلْفَهُ فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ. (عَلَى كَتِفَيْهِ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِرَأَيْتُ، وَالْمُرَادُ قَرِيبًا مِنْ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ كَمَا مَرَّ، وَلَا يُنَافِيهِ رِوَايَةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَالْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الْخَاتَمِ بَعِيدٌ جِدًّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَقَالَ الْعِصَامُ: أَيْ مُشْرِفًا عَلَى كَتِفَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ يَزِيدُ عَلَى ارْتِفَاعِ كَتِفَيْهِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ قَالَ ثَرِيدًا، ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى جَمْعًا عَلَيْهَا خِيلَانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ، انْتَهَى. وَفِي رِوَايَةٍ: عِنْدَ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَرُوِيَ: فِي نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ، وَالنُّغْضُ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالنَّاغِضُ مِنْهُ عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلِ، أَعْلَى الْكَتِفِ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَظَمُ الرَّقِيقُ الَّذِي عَلَى طَرَفِهِ وَهُوَ الْغُضْرُوفُ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَيِّدَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ أَنَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَّهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَأَنَّهُ عَلَى كَتِفَيْهِ أَوْ عَلَى كَتِفِهِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: السِّرُّ فِي وَضْعِ الْخَاتَمِ عَلَى جِهَةِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ أَنَّ الْقَلْبَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي خَبَرٍ مَقْطُوعٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ، فَأُرِيَ فِي النَّوْمِ جَسَدًا كَالْبِلَّوْرِ وَيُرَى دَاخِلُهُ مِنْ خَارِجِهِ وَالشَّيْطَانَ فِي صُورَةِ ضِفْدَعٍ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ حِذَاءَ قَلْبِهِ لَهُ خُرْطُومٌ كَالْبَعُوضِ قَدْ أُدْخِلَ إِلَى قَلْبِهِ يُوَسْوِسُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الْبَرِّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ إِلَى مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْفَائِقِ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ سَأَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ مِنَ ابْنِ آدَمَ فَأَرَاهُ، فَإِذَا رَأْسُهُ مِثْلُ رَأْسِ الْحَيَّةِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى ثَمَرَةِ الْقَلْبِ، فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ، وَإِذَا تَرَكَ أَتَاهُ وَحَدَّثَهُ. وَلَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُولَدُ الْإِنْسَانُ وَالشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِهِ فَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ، وَمَعْنَى جَاثِمٍ: وَاضِعٌ خُرْطُومَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ عَلَى وَجَعِ الِاعْتِنَاءِ وَالِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمَّا مَلَأَ قَلْبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكْمَةً وَيَقِينًا خَتَمَ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ عَلَى الْوِعَاءِ الْمَمْلُوءِ مِسْكًا، وَأَمَّا وَضْعُهُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ فَلِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ مَدْخَلُ الشَّيْطَانِ وَمَحَلُّ وَسْوَسَتِهِ. (مِثْلَ الْجُمْعِ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَسُكُونِ مِيمٍ وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ كَسْرَ الْجِيمِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْخَاتَمِ فِي النِّهَايَةِ، يُرِيدُ مِثْلَ جَمْعِ الْكَفِّ، وَهُوَ أَنْ تَجْمَعَ الْأَصَابِعَ وَتَضُمَّهَا، يُقَالُ ضَرَبَهَا بِجُمْعِ كَفِّهِ بِضَمِّ الْجِيمِ، انْتَهَى. فَهُوَ فُعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالذُّخْرِ بِمَعْنَى الْمَذْخُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَشْبِيهًا بِهِ فِي الْمِقْدَارِ وَأَنْ يَكُونَ تَشْبِيهًا فِي الْهَيْئَةِ الْمَجْمُوعَةِ وَهُوَ أَنْسَبُ لِيُوَافِقَ قَوْلَهُ: «زِرُّ الْحَجْلَةِ» إِلَّا أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ خُطُوطٌ كَمَا يَظْهَرُ عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ الْمَجْمُوعَةِ كُلُّ خَطٍّ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ كَأَنَّهُ جَمْعُ كَفٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ كَأَنَّهُ جُمْعُ يَعْنِي الْكَفَّ الْجُمْعَ، وَقَبَضَ بِيَدِهِ عَلَى كَفِّهِ. وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ عَنْهُ: فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ عَلَى نُغْضِ الْكَتِفِ بِمِثْلِ الْجُمْعِ. قَالَ حَمَّادٌ: جُمْعُ الْكَفِّ وَجَمَعَ حَمَّادٌ كَفَّهُ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ. (حَوْلَهَا) : أَيْ حَوْلَ الْخَاتَمِ وَأُنِّثَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قِطْعَةُ لَحْمٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: «كَانَ الْخَاتَمُ بَضْعَةً نَاشِزَةً» ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: أَيْ حَوْلَ الْمِثْلِ أَوْ حَوْلَ الْجُمْعِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الشَّعَرَاتِ أَوْ أَجْزَاءَ تَتَصَوَّرُ فِي الْجَمْعِ فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الْعِصَامِ: أَيْ حَوْلَ الْخَاتَمِ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ النُّبُوَّةِ. فَاحْفَظْهُ فَإِنَّ تَوْجِيهَ تَأْنِيثِ هَذَا

الضَّمِيرِ مِنْ مَزَالِّ الْأَقْدَامِ، ثُمَّ نَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِهِ. (خِيلَانٌ) : وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أُخْرَى أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلْخَاتَمِ، وَهِيَ بِكَسْرِ مُعْجَمَةٍ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ جَمْعُ الْخَالِ، وَهُوَ الشَّامَةُ فِي الْجَسَدِ. (كَأَنَّهَا) : أَيِ الْخِيلَانُ. (ثَآلِيلُ) : بِمُثَلَّثَةٍ هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ عَلَى زِنَةِ قَنَادِيلَ وَهُوَ جَمْعُ ثُؤْلُولٍ وَهِيَ الْحَبَّةُ الَّتِي تَظْهَرُ فِي الْجِلْدِ مِثْلَ الْحُمُّصَةِ فَمَا دُونَهَا، يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: زُخْ بِضَمِّ زَايٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ. (فَرَجَعْتُ) : أَيْ مِنْ خَلْفِهِ دَائِرًا. (حَتَّى اسْتَقْبَلْتُهُ) : أَيْ وَقَفْتُ أَوْ قَعَدْتُ مُسْتَقْبِلًا لَهُ. (فَقُلْتُ) : شُكْرًا لِإِلْقَائِهِ الرِّدَاءَ حَتَّى رَأَيْتُ الْخَاتَمَ. (غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) : خَبَرٌ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) ، أَوْ إِنْشَاءٌ أُرِيدَ بِهِ زِيَادَةُ الْمَغْفِرَةِ أَوْ إِثْبَاتُهَا لَهُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ لِأُمَّتِهِ الْمَرْحُومَةِ. (فَقَالَ وَلَكَ) : أَيْ وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ بِالْخُصُوصِ أَيْضًا حَيْثُ اسْتَغْفَرْتَ لِي أَوْ سَعَيْتَ لِرُؤْيَةِ خَاتَمِي أَوْ آمَنْتَ بِي وَانْقَدْتَ لِي، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ دُعَاءَهُ أَفْضَلُ مِنْ دُعَائِهِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ دُونَهُ صُورَةً فَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) . (فَقَالَ الْقَوْمُ) : أَيِ الَّذِي يُحَدِّثُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، وَقَائِلُ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ أَوِ الْمُرَادُ أَصْحَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَقَوْلُهُ: (اسْتَغْفَرَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قِيلَ: خَبَرٌ أَوِ اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةً فَيَتَعَيَّنُ الِاسْتِفْهَامُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتِفْهَامٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هُوَ أَوِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَكُمْ) : إِذْ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَخَلَا قَوْلُهُ «نَعَمْ» عَنِ الْفَائِدَةِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْحَنَفِيِّ: إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاضِحٌ وَإِلَّا فَفِيهِ الْتِفَاتٌ إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فَقُلْتُ: ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ: لَوْ أُرِيدَ بِالْقَوْمِ تَلَامِذَةَ ابْنِ سَرْجِسَ لَمْ يَحْتَجْ لِدَعْوَى الِالْتِفَاتِ، انْتَهَى. وَهُوَ غَفْلَةٌ عَنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ الصَّرِيحِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الصَّحَابَةُ، تَمَّ كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ الصَّرِيحُ غَيْرُ صَرِيحٍ وَمَعَ أَنَّهُ غَفْلَةٌ عَنْ سَائِرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ أَنَّهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ قَالُوا: قَدِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي أُخْرَى لَهُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَلِ اسْتَغْفَرَ لَكَ؟ وَعُيِّنَ الْقَائِلُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ سَمُرَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ بِلَفْظِ «قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَغْفَرَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» . فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قَائِلَ «فَقَالَ الْقَوْمُ» هُوَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ الرَّاوِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ حُضَّارُ مَجْلِسِ نَقْلِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ إِلَى عَاصِمٍ، فَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى الْقَوْمِ أَيْ إِلَى جَمِيعِهِمْ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، يَعْنِي كَقَوْلِهِ: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَوْمَ أَيْضًا سَأَلُوهُ كَمَا سَأَلَ عَاصِمٌ فَتَارَةً نَسَبَ السُّؤَالَ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً وَتَارَةً إِلَى نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا أَبْهَمَ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الرُّوَاةِ، قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِخْبَارِ تَثْبِيتُ رُؤْيَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِهِ مَعَهُ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا أَوْ قَالَ ثَرِيدًا. وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ قَالَ: أَتَرَوْنَ هَذَا الشَّيْخَ - يَعْنِي نَفْسَهُ - كَلَّمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مَعَهُ. مَعَ أَنَّ عَاصِمًا سَمِعَ هَذَا الْكَلَامِ مِنَ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَاسْتَثْبَتَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ عَنِ اسْتِغْفَارِهِ إِيَّاهُ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ صُحْبَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صُحْبَةٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذِكْرِهِ فِي الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ لَهُ صُحْبَةٌ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي اللِّقَاءِ وَالرُّؤْيَةِ وَالسَّمَاعِ، وَأَمَّا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ أَرَادَ الصُّحْبَةَ الَّتِي يَذْهَبُ إِلَيْهَا الْعُلَمَاءُ أُولَئِكَ قَلِيلًا، انْتَهَى. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَاصِمًا أَنْكَرَ أَوَّلًا صُحْبَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ مِنْهُ وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ اسْتَفْهَمَ عَنْهُ مُتَعَجِّبًا عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ

(باب ما جاء في شعر رسول الله)

ذَلِكَ وَأَثْبَتَ صُحْبَتَهُ وَرَوَى عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ قَوْلُهُ: «فَقَالَ: نَعَمْ» ; قَائِلُهُ عَاصِمٌ أَيْضًا، وَفَاعِلُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَكَذَا هُوَ فَاعِلُ قَوْلِهِ. (ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ) : أَيْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي جَوَابِ سُؤَالِنَا عَنْهُ اسْتَغْفَرَ لَكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ نَعَمِ، اسْتَغْفَرَ لَكُمْ أَيْضًا امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وَهَذَا مُحَصَّلُ تِلَاوَةِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ كَمَالِ شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ لِأُمَّتِهِ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الْبَتَّةَ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ: «وَلَكُمْ» تَغْلِيبُ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَتَغْلِيبُ الْحَاضِرِينَ عَلَى الْغَائِبِينَ. وَأَقُولُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ بِأَنْ يُقَالَ صَدَرَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ حُضَّارِ مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَقَالُوا لَهُ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ أَوْ إِخْبَارُ تَلَذُّذٍ، فَقَالَ هُوَ أَوِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمِ، الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَلَا هُوَ أَوِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِشْهَادًا وَاعْتِضَادًا، ثُمَّ لَمَّا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَصْحَابَ مَجْلِسِهِ صَدَرَ مِنْهُمْ نَحْوَ هَذَا السُّؤَالِ وَوَقَعَ مِنْهُ هَذَا الْجَوَابُ بِمُقْتَضَى الْحَالِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَارْتَفَعَ مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ مِنَ الْمُنَازَعَاتِ ثُمَّ الْخِطَابُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لِذَنْبِكَ) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) وَمَعَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ لَا ذَنْبَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، لَعَلَّهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ تَسْلِيَةً لِلْأُمَّةِ وَتَعْلِيمًا لَهُمْ أَوِ اسْتِغْفَارُهُ مِنَ الْخَطَرَاتِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ ; تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالذَّنْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْفَارِضِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ طَلَبُ الثَّبَاتِ عَلَى الْعِصْمَةِ الَّتِي وُهِبَتْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُونَ الْعَاقِبَةِ رِعَايَةً لِقَاعِدَةِ الْخَشْيَةِ فَإِنَّهَا نِهَايَةُ سُلُوكِ الْمُخْلِصِينَ وَغَايَةُ عُبُودِيَّةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَقِيلَ: كَانَ يَسْتَغْفِرُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُبَاحَاتِ أَوْ مِنْ رُؤْيَةِ تَقْصِيرٍ فِي الْعِبَادَاتِ ; وَلِذَا قِيلَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَقِيلَ: اسْتِغْفَارُهُ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِهِ فَهُوَ كَالشَّفَاعَةِ لَهُمْ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ فِي صِفَةِ شَعْرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : اعْلَمْ أَنَّ الشَّعْرَ حَيْثُ جَاءَ بِدُونِ التَّاءِ فَهُوَ بِفْتَحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ وَإِذَا جَاءَ بِالتَّاءِ فَهُوَ بِسُكُونِهَا وَيُفْتَحُ، وَفِي هَذَا الْبَابِ ثَمَانِيَةُ أَحَادِيثَ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ. (أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ أَيِ الطَّوِيلِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ وَاصِلًا أَوْ مُنْتَهِيًا. (إِلَى نِصْفِ أُذُنَيْهِ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ، قَالَ مِيرَكُ: أَضَافَ الْوَاحِدَ إِلَى التَّثْنِيَةِ كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ التَّثْنِيَتَيْنِ مَعَ ظُهُورِ الْمُرَادِ أَيْ نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُذُنَيْهِ، وَسَيَأْتِي بِلَفْظِ «أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» بِإِضَافَةِ الْجَمْعِ إِلَى التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الشَّعْرِ هُوَ الَّذِي جُمِعَ وَعُقِصَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُعْظَمُ شَعْرِهِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ حِينَ لَا يَفْرُقُ شَعْرَهُ، فَلَا يُنَافِي الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِهِ بَالِغًا مَنْكِبَيْهِ أَوْ وَاقِعًا عَلَيْهِمَا. (حَدَّثَنَا هَنَّادُ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ. (ابْنُ السَّرِيِّ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. (حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «أَخْبَرَنَا» . (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا

نُونٌ، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ الْمَدَنِيُّ، مَوْلَى قُرَيْشٍ، صَدُوقٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّعْلِيقِ، وَمُسْلِمٌ، وَالْأَرْبَعَةُ فِي صِحَاحِهِمْ، تَغَيَّرَ حِفْظُهُ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ. (عَنْ هِشَامٍ) : أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، اتَّفَقُوا عَلَى تَوْثِيقِهِ وَإِمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ أَحْيَانًا. (بْنِ عُرْوَةَ) : أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ بَحْرًا لَا يُكَدَّرُ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ. (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ. (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ) : أَفَادَتِ الْحِكَايَةُ الْمَاضِيَةُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِلصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِشَارَةً إِلَى تَكْرَارِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ، أَيْ: اغْتَسَلْتُ مُكَرَّرًا. (أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ، وَيُرْوَى بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أُبْرِزَ الضَّمِيرُ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْعَطْفُ وَلَا يُقَالُ اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى تَغْلِيبِ الْمُتَكَلِّمِ الْغَائِبِ كَمَا غُلِّبَ الْمُخَاطَبُ عَلَى الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) فَإِنْ قُلْتَ: النُّكْتَةُ هُنَاكَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلٌ فِي سُكْنَى الْجَنَّةِ، قُلْتُ هُنَا: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ النِّسَاءَ مَحَلُّ الشَّهَوَاتِ وَحَامِلَاتٌ لِلِاغْتِسَالِ فَكُنَّ أَصْلًا، انْتَهَى. أَوْ أَنَّ الْأَصْلَ إِخْبَارُ الشَّخْصِ عَنْ نَفْسِهِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مُعَدًّا لِغَسْلِهَا وَشَارَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ. (مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِاغْتَسَلَ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ الْغُسْلَانُ مُتَعَاقِبَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ تُقَدُّمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَدَبِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْمَعِيَّةِ يُحْتَمَلُ التَّسَتُّرُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ جَمَالِ حَالِهِمَا وَكَمَالِ حَيَائِهِمَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّكَشُّفِ يَحْتَمِلُ عَدَمُ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ بَلْ هُوَ صَرِيحٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: «مَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلَا رَأَى مِنِّي» يَعْنِي الْفَرْجَ. وَبِهِ انْدَفَعَ مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ مِنْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى عَوْرَةِ امْرَأَتِهِ وَبِالْعَكْسِ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ: سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، يَعْنِي عَنِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى عَوْرَةِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً فَقَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرَتْ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، انْتَهَى. وَفِي كَوْنِهِ نَصًّا مَحَلُّ نَظَرٍ إِذْ عَلَى تَقْدِيرِهِ يُنَاقِضُ مَا سَبَقَ عَنْهَا فَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى مَا عَدَا الْفَرْجِ مِنَ الْأَفْخَاذِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَنْكَشِفُ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، ثُمَّ قِيلَ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يَجْعَلُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا، وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا غَسْلُ أَيْدِيهِمَا خَارِجَ الْإِنَاءِ ثُمَّ تَنَاوُلُهُمَا مِنَ الْمَاءِ. قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ» ، فَقِيلَ: الْأُولَى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ: بَيَانِيَّةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: «مِنْ قَدَحٍ» بَدَلُ «مِنْ إِنَاءٍ» بِإِعَادَةِ الْجَارِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ ; أَيْ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ، وَمِنْ أَجْلِهَا قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَ هَذَا الْإِنَاءُ مِنْ شَبَهٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَلَفْظُهُ: «مِنْ تَوْرٍ مَنْ شَبَهٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «مِنْ إِنَاءٍ يُقَالُ لَهُ

الْفَرَقُ» ، وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ وَيُرْوَى بِتَسْكِينِ الرَّاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَقِيلَ صَاعَانِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، بِلَفْظِ: «قَدْرُهُ سِتَّةُ أَقْسَاطٍ» ، وَالْقِسْطُ بِكَسْرِ الْقَافِ نِصْفُ صَاعٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ اغْتِسَالِ الرَّجُلِ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ طَهَارَةِ الْمَرْأَةِ بِفَضْلِ الرَّجُلِ دُونَ الْعَكْسِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْمَنْعَ فِيمَا إِذَا خَلَّيَا بِهِ، وَالْجَوَازُ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَا وَتَمَسَّكَ كُلٌّ بِظَاهِرِ خَبَرٍ دَلَّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْجَمِيعِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى مَا تَسَاقَطَ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْجَوَازِ عَلَى مَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ بِذَلِكَ، جَمَعَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْجَوَازَ فِيمَا إِذَا اغْتَرَفَا مَعًا وَالْمَنْعُ فِيمَا اغْتَرَفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ. وَبَعْضُهُمْ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْفِعْلَ عَلَى الْجَوَازِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ. (وَكَانَ لَهُ) : أَيْ لِرَأْسِهِ الشَّرِيفِ. (شَعْرٌ) : أَيْ نَازِلٌ. (فَوْقَ الْجُمَّةِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَا سَقَطَ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ. (وَدُونَ الْوَفْرَةِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهُ رَاءٌ مَا وَصَلَ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ كَذَا فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالنِّهَايَةِ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَعْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمْرًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجُمَّةِ وَالْوَفْرَةَ لَيْسَ بِجُمَّةٍ وَلَا وَفْرَةٍ، لَكِنْ سَبَقَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ كَانَ شَعْرُهُ جُمَّةً وَعَلَى أَنَّ جُمَّتَهُ مَعَ عِظَمِهَا إِلَى أُذُنَيْهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا وَقَدْ رَوَى الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ. كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي الشَّمَائِلِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَوْقَ الْوَفْرَةِ دُونَ الْجُمَّةِ، قِيلَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ «فَوْقَ وَدُونَ» تَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ وَتَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِقْدَارِ فَقَوْلُهُ: «فَوْقَ الْجُمَّةِ» أَيْ: أَرْفَعُ مِنْهَا فِي الْمَحَلِّ، «وَدُونَ الْجُمَّةِ» أَيْ: أَقَلُّ مِنْهَا فِي الْمِقْدَارِ، وَكَذَا فِي الْعَكْسِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ لَوْلَا أَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثِ مُتَّحِدٌّ، انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ مُلَّا حَنَفِي: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ مَآلَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَّحِدٌ مَعْنًى وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِبَارَةِ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ اتِّحَادُ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ مَنْ دُونَهَا أَدَّتْ أَوْ أَدَّى مَعْنًى وَاحِدًا بِعِبَارَتَيْنِ، وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَدِيثِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ الْمُتَقَارِبَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ كَمَا مَرَّ فِي «أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ» حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ «الْفَلَجَ» اسْتُعْمِلَ مَكَانَ «الْفَرَقِ» وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ اغْتِسَالَ عَائِشَةَ وَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَقَعَ مُتَعَدِّدًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ نَاشِئًا مِنَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ «وَكَانَ» ، إِلَخْ، حَالٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَعْطُوفًا عَلَى «كُنْتُ» فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالِاغْتِسَالِ، فَيَكُونَانِ حَدِيثَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ غُسْلٍ اخْتِلَافُ حَالٍ وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي شَرْحِ شَمَائِلِهِ بِلَفْظِ «وَأَنْزَلُ مِنَ الْوَفْرَةِ» ، وَقَالَ: أَيْ مِنْ مَحَلِّهَا وَهُوَ شَحْمَةُ الْأُذُنِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِمَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ فِي نُسَخٍ هُنَا «فَوْقَ الْجُمَّةِ وَدُونَ الْوَفْرَةِ» ، وَهَذِهِ عَكْسُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: «أَنْزَلُ» غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَلَا أَحَدَ مِنَ الشُّرَّاحِ أَيْضًا ذَكَرَهُ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ) : بِفَتْحِ مِيمٍ فَكَسْرِ نُونٍ فَعَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، أَبُو جَعْفَرٍ الْأَصَمُّ، ثِقَةٌ، حَافِظٌ، رَوَى عَنْهُ أَصْحَابُ

الصِّحَاحِ. (أَخْبَرَنَا أَبُو قَطَنٍ) : بِقَافٍ فَمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ فِي آخِرِهِ نُونٌ، اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ قَطَنٍ الْبَصْرِيُّ، قَدَرِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ صَدُوقٌ ثِقَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ) : تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مَشْرُوحًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هَاهُنَا قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ جُمَّتُهُ تَضْرِبُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ) : أَيْ مُعْظُمُهَا يَصِلُ إِلَى الشَّحْمَةِ وَبَقِيَّتُهَا إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ أَوِ الْجِهَاتِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْجُمَّةَ مِنَ الشَّعْرِ مَا سَقَطَ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ بِالضَّرْبِ الْبُلُوغَ وَالِانْتِهَاءَ بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُهَا إِلَى أُذُنَيْهِ وَمُحَاذَاتِهِمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْجُمَّةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الْوَفْرَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَأَنَّ الْجُمَّةَ هِيَ الشَّعْرُ إِلَى الْأُذُنِ، وَوَقَعَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ أَنَّ الْجُمَّةَ هِيَ الشَّعْرُ مُطْلَقًا (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ. (بْنِ حَازِمٍ) : بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ زَايٍ مَكْسُورَةٍ، الْأَزْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (حَدَّثَنِي أَبِي) : يَعْنِي جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ - أَبُو النَّصْرِ، لَكِنْ فِي حَدِيثِهِ عَنْ قَتَادَةَ ضَعْفٌ وَلَهُ أَوْهَامٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ حِفْظِهِ، وَمَعَ هَذَا رَوَى حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي صِحَاحِهِمْ. (عَنْ قَتَادَةَ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، بَصْرِيٌّ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، يُقَالُ: وُلِدَ أَكْمَهْ، قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ أَحْفَظُ أَصْحَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى بَابِ قَتَادَةَ وَانْصَرَفَ، فَفَقَدُوا قَدَحًا فَحَجَّ قَتَادَةُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، فَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ فَسَأَلَهُمْ، فَسَمِعَ قَتَادَةُ كَلَامَهُ، فَقَالَ: صَاحِبُ الْقَدَحِ هَذَا فَسَأَلُوهُ، فَأَقَرَّ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ. (قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ) : أَيِ ابْنِ مَالِكٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (كَيْفَ كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ وَلَا بِالسَّبِطِ) : تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَالْمَقْصُودُ هُنَا قَوْلُهُ: (كَانَ يَبْلُغُ شَعْرُهُ) : أَيِ الْمَجْمُوعُ مِنْهُ. (شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ) : وَهِيَ مَا لَانَ مِنْ أَصْلِهَا، وَهُوَ مُعَلَّقُ الْقُرْطِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ) : وَقَدْ يُقَالُ أَنَّ أَبَا عُمَرَ كُنْيَةُ يَحْيَى. (الْمَكِّيُّ) : وَهُوَ الْعَدَنِيُّ فِي الْأَصْلِ، صَدُوقٌ، ضَعِيفُ السَّنَدِ، وَكَانَ لَازَمَ ابْنَ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ فِيهِ غَفْلَةٌ، أَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ حَدِيثَهُ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الشَّمَايِلِ «ابْنُ أَبِي عُمَرَ» فَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ

يَحْيَى، وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) : بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ فَتَحْتِيَّةٌ فَمُهْمَلَةٌ، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، رَوَى حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يُتَرْجِمْ لَهُ أَحَدٌ. (عَنْ مُجَاهِدٍ) : أَيِ ابْنِ جَبْرٍ، بِفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ، الْمَخْزُومِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَكِّيِّ، ثِقَةٌ، إِمَامٌ فِي الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ. (عَنْ أُمِّ هَانِئٍ) : بِكَسْرِ النُّونِ، وَهَمْزٍ فِي آخِرِهِ، وَاسْمُهَا فَاخِتَةٌ، بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَقِيلَ عَاتِكَةُ، وَقِيلَ هِنْدٌ. (بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ) : أُخْتُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَسْلَمَتْ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، رِوَايَتُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، قَالَ مِيرَكُ: أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ فِي جَامِعِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ -: لَا نَعْرِفُ لِمُجَاهِدٍ سَمَاعًا مِنْ أُمِّ هَانِئٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ الْجَعْدِ: رِجَالُ هَذَا الْحَدِيثِ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ. أَقُولُ وَلَا مُنَافَاةَ إِذِ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ إِنَّمَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ عِنْدَهُ. (قَالَتْ: قَدِمَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ جَاءَ أَوْ نَزَلَ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ) : ظَرْفُ «قَدِمَ» وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: «قَدِمَ عَلَيْنَا بِمَكَّةَ» ، وَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ كَمَا قِيلَ فِي «دَخَلْتُ الدَّارَ» . (قَدْمَةً) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْقُدُومِ، مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِقَدِمَ، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدُومَاتٌ أَرْبَعَةٌ لِمَكَّةَ: عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةَ، وَلِحَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَقْدَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ اغْتَسَلَ وَصَلَّى الضُّحَى فِي بَيْتِهَا. (وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ جَمْعُ غَدِيرَةٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ: قَدِمَ مَكَّةَ، وَالْحَالُ أَنَّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ ضَفَائِرَ وَيُقَالُ ذَوَائِبَ. (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ وَاوٍ. (بْنُ نَصْرٍ) : بِفَتْحِ نُونٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي الْمُقَدِّمَةِ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ إِذَا نُكِّرَتْ كَانَتْ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِذَا عُرِّفَتْ كَانَتْ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، انْتَهَى. وَهُوَ ثِقَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «أَنَا» . (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) : أَيِ الْمَرْوَزِيُّ، مَوْلَى بَنِي حَنْظَلَةَ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، فَقِيهٌ، عَالِمٌ، جَوَادٌ، مُجَاهِدٌ، صُوفِيٌّ، عَابِدٌ، وَكَانَ أَبُوهُ مَمْلُوكًا لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ فِي صِحَاحِهِمْ. (عَنْ مَعْمَرٍ) : بِفَتْحِ مِيمَيْنِ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ، بَيْنَهُمَا هُوَ ابْنُ رَاشِدٍ الْبَصْرِيُّ، نُزِيلُ الْيَمَنِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ. (عَنْ ثَابِتٍ) : أَيِ الْبُنَانِيِّ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ، ثِقَةٌ، عَابِدٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ، مَاتَ وَلَهُ أَحْوَالٌ ظَاهِرَةٌ. (

عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ) : أَيْ أَحْيَانًا. (إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ) : قِيلَ: جَمْعُ نِصْفٍ، أُرِيدَ بِهِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمَا هُوَ أَلْيَقُ بِالْإِنْصَافِ، وَحَقَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: كَأَنَّهُ جَمَعَ الْأَنْصَافَ دَلَالَةً عَلَى تَعَدُّدِ النِّصْفِ الْمُنْتَهِي إِلَيْهِ ; فَتَارَةً إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، وَتَارَةً إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَتَارَةً إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ الْفَوْقِ وَهُوَ أَعْلَاهُ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالنِّصْفِ مُطْلَقَ الْبَعْضِ كَحَدِيثِ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ» . وَذَلِكَ الْبَعْضُ مُتَعَدِّدٌ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْنِ ; لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ تَارَةً إِلَى نِصْفِ الْأُذُنِ، وَتَارَةً لِمَا دُونَهُ، وَتَارَةً إِلَى مَا فَوْقَهُ. هَذَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ هُنَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَوَّلَ الْبَابِ تَقْوِيَةُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ رُوِيَ بِإِسْنَادَيْنِ وَانْتِفَاءُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَدْلِيسِ حُمَيْدٍ. (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «ثَنَا» . (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ) : أَيِ الْأَيْلِيُّ بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ. (عَنِ الزُّهْرِيِّ) : وَهُوَ ابْنُ شِهَابٍ، إِمَامٌ جَلِيلٌ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ. (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) : بِالتَّصْغِيرِ. (بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) : بِالتَّكْبِيرِ. (بْنِ عُتْبَةَ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، فَقِيهٌ، ثَبْتٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ، وَأَبُوهُ أَيْضًا مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَالرَّاسِخِينَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَجَدُّهُ عُتْبَةُ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : كَذَا وَصَلَهُ يُونُسُ وَوَافَقَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَاخْتُلِفَ عَلَى مَعْمَرٍ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ. فَذَكَرُهُ مُرْسَلًا، وَكَذَا أَرْسَلَهُ مَالِكٌ حَيْثُ أَخْرَجَهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ فَوْقَهُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْدِلُ) : أَيْ يُرْسِلُ، قَالَ مِيرَكُ: هُوَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ السِّينِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ الدَّالِ، أَيْ: يَتْرُكُ شَعْرَ نَاصِيَتِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ. (شَعْرَهُ) : أَيْ عَلَى جَبِينِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ إِرْسَالُهُ عَلَى الْجَبِينِ وَاتِّخَاذُهُ كَالْقُصَّةِ أَيْ بِضَمِّ الْقَافِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، انْتَهَى. وَقِيلَ: سَدَلَ الشَّعْرَ إِذَا أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَضُمَّ جَوَانِبَهُ، وَقِيلَ: السَّدْلُ أَنْ يُرْسِلَ الشَّخْصُ شَعْرَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَلَا يَجْعَلَهُ فِرْقَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِرْقَتَيْنِ كُلُّ فِرْقَةٍ ذُؤَابَةٌ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: (وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ) : بِسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَرُوِيَ مِنَ التَّفْرِيقِ. (رُءُوسَهُمْ) : أَيْ شُعُورِهَا، أَيْ يَفْرُقُونَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ وَيَكْشِفُونَهُ عَنْ جَبِينِهِمْ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْفَرْقُ قِسْمَةُ الشَّعْرِ، وَالْمَفْرِقُ وَسَطُ الرَّأْسِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. (وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ) : أَيْ شَعْرَهَا. (وَكَانَ) : أَيْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (يُحِبُّ مُوَافِقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ) : أَيْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَهُوَ إِمَّا لِمُنَاسَبَةِ قُرْبِ

الْجِنْسِيَّةِ فِي مُشَارَكَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَسَائِرِ الْقَوَاعِدِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَإِمَّا لِإِرَادَةِ الْفَهْمِ وَتَقْرِيبِهِمْ إِلَى الْحَقِّ فَإِنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَهُمْ بِالْأُلْفَةِ أَحَقُّ وَأَلْيَقُ، قَالَ مِيرَكُ: فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِبَقَايَا مِنْ شَرَائِعِ الرُّسُلِ، فَكَانَتْ مُوَافَقَتُهُمْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَجِئْ فِي شَرْعِنَا بِمَا يُخَالِفُهُ، وَعَكَسَهُ بَعْضُهُمْ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ «يُحِبُّ» بَلْ كَانَ يَتَحَتَّمُ الِاتِّبَاعُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ يَقْصُرُهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ شَرْعٌ لَهُمْ لَا مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ إِذْ لَا تَوْثِيقَ بِنَقْلِهِمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ فَقِيلَ: فَعَلَهُ ائْتِلَافًا لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافَقَةً لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَلَمَّا أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ خَالَفَهُمْ فِي أُمُورٍ كَصَبْغِ الشَّيْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، انْتَهَى. حَيْثُ وَرَدَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ، وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ أَمَرَ بِنَوْعِ مُخَالَفَةٍ لَهُمْ فِيهِ بِصَوْمِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَمِنْهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَمُخَالَفَتُهُمْ فِي مُخَالَطَةِ الْحَائِضِ، وَمِنْهَا النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ، وَصَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ بِأَنَّهُ الْمَنْسُوخُ، وَنَاسِخُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ يَتَحَرَّى ذَلِكَ وَيَقُولُ: «إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ الْكُفَّارِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» . وَفِي لَفْظٍ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صِيَامِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: «يَوْمَا عِيدٍ» أَنَّ السَّبْتَ عِيدُ الْيَهُودِ، وَالْأَحَدَ عِيدُ النَّصَارَى. وَقَالَ آخَرُونَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوهُ. (ثُمَّ فَرَقَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ) : أَيْ شَعْرَهُ بِأَنْ أَلْقَى شَعْرَ رَأْسِهِ إِلَى جَانِبَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى جَبْهَتِهِ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ بِوَحْيٍ لِقَوْلِهِ: «مَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ» . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: نُسِخَ السَّدْلُ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَلَا اتِّخَاذُ النَّاصِيَةِ وَالْجُمَّةِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُ الْفَرْقِ لَا وُجُوبُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَرْقَ كَانَ اجْتِهَادًا فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا بِوَحْيٍ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ مُسْتَحَبًّا، انْتَهَى. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ عُدُولِهِ عَنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا أَنَّ الْفَرْقَ أَقْرَبُ إِلَى النَّظَافَةِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي غَسْلِهِ وَعَنْ مُشَابَهَةِ النِّسَاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ مَحَلَّ جَوَازِ السَّدْلِ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ وَإِلَّا حُرِّمَ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ جَوَازَ السَّدْلِ مَا رُوِيَ أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ يَسْدِلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْرِقُ، وَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ الْفَرْقُ وَاجِبًا لَمَا سَدَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ جَوَازُهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَزَعْمُ نَسْخِهِ يَحْتَاجُ لِبَيَانِ نَاسِخِهِ وَأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَنْسُوخِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ. نَعَمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:

أَمَّا تَوَهُّمُ النَّسْخِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ، لَكِنَّ الْعَسْقَلَانِيَّ قَالَ: جَزَمَ الْحَازِمِيُّ أَنَّ السَّدْلَ نُسِخَ بِالْفَرْقِ، وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ «ثُمَّ أَمَرَ بِالْفَرْقِ» ، وَكَانَ الْفَرْقُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنَا فَرَقْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ عَنْ يَافُوخِهِ. وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ: إِذَا فَرَقْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ صَدَعْتُ فِرْقَةً عَنْ يَافُوخِهِ وَأَرْسَلْتُ نَاصِيَتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ: الْيَافُوخُ مُؤَخَّرُ الرَّأْسِ مِمَّا يَلِي الْقَفَا، يَعْنِي: أَحَدُ طَرَفَيْ ذَلِكَ الْخَطِّ عِنْدَ الْيَافُوخِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ عِنْدَ جَبْهَتِهِ مُحَازِيًا لِمَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ لِيَكُونَ نِصْفُ الشَّعْرِ مِنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْفَرْقِ وَنَصِفُهُ مِنْ يَسَارِهِ. وَقَالَ الشَّارِحُ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْفَرْقُ بِسُكُونِ الرَّاءِ، الْخَطُّ الظَّاهِرُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا قُسِمَ نِصْفَيْنِ، وَذَلِكَ الْخَطُّ بَيَاضُ بَشَرَةِ الرَّأْسِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْهِدَايَةِ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، عَدْلٌ، حَافِظٌ، عَارِفٌ بِالرِّجَالِ. (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ الْمَكِّيِّ) : أَيِ الْمَخْزُومِيِّ، ثِقَةٌ، حَافِظٌ، رَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) : بِفَتْحِ نُونٍ وَكَسْرِ جِيمٍ. (عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ) : سَبَقَ ضَبْطُهَا. (قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا ضَفَائِرَ أَرْبَعٍ) : جَمْعُ ضَفِيرَةٍ كَغَدَائِرَ جَمْعُ غَدِيرَةٍ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالضَّفْرُ نَسْجُ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَالضَّفِيرَةُ الْعَقِيصَةُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ حِلُّ ضَفْرِ الشَّعْرَ حَتَّى لِلرِّجَالِ، وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا اعْتِيدَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِذَلِكَ، أَقُولُ عَادَةُ السَّادَةِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ أَيْضًا هِيَ الضَّفْرُ أَيْضًا، لَكِنْ عَلَى غَدِيرَتَيْنِ وَاقِعَتَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِمْ تَفْرِقَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النِّسَاءِ إِذْ عَادَتُهُنَّ وَضْعُ الضَّفَائِرِ خَلْفَهُنَّ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَكْفِي فِي عَدَمِ التَّشَبُّهِ بِهِنَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَاتِ قَدِ اخْتَلَفَتْ فِي وَصْفِ شَعْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي رِوَايَةٍ لِأَنَسٍ: شَعْرُهُ فِي نِصْفِ أُذُنَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: كَانَ يَبْلُغُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ. وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَوْقَ الْجُمَّةِ وَدُونَ الْوَفْرَةِ. أَوِ الْعَكْسُ، وَيُوَافِقُهُ رِوَايَةُ: بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ: لَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ. وَهَذَا مُحَصَّلُ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِلَفْظِ: لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ. وَهُوَ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، فَهَذِهِ سِتُّ رِوَايَاتٍ ; الْأُولَى: نِصْفُ أُذُنَيْهِ، الثَّانِيَةُ: إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، وَالثَّالِثَةُ: بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ، الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ الْخَامِسَةُ قَرِيبٌ مِنْهُ، السَّادِسَةُ: لَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ. إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ مِنْ شَعْرِهِ مَا كَانَ فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَهُوَ الْوَاصِلُ إِلَى نِصْفِ أُذُنَيْهِ، وَالَّذِي بَعْدَهُ هُوَ مَا بَلَغَ شَحْمَةَ الْأُذُنِ وَمَا يَلِيهِ هُوَ الْكَائِنُ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ، وَمَا كَانَ خَلْفَ الرَّأْسِ هُوَ الَّذِي يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ، انْتَهَى. وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ بُعْدٍ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ شَعْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ مَجْمُوعَهُ أَوْ مُعْظَمَهُ لَا كُلَّ قِطْعَةٍ قِطْعَةٍ مِنْهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ: إِنَّ الِاخْتِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَتَنَوُّعِ الْحَالَاتِ فَإِذَا غَفَلَ عَنْ تَقْصِيرِهِ بَلَغَ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَإِذَا قَصَّرَهُ كَانَ إِلَى أَنْصَافِ الْأُذُنَيْنِ، فَطَفِقَ يَقْصُرُ ثُمَّ يَطُولُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَعَلَى هَذَا تَرْتِيبُ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ أَخْبَرَ عَمَّا رَآهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَحْيَانِ بِوَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، انْتَهَى. وَهَذَا الْجَمْعُ لَا يَخْلُو عَنْ تَأَمُّلٍ أَيْضًا ; إِذْ لَمْ يُرْوَ تَقْصِيرُ الشَّعْرِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَدِ اضْطَرَبَ قَوْلُ الشُّرَّاحِ فِي تَحْقِيقِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: فَطَفِقَ يُقَصِّرُ ثُمَّ يُطَوِّلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ رَأَسَهُ فِي عُمْرَتِهِ وَحَجِّهِ أَيْضًا، فَإِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْحَلْقِ كَانَ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ ثُمَّ يَطُولُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَصِيرُ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ وَمَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ، وَغَايَةُ طُولِهِ أَنَّهُ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ إِذَا طَالَ زَمَانُ إِرْسَالِهِ بَعْدَ الْحَلْقِ فَأَخْبَرَ كُلُّ رَاوٍ بِمَا رَآهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْجَمْعَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَعَلَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ شَعْرِهِ صلّى الله عليه

(باب ما جاء في ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وسلم هَذَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ فِي سِنِي الْهِجْرَةِ إِلَّا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ عَامَ هِجْرَةِ الْقَضَاءِ ثُمَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَنَقَلَ الْعَسْقَلَانِيُّ عَنِ ابْنِ التِّينِ تَبَعًا لِلدَّاوُدِيِّ: قَوْلُهُ: «يَبْلُغُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ» مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ «إِلَى مَنْكِبَيْهِ» . وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مُعْظَمَ شَعْرِهِ كَانَ عِنْدَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، وَمَا اسْتَرْسَلَ مِنْهُ يَصِلُ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْحَالَيْنِ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي الْمَنَاقِبِ بِلَفْظِ: لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الطَّوِيلَ مِنْهُ يَصِلُ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَغَيْرُهُ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنَيْنِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُنْتَهِيًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَرَجُّلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) التَّرَجُّلُ وَالتَّرْجِيلُ: تَسْرِيحُ الشَّعْرِ وَتَنْظِيفُهُ وَتَحْسِينُهُ، وَاخْتَارَ التَّرَجُّلَ فِي الْعُنْوَانِ مَعَ وُرُودِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ إِشَارَةً إِلَى تَرَادُفِهِمَا وَغَلَبَةِ وُرُودِ التَّفَعُّلِ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ. وَفِي الْمَشَارِقِ: رَجَّلَ شَعْرَهُ إِذَا مَشَّطَهُ بِمَاءٍ أَوْ دُهْنٍ لِيَلِينَ وَيُرْسِلُ الثَّائِرَ وَيَمُدُّ الْمُنْقَبِضَ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ نَقْلًا عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ: هُوَ مِنْ بَابِ النَّظَافَةِ، وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهِ، أَيْ بِقَوْلِهِ: النَّظَافَةُ مِنَ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا فَالْمُرَادُ تَرْكُ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّرَفُّهِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهَا مِنْ هَوَى النَّفْسِ، وَالْمُشِيرُ بِأَنَّهَا فِي تَنْظِيفِ الْبَاطِنِ أَوْلَى وَالْمُومِئُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ: الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ ; وَهِيَ رَثَاثَةُ الْهَيْئَةِ وَتَرْكُ التَّرَفِهِ وَالتَّوَاضُعِ مِنَ الْقُدْرَةِ لَا بِسَبَبِ جَحْدِ النِّعْمَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدٌ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْإِرْفَاهِ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهُ فَاءٌ وَآخِرُهُ هَاءٌ، التَّنَعُّمُ، وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ: الْإِرْفَاهُ التَّرَجُّلُ، هَكَذَا نَقَلَ الشَّيْخُ عَنْ تَخْرِيجِ النَّسَائِيِّ، وَوَقَعَ فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: مَالِي أَرَاكَ شَعِثًا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْإِرْفَاهِ. فَلَعَلَّ لَفْظَ فَضَالَةَ سَقَطَ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ أَوْ مِنْ أَصْلِ النَّسَائِيِّ ; إِذِ الصَّوَابُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّيْخُ: وَقُيِّدَ فِي الْحَدِيثِ بِالْكَثِيرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْوَسَطَ الْمُعْتَدِلَ مِنْهُ لَا يُذَمُّ وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا ثَائِرَ الشَّعْرِ وَاللِّحْيَةِ فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِإِصْلَاحِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَهُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحُ السَّنَدِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ) : ثِقَةٌ، مُتْقِنٌ. (حَدَّثَنَا مَعْنُ) : - بِفَتْحٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ، - بْنُ عِيسَى، - كَمَا فِي نُسْخَةٍ - بْنِ يَحْيَى الْأَشْجَعِيُّ، مَوْلَاهُمْ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ. (

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَرَجِّلُ) : بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ ; أَيْ أُسَرِّحُ وَأُحَسِّنُ. (رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ) : أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ. (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ بُطْلَانِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْمَرْأَةِ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ التَّوَضُّؤِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِاحْتِمَالِ مَسِّ الشَّعْرِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ مَسِّ الْبَشَرَةِ. (وَأَنَا حَائِضٌ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُفِيدَةٌ، جَوَازَ مُخَالَطَةِ الْحَائِضِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ عَنْهُ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ أَنَّهَا: كَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ، يُخْرِجُهُ إِلَيْهَا، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى طَهَارَةِ بَدَنِ الْحَائِضِ وَعَرَقِهَا، وَأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْمَمْنُوعَةَ لِلْمُعْتَكِفِ هِيَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، كَذَا قَالُوا، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُطْلَقًا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُضُوءُ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِالصَّلَاةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَمَسُّ الشَّعْرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ تَكْرَارًا إِلَّا أَنَّ بَدَلَ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَكِلَاهُمَا مُسْتَقِيمٌ ; لِأَنَّ مَالِكًا أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ عُرْوَةَ، كَذَا يُفْهَمُ مِنْ جَامِعِ الْأُصُولِ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ، أَقُولُ: بِمُجَرَّدِ صِحَّةِ رِوَايَةٍ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُنَا سَنَدٌ آخَرُ عَنْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنَ النَّاسِخِ صَحَّفَ هِشَامًا بِشِهَابٍ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ النُّسَّاخِ فَتُوِهِّمَ أَنَّهُمَا سَنَدَانِ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ تَعَدُّدِ السَّنَدِ هُنَا عَدَمُ ذِكْرِهِ الشُّرَّاحُ خُصُوصًا السَّيِّدُ السَّنَدُ مِيرَكُ شَاهِ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ الْإِسْنَادِ وَعَلَى أَصْلِهِ فِي نُسْخَةِ الِاعْتِمَادِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ خَمْسَةٌ وَهَذِهِ فَائِدَةُ التَّعْدَادِ. (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ غَيْرُ ابْنِ مَاجَهْ. (أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ) : عَلَى وَزْنِ بَدِيعٍ. (أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ. (بْنُ صَبِيحٍ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ، هُوَ السَّعْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، صَدُوقٌ، سَيِّئُ الْحِفْظِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ - فِي تَارِيخِهِ - وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (عَنْ يَزِيدَ) : مُضَارِعُ الزِّيَادَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ضَعَّفُوهُ، فَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ التَّفْرِيعَ غَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّضْعِيفِ كَوْنُهُ مُعَلَّلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلِذَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لَهُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَسَيَأْتِي عَلَيْهِ كَلَامٌ مَبْسُوطٌ. (بْنِ أَبَانَ) : بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ إِذَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ، وَمُمْتَنِعٌ إِذَا كَانَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّرْفُ أَظْهَرُ وَكَذَا فِي الْمُغْنِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ أَبَانَ كَسَحَابٍ مَصْرُوفٌ، ابْنُ عَمْرٍو وَابْنُ سَعِيدٍ صَحَابِيَّانِ وَمُحَدِّثَانِ، وَيُقَوِّيهِ مَا قَالَ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَلُّ أَفْعَلُ الْأَجْوَفُ أَيْ لِلتَّفْضِيلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ مُشَدَّدًا أَوْ بِفَتْحِهَا مُخَفَّفًا ; فَالْأَوَّلُ خَطَأٌ

فَاحِشٌ لِمُخَالَفَتِهِ كُتُبَ اللُّغَةِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. (هُوَ الرَّقَاشِيُّ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَخِفَّةِ قَافٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، نِسْبَةً إِلَى رَقَاشِ بِنْتِ ضُبَيْعَةَ، كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَكَأَنَّ الْعِصَامَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: كَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي رَقَاشٍ مَعَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَقَاشِ كَقَطَامِ ; عَلَمٌ لِلنِّسَاءِ. (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ) : مِنَ الْإِكْثَارِ. (دَهْنَ رَأْسِهِ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ بِالضَّمِّ. (وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ) : هُوَ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى دَهْنِ، وَمَنْ جَرَّهُ بِالْعَطْفِ عَلَى رَأْسِهِ قَدْ أَخْطَأَ، وَالْمُرَادُ تَمْشِيطُهَا وَإِرْسَالُ شَعْرِهَا وَحَلُّهَا بِمَشْطِهَا. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مِضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وُضِعَ لَهُ سِوَاكُهُ وَطَهُورُهُ وَمُشْطُهُ، فَإِذَا هَبَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ اللَّيْلِ اسْتَاكَ وَتَوَضَّأَ وَامْتَشَطَ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَمْسٌ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُهُنَّ فِي سِفْرٍ وَلَا حَضَرٍ: الْمِرْآةُ، وَالْمُكْحُلَةُ، وَالْمُشْطُ، وَالْمَدْرَاءُ، وَالسِّوَاكُ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَقَارُورَةُ دُهْنٍ، بَدَلَ الْمَدْرَاءِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لَا يُفَارِقُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَاكُهُ وَمُشْطُهُ، وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ إِذَا سَرَّحَ لِحْيَتَهُ. هَذَا خُلَاصَةُ مَا قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ رِوَايَةَ الْخَطِيبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ التُّرْجُمَانِيِّ قَالَ: ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عُلْوَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَبْعٌ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْرُكُهُنَّ فِي سِفْرٍ وَلَا حَضَرٍ: الْقَارُورَةُ، وَالْمُشْطُ، وَالْمِرْآةُ، وَالْمُكْحُلَةُ، وَالسِّوَاكُ، وَالْمِقَصُّ، وَالْمَدْرَاءُ. قُلْتُ لِهُشَامٍ: الْمَدْرَاءُ! مَا بَالُهُ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ وَفْرَةٌ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ فَكَانَ يُحَرِّكُهَا بِالْمَدْرَاءِ. وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ: عُودٌ تُدْخِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي رَأْسِهَا لِئَلَّا يَنْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْمِقَصُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ: آلَةُ الْقَصِّ، بِمَعْنَى الْمُقَطِّعِ وَهِيَ الْمِقْرَاضُ. (وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ) : أَيْ لُبْسَهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَلَعَلَّ هَذَا عَلَى وَجْهِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَخِفَّةِ النُّونِ وَفِي آخِرِهِ مُهْمَلَةٌ، خِرْقَةٌ تُلْقَى عَلَى الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ وِقَايَةً لِلْعِمَامَةِ مِنْ أَثَرِ الدُّهْنِ وَاتِّسَاخِهَا بِهِ، شَبِيهٌ بِقِنَاعِ الْمَرْأَةِ، وَفِي الصِّحَاحِ: هُوَ أَوْسَعُ مِنَ الْمِقْنَعَةِ وَهِيَ الَّتِي تُلْقِي الْمَرْأَةُ فَوْقَ الْمِقْنَعَةِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يُكْثِرُ اتِّخَاذَهُ وَاسْتِعْمَالَهُ بَعْدَ الدُّهْنِ. (حَتَّى) : غَايَةٌ لِيُكْثِرَ. (كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ. (ثَوْبَهُ) : أَيِ الَّذِي كَانَ عَلَى بَدَنِهِ لِإِكْثَارِ دَهْنِهِ وَلِمُلَابَسَتِهِ قِنَاعَهُ. (ثَوْبُ زَيَّاتٍ) : بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، بِصِيغَةِ النِّسْبَةِ، أَيْ: صَانِعِ الزَّيْتِ أَوْ بَائِعِهِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِثَوْبِهِ الْقِنَاعُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هُوَ الْمُنَاسِبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيْ لِنَظَافَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكُونُ ثَوْبُهُ كَثَوْبِ الزَّيَّاتِ. قَالَ الْعِصَامُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ السَّوْقِ وَأَنَّ الظَّاهِرَ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ، انْتَهَى. وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ: قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ كَانَ عَابِدًا وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ عَابِدًا وَلَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ مِنْ صِنَاعَتِهِ فَوَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمَنَاكِيرُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. قُلْتُ: وَمِنْ مَنَاكِيرِهِ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَنْظَفَ النَّاسِ ثَوْبًا وَأَحْسَنَهُمْ هَيْئَةً وَأَجْمَلَهُمْ سَمْتًا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: «أَمَّا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْلِحُوا ثِيَابَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالشَّامَةِ بَيْنَ النَّاسِ» . انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ. وَقَالَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ: يَعْنِي الْقَايِنِيَّ شَرِيكَ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ الْمُحَدِّثِ فِي الْحَدِيثِ: الْمُرَادُ بِهَذَا الثَّوْبِ الْقِنَاعُ الْمَذْكُورُ الَّذِي يُسْتَرُ بِهِ الرَّأْسُ لَا قَمِيصُهُ أَوْ رِدَاؤُهُ أَوْ عِمَامَتُهُ. أَقُولُ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ حَتَّى كَاأَنَّ مِلْحَفَتَهُ مِلْحَفَةُ زَيَّاتٍ. أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ السَّلِيطِيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ يَرْوِيهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَقْوِيَةُ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَثَّقَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، قَالَ: أَبُو زُرْعَةَ صَدُوقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ أَحَادِيثُ صَالِحَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، وَلَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكِرًا جِدًّا وَأَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَبِرِوَايَتِهِ، انْتَهَى. وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ التَّقَنُّعَ بِثَوْبٍ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ أَوْ دِهَانٍ. فَظَهَرَ أَنَّ الرَّبِيعَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، فَإِذَا حَمَلْنَا الثَّوْبَ عَلَى الْمِلْحَفَةِ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ لِوِقَايَةِ الْعِمَامَةِ وَالثِّيَابِ عَنِ الدُّهْنِ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِنَظَافَةِ ثَوْبِهِ مِنْ رِدَاءٍ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُ مِيرَكَ، وَسَبَقَهُ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ، وَزَيَّفَ كَوْنَهُ مُنَكَّرًا بِإِيرَادِ الْبَغْوَيِّ إِيَّاهُ فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَعْفِهِ، وَكَذَا

فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَبِإِيرَادِ التِّرْمِذِيِّ فِي جَامِعِهِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَعْفِهِ، هَذَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْ هَذَا لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقِنَاعِ فَائِدَةٌ وَلَا لِغَايَةٍ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ لِقَوْلِهِ: «يُكْثِرُ الْقِنَاعَ» نَتِيجَةٌ بَلْ كَانَ الْمُنَاسِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ، وَقَدْ أَبْعَدَ الْعِصَامُ حَيْثُ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَالْجُمْلَةُ نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: «يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ» مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِهِ وَلِذَا فُصِلَتْ. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيِ ابْنُ السَّرِيِّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ) : كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ السَّمَاعِ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِلَفْظِ «حَدَّثَنَا» مَكْتُوبًا عَلَيْهِ عَلَامَةُ صَحَّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمٍ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالتَّصْغِيرِ فِي الثَّانِي، ثِقَةٌ، مُتْقِنٌ. (عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ) : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فِيهِمَا. (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَهُوَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، وَالْبَاقِي فِي صِحَاحِهِمْ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (عَنْ مَسْرُوقٍ) : سُرِقَ فِي صِغَرِهِ فَسُمِيَ بِهِ، ثِقَةٌ، عَابِدٌ، مُخَضْرَمٌ أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ حَدِيثَهُ. (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ) : مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ بِدَلِيلِ اللَّامِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّافِيَةِ بَعْدَهَا وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنَّهُ، كَذَا قَالَ الشُّرَّاحُ ; وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ جَوَازَ إِعْمَالِ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ عَلَى قِلَّةٍ وَإِهْمَالِهَا عَلَى الْأَكْثَرِ، قَالَ الْعِصَامُ: إِنْ مُخَفَّفَةٌ، مُلْغَاةٌ، دَاخِلَةٌ عَلَى الْفِعْلِ، مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ الِاسْمِ، فَلَا تَظُنَّ أَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ إِنَّهُ. (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ) : أَيِ الِابْتِدَاءَ فِي الْأَفْعَالِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى وَالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْمَحَبَّةِ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَلِمَزِيَّةِ مَزِيدِ قُوَّتِهَا الْمُقْتَضِيَةِ لِزِيَادَةِ إِكْرَامِهَا بِمُوجِبِ الْعَدْلِ الْمُنَافِي لِلظُّلْمِ الَّذِي هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مَا اسْتَطَاعَ فَنَبَّهَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ. (فِي طَهُورِهِ) : بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا، رِوَايَتَانِ مَسْمُوعَتَانِ بِمَعْنًى، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، الْمَشْهُورُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ، اسْمٌ لِمَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيِ اسْتِعْمَالُهُ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِيءُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرًا أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: (إِذَا تَطَهَّرَ) : لِيَدُلَّ عَلَى تَكْرَارِ الْمَحَبَّةِ بِتَكْرَارِ الطِّهَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الْآيَةَ. كَذَا قَالَ الْعِصَامُ: وَفِيهِ أَنَّ «إِذَا» فِي الْآيَةِ لِلشَّرْطِيَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: فِي وَقْتِ اشْتِغَالِهِ بِالطَّهَارَةِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِيَدَيْهِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ دُونَهُمَا أَوَّلُ الْوُضُوءِ، وَلِرِجْلَيْهِ دُونَ خَدَّيْهِ وَأُذُنَيْهِ،

وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ غَيْرِهِ. (وَفِي تَرَجُّلِهِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ تَمْشِيطِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. (إِذَا تَرَجَّلَ) : أَيْ وَقْتَ إِيجَادِ هَذَا الْفِعْلِ وَفِي مَعْنَاهُ التَّدْهِينُ. (وَفِي انْتِعَالِهِ) : أَيْ لُبْسِ نَعْلِهِ. (إِذَا انْتَعَلَ) : أَيْ وَقْتَ إِرَادَةِ لُبْسِ النَّعْلِ، وَفِيهِ احْتِزَازٌ مِنْ حَالِ الِاخْتِلَاعِ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْيَسَارِ تَشْرِيفًا لِلْيَمِينِ وَمُرَاعَاةً لِكَرَامَتِهَا أَيْضًا، وَفِي مَعْنَاهُ لُبْسُ الثَّوْبِ وَالْخُفِّ وَنَحْوِهِمَا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ: كَالْأَخْذِ، وَالْعَطَاءِ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ، وَحَلْقِ الرَّأْسِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الظُّفْرِ، وَنَتْفِ الْإِبْطِ، وَالِاكْتِحَالِ، وَالِاضْطِجَاعِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالِاسْتِيَاكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَمِ وَالْيَدِ جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَا لَا شَرَفَ فِيهِ كَخُرُوجِ الْمَسْجِدِ، وَدُخُولِ الْخَلَاءِ، وَأَخْذِ النَّعْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِالْيَسَارِ كَرَامَةٌ لِلْيَمِينِ أَيْضًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَاعِدَةُ الشَّرْعِ الْمُسْتَمِرَّةُ اسْتِحْبَابُ الْبَدَاءَةِ بِالْيَمِينِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزَيُّنِ وَمَا كَانَ بِضِدِّهِ فَاسْتُحِبَّ فِيهِ التَّيَاسُرُ، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَفِي طَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. وَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ يَأْخُذُ بِيَمِينِهِ، وَيُعْطِي بِيَمِينِهِ، وَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي جَمِيعِ أَمْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ مَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْيُمْنَى فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، مَنْ خَالَفَهَا فَقَدْ فَاتَهُ الْفَضْلُ وَتَمَّ وُضُوءُهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: مُرَادُهُ بِالْعُلَمَاءِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَمَذْهَبُ الْإِمَامِيَّةِ الْوُجُوبُ وَمِمَّنْ نَسَبَ الْوُجُوبَ إِلَى الْفُقَهَاءِ الشِّيعَةُ. وَفِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ مَا يُوهِمُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ بِوُجُوبِهِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْهُ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي: لَا نَعْلَمُ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ خِلَافًا. يَعْنِي مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَلِطَ الْمُرْتَضَى عَلَمُ الْهُدَى فَنَسَبَ الْوُجُوبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ مِنْ قَوْلِهِ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ وَلِأَنَّهُمَا جُمِعَا فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ حُكْمُهُمْ عَلَى الْمَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ مَعَ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا عَلَى الْعُضْوِ لَا يُسَمَّى مُسْتَعْمَلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ إِنَّمَا يُفِيدُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ، وَفِي أَمْثَالِهِ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّيَامُنِ دُونَ وُجُوبِهِ، فَبَطَلَ قَوْلُ الشِّيعَةِ وَظَهَرَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا وَجْهُ عَدَمِ اعْتِبَارِ غَسْلِ الْوَجْهِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ بِالْيَمِينِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي تَحْقِيقِ تَيَامُنِهِمَا وَتَيَاسُرِهِمَا كَمَا فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ ابْتِدَاءً وَمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: يُسْتَثْنَى مِنْ تَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الْوُضُوءِ مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ فَلَا يُسَنُّ فِيهِمَا تَقْدِيمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ فِي أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ عُضْوٌ لَا يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ مِنْهُنَّ فِي تَطْهِيرِهِ إِلَّا الْأُذُنَيْنِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْأُذُنَيْنِ وَجْهٌ نُقِلَ عَنِ الْبَحْرِ لِلرُّويَانِيِّ فِي تَقْدِيمِ مَسْحِ الْيُمْنَى مِنَ الْأُذُنِ. أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إِذَا أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ مَسْحِهِمَا وَيُسْتَحَبُّ حَالَةَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُ الْعِصَامِ «إِذَا تَنَعَّلَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «إِذَا انْتَعَلَ» مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي أَنَّهَا مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ الْمُنَاسِبِ لِمَصْدَرِهِ الْمَذْكُورِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ كَلَامِهِ سُكُوتُ الشُّرَّاحِ عَنْ خِلَافِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَكَأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْفَظْ تَتِمَّةَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَطْعَنٌ مَرْدُودٌ، فَإِنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَقَعَ فِي إِسْنَادِ التِّرْمِذِيِّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ بِالزِّيَادَةِ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْطِيعُ الْحَدِيثِ وَإِتْيَانُ بَعْضِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ ; وَبِهَذَا تَبَيَّنَ ضَعْفُ قَوْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: «وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» ، فَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ هَذِهِ الْأُمُورُ لَا بِخُصُوصِهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: «وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» ، اسْتَمَدَّ مِمَّا يُفِيدُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ، انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَعْمِيمٍ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَظَاهِرُ الِانْحِصَارِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَعَمُّ بِقَرِينَةِ حَدِيثِهِمَا مَعَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَدِيثُهُمَا لَكَانَ فِيهِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْعُمُومُ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ هِيَ جُزْئِيَّاتٌ كَالْأَمْثِلَةِ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَوْلِهَا يُحِبُّ التَّيَمُّنَ، هَذَا وَذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. كَذَا أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ

بِغَيْرِ وَاوٍ، وَلِبَعْضٍ رِوَايَةٌ «وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» بِالْوَاوِ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا صَاحِبُ الْعُمْدَةِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ ; لِأَنَّ دُخُولَ الْخَلَاءِ وَالْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَنَحْوَهُمَا يُبْدَأُ فِيهَا بِالتَّيَاسُرِ، انْتَهَى. أَقُولُ: وَهَذَا مُسْتَدْرَكٌ لِأَنَّ الْكُلِّيَةَ عَلَى حَالِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَرَامَةِ الْيُمْنَى كَمَا قَدَّمْنَاهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَا اسْتُحِبَّ فِيهِ التَّيَاسُرُ لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودَةِ بَلْ هِيَ مَتْرُوكَاتٌ، وَمَا كَانَتْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ فَكَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَأْنٍ عُرْفًا. قُلْتُ هَذَا غَيْرُ كِفَايَةٍ ; لِأَنَّهُ يَبْقَى نَحْوَ: الِاسْتِنْجَاءِ، وَمَسِّ الذَّكَرِ، وَإِزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ، وَأَخْذِ النَّعْلِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ «فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مُتَعَلِّقٌ بِيُعْجِبُهُ أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ التَّيَمُّنِ أَوْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا وَلَا فِي فَرَاغِهِ وَلَا فِي شُغْلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: «فِي شَأْنِهِ» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ «فِي تَنَعُّلِهِ» بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ النَّعْلَ لِتَعَلُّقِهِ بِالرِّجْلِ وَالتَّرَجُّلِ لِتَعَلُّقِهِ بِالرَّأْسِ وَالطَّهُورُ لِكَوْنِهِ مِفْتَاحُ أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ، فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَيَكُونُ كَبَدَلِ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ. أَقُولُ: فَرِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ لِلتَّدَنِّي، وَرِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ لِلتَّرَقِّي مَعَ زِيَادَةِ إِفَادَةِ الْعُمُومِ تَأْكِيدًا، قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِتَقْدِيمِ «فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» عَلَى قَوْلِهِ «فِي تَنَعُّلِهِ» فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَدَلُ الْكُلِّ أَيْضًا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ تِلْكَ الْأُمُورِ، انْتَهَى. وَالْأَخِيرُ غَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ لَمْ يَكُنِ التَّخْصِيصُ إِلَّا بِالْعَطْفِ وَلَا يُعَرَفُ مَجِيءُ الْبَدَلِ بِهَذَا الْمَعْنَى، قَالَ مِيرَكُ: وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنْ بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ صَحِيحِهِ أَنَّ الْأَشْعَثَ شَيْخُ شُعْبَةَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً مُقْتَصِرًا عَلَى قَوْلِهِ «فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» وَتَارَةً عَلَى قَوْلِهِ «فِي تَنَعُّلِهِ» إِلَى آخِرِهِ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقٍ غُنْدَرٍ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا أَنَّهَا كَانَتْ تُجْمِلُهُ تَارَةً وَتُبَيِّنُهُ أُخْرَى. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَصْلُ الْحَدِيثِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّنَعُّلِ وَغَيْرِهِ، وَتَكُونُ الرِّوَايَةُ الْمُقْتَصِرَةُ عَلَى شَأْنِهِ كُلِّهِ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَشْعَثِ بِدُونِ قَوْلِهِ «فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» ، انْتَهَى. وَبِهَذَا ظَهَرَ سُقُوطُ كَلَامِ الْعِصَامِ وَهُوَ مَعْذُورٌ فَإِنَّهُ دَخِيلٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ بِالصَّوَابِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) : أَيِ ابْنُ فَرُّوخَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الْحُسْنِ فَيُصْرَفُ وَإِنْ كَانَ فَعْلَانَ مِنَ الْحِسِّ بِتَشْدِيدِ السِّينِ فَلَا يُصْرَفُ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: أَنَصْرِفُ عَفَّانَ، قَالَ: نَعَمْ، إِنْ هَجَوْتَهُ لَا إِنْ مَدَحْتَهُ أَيْ لِأَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنَ الْعُفُونَةِ وَعَلَى الثَّانِي مِنَ الْعِفَّةِ، ثُمَّ هُوَ أَزْدِيٌّ، ثِقَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (عَنِ الْحَسَنِ) : أَيِ الْبَصْرِيِّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ اسْمُهُ يَسَارٌ، أَنْصَارِيٌّ، مَوْلَاهُمْ رُوِيَ عَنِ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكَ الْحَسَنُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، وَهُوَ إِمَامٌ جَلِيلٌ مَشْهُورٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ أَوْ مِنْ أَفْضَلِهِمْ. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) : بِمُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ، مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّرَجُّلِ) : أَيِ التَّمْشِيطِ. (إِلَّا غِبًّا) : بِكَسْرِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ، أَيْ وَقْتٌ بَعْدَ وَقْتٍ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا» رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُفْعَلَ يَوْمًا وَيُتْرَكُ يَوْمًا، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّزْيِينِ وَتَهَالُكٌ بِهِ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ) : بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ فَاءٌ، صَدُوقٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ رَاءٍ

(باب ما جاء في شيب رسول الله) .

سَاكِنَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ، قَالَ الْعِصَامُ: لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي التَّقْرِيبِ إِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِيهِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْحَارِثِ، حَافِظٌ، ثِقَةٌ، لَكِنْ لَهُ مَنَاكِيرُ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصَحَّفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَضْبُوطٌ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَفِي تَبْصِيرُ الْمُنْتَبِهِ بِتَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ: حَرْبٌ خَلْقٌ أَيْ كَثِيرٌ. (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ) : هَكَذَا وَقَعَ فِي نَسْخِ الشَّمَائِلِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ زَائِدٌ لِأَنَّ أَبَا خَالِدٍ كُنْيَةُ يَزِيدَ لَا أَبُوهُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَقَالَ الْعِصَامُ: صَوَابُهُ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ أَوْ يَزِيدُ أَبِي خَالِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ ثِقَةٌ، عَابِدٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَرْبَعَةُ. (عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ) : اسْمُهُ دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. (الْأَوْدِيُّ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، مَنْسُوبٌ إِلَى أَوْدِ بْنِ صَعْبٍ، ثِقَةٌ. (عَنْ حُمَيْدِ) : بِالتَّصْغِيرِ. (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : مَرَّ ذِكْرُهُ. (عَنْ رَجُلٍ) : قِيلَ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : فِي شَرْحٍ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْجَهْلِ فِي إِسْنَادِهِ، انْتَهَى. وَهَذَا صَدَرَ مِنْ جَهْلِهِ بِأَنَّ جَهَالَةَ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ لِأَنَّ كُلَّهُمْ عُدُولٌ. (أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ «رَسُولَ اللَّهِ» . (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ) : أَيْ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ (يَتَرَجَّلُ غِبًّا) : وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرْبَعَ سِنِينَ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ. (تَنْبِيهٌ) : وَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ أَيْ شَعْرُ عَانَتِهِ حَلَقَهُ، لَكِنْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا طَلَى بَدَأَ بِعَانَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنَّوْرَةِ وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ وَهُوَ لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا خَبَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَمَّامَ الْجَحْفَةِ فَمَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي كَلَامِ الدَّمِيرِيِّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ تَعْرِفِ الْعَرَبُ الْحَمَّامَ بِبِلَادِهِمْ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي شَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ) . وَفِي نُسْخَةٍ «النَّبِيِّ» . (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : الشَّيْبُ وَالشَّيْبَةُ مَصْدَرَانِ وَمَعْنَاهُ كَوْنُ الشَّعْرِ أَبْيَضَ، كَذَا فِي التَّاجِ، وَأَرْدَفَ بَابَ الشَّعْرِ بِبَابِ الشَّيْبِ لِأَنَّهُ مِنْ عَوَارِضِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ) : أَيِ الطَّيَالِسِيُّ لِأَنَّهُ سَمِعَ هَمَّامَ بْنَ يَحْيَى دُونَ الْمَصَاحِفِيِّ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِتَرْكِ وَصْفِهِ بِالْمَصَاحِفِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْمَصَاحِفِيَّ، وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، ثِقَةٌ، حَافِظٌ، غَلِطَ فِي أَحَادِيثَ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ. (أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «حَدَّثَنَا» . (هَمَّامٌ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيِ ابْنُ يَحْيَى، بِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَالْأَوَّلُ ثِقَةٌ، رُبَّمَا وَهِمَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (

عَنْ قَتَادَةَ) : تَابِعِيٌّ، مَشْهُورٌ. (قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: هَلْ خَضَبَ) : بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ هَلْ صَبَغَ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ شَعْرَهُ. (قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ) : أَيْ شَعْرُهُ. (ذَلِكَ) : أَيْ مَحَلَّ الْخِضَابِ كَذَا قِيلَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَكِنُّ فِي «لَمْ يَبْلُغْ» رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ الْخِضَابُ الَّذِي هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ خَضَبَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَضَبَ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ. أَيْ حَدَّهُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَى بُعْدِ وَقْتِ الْخِطَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ رَاجِعًا إِلَى الشَّيْبِ الْمَذْكُورِ حُكْمًا بِقَرِينَةِ خَضَبَ، أَيْ مَا بَلَغَ شَيْبُهُ ذَلِكَ أَيْ مَبْلَغًا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ) : أَيْ شَيْبُهُ. (شَيْئًا) : أَيْ قَلِيلًا، وَفِي نُسْخَةٍ «شَيْبًا» ، أَيْ بَيَاضًا يَسِيرًا، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِيرَكُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّقْدِيرُ إِنَّمَا كَانَ يَخْضِبُ شَيْبًا. وَفِيهِ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ رِوَايَاتِهِ الصَّرِيحَةِ بِنَفْيِ الْخِضَابِ مَا يُنَاسِبُ عُنْوَانَ الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فِي صُدْغَيْهِ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ لِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ كَائِنًا فِيهِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ، وَيُسَمَّى الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَيْهِ صُدْغًا أَيْضًا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَدَةِ الْحَالِ، وَرُبَّمَا قَالُوا السُّدْغُ بِالسِّينِ، قِيلَ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ «إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ» بِالرَّفْعِ أَيْ شَيْءٌ مِنَ الشَّيْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَصْرَ أَوِ التَّأْكِيدَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ «إِنَّمَا» عَلَى خِلَافٍ «فِيهِ» يُنَافِي مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ مَا عُدَّ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْحَصْرُ هُنَا بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا فِي اللِّحْيَةِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَيُعْلَمُ مِنْهُ قِلَّةُ شَيْبِ الرَّأْسِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَبْدُو الشَّيْبُ فِي الصُّدْغَيْنِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْمُرَادُ حَصْرُ شَيْبٍ يَكُونُ وَهُوَ فِي اللِّحْيَةِ. قَالَ الْعِصَامُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يُنَافِي مَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ «وَبِرَأْسِهِ رَدْغٌ» ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ وَضْعَ الرَّدْغِ عَلَى الرَّأْسِ إِنَّمَا كَانَ لِمَنْفَعَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْخِضَابِ، هَذَا وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ وَهِيَ مَا بَيْنَ الذَّقَنِ وَالشَّفَةِ السُّفْلَى، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَجْهُ الْجَمْعِ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَخْضِبْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نُبَذٌ. بِضَمٍّ فَفَتْحٍ أَوْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيْ شَعَرَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي شَابَ مِنْ عَنْفَقَتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا شَابَ مِنْ غَيْرِهَا، وَمُرَادُ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَعْرِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَضَبَ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ لَفَعَلْتُ. زَادُ ابْنُ سَعْدٍ وَالْحَاكِمُ «مَا شَأْنُهُ بِالشَّيْبِ» ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا دَهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، فَإِنْ لَمْ يَدْهِنْ تَبَيَّنَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ مِيرَكُ: لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ الْجَمْعِ بِمَا ذُكِرَ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ، أَقُولُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُقْتَطَعٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ لِأَنَسٍ فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، ثُمَّ كَلَامُ الْعَسْقَلَانِيِّ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَنْ إِشْكَالٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَضَبَ - كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْخِضَابِ - فَأَشَارَ إِلَى دَفْعِهِ بِأَنَّ مُرَادَ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَعْرِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْخِضَابَ، وَبِهِ انْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَقَوْلُهُ «لَمْ يَخْضِبْ» إِنَّمَا قَالَهُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ لِأَنَّ نَفْيَ عِلْمِهِ وَهُوَ الْخَادِمُ الْمُلَازِمُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيدٌ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى، قِيلَ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَبَغَ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْقَلِيلَةِ فِي حِينٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَتَرَكَهُ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ بِمَا رَأَى، وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ نَفَى الصَّبْغَ أَرَادَ

نَفْيَهُ بِصِفَةِ الدَّوَامِ وَالْأَغْلَبِيَّةِ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ أَرَادَ إِثْبَاتَهُ بِطَرِيقِ النُّدْرَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنِ الْمُثْبِتَ يُرِيدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَغَ الثَّوْبَ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ. (وَلَكِنْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : وَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ مَادَّةُ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرْبُهُ مِنْهُ سِنًّا. (خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ) : بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ نُونٍ، وَبِالْمَدِّ، مَعْرُوفٌ. (وَالْكَتَمُ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَالتَّاءُ مُخَفَّفَةٌ، كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَتَمُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالْمَشْهُورُ التَّخْفِيفُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ فَفِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ: هُوَ وَرَقٌ يُشْبِهُ وَرَقَ الْآسِ، يُصْبَغُ بِهِ. وَفِي الْمُهَذَّبِ: هُوَ الْوَسْمَةُ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْكَتَمُ نَبْتٌ يُخْلَطُ مَعَ الْوَسْمَةِ لِلْخِضَابِ، وَالْمَكْتُومَةُ دُهْنٌ لِلْعَرَبِ أَحْمَرُ، وَيُجْعَلُ فِيهِ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الْكَتَمُ. وَفِي الْفَائِقِ: هُوَ نَبْتٌ يُخْلَطُ مَعَ الْوَسْمَةِ لِلْخِضَابِ الْأَسْوَدِ. وَفِي النِّهَايَةِ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَبَغَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا عَنِ الْآخَرِ فَإِنَّ الْخِضَابَ بِهِمَا يَجْعَلُ الشَّعْرَ أَسْوَدَ، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ السَّوَادِ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ بِالْحِنَّاءِ أَوِ الْكَتَمِ بِأَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا بِالْوَاوِ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ تَارَةً وَبِالْكَتَمِ أُخْرَى، عَلَى أَنَّ الْوَاوَ قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِمْ: الْكَلِمَةُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَابِ الْبَسْمَلَةِ: وَصِلْ وَاسْتَكِنْ. وَقَدْ قَالَ شَارِحُو كَلَامِهِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَاوِ التَّخْيِيرُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْكَتَمُ الصِّرْفُ يُوجِبُ سَوَادًا مَائِلًا إِلَى الْحُمْرَةِ، وَالْحِنَّاءُ تُوجِبُ الْحُمْرَةَ فَاسْتِعْمَالُهُمَا يُوجِبُ مَا بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ، انْتَهَى. فَالْوَاوُ عَلَى أَصْلِهِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْمُغْرِبِ، وَعَنِ الْأَزْهَرِيِّ: أَنَّ الْكَتَمَ نَبْتٌ فِيهِ حُمْرَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ «كَانَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَلِحْيَتُهُ كَأَنَّهَا ضِرَامُ عَرْفَجٍ» ، انْتَهَى. وَالضِّرَامُ دِقَاقُ الْحَطَبِ الَّذِي يُسْرِعُ اشْتِعَالُ النَّارِ فِيهِ، وَالْعَرْفَجُ نَبْتٌ فِي السَّهْلِ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: وَقَدْ جُرِّبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ جَمِيعًا فَلَمْ يُسَوِّدْ بَلْ يُغَيِّرُ صُفْرَةَ الْحِنَّاءِ وَحُمْرَتِهِ إِلَى الْخُضْرَةِ وَنَحْوِهَا فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْلُغَ السَّوَادَ، وَكَذَا رَأَيْنَاهُ وَشَاهَدْنَاهُ، هَذَا وَقَدْ قَالَ مِيرَكُ: الْحَدِيثُ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ وَوَافَقَهُ ابْنُ سِيرِينَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْهُ بِذِكْرِ أَبِي بَكْرٍ فَقَطْ، وَلَفْظُهُ: قُلْتُ لَهُ: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: «وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ خَضَبَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ» ، وَأَظُنُّ أَنَّ ذِكْرَ عُمَرَ فِيهِ وَهْمٌ ; لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا» ، أَيْ صِرْفًا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا دَائِمًا، انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ إِذِ الدَّوَامُ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَنْسَبُ بِالْبَابِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَهُ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِضَابُ مَنْفِيًّا وَالشَّيْبُ مُثْبَتًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَاسَبَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ ذَلِكَ الْبَابِ إِنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ الْخِضَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) : أَيِ السَّكُونِيُّ مَوْلَاهُمْ، صَدُوقٌ، تُكُلِّمَ فِيهِ لِلتَّشَيُّعِ، رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ. (وَيَحْيَى بْنُ مُوسَى) : أَيِ الْبَلْخِيُّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. (قَالَا) : أَيْ كِلَاهُمَا. (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) : أَيِ ابْنُ هَمَّامِ بْنِ نَافِعٍ الْحِمْيَرِيُّ، مَوْلَاهُمْ، ثِقَةٌ، حَافِظٌ، كَبِيرٌ، مُصَنِّفٌ شَهِيرٌ، عَمِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَتَغَيَّرَ، وَكَانَ شَيْخًا لِأَجِلَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، رَوَى السِّتَّةُ حَدِيثَهُ، قَالَ الْعِصَامُ: وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (عَنْ مَعْمَرٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ. (عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: مَا عَدَدْتُ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِحْيَتِهِ إِلَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ) : بِفَتْحِ الْجُزْأَيْنِ لِلتَّرْكِيبِ، وَالشِّينُ سَاكِنَةٌ وَبَنُو تَمِيمٍ يَكْسِرُونَهَا، وَقَوْلُهُ: (شَعْرَةً بَيْضَاءَ)

إِمَّا تَمْيِيزٌ أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَنَسٍ لَا يُنَافِي مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، فَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ ; لِأَنَّ هَذَا السَّلْبَ عَامٌّ وَإِنْ كَانَ مُشْعِرًا بِأَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ. قَالَ الْعِصَامُ: يَسْتَدْعِي كَوْنُهُ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِحَسْبِ مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ، وَرَدَّهُ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: لَا يُنَافِي هَذَا الْحَدِيثُ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ الْآتِيَةَ، إِنَّمَا كَانَ شَيْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ ; لِأَنَّ الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ نَحْوُ الْعِشْرِينَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهَا، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِنَحْوِ الشَّيْءِ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ فَقَدْ وَهِمَ، نَعَمْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ: مَا شَانَهُ اللَّهُ بِالشَّيْبِ، مَا كَانَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ إِلَّا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِ عَشْرَةَ بَيْضَاءَ. وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ إِخْبَارَهُ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ بِأَنَّ الْأَوَّلَ إِخْبَارٌ عَنْ عَدِّهِ وَالثَّانِي إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ، فَهُوَ لَمْ يَعُدَّ إِلَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَأَمَّا فِي الْوَاقِعِ فَكَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِ عَشْرَةَ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ مَا فِي الْوَاقِعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَدِّ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ، نَعَمْ لَوْ وَقَعَ الظَّنُّ وَالتَّخْمِينُ مَوْضِعَ الْوَاقِعِ كَانَ لَهُ وَقْعٌ وَحَصَلَ بِهِ جَمْعٌ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَدِ اقْتَضَى حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ يَعْنِي الْمُخَرَّجَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ شَيْبَهُ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرِ شَعَرَاتٍ لَإِيرَادِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ لَكِنْ خُصَّ ذَلِكَ بِالْعَنْفَقَةِ، وَقَالَ: كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ، فَيُحْمَلُ أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى ذَلِكَ فِي صُدْغَيْهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) : وَزَادَ فِي نُسْخَةٍ قَبْلَهُ أَبُو مُوسَى. (أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «أَنْبَأَنَا» . (أَبُو دَاوُدَ) : أَيِ الطَّيَالِسِيُّ لِأَنَّهُ يَرْوِي عَنْ شُعْبَةَ. (أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «حَدَّثَنَا» . (شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ سُئِلَ عَنْ شَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ) : كَذَا بِالْفَاءِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ «قَالَ» فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ عِنْدِ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَجُمْلَةُ سُئِلَ بِتَقْدِيرِ قَدْ أَوْ بِدُونِهِ حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ الْعِصَامُ: لَا يَخْفَى أَنَّ «سُئِلَ» حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَقَوْلُهُ «فَقَالَ» مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَمَا بَعْدَهُ مَقُولُ الْقَوْلِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْكَلَامِ شَيْءٌ يَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِسَمِعْتُ فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَدَّرَ بَعْدَ تَمَامِ الْإِسْنَادِ يَقُولُ، انْتَهَى. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ أَنَّ «سَمِعَ» مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ «سُئِلَ» ، «وَفَقَالَ» إِلَى آخِرِهِ الْمَجْمُوعُ بَيَانٌ لِلْمَسْمُوعِ، وَحَاصِلُهُ أَنِّي سَمِعْتُ كَلَامَ سَائِلِهِ، فَجَوَابُهُ. (كَانَ دَهَنَ رَأْسَهُ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَرُوِيَ «ادَّهَنَ» بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَكِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ بِالضَّمِّ، كَذَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ بَابَ الِافْتِعَالِ مِنْهُ لَازِمٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: دَهَنَ رَأْسَهُ وَغَيَّرَهُ دَهْنًا بَلَّهُ، وَقَدِ ادَّهَنَ بِهِ عَلَى وَزْنِ افْتَعَلَ. وَقَالَ مِيرَكُ: كَذَا فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا دَهَنَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، وَكَذَا لَمْ يَدْهَنْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ادَّهَنَ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ، وَكَذَا لَمْ يَدَّهِنْ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ رَأْسُهُ مَفْعُولًا. وَلَكِنْ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ شَارِبَهُ إِذَا طَلَاهُ بِالدُّهْنِ وَادَّهَنَ عَلَى وَزْنِ افْتَعَلَ إِذَا تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ، فَقَوْلُهُ ادَّهَنَ شَارِبَهُ خَطَأٌ. وَفِي الصِّحَاحِ: دَهَنْتُهُ بِالدُّهْنِ أَدْهَنْتُهُ وَتَدَهَّنَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَادَّهَنَ أَيْضًا عَلَى افْتَعَلَ إِذَا تَطَلَّى بِالدُّهْنِ، انْتَهَى. قَالَ الْعِصَامُ: وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ ادَّهَنَ مِنَ الِافْتِعَالِ وَهُوَ لَازِمٌ فَيُرْفَعُ رَأْسُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ ادَّهَنَ، وَمَنْ حَفِظَ مَعَهُ نَصْبَ رَأْسِهِ، فَبَعْضُهُمْ يُخَطِّئُ الرِّوَايَةَ، وَبَعْضُهُمْ يَتَكَلَّفُ بِمَا يُخَالِفُ الدِّرَايَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَمْ يَنْظُرْ هَلِ اللُّغَةُ تُسَاعِدُهُ فَإِنْ أَبَيْتَ، وَصَحَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ نَصْبُ رَأْسِهِ لَا مَحَالَةَ فَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ (سَفِهَ نَفْسَهُ) أَوْ عَلَى تَضْمِينِ الِادِّهَانِ مَعْنَى الدَّهْنِ، انْتَهَى. وَقَدْ تَحَقَّقَ مِمَّا سَبَقَ أَنْ دَعْوَى الرِّوَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيِّ وَرَدَّهَا مِنْ مِيرَكِ شَاهْ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ قَوْلَ مِيرَكَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَ نَافِيًا، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ ; لِأَنَّ الْحَنَفِيَّ لَيْسَ مَظِنَّةً لِمَا ادَّعَاهُ فَإِنَّ رِوَايَتَهُ الْمُعْتَبَرَةَ مِنْ طَرِيقِ مِيرَكَ وَكَذَا رِوَايَةُ الْعِصَامِ، نَعَمْ لَوْ بَيَّنَّا مَنْ رَوَيَا عَنْهُ لَقُدِّمَا فَإِنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، ثُمَّ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِرَفْعِ رَأْسِهِ بَلْ نَفَاهُ مِيرَكُ وَلَمَّا خَطَّأَ الرِّوَايَةَ وَأَيَّدَ خَطَأَهَا بِمَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ مِنَ الدِّرَايَةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى تَصْحِيحِهَا بِتَأْوِيلٍ يُجَوِّزُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ نَاقِلِ الرِّوَايَةِ مِمَّا وَرَدَتْ فِي حَدِيثٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ لِلْفَرْقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ (سَفِهَ نَفْسَهُ) فَإِنَّمَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ أَوَّلًا وَضَبْطِ نَصْبِهِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا ثَانِيًا، ثُمَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ اسْتَمْهَنَهَا وَأَذَلَّهَا وَاسْتَخَفَّ بِهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ: سَفِهَ بِالْكَسْرِ مُتَعَدٍّ وَبِالضَّمِّ لَازِمٌ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ النَّاسَ» أَيْ تَحْقِرَهُمْ، وَقِيلَ أَصْلُهُ سَفَّهَ نَفْسُهُ عَلَى الرَّفْعِ فَنُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَوْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ فَنُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، انْتَهَى. فَكَلَامُ الْعِصَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ ; فَإِنَّ التَّمْيِيزَ لَا يَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً عِنْدَ الْبَصْرِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ عَلَى التَّضْمِينِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ التَّقْدِيرَ

أَدْهَنَ دَاهِنًا رَأْسَهُ. (لَمْ يُرَ مِنْهُ) : أَيْ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ أَوْ مِنْ أَجْلِ دُهْنِهِ. (شَيْبٌ) : لِالْتِبَاسِ بَيَاضِهِ لِلَمَعَانِ الشَّعْرِ مِنَ الدُّهْنِ. (فَإِذَا لَمْ يَدْهُنْ) : بِضَمِّ الْهَاءِ كَذَا مَضْبُوطٌ فِي أَصْلِنَا، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ، لَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيُّ وَتَبِعَهُ الْعِصَامُ أَنَّ مُضَارِعَهُ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رُئِيَ) : أَيْ شَيْبٌ. (مِنْهُ) : وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَكَانَ إِذَا دَهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ وَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيَّنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شَعِثَ أَيْ تَفَرَّقَ شَعْرُ رَأْسِهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الِادِّهَانِ كَانَ يَجْمَعُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَيَضُمُّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَتِ الشَّعَرَاتُ الْبِيضُ مِنْ قِلَّتِهَا لَا تَبِينُ، فَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ ظَهَرَتْ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، مَنْسُوبٌ إِلَى كِنْدَةَ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَمَحَلَّةٍ بِالْكُوفَةِ. (الْكُوفِيُّ) : صَدُوقٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (عَنْ شَرِيكٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، أَيِ الْقَاضِي، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) : أَيِ ابْنِ حَفْصٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعُمَرِيِّ الْمَدَنِيِّ أَبُو عُثْمَانَ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، قَدَّمَهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ عَلَى مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، وَقَدَّمَهُ ابْنُ مَعِينٍ عَلَى الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَلَى الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا. (عَنْ نَافِعٍ) : أَيْ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، مَشْهُورٌ. (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : أَيْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ، وُلِدَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِيَسِيرٍ، وَقِيلَ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ شَهِدَ الْخَنْدَقَ وَمَا بَعْدَهُ، رُوِيَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا. (قَالَ: إِنَّمَا كَانَ شَيْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا) : أَيْ قَرِيبًا. (مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةٍ بَيْضَاءَ) : سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ) : بِالتَّصْغِيرِ. (مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ) : صَدُوقٌ، لَهُ أَوْهَامٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ. (عَنْ شَيْبَانَ) : صَدُوقٌ يَهِمُ رُمِيَ بِالْقَدَرِ، أَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : أَيِ السَّبِيعِيِّ. (عَنْ عِكْرِمَةَ) : بِسُكُونٍ بَيْنَ كَسْرَتَيْنِ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ثَبْتٌ، عَالِمٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَكْذِيبُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ. (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ) :

بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، قِيلَ: أَيْ ظَهَرَ فِيكَ آثَارُ الشَّيْبِ مِنَ الثِّقَلِ وَضَعْفِ الْبَدَنِ وَنَحْوِهِمَا، فَهُوَ لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ قِلَّةِ الشَّيْبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَأَنَّ حِكْمَةَ السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ مِزَاجَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَدَلَتْ فِيهِ الْأَمْزِجَةُ وَالطَّبَائِعُ الْأَرْبَعَةُ وَاعْتِدَالُهَا مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الشَّيْبِ وَلَوْ فِي أَوَانِهِ فَكَانَ شَيْبُهُ بِالنَّظَرِ لِذَلِكَ كَأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى أَوَانِهِ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاعْتِدَالَ يُوجِبُ الِاعْتِدَالَ بِأَنَّ ظُهُورَ الشَّيْبِ لَا يَكُونُ قَبْلَ زَمَانِهِ وَلَا بَعْدَ أَوَانِهِ بِخِلَافِ عَدَمِ الِاعْتِدَالِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَقَوْلُهُ: وَاعْتِدَالُهَا مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الشَّيْبِ وَلَوْ فِي أَوَانِهِ، غَيْرُ صَحِيحٍ وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ ظَهَرَ فِيكَ أَثَرُ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، انْتَهَى. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ لِلْجَوَابِ. (قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَيَّبَتْنِي) : أَيْ ضَعَّفَتْنِي وَوَهَّنَتْ عِظَامِي وَأَرْكَانِي لَمَّا أَوْقَعَتْنِي فِي الْهُمُومِ وَأَكْثَرَتْ أَحْزَانِي. (هُودٌ) : بِضَمِّ الدَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَقَالَ مِيرَكُ: صُحِّحَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا هُودٌ بِالتَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ مَعًا عَلَى أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ، انْتَهَى. وَزَعَمَ الْحَنَفِيُّ وَتَبِعَهُ الْعِصَامُ أَنَّهُمَا رِوَايَتَانِ، ثُمَّ وَجَّهَهُمَا بِمَا قَالَ الرِّضَى إِنْ جُعِلَ هُودٌ اسْمَ السُّورَةِ لَا يُصْرَفُ لِأَنَّهُ كَمَاهْ وَجُورَ وَإِنْ جُعِلَ اسْمَ النَّبِيِّ صُرِفَ وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ حِينَئِذٍ أَيْ سُورَةَ هُودٍ. (وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ) : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ خَفْضُهَا عَلَى الْحِكَايَةِ بَلْ هُوَ الْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى. (وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) : أَيْ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى السُّوَرِ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُؤَثِّرُ الْحَقِيقِيُّ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ اهْتِمَامِي بِمَا فِيهَا مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْمَثُلَاتِ النَّوَازِلِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَخَذَ مِنِّي مَا أَخَذَهُ حَتَّى شِبْتُ قَبْلَ أَوَانِ الْمَشِيبِ خَوْفًا عَلَى أُمَّتِي، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ لَهُ: رُوِيَ عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ» قَالَ: «نَعَمْ» فَقُلْتُ: بِأَيَّةِ آيَةٍ؟ قَالَ: قَوْلُهُ: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) ، انْتَهَى. وَهُوَ لَا يُنَافِي أَسْبَابًا أُخَرَ مَذْكُورَةً فِي سَائِرِ السُّوَرِ مَعَ أَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إِلَيْهَا وَلِذَا قِيلَ الِاسْتِقَامَةُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كَرَامَةٍ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِقَامَةِ مَذْكُورٌ فِي الشُّورَى أَيْضًا، مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَصْرِ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا سَمِعَ فِي هُودٍ أَوْ بِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي الشُّورَى مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الثَّبَاتُ وَالْمُدَاوَمَةُ، بِخِلَافِ مَا هُوَ فِي هُودٍ، فَإِنَّ فِيهَا أَمْرُ الْأُمَّةِ بِهَا أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمَ ضَعْفَهُمْ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا» فَلِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِحَالِهِمْ وَمُلَاحَظَةِ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَمَآلِهِمْ صَارَ مُعْتَكِفًا فِي زَاوِيَةِ الْغَمِّ وَالْهَمِّ، فَظَهَرَ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ أَثَرُ الضَّعْفِ وَالْأَلَمِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا انْدَفَعَ التَّدَافُعَاتُ وَالِاضْطِرَابَاتُ الْوَاقِعَةُ فِي الشُّرُوحِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ هُودٍ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ فَإِنَّ التَّقْدِيمَ الذِّكْرِيَّ لَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ الْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ فَمَحَلُّ بِحَثٍ فَإِنَّ مَحَلَّ اعْتِبَارِ التَّقْدِيمِ الذِّكْرِيِّ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ جَوَازِ تَأْخِيرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) فَإِنَّهُ أَفَادَ تَقْدِيمَ الصَّفَا وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «ابْدَءُوا» أَوْ «ابْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» ، وَكَمَا أَخَذَ بِهِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَتَقْدِيمُ هُودٍ مُتَعَيَّنٌ لِتَقَدُّمِهَا فِي التَّنْزِيلِ عَلَى السُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ الْمُرَتَّبَةِ، وَتَقْدِيمُ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ لَا يُفِيدُ أَمْرًا زَائِدًا بِخِلَافِ تَقْدِيمِ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالِاخْتِصَاصَ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) نَعَمْ، إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَجْهٌ لِلتَّقْدِيمِ وَوَجْهٌ لِلتَّأْخِيرِ فَيُحْتَاجُ إِلَى نُكْتَةٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) ، وَقَوْلِهِ: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) تَقَدَّمَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى لِأَنَّهُ أَكْبَرُ سِنًّا مَعَ مَرَاعَاتِ الْفَاصِلَةِ، وَقُدِّمَ مُوسَى لِأَنَّهُ

الْأَصْلُ فِي النُّبُوَّةِ وَهَارُونُ تَابِعٌ لَهُ مَعَ أَنَّهُ مُقْتَضَى رُءُوسِ الْآيِ أَيْضًا. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) : بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ. (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ بَاءٍ بَعْدَهَا فَاءٌ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، كَانَ فِي وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْلُغْ، رُوِيَ عَنْهُ خَمْسُونَ حَدِيثًا، حَدِيثَانِ فِي الْبُخَارِيِّ وَفِي مُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ وَفِيهِمَا حَدِيثَانِ. (قَالَ قَالُوا) : أَيِ الصَّحَابَةُ أَوْ رَئِيسُهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَالْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ مَعَ أَنَّ الْقَائِلَ وَاحِدٌ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ فَكَأَنَّ جَمِيعَهُمْ قَالُوا. (يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَاكَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ: (قَدْ شِبْتَ) : فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ «وَقَدْ شِبْتَ» حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ نَرَاكَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا) : أَيْ أَشْبَاهُهَا الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقِيَامَةِ وَعَذَابِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَعَلَّهَا الْمُفَصَّلَةُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقَوْلُهُ: كَانَ وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ السُّوَرِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرُهُمَا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ حَيْثُمَا وُجِدَتْ فِي الْقُرْآنِ يَكُونُ سَبَبًا لِضَعْفِ الْقُوَى، وَالسُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ هِيَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى وَقَائِعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَالشُّعَرَاءِ وَطَهَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْقَصَصِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمَدَنِيَّاتُ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْخَمْسِ الْأُوَلِ وَفِي الرَّعْدِ وَالْفَتْحِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا وَالرَّحْمَنِ وَالْحَدِيدِ وَقَدْ سَمِعَ وَالدَّهْرِ وَالنَّصْرِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يُنَاسِبُ السَّبَبَ الْمُتَقَدِّمَ الْمَذْكُورَ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ مُصَرِّحٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: بَيْنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ جَالِسَانِ نَحْوَ الْمِنْبَرِ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ نِسَائِهِ يَمْسَحُ لِحْيَتَهُ وَيَرْفَعُهَا فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا رَقِيقًا، وَكَانَ عُمَرُ رَجُلًا شَدِيدًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأُمِّي لَقَدْ أَسْرَعَ فِيكَ الشَّيْبُ، فَرَفَعَ لِحْيَتَهُ بِيَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَذَرَفَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا أَخَوَاتُهَا؟ قَالَ: «الْوَاقِعَةُ، وَالْقَارِعَةُ، وَسَأَلَ سَائِلٌ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْقَارِعَةَ وَسَأَلَ سَائِلٌ غَيْرُ مَذْكُورَتَيْنِ فِي السُّوَرِ الْمُفَصَّلَةِ السَّابِقَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا وَمَا فُعِلَ بِالْأُمَمِ قَبْلِي» . (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ جِيمٍ. (أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ. (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) : تَصْغِيرُ عُمَرَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (عَنْ إِيَادِ) : بِكَسْرِ هَمْزٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ. (بْنِ لَقِيطٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. (الْعِجْلِيِّ) : بِكَسْرِ عَيْنٍ وَسُكُونِ جِيمٍ. (عَنْ أَبِي رِمْثَةَ) : بِرَاءٍ مَكْسُورَةِ فميم ساكنة

فمثلثة، صَحَابِيٌّ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ (التَّيْمِيِّ) بِفَتْحِ التَّاءِ، نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ. (تَيْمِ الرِّبَابِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَتَيْنِ، وَاحْتُرِزَ عَنْ تَيْمِ قُرَيْشٍ قَبِيلَةٍ مِنْ بَكْرٍ، قَالَ مِيرَكُ: صَحَّ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا «الرِّبَابُ» بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ وَضَبَطَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ بِفَتْحِ الرَّاءِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: «الرِّبَابُ» بِالْكَسْرِ، أَحْيَاءُ ضَبَّةَ لِأَنَّهُمْ أَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي رِبٍّ وَتَعَاقَدُوا وَ «الرِّبُّ» ثِقْلُ السَّمْنِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «الرِّبَابُ» بِالْكَسْرِ خَمْسُ قَبَائِلَ - مِنْ جُمْلَتِهِمْ تَيْمٌ - غَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِي رِبٍّ وَتَحَالَفُوا عَلَيْهِ فَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً، انْتَهَى. وَالْخَمْسُ: ضَبَّةُ، وَثَوْرٌ، وَعُكْلٌ، وَتَيْمٌ، وَعَدِيُّ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَتَيْمُ الرِّبَابِ بِالْجَرِّ فِي أَصْلِنَا، وَقَالَ الْعِصَامُ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَمَا اشْتُهِرَ مِنْ جَرِّهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَتَأَمَّلْ، فَتَأَمَّلْنَا وَظَهَرَ لَنَا أَنَّ وَجْهَهُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّيْمِيَّ مَعْنَاهُ الْمَنْسُوبُ إِلَى التَّيْمِ وَفِي قُوَّتِهِ فَيَصِحُّ جَرُّهُ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ التَّيْمِيِّ وَنُكْتَتُهَا تُعَدُّدُ الْتَيْمِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ، أَيْ أَحَدُ تَيْمِ الرِّبَابِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ النَّصْبَ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي غَيْرُ ظَاهِرٍ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ يَعْنِي بِالتَّيْمِيِّ تَيْمِ الرِّبَابِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ بِأَنْ يُقَالَ: يَعْنِي التَّيْمَ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ تَيْمُ الرِّبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي ابْنٌ لِي) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ الْإِتْيَانِ وَالْوَاوُ حَالِيَّةٌ، ذَكَرَهُ الْعِصَامُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِأَصْلِنَا الْمُصَحَّحِ الْمُقَابَلِ بِالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: «مَعَ ابْنٍ لِي» ظَرْفٌ لِأَتَيْتُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «مَعِي ابْنٌ لِي» ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَتَيْتُ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى بِالضَّمِيرِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمَوْجُودَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: «وَمَعِي ابْنٌ لِي» لَمْ يُسَمَّ الِابْنُ الْمَذْكُورُ، كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَوَجَدْتُ بِخَطِّهِ عَلَى هَامِشِ نُسْخَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مَكْتُوبًا وَإِلَيْهِ مَنْسُوبًا، كَذَا وَقَعَ فِي الشَّمَائِلِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي. وَأَظُنُّهُ الصَّوَابُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ زَادَ: ثُمَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي: «ابْنُكَ؟» قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: «حَقًّا؟» قَالَ: أَشْهَدُ بِهِ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْتِ شَبَهِي فِي أَبِي وَمِنْ حَلِفِ أَبِي عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ تَكُونُ عَنِ الْأَبِ وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ الِابْنِ وَحِينَئِذٍ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا. (قَالَ) : أَيْ الِابْنُ. (فَأُرِيتُهُ) : فِعْلٌ مَجْهُولٌ مِنَ الْإِرَاءَةِ، أَيْ جَعَلَنِي أَبِي أَوْ غَيْرَهُ رَائِيًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَقُلْتُ لَمَّا رَأَيْتُهُ) : أَيْ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَتَرَاخٍ. (هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ) : وَمَعْنَاهُ عَلِمْتُ يَقِينًا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ نُورِ جَمَالِهِ الْعَلِيِّ وَظُهُورِ كَمَالِهِ الْجَلِيِّ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِظْهَارِ مُعْجِزَةٍ وَإِتْيَانِ بُرْهَانٍ وَمَحَجَّةٍ. وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ الْحَنَفِيُّ مِنْ أَنَّ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ بَعِيدٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْإِيهَامِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْإِرَادَةِ فِي الظَّاهِرِ. (وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ) : أَيْ مَصْبُوغَانِ بِلَوْنِ الْخُضْرَةِ بِتَمَامِهَا، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ أَكْثَرُ لِبَاسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مَخْطُوطَيْنِ بِخُطُوطٍ خُضْرٍ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «بُرْدَانِ» بَدَلَ «ثَوْبَانِ» ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْبُرُودَ ذَوَاتُ الْخُطُوطِ، قَالَ الْعِصَامُ: الْمُرَادُ بِالثَّوْبَيْنِ الرِّدَاءُ وَالْإِزَارُ، وَمَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ لُبْسَ الثَّوْبِ الْأَخْضَرِ سُنَّةٌ ضَعْفُهُ ظَاهِرٌ إِذْ غَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ، انْتَهَى. وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ إِذِ الْأَشْيَاءُ مُبَاحَةٌ عَلَى أَصْلِهَا، فَإِذَا اخْتَارَ الْمُخْتَارُ شَيْئًا مِنْهَا بِلُبْسِهِ لَا شَكَّ فِي إِفَادَةِ الِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ رَأَيْتُهُ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: مِنْ فَاعِلِ «رَأَيْتُ» وَهُوَ بَعِيدٌ، أَوْ فَاعِلِ «قُلْتُ» وَهُوَ أَبْعَدُ، وَقَالَ الْعِصَامُ: حَالٌ مِنْ «نَبِيِّ اللَّهِ» ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ مَعْنًى وَإِنْ قَرُبَ لَفْظًا، وَأَمَا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ بِأَجْنَبِيٍّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةُ أَصْلٍ نَحْوِيٍّ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُسَمَّى أَجْنَبِيًّا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ، فِي حُكْمِ التَّقْرِيرِ. (وَلَهُ شَعْرٌ) : أَيْ قَلِيلٌ مِنْ نَعْتِهِ أَنَّهُ (قَدْ عَلَاهُ) : أَيْ غَلَبَهُ وَشَمِلَهُ. (الشَّيْبُ) : فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ: شَيْبَهُ لَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ شَعْرَةً. (وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ) : أَيْ حَالَ كَوْنِهِ يُخَالِطُ شَيْبَهُ حُمْرَةٌ فِي أَطْرَافِ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ أَوَّلُ مَا يَشِيبُ أُصُولُ الشَّعْرِ، وَأَنَّ الشَّعْرَ إِذَا قَرُبَ شَيْبُهُ صَارَ أَحْمَرَ ثُمَّ أَبْيَضَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالشَّيْبِ الْبَيَاضُ، وَمَعْنَى أَحْمَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْبَيَاضُ صُبِغَ بِحُمْرَةٍ فَيُوَافِقُ مَا مَرَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ أَيْضًا

(باب ما جاء في خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)

أَنَّ شَيْبَهُ أَحْمَرُ مَصْبُوغٌ بِالْحِنَّاءِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ خَضَبَ أَمْ لَا؟ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِمِيرَكَ شَاهْ فِي هَذَا الْمَقَامِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الطِّيبِيِّ مِمَّا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ. (أَخْبَرَنَا سُرَيْجُ) : مُصَغَّرُ سَرْجٍ بِالْجِيمِ. (بْنُ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَبُو الْحَسَنِ الْبَغْدَادِيُّ الْجَوْهَرِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ خُرَاسَانَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ. (أَخْبَرَنَا حَمَّادُ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ. (بْنُ سَلَمَةَ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، وَالْخَمْسَةُ فِي صِحَاحِهِمْ. (عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) : تَقَدَّمَ. (قَالَ: قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكَانَ) : بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ «هَلْ كَانَ» . (فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْبٌ) : هَكَذَا فِي أَصْلِنَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَعَلَيْهِ الشُّرَّاحُ أَيْضًا، وَقَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ وَفِي أَكْثَرِهَا هَكَذَا. (قَالَ لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا شَعَرَاتٌ) : بِدُونِ لَفْظِ شَيْبٍ، وَالتَّنْوِينُ فِي شَعَرَاتٍ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ، وَقَالَ الْعِصَامُ: قَوْلُهُ شَيْبٌ أَيْ بَيَاضُ شَعْرٍ أَوْ شَعْرٌ أَبْيَضُ فَإِنَّ الشَّيْبَ يَكُونُ بِالْمَعْنَيَيْنِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا شَعَرَاتٌ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ إِلَّا بَيَاضُ شَعَرَاتٍ. (فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ مَحَلِّ تَفَرُّقِ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْحَنَفِيِّ بِوَسَطِهِ فَغَيْرُ مُطَابِقٍ مَعَ إِيهَامِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مُقَدَّمِهِ، فَلَعَلَّهُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ. (إِذَا ادَّهَنَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيِ اسْتَعْمَلَ الدُّهْنَ وَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ. (وَارَاهُنَّ) : مِنَ الْمُوَارَاةِ أَيْ غَيَّبَهُنَّ. (الدُّهْنُ) : وَأَخْفَاهُنَّ وَسَتَرَهُنَّ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا إِلَّا بِتَدْقِيقِ نَظَرٍ وَتَعْمِيقِ بَصَرٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّتِهِنَّ، وَالدُّهْنِ بِضَمِّ الدَّالِ فِي أَصْلِنَا، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ بِضَمِّهَا وَفَتْحِهَا، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: صُحِّحَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ إِلَى السَّبَبِ وَإِنْ قُرِئَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ فَهُوَ أَوْفَقُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى وَظُهُورِ السَّبَبِيَّةِ فِيهِ أَقْوَى كَمَا لَا يَخْفَى، انْتَهَى. فَزَعْمُ الْعِصَامِ أَنَّ الْفَتْحَ وَالضَّمَّ كِلَاهُمَا رِوَايَةٌ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ الدِّرَايَةِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي خِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي الْقَامُوسِ: الْخِضَابُ كَكِتَابٍ مَا يُخْتَضَبُ بِهِ أَيْ يُلَوَّنُ بِهِ، وَفِي الشُّرُوحِ أَنَّ الْخِضَابَ كَالْخَضَبِ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّلْوِينِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا أَنْسَبُ بِالْبَابِ ; لِأَنَّ مُعْظَمَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا جَاءَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ يُنَاسِبُ الْأَوَّلَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ جَعْلَهُ مَصْدَرًا بَعِيدٌ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، ثُمَّ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ. (عَنْ إِيَادِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. (بْنِ لَقِيطٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ. (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو رِمْثَةَ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ. (قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنٍ لِي) : ظَرْفُ لَغْوٍ لِأَتَيْتُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ " مَعِي " بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا " ابْنٌ لِي " بِرَفْعِ ابْنٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَتَيْتُ لَكِنَّهُ اكْتَفَى بِالضَّمِيرِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ " مَعَ ابْنٍ لِي " حَالٌ، أَيْ

كَائِنًا مَعَهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. (فَقَالَ) : أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ابْنُكَ هَذَا؟) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةٌ وَأُظْهِرَتْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ: وَلِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَسَاغٌ فَيُغْنِي عَنْ حَذْفِ الْهَمْزَةِ. فَغَفْلَةٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّ الرِّوَايَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدِّرَايَةِ، وَلِذَا قِيلَ: ثَبِّتِ الْعَرْشَ ثُمَّ انْقُشْ، وَفِي تَأْخِيرِ هَذَا إِشْكَالٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِهِ هَذَا، وَالْمُطَابِقُ لَهُ " أَهَذَا ابْنُكَ؟ " لَا عَنْ هَذِيَّةِ ابْنِهِ الْمُطَابِقِ لَهُ مَا فِي الْمَتْنِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ الشَّاهِدَةِ بِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْأَوَّلِ وَبِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ أَنَّ لَهُ ابْنًا، فَكَانَ الْمَطْلُوبُ هَذِيَّةَ الِابْنِ الْمَعْهُودِ، وَلِذَا قَالَ: " ابْنُكَ هَذَا " أَيِ الْمَعْهُودُ ذِهْنًا. (فَقُلْتُ: نَعَمْ) : الرِّوَايَةُ بِفَتْحَتَيْنِ وَقُرِئَ فِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَحُكِيَ فِي اللُّغَةِ بِكَسْرِهَا. (أَشْهَدُ بِهِ) : هَذِهِ جُمْلَةُ مُقَرَّرَةٌ لِقَوْلِهِ " نَعَمْ " قَالَ مِيرَكُ: يُرْوَى بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ أَيْ كُنْ شَاهِدًا عَلَى اعْتِرَافِي بِأَنَّهُ ابْنِي مِنْ صُلْبِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُجَرَّدِ أَيْضًا، أَيْ أُقِرُّ بِهِ وَأَعْتَرِفُ بِذَلِكَ، انْتَهَى. فَقَوْلُ الْحَنَفِيِّ رُوِيَ عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ، وَعَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ أَيْضًا مِنَ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنَ الشُّهُودِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مِيرَكَ، أَوْ بِنَاءً عَلَى وَهْمِهِ مِنْ عَدَمِ فَرْقِهِ بَيْنَ النُّسْخَةِ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ، ثُمَّ مِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُ قَدَّمَ النُّسْخَةَ عَلَى الرِّوَايَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ضَبْطِ أَصِلٍ لَهُ أَصْلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنَ الشُّهُودِ مَعَ أَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مِنَ الْمَعْنَى. فَقَدْ رَدَّهُ الْعِصَامُ بِقَوْلِهِ: وَجَعْلُهُ مِنَ الشُّهُودِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، يُقَالُ شَهِدَهُ أَيْ حَضَرَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِبَيَانِ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِجِنَايَتِهِ عَلَى مَا اعْتَادَهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ بِجِنَايَةِ الْآخَرِ وَقَدْ أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) . (قَالَ) : أَيْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ) : أَيْ لَا يُؤْخَذُ هَذَا بِذَنْبِكَ وَلَا تُؤْخَذُ أَنْتَ بِذَنْبِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " أَلَا لَا يَجْنِيَ جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ "، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ قَالَ: " ابْنُكَ هَذَا؟ " فَقُلْتُ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: " ابْنُ نَفْسِكَ؟ " قُلْتُ: أَشْهَدُ بِهِ، قَالَ: " فَإِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ". وَمِنْ طَرِيقِ ثَابِتِ بْنِ مُنْقِذٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي: " ابْنُكَ هَذَا؟ " قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: " حَقًّا؟ " قَالَ: أَشْهَدُ بِهِ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا مِنْ تَبَيُّنِ شَبِهِي فِي أَبِي وَمِنْ حَلِفِ أَبِي، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ " قَالَ: وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، انْتَهَى. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالِاحْتِمَالِ الْعَقْلِيِّ الْمُخَالِفِ لِلدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَهُمَا أَوْ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ. (قَالَ) : أَيْ أَبُو رِمْثَةَ إِعَادَةً لِفَصْلِ الْكَلَامِ وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمُ رُجُوعُ ضَمِيرِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ يُوجَدْ كَلِمَةُ " قَالَ ". (وَرَأَيْتُ الشَّيْبَ أَحْمَرَ) : أَيْ لِقُرْبِهِ مِنَ الْبَيَاضِ أَوْ بِسَبَبِ الْخِضَابِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْبَابِ وَيُؤَيِّدُهُ كَلَامُ مِيرَكَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ بِلَفْظِ " وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ " زَادَ الْحَاكِمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ " وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ "، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ: " وَكَانَ قَدْ لَطَّخَ لِحْيَتَهُ بِالْحِنَّاءِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ: فَإِذَا رَجُلٌ لَهُ وَفْرَةٌ بِهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَرَأَيْتُ بِرَأْسِهِ رَدْعَ حِنَّاءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ مِنْ طَرِيقِ غَيْلَانَ بْنِ جَامِعٍ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي خِضَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (قَالَ أَبُو عِيسَى) : هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُصَحَّحَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ كُنْيَتِهِ عَلَى اسْمِهِ إِذِ التَّكْنِيَةُ عَنْ صَاحِبِهَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ تَبَعٌ لِشَيْخِهِ وَمُقْتَدَاهُ وَهُوَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَيْثُ عَبَّرَ فِي صَحِيحِهِ وَسَائِرِ تَصَانِيفِهِ أَيْضًا عَنْ نَفْسِهِ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ احْتِمَالًا بَعِيدًا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التَّلَامِذَةِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَقَالَ الْعِصَامُ: لَمْ يَقُلْ " قُلْتُ " لِئَلَّا يُشْتَبَهَ بِقُلْتُ سَابِقًا، وَلَمْ يَقُلْ " قَالَ " بِالْإِضْمَارِ لِخَفَاءِ الْمَرْجِعِ وَالِاشْتِبَاهِ بَقَالَ سَابِقًا. فَمَنْ قَالَ: هُوَ مُدْرَجٌ عَنْ رَاوِي الْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ بَعُدَ عَنِ الصَّوَابِ، قُلْتُ: كَلَامُهُ مَعَ بُعْدِهِ أَقْرَبُ مِنَ التَّعْلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَالتَّأْوِيلَيْنِ

الْمَسْطُورَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ تَوْجِيهِ كَلَامِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (هَذَا) : أَيْ هَذَا الْحَدِيثِ. (أَحْسَنُ شَيْءٍ) : أَيْ أَرْجَحُ حَدِيثٍ. (رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ) : أَيْ بَابِ الْخِضَابِ. (وَأَفْسَرُ) : مِنَ الْفَسْرِ بِالْفَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوْضَحُ رِوَايَةً وَأَظْهَرُ دَلَالَةً. (لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْلُغِ الشَّيْبَ) : أَيْ لَمْ يَصِلْهُ وَلَمْ يَظْهَرِ الْبَيَاضُ فِي شَعْرِهِ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ شَيْبُهُ بِالْحُمْرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ أَبُو رِمْثَةَ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِالْخِضَابِ فِي طَرِيقِ حَدِيثِ أَبِي رِمْثَةَ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ أَوْ هِيَ مُؤَوَّلَةٌ كَمَا سَيَجِيءُ، انْتَهَى. يَعْنِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُمْرَةُ الشَّيْبِ بِحُمْرَةِ الْخِضَابِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا قِيلَ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ ; لِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَائِلٌ بِالْخِضَابِ بِدَلِيلِ سِيَاقِهِ لِأَحَادِيثِهِ الْآتِيَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُرَادُهُ لَمْ يَسُقْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصْلًا بَلْ كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَى سِيَاقِهِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ ذَكَرَ كَوْنَهُ أَحْمَرَ أَيْضًا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ثَمَّ أَوْلَى، وَذِكْرُ كَوْنِهِ أَحْمَرَ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ حُمْرَتَهُ الذَّاتِيَّةَ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَةٌ لِلشَّيْبِ فَذِكْرُهُ لَهُ بِتَمَامِهِ فِي الْبَابَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مُنَاسَبَةً بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَهِيَ أَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ الشَّيْبِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْبَابِ السَّابِقِ وَأَنَّهُ كَانَ أَحْمَرَ بِالْخِضَابِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِهَذَا الْبَابِ، وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَمْ يَشِبْ فَمَعْنَاهَا لَمْ يَكْثُرْ شَيْبُهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتُرُهُ بِالْحُمْرَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَائِلٌ بِالْخِضَابِ لِإِمْكَانِ تَرْجِيحِ عَدَمِهِ عِنْدَهُ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَوَقَعَ لِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا اضْطِرَابٌ وَتَرَدُّدٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ وَمَنْشَؤُهُ عَدَمُ اطِّلَاعِ قَوَاعِدِ هَذَا الْفَنِّ لَدَيْهِ، وَقَدْ قَالَ الْعِصَامُ بِالرَّدِّ الْبَلِيغِ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ. (أَبُو رِمْثَةَ اسْمُهُ رِفَاعَةُ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْفَاءِ. (بْنُ يَثْرِبِيٍّ) : نِسْبَةً إِلَى يَثْرِبَ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ لِلْمَدِينَةِ. (التَّيْمِيُّ) : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ جَرُّهُ نِسْبَةً إِلَى تَيْمٍ قَبِيلَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَلَا شَكَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَيْضًا مَقُولُ قَوْلِ أَبِي عِيسَى، لَكِنْ وَجْهُ تَأْخِيرِهِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَعَدَمِ ذِكْرِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ خَفِيٌّ، انْتَهَى. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا الْكَلَامُ فِي الْبَابِ السَّابِقِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ لَمَّا كَانَ مَآلُهُمَا وَاحِدًا فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ بَعْدَ تَمَامِ كَلَامِهِ وَفَرَاغِ مَرَامِهِ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي) : أَيْ وَكِيعٌ. (عَنْ شَرِيكِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُغْنِي، قَالَ الْعِصَامُ: فَمَا فِي الشَّرْحِ هُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ فَكَأَنَّهُ سَهْوٌ، ثُمَّ هَذَا نَسَبُهُ إِلَى جَدِّهِ وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ «الْآتِي» ، وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ إِلَخْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَيْمِيٌّ مَوْلَاهُمْ، مَدَّنِيٌّ، شَهِيرٌ بِالْأَعْرَجِ، ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَوْهَبٍ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْأَبِ مِنَ الطَّبَقَةِ الْخَامِسَةِ لَمْ يُخَرِّجْ مِنْ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ حَدِيثَهُ إِلَّا النَّسَائِيُّ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ. (قَالَ سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) : بِفَتْحِ الضَّادِ، أَيْ هَلْ صَبَغَ شَعْرَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

خَضَبَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. (قَالَ أَبُو عِيسَى، وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْوَضَّاحُ الْوَاسِطِيُّ الْبَزَّارُ، رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ. (هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، فَقَالَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : قَالَ الْعِصَامُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ «أَبِي هُرَيْرَةَ» ، «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ» . وَفِي الشَّرْحِ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا الظَّاهِرَ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَاءَ خِضَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ تَرْكِ الظَّاهِرِ بَلْ ذَكَرَ مَا لَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنِ الظَّاهِرِ. قُلْتُ: وَجْهُهُ يَتَبَيَّنُ مِنْ كَلَامِ مِيرَكَ حَيْثُ وَجَدْتُ بِخَطِّهِ فِي هَامِشِ نُسْخَةِ أَصْلِهِ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَنَدِ أَبِي عَوَانَةَ بَيَانُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَوْهَبٍ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا فَفِيهِ تَقْوِيَةٌ وَتَقْرِيرٌ لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانُ وَهْمِ شَرِيكٍ بِقَوْلِهِ «سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ» وَأَنَّ الْخَبَرَ مَرْوِيٌّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ أَكْثَرِ الطُّرُقِ الْمَرْوِيَّةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى. فَالشَّارِحُ اخْتَارَ الشِّقَّ الثَّانِي، وَالْعِصَامُ وَقَعَ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا الْمَشَاقُّ، وَحَصَلَ بِهَذَا النَّقْلِ وَجْهُ الْوِفَاقِ، ثُمَّ رَأَيْتُ مِيرَكَ بَسَطَ فِي شَرْحِهِ بِتَأْيِيدِ هَذَا الْمَقَالِ فَقَالَ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ وَابْنُ سَعْدٍ قَالَا: سَمِعْنَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ شَعْرًا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْضُوبًا. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ «بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ» ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ: كَانَ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ شَعْرِ لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ أَثَرُ الْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ نُصَيْرِ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَرَتْهُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْمَرَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا أَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ الشَّعْرَ مَخْضُوبًا سَأَلَ مِنْهَا: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. وَلَمْ يُخَرِّجِ ابْنُ سَعْدٍ وَلَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ أَنَّهُمَا اسْتَوْعَبَا طُرُقَ أَخْبَارِ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِخِضَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ بِرِوَايَتِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ بَلْ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفَ بِإِيرَادِ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ شَرِيكٍ شَاذَّةٌ بَلْ مُنْكَرَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ) : أَيِ الْبَلْخِيُّ الْعَابِدُ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِهِ. (أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ زُرَارَةَ) : بِزَايٍ مَضْمُومَةٍ وَرَائِينَ، أَبُو الْحَسَنِ الْكُوفِيُّ، نَزِيلُ بَلْخَ مَسْتُورٌ. (عَنْ أَبِي جَنَابٍ) : بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ فَنُونٍ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَغَيْرُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ غَلَطٌ. وَفِي أُخْرَى بِمُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَفِي أُخْرَى بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ، وَهُوَ مُحَدِّثٌ مَشْهُورٌ رُبَّمَا ضَعَّفُوهُ لِكَثْرَةِ تَدْلِيسِهِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ. (عَنِ الْجَهْذَمَةِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مِيمٌ. (امْرَأَةُ بَشِيرِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى وَزْنِ بَدِيعٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ سَهْوٌ وَغَلَطٌ. (بْنِ الْخَصَاصِيَةِ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَبِصَادَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ، وَالتَّشْدِيدُ فِيهَا لَحْنٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَعَالِيَّةٌ بِالتَّشْدِيدِ وَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّخْفِيفِ كَكَرَاهِيَةٍ وَعَلَانِيَةٍ وَطَوَاعِيَةٍ، كَذَا نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ الْفَيْرُوزَابَادِيِّ، وَزَآبَادِي رَدًّا عَلَى ابْنِ الْأَثِيرِ وَغَيْرِهِ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ مِنْ أَوْزَانِ الْمَصْدَرِ، وَتَعَقَّبَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْخَصَاصِيَةُ مَصْدَرًا، وَإِنَّمَا وُجِدَ الْخَصَاصُ وَالْخَصَاصَةُ بِمَعْنَى الْفَقْرِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْيَاءُ لِلنِّسْبَةِ فَتَكُونُ مُشَدَّدَةً فَالتَّعْوِيلُ عَلَى النَّقْلِ لَا عَلَى الْعَقْلِ،

وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِي تَخْطِئَةِ التَّشْدِيدِ بِذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْأَعْلَامِ وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا لَا يُوَافِقُ الْأَوْزَانَ الْمَعْرُوفَةَ. هَذَا وَهِيَ اسْمُ أُمِّهِ، وَهِيَ صَحَابِيَّةُ، وَأَبُوهُ مَعْبَدٌ، وَيُقَالُ غَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَهَا وَجَعَلَهُ لَيْلَى. (قَالَتْ: أَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ تَفَرُّدِهَا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ. (يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. (يَنْفُضُ) : بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ يَمْسَحُ. (رَأْسَهُ) : أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ بِيَدِهِ لِيُقَطِّرَ عَنْهُ الْمَاءَ، وَالنَّفْضُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى التَّحْرِيكِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ أَوْ مُتَرَادِفَةٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (قَدِ اغْتَسَلَ) : وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْوَاوِ الْحَالِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِئْنَافًا وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: (وَبِرَأْسِهِ) : إِمَّا حَالِيَّةٌ أَوْ عَاطِفَةٌ. (رَدْغٌ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ جَمْعُ رَدَغَةٍ بِالتَّحْرِيكِ أَوِ التَّسْكِينِ وَهُوَ الْوَحْلُ الشَّدِيدُ، فَعَلَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ فِي رَأْسِهِ لَطْخَاتٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الصَّبْغِ الَّذِي هُوَ الْحِنَّاءُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ أَوْ غَيْرُهُ، وَلِخَفَاءِ دَلَالَةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى: وَالصَّحِيحُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. يَعْنِي الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ قَالَ) : أَيْ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ. (رَدْعٌ) : بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ لَطْخٌ مِنَ الزَّعْفَرَانِ، وَأَثَرُ الطِّيبِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ الصِّبْغُ وَبِالْمُعْجَمَةِ الطِّيبُ الْكَثِيرُ، وَقِيلَ الَّذِي مَعَهُ وَسَخٌ، وَقِيلَ أَعَمُّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. (مِنْ حِنَّاءٍ) : بِالْمَدِّ. (شَكَّ فِي هَذَا) : أَيْ فِي أَنَّهُ رَدْغٌ أَوْ رَدْعٌ. (الشَّيْخُ) : أَيْ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَّلِ السَّنَدِ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ، وَفِي نُسْخَةٍ الشَّكُّ هُوَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَارُونَ وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ، وَضَمِيرُ قَالَ لِلشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : أَبِي الْفَضْلِ بْنِ بَهْرَامَ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، صَاحِبُ الْمُسْنَدِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعِصَامُ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ أَنَّهُ الْحَافِظُ عَالِمُ سَمَرْقَنْدَ، رَوَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَعَنْهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ إِمَامُ أَهْلِ زَمَانِهِ. (أَخْبَرَنَا عَمْرُو) : بِالْوَاوِ. (بْنُ عَاصِمٍ) : أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيُّ الْقَيْسِيُّ أَبُو عُثْمَانَ الْمِصْرِيُّ، صَدُوقٌ ، فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي صِحَاحِهِمْ. (أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ) : بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ الطَّوِيلُ. (عَنْ أَنَسٍ) : أَيِ ابْنِ مَالِكٍ. (قَالَ: رَأَيْتُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ) : أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ. (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْضُوبًا) : قَدْ مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْضِبْ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالنَّفْيِ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْإِثْبَاتِ - إِنْ صَحَّ عَنْهُ - الْأَقَلَّ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْمَجَازِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ الشَّعْرَ لَمَّا كَانَ مُتَغَيِّرًا لَوْنُهُ بِسَبَبِ وَضْعِ الْحِنَّاءِ عَلَى الرَّأْسِ لِدَفْعِ الصُّدَاعِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّطَيُّبِ سَمَّاهُ مَخْضُوبًا، أَوْ سَمَّى مُقَدِّمَةَ الشَّيْبِ مِنَ الْحُمْرَةِ خِضَابًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. (قَالَ حَمَّادٌ) : أَيِ الْمَذْكُورُ. (وَأَخْبَرَنَا) : بِوَاوٍ عَاطِفَةٍ. (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ) : أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ صَدُوقٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لَهُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (قَالَ: رَأَيْتُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَخْضُوبًا) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا سَلَّامٌ - وَهُوَ ابْنُ

أَبِي مُطِيعٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوِ ابْنُ مِسْكِينٍ عِنْدَ أَبِي نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ -، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْضُوبًا. وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ: مَخْضُوبًا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَكَذَا لِأَحْمَدَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَهْدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ سَلَّامٍ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ - وَهُوَ شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - شَعْرًا أَحْمَرَ مَخْضُوبًا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُثْمَانَ الْمَذْكُورِ: كَانَ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَثَرُ الْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي خَضَبَ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ احْمَرَّ بَعْدَهُ لِمَا خَالَطَهُ مِنْ طِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ فَغَلَبَتْ بِهِ الصُّفْرَةُ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَحَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْضِبْ أَصَحُّ. كَذَا وَقَالَ الَّذِي أَبْدَاهُ احْتِمَالًا قَدْ ثَبَتَ مَعْنَاهُ مَوْصُولًا إِلَى أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَزَمَ بِأَنَّهُ احْمَرَّ مِنَ الطِّيبِ، قُلْتُ: وَكَثِيرٌ مِنَ الشُّعُورِ الَّتِي تَنْفَصِلُ عَنِ الْجَسَدِ إِذْ طَالَ الْعَهْدُ يَؤُولُ سَوَادُهَا إِلَى الْحُمْرَةِ، وَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ مِنَ التَّرْجِيحِ خِلَافُ مَا جَمَعَ بِهِ الطَّبَرِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ خَضَبَ كَابْنِ عُمَرَ حَكَى مَا شَاهَدَهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَمَنْ نَفَى ذَلِكَ كَأَنَسٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْخِضَابَ شَاهَدُوا الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ ثُمَّ لَمَّا وَرَّاهُنَّ الدُّهْنُ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ظَنُّوا أَنَّهُ خَضَبَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ مَا ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْضِبْ وَلَمْ يَبْلُغْ شَيْبُهُ إِلَى الْخِضَابِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ إِلَّا فِي هَذَا الْخَبَرِ، فَأَمَّا أَنْ يُحْكَمَ بِشُذُوذِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ رِوَايَةَ حُمَيْدٍ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَهُوَ مُدَلِّسٌ، قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ سَمِعَهُ مِنْ ثَابِتٍ فَدَلَّسَهُ. وَمَعَ هَذَا فَقَدَ خَالَفَ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَثَابِتٍ وَقَتَادَةَ، وَأَحَادِيثُهُمْ عَنْ أَنَسٍ فِي نَفْيِ الْخِضَابِ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ وَاحِدٌ وَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلِذَا نَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَقِيبَهُ عَنْ حَمَّادٍ رَاوِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَنَسٍ مَخْضُوبًا. إِشَارَةً إِلَى شُذُوذِ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَضَبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ لِيَكُونَ أَبْقَى لَهُ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي رِجَالِ مَالِكٍ، وَفِي غَرَائِبِ مَالِكٍ لَهُ أَيْضًا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ شَعَرَاتِهِ الْمُطَهَّرَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةِ زَوْجِ أُمِّ أَنَسٍ أَوْ عِنْدَ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ وَخَضَبَهَا أَبُو طَلْحَةَ أَوْ أُمُّهُ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ أَنَسٍ فَرَآهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عِنْدَهُ، أَوْ يُحْمَلُ رِوَايَةُ أَنَسٍ " كَانَ شَعْرُهُ مَخْضُوبًا "، عَلَى أَنَّهُ رَآهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَانَهُ اللَّهُ بِبَيْضَاءَ. فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْبِيضِ لَمْ تُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ حُسْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ إِنْكَارَ أَنَسٍ أَنَّهُ خَضَبَ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَافَقَ مَالِكٌ أَنَسًا فِي إِنْكَارِ الْخِضَابِ وَتَأَوَّلَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَضَبَ فِي وَقْتٍ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ وَلَا تَأْوِيلُهُ، وَتَرَكَهُ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ مَا رَأَى وَهُوَ صَادِقٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ مِيرَكُ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ سَلَفًا وَخَلَفًا فِي أَنَّهُ هَلِ الْخِضَابُ أَحَبُّ أَمْ تَرْكُهُ أَوْلَى؟ فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى الْأَوَّلِ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ ". أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَبِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بِيضٌ لِحَاهُمْ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ حَمِّرُوا أَوْ صَفِّرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ ; وَلِهَذَا خَضَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَمَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْخِضَابِ أَوْلَى لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فَهِيَ لَهُ نُورٌ إِلَّا أَنْ يَنْتِفَهَا أَوْ يَخْضِبَهَا ". هَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ، انْتَهَى. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ أَيْضًا وَقَالَ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ تَغَيُّرَ الشَّيْبِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَخْضِبْ عَلِيٌّ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَجَمْعٌ جَمٌّ

(باب ما جاء في كحل رسول الله صلى الله عليه وسلم)

مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ. وَجَمَعَ الطَّبَرِيُّ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَةِ عَلَى الْخَضْبِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَةِ عَلَى خِلَافِهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِمَنْ يَكُونُ شَيْبُهُ مُسْتَبْشَعًا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْخِضَابُ، وَمَنْ كَانَ بِخِلَافِهِ فَلَا يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّ الْخِضَابَ مُطْلَقًا أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِيهِ صِيَانَةٌ لِلشَّعْرِ عَنْ تَعَلُّلِ الْغُبَارِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ تَرْكُ الصَّبْغِ فَالتَّرْكُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى، انْتَهَى. وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِاسْتِحْبَابِ الْخِضَابِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ: هَلْ يَجُوزُ الْخَضْبُ بِالسَّوَادِ وَالْأَفْضَلُ الْخِضَابُ بِالْحُمْرَةِ أَوِ الصُّفْرَةِ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى كَرَاهَةِ الْخَضْبِ بِالسَّوَادِ، وَجَنَحَ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ فِي الْجِهَادِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ، وَاسْتَحَبُّوا الْخِضَابَ بِالْحُمْرَةِ أَوِ الصُّفْرَةِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثُّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غَيِّرُوا هَذَا وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَضْعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَرَأَسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثُّغَامَةِ بَيَاضًا إِلَى آخِرِهِ. وَزَادَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ: فَذَهَبُوا بِهِ وَحَمَّرُوهُ. وَالثُّغَامَةُ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ نَبَاتٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ زَهْرُهُ وَثَمَرُهُ. وَلِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ: " إِنْ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ ". أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الصَّبْغَ بِهِمَا يَخْرُجُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ. وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ: " مَا أَحْسَنَ هَذَا " قَالَ فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ: " هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ بِهَذَا السَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَجِدُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَلِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: " مَنْ خَضَبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَسَنَدُهُ لَيِّنٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَأَجَازَهُ لَهَا دُونَ الرَّجُلِ وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ، وَأَمَّا خَضْبُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَيُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَيُحَرَّمُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ إِلَّا لِلتَّدَاوِي. هَذَا وَأَوَّلُ مَنْ خَضَبَ بِالسَّوَادِ فِرْعَوْنُ. ثُمَّ إِنَّ نَتْفَ الشَّيْبِ يُكْرَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: " لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ ". رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ يَكْرَهُ نَتْفَ الرَّجُلِ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّزْيِينِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنِ النَّتْفِ دُونَ الْخَضْبِ ; لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرُ الْخِلْقَةِ مِنْ أَصْلِهَا بِخِلَافِ الْخَضْبِ فَإِنَّهُ لَا يُغَيِّرُ الْخِلْقَةَ عَلَى النَّاظِرِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقِ لِلصَّوَابِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي كُحْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْكَحْلُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ لِلَّذِي يُكْتَحَلُ بِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْمَسْمُوعُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ الضَّمُّ وَإِنْ كَانَ لِلْفَتْحِ وَجْهٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى إِذْ لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ التَّصْرِيحُ بِمَا يُكْتَحَلُ بِهِ إِلَّا فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَأَكْثَرُ الطُّرُقِ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اكْتِحَالِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ. (الرَّازِّيُّ) : وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَوَى عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَرَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى اخْتُلِفَ فِيهِ، وَكَانَ ابْنُ مَعِينٍ يَقُولُ: حَسَنُ الرَّأْيِ. وَقِيلَ حَافِظٌ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى الطَّيَالِسَةِ وَهِيَ جَمْعُ الطَّيْلَسَانِ. (عَنْ عَبَّادِ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ. (بْنِ مَنْصُورٍ) : وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ الْبَصْرِيُّ الْقَاضِي بِهَا، صَدُوقٌ رُمِيَ بِالْقَدَرِ وَتَغَيَّرَ بِآخِرِهِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّعْلِيقِ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي صِحَاحِهِمْ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ. (عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ) :

أَيْ دُومُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَمِيمٍ مَكْسُورَةٍ، حَجَرٌ يُكْتَحَلُ بِهِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ الْحَجَرُ الْمَعْدِنِيُّ، وَقِيلَ هُوَ الْكُحْلُ الْأَصْفَهَانِيُّ، يُنَشِّفُ الدَّمْعَةَ وَالْقُرُوحَ وَيَحْفَظُ صِحَّةَ الْعَيْنِ وَيُقَوِّي عِصَابَتِهَا لَا سِيَّمَا لِلشُّيُوخِ وَالصِّبْيَانِ. وَفِي تَاجِ الْأَسَامِي: الْإِثْمِدُ تُوتْيَا، وَفِي رِوَايَةٍ «بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ» ، وَهُوَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمِسْكُ الْخَالِصُ كَذَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ وَقَالَ: «لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» . وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ. وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَلِأَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْمِدٌ يَكْتَحِلُ بِهِ عِنْدَ مَنَامِهِ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثًا. (فَإِنَّهُ) : أَيِ الْإِثْمِدَ أَوِ الِاكْتِحَالَ. (يَجْلُو الْبَصَرَ) : مِنَ الْجِلَاءِ، أَيْ يُحَسِّنُ الْعَيْنَ لِدَفْعِهِ الْمَوَادَّ الرَّدِيئَةَ النَّازِلَةَ إِلَيْهَا مِنَ الرَّأْسِ. (وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ) : مِنَ الْإِنْبَاتِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالشَّعَرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الرِّوَايَةِ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ مُرَاعَاةُ الْبَصَرِ، ثُمَّ الْمُرَادُ شَعُرُ أَهْدَابِ الْعَيْنِ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى أَشْفَارِهَا. وَعِنْدَ أَبِي عَاصِمٍ وَالطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ مَنْبَتَةٌ لِلشَّعْرِ، مَذْهَبَةٌ لِلْقَذَى، مَصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ» . (وَزَعَمَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَيُصَرِّحُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ، وَهُوَ أَقْرَبُ وَبِالِاسْتِدْلَالِ أَنْسَبُ. وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «فَزَعَمَ» بِالْفَاءِ، وَالزَّعْمُ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُشَكُّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وَفِي الْحَدِيثِ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الْمُحَقَّقُ كَقَوْلِ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أَخِيهَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ لِاثْنَيْنِ مِنْ أَصْهَارِهَا أَجَارَتْهُمَا. وَإِنْ كَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَلَى مَا جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ فَالزَّعْمُ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ الْمُتَبَادِرِ إِشَارَةً إِلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِ بِإِسْقَاطِ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَائِلُ ابْنَ عَبَّاسٍ لَقِيلَ: وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ زَعَمَ فَائِدَةٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ أَتَى لِطُولِ الْفَصْلِ كَمَا يَقَعُ إِعَادَةُ قَالَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَارَاتِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْأَوَّلَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَالثَّانِي مَوْقُوفٌ وَالْأَوَّلُ قَوْلِيٌّ وَالثَّانِي فِعْلِيٌّ، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ: وَالْأَوْجَهُ نِسْبَةُ الزَّعْمِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ نِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي إِلَى يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ فِي حَدِيثِهِ. أَيْ حَدِيثِهِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا أَنَّهُ فِي حَدِيثِ نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ الْمُغَايَرَةُ اللَّفْظِيَّةِ بَيْنَ الرُّوَاةِ فِي الْأَسَانِيدِ الْمُخْتَلِفَةِ هَذَا. وَلَمَّا كَانَ زَعَمَ يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا بِمَعْنَى ظَنَّ وَرَدَ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَوْلُهُ: (كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ، اسْمُ آلَةِ الْكُحْلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا مَا فِي الْكُحْلِ. (يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ) : بِالنَّصْبِّ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ - كَمَا سَيَأْتِي - وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَبْقَى لِلْعَيْنِ وَأَمْكَنُ فِي السِّرَايَةِ إِلَى طَبَقَاتِهَا. (ثَلَاثَةً) : أَيْ مُتَوَالِيَةً. (فِي هَذِهِ) : أَيِ الْيُمْنَى. (وَثَلَاثَةً) : أَيْ مُتَتَابِعَةً. (فِي هَذِهِ) : أَيِ الْيُسْرَى، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عَيْنُ الرَّاوِي بِطْرِيقِ التَّمْثِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «

مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي الْإِيتَارِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكْتَحِلَ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثًا كَمَا فِي أَحَادِيثَ الْبَابِ لِيَكُونَ فِي كُلِّ عَيْنٍ يَتَحَقَّقُ الْإِيتَارُ، وَالثَّانِي أَنْ يَكْتَحِلَ فِيهِمَا خَمْسَةً ثَلَاثَةً فِي الْيُمْنَى وَاثْنَيْنِ فِي الْيُسْرَى عَلَى مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ وَالِانْتِهَاءُ بِالْيَمِينِ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى الْيَسَارِ كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ، وَجَوَّزَ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَوَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ فِي الْيُمْنَى ثَلَاثًا مُتَعَاقِبَةً وَفِي الْيُسْرَى ثِنْتَيْنِ فَيَكُونُ الْوِتْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا. وَأَرْجَحُهَا الْأَوَّلُ لِحُصُولِ الْوِتْرِ شَفْعًا مَعَ أَنَّهُ يُتَوَصَّلُ أَنْ يُكْتَحَلَ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَاحِدَةً ثَمَّ وَثَمَّ وَيَئُولُ أَمْرَهُ إِلَى الْوِتْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُضْوَيْنِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ) : حَدِيثُهُ بِصِيغَةِ النِّسْبَةِ مِنَ الصُّبْحِ. (الْهَاشِمِيُّ الْبَصْرِيُّ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتُكْسَرُ، أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ. (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) : بِالتَّصْغِيرِ. (بْنُ مُوسَى) : أَيِ الْعَبْسِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ) : أَيِ ابْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، ثِقَةٌ، تُكُلِّمَ فِيهِ بِلَا حُجَّةٍ. (عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ) : كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا وَبَعْضِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ. (ح) : وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْوِيلِ مِنَ السَّنَدِ الَّذِي ذُكِرَ إِلَى سَنَدٍ آخَرَ فَيُنْطَقُ بِهَا حَاءٌ مَمْدُودَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مَقْصُورًا، فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ حَالَةَ الْوَقْفِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَوْ عَلَامَةُ صَحَّ ; لِيُعْلَمَ أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَصِلْ إِلَى مُنْتَهَاهُ وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ حَدِيثَ هَذَا الْإِسْنَادِ سَقَطَ وَلِئَلَّا يُرَكَّبَ الْإِسْنَادُ الثَّانِي عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ فَيَصِيرُ إِسْنَادًا وَاحِدًا أَوِ اخْتِصَارًا مِنْ قَوْلِهِمُ الْحَدِيثُ يَعْنُونَ إِلَى آخِرِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْمُعَظَّمِينَ، شَيْخُ الْقُرَّاءِ وَالْمُحَدِّثَيْنِ، مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبِدَايَةِ: إِذَا كَانَ لِلْحَدِيثِ إِسْنَادَانِ أَوْ أَكْثَرُ كَتَبُوا. (ح) عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ ; إِشَارَةً إِلَى التَّحْوِيلِ مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ فَيَتَلَفَّظُ بِهَا الْمُحَدِّثُ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا فَيَقُولُ حَاءٌ وَيَمُدُّ فِي الْقِرَاءَةِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَصْحَابِنَا، وَقِيلَ هِيَ مِنَ الْحَيْلُولَةِ لِأَنَّهُ يُحَوِّلُ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْحَدِيثِ فَلَا يُتَلَفَّظُ بِشَيْءٍ مَكَانِهَا، وَقِيلَ هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِنَا: الْحَدِيثُ فَلِذَلِكَ يَقُولُهُ الْمَغَارِبَةُ مَكَانَهَا. وَكَتَبَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْحُفَّاظِ مَكَانَهَا صَحَّ، وَهَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّهَا رَمْزُهَا وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا خَاءً مُعْجَمَةً وَيَتَلَفَّظُ بِهَا كَذَلِكَ، يُرِيدُ أَنَّهُ إِسْنَادٌ آخَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ بَيْنَ الْمُصَنِّفِ وَبَيْنَ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ اثْنَانِ، وَفِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي ثَلَاثٌ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَهُ نَازِلٌ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ، لَكِنَّ شَيْخَهُ الْأَوَّلَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ الشَّيْخَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ فَيَكُونُ الثَّانِي أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ عُلُوًّا مَعْنَوِيًّا - أَعْنِي بِاعْتِبَارِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ - فَلَا يَضُرُّهُ كَثْرَةُ الْعَدَدِ، وَبِمُلَاحَظَةِ النُّزُولِ الْمَذْكُورِ تَحَوَّلَ مِنْ سَنَدِ ابْنِ الصَّبَّاحِ إِلَى سَنَدِ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ فَإِنَّ الْوَاسِطَةَ فِيهِ بَيْنَ عَبَّادٍ وَبَيْنَهُ اثْنَانِ. (وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ «وَحَدَّثَنَا» ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: «قَالَ وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ» بِزِيَادَةِ «قَالَ» وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْوَاقِعُ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا، وَالضَّمِيرُ فِيهِ إِلَى الْمُصَنِّفِ، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ تَلَامِذَتِهِ. (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «قَالَ أَخْبَرَنَا» . (عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتَحِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ) : أَيْ عِنْدِ النَّوْمِ كَمَا سَيَأْتِي. (بِالْإِثْمِدِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ فِي حَدِيثِهِ) : أَيْ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (

إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ نَظَرًا إِلَى «قَالَ» ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا نَظَرًا إِلَى حَدِيثِهِ وَرِوَايَتِهِ. (كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا عِنْدَ النَّوْمِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ) قِيلَ: حَتَّى فِي السَّفَرِ. قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ إِلَى آخِرِهِ، هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ وَلَا مُرْسَلٍ كَمَا تَوَهَّمَ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ بَيْنَ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ وَرِوَايَةِ يَزِيدَ، يَعْنِي رَوَاهُ إِسْرَائِيلُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ وَرَوَاهُ يَزِيدُ بِهَذَا اللَّفْظِ كِلَاهُمَا عَنْ عَبَّادِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْجَامِعِ طَرِيقَ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ الْعِصَامِ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ) : أَيِ الْكَلَاعِيُّ، شَامِيٌّ، ثِقَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ) : أَيِ ابْنِ يَسَارٍ، إِمَامُ أَهْلِ الْمَغَازِي، صَدُوقٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّعْلِيقِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي صِحَاحِهِمْ. (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (عَنْ جَابِرٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ» ) : وَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذُوهُ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: «اكْتَحِلُوا بِهِ» . (عِنْدَ النَّوْمِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ إِجْمَاعًا. (فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ) : وَتَعْلِيلُهُ بِالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَمْرِ لِلسُّنِّيَّةِ لَاسِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَتْ مُوَاظَبَتُهُ الْفِعْلِيَّةُ وَتَرْغِيبَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ، وَتِلْكَ الْمَنَافِعُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ كَمَعْرِفَةِ الطَّهَارَةِ وَتَوَجُّهِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنَافِعِ الْبَصَرِ حَتَّى فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى السَّمْعِ، مَتَّعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا قَالَهُ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ غَالِبُ مَا يَأْمُرُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ، نَبَّهْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ مِنْهَا بَلْ لِمَصْلَحَةِ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ، وَأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الِائْتِمَارِ بِهِ عَلَى تَفَاوُتِ حَاجَتِهِمْ. لَكِنَّ هَذِهِ النُّكْتَةَ تُنَافِي مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الِاكْتِحَالَ سُنَّةٌ وَالْإِيتَارُ فِيهِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ لِنَفْعِ الْبَدَنِ كَوْنُهُ سُنَّةً أَوْ فَرْضًا، انْتَهَى. وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَالْأَمْرَ بِالسُّحُورِ سُنَّةٌ مَعَ أَنَّ نَفْعَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْبَدَنِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوِ امْتَنَعَ الْمُضْطَرُّ أَوِ الْمُرْتَاضُ عَنِ الْأَكْلِ بَلْ عَنِ السُّؤَالِ حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا مَاتَ عَاصِيًا. وَاتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ أَكْلِ التُّرَابِ وَالطِّينِ وَنَحْوِهِمَا لِأَجْلِ ضَرَرِ الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْخَمْرُ لِضَرَرِ الْعَقْلِ، فَتَعَقَّلْ وَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الْخَلَلِ فَتَجْتَنِبَ دُخُولَ الْوَحْلِ وَتَتَخَلَّصَ مِنَ الْخَطَلِ، نَعَمْ، فِي التَّعْلِيلِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُكْتَحِلَ إِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ السُّنَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ بِالِاكْتِحَالِ الْمُعَالَجَةَ وَالدَّوَاءَ لَا مُجَرَّدَ الزِّينَةَ كَالنِّسَاءِ، وَلِذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ إِلَى كَرَاهَةِ الِاكْتِحَالِ لِلرِّجَالِ مُطْلَقًا إِلَّا لِلتَّدَاوِي، وَاللَّهُ هُوَ الْهَادِي. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) : أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّعْلِيقِ وَبَقِيَّةُ السِّتَّةِ فِي صِحَاحِهِمْ. (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) : أَيِ الْأَسَدِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيِّ،

(باب ما جاء في لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم)

ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، فَقِيهٌ، رِوَايَتُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي مُوسَى مُرْسَلَةٌ، قُتِلَ بَيْنَ يَدَيِ الْحَجَّاجِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي صِحَاحِهِمْ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، بَلْ قِيلَ: هُوَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ. (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ خَيْرَ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِثْمِدَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ الْكُحْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى خَيْرُ أَكْحَالِكُمْ لِحِفْظِ صِحَّةِ الْعَيْنِ لَا فِي مَرَضِهَا لِأَنَّ الِاكْتِحَالَ لَا يُوَافِقُ الرَّمَدَ. (يَجْلُو الْبَصَرَ) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَعْلِيلِ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ) . (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ. (الْبَصْرِيُّ) : صَدُوقٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (عَنْ سَالِمٍ) : أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، مِنَ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ. (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» ) : اعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مُكَرَّرًا بِأَسَانِيدَ مُخْتَلِفَةٍ تَقْوِيَةُ أَصْلِ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدُ مَضْمُونِهِ، فَإِنَّ عَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا، وَكَانَ يُدَلِّسُ، وَرُمِيَ بِالْقَدَرِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي لِبَاسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) اللِّبَاسُ بِالْكَسْرِ مَا يُلْبَسُ. (أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «حَدَّثَنَا» . (مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ) : مَرَّ قَرِيبًا. (أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «أَنْبَأَنَا» . (الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى) : أَيْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (وَأَبُو تُمَيْلَةَ) : بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ مُصَغَّرًا، يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ الْمَرْوَزِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، مَوْلَاهُمْ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (وَيَزِيدُ بْنُ حُبَابٍ) :

بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ خَالِدٍ) : أَيِ الْحَنَفِيِّ الْمَرْوَزِيِّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ) : سَبَقَ تَرْجَمَتَهُ فِي بَابِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ. (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : أَيْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. (قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ) : بِالرَّفْعِ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ لِأَجْلِ لُبْسِهِ وَلُبْسِ غَيْرِهِ. (الْقَمِيصَ) : بِالنَّصْبِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَإِلَّا لَقَالَتْ: كَانَ الْقَمِيصُ أَحَبَّ الثِّيَابِ. قَالَ مِيرَكُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «الْقَمِيصُ» مَرْفُوعًا بِالِاسْمِيَّةِ وَ «أَحَبُّ» مَنْصُوبًا بِالْخَبَرِيَّةِ. وَنَقَلَ غَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّهُمَا رِوَايَتَانِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَعْيِينُ الْأَحَبِّ فَالْقَمِيصُ خَبَرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانُ حَالِ الْقَمِيصِ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ اسْمُهُ. وَرَجَّحَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّ «أَحَبَّ» وَصَفٌ فَهُوَ أَوْلَى بِكَوْنِهِ حُكْمًا. وَأَمَّا تَرْجِيحُهُ بِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالْبَابِ لِأَنَّهُ مُنْعَقِدٌ لِإِثْبَاتِ أَحْوَالِ اللِّبَاسِ فَجَعْلُ الْقَمِيصِ مَوْضُوعًا وَإِثْبَاتُ الْحَالِ لَهُ أَنْسَبُ مِنَ الْعَكْسِ، فَلَيْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ لَمْ تَذْكُرِ الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ الْمُنْعَقِدِ لِلِّبَاسِ. ثُمَّ الثِّيَابُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ جَمْعُ ثَوْبٍ، وَهُوَ مَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ مِنَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْخَزِّ وَالْقَزِّ وَأَمَّا السُّتُورُ فَلَيْسَتْ مِنَ الثِّيَابِ، انْتَهَى. وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يَسْتُرُ بِهِ الشَّخْصُ نَفْسَهَ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَالْقَمِيصُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: ثَوْبٌ مَخِيطٌ بِكُمَّيْنِ غَيْرُ مُفَرَّجٍ يُلْبَسُ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْقَمِيصُ مَعْلُومٌ وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَلَا يَكُونُ مِنَ الْقُطْنِ وَأَمَّا الصُّوفُ فَلَا، انْتَهَى. وَكَانَ حَصَرُهُ الْمَذْكُورُ لِلْغَالِبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْقُطْنِ مُرَادًا فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ الصُّوفَ يُؤْذِي الْبَدَنَ وَيَدِرُّ الْعَرَقَ وَرَائِحَتُهُ يُتَأَذَّى بِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الدِّمْيَاطِيُّ: كَانَ قَمِيصُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُطْنًا، قَصِيرُ الطُّولِ وَالْكُمَّيْنِ. قِيلَ: وَوَجْهُ أَحَبِّيَةِ الْقَمِيصِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَسْتَرُ لِلْأَعْضَاءِ مِنَ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ، وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ مُؤْنَةً وَأَخَفُّ عَلَى الْبَدَنِ، وَلَابِسُهُ أَكْثَرُ تَوَاضُعًا. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ. (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَمِيصَ) : الْمَتْنُ وَاحِدٌ وَالْإِسْنَادُ مُتَعَدِّدٌ فَذِكْرُهُ لِلْحُكْمِ مُؤَكِّدٌ. (حَدَّثَنَا زِيَادُ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ. (بْنُ أَيُّوبَ الْبَغْدَادِيُّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَدَالٌّ مُهْمَلَةٌ مُعْجَمَةٌ، هُوَ الْأَصَحُّ مِنَ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْعِصَامُ مِنَ الْأَشْهَرِ فِيهِ ذَالٌ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ فَخِلَافُ مَا حَقَّقَهُ شُرَّاحُ الشَّاطِبِيَّةِ، وَقِيلَ: رِوَايَةُ الْكِتَابِ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي السُّنَّةِ الْعَامَّةِ. وَهُوَ أَبُو هَاشِمٍ، طُوسِيُّ الْأَصْلِ، مُلَقَّبٌ بِدَلَّوَيْهِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أُمِّهِ) : وَهِيَ لَمْ تُسَمَّ فَغَايَرَ هَذَا

الْإِسْنَادُ الْإِسْنَادَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مَعَ مُغَايَرَةِ بَعْضِ رِجَالِ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وُجِدَ فِي الْأَخِيرِ " يَلْبَسُهُ " وَزِيدَ فِيهِ " عَنْ أُمِّهِ "، فَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ " عَنْ أُمِّهِ " مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فِي الْإِسْنَادِ الْأَخِيرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي زِيَادَةِ يَلْبَسُهُ فِي مَتْنِهِ. (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : قِيلَ اسْمُهَا هِنْدٌ. (قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَمِيصَ) : اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ بِثَلَاثَةِ أَسَانِيدَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ جُمْلَةُ " يَلْبَسُهُ قَبْلَ الْقَمِيصِ " وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ عَنْ " أَحَبُّ الثِّيَابِ " وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الثَّوْبِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِمَا لِأَجْلِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ، فِإنَّهُ كَانَ يُحِبُّهُ لِلُبْسِهِ لَا لِنَحْوِ إِهْدَائِهِ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ لُبْسًا، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا سَيَأْتِي أَنَّ " الْحِبَرَةِ كَانَتْ أَحَبُّ إِلَيْهِ " فَبِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ وَذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ) : أَيْ أَبُو عِيسَى الْمُؤَلِّفُ: وَحُذِفَ لِظُهُورِهِ وَدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي نُسْخَةٍ " قَالَ أَبُو عِيسَى "، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ النُّسَّاخِ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّ وَلَمْ يُوجَدْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَفْظُ " قَالَ " قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ مَرَّةً يَنْقُصُونَ وَأُخْرَى يَزِيدُونَ، وَالْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُعَوَّلُ. ثُمَّ الْمَقُولُ (هَكَذَا) : أَيْ بِزِيَادَةِ " عَنْ أُمِّهِ " فِي السَّنَدِ فَالْإِشَارَةُ إِلَى السَّابِقِ أَوِ اللَّاحِقِ. (قَالَ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ) : وَمَا أَحْسَنَ خُصُوصِيَّةَ زِيَادٍ بِالزِّيَادَةِ فِي الْإِسْنَادِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ: رَوَى عَنْ أَبِي تُمَيْلَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أُمِّهِ، وَرَوَى زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْهُ وَذَكَرَ عَنْ أُمِّهِ. (فِي حَدِيثِهِ) : مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ " قَالَ "، قَالَ الْعِصَامُ: ذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْإِسْنَادِ مِنْ قَوْلِهِ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : وَلَمْ يَكْتَفِ بِتَحْدِيثِهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ هَكَذَا إِلَى آخِرِهِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ زِيَادَةَ " عَنْ أُمِّهِ " مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْ إِسْنَادِ زِيَادٍ، فَدَفَعَ نُقْصَانَ الْإِسْنَادِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ الْمَعْلُومَةِ لَهُ مِنْ تَحْقِيقِ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بِطَرِيقِ عَطْفِ الْبَيَانِ ; لِأَنَّ صِفَةَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ " هَكَذَا " إِشَارَةٌ إِلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ بِالْمَعْنَى لَا بِخُصُوصِ لَفْظِ " زِيَادٍ ". وَقَوْلُهُ (وَهَكَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. (رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ) : قَالَ مِيرَكُ: أَيْ مِنْ مَشَايِخِي مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ. (عَنْ أَبِي تُمَيْلَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ) : وَالْمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: قَوْلُهُ: وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا غَيْرُ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ رَوَوْا أَيْضًا عَنْ أَبِي تُمَيْلَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ زِيَادٍ عَنْهُ. وَقَالَ الْعِصَامُ: وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: هَكَذَا، فَقَالَ: عَنْ أَبِي تُمَيْلَةَ إِلَى آخِرِهِ ; لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ أَبِي تُمَيْلَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ وَاحِدٍ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَبَا تُمَيْلَةَ يُرَجِّحُ زِيَادَةَ " عَنْ أُمِّهِ " فَقَالَ: (وَأَبُو تُمَيْلَةَ هَذَا يَزِيدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) : أَيْ فِي ذِكْرِهِ. (عَنْ أُمِّهِ وَهُوَ أَصَحُّ) : يَعْنِي تَعَقَّبَ قَوْلَهُ " عَنْ أُمِّهِ " بِقَوْلِهِ " وَهُوَ أَصَحُّ "، فَمَقُولُ يَزِيدَ قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَإِنَّمَا زَادَ قَوْلَهُ " عَنْ أُمِّهِ " تَعْيِينًا لِمَوْقِعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ وَجَعَلَ الْمَزِيدَ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ " عَنْ أُمِّهِ " رَأَى قَوْلَهُ " وَأَبُو تُمَيْلَةَ " يَزِيدُ إِلَى آخِرِهِ زِيَادَةً لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ تَأْكِيدُ مَا سَبَقَ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: وَهُوَ أَصَحُّ، قَوْلَ أَبِي عِيسَى دُونَ أَبِي تُمَيْلَةَ، فَقَدْ أَوْضَحْتُ لَكَ الْمَرَامَ، وَقَدْ كَانَ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: قَوْلُهُ " وَأَبُو تُمَيْلَةَ إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ غَيْرِ أَبِي تُمَيْلَةَ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِثْلِ: الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى بِطَرِيقَيْهِ، وَزَيْدِ بْنِ حُبَابٍ، بِطَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الرَّازِيِّ لَا يَزِيدُونَ " عَنْ أُمِّهِ "، وَبِالْجُمْلَةِ لَمْ يَزِدْ مِنْ بَيْنِ الرُّوَاةِ عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَّا أَبُو تُمَيْلَةَ، وَلَمْ يَزِدْ مِنْ بَيْنِ رُوَاةِ أَبِي تُمَيْلَةَ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، وَزَادَ غَيْرُهُ مِنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا زِيَادَةُ " أُمُّهِ " أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْقَاطِهَا، وَفِي شَرْحِ مِيرَكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ أَيْ بَعْدَ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ خَالِدٍ، تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ مَرْوَزِيٌّ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي تُمَيْلَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِيهِ أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ أُمِّهِ. وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - قَالَ: حَدِيثُ ابْنِ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَصَحُّ. وَإِنَّمَا حُكِمَ بِكَوْنِهِ أَصَحَّ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ سَمَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مُطْلَقًا أَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِخُصُوصِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ أَبَا تُمَيْلَةَ أَوْثَقُ وَأَحْفَظُ مِنْ رَفِيقَيْهِ وَهُمَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى وَزَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَدَّمَ أَبَا تُمَيْلَةَ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، وَقَالَ: رَوَى الْفَضْلُ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ صَدُوقٌ وَلَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْخَطَأِ. وَأَمَّا أَبُو

تُمَيْلَةَ فَثِقَةٌ مُحْتَجٌّ بِهِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْأُولَى، صَدُوقٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ فَقَطْ. (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (حَدَّثَنِي أَبِي) : أَيْ هِشَامٌ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ أَيْ هِشَامٌ. . . (عَنْ بُدَيْلٍ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَفَتْحِ دَالٍّ مُهْمَلَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ. (يَعْنِي ابْنَ صُلَيْبٍ) : بِضَمِّ صَادٍ وَفَتْحِ لَامٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، قَالَ الْعِصَامُ: فَسَّرَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ هُوَ ابْنُ مَيْسَرَةَ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَيُرَجِّحُ هَذَا فِي الشَّرْحِ، انْتَهَى. قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ، وَفِي بَعْضِهَا بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا حَقَّقَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ كَالْمِزِّيِّ وَالذَّهَبِيِّ وَالْعَسْقَلَانِيِّ. (الْعَقِيلِيَّ) : بِالتَّصْغِيرِ مَنْصُوبًا. (عَنْ شَهْرِ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ. (بْنِ حَوْشَبٍ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَفَتْحِ مُعْجَمَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، صَدُوقٌ، كَثِيرُ الْإِرْسَالِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْخَمْسَةُ فِي صِحَاحِهِمْ، لَكِنْ ذُكِرَ فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ شَهْرًا تَرَكُوهُ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أَحْسَنَ حَدِيثَهُ، انْتَهَى. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. (عَنْ أَسْمَاءَ) : صَحَابِيَّةٌ لَهَا أَحَادِيثُ. (بِنْتُ يَزِيدَ) : أَيِ الْأَنْصَارِيِّ. (قَالَتْ: كَانَ كُمُّ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، رُدْنُهُ وَاصِلَةٌ (إِلَى الرُّسْغِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالصَّادِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالْمُصَنِّفِ، وَبِالسِّينِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، انْتَهَى. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي جَامِعِهِ، وَإِلَّا فَنُسَخُ الشَّمَائِلِ بِالسِّينِ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ وَالصَّادُ بَدَلَ السِّينِ لُغَةٌ فِيهِ، وَهُوَ مَفْصِلُ السَّاعِدِ وَالْكَفِّ وَيُسَمِّي الْكُوعُ، انْتَهَى. مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِهِ، وَرَأَيْتُ بِخَطِّهِ فِي حَاشِيَةِ كِتَابِهِ، كَذَا وَقَعَ هُنَا بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَذَا وَقَعَ

فِي الْمَصَابِيحِ قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالصَّادُ لُغَةٌ فِيهِ. وَوَقَعَ فِي الْمِشْكَاةِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ: الطِّيبِيُّ هَكَذَا هُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ بِالسِّينِ، انْتَهَى. فَتَأَمَّلْ، وَفِي الْقَامُوسِ: الرُّسْغُ بِضَمٍّ وَبِضَمَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: بِالضَّمِّ الرُّسْغُ. قَالَ الْجَزَرِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ كُمُّ الْقَمِيصِ الرُّسْغَ، وَأَمَّا غَيْرُ الْقَمِيصِ فَقَالُوا السُّنَّةُ فِيهِ لَا يَتَجَاوَزُ رُءُوسَ الْأَصَابِعِ مِنْ جُبَّةٍ وَغَيْرِهَا، انْتَهَى. وَنُقِلَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ أَبَا الشَّيْخِ ابْنَ حِبَّانَ أَخْرَجَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: كَانَ يَدُ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَلَ مِنَ الرُّسْغِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ قَمِيصًا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مُسْتَوَى الْكُمَّيْنِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ نَقْلًا عَنِ ابْنِ حِبَّانَ فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْخَبَرِ كَمَا ذَكَرَ فَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَجَاوَزَ بِكُمِّ الْقَمِيصِ إِلَى رُءُوسِ الْأَصَابِعِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنِ حَدِيثِ الْبَابِ إِمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى تَعَدُّدِ الْقَمِيصِ أَوْ بِحَمْلِ رِوَايَةِ الْكِتَابِ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالتَّخْمِينِ، انْتَهَى. وَقَالَ الْعِصَامُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْكُمِّ فَعَقِيبَ غَسْلِ الْكُمِّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَثَنٍّ فَيَكُونُ أَطْوَلَ وَإِذَا بَعُدَ عَنِ الْغَسْلِ وَوَقَعَ فِيهِ التَّثَنِّي كَانَ أَقْصَرَ، انْتَهَى. وَبُعْدُهُ لَا يُخْفِي. (حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ. (الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) : بِالتَّصْغِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ. (أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ، وَمَرَّ ذِكْرُهُ. (أَخْبَرَنَا زُهَيْرٌ) : كَزُبَيْرٍ. (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُشَيْرٍ) : بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، مَرَّ مِرَارًا، وَفِي نُسْخَةِ «قُتَيْبَةَ» وَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ. (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) : بِضَمِّ قَافٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ) : بِسُكُونِ الْهَاءِ، أَيْ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَفِي الْقَامُوسِ بِالسُّكُونِ وَيُحَرَّكُ: قَوْمُ الرَّجُلِ وَقَبِيلَتُهُ، أَوْ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَقِيلَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَلَا يُنَافِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَسْلَمُوا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجِيئُهُمْ رَهْطًا رَهْطًا، أَوْ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْقَوْمِ كَمَا قَدَّمَهُ الْقَامُوسُ، وَفِي يَأْتِي بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) . (مِنْ مُزَيْنَةَ) : بِضَمِّ مِيمٍ وَفَتْحِ زَايٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ مُضِرَ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِرَهْطٍ. (لِنُبَايِعُهُ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَتَيْتُ. (وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ) : أَيْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِزِرٍّ، قَالَ مِيرَكُ: أَيْ غَيْرُ مَشْدُودِ الْأَزْرَارِ. الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ غَيْرُ مَزْرُورٍ، انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. (أَوْ قَالَ زِرُّ قَمِيصِهِ) : بِالْإِضَافَةِ. (مُطْلَقٌ) : بِلَا لَامٍ، أَيْ غَيْرُ مَرْبُوطٍ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: الشَّكُّ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ. وَتَعَقَّبَهُ الْعِصَامُ وَقَالَ: الشَّكُّ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ فَقَدِ ارْتَابَ وَالصُّبْحُ يُسْفِرُ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجْرٍ وَرَدَّهُمَا مِيرَكُ بِقَوْلِهِ: الشَّكُّ مِنْ شَيْخِ التِّرْمِذِيِّ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَشُكَّ، بَلْ قَالَ: إِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ وَالْحَسَنِ بْنِ مُوسَى جَمِيعًا عَنْ زُهَيْرٍ بِهَذَا اللَّفْظِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِغَيْرِ شَكٍّ أَيْضًا، فَوَهِمَ مَنْ قَالَ الشَّكُّ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، زَادَ هُوَ وَابْنُ سَعْدٍ، قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ وَلَا أَبَاهِ إِلَّا مُطْلَقِي الْأَزْرَارِ فِي شِتَاءٍ وَلَا خَرِيفٍ وَلَا يَزِرَّانِ أَزْرَارَهُمَا. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: وَإِنَّهُ لَمُطْلَقُ الْأَزْرَارِ، بِغَيْرِ شَكٍّ أَيْضًا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: وَإِنَّهُ لَمُطْلَقُ الْأَزْرَارِ. قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: كَذَا وَقَعَ فِي أُصُولِنَا، وَرِوَايَاتِنَا الْإِزَارُ بِغَيْرِ رَاءٍ بَعْدَ زَايٍ، وَهُوَ جَمْعُ الْإِزَارِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الثَّوْبُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَوْ أَكْثَرِهَا الْأَزْرَارُ جَمْعُ زِرٍّ بِكَسْرِ الزَّايِ وَشَدِّ الرَّاءِ وَهُوَ خَزِيرَةُ الْجَيْبِ، وَبِهِ شَرَحَ شُرَّاحُهُ: وَجَيْبُ الْقَمِيصِ طَوْقُهُ الَّذِي يَخْرُجُ الرَّأْسُ مِنْهُ، وَعَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يَجْعَلُوهُ وَاسِعًا وَلَا يَزِرُّونَهُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْأَزْرَارَ لَا غَيْرَ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ، انْتَهَى. أَقُولُ وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى:

فَرَأَيْتُهُ مُطْلَقَ الْقَمِيصِ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ الْأَزْرَارِ بِرَائَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ زِرٌّ وَعُرْوَةٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ جَيْبَ قَمِيصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَفْتُوحًا بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ الْيَدَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصًا لَهُ زِرٌّ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْعِصَامِ: فِيهِ حِلُّ لُبْسِ الْقَمِيصِ، وَحِلُّ الزِّرِّ فِيهِ، وَحِلُّ إِطْلَاقِهِ وَأَنَّ طَوْقَهُ كَانَ مَفْتُوحًا بِالطُّولِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي يُتَّخَذُ لَهُ الْأَزْرَارُ عَادَةً، انْتَهَى. وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَادَاتَ مُخْتَلِفَةٌ، وَفِي الْأَوَّلِ أَيْضًا بَحْثٌ لِأَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ أَحَبَّ أَنْ يُسْتَحَبَّ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَهُمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ) : أَيْ قُرَّةُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِدُونِ «قَالَ» ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْمِشْكَاةِ. (فَأَدْخَلْتُ يَدِي) : بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. (فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ) : الْجَيْبُ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، مَا يُقْطَعُ مِنَ الثَّوْبِ لِيَخْرُجَ الرَّأْسُ أَوِ الْيَدُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، يُقَالُ: جَابَ الْقَمِيصَ يَجُوبُهُ وَيُجِيبُهُ أَيْ قَوَّرَ جَيْبَهُ وَجَيَّبَهُ، أَيْ جَعَلَ لَهُ جَيْبًا، وَأَصْلُ الْجَيْبِ الْقَطْعُ وَالْحَرْقُ، وَيُطْلَقُ الْجَيْبُ عَلَى مَا يُجْعَلُ فِي صَدْرِ الثَّوْبِ لِيُوضَعَ فِيهِ الشَّيْءُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَيْبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ طَوْقُهُ الَّذِي يُحِيطُ بِالْعُنُقِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: جَيَبَ الثَّوْبَ أَيْ جَعَلَ فِيهِ ثُقْبًا يَخْرُجُ مِنْهُ الرَّأْسُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فَأَدْخَلْتُ يَدِي إِلَخْ يَقْتَضِي أَنَّ جَيْبَ قَمِيصِهِ كَانَ فِي صَدْرِهِ، وَالْمَاضِي فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَآهُ مُطْلَقَ الْقَمِيصِ أَيْ غَيْرَ مَزْرُورٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَمَسِسْتُ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْأُولَى عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ الْفَتْحَ أَيْضًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَحُكِيَ كَخِلْتُ أَيْ لَمَسْتُ. (الْخَاتَمَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ، أَيْ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) : بِتَصْغِيرِ الثَّانِي، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ) : فِي الشَّرْحِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السَّدُوسَيُّ الْمُلَقَّبُ بِعَارِمٍ ; لِأَنَّهُ الَّذِي أَخْرَجَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَرَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. (أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) : مَرَّ ذِكْرُهُ. (عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ. (عَنِ الْحَسَنِ) : أَيِ الْبَصْرِيِّ. (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ) : أَيْ مِنْ بَيْتِهِ. (وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) : مِنَ الِاتِّكَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَهُوَ مُتَّكِئٌ. مِنَ التَّوَكُّؤِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا) ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الِاعْتِمَادُ، وَأُسَامَةُ هَذَا صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ مَوْلَاهُ وَابْنُ مَوْلَاتِهِ أُمِّ أَيْمَنَ، وَحِبُّهُ وَابْنُ حِبِّهِ، أَمَّرَهُ فِي جَيْشٍ فِيهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ اتِّكَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَاكِيًا، فَخَرَجَ يَتَوَكَّأُ عَلَى أُسَامَةَ إِلَى آخِرِهِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي

مَاتَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَرَضٍ آخَرَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; فَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّهُ خَرَجَ بَيْنَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَالْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ إِلَى الصَّلَاةِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُتَغَطِّيًا بِهِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ مُتَوَشِّحًا مُرْتَدِيًا. وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ثَوْبٌ) : بِالتَّنْوِينِ. (قِطْرِيٌّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى الْقِطْرِ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ بَعْدَهَا رَاءٌ، نَوْعٌ مِنَ الْبُرُدِ عَلَى مَا فِي التَّاجِ وَالْمُهَذَّبِ، وَقِيلَ: حُلَلٌ جِيَادٌ تُحْمَلُ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِينِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ثِيَابٌ مِنْ غَلِيظِ الْقُطْنِ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ الْجُمْلَةُ الْأُولَى حَالٌ مِنْ فَاعِلِ «خَرَجَ» بِالضَّمِيرِ وَالْوَاوِ مَعًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْضًا، لَكِنْ بِالضَّمِيرِ وَحْدَهُ نَحْوَ كَلَّمْتُهُ فُوهُ إِلَى فِي، وَضَعَّفَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْحَدِيثِ، أَوْ بَنَوْا حُكْمَهُمْ عَلَى غَالِبِ الِاسْتِعْمَالِ. (قَدْ) : لِلتَّحْقِيقِ. (تَوَشَّحَ) : أَيْ تَغَشَّى. (بِهِ) : وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَالتَّوَشُّحُ فِي الْأَصْلِ لُبْسُ الْوِشَاحِ، وَيُقَالُ: تَوَشَّحَ بِثَوْبِهِ وَبِسَيْفِهِ إِذَا أَلْقَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ كَالْوِشَاحِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْمُرَادُ هَاهُنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلَ الثَّوْبَ تَحْتَ يَدِهِ الْيُمْنَى وَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْرِمُ. (فَصَلَّى بِهِمْ) : وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ضَمْرَةَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْقَوْمِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا. (قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: سَأَلَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى جَلَالَتِهِ وَتَوْثِيقِهِ وَحِفْظِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: السَّمَاعُ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَتَشَرَّفَ بِأَنَّ غُسِّلَ عَلَى السَّرِيرِ الَّذِي غُسِّلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُمِلَ عَلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَهُ الْعِصَامُ. (عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَوَّلَ مَا جَلَسَ) : أَيْ أَوَّلَ زَمَانِ جُلُوسِهِ، أَوْ زَمَانَ أَوَّلِ جُلُوسِهِ. (إِلَى) : أَيْ مُتَوَجِّهًا أَوْ مَائِلًا، قَالَ الْعِصَامُ: وَكَأَنَّهُ سَأَلَهُ لِيَسْتَوْثِقَ سَمَاعَهُ عَنْهُ، انْتَهَى. لَكِنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ يَأْبَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى. (فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضٌ، حَيْثُ سَمِعَهُ أَبُو عِيسَى عَنْهُ بِلَفْظِ «أَخْبَرَنَا» وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ بِلَفْظِ «حَدَّثَنَا» . (فَقَالَ) : أَيْ يَحْيَى. (لَوْ كَانَ) : أَيِ التَّحْدِيثُ. (مِنْ كِتَابِكَ) : أَيْ لَكَانَ خَيْرًا لِكَوْنِهِ أَوْثَقُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ «لَوْ» لِلتَّمَنِّي فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ. (فَقُمْتُ) : أَيْ مِنَ الْمَجْلِسِ. (لِأُخْرِجَ كِتَابِي) : أَيْ كِتَابَ رِوَايَتِي مِنْ بَيْتِي. (فَقَبَضَ) أَيْ يَحْيَى (عَلَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. (ثَوْبِي) : أَيْ فَأَمْسَكَهُ مَانِعًا لِي مِنَ الْقِيَامِ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى تَحْصِيلِ عِلْمِهِ، وَقِلَّةِ طُولِ أَمَلِهِ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِهِ بِحُدُوثِ أَجْلِهِ. (ثُمَّ قَالَ: أَمْلِهِ عَلَيَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ، أَمْرٌ مِنَ الْإِمْلَالِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِمْلَاءِ. يُقَالُ: أَمْلَلْتُ الْكِتَابَ وَأَمْلَيْتُهُ

إِذَا أَلْقَيْتَهُ عَلَى الْكَاتِبِ لِيَكْتُبَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيُقَالُ مَلَلْتُهُ أَيْضًا. فَمَعَ عَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْمَرَامِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِكُتُبِ اللُّغَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الْإِمْلَاءِ، أَيْ حَدِّثْنِي بِالْإِمْلَاءِ أَوَّلًا. (فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَلْقَاكَ) : أَيْ ثَانِيًا لِمَانِعٍ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَمِنْهُ مَوْتُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ تَلَاقِيهِمَا، وَلِذَا قِيلَ: الْوَقْتُ سَيْفٌ قَاطِعٌ وَبَرْقُ الْخَوْفِ لَامِعٌ. (قَالَ) : أَيْ مُحَمَّدٌ. (فَأَمْلَيْتُهُ) : أَيِ الْحَدِيثَ. (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى يَحْيَى، وَفِي نُسْخَةٍ: فَأَمْلَيْتُ عَلَيْهِ. بِدُونِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ، فَانْدَفَعَ مَا قَالَهُ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّهُ يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْأَوَّلِ بِالتَّخْفِيفِ. (ثُمَّ أَخْرَجْتُ كِتَابِي فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ) : أَيِ الْحَدِيثَ مِنْ أَصْلِي أَيْضًا، قَالَ الْعِصَامُ: وَفِي نَقْلِ رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْبَحْثُ عَلَى لِبَاسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزِيدُ تَوْثِيقِ هَذَا السَّنَدِ ; إِذْ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَوْثِقُ بِهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَكَانَ وَاثِقًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ وَافَقَتْ رِوَايَتُهُ قِرَاءَتَهُ مِنْ كِتَابِهِ، انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْبَحْثُ عَنْ لِبَاسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ بَحْثٌ. لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ اللِّبَاسِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ) : مَرَّ فِي بَابِ الشَّعْرِ. (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) : مَرَّ فِيهِ أَيْضًا. (عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ) : كَرِجَالٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ. (الْجُرَيْرِيِّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى جُرَيْرٍ مُصَغَّرًا بِجِيمٍ وَرَائَيْنِ أَحَدُ آبَائِهِ، كَانَ قَدِ اخْتَلَطَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ سِنِينَ وَلَمْ يَكُنِ اخْتِلَاطُهُ فَاحِشًا، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: هُوَ ثِقَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: مَنْ كَتَبَ عَنْهُ قَدِيمًا هُوَ صَالِحٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ. (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) : سَبَقَ فِي بَابِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ. (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا) : أَيْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا، وَأَصْلُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: صَيَّرَهُ جَدِيدًا. وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ: أَيْ طَلَبَ ثَوْبًا جَدِيدًا. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ طَلَبُ لُبْسِهِ أَوْ طَلَبُهُ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ خَدَمِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا لَبِسَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. (سَمَّاهُ) : أَيِ الثَّوْبَ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ. (بِاسْمِهِ) : أَيِ الْمُعَيَّنِ الْمُشَخَّصِ الْمَوْضُوعِ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ (عِمَامَةً) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ. (أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً) : أَيْ أَوْ غَيْرَهُمَا كَالْإِزَارِ وَالسِّرْوَالِ وَالْخُفِّ وَنَحْوِهَا، فَالْمَقْصُودُ التَّعْمِيمُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: رَزَقَنِي اللَّهُ هَذَا الْقَمِيصَ أَوْ كَسَانِي هَذِهِ الْعِمَامَةَ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ. (ثُمَّ يَقُولُ) : أَيْ بَعْدَ لُبْسِهِ وَتَسْمِيَتِهِ. (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا كَسَوْتَنِيهِ) : وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسَمَّى، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ أَنْ يَقُولَ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِ بَدَلًا عَنْ ضَمِيرِ «كَسَوْتَنِيهِ» اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا كَسَوْتَنِي هَذَا الْقَمِيصَ أَوِ الْعِمَامَةَ مَثَلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِدَلَالَةِ الْعَطْفِ بِثُمَّ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ «كَمَا كَسَوْتَنِيهِ» مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ أَسْأَلُكُ إِلَخْ وَهُوَ الْمُشَبَّهُ أَيْ مِثْلَمَا كَسَوْتَنِيهِ

مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ. (أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ) : أَيْ أَنْ تُوصِلَ إِلَيَّ خَيْرَهُ. (وَخَيْرَ مَا صُنِعَ) : أَيْ خُلِقَ. (لَهُ) : مِنَ الشُّكْرِ بِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ وَالْحَمْدِ لِمُوَلِّيهِ بِاللِّسَانِ. (وَأَعُوذُ بِكَ) : عَطْفٌ عَلَى أَسْأَلُكَ، أَيْ أَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ. (وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ) : مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْكُفْرَانِ، انْتَهَى كَلَامُ الطِّيبِيِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْكَافُ بِمَعْنَى «عَلَى» أَوْ لِلتَّعْلِيلِ أَوْ لِلتَّشْبِيهِ، أَيِ الْحَمْدُ عَلَى قَدْرِ إِنْعَامِهِ الْكِسْوَةَ وَبِطَبَقِهِ وَإِزَائِهِ، وَإِمَّا لِلْمُبَادَرَةِ كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ أَسْلِمْ كَمَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ «كَمَا» بِمَعْنَى «إِذَا» كَمَا نُقِلَ عَنِ الْغَزَالِيِّ، وَيُحْتَمَلُ تَعَلُّقُ قَوْلِهِ «كَمَا» بِقَوْلِهِ «أَسْأَلُكَ» ، وَالْمَعْنَى: أَسْأَلُكَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ بِهِ، وَصَرْفِهِ فِيمَا فِيهِ رِضَاكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا تَرْضَى بِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَكَوْنِي أُعَاقَبُ بِهِ لِحُرْمَتِهِ. وَقَالَ مِيرَكُ: خَيْرُ الثَّوْبِ بَقَاؤُهُ وَنَقَاؤُهُ وَكَوْنُهُ مَلْبُوسًا لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ لَا لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَخَيْرُ مَا صُنِعَ لَهُ وَهُوَ الضَّرُورَاتُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يُصْنَعُ اللِّبَاسُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالْمُرَادُ سُؤَالُ الْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَنْ يَكُونَ مُبَلِّغًا إِلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي صُنِعَ لِأَجْلِهِ الثَّوْبُ مِنَ الْعَوْنِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لِمُوَلِّيهِ، وَفِي الشَّرِّ عَكْسُ الْمَذْكُورَاتِ وَهُوَ كَوْنُهُ حَرَامًا وَبَخْسًا، أَوْ لَمْ يَبْقَ زَمَانًا طَوِيلًا، أَوْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ. هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِيمَا يَدْعُو بِهِ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا أَحَادِيثُ أُخَرُ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ كَانَ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِ اللَّهِ وَفِي سِتْرِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا» . وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ وَحَسَّنَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ «وَمَا تَأَخَّرَ» . وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ثَوْبًا بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهِ إِلَّا لَمْ يَبْلُغْ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ» ، قَالَ الْحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ لَا أَعْلَمُ فِي إِسْنَادِهِ أَحَدًا ذُكِرَ بِجَرْحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُونُسَ الْكُوفِيُّ، أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «حَدَّثَنَا» . (الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ) : بِضَمِّ مِيمٍ فَفَتْحِ زَايٍ، مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ مُزَيْنَةَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ. (عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) : مَرَّ ذِكْرُهُ قَرِيبًا. (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ) : أَيْ فِي الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ (مِثْلَهُ) يُرَادُ فِي اللَّفْظِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ) : بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ «يَلْبَسُهَا» بِضَمِيرِ التَّأْنِيثِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِأَحَبَّ أَوِ الثِّيَابِ وَخَرَجَ بِهِ مَا يُفْرَشُ وَنَحْوُهُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِلثِّيَابِ أَوْ لِأَحَبَّ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ. (الْحِبَرَةَ) : وَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى مِثَالِ الْعِنَبَةِ، قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ رَفْعُ «الْحِبَرَةِ» عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ وَ «أَحَبَّ» خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ

بِالْعَكْسِ وَهُوَ الَّذِي صَحَّحُوهُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ، ثُمَّ «الْحِبَرَةَ» نَوْعٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ، وَرُبَّمَا كَانَتْ بُرُزٌ. قِيلَ: هِيَ أَشْرَفُ الثِّيَابِ عِنْدَهُمْ تُصْنَعُ مِنَ الْقُطْنِ، فَلِذَا كَانَ أَحَبَّ، وَقِيلَ: لِكَوْنِهَا خَضْرَاءَ وَهِيَ مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سُمِّيَتْ حِبَرَةً لِأَنَّهَا تُحَبَّرُ أَيْ تَزَيُّنِ، وَالتَّحْبِيرُ التَّحْسِينُ، قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَتْ هِيَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ زِينَةٍ، وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ احْتِمَالًا لِلْوَسَخِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْحِبَرَةِ، وَعَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْمُخَطَّطِ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، انْتَهَى. وَهُوَ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَالْجُمَعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ أَحَبَّ الثِّيَابِ عِنْدَهُ كَانَ الْقَمِيصَ ; إِمَّا بِمَا اشْتُهِرَ فِي مِثْلِهِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَبِّ كَمَا قِيلَ فِيمَا وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، وَإِمَّا بِأَنَّ التَّفْضِيلَ رَاجِعٌ إِلَى الصِّفَةِ فَالْقَمِيصُ أَحَبُّ الْأَنْوَاعِ بِاعْتِبَارِ الصُّنْعِ وَالْحِبَرَةُ أَحَبُّهَا بِاعْتِبَارِ اللَّوْنِ أَوِ الْجِنْسِ، فَتَأْمَّلْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْأَحَبُّ الْمُطْلَقُ هُوَ أَنْ يَكُونَ حِبَرَةً وَجُعِلَ قَمِيصًا. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) : أَيِ الثَّوْرِيُّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَقِيلَ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. (عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ) : حَدِيثُهُ فِي الصِّحَاحِ. (عَنْ أَبِيهِ) : صَحَابِيٌّ، مَرَّ ذِكْرُهُ. (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ وَقَعَتْ لَهُ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى آخِرِهِ. وَفِيهِ: وَخَرَجَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا. وَالْبَطْحَاءُ مَوْضِعٌ خَارِجَ مَكَّةَ، وَيُقَالُ لَهُ الْأَبْطَحُ، قَالَ: وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ بَلَلَ وَضَوْئِهِ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا مَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ صَاحِبِهِ. وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ أَنَّ الْوَضُوءَ الَّذِي ابْتَدَرَهُ النَّاسُ كَانَ فَضْلَ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ عَوْنٍ عَنْ أَبِيهِ: وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهِمَا وُجُوهَهُمْ، قَالَ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي فَإِذَا هِيَ أَبْرُدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ. قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَوْنٍ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ ; لِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى قَوْلِهِ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ) : وَالْحُلَّةُ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، كَذَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَفِي الصِّحَاحِ: لَا يُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى يَكُونَ ثَوْبَيْنِ، انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ بُرْدَانِ يَمَانِيَانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ سُودٍ كَسَائِرِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيَّةِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ الْخُطُوطِ الْحُمْرِ، وَإِلَّا فَالْأَحْمَرُ الْبَحْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَكْرُوهٌ لُبْسُهُ لِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ حُلَّتَانِ حَمْرَاوَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. وَحَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَا صُبِغَ بَعْدَ النُّسَجِ، وَأَمَّا مَا صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمَّ نُسِجَ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ زِينَةُ الشَّيْطَانِ وَمُوجِبٌ لِلْخُيَلَاءِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْحُمْرَةَ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ. وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَبِسَ الْأَحْمَرَ الْبَحْتَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ عَدَمُ التَّنَافِي بِالتَّخْصِيصِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي مَا يُظْهِرُ لَكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ. (وَكَأَنِّي أَنْظُرُ) : أَيِ الْآنِ. (إِلَى بَرِيقِ سَاقَيْهِ) : أَيْ لَمَعَانِهِمَا، فَفِي الْقَامُوسِ: بَرَقَ الشَّيْءُ بَرْقًا وَبَرِيقًا وَبُرْقَانًا أَيْ لَمَعَ. وَالْحَنَفِيُّ

وَهِمَ أَنَّهُ وَصْفٌ فَقَالَ: لَعَلَّهُ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: أَيْ بَيَاضِهِمَا، وَبَرِيقٌ مُصْدَرٌ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْبَيَاضَ لَوْنُ الْأَبْيَضِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ عَوْنٍ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ سَاقَيْهِ. وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَآخِرُهُ صَادٌ مُهْمَلَةٌ، الْبَرِيقُ، لَا مَصْدَرَ ثَمَّ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَقْصِيرِ الثِّيَابِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْبَابِ. (قَالَ سُفْيَانُ) : وَالْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ يُرَادُ بِهِ الثَّوْرِيُّ كَمَا إِذَا أُطْلِقَ الْحَسَنُ فَهُوَ الْبَصْرِيُّ وَإِذَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ. (أُرَاهَا) : عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ، يَعْنِي أَظُنُّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ. (حِبَرَةً) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «نُرَاهُ» عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ، أَيْ نَظُنُّهُ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْحُلَّةِ ثَوْبًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذَا الظَّنُّ لَا يُفِيدُ حُرْمَةَ الْأَحْمَرِ الْبَحْتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ مُسْتَنَدًا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْآتِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالظَّنِّ الِاعْتِقَادَ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الِاسْتِنَادِ، نَعَمْ، يُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُهَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالْحِبَرَةِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَالرَّاءِ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ كَجَعْفَرٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَضُبِطَ فِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى عَدَمِ الصَّرْفِ، وَلَعَلَّ عِلَّتَهُ الْأُخْرَى الْعُجْمَةُ. (أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «أَنْبَأَنَا» . (عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ) : مِنْ بَيَانِيَّةٌ. (أَحْسَنَ) : تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. (فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ) : لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا لِلتَّقْيِيدِ. (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مُتَعَلِّقَةٌ بِأَحْسَنَ. (إِنْ كَانَتْ جُمَّتُهُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ شَعْرُ رَأْسِهِ وَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ فِي قَوْلِهِ: (لَتَضْرِبُ) : أَيْ لَتَصِلُ. (قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ) : أَيْ بِاعْتِبَارِ جَانِبَيْهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِمِنًى عَلَى بَعِيرِهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ. وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ نَحْوَهُ، قَالَ: فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ لُبْسُ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ. الثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرٍو قَالَ: رَأَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: فَقُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا؟ ، قَالَ: «بَلِ احْرِقْهُمَا» . وَالْمُعَصْفَرُ هُوَ الَّذِي يُصْبَغُ بِالْعُصْفُرِ، وَغَالِبُ مَا يُصْبَغُ بِهِ يَكُونُ أَحْمَرَ ; وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُفَدَّمِ، وَهُوَ بِالْفَاءِ وَشَدِّ الدَّالِ، وَهُوَ الْمُصَبَّغُ بِالْعُصْفُرِ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ رَافِعِ بْنِ يَزِيدَ الثَّقَفِيِّ، رَفَعَهُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ فَإِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ وَكُلَّ ثَوْبٍ ذِي شُهْرَةٍ» . وَأَخْرَجُهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَدْخَلَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَرَافِعٍ رَجُلًا، فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَبَالَغَ الْجَوْرَبَانِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ بَاطِلٌ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ، وَحَسَّنَهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَتْ: كُنْتُ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ أُمِّ

الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْنُ نَصْبُغُ ثِيَابًا لَهَا بِمَغْرَةٍ إِذْ طَلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى الْمَغْرَةَ رَجَعَ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ غَسَلَتْ ثِيَابَهَا وَوَارَتْ كُلَّ حُمْرَةٍ، فَجَاءَ فَدَخَلَ. وَفِي سَنَدِهِ رَاوٍ ضَعِيفٍ. الثَّالِثُ: يُكْرَهُ لُبْسُ الثَّوْبِ الْمُشَبَّعِ بِالْحُمْرَةِ دُونَ مَا كَانَ صَبْغُهُ خَفِيفًا، وَكَانَ الْحُجَّةَ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ. الرَّابِعُ: يُكْرَهُ لُبْسُ الْأَحْمَرِ مُطْلَقًا لِقَصْدِ الزِّينَةِ وَالشُّهْرَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْبُيُوتِ وَوَقْتِ الْمِهْنَةِ. الْخَامِسُ: لَا يَجُوزُ لُبْسُ مَا كَانَ صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ وَجَنَحَ إِلَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ، وَاحْتُجَّ بِأَنَّ الْحُلَلَ الْوَاقِعَةَ فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي لُبْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ لِإِحْدَى حُلَلِهِنَّ، وَكَذَا الْبُرْدُ الْأَحْمَرُ وَالْبُرُودُ الْحُمْرُ يُصْبَغُ غَزْلُهَا ثُمَّ يُنْسَجُ. السَّادِسُ: اخْتِصَاصُ النَّهْيِ بِمَا يُصْبَغُ بِالْعُصْفُرِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يُمْنَعُ مَا صُبِغَ بِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْغِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمَغْرَةِ الْمُتَقَدِّمُ. السَّابِعُ: تَخْصِيصُ الْمَنْعِ بِالَّذِي يُصْبُغُ كُلُّهُ، وَأَمَّا مَا فِيهِ لَوْنٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَحْمَرِ مِنْ بَيَاضٍ وَسَوَادٍ وَغَيْرِهِمَا فَلَا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ، فَإِنَّ الْحُلَلَ غَالِبًا تَكُونُ ذَوَاتَ خُطُوطٍ حُمْرٍ وَغَيْرِهَا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَلْبَسُ ثَوْبًا مُصَبَّغًا بِالْحُمْرَةِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ السُّنَّةَ، وَهُوَ غَلَطٌ ; فَإِنَّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ لَا يُصْبَغُ أَحْمَرَ صِرْفًا، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ غَالِبَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: الَّذِي أُرَاهُ جَوَازُ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ بِكُلِّ لَوْنٍ إِلَّا أَنِّي لَا أُحِبُّ لُبْسَ مَا كَانَ مُصَبَّغًا بِالْحُمْرَةِ وَلَا لُبْسَ الْأَحْمَرِ مُطْلَقًا، ظَاهِرًا فَوْقَ الثِّيَابِ ; لِكَوْنِ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ زِيِّ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ ذَوِي الزَّمَانِ مِنَ الْمُرُوءَةِ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. وَفِي مُخَالَفَةِ الزِّيِّ ضَرْبٌ مِنَ الشُّهْرَةِ، قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ فَلَا عِبْرَةَ بِالْمُرُوءَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْبِدْعَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُلَخَّصَ مِنْهُ قَوْلٌ ثَامِنٌ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ إِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مِنْ لِبَاسِ الْكُفَّارِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ حَرِيرٍ غَيْرُ حَمْرَاءَ فَاسْتِعْمَالُهَا مَمْنُوعٌ لِأَجْلِ أَنَّهَا مِنَ الْحَرِيرِ وَاسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ لِلرَّجُلِ حَرَامٌ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ حَمْرَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَرِيرٍ فَالنَّهْيُ فِيهَا لِلزَّجْرِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ زِيُّ النِّسَاءِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الزَّجْرِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ لَا لِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ الشُّهْرَةِ أَوْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ فَيَمْتَنِعُ حَيْثُ يَقَعُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا فَيَقْوَى قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ لُبْسِهِ فِي الْمَحَافِلِ وَفِي الْبُيُوتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَبَاحَ الْمُعَصْفَرَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ تَنْزِيهًا، وَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَيْهِ، لَكِنْ أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ حُرْمَتُهُ كَالْمُزَعْفَرِ وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِحَرْقِ الْمُعَصْفَرِ، وَأَمَّا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْبُغُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ ثِيَابَهُ حَتَّى عِمَامَتِهِ، فَيُعَارِضُهُ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُزَعْفَرِ، وَأَمَّا مَا رَوَى الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُخَطَّطِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْبُرْدُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَنْبَأَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «أَخْبَرَنَا» . (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ) : بِكَسْرِ هَمْزَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ زِيَادَةُ. (وَهُوَ ابْنُ لَقِيطٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ. (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ إِيَادٍ. (عَنْ أَبِي رِمْثَةَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ فَسُكُونِ الْمِيمِ وَمُثَلَّثَةٍ. (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ) : قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْبُرْدُ نَوْعٌ مِنَ الثِّيَابِ مُخَطَّطٌ مَعْرُوفٌ. (أَخْضَرَانِ) : أَيْ فِيهِمَا خُطُوطٌ خُضْرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِخْرَاجٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ فَجَوَابُهُ أَنَّ دَلِيلَهُ قَوْلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي مَعْنَى الْبُرْدِ، فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الثِّيَابُ الْخُضْرُ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا. قُلْتُ: صَارَتْ ثِيَابَ الشُّرَفَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُهَا عَلَى الْبِيضِ لِمَا يَأْتِي، قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِيَادٍ. قُلْتُ: وَفِي الْمِشْكَاةِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ: أَخْبَرَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «أَنْبَأَنَا» . (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَّانٍ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ مُنْصَرِفًا وَغَيْرِ مُنْصَرِفٍ. (الْعَنْبَرِيُّ

عَنْ جَدَّتَيْهِ دُحَيْبَةَ) : بِدَالٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ. (وَعُلَيْبَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. (عَنْ قَيْلَةَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. (بِنْتِ مَخْرَمَةَ) : بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَيْنَ فَتَحَاتٍ، قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الشَّمَائِلِ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ عَنْ جَدَّتَيْهِ دُحَيْبَةَ وَصَفِيَّةَ، أَيْ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، بِنْتَيْ عُلَيْبَةَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ عَلَى الصَّوَابِ فِي جَامِعِهِ. وَعُلَيْبَةُ هُوَ ابْنُ حَرْمَلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِيَاسٍ، فَعُلَيْبَةُ أَبُوهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَهُمَا جَدَّتَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَّانَ، إِحْدَاهُمَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالثَّانِيَةُ مِنْ طَرَفِ الْأُمِّ ; لَمَّا وَقَعَ الزَّوَاجُ بَيْنَ ابْنِ الْخَالَةِ وَبِنْتِ الْخَالَةِ، وَهُمَا تَرْوِيَانِ عَنْ جَدَّةِ أَبِيهِمَا قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ: وَقَيْلَةُ جَدَّةُ أَبِيهِمَا أُمِّ أُمِّهِ، وَكَانَتْ رَبَّتْهُمَا، وَكَانَتْ مِنَ الصَّحَابِيَّاتِ، انْتَهَى. وَبِهَذَا ظَهَرَ بُطْلَانُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ اعْتَرَضَ، أَيْ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ بِأَنَّ صَوَابَ هَاتَيْنِ دُحَيْبَةُ وَصْفِيَّةُ بِنْتَا عُلَيْبَةَ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ دُحَيْبَةَ جَدَّتُهُ وَأَنَّ أُمَّهَا عُلَيْبَةَ جَدَّتُهُ، وَأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْهَا فَصَحَّ مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَوْنُ دُحَيْبَةَ لَهَا أُخْتٌ اسْمُهَا صَفِيَّةَ لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ بِوَجْهٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. (قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ أَسْمَالُ مُلَيَّتَيْنِ) : بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ مِنْ قَبِيلِ جَرْدِ قَطِيفَةٍ، وَالْأَسْمَالُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ سَمَلٍ بِتَحْرِيكِهِمَا، وَهُوَ الثَّوْبُ الْخَلَقُ، يُقَالُ: ثَوْبُ أَسْمَالٍ كَمَا يُقَالُ: رُمْحُ أَقْصَادٍ، وَبُرْمَةُ أَعْشَارٍ، وَالْقَصْدُ الرُّمْحُ وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْجَمْعِ، وَبُرْمَةُ أَعْشَارٍ إِذَا انْكَسَرَتْ قِطَعًا، وَقَلْبُ أَعْشَارٍ جَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْجَمْعِ أَيْضًا، وَيُقَالُ: ثَوْبُ أَخْلَاقٍ إِذَا كَانَتِ الْخُلُوقَةُ فِيهِ كُلِّهِ. وَالْمُلَيَّةُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ تَصْغِيرُ الْمُلَاءَةِ بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ، لَكِنْ بَعْدَ حَذْفِ الْأَلِفِ، وَهِيَ الْإِزَارُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الصِّحَاحِ هِيَ الرَّيْطَةُ أَيِ الْمِلْحَفَةُ، وَفِي الْقَامُوسِ هِيَ كُلُّ ثَوْبٍ لَمْ يُضَمَّ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ بِخَيْطٍ بَلْ كُلُّهُ نَسْجٌ وَاحِدٌ. وَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَالِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ لِيُطَابِقَ التَّثْنِيَةَ. (كَانَتَا بِزَعْفَرَانَ) : أَيْ مَصْبُوغَتَيْنِ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: أَيْ مَخْلُوطَتَيْنِ فَفِيهِ تَسَامُحٌ لَا يَخْفَى. (وَقَدْ نَفَضَتْهُ) : بِالْفَاءِ أَيِ الْأَسْمَالُ أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُلَيَّتَيْنِ لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ وَلَمْ يَبْقَ أَثَرٌ مِنْهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: نُفِضِتَا عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ الْمُلَيَّتَانِ أَوِ الْأَسْمَالُ وَالتَّثْنِيَةُ لِلْمَيْلِ إِلَى الْمَعْنَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لِلْمَعْلُومِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِعْلًا مَاضِيًا مَعْرُوفًا، وَكَذَا عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي جَامِعِهِ، وَالْفَاعِلُ الْمُلَيَّتَانِ أَيْ نُفِضَتِ الْمُلَّيْتَانِ لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ الَّذِي صُبِغَتَا بِهِ، وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أَيْ بَعْثَهُ اللَّهُ، وَالْأَصْلُ فِي النَّفْضِ التَّحْرِيكُ، فَإِسْنَادُ النَّفْضِ إِلَى الْمُلَيَّةِ مَجَازِيٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ نَفَضَ الثَّوْبُ نَفَضًا فَهُوَ نَافِضٌ أَيْ ذَهَبَ بَعْضُ لَوْنِهِ مِنَ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ارْتِكَابِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ وَإِلَيْهِ يَوْمِئُ كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَالْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ، حَيْثُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ نَصَلَ لَوْنُ صَبْغِهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْأَثَرُ. وَقَالَ الْمِزِّيُّ: إِنَّمَا جُمِعَتِ الْأَسْمَالُ وَثُنِّيَتٍ الْمُلَاءَتَيْنِ لِأَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّهُمَا كَانَتَا قَدِ انْقَطَعَتَا حَتَّى صَارَتَا قِطَعًا وَنَفَضَتَا أَيْ ذَهَبَ لَوْنُهُ مِنْهُمَا إِلَّا الْيَسِيرَ بِطُولِ لُبْسِهِمَا وَاسْتِعْمَالِهِمَا، لَكِنْ يُؤَيِّدُ حَذْفَ الْمَفْعُولِ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَقَدْ نَفَضَتْهُ، انْتَهَى. وَلَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ مِنْ إِيثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَذَاذَةَ الْهَيْئَةِ وَرَثَاثَةَ اللُّبْسَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ

وَجُمْهُورُ الصُّوفِيَّةِ، وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَادَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ وَالسَّادَةِ الشَّاذِلِيَّةِ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ السَّنِيَّةِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَرَاكِبِ الْبَهِيَّةِ ; لِأَنَّ السَّلَفَ لَمَّا رَأَوْا أَهْلَ اللَّهْوِ يَتَفَاخَرُونَ بِالزِّينَةِ وَالْمَلَابِسِ أَظْهَرُوا لَهُمْ بِرَثَاثَةِ مَلَابِسِهِمْ حَقَارَةَ مَا حَقَّرَهُ الْحَقُّ مِمَّا عَظَّمَهُ الْغَافِلُونَ، وَالْآنَ قَدْ قَسَتِ الْقُلُوبُ وَنُسِيَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاتَّخَذَ الْغَافِلُونَ رَثَاثَةَ الْهَيْئَةِ حِيلَةً عَلَى جَلْبِ الدُّنْيَا وَوَسِيلَةً إِلَى حُبِّ أَهْلِهَا فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَصَارَ مُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ مُتَّبِعًا لِرَسُولِهِ وَلِلسَّلَفِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذُلِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ لِذِي رَثَاثَةٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ جَمَالَ هَيْئَتِهِ: يَا هَذَا هَيْئَتِي هَذِهِ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهَيْئَتُكَ هَذِهِ تَقُولُ أَعْطُونِي مِنْ دُنْيَاكُمْ شَيْئًا لِلَّهِ. وَأَمَّا النَّقْشَبَنْدِيَّةُ فَعُمْدَةُ غَرَضِهِمُ التَّسَتُّرُ بِحَالِهِمْ وَالتَّبَاعُدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِي أَفْعَالِهِمْ هَذِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَلِهَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ أَيْضًا مِنَ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ وَأَكَلَ مِنَ اللَّذِيذَاتِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْبَذَاذَةَ وَظُهُورَ الْفَاقَةِ فِي أَحْوَالِهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ أَسْلَمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ فَرِيقٍ، وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ» . وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا وَعَلَيْهِ أَطْمَارٌ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: ثَوْبٌ دُونٌ، فَقَالَ لَهُ: «هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟» فَقَالَ: نَعَمُ، فَقَالَ: «مِنْ أَيِ الْمَالِ؟» قَالَ: مِنْ كُلِّ مَا آتَى اللَّهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالشِّيَاهِ، فَقَالَ: «فَكَثِّرْ نِعْمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ عَلَيْكَ» أَيْ فَأَظْهِرْ أَثَرَ نِعْمَتِهِ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ بِلِسَانِ الْقَالِ وَالْحَالِ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَالْمَآلِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ، وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» . أَيْ لِإِنْبَائِهِ عَنِ الْجَمَالِ الْبَاطِنِ وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَهَاهُنَا مَزْلَقَةٌ لِقَوْمٍ وَمَصْعَدَةٌ لِآخَرِينَ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ; حَيْثُ لَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهِمَا مِنْ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ وَإِخْلَاصِ تِلْكَ الطَّوِيَّةِ فَلَا يَلْبَسُ بِافْتِخَارٍ وَلَا يَتْرُكُ بُخْلًا وَاحْتِقَارًا، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ» وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَمَّلُ لِلْوُفُودِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا اعْتِبَارَ بِالْجَمَالِ الظَّاهِرِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ وَالْمَدَارُ عَلَى طَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَمَعْرِفَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ ; وَلِذَا وَرَدَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» . وَلَا يُنَافِي لُبْسُهُ لِهَذَيْنَ مَا مَرَّ مِنْ صِحَّةِ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لِمَا أَنَّهُ لَبِسَ بَعْدِ نَفْضِ الزَّعْفَرَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النَّهْيِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْقِصَّةِ الطَّوِيلَةِ أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ. (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَرْكُهَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا هُوَ فِيهِ، وَهِيَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ، فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» وَعَلَيْهِ أَسْمَالُ مُلَيَّتَيْنِ قَدْ كَانَتَا بِزَعْفَرَانٍ فَنَفَضَتَا، وَبِيَدِهِ عَسِيبُ نَخْلَةِ، قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أَرْعَدْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّكِينَةُ» ، فَذَهَبَ عَنِّي مَا أَجِدُ مِنَ الرَّوْعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَأَنَّهُ مَا اطَّلَعَ عَلَى الْقِصَّةِ بِطُولِهَا الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِتَرْكِهَا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ أَبِي عُمَرَ الْجُوَيْنِيِّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَتْنِي جَدَّتَايَ صَفِيَّةٌ وَدُحَيْبَةُ بِنْتَا عُلَيْبَةَ أَنَّ قَيْلَةَ بِنْتَ مَخْرَمَةَ حَدَّثَتْهُمَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ حَبِيبِ بْنِ أَزْهَرَ أَخِي بَنِي خَبَّابٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ النِّسَاءَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَانْتَزَعَ بَنَاتِهَا مِنْهَا أَيُّوبُ بْنُ أَزْهَرَ عَمُّهُنَّ، فَخَرَجَتْ تَبْتَغِي الصَّحَابَةَ، أَيِ الْمُصَاحَبَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَتَرَكْتُهُ لِأَنَّ النُّسْخَةَ كَانَتْ سَقِيمَةً وَمُصَحَّفَةً وَمُحَرَّفَةً جِدًّا بِحَيْثُ مَا كَانَ يُفْهَمُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعَ طُولِهِ، فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ وَرَقَتَيْنِ مَعَ شَرْحِ غَرِيبِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاخْتِصَارِ فِي أَرْبَعَةِ أَوْرَاقٍ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْفَضْلِ) : بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ

خُثَيْمٍ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ. (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ. (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ) : اسْمُ فِعْلٍ، أَيْ خُذُوا مَعْشَرَ الْأُمَّةِ. (بِالْبَيَاضِ) : أَيِ الْبِيضِ. (مِنَ الثِّيَابِ) : أَيْ عَلَيْكُمْ بِلُبْسِ ذِي الْبَيَاضِ أَوِ الْأَبْيَضِ الْمُبَالِغِ فِي الْبَيَاضِ، حَتَّى كَأَنَّهُ عَيْنُ الْبَيَاضِ، كَرَجُلٍ عَدْلٍ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ بَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الثِّيَابِ. (لِيَلْبَسَهَا) : بِلَامِ الْأَمْرِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ. (أَحْيَاؤُكُمْ) : أَيِ الْبَسُوهَا وَأَنْتُمْ أَحْيَاءٌ. (وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهَا) : أَيِ الْبِيضَ. (مِنْ خِيَارِ ثِيَابِكُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: «مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ» ، وَسَيَأْتِي تَعْلِيلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّهَا أَطْيَبُ وَأَطْهَرُ» ، قِيلَ إِنْ حُمِلَ «مِنْ خِيَارِ ثِيَابِكُمْ» عَلَى ظَاهِرِهِ، فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ فَضْلِ الثِّيَابِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا لَا تَرْجِيحُهَا عَلَى جَمِيعِ مَا عَدَاهَا مِنَ الثِّيَابِ، تَأَمَّلِ، انْتَهَى. وَهُوَ مَحَلُّ تَأْمُّلٍ لِعَدَمِ ظُهُورِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَقُلْ «خِيَارُ ثِيَابِكُمْ» ; لِأَنَّ الْخَيْرِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْبَيَاضِ فَقَطْ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْحِلْيَةِ وَالطَّهُورِيَّةِ وَالْخُلُوصِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوْبِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادُ الْقَائِلَ بِالتَّأَمُّلِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ التَّبْعِيضِ أَنْ لَا يَلْزَمَ تَفْضِيلُهُ عَلَى الْأَخْضَرِ فَإِنَّهُ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْأَبْيَضِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَأَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: لَمْ يَقُلْ «خَيْرُ ثِيَابِكُمْ» لِئَلَّا يَلْزَمَ تَفْضِيلُهُ عَلَى الْأَصْفَرِ، فَغَلَطٌ فَاحِشٌ ; لِأَنَّ الْأَصْفَرَ لَا فَضْلَ لَهُ الْبَتَّةَ بَلِ الْمُزَعْفَرُ وَالْمُعَصْفَرُ حَرَامٌ كَمَا مَرَّ، وَقَوْلُهُ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْأَصْفَرَ كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ عِنْدَهُ، لَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَا زَعَمَهُ ; لِأَنَّ هَذَا بِفَرْضِ صِحَّتِهِ يَكُونُ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَصْفَرِ الْمَنْفُوضِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ) : قِيلَ اسْمُهُ قَيْسٌ، وَقِيلَ هِنْدُ بْنُ دِينَارٍ. (عَنْ مَيْمُونَ بْنِ أَبِي شَيْبٍ) : بِالْمُعْجَمَةِ عَلَى زِنَةِ حَبِيبٍ. (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَتُفْتَحُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَسُوا الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ) : أَيْ لَا دَنَسَ وَلَا وَسَخَ فِيهَا، قَالَ مِيرَكُ: لِأَنَّ الْأَبْيَضَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الصِّبْغُ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَنَجَّسُ بِالتَّلَطُّخِ وَمُلَاقَاتِهِ شَيْئًا نَجِسًا، إِذِ الثِّيَابُ الْكَثِيرَةُ إِذَا أُلْقِيَتْ فِي الصَّبْغِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبٌ نَجِسٌ بَيْنَ الثِّيَابِ فَيَتَنَجَّسُ الصِّبْغُ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُصْبَغَ الثَّوْبُ، وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ إِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَظْهَرُ مِثْلَ ظُهُورِهَا إِذَا وَقَعَتْ فِي ثَوْبٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ أَظْهَرُ فِي الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ كَانَ هُوَ مِنْ غَيْرِهِ أَطْهَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ الْبِيضَ أَكْثَرُ تَأَثُّرًا مِنَ الثِّيَابِ الْمُلَوَّنَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرُ غَسْلًا فَيَكُونُ أَكْثَرَ طَهَارَةً. (وَأَطْيَبُ) : مَأْخُوذٌ مِنَ

الطِّيبِ أَوِ الطَّيِّبِ لِدَلَالَتِهِ غَالِبًا عَلَى التَّوَاضُعِ وَعَدَمِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَحْسَنَ لِبَقَائِهِ عَلَى اللَّوْنِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، وَتَرْكُ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ أَحْسَنُ إِلَّا إِذَا جَاءَ نَصٌّ بِاسْتِحْبَابِ تَغْيِيرِهِ كَخِضَابِ الْمَرْأَةِ يَدَهَا بِالْحِنَّاءِ، وَإِلَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ غَرَضٌ مُبَاحٌ أَوْ ضَرُورَةٌ كَمَا اخْتَارَ الْأَزْرَقَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ لِقِلَّةِ مُؤْنَةِ غَسِيلِهِ وَرِعَايَةِ حَالِهِ، وَقِيلَ: أَطْهَرُ لِأَنَّهَا تُغْسَلُ مِنْ غَيْرِ مَخَافَةٍ عَلَى ذَهَابِ لَوْنِهَا، وَأَطْيَبُ أَيْ أَلَذُّ لِأَنَّ لَذَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي طَهَارَةِ ثَوْبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ مِنَ الرَّكَاكَةِ مَا لَا يَخْفَى. فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَفَاءِ مَعَ ظُهُورِ الْخَفَاءِ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ كَرَامَةِ الْمُؤْمِنِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَقَاؤُهُ ثَوْبَهُ وَرِضَاهُ بِالْيَسِيرِ، انْتَهَى. وَمَعْنَاهُ بِالْيَسِيرِ مِنَ الثِّيَابِ أَوْ بِالْقَلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا وَالْقَنَاعَةُ بِالْبَلَاغِ إِلَى الْعُقْبَى، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رِجْلًا وَسِخَةً ثِيَابُهُ فَقَالَ: «أَمَا وَجَدَ هَذَا شَيْئًا يُنَقِّي بِهِ ثِيَابَهُ» . وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى أَطْيَبَ أَنَّهُ كُلَّمَا يُغْسَلُ الْأَبْيَضُ يَكُونُ أَطْهَرَ، وَأَطْيَبُ بِمَعْنَى أَحْسَنَ وَأَلَذُّ، بِخِلَافِ الْمَصْبُوغِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَطْيَبَ أَحَلُّ، فَفِي النِّهَايَةِ أَكْثَرُ مَا يَرِدُ الطَّيِّبُ بِمَعْنَى الْحَلَالِ كَمَا أَنَّ الْخَبِيثَ بِمَعْنَى الْحَرَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ مِنْ أَنَّهُ عَطْفُ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مُبَالَغَةً، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْعَطْفَ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ فَتَقْدِيرُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ مَمْنُوعٌ. (وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ) : وَلَعَلَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ الْخَفِيَّةَ إِلَى أَنَّ أَطْيَبِيَّةَ لُبْسِ الْبَيَاضِ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَكُونُ لِتَذَكُّرِ لُبْسِ أَهْلِ الْعُقْبَى وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَآلَهُ إِلَى الْخَلَاقَةِ وَالْبِلَى فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَكَلَّفَ وَيَتَحَمَّلَ فِي تَحْصِيلِهِ الْبَلَاءَ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا زُرْتُمُ اللَّهَ بِهِ فِي قُبُورِكُمْ وَمَسَاجِدِكُمُ الْبَيَاضُ» . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ وَالْغِفَارِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَبَاقِي رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، انْتَهَى. فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا بِالْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْبَيَاضِ، يَعْنِي التَّوْحِيدَ الْجِبِلِّيَّ بِحَيْثُ لَوْ خُلِّيَ وَطَبْعَهُ لَاخْتَارَهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ، وَإِنَّمَا يُغَيِّرُهُ الْعَوَارِضُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» . بِالتَّقْلِيدِ الْمَحْضِ الْغَالِبِ عَلَى عَامَّةِ الْأُمَّةِ، (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى طَهَارَةِ بَاطِنِهِ مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْعَدَاوَةِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْحُكْمِيَّةُ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ وَأَنَّ لِنَظَافَةِ الظَّاهِرِ وَطَهَارَتِهِ وَتَزْيِينِهِ تَأْثِيرًا بَلِيغًا فِي أَمْرِ الْبَاطِنِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ أَطْيَبَ بِأَحْسَنَ، وَفِي إِطْلَاقِ أَحْسَنَ إِشْعَارٌ بِزِيَادَةِ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ «مِنْ خِيَارِ ثِيَابِكُمْ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَيَاضَ أَفْضَلُ فِي الْكَفَنِ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِصَدَدِ مُوَاجَهَةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا أَنَّ لُبْسَهُ أَفْضَلُ لِمَنْ يَحْضُرُ الْمَحَافِلَ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ لِلْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَمُلَاقَاةِ الْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْعِيدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ فِيهِ مَا يَكُونُ أَرْفَعَ قِيمَةً نَظَرًا إِلَى إِظْهَارِ مَزِيدِ النِّعْمَةِ وَآثَارِ الزِّينَةِ وَمَزِيَّةِ الْمِنَّةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ دُخُولِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي بَابِ لِبَاسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَبِسَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ، لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ أَمْرِهِ بِلُبْسِ الْبَيَاضِ وَتَرْغِيبِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُهُ أَيْضًا، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَيْثُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا) : بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ. (بْنِ أَبِي زَائِدَةَ) : اسْمُهُ خَالِدٌ، وَيُقَالُ هُبَيْرَةُ، بِالتَّصْغِيرِ. (أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ) : قِيلَ: كَلِمَةُ ذَاتٍ مُقْحَمَةٌ، وَفَائِدَتُهَا دَفْعُ مَجَازِ الْمُشَارَفَةِ، وَقِيلَ: ذَاتُ الشَّيْءِ نَفْسُهُ وَحَقِيقَتُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَيْ خَرَجَ غَدَاةً أَيْ بُكْرَةً، فَإِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَعْمِلُونَ ذَاتَ يَوْمٍ وَذَاتَ لَيْلَةٍ وَيُرِيدُونَ حَقِيقَةَ

الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَفْسِهِ. (وَعَلَيْهِ مِرْطٌ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ كِسَاءٌ طَوِيلٌ وَاسِعٌ مِنْ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ كَتَّانٍ يُؤْتَزَرُ بِهِ، وَلِذَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ شَعْرٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ «مَرْطٌ» ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ مَجْرُورٌ لِكَوْنِهِ صِفَةُ شَعْرٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ «خَرَجَ» ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اشْتَمَلَ اشْتِمَالَ الصَّمَّاءِ، خِلَافًا لَمَنْ وَهِمَ فِيهِ، انْتَهَى. لَكِنْ نَسَبَهُ مِيرَكُ إِلَى الْجَزَرِيِّ وَهُوَ إِمَامٌ فِي النَّقْلِ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتَزِرُ بِهِ وَيُلْقِي بَعْضَهُ عَلَى الْكَتِفَيْنِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ أَنَّ لِلْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ بَلْ نَقْلٌ مُسْتَقِلٌّ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ: كَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِسَاءٌ مُلَبَّدٌ يَلْبَسُهُ، وَيَقُولُ: «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ أَلْبَسُ كَمَا يَلْبَسُ الْعَبْدُ» . قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ مُسْلِمًا وَأَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَا هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَجَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ مُرَجَّلٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُيِّدَ بِهِ لِكَوْنِهِ لُبْسَ الرِّجَالِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِيهِ صُوَرَ الرِّجَالِ، وَلَا يَصِحُّ، وَالثَّالِثُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يَعْنِي عَلَيْهِ صُوَرُ الْمَرَاجِلِ أَيِ الْقُدُورِ، وَاحِدُهَا مِرْجَلٌ. وَضَبَطَهُ الْأَكْثَرُونَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهَكَذَا ضَبَطَهُ الْمُتْقِنُونَ، وَمَعْنَاهُ الْمُوَشَّى الْمَنْقُوشُ عَلَيْهِ صُوَرُ الرِّحَالِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ صُوَرُ الْحَيَوَانِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْوَشْيُ نَقْشُ الثَّوْبِ. وَكَذَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: الْمُرَادُ اخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ ; إِذِ الْأَرْحَلُ مِنَ الْخَيْلِ هُوَ الْأَبْيَضُ الظَّهْرِ وَمِنَ الْغَنَمِ الْأَسْوَدُ الظَّهْرِ فَكَأَنَّهُ كَانَ مُوَشًّى أَيْ مَنْقُوشًا، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى مَا كَانَ يَلْبَسُهُ. أَقُولُ فَوَصْفُهَا بِالْأَسْوَدِ لِأَجْلِ أَنَّ السَّوَادَ فِيهِ أَغْلَبُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِمَا مِنَ الزِّيَادَةِ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخِلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) . (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَاسْمُهُ) : عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّبِيعِيِّ، وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ أَبِي إِسْحَاقَ. (عَنِ الشَّعْبِيِّ) : بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ. (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ) : أَيِ الْمُغِيرَةِ. (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ جُبَّةً) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، قِيلَ: هِيَ ثَوْبَانِ بَيْنَهُمَا قُطْنٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صُوفٍ فَقَدْ تَكُونُ وَاحِدَةٌ غَيْرُ مَحْشُوَّةٍ، وَقَدْ قِيلَ: جُبَّةُ الْبُرْدِ جُنَّةُ الْبُرْدِ. (رُومِيَّةً) : قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ مِنْ جِبَابِ الرُّومِ، لَكِنَ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا جُبَّةً شَامِيَّةً، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا، انْتَهَى. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الشَّامَ حِينَئِذٍ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَكَأَنَّهُمَا وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمِلْكِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نِسْبَةُ هَيْئَتِهَا الْمُعْتَادِ لُبْسِهَا إِلَى إِحْدَاهُمَا وَنِسْبَةُ خِيَاطَتِهَا إِلَى

(باب ما جاء في عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم)

الْأُخْرَى. (ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ) : وَهَذَا كَانَ فِي سَفَرٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِفْرٍ فَقَالَ: «أَمَعَكَ مَاءٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ، فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ الْإِدَاوَةَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ مِنْ تَحْتِ بَدَنِهِ. بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فَالْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ، أَيْ جُبَّتِهِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى الْبَدَنُ بِفَتْحَتَيْنِ، دِرْعٌ قَصِيرَةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ. زَادَ مُسْلِمٌ: وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ: كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَمُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ زِيَادَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَأَقْبَلْتُ مَعَهُ حَتَّى وَجَدَ النَّاسُ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ; فَصَلَّى بِهِمْ، فَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتِمُّ صِلَاتَهُ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ النَّاسَ. وَفِي أُخْرَى: قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَأَرَدْتُ تَأْخِيرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ» . كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ الِانْتِفَاعُ بِثِيَابِ الْكُفْرِ حَتَّى يُتَحَقَّقُ نَجَاسَتُهَا ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الْجُبَّةَ الرُّومِيَّةَ، وَلَمْ يَتَفَصَّلْ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ الصُّوفَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْجُبَّةَ كَانَتْ شَامِيَّةً وَكَانَتِ الشَّامُ إِذَا ذَاكَ دَارُ كُفْرٍ، وَمِنْهَا جَوَازُ لُبْسِ الصُّوفِ. وَكَرِهَ مَالِكٌ لُبْسَهُ لِمَنْ يَجِدُ غَيْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّهْرَةِ بِالزُّهْدِ ; لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْعَمَلِ أَوْلَى، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَمْ يَنْحَصِرِ التَّوَاضُعُ فِي لُبْسِهِ بَلْ فِي الْقُطْنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ بِدُونِ ثَمَنِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ فِيهِ: نَدْبُ اتِّخَاذِ ضَيِّقِ الْكَمِّ فِي السَّفَرِ لَا فِي الْحَضَرِ ; لِأَنَّ أَكْمَامَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَتْ وَاسِعَةً. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَحَرَّاهَا لِلسَّفَرِ، وَإِلَّا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَبِسَهَا لِلدِّفَاءِ مِنَ الْبَرْدِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ اتِّسَاعِ الْأَكْمَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْأَكْمَامَ جَمْعُ كُمٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جُمَعُ كُمَّةٍ، وَهِيَ مَا يُجْعَلُ عَلَى الرَّأْسِ كَالْقَلَنْسُوَةِ، فَكَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ: مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ اتِّسَاعُ الْكُمَّينِ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا عَلَى السِّعَةِ الْمُفْرِطَةِ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بَلْ مُتَعَيَّنٌ، وَلِذَا قَالَ فِي النُّتَفِ مِنْ كُتِبِ أَئِمَّتِنَا: يُسْتَحَبُّ اتِّسَاعُ الْكُمِّ قَدْرَ شِبْرٍ. . . (بَابُ مَا جَاءَ فِي عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

اعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا هَذَا الْبَابَ الصَّغِيرَ فِي عَيْشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ بَعْدَ بَابِ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابٌ طَوِيلٌ فِي بَيَانِ عَيْشِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هَاهُنَا ذَاكَ الْبَابُ الطَّوِيلُ فِي عَيْشِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ فِي أُصُولِ مَشَايِخِنَا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِيرَادُ بَابِ الْعَيْشِ بَيْنَ بَابِ اللِّبَاسِ وَبَابِ الْخُفِّ غَيْرُ مُلَائِمٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ نَسْخِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَتَبَهُ الْفَقِيرُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ الْحُسَيْنِيُّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، كَذَا وَجَدَتْهُ بِخَطِّ مِيرَكَ شَاهْ عَلَى هَامِشِ نُسْخَةٍ فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الطَّوِيلُ بَعْدَ الْقَصِيرِ، وَيَتَّجِهُ عَلَى كِلْتَا النُّسْخَتَيْنِ أَنَّ جَعْلَهُمَا بَابَيْنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَأْتِي هَذَا الْبَابُ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ بِزِيَادَاتٍ أُخَرَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ حِكْمَةِ ذَلِكَ مَعَ الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَبْدَى لِذَلِكَ مَا لَا يُجْدِي، وَقَالَ: هُنَاكَ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْبَابَ فِيمَا مَرَّ عَلَى مَا فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ، ثُمَّ أَعَادَهُ هَاهُنَا بِزِيَادَاتٍ أُخَرَ أَخْرَجَتْهُ عَنِ التَّكْرَارِ الْمَحْضِ، ثُمَّ أَطَالَ بِكَلَامٍ خَارِجٍ عَنِ الْمَرَامِ مَعَ التَّنْجِيحِ الزَّائِدِ فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِأَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى ضِيقِ عَيْشِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَعَ ضِيقِ عَيْشِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ بَابٍ، وَأَحَادِيثُ ذَاكَ الْبَابِ دَالَّةٌ عَلَى مَا جَاءَ فِي ضِيقِ عَيْشِهِ الْمَخْصُوصِ بِهِ وَبِأَهْلِ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ هَذَا الْبَابُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضِيقِ عَيْشِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، وَذَاكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى آخِرِ أَمْرِهِ إِشَارَةً إِلَى اسْتِوَاءِ حَالَيْهِ فِي اخْتِيَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اخْتِيَارِهِ تَعَالَى لَهُ الطَّرِيقَ الْمُخْتَارَ مِنَ الْفَقْرِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالرِّضَا فِي الدَّارِ الْغَدَّارِ ; إِذْ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَابَيْنِ مُخْتَلِفٌ فَلَا تَكْرَارَ فِي الْمَعْنَى، فَلَا يُنْظَرُ إِلَى الْمَبْنَى ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَوَسُّعِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ حَتَّى لَبِسَ مِثْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَوْبَيْنِ مُمَشَّقَيْنِ مِنَ الْكَتَّانِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ بَعْدَ بَابِ اللِّبَاسِ مُقَدَّمًا عَلَى بَابِ الْخُفِّ، هَذَا وَالْعَيْشُ: الْحَيَاةُ، وَمَا يَكُونُ بِهِ الْحَيَاةُ مِثْلُ الْمَعِيشَةِ وَفِي الْمَثَلِ: عَيْشٌ مَرَّةً وَجَيْشٌ مَرَّةً ; مَثَلٌ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، كَذَا فِي تَاجِ الْأَسَامِي. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ) : أَيِ السِّخْتِيَانَيُّ، نِسْبَةً إِلَى بَيْعِ السِّخْتِيَانِ أَيِ الْجُلُودِ أَوْ عَمَلِهَا. (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) : بِكَسْرِ السِّينِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَبِفَتْحِ النُّونِ عَلَى ضَبْطٍ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، قَالَ الْعِصَامُ: الظَّاهِرُ أَنَّ سِيرِينَ كَغِسْلِينَ، وَأَنَّهُ مُصَرَّفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْعَلَمِيَّةُ لَكِنْ قُيِّدَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ بِالْفَتْحَةِ، وَوَجْهُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ إِذِ الْعُجْمَةُ فِيهِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، قُلْتُ بِوَجْهٍ بِمَا قَالَ الْجَعْبَرِيُّ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّ مُطْلِقَ الْمَزِيدَتَيْنِ كَغَلْبُونَ وَنَحْوِهِ عِلَّةٌ لِمَنْعِ الصَّرْفِ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمَوَالِي لَا مِنَ الْعَرَبِ، فَلَا بِدَعَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْعُجْمَةُ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ سِيرِينَ أُمُّهُ فَيَكُونُ فِيهِ عِلَّتَانِ التَّأْنِيثُ وَالْعِلْمِيَّةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ هُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، مَشْهُورٌ، إِمَامٌ فِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ وَغَيْرِهِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، وَهُوَ مِنْ مَوَالِي أَنَسٍ كَاتَبَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفًا فَأَدَّاهَا وَعُتِقَ، وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ سِتَّةٌ كُلُّهُمْ نُجَبَاءُ مُحَدِّثُونَ وَهُمْ: مُحَمَّدٌ وَمَعْبَدٌ وَأُنَيْسٌ وَيَحْيَى وَحَفْصَةُ وَكَرِيمَةُ، وَمِنْ نَوَادِرِ الْأَسَانِيدِ: رَوَى مُحَمَّدُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أُنَيْسٍ، حَيْثُ وَقَعَ فِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةُ أُخُوَّةٍ. (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ) : أَيْ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ أَوْ ثَوْبَانِ آخَرَانِ. (مُمَشَّقَانِ) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمُثَقَّلَةِ، أَيْ مَصْبُوغَانِ بِالْمِشْقِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ الطِّينُ الْأَحْمَرُ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقِيلَ هُوَ الْمِغْرَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، قِيلَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَرَّ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ فَلَا إِشْكَالَ، انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحُمْرَةِ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ، وَالْمَصْبُوغُ بِالطِّينِ الْأَحْمَرِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الشَّأْنُ. (مِنْ كَتَّانٍ) : بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، بَيَانٌ لَثَوْبَانِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (فَتَمَخَّطَ) : أَيِ اسْتَنْثَرَ وَطَهَّرَ أَنْفَهُ. (فِي أَحَدِهِمَا) : وَمِنْهُ الْمُخَاطُ مَا يَسِيلُ مِنَ الْأَنْفِ. (فَقَالَ) : أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ. (بَخْ بَخْ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا مُنَوَّنَةً، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِهَا مُنَوَّنَةً، فِي النِّهَايَةِ: هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الْفَرَحِ وَالرِّضَاءِ بِالشَّيْءِ وَتُكَرَّرُ لِلْمُبَالَغَةِ،

وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ فَإِنْ وُصِلَتْ خُفِضَتْ وَنُوِّنَتْ وَرُبَّمَا شُدِّدَتْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ، وَإِذَا كُرِّرَتْ فَالِاخْتِيَارُ تَحْرِيكُ الْأَوَّلِ وَإِسْكَانُ الثَّانِي. يَعْنِي إِمَّا رُجُوعًا إِلَى الْأَصْلِ أَوْ مَرْعَاةً لِلْوَقْفِ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: مَعْنَاهُ تَفْخِيمُ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمُهُ، وَسُكِّنَتِ الْخَاءُ كَسُكُونِ اللَّامِ فِي بَلْ وَهَلْ، مَنْ قَالَ «بَخٍّ» بِكَسْرِهِ مُنَوَّنًا فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْأَصْوَاتِ كَصَهٍ وَمَهٍ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: بَخْ بَخْ وَبِهْ وَبِهْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ بَخْ بِإِسْكَانِ الْخَاءِ وَبِتَنْوِينِهَا مَكْسُورَةً، وَحَكَى الْقَاضِي الْكَسْرَ بِلَا تَنْوِينٍ، وَحَكَى: الْأَحْمَرُ التَّشْدِيدَ فِيهِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِيهَا لُغَاتٌ: إِسْكَانُ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا تَنْوِينًا وَبِغَيْرِ تَنْوِينِ الْأُولَى وَتَسْكِينِ الثَّانِيَةِ، وَمَعْنَاهَا تَفْخِيمُ الْأَمْرِ وَالْإِعْجَابُ بِهِ وَالْمَدْحُ لَهُ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هُنَا التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِغْرَابُ لِقَوْلِهِ: (يَتَمَخَّطُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الْكَتَّانِ) : قَالَ الْعِصَامُ: اسْتِئْنَافٌ أُجِيبَ بِهِ عَنْهُ السُّؤَالُ عَنْ جِهَةِ التَّعَجُّبِ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةٌ فِي الْكَلَامِ، وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بَخٍ لِلْإِنْكَارِ، وَفِي صِحَّتِهِ هُنَا نَظَرٌ، انْتَهَى. إِذْ صِحَّةُ الْإِنْكَارِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ التَّعَجُّبِ بِقَوْلِهِ: (لَقَدْ) : وَاللَّامُ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ أَيْ وَاللَّهِ لَقَدْ (رَأَيْتُنِي) : وَإِنَّمَا اتَّصَلَ الضَّمِيرَانِ وَهُمَا لِوَاحِدٍ حَمْلًا لِرَأَى الْبَصْرِيَّةِ عَلَى الْقَلْبِيَّةِ فَإِنَّ كَوْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ضَمِيرَيْنِ وَمُتَّصِلَيْنِ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، أَيْ عَلِمْتُنِي لَا رَأَيْتُ نَفْسِيِّ، وَبِتَقْرِيرِنَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْقَسَمِيَّةَ بَيَانِيَّةٌ وَاسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْعِصَامِ أَنَّ اللَّامَ لِلْقَسَمِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ بِتَقْدِيرِ الْقِصَّةِ لِيَتَّحِدَ زَمَانُ الْحَالِ وَعَامِلُهُ. (وَإِنِّي) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ رَأَيْتُ. (لَأَخِرُّ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُرُورِ أَيْ أَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ السَّاجِدِ. (فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : إِشَارَةً إِلَى مَوْضِعِ الْأَحْبَابِ الْأَصْحَابِ مِنْ غَيْرِ خَفَاءٍ وَاحْتِجَاجٍ. (مَغْشِيًّا عَلِيَّ) : أَيْ مِنْ غَلَبَةِ الْجُوعِ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ «أَخِرُّ» أَيْ مُسْتَوْلِيًا عَلَيَّ الْغِشِّيُ. (فَيَجِيءُ الْجَائِي) : أَيِ الْوَاحِدُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. (فَيَضَعُ رِجْلَهُ) : أَيْ قَدَمَهُ. (عَلَى عُنُقِي) : لِيَسْكُنَ اضْطِرَابِي وَقَلَقِي، أَخْبَرَ عَنِ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، أَعْنِي: أَخِرُّ وَيَجِيءُ وَيَضَعُ ; اسْتِحْضَارًا لِلصُّوَرِ الْوَاقِعَةِ. (يُرَى) : بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ الْمَجْهُولِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٍ أَيْ يَظُنُّ الْجَائِي. (أَنَّ بِي جُنُونًا) : أَيْ نَوْعًا مِنَ الْجُنُونِ وَهُوَ الصَّرَعُ. (وَمَا بِي جُنُونٌ) : أَيْ وَالْحَالُ أَنْ لَيْسَ بِي مَرَضُ الْجُنُونِ. (وَمَا هُوَ) : أَيْ مَا هُوَ بِي وَيَعْنِي مَا الَّذِي بِي. (إِلَّا الْجُوعُ) : أَيْ أَثَرُهُ وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَيَّ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَيُغْشَى عَلَيَّ فِيمَا بَيْنَ بَيْتِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ مِنَ الْجُوعِ. وَلَا مُنَافَاةَ لِوُقُوعِ التَّعَدُّدِ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ عَنْهُ: فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمًا فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً، فَذَكَرَهَا، قَالَ: فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي. وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقٍ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْبِعَ بَطْنِي، وَكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصَى مِنَ الْجُوعِ، وَإِنِّي كُنْتُ أَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ وَهِيَ مَعِي كَيْ يَفْطَنَ بِي وَيُطْعِمَنِي. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَكُنْتُ إِذَا سَأَلْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يُجِبْنِي حَتَّى يَذْهَبَ بِي إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: يَا أَسْمَاءُ أَطْعِمِينَا، فَإِذَا أَطْعَمَتْنَا أَجَابَنِي. قَالَ: وَكَانَ جَعْفَرُ يُحِبُّ الْمَسَاكِينَ وَيَجْلِسُ إِلَيْهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ وَيُحَدِّثُونَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَنِّيهِ بِأَبِي الْمَسَاكِينِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ قَالَ: أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَمْ أَطْعَمْ فَجِئْتُ أُرِيدُ الصُّفَّةَ، فَجَعَلْتُ أَسْقُطُ فَجَعَلَ الصِّبْيَانُ يَقُولُونَ جُنَّ أَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الصُّفَّةِ فَوَافَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِقَصْعَةِ ثَرِيدٍ فَدَعَا عَلَيْهَا أَهْلَ الصُّفَّةِ وَهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَجَعَلْتُ أَتَطَاوَلُ كَيْ يَدْعُوَنِي حَتَّى قَامُوا وَلَيْسَ فِي الْقَصْعَةِ إِلَّا شَيْءٌ فِي نَوَاحِيهَا، فَجَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَتْ لُقْمَةً فَوَضَعَهَا عَلَى أَصَابِعِهِ فَقَالَ لِي: «كُلْ بَاسِمِ اللَّهِ» ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا زِلْتُ آكُلُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعْتُ. وَوَجْهُ إِيرَادِ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ فَقْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(باب ما جاء في خف رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وَتَحَقُّقُ عُسْرَتِهِ فِي أَيَّامِ عِشْرَتِهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ فِي أُمُورِ مَعِيشَتِهِ لَمْ تَكُنْ أَحْوَالُ أَهْلِ الصُّفَّةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَضْيَافَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِيرَانَهُ وَكَانَ اهْتِمَامُهُ بِحَالِهِمْ فِي أَقْصَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْأَحْوَالِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي ضُبَيْعَةَ كَجُهَيْنَةَ، كَذَا فِي الْأَنْسَابِ لِلسَّمْعَانِيِّ، فَمَا فِي الشَّرْحِ أَنَّهُ نِسْبَةٌ إِلَى قَبِيلَةِ ضَبْعٍ كَأَنَّهُ سَهْوٌ، وَجَعْفَرٌ صَدُوقٌ زَاهِدٌ، لَكِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى التَّشْيِيعِ. (عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ) : هُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، مِنْ عُلَمَاءِ الْبَصْرَةِ وَزُهَّادِهِمْ، فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ، قَالَ مِيرَكُ: بَلْ مُعْضَلٌ ; لِأَنَّ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا لَكِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ; وَهُوَ تَابِعِيٌّ أَيْضًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: لَمْ يَشْبَعْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ إِلَخْ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَأَصْحَابُ الْغَرِيبِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْعَيْشِ الطَّوِيلِ. (قَالَ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزٍ) : التَّنْوِينُ لِلتَّنْكِيرِ فَهُوَ شَامِلٌ لِعَيْشِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ. (قَطُّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ مِيرَكُ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُهَا مُخَفَّفَةً وَيَبْنِيهَا عَلَى أَصْلِهَا، أَوْ يَضُمُّ آخِرَهَا، أَوْ يُتْبِعُ الضَّمَّةَ الضَّمَّةَ أَيْ أَبَدًا. (وَلَحْمٍ) : أَيْ وَمِنْ لَحْمٍ، كَذَلِكَ قَالَ مِيرَكُ: الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَفِيهِ بَحْثٌ، وَفِي نُسْخَةٍ «وَلَا لَحْمٍ» بِزِيَادَةِ لَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. (إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ) : بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْأُولَى. قِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَقِيلَ مُتَّصِلٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُفَرَّغٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الدَّهْرِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ «قَطُّ» ، انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ، وَكَذَا مَا شَبِعَ مِنْ لَحْمٍ أَصْلًا إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ، فَفِي الْكَلَامِ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيَانِ وَاسْتِثْنَاءَانِ، وَقَدْ يُقَالُ: مَعْنَاهُ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ قَطُّ إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ، لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ تَقْدِيمُ «قَطُّ» عَلَى قَوْلِهِ «وَلَا لَحْمٍ» ، وَسَيَجِيءُ فِي الْبَابِ الطَّوِيلِ فِي عَيْشِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَمِعْ عِنْدَهُ غَذَاءٌ وَلَا عَشَاءٌ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ. وَهُوَ يُلَائِمُ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ وَلَا يُنَافِي الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، فَتَأَمَّلْ. (قَالَ مَالِكٌ) : أَيِ ابْنُ دِينَارٍ. (سَأَلْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ) : لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِاللُّغَاتِ الْغَرِيبَةِ. (مَا الضَّفَفُ؟ فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ «قَالَ» . (أَنْ يُتَنَاوَلَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِ، أَيْ يُسْتَعْمَلُ الْأَكْلُ. (مَعَ النَّاسِ) : فَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ إِذَا أَكَلَ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ شِبَعَ مِنْهُمَا إِذَا كَانَ يَأْكُلُ مَعَ النَّاسِ، وَهَذَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ مَعَ الْأَضْيَافِ أَوْ فِي الضِّيَافَاتِ وَالْوَلَائِمِ وَالْعَقَائِقِ، وَالْمُرَادُ بِالشِّبَعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلُهُ مِلْءَ ثُلْثَيْ بَطْنِهِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْكُلْ مِلْءَ الْبَطْنِ قَطُّ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الضَّفَفُ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، أَيْ لَمْ يَشْبَعْ مِنْهُمَا عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا عَلَى حَالِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الشِّبَعُ مِنْهُمَا عَلَى حَالِ التَّنَعُّمِ وَالرَّفَاهِيَةِ. وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ طَعَامٍ إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ، وَرَوِيَ حَفَفٍ شَظَفٍ، الثَّلَاثَةُ فِي مَعْنَى ضِيقِ الْمَعِيشَةِ وَقِلَّتِهَا وَغِلْظَتِهَا، يُقَالُ: أَصَابَهَا حَفَفٌ وَحُفُوفٌ وَحَفَّتِ الْأَرْضُ إِذَا يَبِسَ نَبَاتُهَا، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ: أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَيْشِ ضَفَفٌ أَيْ شِدَّةٌ، وَفِي رَأْيِ فُلَانٍ ضَفَفٌ أَيْ ضَعْفٌ، وَمَا رُئِيَ عَلَى بَنِي فُلَانٍ حَفَفٌ وَلَا ضَفَفٌ أَيْ أَثَرُ عَوَزٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَشْبَعْ إِلَّا وَالْحَالُ خِلَافُ الْخِصْبِ وَالرَّخَاءُ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اجْتِمَاعُ الْأَيْدِي وَكَثْرَةُ الْآكِلِينَ، أَيْ لَمْ يَأْكُلْ وَحْدَهُ وَلَكِنْ مَعَ النَّاسِ، وَقَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: الضَّفَفُ كَثْرَةُ الْعِيَالِ، وَقَوْلُهُمْ لَا ضَفَفَ يَشْغَلُهُ وَلَا ثِقَلَ أَيْ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ حَجِّهِ وَنُسُكِهِ عِيَالٌ وَلَا مَتَاعٌ، كَذَا وَجَدْتُّهُ بِخَطِّ مِيرَكَ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِعَيْنِهِ فِي شَرْحِهِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي خُفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

(حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَمَّ دَلْهَمَ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ لَامٍ وَفَتْحِ هَاءٍ. (بْنِ صَالِحٍ) : أَيِ الْعَبْدِيِّ الْكُوفِيِّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ. (عَنْ حُجَيْرٍ) : بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ يَاءٍ فِي آخِرِهِ رَاءٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ ابْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ الصَّوَابُ وَالْأَوَّلُ غَلَطٌ فَاحِشٌ عَنْ نُسَخِ الْكِتَابِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ. قُلْتُ: قَدْ يُوَجِّهُ بِأَنَّهُ كُنْيَتُهُ. (عَنْ أَبِيهِ) : وَهُوَ بِرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ. (أَنَّ النَّجَاشِيَّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَتُكْسَرُ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتُشَدَّدُ، وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْجِيمِ فَخَطَأٌ. وَهُوَ لَقَبُ مُلُوكِ الْحَبَشَةِ كَالتُّبَّعِ لِلْيَمَنِ، وَكِسْرَى لِلْفُرْسِ، وَقَيْصَرَ لِلرُّومِ وَالشَّامِ، وَهِرَقْلَ لِلشَّأْمِ فَحَسْبُ، وَفِرْعَوْنُ لِمِصْرَ. وَهَذِهِ أَلْقَابٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَاسْمُ هَذَا النَّجَاشِيِّ أَصْحَمَةُ، بِالصَّادِّ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالسِّينُ تَصْحِيفُ ابْنِ حَجَرٍ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَكُتُبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ فَأَخْبَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ، وَصَلَّى مَعَهُمْ عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، قَالَ مِيرَكُ: أَفَادَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ النَّجَاشِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ يَعْنِي أَنَّهَا أَصْلِيَّةٌ لَا يَاءُ النِّسْبَةِ. وَحَكَى غَيْرُهُ تَشْدِيدَ الْيَاءِ أَيْضًا، وَحَكَى ابْنُ دِحْيَةَ كَسْرَ نُونِهِ أَيْضًا كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ كَسْرُ النُّونِ أَفْصَحُ غَيْرُ صَحِيحٍ. (أَهْدَى) : أَيْ أَرْسَلَ بِطَرِيقِ الْهَدِيَّةِ. (لِلنَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ «إِلَى النَّبِيِّ» . (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَاسْتِعْمَالُ أَهْدَى بِإِلَى وَاللَّامِ شَائِعٌ سَائِغٌ، فَفِي الصِّحَاحِ: الْهَدِيَّةُ وَاحِدَةُ الْهَدَايَا، يُقَالُ أَهْدَيْتُ لَهُ وَإِلَيْهِ بِمَعْنًى. (خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ) : بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، مُعَرَّبُ سَادَةٍ، بِالْمُهْمَلَةِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، أَيْ غَيْرِ مَنْقُوشَيْنِ إِمَّا بِالْخِيَاطَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا، أَوْ شِيةَ فِيهِمَا تُخَالِفُ لَوْنَهُمَا، أَوْ مُجَرَّدَيْنِ عَنِ الشَّعْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ. (فَلَبِسَهُمَا) : أَيْ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ أَيْ بِلَا تَرَاخٍ، فَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ. (ثُمَّ تَوَضَّأَ) : أَيْ بَعْدَ مَا أَحْدَثَ. (وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا) : قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ طَرِيقِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ دَلْهَمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ النَّجَاشِيَّ كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُكَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِكَ وَهِيَ عَلَى دِينِكَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَهْدَيْتُكَ هَدِيَّةً جَامِعَةً قَمِيصًا وَسَرَاوِيلَ وَعِطَافًا وَخُفَّيْنِ سَاذَجَيْنِ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ رَاوِيهِ عَنِ الْهَيْثَمِ، قُلْتُ لِلْهَيْثَمِ: مَا الْعِطَافُ؟ قَالَ الطَّيْلَسَانُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ زَكِرِيَاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَيَّاشٍ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ فِي آخِرِهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. (قَالَ) : أَيِ الشَّعْبِيُّ. (قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَهْدَى دِحْيَةَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ مَاكُولَا:

بِالْفَتْحِ، ذَكَرَهُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ ذُو جَمَالٍ حَتَّى كَانَ يَأْتِي جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَتِهِ كَثِيرًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (لِلنَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ «إِلَى النَّبِيِّ» . (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُفَّيْنِ فَلَبِسَهُمَا، وَقَالَ إِسْرَائِيلُ) : هُوَ مِنْ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَهُوَ مُعَلَّقٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ شَيْخِهِ قُتَيْبَةَ فَلَا يَكُونُ مُعَلِّقًا، وَقَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِيَحْيَى فَيَكُونُ عَطْفًا بِحَسَبِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَيَّاشٍ، انْتَهَى. (عَنْ جَابِرٍ) : أَيِ الْجُعْفِيِّ. (عَنْ عَامِرٍ) : هُوَ الشَّعْبِيُّ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ. (وَجُبَّةً) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى خُفَّيْنِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَحْيَى رَوَى قِصَّةَ إِهْدَاءِ الْخُفَّيْنِ فَقَطْ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَرَوَى قِصَّةَ إِهْدَاءِ الْخُفَّيْنِ مَعَ الْجُبَّةِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ مُرَادًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِظُهُورِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ «وَجُبَّةً» بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، تَأَمَّلْ، وَلَمْ أَرَ مَنْ خَرَّجَ الْحَدِيثَ غَيْرَ الْمُؤَلِّفِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِهِ بِهَذَا السِّيَاقِ بِلَا تَفَاوُتٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ تَأَمُّلٍ ; لِأَنَّ جَابِرًا شَيْخَ إِسْرَائِيلَ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النُّقَّادِ كَمَا تَقَدَّمَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ مُخَرَّجًا فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ الْأَصْبِهَانِيِّ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ هَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عَارِمٍ عَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةً مِنَ الشَّامِ وَخُفَّيْنِ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ تَقْوِيَةُ احْتِمَالِ التَّعْلِيقِ وَالْإِرْسَالِ. (فَلَبِسَهُمَا) : أَيِ الْخُفَّيْنِ وَالْجُبَّةَ. (حَتَّى تَخَرَّقَا) : أَيْ تَقَطَّعَا، وَثَنَّى الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْخُفَّيْنِ مَلْبُوسٌ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ فَلَبِسَ الْمَلْبُوسَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَيُرَادُ حِينَئِذٍ بِالْجُبَّةِ نَوْعٌ نَفِيسٌ مِنَ الْفَرْوِ كَمَا يَسْتَعْمِلُهُ بَعْضُ الْعَجَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْخُفَّيْنِ فَقَطْ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ: (لَا يَدْرِي) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ لَا يَعْلَمُ. (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذُكِّيَ) : أَيْ أَمَذْبُوحٌ أَيْ تَذْكِيَةً شَرْعِيَّةً. (هُمَا) : أَيِ الْخُفَّيْنِ، يَعْنِي أَصْلَهُمَا، وَهُوَ فَاعِلُ «ذُكِّيَ» سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ مِثْلَ أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ. (أَمْ لَا) : وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الشَّيْخِ: فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَذَكِيَّانِ هُمَا أَمْ مَيْتَةٌ حَتَّى تَخَرَّقَا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْخُفَّيْنِ كَانَتَا مُتَّخَذَتَيْنِ مَنِ جِلْدِ الْمُذَكَّاةِ أَمْ مِنْ جِلْدِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغِ أَوْ غَيْرِ الْمَدْبُوغِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَجْهُولَةِ الطَّهَارَةُ، ثُمَّ نَفَى الصَّحَابِيُّ دِرَايَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا لِتَصْرِيحِهِ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ قَرِينَةِ عَدَمِ سُؤَالِهِ وَتَفَحُّصِهِ. (قَالَ أَبُو عِيسَى) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ. (وَأَبُو إِسْحَاقَ هَذَا) : أَيِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ. (هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ) : أَيْ دُونَ السَّبِيعِيِّ كَمَا يُوهِمُهُ كَوْنُ إِسْرَائِيلَ الرَّاوِي مِنْ وَلَدِهِ. (وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ) : أَيِ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَاسْمُهُ فَيْرُوزُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَيُقَالُ خَاقَانُ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ الْمَشْيَ فَذَهَبَ يَوْمًا فَقَعَدَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَنَزَعَ خُفَّيْهِ، قَالَ: وَلَبِسَ أَحَدُهُمَا فَجَاءَ طَائِرٌ فَأَخَذَ الْخُفَّ الْآخَرَ فَحَلَّقَ بِهِ فِي السَّمَاءِ فَانْسَلَتَ مِنْهُ أَسْوَدُ سَالِخٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا» ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُعَوِّذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْ شَرِّ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْ شَرِّ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ» .

(باب ما جاء في نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(بَابُ مَا جَاءَ فِي نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النَّعْلُ قَدْ يَجِيءُ مَصْدَرًا وَقَدْ يَجِيءُ اسْمًا وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ هُنَا وَالثَّانِي هُوَ الْأَظْهَرُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْآنَ التَّاسُومَةُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يَقِي الْقَدَمَ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، انْتَهَى. وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الْمُحْكَمِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالنَّعْلُ لِبَاسُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَ النَّاسُ غَيْرَهُ لِمَا فِي أَرْضِهِمْ مِنَ الطِّينِ، انْتَهَى: وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ لُبْسِ نَعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ رَفَعَهُ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ» . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبَ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادَةِ وَالسِّوَاكِ وَالطَّهُورِ، وَكَانَ يُلْبِسُهُ نَعْلَيْهِ إِذَا قَامَ، وَإِذَا جَلَسَ جَعَلَهُمَا فِي ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يَقُومَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ) : أَيِ الطَّيَالِسِيُّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدِ مِيمٍ. . . (عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: كَيْفَ كَانَ نَعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) : أَيْ أَلَهُ قِبَالَانِ أَمْ لَا؟ وَلَمْ يَقِلْ «كَانَتْ» ; لِأَنَّ تَأْنِيثَهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلَمَّا كَانَ النَّعْلُ مُؤَخَّرًا جَازَ تَذْكِيرُ «كَانَ» كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ كَانَ الْقِيَاسُ «كَانَتْ» لِأَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ شَاعَ تَذْكِيرُهَا بِاعْتِبَارِ الْمَلْبُوسِ خَلَطَ بَيْنَ تَأْوِيلَيْنِ، وَالثَّانِي إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ النَّعْلُ مُقَدَّمًا كَمَا لَا يَخْفَى. (قَالَ) : كَانَ. (لَهُمَا) : أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. (قِبَالَانِ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ أَنَسٌ: إِنَّ نَعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهَا قِبَالَانِ. بِالْإِفْرَادِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ زِمَامُ النَّعْلِ، وَهُوَ سَيْرُهَا أَيْ دَوَالُهَا الَّذِي بَيْنَ الْإِصْبَعَيْنِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا، وَشِرَاكُ النَّعْلِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْقِبَالُ هُوَ الزِّمَامُ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ إِصْبَعَيِ الرِّجْلِ. وَفِي الْمُهَذَّبِ: الشِّسْعُ دَوَالُ النَّعْلَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ أَنَّهُ كَانَ لِنَعْلِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْرَانِ يَضَعُ أَحَدُهُمَا بَيْنَ إِبْهَامِ رِجْلِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَيَضَعُ الْآخَرَ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا وَيَجْمَعُ السَّيْرَيْنِ إِلَى السَّيْرِ الَّذِي عَلَى وَجْهِ قَدَمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الشِّرَاكُ. (يُحَدِّثُنَا أَبُو كُرَيْبٍ) : بِالتَّصْغِيرِ. (مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ) : أَيِ الثَّوْرِيِّ لَا ابْنِ عُيَيْنَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ مِنَ الشُّرَّاحِ. (عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ مَنْ يُقَدِّرُ النَّعْلَ وَيَقْطَعُهَا، قِيلَ: لَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ حَذَّاءٌ بَلْ لِجُلُوسِهِ فِي سُوقِ الْحَذَّائِينَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ، وَقَدْ عِيبَ بِدُخُولِهِ فِي عَمَلِ السُّلْطَانِ. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ) : أَيِ ابْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِمِيِّ التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ لَهُ رِوَايَةٌ، وَلِأَبِيهِ وَجَدِّهِ صُحْبَةٌ، أَجْمَعُوا عَلَى تَوْثِيقِهِ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَالَانِ

مُثَنَّى) : بِضَمِّ مِيمٍ وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنَ التَّثْنِيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحِ مِيمٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ وَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الثَّنْيِ صِفَةُ قِبَالَانِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ ضَبَطَ النُّسْخَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ مَثْنَى كَمَرْمَى، وَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّ هَذَا مِنَ الثَّنْيِ وَهُوَ رَدُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ ; وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ هُنَا ; انْتَهَى. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ مُرَادَ الْقَائِلِ كَمَرْمَى هُوَ بِعَيْنِهِ ضَبْطُ النُّسْخَةِ الثَّانِيَةِ وَمَآلُهُمَا وَمُؤَدَّاهُمَا وَمَادَّتُهُمَا وَاحِدٌ فَقَدْ قَالَ الْعِصَامُ: التَّثْنِيَةُ جَعْلُ الشَّيْءِ اثْنَيْنِ، وَرُبَّمَا يُقَيَّدُ مَثْنَى بِمَا يَجْعَلُهُ كَمَرْمَى اسْمَ مَفْعُولٍ، وَحِينَئِذٍ هُوَ مِنَ الثَّنْيِ وَهُوَ رَدُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرِ الْمَعْنَى فَمَنْ قَالَ الْمُثَنَّى وَالْمَثْنَى مُتَقَارِبَانِ لَمْ يَتَأَمَّلِ، انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْئَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَفِي الثَّنْيِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ رَدُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهَذَا وَجْهُ التَّقَارُبِ فَإِنَّ الْخَاصَّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْعَامِّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ فِي التَّثْنِيَةِ لَا بُدَّ مِنَ انْفِصَالِهِمَا بِخِلَافِهِمَا فِي الثَّنْيِ فَإِنَّهُ يُلَاحَظُ اتِّصَالُهُمَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ لِقَوْلِهِ: ثَنَى الشَّيْءَ كَسَعَى رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَتَثَنَّى، حِينَئِذٍ يَحْصُلُ التَّبَايُنُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُمَا مَعًا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ. (شِرَاكُهُمَا) : بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى وَجْهِهَا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ) : أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) : بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ. (أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ) : الْجَرْدَاءُ بِالْجِيمِ مُؤَنَّثُ الْأَجْرَدِ أَيِ الَّتِي لَا شَعْرَ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ خَلَقَيْنِ وَوَافَقَهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى، وَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ الْأَجْرَدُ الشَّعْرُ الصِّغَارُ. (لَهَا قِبَالَانِ قَالَ) : أَيِ ابْنُ طَهْمَانَ. (فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ) : أَيِ الْبُنَانِيُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ. (بَعْدُ) : مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ، أَيْ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ إِخْرَاجِ أَنَسٍ النَّعْلَيْنِ إِلَيْنَا. (عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا) : أَيِ النَّعْلَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. (كَانَتَا نَعْلَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَكَانَ ابْنُ طَهْمَانَ رَأَى النَّعْلَيْنِ عِنْدَ أَنَسٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ نِسْبَتَهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْنٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ «أَنْبَأَنَا» . (مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) : اسْمُهُ كَيْسَانُ بْنُ سَعِيدٍ. (الْمَقْبُرِيُّ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ، وَيُفْتَحُ نِسْبَةً إِلَى مَقْبَرَةٍ بِالْكُوفَةِ، كَانَ يَنْزِلُ بِهَا وَقِيلَ نُسِبَ إِلَيْهَا

لِزُهْدِهِ وَكَثْرَةِ زِيَارَةِ الْمَقَابِرِ، وَقِيلَ: كَانَ يَحْفَظُ مَقْبَرَةَ ابْنِ دِينَارٍ، رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ وَهُوَ تَابِعِيٌّ ; لِأَنَّهُ يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا، وَبِالْجِيمَيْنِ وَالرَّاءِ فِي أَخِيرِهِمَا، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ (أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ رَأَيْتُكَ) أَيْ أَبْصَرْتُكَ حَالَ كَوْنِكَ (تَلْبَسُ النِّعَالَ) أَيْ تَخْتَارُ لُبْسَهَا (السِّبْتِيَّةِ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السِّبْتِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ الْمَدْبُوغَةُ وَنَقَلَهُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا هِيَ الَّتِي حُلِقَتْ عَنْهَا شَعْرُهَا وَأُزِيلَتْ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لَفْظِ السَّبْتِ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْقَطْعَ، فَالْحَلْقُ بِمَعْنَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ لِمَا سَيَأْتِي، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَإِنَّمَا اعْتُرِضَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا نِعَالُ أَهْلِ النِّعْمَةِ وَالسَّعَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يَلْبِسْهَا الصَّحَابَةُ، كَمَا أَفَادَهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ السَّائِلَ قَالَ لَهُ: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، لَمْ يَفْعَلْ أَصْحَابُنَا، وَعَدَّ هَذِهِ مِنْهَا. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ مِنْهُ أَنْ يَعْرِفَ مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهِ إِيَّاهَا وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَتَقَيَّدُونَ بِنَوْعٍ مِنَ اللُّبْسِ أَوِ الْأَكْلِ إِلَّا مَا فِيهِ الْمُتَابَعَةُ وَالِاقْتِدَاءُ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَابِسَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ يُفِيدُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ حِينَ التَّخَاطُبِ لَابِسَ النَّعْلِ السِّبْتِيَّةِ، فَقَالَ مَا فِي الْجَوَابِ عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّلِ، وَكَذَا بَطَلَ مَا تَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَيُرَدُّ بِأَنَّ التَّرْكَ حِينَ السُّؤَالِ لَا يَسْتَدْعِي التَّرْكَ الْمُطْلَقَ وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَيُحْمَلُ تَرْكُهَا لِعُذْرٍ، كَعَدَمِ وِجْدَانِهَا وَإِلَّا فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُبَاحِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ فِي جَوَابِهِ (قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي) وَفِي نُسْخَةٍ يَعْنِي الَّتِي (لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا) أَيْ فَوْقَهَا أَوْ هُوَ لَابِسُهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَالَ بَلَلِ الرِّجْلِ لَمْ يَكُنْ يَحْتَرِزُ عَنْهَا، اعْتِمَادًا عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهَا، أَوْ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِدِبَاغَتِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الشَّعْرَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الدِّبَاغُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِذَلِكَ (فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبِسَهَا) أَيْ لِمُتَابَعَةِ الْهَدْيِ، لَا لِمُوَافَقَةِ الْهَوَى، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِهَا فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكْرَهُ لُبْسُهَا فِي الْمَقَابِرِ لِحَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي الْمَقَابِرِ وَعَلَيَّ نَعْلَانِ إِذَا رَجُلٌ يُنَادِي مِنْ خَلْفِي، يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، إِذَا كُنْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَاحْتَجَّ عَلَى مَا ذُكِرَ وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخَلْعِهِمَا لِأَذًى كَانَ فِيهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ النِّعَالِ فِي الْمَقَابِرِ، قَالَ: وَثَبَتَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَازَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِالنَّعْلِ، فَالْمَقْبَرَةُ أَوْلَى، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ إِكْرَامَ الْمَيِّتِ كَمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ السِّبْتِيَّتَيْنِ لِلتَّخْصِيصِ بَلِ اتَّفَقَ ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَشْيِ عَلَى الْقُبُورِ بِالنِّعَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ) مَرَّ ذِكْرُهُمْ (عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ) بِهَمْزٍ وَيُبْدَلُ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَاسْمُ وَالِدِهِ مُحَمَّدٌ وَاسْمُ

جَدِّهِ الْمُغِيرَةُ قَالَ مِيرَكُ: كَانَ كَبِيرَ الشَّأْنِ (عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ) بِفَتْحِ فَوْقِيَّةٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَفَتْحِ هَمْزَةٍ، وَهِيَ امْرَأَةٌ لَهَا صُحْبَةٌ وَسُمِّيَتْ تَوْأَمَةً ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعَ أُخْتٍ فِي بَطْنٍ وَهِيَ أُخْتُ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، وَصَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ ابْنُ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ ثَبْتًا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَالَانِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ) تَقَدَّمَ (قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ لِأَنَّهُ الرَّاوِي عَنِ السُّدِّيِّ لَا ابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا فِي الشَّرْحِ (عَنِ السُّدِّيِّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ صَدُوقٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَفِي الصِّحَاحِ السُّدَّةُ بَابُ الدَّارِ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْ يَغْشَ سُدَدَ السُّلْطَانِ، يَقُمْ وَيَقْعُدْ وَسُمِّيَ إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْمَقَانِعَ الْحُمُرَ فِي سُدَّةِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَهِيَ مَا يَبْقَى مِنَ الطَّاقِ الْمَسْدُودِ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ مِيرَكُ: مَنْسُوبٌ إِلَى السُّدَّةِ، وَهِيَ صِفَةٌ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي الْكُوفَةِ كَانَ السُّدِّيُّ يَسْكُنُهَا وَهُوَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ الْمُفَسِّرُ الْمَشْهُورُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ، وَأَمَّا السُّدِّيُّ الصَّغِيرُ فَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ حَفِيدُهُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَذِبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا انْتَهَى، وَهُوَ ابْنُ ابْنَةِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ، أَوِ ابْنُ أُخْتِهِ رُمِيَ بِالرَّفْضِ (قَالَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ) بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ قُرَشِيٌّ مَخْزُومِيٌّ، صَحَابِيٌّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرَةٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ وَخَلِيفَةُ وَأَصْبَغُ وَهَارُونُ مَوَالِيهِ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ سُوَيْعٍ وَسُرَاقَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحَ بِاسْمِ مَنْ حَدَّثَ السُّدِّيَّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَظُنُّهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، فَإِنَّهُ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَالسُّدِّيُّ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ ; فَلِذَا أَبْهَمَهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهِ ; لِئَلَّا يُفْطَنَ لَهُ لَكِنْ لِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَتَيْنِ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَمَّنْ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ (يَقُولُ) أَيْ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَتَيْنِ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ جَنَازَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْخَصْفُ الْخَرَزُ، وَنَعْلٌ مَخْصُوفَةٌ

أَيْ ذَاتُ الطِّرَاقِ، وَكُلُّ طِرَاقٍ مِنْهَا خَصْفَةٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْصِفُ نَعْلَيْهِ بِنَفْسِهِ ; لِمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُرَقِّعُ دَلْوَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَفِي شَرْحِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُرَقَّعَةُ (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنَا مَعْنٌ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) تَقَدَّمَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَبُو دَاوُدَ الْمُزَنِيُّ اشْتُهِرَ بِهَذَا اللَّقَبِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُمْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا يَمْشِي، وَهَذَا نَفْيٌ صُورَةً وَنَهْيٌ مَعْنًى، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ نُسْخَةُ لَا يَمْشِي، تَسْتَدْعِي حَمْلَ لَا يَمْشِيَنَّ عَلَى الْخَبَرِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ النَّهْيِ، دُونَ النَّهْيِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، لِنُسْخَةِ لَا يَمْشِي بِالنَّهْيِ، ثُمَّ مَحَلُّ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا فَعَلَهُ، انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُهُ عَلَى مَا قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ (فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ) وَرُوِيَ وَاحِدَةٌ بِالتَّأْنِيثِ، كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَالنَّعْلُ مُؤَنَّثٌ وَوَصْفُهَا بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ ; لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، انْتَهَى، وَالصَّوَابُ أَنَّ تَذْكِيرَهُ بِتَأْوِيلِ الْمَلْبُوسِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَشْيُ يَشُقُّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، مَعَ سَمَاجَتِهِ فِي الشَّكْلِ، وَقُبْحِ مَنْظَرِهِ فِي الْعُيُونِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَ جَوَارِحِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ فَاعِلُ ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَالِ الرَّأْيِ وَضَعْفِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهَا مِشْيَةُ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الِاعْتِدَالِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ الْكَرَاهَةُ لِلشُّهْرَةِ فَيَمْتَدُّ الْإِبْصَارُ لِمَنْ يُرَى ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الشُّهْرَةِ فِي اللِّبَاسِ وَكُلِّ شَيْءٍ صَيَّرَ صَاحِبَهُ مَشْهُورًا، فَحَقُّهُ أَنْ يُجْتَنَبَ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ: قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ، وَلَا فِي خُفٍّ وَاحِدٍ (لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا وَسُكُونِ اللَّامِ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ مَكْسُورٌ لِلْأَمْرِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ضَبْطُ النَّوَوِيِّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَنْعَلَ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ، بِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: نَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَانْتَعَلَ أَيْ لَبِسَ النَّعْلَ، لَكِنْ قَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَيْضًا أَنْعَلَ رِجْلَهُ أَلْبَسَهَا نَعْلًا، وَأَنْعَلَ دَابَّتَهُ جَعَلَ لَهَا نَعْلًا، وَالْحَاصِلُ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلْقَدَمَيْنِ تَعَيَّنَ الضَّمُّ، وَإِنْ كَانَ لِلنَّعْلَيْنِ تَعَيَّنَ الْفَتْحُ انْتَهَى، وَأَقُولُ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلْقَدَمَيْنِ جَازَ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ لِمَا فِي الْقَامُوسِ، نَعِلَ كَفَرِحَ وَتَنَعَّلَ وَانْتَعَلَ لَبِسَهَا، وَنَعَلَهُمْ كَمَنَعَ وَهَبَ لَهُمُ النِّعَالَ، وَالدَّابَّةَ أَلْبَسَهَا النَّعْلَ، كَأَنْعَلَهَا وَنَعَّلَهَا، وَقَدْ نَقَلَ الْعِصَامُ عَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ: أَنَّهُ مَعَ جَعْلِ الضَّمِيرِ لِلْقَدَمَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا أَوْ مَزِيدًا، وَإِنْ كَانَ لِلنَّعْلَيْنِ فَهُوَ مُجَرَّدٌ، فَانْدَفَعَ مَا ذَكَرَ الشَّارِحُ أَنَّهُ إِنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْقَدَمَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْمُجَرَّدَ ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلُبْسِ الْقَدَمَيْنِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا قَالَ بَعْضُهُمْ لَكِنَّ قَوْلَهُ (أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا) يُؤَيِّدُ ضَبْطَ النَّوَوِيِّ فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِلْقَدَمَيْنِ، فَالْمُنَاسِبُ أَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ

لِيَنْعَلْهُمَا لِلْقَدَمَيْنِ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «لِيَخْلَعْهُمَا» عَلَى مَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ وَرِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ. وَالْمُوَطَّأُ يُؤَيِّدُ الْفَتْحَ، نَعَمْ، الْأَظْهَرُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّعْلَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمَتْنِ الْمُطَابِقَةِ لِمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْقَدَمَيْنِ، وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْعِصَامِ، وَرِوَايَةُ: فَلْيَخْلَعْهُمَا لَا تُعَيِّنُ الضَّمِيرَ لِلنَّعْلَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ فِيهِ حَذْفًا، أَيْ لِيَخْلَعَ نَعْلَيْهِمَا فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلُهُ: لِيَنْعَلْهُمَا أَرَادَ الْقَدَمَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ تَعَالَى: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ وَقَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ثُمَّ كَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَقَوْلُهُ: (جَمِيعًا) مُؤَكِّدٌ لِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى مَعًا، وَقَوْلُهُ: لِيُحْفِهِمَا ضُبِطَ فِي أَصْلِنَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، مِنَ الْإِحْفَاءِ وَهُوَ الْإِعْرَاءُ عَنِ النَّعْلِ وَالْخُفِّ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَرُوِيَ بِفَتْحِهِمَا مِنْ حَفِيَ يَحْفَى مِنْ بَابِ عَلِمَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مَعْنًى ; لِأَنَّ يَحْفَى لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ انْتَهَى. وَتَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ لَهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْحَفَاءِ وَهُوَ الْمَشْيُ بِلَا خُفٍّ وَنَعْلٍ، وَالتَّعْدِيَةُ حِينَئِذٍ مَجَازِيَّةٌ وَالْأَصْلُ لِيَحُفَّ بِهِمَا، فَحَذَفَ الْجَارَّ اخْتِصَارًا انْتَهَى. يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنًى حَالَ الِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ يُضَمِّنُ الْمُجَرَّدَ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي بِلَا حَذْفٍ انْتَهَى. وَهُوَ أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ فِي ظُهُورِ الْحَالِ وَالْمَآلِ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ هَذَا أَمْرُ إِرْشَادٍ ; لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ لَا يَأْمَنُ الْعِثَارَ، وَأَيْضًا يُوجِبُ الِاسْتِهْزَاءَ بِهِ، وَلَا يُنَافِي كَرَاهَةُ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ فِعْلَ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لِعُذْرٍ، أَوْ لِكَوْنِ النَّهْيِ مَا بَلَغَهُمْ إِنْ ثَبَتَ تَأَخُّرُ فِعْلِهِمْ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِهِ، يَرُدُّهُ صَرِيحُ السُّنَّةِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِرْشَادِ أَوْ لِلنَّدْبِ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ لَا بَأْسَ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي خِلَافِ الْأَوْلَى، وَفِي كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ أَيْضًا، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الرُّخْصَةِ بِالْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ أَحَادِيثٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا انْتَهَى. وَكَفَى بِفِعْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ جَوَازًا، وَابْنُ سِيرِينَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يَلِيقُ الطَّعْنُ بِهِ، وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ إِخْرَاجَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ مِنَ الْكُمِّ، وَإِلْقَاءَ الرِّدَاءِ عَلَى إِحْدَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَلُبْسَ نَعْلٍ فِي رِجْلٍ وَاحِدٍ، وَخُفٍّ فِي أُخْرَى، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يُجْدِي، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رُزَيْنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ أَوْ شِرَاكُهُ فَلَا يَمْشِ فِي أَحَدَيْهِمَا، بِنَعْلٍ وَالْأُخْرَى حَافِيَةٌ، لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا، فَقَدْ قَالَ مِيرَكُ: هَذَا لَا مَفْهُومَ لَهُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الْإِذْنِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى ; لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مَعَ الِاحْتِيَاجِ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا دَالٌّ عَلَى ضَعْفِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَشَى فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ، حَتَّى يُصْلِحَهَا، قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ عَنْ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَمْ أَجِدْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي أَصْلِ التِّرْمِذِيِّ، بَلْ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رُبَّمَا مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ، وَصَاحِبُ الْمِشْكَاةِ، وَالشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ، عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَوَجْهُ إِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْشِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَنْهِيَّةِ عَنْهَا أَصْلًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَنَحْوَهُ) بِالنَّصْبِ أَيْ مِثْلَهُ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَتْنِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِنَحْوِهِ، نَحْوَ الْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ فَلَا يُرَدُّ مَا قَالَهُ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ قُتَيْبَةَ مُنْقَطِعٌ وَمُرْسَلٌ ; لِإِسْقَاطِ الْأَعْرَجِ عَنِ الْإِسْنَادِ وَإِسْنَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ، نَعَمْ كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ عَنْ مَالِكٍ وَيَزِيدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا مَعْنٌ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ يَعْنِي) هَذَا كَلَامُ جَابِرٍ أَوِ الرَّاوِي عَنْهُ مَعَ بُعْدٍ يَعْنِي يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِيرِ يَأْكُلُ، (الرَّجُلَ) وَالْمَرْأَةُ تَابِعَةٌ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى جَابِرٍ، وَقَوْلُهُ: (بِشِمَالِهِ) بِكَسْرِ الشِّينِ مُتَعَلِّقٌ بِيَأْكُلُ (أَوْ يَمْشِي) عَطْفٌ عَلَى يَأْكُلُ (فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) بِالتَّأْنِيثِ، وَعِلَّةُ النَّهْيِ عَنْهُمَا تَشَبُّهُ الشَّيْطَانِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ فَكُلُّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَيَكُونُ كِلَاهُمَا مَنْهِيًّا، وَفِيهِ أَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْوَاوِ يُوهِمُ فَسَادَ الْمَعْنَى ; لِإِيهَامِهَا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اجْتِمَاعُهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ عَلَى حَدِّ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ ح) وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْحَاءِ وَحَالِهِ (وَأَخْبَرَنَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْبَأَنَا (إِسْحَاقُ) أَيِ: ابْنُ مُوسَى كَمَا فِي نُسْخَةٍ (أَخْبَرَنَا مَعْنٌ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ) أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَلْبَسَ أَحَدُكُمْ نَعْلَيْهِ (فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ) أَيْ بِالْجَانِبِ الْيَمِينِ مِنَ الرِّجْلَيْنِ أَوِ النَّعْلَيْنِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ (فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى وَإِذَا نَزَعَ) أَيْ أَرَادَ خَلْعَهُمَا (فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ) أَيْ بِالْجَانِبِ الشِّمَالِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِذَاءُ كَرَامَةٌ لِلرَّجُلِ، حَيْثُ أَنَّهُ وِقَايَةٌ مِنَ الْأَذَى، وَإِذَا كَانَتِ الْيُمْنَى أَفْضَلَ مِنَ الْيُسْرَى، اسْتُحِبَّ التَّبْدِئَةُ بِهَا فِي لُبْسِ النَّعْلِ، وَالتَّأْخِيرُ فِي نَزْعِهِ، لِيُوَفِّرَ بِدَوَامِ لُبْسِهَا حَظَّهَا مِنَ الْكَرَامَةِ انْتَهَى. وَأَمَّا الْحَفَاءُ فَإِنَّهُ تَارَةً فِيهِ الْكَرَامَةُ، وَأُخْرَى فِيهِ الْإِهَانَةُ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْيَمِينِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ أَقْوَى مِنَ الْيَسَارِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُخْرِجَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ إِرْشَادِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ، وَهُوَ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ الْإِرْشَادِيَّ لَا يَكُونُ بَاطِلًا وَلَا مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، وَلَا مُنَافِيًا لِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا الْبَحْثِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى عِلَّةِ تَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ (فَلْتَكُنِ الْيُمْنَى) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَلْيَكُنِ الْيَمِينُ، وَيُؤَيِّدُهُ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَيَنْصُرْهُ قَوْلُهُ: (أَوَّلَهُمَا) وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (تُنْعَلُ) عَلَى خِلَافٍ فِي تَأْنِيثِهِ وَتَذْكِيرِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ فَيَكُونُ تَذْكِيرُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْعُضْوِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَيُحْتَمَلُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَيُنْعَلُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ قَوْلُهُ: (وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ) وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ هُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى خَبَرِ كَانَ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، وَالْخَبَرُ تُنْعَلُ، وَتُنْزَعُ وَضُبِطَا بِمُثَنَّاتَيْنِ فَوْقَانِيَّتَيْنِ وَتَحْتَانِيَّتَيْنِ مُذَكَّرَيْنِ قَالَ مِيرَكُ، وَالْأَوَّلُ فِي رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ رَاجِعَانِ إِلَى الْيُمْنَى، وَالثَّانِي مِمَّا ضَبَطَهُ الشَّيْخُ، وَأَفَادَ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ النَّعْلِ وَالْخَلْعِ، يَعْنِي بِهِمَا الْمَصْدَرَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ. أَقُولُ بَلْ لَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنًى أَصْلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّذْكِيرَ، إِمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْيَمِينِ، وَإِمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الْيُمْنَى بِالْعُضْوِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأَمْرَ يَجْعَلُ هَذِهِ الْخَصْلَةَ مَلَكَةً رَاسِخَةً ثَابِتَةً دَائِمَةً لِمَا أَنَّ النُّفُوسَ تَأْخُذُ هَذَا الْأَمْرَ هَيِّنًا، أَوْ أَنَّهَا اعْتَادَتْ بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى فَكَانَ مَظِنَّةَ فَوْتِ تَقْدِيمِ الْيُسْرَى، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْعِصَامِ وَأَقُولُ بَلْ فِيهِ زِيَادَةُ إِفَادَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ عَلَى النَّهْجَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، إِنَّمَا هُوَ رِعَايَةُ إِكْرَامِ الْيُمْنَى فَقَطْ نَعْلًا وَخَلْعًا، حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ سَاوَى بَيْنَ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، بِأَنْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهُمَا ابْتِدَاءً فِي أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ، وَنَظِيرُهُ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَتَقْدِيمُ الْيُسْرَى فِي خُرُوجِهِ، وَعَكْسُهُ فِي دُخُولِ الْخَلَاءِ وَخُرُوجِهِ، وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ فَائِدَتَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى فِي الْأَوَّلِ لَا يَقْتَضِي تَأْخِيرَ نَزْعِهَا ; لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ نَزْعِهِمَا مَعًا، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ

فَقَدْ وَهِمَ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّفَ مَعْنًى غَيْرَ مَا قُلْتُ يُخْرِجُهُ بِهِ عَنِ التَّأْكِيدِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا يَمُجُّهُ السَّمْعُ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ نَزْعَهُمَا مَعًا وَلُبْسَهُمَا مَعًا مَا لَا يَكَادُ يُتَصَوَّرُ فِي أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ، فَهُوَ أَوْلَى بِمَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا يَمُجُّهُ السَّمْعُ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ هَذَا، وَقَدْ قَالَ مِيرَكُ: زَعَمَ بَعْضُ النُّقَّادِ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْحَدِيثِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ بِالشِّمَالِ، وَقَوْلُهُ: فَلْيَكُنْ إِلَى آخِرِ قَوْلِهِ: تُنْزَعُ، مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ شَرْحًا، وَتَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَ. (حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَفِي إِيرَادِ الْجُمْلَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ شُعْبَةَ أَطْلَقَ أَشْعَثَ وَمُرَادُهُ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ ; لِيُظْهِرَ قَوْلَهُ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ) أَيِ اسْتِعْمَالَ الْيُمْنَى وَتَقْدِيمَ جَانِبِ الْيُمْنَى فِي الْأُمُورِ الشَّرِيفَةِ (مَا اسْتَطَاعَ) أَيْ مُدَّةَ دَوَامِ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِاخْتِيَارِ التَّيَمُّنِ وَمُبَالَغَةٌ فِي عَدَمِ تَرْكِهِ، كَمَا هُوَ الْعُرْفُ فِي أَمْثَالِهِ، وَنَظِيرُهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قَالَ الْعِصَامُ: وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَتْرُكُهُ لِلضَّرُورَةِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُ التَّيَمُّنِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ ذَكَرَهُ احْتِرَازًا عَمَّا إِذَا احْتِيجَ لِلْيَسَارِ لِعَارِضٍ بِالْيَمِينِ، فَإِنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي تَقْدِيمِهَا حِينَئِذٍ انْتَهَى. وَهُوَ مُقَرَّرٌ إِذِ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مُرَادَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتَفِي بِالْيَمِينِ فِيمَا لَمْ يَتَعَسَّرِ احْتِرَازًا عَنْ نَحْوِ غَسْلِ الْوَجْهِ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ أَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ بِأَنْ كَانَ يُرِيدُ مَثَلًا أَنْ يَأْخُذَ الْعَصَا وَالْكِتَابَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَهُمَا بِالْيَمِينِ وَالْآخَرَ بِالْيَسَارِ، وَكَمَا وَقَعَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْلِ الْقِثَّاءِ وَالرُّطَبِ بِالْيَدَيْنِ، وَكَمَا فِي لُبْسِ النَّعْلَيْنِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ، وَجَوَّزَ مِيرَكُ أَنْ يَكُونَ [مَا] فِي (مَا اسْتَطَاعَ) مَوْصُولَةً فَيَكُونَ بَدَلًا مِنَ التَّيَمُّنِ (فِي تَرَجُّلِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِيَجِبُ أَيْ فِي شَأْنِ تَرْجِيلِ شَعْرِهِ وَهُوَ تَمْشِيطُهُ وَتَسْرِيحُهُ وَدَهْنُهُ (وَتَنَعُّلِهِ) أَيْ فِي لُبْسِ نَعْلِهِ (وَطُهُورِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ عَلَى أَنَّهَا لُغَتَانِ فِي الْمَعْنَى الِاسْمِيِّ وَهُوَ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، فَالتَّقْدِيرُ اسْتِعْمَالُ طَهُورِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَ لِإِرَادَةِ انْحِصَارِهَا بَلْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُرَاعِي التَّيَمُّنَ مِنَ الْفَرْقِ إِلَى الْقَدَمِ، وَفِي كُلِّ الْبَدَنِ، وَمِمَّا وَرَدَ فِي بَابِ التَّنَعُّلِ وَالنَّاسُ عَنْهُ غَافِلُونَ، مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَنَعَّلَ الرَّجُلُ قَائِمًا، لَكِنْ ذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَشَقَّةٍ تَلْحَقُ فِي لُبْسِ نِعَالٍ فِيهَا سُيُورٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اللُّبْسُ بِدُونِ إِعَانَةِ الْيَدِ، فَلَا نَهْيَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ، أَقُولُ وَفِي مَعْنَى التَّنَعُّلِ الْمَنْهِيِّ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ وَالسَّرَاوِيلِ قَائِمًا، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ مُحَقَّقَةٌ فِيهِمَا ; لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِلُبْسِهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ عَنْهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْيَمِينِ فِيهِمَا، وَمُلَاحَظَةِ لُبْسِ النَّعْلِ وَخَلْعِهَا فِيهِمَا أَيْضًا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَلْتَفِتُونَ، وَعَنِ الْمُرَاعَاةِ جَاهِلُونَ، وَعَنْ مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ مَحْرُومُونَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ) أَيِ الضَّبِّيُّ الزَّعْفَرَانِيُّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) قَالَ الْعِصَامُ: الْمُسَمَّى بِهِشَامٍ فِي أَسَانِيدِ الشَّمَائِلِ خَمْسَةٌ (عَنْ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنِ سِيرِينَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمَا (قِبَالَانِ) فَصَلَ بِهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا مَعْمُولَا فِعْلٍ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ الْمُضَافُ، وَقِبَالَانِ مَعْمُولُ كَانَ إِشَارَةً إِلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ وَأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْإِخْبَارِ (وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْ وَكَذَا لِنَعْلِ أَبِي بَكْرٍ

(باب ما جاء في ذكر خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وَعُمَرَ قِبَالَانِ (وَأَوَّلُ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا) أَيِ اتَّخَذَ قِبَالًا (وَاحِدًا عُثْمَانُ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ لُبْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُعْتَادِ، لَا عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ: مُبَاحٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَوَاجِبٌ وَفَرْضٌ، وَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَتُوُهِّمَ كَرَاهَةُ الِاقْتِصَارِ عَلَى قِبَالٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى ; لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ، وَبِهِ عُلِمَ أَنَّ تَرْكَ لُبْسِ النَّعْلَيْنِ وَلُبْسَ غَيْرِهِمَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ أَيْضًا. (بَابُ مَا جَاءَ فِي ذِكْرِ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا، قَالَ الْعِصَامُ: كَانَ مُقْتَضَى دَأْبِهِ فِي تَرَاجِمِ الْأَبْوَابِ أَنْ يَقُولَ مَا جَاءَ فِي خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ (ذِكْرِ) وَلَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ لِمَزِيدِ الذِّكْرِ، وَهِيَ خَفِيَّةٌ انْتَهَى. وَالذِّكْرُ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ فَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ فِي نُسَخٍ زِيَادَةُ «ذِكْرِ» بَيْنَ «فِي» وَمَجْرُورِهَا، وَلَعَلَّهَا تَحْرِيفٌ مِنْ نَاسِخٍ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيفَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي ذِكْرِ كَلِمَةٍ مَقَامَ ذِكْرِ كَلِمَةٍ أُخْرَى مَعَ تَغْيِيرٍ فِيهَا، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِي زِيَادَةِ الذِّكْرِ هُنَا تَمْيِيزُهُ عَنْ سَائِرِ تَرَاجِمِ الْكِتَابِ ; لِتَكْرَارِ بَابِ الْخَاتَمِ، وَإِنْ كَانَ مَيَّزَ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ عَنْ خَاتَمٍ يُخْتَمُ بِهِ بِإِضَافَةِ الْأُولَى إِلَى النُّبُوَّةِ، وَالثَّانِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ تِكْرَارُ مَا بِهِ التَّمْيِيزُ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِذْ تَرَاجِمُ الْكِتَابِ قَاضِيَةٌ بِحَذْفِهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهَا فِيهِ نَظِيرٌ، وَلَا حِكْمَةَ فِي تَمْيِيزِ هَذَا الْبَابِ بِهَا عَلَى بَقِيَّةِ الْأَبْوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ وَكَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُصَنِّفِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ) أَخْرَجَ حَدِيثَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا (عَنْ يُونُسَ) أَيِ الْأَيْلِيِّ وَقَدْ مَرَّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أَيِ الزُّهْرِيِّ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْهُ (قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرِقٍ)

بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا أَيْ فِضَّةٍ (كَانَ فَصُّهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِهِ، وَقَدْ يُضَمُّ وَبِتَشْدِيدِ الصَّادِ مَا يُنْقَشُ فِيهِ اسْمُ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَامَّةُ تَكْسِرُهَا وَأَثْبَتَهَا بَعْضُهُمْ لُغَةً، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمَّ وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ مَالِكٍ فِي الْمُثَلَّثِ انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ الْفَصُّ لِلْخَاتَمِ مُثَلَّثَةً وَالْكَسْرُ غَيْرُ لَحْنٍ، وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ (حَبَشِيًّا) أَيْ حَجَرًا مَنْسُوبًا إِلَى الْحَبَشِ ; لِأَنَّهُ مَعْدِنُهُ وَقِيلَ: كَانَ فَصُّهُ عَقِيقًا كَمَا فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَارِ، وَقِيلَ: كَانَ جَزْعًا، وَقَالَ: حَبَشِيًّا ; لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَهُوَ كُورَةُ الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ فَصًّا مِنْ جَزْعٍ أَوْ عَقِيقٍ، إِذْ مَعْدِنُهُمَا بِالْحَبَشَةِ كَالْيَمَنِ فَمَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَوْ مَعْنًى حَبَشِيًّا جِيءَ بِهِ مِنَ الْحَبَشَةِ، أَوْ كَانَ أَسْوَدَ عَلَى لَوْنِ الْحَبَشَةِ، أَوْ صَانِعُهُ أَوْ صَانِعُ نَقْشِهِ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ مِنْ فِضَّةٍ فَصُّهُ مِنْهُ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ تَعَدُّدُ خَاتَمِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَمِنْ ثَمَّةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهَا أَصَحُّ، وَقِيلَ: مَعْنَى «فَصُّهُ مِنْهُ» أَنَّ مَوْضِعَ فَصِّهِ مِنْهُ فَلَا يُنَافِي كَوْنَ فَصِّهِ حَجَرًا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي التَّخَتُّمِ بِالْعَقِيقِ مِنْ أَنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ، وَأَنَّهُ مُبَارَكٌ، وَأَنَّ مَنْ تَخَتَّمَ بِهِ لَمْ يَزَلْ فِي خَيْرٍ

فَكُلُّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحُفَّاظُ، وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ، أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْيَاقُوتِ الْأَصْفَرِ يَمْنَعُ الطَّاعُونَ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ (أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ) هُوَ الْوَضَّاحُ رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) سَيَأْتِي ذِكْرُهُ (عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ) أَيْ أَمَرَ بِصِيَاغَتِهِ أَوْ وَجَدَهُ مَصُوغًا فَاتَّخَذَهُ (فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ) أَيِ الْكُتُبَ الَّتِي يُرْسِلُهَا لِلْمُلُوكِ، وَهُوَ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ أَيْ يَضَعُهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ يَتَخَتَّمُ بِهِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى تَخَتَّمْتُ لَبِسْتُ الْخَاتَمَ، لَكِنَّهُ يُنَافِي قَوْلَهُ: (وَلَا يَلْبَسُهُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ هُوَ أَنَّ جُمْلَةَ وَلَا يَلْبَسُهُ حَالٌ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَتَخَتَّمُ بِهِ فِي حَالِ عَدَمِ اللُّبْسِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ إِظْهَارُ التَّوَاضُعِ، وَتَرْكُ الْإِرَاءَةِ وَالْكِبْرِ ; لِأَنَّ الْخَتْمَ فِي حَالِ لُبْسِ الْخَاتَمِ لَا يَخْلُو عَنْ تَكَبُّرٍ وَخُيَلَاءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: وَلَا يَلْبَسُهُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: يَخْتِمُ بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ بَلْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ضَرُورَةَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ لِلْخَتْمِ بِهِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الرَّاوِي مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ بَيَانُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ مِنَ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ الْخَتْمَ بِهِ لَا اللُّبْسَ وَالتَّزَيُّنَ ; لِأَنَّ لُبْسَ الْخَاتَمِ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي سَبَبِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. قَالَ الْعِصَامُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْرَبُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلُبْسُهُ حَالَةَ الْخَتْمِ بَعِيدٌ لَا يُحْتَاجُ لِنَفْيِهِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ خَاتَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَكُونُ لِلسَّلَاطِينِ وَالْحُكَّامِ، وَكَانَ يَلْبَسُ مِنْهَا بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ أَرْبَابِ هَذَا الْفَنِّ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ، وَتَعَقَّبَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُتَّخَذُ لِلْحَاجَةِ فَيَبْعُدُ أَنْ يَتَّخِذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَدِّدًا، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُ الْحَنَفِيَّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ثَبَتَ لُبْسُ الْخَاتَمِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُهُ فِي يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ، وَلِخَبَرِ: كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلُبْسُهُ مَنْدُوبٌ وَلَوْ لِمَنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ لِخَتْمٍ انْتَهَى. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا إِنَّهُ إِنَّمَا يُنْدَبُ لِمَنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْخَتْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ سَبَبُ وُرُودِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ، وَهُوَ مُبَاحٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِجْمَاعًا، وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ لُبْسَهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ شَاذٌّ، نَعَمْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ وَاتَّخَذُوا مِثْلَهُ، طَرَحَهُ فَطَرَحُوا خَوَاتِيمَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نَدْبِ الْخَاتَمِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى الْخَتْمِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا طَرَحَهُ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَهْمٌ مِنَ الزُّهْرِيِّ رَاوِيهِ وَإِنَّمَا الَّذِي لَبِسَهُ يَوْمًا ثُمَّ أَلْقَاهُ خَاتَمُ ذَهَبٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ أَوْ خَاتَمُ حَدِيدٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَاتَمُ حَدِيدٍ مَلْوِيٌّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ فَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي طَرَحَهُ، وَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ وَلَا يَلْبَسُهُ، وَقَالَتْ: طَائِفَةٌ يُكْرَهُ إِذَا قُصِدَ بِهِ الزِّينَةُ، وَآخَرُونَ يُكْرَهُ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ، لِلنَّهْيِ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، لَكِنْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ انْتَهَى. وَقَالَ قَاضِي خَانْ: وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَخَتَّمُ بِالْعَقِيقِ، ثُمَّ التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُبَاحُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّخَتُّمِ، كَالْقَاضِي وَعِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، وَإِذَا تَخَتَّمَ بِالْفِضَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَصُّ إِلَى بَاطِنِ الْكَفِّ مِنَ الْيُسْرَى (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ الْمُصَنِّفُ (أَبُو بِشْرٍ) أَيِ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ (اسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيٍّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ يَاءٍ، وَفِي نُسْخَةٍ وَحْشِيَّةَ بِغَيْرِ انْصِرَافٍ، اخْتُلِفَ فِيهِ ثِقَةً

وَضَعْفًا. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (هُوَ الطَّنَافِسِيُّ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، مَنْسُوبٌ إِلَى طَنَافِسَ جَمْعُ طُنْفُسَةٍ بِضَمِّ الطَّاءِ وَالْفَاءِ وَكَسْرِهَا، وَبِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِهَا: الْبِسَاطُ الَّذِي لَهُ حَمْلٌ وَحَصِيرٌ مِنْ سَعَفٍ قَدْرُهُ ذِرَاعٌ فَكَانَ النِّسْبَةُ لِلْعَمَلِ أَوِ الْبَيْعِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ صَارَ عَلَمًا لَهُ بِالْغَلَبَةِ، وَاشْتَهَرَ بِهِ وَهُوَ ثِقَةٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ هُوَ الطُّفَالِيُّ بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِالْفَاءِ آخِرُهُ لَامٌ بَعْدَهُ تَحْتِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ (أَخْبَرَنَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْبَأَنَا (زُهَيْرٌ) بِضَمِّ زَايٍ وَفَتْحِ هَاءٍ (أَبُو خَيْثَمَةَ) بِتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَيْنَ فَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ زُهَيْرٍ أَبِي الْمُنْذِرِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ (عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ أَيِ الطَّوِيلِ (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِضَّةٍ فَصُّهُ مِنْهُ) الظَّاهِرُ مِنْهَا لِيَرْجِعَ إِلَى الْفِضَّةِ فَأَوَّلَهُ بَعْضٌ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا صُنِعَ مِنْهُ الْخَاتَمُ، وَهُوَ الْفِضَّةُ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْأَوْضَحُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالضَّمِيرُ لِلْخَاتَمِ أَيْ فَصُّهُ بَعْضُ الْخَاتَمِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ حَجَرًا، فَإِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ مُجَاوِرٌ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْفِضَّةِ وَالتَّذْكِيرُ بِتَأْوِيلِ الْوَرِقِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ مِنْ فِضَّةٍ كُلُّهُ. قَالَ مِيرَكُ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْخَوَاتِيمِ لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِيَاسِ بْنِ حَرْثِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ، فَرُبَّمَا كَانَ فِي يَدِي، قَالَ: وَكَانَ مُعَيْقِيبُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي كَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ ابْنُ سَعْدٍ شَاهِدًا مُرْسَلًا عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ خَاتَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ، غَيْرَ أَنَّ فَصَّهُ بَادٍ، وَأَخْرَجَ مُرْسَلًا أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلَهُ دُونَ مَا فِي آخِرِهِ، وَثَالِثًا مُسْنَدًا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَهُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَخِي خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ، قَالَ: دَخَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْخَاتَمُ فِي يَدِكَ يَا عَمْرُو، قَالَ: هَذِهِ حَلْقَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَمَا نَقْشُهَا، قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ فِي يَدِ عُمَرَ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ لَبِسَهُ عُثْمَانُ فَبَيْنَمَا هُوَ يَحْفِرُ بِئْرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، يُقَالُ لَهَا بِئْرُ أَرِيسٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى شَفَتِهَا يَأْمُرُ بِحَفْرِهَا سَقَطَ الْخَاتَمُ فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُكْثِرُ إِخْرَاجَ خَاتَمِهِ مِنْ يَدِهِ وَإِدْخَالَهُ فَالْتَمَسُوهُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْخَاتَمَ هُوَ الَّذِي كَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا، حَيْثُ أُتِيَ بِهِ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ وَرِقٍ أَيْ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ قُلْتُ: وَيُلَايِمُهُ قَوْلُهُ: يَخْتِمُ بِهِ أَيْ أَحْيَانًا وَلَا يَلْبَسُهُ أَيْ أَبَدًا، قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَالِدٍ أَوْ عَمْرٍو لِئَلَّا يَشْتَبِهَ عِنْدَ الْخَتْمِ بِخَاتَمِهِ الْخَاصِّ إِذْ نَقْشُهُ مُوَافِقٌ لِنَقْشِهِ فَيُفَوِّتُ مَصْلَحَةَ الْخَتْمِ بِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سَبَبِ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَنْقُشَ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ، وَأَمَّا الَّذِي فَصُّهُ مِنْ فِضَّةٍ فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَاغَتِهِ فَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: أَنَا صَنَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا لَمْ يُشْرِكْنِي فِيهِ أَحَدٌ نَقَشْتُ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَكَانَ اتِّخَاذُهُ قَبْلَ أَخْذِ خَاتَمِ خَالِدٍ أَوْ عَمْرٍو وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُمْ خَاتَمًا وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُهُ فِيهِ تِمْثَالُ أَسَدٍ قَالَ مَعْمَرٌ فَغَسَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَشَرِبَهُ فَفِيهِ مَعَ إِرْسَالِهِ ضَعْفٌ لِأَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَعَلَّهُ لَبِسَهُ مَرَّةً قَبْلَ النَّهْيِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ فِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ: التَّخَتُّمُ بِالْعَقِيقِ وَالْفِضَّةِ سُنَّةٌ، قَالَ شَارِحُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْعَقِيقِ قِيلَ حَرَامٌ لِكَوْنِهِ حَجَرًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ يَجُوزُ التَّخَتُّمُ بِالْعَقِيقِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» وَلَيْسَ بِحَجَرٍ، كَذَا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ، وَكَلَامُ صَاحِبِ الشِّرْعَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْحَلْقَةِ لَا الْفَصِّ، حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَجَرِ وَالْحَلْقَةُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَلَكِنَّهُ لِذِي سُلْطَانٍ أَيْ ذِي غَلَبَةٍ وَحُكُومَةٍ مِثْلَ الْقُضَاةِ وَالسَّلَاطِينِ، فَتَرْكُهُ لِغَيْرِ ذِي الْحُكُومَةِ أَحَبُّ لِكَوْنِهِ زِينَةً مَحْضَةً، بِخِلَافِ الْحُكَّامِ ; لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْخَتْمِ فِي

الْأَحْكَامِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: حَدَّثَنِي (أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ حِينَ رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ (أَنْ يَكْتُبَ) أَيِ الْمَكَاتِيبَ الَّتِي فِيهَا الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُرْسِلَهَا (إِلَى الْعَجَمِ) أَيْ عُظَمَائِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ، فَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ دَلَالَةٌ أَنَّ الْعَجَمَ هُمُ الرُّومُ لَكِنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ فِيمَا بَعْدُ يُفَسِّرُهُ بِالْأَعَمِّ (قِيلَ لَهُ أَنَّ الْعَجَمَ) قِيلَ قَائِلُ ذَلِكَ مِنَ الْعَجَمِ. وَقِيلَ: مِنْ قُرَيْشٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُرْسَلِ طَاوُسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ قُرَيْشًا هُمُ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (لَا يَقْبَلُونَ) أَيْ لَا يَعْتَمِدُونَ (إِلَّا كِتَابًا عَلَيْهِ خَاتَمٌ) بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ أَيْ وُضِعَ عَلَيْهِ خَاتَمٌ، وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ أَيْ عَلَيْهِ نَقْشُ خَاتَمٍ، وَسَبَبُ عَدَمِ اعْتِمَادِهِمْ لَهُ عَدَمُ الثِّقَةِ بِمَا فِيهِ، أَوْ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهُ شِعَارَ تَعْظِيمِهِمْ، وَهُوَ الْخَتْمُ أَوِ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخَتْمَ الَّذِي شِعَارُهُمْ وَيَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ اطِّلَاعِ غَيْرِهِمْ، هُوَ خَتْمُ الْوَرِقِ، وَهُوَ لَا يُلَايِمُ اصْطِنَاعَ الْخَاتَمِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (فَاصْطَنَعَ خَاتَمًا) أَيْ أَمَرَ أَنْ يُصْنَعَ لَهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَرُوِيَ (اضْطَرَبَ) أَيْ سَأَلَ أَنْ يُصْنَعَ أَوْ يُضْرَبَ، كَمَا يُقَالُ: اكْتَتَبَ إِذَا سَأَلَ أَنْ يُكْتَبَ كَذَا فِي الْفَائِقِ (كَأَنِّي) وَفِي نُسْخَةٍ فَكَأَنِّي (أَنْظُرْ إِلَى بَيَاضِهِ) أَيْ بَيَاضِ الْخَاتَمِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ كَمَالَ إِتْقَانِهِ لِهَذَا الْخَبَرِ فَكَأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ (فِي كَفِّهِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ بَاطِنِ إِصْبَعِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْكَفُّ الْيَدُ أَوْ إِلَى الْكُوعِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ) أَيِ ابْنُ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ، وَالْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ ثَلَاثَةٌ أَكْثَرُهُمْ هَذَا وَثَانِيهِمُ اسْمُ جَدِّهِ حَفْصٍ، وَثَالِثُهُمُ اسْمُ جَدِّهِ زِيَادٍ (قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُثَنَّى، صَدُوقٌ كَثِيرُ الْغَلَطِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ (عَنْ ثُمَامَةَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَعَلَّ خَبَرَ كَانَ مَحْذُوفٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ كَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ (مُحَمَّدٌ سَطْرٌ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ (وَرَسُولُ) بِالرَّفْعِ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَجَوَّزَ التَّنْوِينَ

عَلَى الْإِعْرَابِ ; لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (سَطْرٌ وَاللَّهُ) بِالرَّفْعِ وَالْجَرِّ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ (سَطْرٌ) هَذَا حَلُّ الْحَنَفِيِّ وَضَعَّفَهُ الْعِصَامُ، وَقَالَ: التَّقْدِيرُ كَانَ مَدْلُولُ نَقْشِ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْشُ مُحَمَّدٍ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي تَصْحِيحِ الْحَمْلِ إِلَى الْقَوْلِ، فَمُحَمَّدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ، خَبَرُ كَانَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ هَكَذَا، وَالْمُقَدَّمُ خَبَرُهُ وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ بِتَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ أَوْ بِمُلَاحَظَةِ الرَّبْطِ بَعْدَ الْعَطْفِ، وَكُلُّ هَذَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالتَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنْ قَصَرَ فِي الْعِبَارَةِ، حَيْثُ قَالَ مُحَمَّدٌ خَبَرُ كَانَ عَلَى الْحِكَايَةِ أَوِ اسْمُهَا وَنَقْشٌ هُوَ الْخَبَرُ، فَإِنَّهُ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَوْ نَقْشُهُ نَقْشُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ إِلَّا بِالتَّكْلِيفِ السَّابِقِ، ثُمَّ قَالَا وَقَوْلُهُ: سَطْرٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذَا سَطْرٌ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَرَسُولٌ سَطْرٌ، وَاللَّهُ سَطْرُهُ الثَّالِثُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ كُلَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عَرْعَرَةَ عَنْ عَرْزَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ فَصُّ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَشِيًّا مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَعَرْعَرَةُ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، فَزِيَادَةُ هَذِهِ شَاذَّةٌ، وَكَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ سِيرِينَ بِزِيَادَةِ «بِسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» شَاذَّةٌ أَيْضًا، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ مِنْ مُرْسَلِ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) أَقُولُ عَلَى تَقْدِيرِ تَوْثِيقِهِ، لَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، فَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الِاقْتِصَارِ، وَبَيَانُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ مِنْ تَخْصِيصِ اسْمِهِ، أَوْ يُبْنَى عَلَى تَعَدُّدِ الْخَوَاتِيمِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لَكِنَّ كِتَابَتَهُ عَلَى السِّيَاقِ الْعَادِيِّ، فَإِنَّ ضَرُورَةَ الْخَتْمِ بِهِ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْأَحْرُفُ الْمَنْقُوشَةُ مَقْلُوبَةً ; لِيَخْرُجَ الْخَتْمُ مُسْتَوِيًا، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّ كِتَابَتَهُ كَانَتْ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى فَوْقَ، يَعْنِي أَنَّ الْجَلَالَةَ فِي أَعْلَى الْأَسْطُرِ الثَّلَاثَةِ وَمُحَمَّدٌ فِي أَسْفَلِهَا، فَلَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، بَلْ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ تُخَالِفُ ظَاهِرَهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِيهَا: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَالسَّطْرُ الثَّانِي رَسُولُ، وَالسَّطْرُ الثَّالِثُ اللَّهُ انْتَهَى. وَبِهَذَا يَتَلَاشَى مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعِصَامِ وَابْنِ حَجَرٍ مِنَ الْمُعَارَضَةِ، فَتَدَبَّرْ. وَقَالَ: بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْشُ اسْمِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَقُولُ لَكِنْ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ لَا يَخْفَى وَهُوَ تَعْظِيمُ اسْمِهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُمْتَهَنَ، وَلَوْ كَانَ أَحْيَانًا، كَمَا قَالُوا بِكَرَاهَةِ كِتَابَةِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى جُدْرَانِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَنَقْشِهِ عَلَى حِجَارَةِ الْقُبُورِ، وَغَيْرِهَا. (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ نِسْبَةً إِلَى جَهَاضِمَةَ مَحَلَّةٌ بِالْبَصْرَةِ (أَبُو عَمْرٍو) بِالْوَاوِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (قَالَ أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ) بِفَتْحِ قَافٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَبِمُهْمَلَةٍ أَيِ الْحُرَّانِيُّ نِسْبَةً إِلَى حُرَّانَ، بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ،

وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَزْدِ وَهُوَ بَصْرِيٌّ صَدُوقٌ، لَكِنْ رُمِيَ بِالتَّشْيِيعِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ (عَنْ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ) أَيِ ابْنِ رِمَاحٍ الْبَصْرِيِّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ) أَيْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ بِقَرِينَةِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ (إِلَى كِسْرَى) بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا لَقَبُ مُلُوكِ الْفُرْسِ، ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ وَفِي الْمُغْرِبِ كَسْرَى بِالْفَتْحِ أَفْصَحُ لَكِنْ فِي الْقَامُوسِ: كِسْرَى وَيُفْتَحُ مَلِكُ الْفُرْسِ مُعَرَّبُ خِسْرَوَاى وَاسِعُ الْمُلْكِ (وَقَيْصَرَ) لَقَبُ مَلِكِ الرُّومِ، كَمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ، وَتُبَّعَ لِمَنْ مَلَكَ حِمْيَرَ وَالْيَمَنَ، وَخَاقَانَ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ التُّرْكَ، وَلَمَّا جَاءَ كِتَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى مَزَّقَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْزِيقِ مُلْكِهِ فَمُزِّقَ، وَإِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ حَفِظَهُ فَحُفِظَ مُلْكُهُ (وَالنَّجَاشِيِّ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَهُوَ لَقَبُ مُلُوكِ الْحَبَشَةِ، وَكَتَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ يَطْلُبُ إِسْلَامَهُ، فَأَجَابَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ سَنَةَ سِتٍّ وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ حِينَ كُشِفَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ الَّذِي بَعْدَهُ وَكَتَبَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ اسْمٌ، وَلَا إِسْلَامٌ، وَالْكِتَابَةُ لِهَذَا وَأَنَّهُ غَيْرُ أَصْحَمَةَ، وَصُحِّحَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَكَتَبَ لِأَصْحَمَةَ كِتَابًا ثَانِيًا لِيُزَوِّجَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابَهُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِهْدَاؤُهُ إِلَيْهِ بِالْخُفَّيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ صَوَّرْنَا صُوَرَ بَعْضِ الْمَكَاتِيبِ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ (فَقِيلَ: لَهُ إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا بِخَاتَمٍ) أَيْ إِلَّا مَخْتُومًا بِخَاتَمٍ وَسَبَقَ تَعْلِيلُهُ (فَصَاغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا) أَيْ أَمَرَ بِصَوْغِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الصَّائِغَ كَانَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، فَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ: «بَنَى الْأَمِيرُ الْمَدِينَةَ» فِي النِّسْبَةِ الْمَجَازِيَّةِ (حَلَقَتُهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ (فِضَّةٌ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَصُّهُ فِضَّةً (وَنُقِشَ فِيهِ) أَيْ فِي الْخَاتَمِ أَيْ فَصِّهِ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) وَنُقِشَ ضُبِطَ مَجْهُولًا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ رُوِيَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا ضُبِطَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَضَبَطْنَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ أَيْ أَمَرَ بِنَقْشِهِ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ بِالرَّفْعِ أَيْضًا عَلَى الْحِكَايَةِ.

(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ) أَيِ الضُّبَعِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (وَالْحَجَّاجُ) بِفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْأُولَى (بْنُ مِنْهَالٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ فَسُكُونِ نُونٍ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ الْبَصْرِيُّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ هَمَّامٍ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْأُولَى وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ مَبْسُوطًا (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِالْجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا وَسَبَقَ ذِكْرُهُمَا (عَنِ الزُّهْرِيِّ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ) أَيْ إِذَا أَرَادَ دُخُولَهُ (نَزَعَ خَاتَمَهُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى لَفْظِ اللَّهِ، فَاسْتِصْحَابُهُ فِي الْخَلَاءِ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: حَرَامٌ، وَقَالَ الْعِصَامُ: لِاشْتِمَالِهِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ جُمَلِ الْقُرْآنِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى اسْمِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَعَلَى وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَيُنَاقَشُ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْآنَ، وَلَا يَصِيرُ الْقُرْآنُ إِلَّا بِالْقَصْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِلَا كَرَاهَةٍ، إِلَّا إِذَا قَصَدَ بِهِ التِّلَاوَةَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ صُورَةُ جُمْلَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ: وَهُوَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بَعْضُ آيَةٍ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَفِي رِوَايَتِهِ، وَضَعَ مَكَانَ نَزَعَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا وَضْعَ إِلَّا بَعْدَ النَّزْعِ، نَعَمْ رِوَايَةُ النَّزْعِ تَدُلُّ عَلَى لُبْسِهِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْوَضْعِ، تَأَمَّلْ قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُنَنِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ أَلْقَاهُ وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ إِلَّا هَمَّامٌ انْتَهَى. وَكَذَا ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَمَّا الْمُؤَلِّفُ فَأَخْرَجَهُ فِي الْجَامِعِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ إِلَّا هَمَّامٌ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي هَذَا التَّضْعِيفِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَمَّامًا هَذَا هُوَ ابْنُ يَحْيَى بْنِ دِينَارٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ، وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ، وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ ثَبْتٌ فِي كُلِّ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ ابْنُ رَعْدِيٍّ: هُوَ أَصْدَقُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، إِذْ أَحَادِيثُهُ مُسْتَقِيمَةٌ، وَصَوَّبَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيُّ قَوْلَ تَفَرُّدِهِ لَا يُوهِنُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ غَرِيبًا كَمَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ، أَقُولُ: أَمَّا حُكْمُ أَبِي دَاوُدَ عَلَيْهِ بِالنَّكَارَةِ فَوَجْهُهُ أَنَّ هَمَّامًا خَالَفَ النَّاسَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَهَكَذَا وَجَّهَهُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ أَلْفِيَّتِهِ، وَهُوَ هَذَا أَحَدُ قِسْمَيِ الْمُنْكَرِ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَخَصَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْكَرَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي خَالَفَ الضَّعِيفُ الثِّقَةَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ، وَخَصَّ الشَّاذَّ بِمَا رَوَاهُ الثِّقَةُ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ، لِمَزِيدِ ضَبْطِهِ أَوْ أَكْثَرِهِ عَدَدًا، وَقَالَ فِي آخِرِ بَحْثِ الشَّاذِّ وَالْمُنْكَرِ، الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّاذَّ رِوَايَةُ ثِقَةٍ، وَالْمُنْكَرَ رِوَايَةُ ضَعِيفٍ قَالَ: وَقَدْ غَفَلَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَعَلَى هَذَا الْحُكْمُ عَلَى حَدِيثِ هَمَّامٍ هَذَا بِالشُّذُوذِ أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنَّكَارَةِ ; لِأَنَّهُ ثِقَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ; وَلِهَذَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ لَكِنَّهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْغَرَابَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ ثُمَّ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هَذَا شَاهِدٌ ضَعِيفٌ، وَكَانَ الْبَيْهَقِيُّ ظَنَّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ الْمُتَوَكِّلِ هُوَ ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَاهِلِيٌّ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ: لَا أَعْرِفُهُ، فَقَدْ عَرَّفَهُ غَيْرُهُ، وَرَوَى عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا، إِلَّا أَنَّهُ اشْتُهِرَ تَفَرُّدُ هَمَّامٍ بِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَهُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. عَلَى أَنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَهِمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ أَلْقَاهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ، لَكِنِ اتَّفَقَ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ وَهِمَ فِيهِ وَغَلِطَ ; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَاتَمَ الَّذِي طَرَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ خَاتَمُ الذَّهَبِ، لَا خَاتَمُ الْوَرِقِ، وَكَذَا نَقَلَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَهِمَ فِيهِ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ وَأَجَابَ عَنْ هَذَا الْوَهْمِ بِأَجْوِبَةٍ أَقْرَبُهَا مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ مِنْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اتَّخَذَ خَاتَمَ الذَّهَبِ لِلزِّينَةِ، فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاسُ فِيهِ وَافَقَ تَحْرِيمَهُ فَطَرَحَهُ ; وَلِذَا قَالَ: لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا، كَمَا سَيَأْتِي، وَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ تَبَعًا لَهُ، وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى الْخَاتَمِ ; لِأَجْلِ الْخَتْمِ بِهِ، فَاتَّخَذَهُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَنَقَشَ عَلَيْهِ اسْمَهُ الْكَرِيمَ، فَتَبِعَهُ النَّاسُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ، فَرَمَى

بِهِ حَتَّى رَمَى النَّاسُ كُلُّهُمْ تِلْكَ الْخَوَاتِيمَ الْمَنْقُوشَةَ عَلَى اسْمِهِ ; لِئَلَّا تَفُوتَ مَصْلَحَةُ النَّقْشِ بِوُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ، فَلَمَّا عُدِمَتْ خَوَاتِيمُهُمْ بِرَمْيِهَا رَجَعَ إِلَى خَاتَمِهِ الْخَاصِّ بِهِ، فَصَارَ يَخْتِمُ بِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا، فَلَا يَنْقُشُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَعَلَّلَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ أَوْ بَعْضُ مَنْ بَلَغَهُ النَّهْيُ، مِمَّنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ مِنْ مُنَافِقٍ وَنَحْوِهِ، اتَّخَذُوا فَنَقَشُوا فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَيَكُونُ نَشَأَ لَهُ غَضَبٌ مِمَّنْ تَشَبَّهَ لَهُ فِي ذَلِكَ النَّقْشِ انْتَهَى، وَأَقُولُ الْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ خَاتَمَ الذَّهَبِ لَبِسَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ عَلَى قَصْدِ الزِّينَةِ، فَتَبِعَهُ النَّاسُ مُحَافَظَةً عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، فَرَأَى أَنَّ فِي لُبْسِهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، فَرَمَاهُ فَرَمَاهُ النَّاسُ، فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى لُبْسِ الْخَاتَمِ لِأَجْلِ الْخَتْمِ بِهِ لَبِسَهُ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: «إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا - أَيْ لِلْمَصْلَحَةِ - فَلَا يَنْقُشْ عَلَيْهِ أَحَدٌ» أَيِ اسْمَنَا بَلْ يَنْقُشُ اسْمَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْخَاتَمِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ الْخَاتَمِ لِغَيْرِ الْحُكَّامِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) بِضَمِّ نُونٍ وَفَتْحِ مِيمٍ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) مَرَّ ذِكْرُهُ (عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، فَكَانَ فِي يَدِهِ) أَيْ حَقِيقَةً بِأَنْ كَانَ لَابِسَهُ أَوْ فِي تَصَرُّفِهِ بِأَنْ كَانَ عِنْدَهُ لِلْخَتْمِ (ثُمَّ كَانَ) أَيْ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَيْ بِالْخَتْمِ بِهِ أَوْ لِلتَّبَرُّكِ (ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيْ فِي إِصْبَعِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ إِلَى آخِرِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَبِسُوهُ أَحْيَانًا لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ بِهِ، وَكَانَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ مُعَيْقِيبٍ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْخَاتَمِ فِي أَيْدِيهِمْ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ، أَنَّ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ فِي يَدِ فُلَانٍ، وَهُوَ ذُو الْيَدِ أَيْ عِنْدَهُ إِلَّا أَنَّهُ يَأْبَى عَنْهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ (حَتَّى وَقَعَ)

أَيْ سَقَطَ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِ عُثْمَانَ (فِي بِئْرِ أَرِيسَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالْبِئْرُ بِالْهَمْزَةِ وَيُخَفَّفُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ قَرِيبٌ مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ عِنْدَ الْمَدِينَةِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ بُسْتَانٌ مَعْرُوفٌ يَجُوزُ فِيهِ الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ، وَفِي بِئْرِهَا سَقَطَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ يَدِ عُثْمَانَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِطْلَاقَ بِئْرِ أَرِيسَ عَلَى الْبُسْتَانِ بِنَاءً عَلَى ذِكْرِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْعِصَامُ: وَعَلَى هَذَا فِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ أَيْ وَقَعَ (فِي بِئْرِ أَرِيسَ) انْتَهَى. مَعَ أَنَّ لَهُ وَجْهًا آخَرَ مِنْ صَنِيعِ الْبَدِيعِيِّ، وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ ثُمَّ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ يَدِ عُثْمَانَ، وَصَرِيحُ مَا يَأْتِي أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ يَدِ مُعَيْقِيبٍ مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ، وَلَا تَنَافِيَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ اسْتَقْبَلَهُ بِأَخْذِهِ، فَسَقَطَ فَنُسِبَ سُقُوطُهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، إِلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَالِسًا عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ، فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ، قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ نَنْزَحُ الْبِئْرَ فَلَمْ نَجِدْهُ، لَكِنْ ذَكَرَ النَّسَائِيُّ أَنَّ عُثْمَانَ طَلَبَ الْخَاتَمَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ لِيَخْتِمَ بِهِ شَيْئًا فَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهِ، وَهُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي شَيْءٍ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ، وَأَمَّا مَا أَجَابَهُ الْعِصَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلَا يَلْتَئِمُ بِهِ النِّظَامُ، ثُمَّ فِي النَّسَائِيُّ مَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْوَاقِعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ نِسْبَةِ الْعَبَثِ بِهِ، حَيْثُ كَانَ سَبَبُ الْعَبَثِ بِهِ التَّفَكُّرَ الْبَاعِثَ عَلَى التَّحَيُّرِ فِي الْأَمْرِ، وَالِاضْطِرَابِ فِي الْفِعْلِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ الشِّيعَةِ عَلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْعَبَثِ بِأَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ إِخْرَاجَ خَاتَمِهِ وَإِدْخَالَهُ، وَلَعَلَّهُ كَانَ إِشَارَةً إِلَى تَغَيُّرِ حَالِهِ وَاضْطِرَابِ النَّاسِ فِي إِبْقَاءِ نَصْبِهِ، وَإِفْشَاءِ عَزْلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَبَثًا صُورَةً وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ نَشَأَ عَنْ فِكْرٍ وَفِكْرَةُ مِثْلِهِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْحَيْرَةِ، (نَقْشُهُ) أَيْ نَقْشُ ذَلِكَ الْخَاتَمِ أَوْ نَقْشُ فَصِّهِ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ وَالْجُمْلَةُ بِتَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ لِلرَّبْطِ قَالَ الْعِصَامُ: فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ خَاتَمٍ مَنْقُوشٍ بِاسْمٍ آخَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ ; لِأَنَّهُ لَا الْتِبَاسَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةَ التَّوْثِيقِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ الِالْتِبَاسَ مُتَحَقِّقٌ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ التَّارِيخِ، قَالَ: وَاسْتِعْمَالُ ثُمَّ مَعَ أَنَّهُ كَانَ الِانْتِقَالُ بِلَا مُهْلَةٍ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْفِعْلِ الثَّانِي مُتَرَاخٍ عَنْ آخِرِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْفَاءُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَرَاخِي أَوَّلِهِ عَنْ آخِرِ الْأَوَّلِ، فَلْيَكُنْ هَذَا عَلَى ذِكْرٍ مِنْكَ، فَإِنَّهُ دَاءُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوَاءِ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمُهْلَةِ فِي ثُمَّ أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّرَاخِي فِي الْأَخْبَارِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْحَدِيثِ: التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ، وَلُبْسُ مَلَابِسِهِمْ وَالتَّيَمُّنُ بِهَا، وَجَوَازُ لُبْسِ الْخَاتَمِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَرِّثْ إِذْ لَوْ وَرَّثَ لَدَفَعَ الْخَاتَمَ إِلَى وَرَثَتِهِ، بَلْ كَانَ الْخَاتَمُ وَالْقَدَحُ وَالسِّلَاحُ وَنَحْوِهَا مِنْ آثَارِهِ الصُّورِيَّةِ صَدَقَةً لِلْمُسْلِمِينَ، يَصْرِفُهَا مَنْ وَلِيَ الْأَمْرَ حَيْثُ رَأَى الْمَصَالِحَ، فَجَعَلَ الْقَدَحَ عِنْدَ أَنَسٍ إِكْرَامًا لَهُ بِخِدْمَتِهِ، وَمَنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ، وَجَعَلَ بَاقِيَ الْأَثَاثِ عِنْدَ نَاسٍ مَعْرُوفِينَ، وَاتَّخَذَ الْخَاتَمَ عِنْدَهُ لِلْحَاجَةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثِ انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْعَسْقَلَانِيُّ وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَاتَمُ اتُّخِذَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ فَانْتَقَلَ لِلْإِمَامِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِيمَا صُنِعَ لَهُ. قُلْتُ: الْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ (قَالَ مِيرَكُ: تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِجْمَالًا حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهَا أَنَّ الْخَاتَمَ مِنْ يَدِ مَنْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ؟ وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ فِي بِئْرِ أَرِيسَ، وَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ، وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسَ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ، قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ نَنْزَحُ الْبِئْرَ فَلَمْ نَجِدْهُ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ سِتِّ سِنِينَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السِّتِّ الْبَاقِيَةِ، كُنَّا مَعَهُ فِي بِئْرِ أَرِيسَ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُكْثِرُ إِخْرَاجَ خَاتَمِهِ مِنْ يَدِهِ وَإِدْخَالَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى شَفَتِهَا يَعْبَثُ بِهِ سَقَطَ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِهِ فِي الْبِئْرِ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، قَالَ الشَّيْخُ: نِسْبَةُ السُّقُوطِ إِلَى أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ، وَإِلَى الْآخَرِ مَجَازِيَّةٌ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ إِلَى السَّبَبِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ طَلَبَ الْخَاتَمَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ فَخَتَمَ بِهِ شَيْئًا، وَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهِ وَهُوَ يَتَفَكَّرُ فِي شَيْءٍ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ فِي الْبِئْرِ، أَوْ رَدَّهُ إِلَيْهِ فَسَقَطَ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَكْثَرُ، قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ نَافِعٍ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: وَكَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَمَّا كَثُرَتْ عَلَيْهِ

أَعْمَالُهُ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ فَخَرَجَ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى قَلِيبٍ لِعُثْمَانَ فَسَقَطَ، فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ. انْتَهَى. أَقُولُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ عُثْمَانَ لَمَّا أَرَادَ أَخْذَهُ مِنْ مُعَيْقِيبٍ أَوْ رَدَّهُ إِلَيْهِ سَقَطَ مِنْ بَيْنِهِمَا، كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي إِعْطَاءِ شَخْصٍ شَيْئًا إِلَى شَخْصٍ آخَرَ، فَيَسْقُطُ مِنْ بَيْنِهِمَا أَحْيَانًا اعْتِمَادًا لِلْمُعْطِي أَنْ أَخَذَهُ الْآخِذُ، وَظَنًّا مِنَ الْآخِذِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ بَاقِيًا بَعْدُ، فَلَمْ يَدْرِ الرَّاوِي تَحْقِيقًا أَنَّهُ مِنْ يَدِ أَيِّهِمَا سَقَطَ، فَنُسِبَ تَارَةً إِلَى عُثْمَانَ، وَتَارَةً إِلَى مُعَيْقِيبٍ، بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، هَذَا غَايَةُ مَا يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّرْجِيحِ، فَالرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ الْحَدِيثِيَّةِ رِوَايَةُ مَنْ نَسَبَ السُّقُوطَ إِلَى عُثْمَانَ ; لِأَنَّهَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَاشْتَمَلَتْ عَلَى تَحْقِيقِ حِكَايَةِ الْوَاقِعَةِ أَيْضًا، وَرِوَايَةُ نِسْبَةِ السُّقُوطِ إِلَى مُعَيْقِيبٍ هِيَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: وَمِنْ حَيْثُ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ يُرَجِّحُ رِوَايَةُ النِّسْبَةِ إِلَى عُثْمَانَ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْقَرِيبُ فِي السُّقُوطِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَاتَّخَذَ عُثْمَانُ خَاتَمًا، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَكَانَ يَتَخَتَّمُ بِهِ أَوْ يَخْتِمُ بِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَلَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَ هَذَا الْخَاتَمِ وَبَيْنَ الْخَاتَمِ الَّذِي فِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةً مَدِيدَةً وَبُرْهَةً عَدِيدَةً، أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاتِّخَاذَ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ سُقُوطِ الْخَاتَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ فِي خَاتَمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْرَارِ، كَمَا كَانَ فِي خَاتَمِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا فَقَدَ خَاتَمَهُ ذَهَبَ مُلْكُهُ، وَعُثْمَانَ لَمَّا فَقَدَ خَاتَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَقَضَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ الْخَارِجُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ مَبْدَأَ الْفِتْنَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي أَفْضَتْ إِلَى قَتْلِهِ، وَاتَّصَلَتْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ يَسِيرَ الْمَالِ يَجِبُ الْبَحْثُ فِي طَلَبِهِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي تَفْتِيشِهِ، يَعْنِي دَفْعًا لِإِضَاعَةِ الْمَالِ، قَالَ: وَقَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَمَّا ضَاعَ عِقْدُ عَائِشَةَ وَحَبَسَ الْجَيْشَ حَتَّى وَجَدَهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ فَأَمَّا عِقْدُ عَائِشَةَ فَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ بِالْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهُ، وَهِيَ الرُّخْصَةُ فِي التَّيَمُّمِ، فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، قُلْتُ: هَذَا غَرِيبٌ مِنَ الشَّيْخِ، فَإِنَّ اسْتِدْلَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، حَيْثُ وَقَعَ الْبَحْثُ، وَأَمَّا ظُهُورُ الْأَثَرِ فَأَمْرُ مُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ، فَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ، نَعَمْ، قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْعِقْدَ لَمْ يَكُنْ يَسِيرًا مِنَ الْمَالِ، لَا سِيَّمَا وَيَتَعَلَّقُ بِقَلْبِ النِّسَاءِ فِي الْحَالِ، وَالْمَآلِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَمَانَةً عِنْدَهَا، فَيَتَعَيَّنُ الْبَحْثُ وَيَجِبُ التَّفْتِيشُ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الضَّيَاعِ الَّذِي لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ، وَبَيْنَ الْإِضَاعَةِ الْمَنْهِيَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ ضَاعَ شَيْءٌ مِنْ شَخْصٍ وَتَرَكَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ، بَلْ يُثَابُ عَلَيْهِ إِنْ جَعَلَهُ صَدَقَةً لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ: وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ فَلَا يَنْهَضُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَصْلًا، لِمَا ذُكِرَ وَلِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا بَالَغَ فِي التَّفْتِيشِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ أَثَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَبِسَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ، وَخَتَمَ بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُسَاوِي فِي الْعَادَةِ قَدْرًا عَظِيمًا مِنَ الْمَالِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ غَيْرَ خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاكْتَفَى فِي طَلَبِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَبِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ أَنَّ قَدْرَ الْمُؤْنَةِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْخَاتَمِ، لَكِنِ اقْتَضَتْ عَظَمَةُ قَدْرِهِ ذَلِكَ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا ضَاعَ مِنْ يَسِيرِ الْمَالِ انْتَهَى. وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعَ هَذَا أَنَّ الْخَاتَمَ الْمُخْتَصَّ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ بِهِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ; لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ضَيَاعِهِ مِنْ مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ خُصُوصًا وَقْتَ الْفِتْنَةِ، وَانْظُرْ إِلَى قَضِيَّةِ مَرْوَانَ وَخَتْمِ حُكْمِ عُثْمَانَ مَعَ تَحَقُّقِ وُجُودِ الْخَاتَمِ عِنْدَهُ، وَفِي تَصَرُّفِهِ فَكَيْفَ إِذَا ضَاعَ وَوَقَعَ فِي يَدِ أَهْلِ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ضَيَاعُ مَالٍ كَثِيرٍ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: أَنَّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا وَلَمْ يَنْجَحْ فِيهِ لَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَلَا يَكُونُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ مُضَيِّعًا، فَفِيهِ مَا سَبَقَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٌ ; وَلِذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ أَنَّ تَعْرِيفَهَا بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَا يُجْتَهَدُ فِي الطَّلَبِ عَلَيْهِ كَتَمْرَةٍ وَحَبَّةِ عِنَبِ وَفَلْسٍ وَفَلْسَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا يُطْلَبُ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا يُطْلَبُ إِلَى جُمُعَةٍ، وَإِلَى شَهْرٍ وَإِلَى سَنَةٍ، وَإِلَى آخِرِ الْعُمْرِ كُلِّهِ فَلَا يَصِحُّ تَعْيِينُ حَدٍّ لَا فِي طَلَبِ الْمَالِ الْيَسِيرِ، وَلَا فِي الْبَحْثِ عَنِ الْمَالِ الْكَثِيرِ. وَالتَّنْبِيهُ الثَّانِي: رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْخَاتَمِ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى كَرَاهَةِ لُبْسِهِ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ، وَكَرِهَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّامِ الْمُتَقَدِّمِينَ لُبْسَهُ لِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَرَوَوْا فِيهِ آثَارًا وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَلْقَى خَاتَمَهُ أَلْقَى النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ إِلَى آخِرِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(باب ما جاء في تختم رسول الله صلى الله عليه وسلم)

مَنْ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ، وَلَوْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ، فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، أُجِيبُ بِأَنَّ الَّذِي نُسِخَ مِنْهُ لُبْسُ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ لُبْسُ الْخَاتَمِ الْمَنْقُوشِ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ لُبْسَ الْخَاتَمِ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ، خِلَافُ الْأَوْلَى ; لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَالْأَلْيَقُ بِحَالِ الرِّجَالِ خِلَافُهُ أَيْ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَتَكُونُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَوَازِ هِيَ الصَّارِفَةُ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْخَبَرِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الزِّينَةِ وَالْخَاتَمِ، وَيُحْمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّلْطَانِ مَنْ لَهُ سَلْطَنَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ عَلَيْهِ لَا السُّلْطَانُ الْأَكْبَرُ خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ بِالْخَاتَمِ مَا يَخْتِمُ بِهِ فَيَكُونُ لُبْسُهُ عَبَثًا لِمَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ بِهِ وَأَمَّا مَنْ لَبِسَ الْخَاتَمَ الَّذِي لَا يُخْتَمُ بِهِ وَكَانَ مِنَ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ حَالُ مَنْ لَبِسَهُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ صِفَةِ نَقْشِ خَوَاتِيمِ بَعْضِ مَنْ كَانَ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِصِفَةِ مَا يُخْتَمُ بِهِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِمَّنْ لَبِسَهُ أَنَّهُ مَا بَلَغَهُ النَّهْيُ عَنِ الزِّينَةِ وَالْخَاتَمِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْعُمُومُ وَمِعْيَارَهُ الِاسْتِثْنَاءُ السَّابِقُ أَوْ مَا صَحَّ النَّهْيُ عِنْدَهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ فَضَعَّفَهُ، وَقَالَ: سَأَلَ صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: الْبَسِ الْخَاتَمَ وَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنِّي قَدْ أَفْتَيْتُكَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالتَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ نَقْشِ الْخَاتَمِ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الْأَخْيَارِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ عَلِيٍّ: «لِلَّهِ الْمُلْكُ» وَنَقْشَ خَاتَمِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ: «الْعِزَّةُ لِلَّهِ» ، وَنَقْشَ خَاتَمِ النَّخَعِيِّ: «الثِّقَةُ بِاللَّهِ» ، وَنَقْشَ خَاتَمِ مَسْرُوقٍ: «بِسْمِ اللَّهِ» ، وَصَحَّ عَنِ الْحَسَنَيْنِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا بَأْسَ بِنَقْشِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الْخَاتَمِ. أَقُولُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ الْمُحْتَرَمُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَرَاهَتُهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ فِي خَاتَمِهِ حَسْبِيَ اللَّهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لَمْ تَثْبُتْ عَنْهُ. أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ وَيَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ تَعَارَضَ فِيهِمَا الدَّلِيلَانِ، وَيُمْكِنُ تَأْخِيرُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، قَالَ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ حَيْثُ يُخَافُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ لِلْجُنُبِ وَنَحْوِهِ أَوِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْكَفِّ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَالْجَوَازَ حَيْثُ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِذَاتِهَا، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا يَعْرِضُ لِذَلِكَ، وَإِذَا جَازَ نَقْشُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَاتَمِ، فَبِالْأَوْلَى جَوَازُ نَقْشِ اسْمِ الشَّخْصِ وَأَبِيهِ قُلْتُ: هَذَا لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ كَرَاهَتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَذَا أَخْرَجَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَقَشَ اسْمَهُ عَلَى خَاتَمِهِ، وَكَذَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مِنْ شَأْنِ الْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ نَقْشُ أَسْمَائِهِمْ فِي خَوَاتِيمِهِمْ، أَقُولُ: وَفِي مَعْنَاهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى مِثْقَالٍ، لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ بَلْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِلَابِسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ، فَطَرَحَهُ. وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ قَالَ مِنْ وَرِقٍ، وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا. لَكِنْ رَجَّحَ الْآخَرُونَ الْجَوَازَ مِنْهُمُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَإِنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ عَلَى التَّنْزِيهِ، عَلَى أَنَّ النَّوَوِيَّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ضَعَّفَهُ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ صَاحِبِ الْإِبَانَةِ كَرَاهَةَ الْخَاتَمِ الْمُتَّخَذِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَأَى خَاتَمًا مِنْ صُفْرٍ، فَقَالَ: مَا لِي أَجِدُ رِيحَ الْأَصْنَامِ، فَطَرَحَهُ ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَى عَلَيْهِ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ. وَعَنِ الْمُتَوَلِّي لَا يُكْرَهُ وَاخْتَارَهُ فِيهِ وَصَحَّحَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ «اطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ كَانَ خَاتَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ، قَالَ: وَالْحَدِيثُ فِي النَّهْيِ ضَعِيفٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَى تَضْعِيفِهِ بِأَنَّ لَهُ شَوَاهِدَ عِدَّةً إِنْ لَمْ تُرَقِّهِ إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ، لَمْ تَدَعْهُ يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، أَقُولُ: وَيُحْمَلُ حَدِيثُ: «كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ حَدِيدٍ» ، وَقَوْلُهُ: «اطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» عَلَى مَا قَبْلَ النَّهْيِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ لَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّلَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ لُبْسُهُ، وَقَدْ صَرَّحَ قَاضِي خَانَ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَخَتَّمُ الرَّجُلُ إِلَّا بِالْفِضَّةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُتَخَتَّمُ بِالذَّهَبِ، فَلِلْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، وَأَمَّا التَّخَتُّمُ بِالْحَدِيدِ فَلِأَنَّهُ خَاتَمُ أَهْلِ النَّارِ، وَكَذَا الصُّفْرُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخَتُّمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

أَيْ فِي كَيْفِيَّةِ لُبْسِهِ الْخَاتَمَ، وَالْبَابُ السَّابِقُ قُصِدَ فِيهِ بَيَانُ نَقْشِ الْخَاتَمِ، فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ: لَوْ جَعَلَ كِلَا الْبَابَيْنِ بَابًا وَاحِدًا لَكَانَ أَوْلَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَابٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يُنَافِي ذِكْرُهُ تَخَتُّمَهُ فِي يَسَارِهِ لِمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ مِيرَكُ: فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ كَانَ يُرَجِّحُ رِوَايَاتِ تَخَتُّمِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَخَتُّمِهِ فِي الْيَسَارِ، فَلِذَا لَمْ يُخَرِّجْ فِي الْبَابِ حَدِيثًا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَتَّمَ فِي يَسَارِهِ، بَلْ قَالَ فِي جَامِعِهِ: رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ قَتَادَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَتَّمَ فِي يَسَارِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ ; وَلِذَا رَجَّحَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرُهَا صِحَاحٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فِي يَمِينِهِ، فَصُّهُ حَبَشِيٌّ، وَعَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَعِنْدَ الْبَزَّارِ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَهُ أَيْضًا بِسَنَدٍ لَيِّنٍ وَعَنْ أُبَيٍّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَفِي غَرَائِبِ مَالِكٍ بِسَنَدٍ سَاقِطٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، لَكِنْ فِيهِ جُوَيْرِيَةُ وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَالَ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، هَكَذَا وَقَعَ عَلَى الشَّكِّ وَجُوَيْرِيَةُ هُوَ الرَّاوِي عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالشَّكُّ مِنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ هَكَذَا، حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَقَالَ: قَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ كِلَاهُمَا عَنْ جُوَيْرِيَةَ، وَجَزَمَا بِأَنَّهُ لَبِسَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ يَعْنِي فِي الْجَامِعِ وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: «صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَتَخَتَّمَ بِهِ فِي يَمِينِهِ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ اتَّخَذْتُ هَذَا الْخَاتَمَ فِي يَمِينِي ثُمَّ نَبَذَهُ» الْحَدِيثَ، انْتَهَى. قُلْتُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لُبْسَهُ فِي يَمِينِهِ أَيْضًا مَنْسُوخٌ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَصَدَ الزِّينَةَ، وَلُبْسُ الْخَاتَمِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً كَانَ يُنَاسِبُ الْيَمِينَ، وَلَمَّا نَهَى عَنْهُ ثُمَّ أُمِرَ لَهُ بِلَبْسِهِ لِلْحَاجَةِ جَعَلَهُ فِي يَسَارِهِ، بَلْ جَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ احْتِرَازًا عَنِ الزِّينَةِ، بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَ ; وَلِذَا قَالَ شَارِحُ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيُتَخَتَّمُ فِي خِنْصَرِ الْيَسَارِ، أَيْ فِي زَمَانِنَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلْهَا فِي يَمِينِكَ، كَانَ ذَلِكَ فِي بِدْءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ أَهْلِ الْبَغْيِ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصَرِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى، أَمَّا اخْتِيَارُ الْيُسْرَى فَلِجَبْرِ نُقْصَانِهَا وَلِحِرْمَانِهَا عَنِ الْأَفْعَالِ الْفَاضِلَةِ ; وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ، لِقِلَّةِ حَرَكَاتِهَا الظَّاهِرَةِ، وَتَخْصِيصُ الْخِنْصَرِ لِضَعْفِهَا، وَجَبْرِ نُقْصَانِهَا، قُلْتُ: وَلِكَوْنِهَا أَصْغَرَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخَاتَمِ الْأَكْبَرِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّخَتُّمِ فِي هَذِهِ، فَأَوْمَأَ إِلَى الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةِ، ذَكَرَهُ فِي الْمَصَابِيحِ، وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَلْقَةُ الْخَاتَمِ وَفَصُّهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَلِيَكُنِ الْخَاتَمُ أَقَلَّ مِنْ مِثْقَالٍ، وَيَكُونُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ ; لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنِ السَّرَفِ وَأَقْرَبَ إِلَى التَّوَاضُعِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ جَاءَ التَّخَتُّمُ فِي الْيَسَارِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: «كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يَسَارِهِ» ، لَكِنْ فِي سَنَدِهِ لِينٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا، وَقَدْ جَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ، وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي التَّخَتُّمِ فِي الْيَسَارِ، بِأَنَّ الَّذِي لَبِسَهُ فِي يَمِينِهِ كَانَ هُوَ خَاتَمُ الذَّهَبِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَعْنِي الَّذِي تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالَّذِي فِي يَسَارِهِ هُوَ خَاتَمُ الْفِضَّةِ، أَقُولُ: وَيُشْكِلُ هَذَا بِالْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَبِسَهُ فِي يَمِينِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ حَوَّلَهُ إِلَى يَسَارِهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَتَّمَ فِي يَمِينِهِ ثُمَّ أَنَّهُ حُوِّلَ فِي يَسَارِهِ، وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: طَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ الذَّهَبِ، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَجَعَلَهُ فِي يَسَارِهِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضِلٌ، قُلْتُ: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْمُعْضِلُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُؤَيِّدًا وَمُقَوِّيًا لِلْحَدِيثِ الَّذِي سَنَدُهُ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَقَدْ جَمَعَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ تَخَتَّمَ أَوَّلًا فِي يَمِينِهِ، ثُمَّ تَخَتَّمَ فِي يَسَارِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ، وَجَوَازِهِ فِي الْيَسَارِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَاخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، فَتَخَتَّمَ كَثِيرُونَ مِنَ السَّلَفِ فِي الْيَمِينِ، وَكَثِيرُونَ فِي الْيَسَارِ، وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ الْيَسَارَ، وَكَرِهَ الْيَمِينَ، وَفِي مَذْهَبِنَا وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْيَمِينَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَالْيَمِينُ أَشْرَفُ، وَأَخَصُّ بِالزِّينَةِ وَالْكَرَامَةِ انْتَهَى.

وَفِيهِ: إِنَّ الزِّينَةَ هِيَ سَبَبُ الْكَرَاهَةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَصْدِ، فَإِنْ كَانَ لُبْسُهُ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ، فَالْيَمِينُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّخَتُّمِ بِهِ فَالْيَسَارُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَكُونُ كَالْمُودَعِ فِيهَا، وَيَحْصُلُ تَنَاوُلُهُ مِنْهَا بِالْيَمِينِ، وَكَذَا وَضْعُهُ فِيهَا وَيَتَرَجَّحُ التَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ مُطْلَقًا، بِأَنَّ الْيَسَارَ آلَةُ الِاسْتِنْجَاءِ، فَيُصَانُ الْخَاتَمُ إِذَا كَانَ فِي الْيَمِينِ، عَنْ أَنْ تُصِيبَهُ النَّجَاسَةُ، قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ نَقْشِ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وَجُودِهِ، يُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهُ عَنْ يَدِهِ، فَلَا يُوجَدُ تَرَجُّحٌ، قَالَ: وَيَتَرَجَّحُ التَّخَتُّمُ فِي الْيَسَارِ، بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّنَاوُلِ، وَجَنَحَتْ طَائِفَةٌ إِلَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ، وَجَمَعُوا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ بِذَلِكَ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ حَيْثُ تَرْجَمَ بَابَ التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ تَرْجِيحٍ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ الْبَغْدَادِيُّ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ فِي الدَّالِ الثَّانِي عَلَى مَا فِي النُّسَخِ، وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَتَقَدَّمَ جَوَازُ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) تَقَدَّمَ (قَالَا) أَيْ سَهْلٌ وَعَبْدُ اللَّهِ (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ وَتَقَدَّمَ، وَجْهُهُمَا أَنَّهُ فِعَالٌ أَوْ فِعْلَانٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ (أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) بِفَتْحِ نُونٍ وَكَسْرِ مِيمٍ آخِرُهُ رَاءٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ جَدَّهُ تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي وَقَدْ سَبَقَ تَرْجَمَتُهُمَا (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ (عَنْ أَبِيهِ) أَخْرَجَ حَدِيثَهُمَا السِّتَّةُ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنَ اللُّبْسِ بِضَمِّ اللَّامِ (خَاتَمَهُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ (فِي يَمِينِهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلِأَنَّ التَّخَتُّمَ فِيهِ نَوْعُ تَشَرُّفٍ وَزِينَةٍ، وَالْيَمِينُ بِهِمَا أَوْلَى خِلَافًا لِمَالِكٍ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، قُلْتُ: وَهُوَ مَذْهَبُنَا الْمُخْتَارُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآثَارِ فَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَبْرَارِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ) رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ نَحْوَهُ) قَالَ مِيرَكُ: أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ انْتَهَى. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لُبْسَهُ فِي يَسَارِهِ أَحْيَانًا كَانَ

لِبَيَانِ الْجَوَازِ، لَكِنِ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ خَاتَمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ وَأَشَارَ لِخِنْصَرِ يُسْرَاهُ، وَبِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: التَّخَتُّمُ فِيهَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِأَنَّ خَبَرَ الْمُصَنِّفِ الْآتِي عَنْ جَابِرٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَخَبَرُ: «قَبْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَاتَمُ فِي يَمِينِهِ» مَتْرُوكٌ، وَخَبَرُ الْبَزَّارِ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ، وَقُبِضَ وَالْخَاتَمُ فِي يَمِينِهِ فِيهِ كَذِبٌ، وَيَقُولُ الْحَافِظُ بْنُ رَجَبٍ: وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنْ تَخَتُّمَهُ فِي يَسَارِهِ هُوَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَنَّ وَكِيعًا قَالَ: التَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ، لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَأَمَّا مَا أَجَابَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ هَذَا بِأَنَّ حَدِيثَ التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْمُصَنِّفُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ: هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ، فَلَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (تَنْبِيهٌ) وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ حَاجَةً أَوْثَقَ فِي خَاتَمِهِ خَيْطًا، وَرَوَى أَبُو يَعْلَى كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَشْفَقَ مِنَ الْحَاجَةِ أَنْ يَنْسَاهَا رَبَطَ فِي إِصْبَعِهِ خَيْطًا لِيَذْكُرَهَا، لَكِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي رَافِعٍ) اسْمُهُ: عَبْدُ اللَّهِ شَيْخٌ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ رَوَى عَنْهُ الْأَرْبَعَةُ (يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ) حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ رَأَيْتُ (فَسَأَلْتُهُ) أَيِ ابْنَ أَبِي رَافِعٍ (عَنْ ذَلِكَ) أَيْ سَبَبِهِ (فَقَالَ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ) أَيِ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيَّ أَحَدُ الْأَجْوَادِ وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَلَهُ صُحْبَةٌ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) بِالنُّونِ وَالْمِيمِ مُصَغَّرًا (أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ) لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى تَرْجَمَتِهِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ) بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ وَمَرَّ ذِكْرُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ) قَالَ مِيرَكُ: أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا، وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَامِعِ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيِ التَّخَتُّمُ بِالْيَمِينِ. (حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مُهْمَلَةٍ (زِيَادُ) بِكَسْرِ زَايٍ وَتَخْفِيفِ تَحْتِيَّةٍ (بْنُ يَحْيَى) أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ) ضَعِيفٌ بِالِاتِّفَاقِ (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ الصَّادِقِ لُقِّبَ بِهِ لِكَمَالِ صِدْقِهِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَمُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، أُمُّهُ فَرْوَةُ بِنْتُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمُلَقَّبُ بِالْبَاقِرِ ; لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْمَ أَيْ شَقَّهُ وَعَلِمَ أَصْلَهُ وَفَرْعَهُ وَجَلِيَّهُ وَخَفِيَّهُ، وَأُمُّهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ سَمِعَ جَابِرًا وَأَنَسًا وَرَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ) قَالَ السَّيِّدُ

أَصِيلُ الدِّينِ: قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ لِينٌ، أَقُولُ: وَجْهُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَيْمُونٍ تَكَلَّمَ فِيهِ، وَذَكَرَ مِيرَكُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: ذَاهِبُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَاهِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَتْرُوكٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا انْفَرَدَ بِهِ، أَقُولُ لِلْحَدِيثِ شَوَاهِدُ كَمَا تَرَى فَقَوَّى بِذَلِكَ رِوَايَتَهُ، وَخَرَجَتْ عَنْ حَدِّ نَكَارَتِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (الرَّازِيُّ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (جَرِيرٌ) بِفَتْحِ جِيمٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى بَعْدَهُ تَحْتِيَّةٌ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ) سَبَقَ ذِكْرُهُمْ (عَنِ الصَّلْتِ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ لَامٍ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ نَوْفَلِ بْنِ حَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ (قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ وَلَا إِخَالُهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي أَكْثَرِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَالْفَتْحُ الْقِيَاسُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَقِيلَ الثَّانِي هُوَ الْأَفْصَحُ وَفِي الْقَامُوسِ الْفَتْحُ لُغَيَّةٌ، وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِحَالٍ أَيْ لَا أَظُنُّهُ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ الصَّلْتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ مِمَّنْ قَبْلَهُ، وَلَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ (إِلَّا قَالَ أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ) قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مُخْتَصَرًا وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى الصَّلْتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَاتَمًا فِي خِنْصَرِهِ الْيُمْنَى، فَقَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ (عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى) أَيِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيِّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ) أَيْ لِلْخَتْمِ بِهِ (وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ) أَيْ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ، فَيَجُوزُ جَعْلُ فَصِّهِ فِي بَاطِنِ الْكَفِّ وَظَاهِرِهَا، وَقَدْ عَمِلَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ وَمِمَّنِ اتَّخَذَهَا فِي ظَاهِرِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالُوا: وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْأَوَّلُ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ لِفَصِّهِ وَأَسْلَمُ وَأَبْعَدُ مِنَ الزَّهْوِ وَالْإِعْجَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (وَنَقَشَ فِيهِ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ الْمُؤَوَّلَةِ بِالْمُفْرَدِ مَنْصُوبٌ عَلَى

الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أَمَرَ بِنَقْشِهِ فِيهِ وَإِنْ قُرِئَ مَجْهُولًا فَوَجْهُهُ مَعْلُومٌ (وَنَهَى) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنْ يَنْقُشَ) بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ يَحُكَّ (أَحَدٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى خَاتَمِهِ أَوْ مِثْلَ نَقْشِهِ وَلَعَلَّ سِرَّ النَّهْيِ أَنْ لَا يَلْتَبِسَ أَمْرُ الْخَاتَمِ، وَقَدْ رَاعَى الْخُلَفَاءُ ظَاهِرَ النَّهْيِ، فَلَمْ يَنْقُشُوا خَاتَمًا آخَرَ وَاسْتَعْمَلُوهُ حَتَّى فُقِدَ (وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّتَيْنِ وَقَافٍ مَكْسُورَةٍ بَيْنَهُمَا، وَمُوَحَّدَةٌ فِي آخِرِهَا وَهُوَ ابْنُ أَبِي فَاطِمَةَ الدَّوْسِيُّ بَدْرِيٌّ ابْتُلِيَ بِالْجُذَامِ فَعُولِجَ مِنْهُ، بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْحَنْظَلِ، فَتَوَقَّفَ أَمْرُهُ وَهُوَ مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ مُعَيْقِيبَ غُلَامَ عُثْمَانَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ (فِي بِئْرِ أَرِيسَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا اتَّخَذَ خَاتَمًا وَنَقَشَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقَرَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ خُصُوصِيَّةً لِمُعَاذٍ، وَقَالَ الْعِصَامُ: فَإِنْ قُلْتَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّخَذَ خَاتَمًا نَقَشَ فِيهِ «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ قَالَ: آمَنُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مُعَاذٍ حَتَّى خَاتَمَهُ، ثُمَّ أَخَذَ ذَلِكَ الْخَاتَمَ مِنْ مُعَاذٍ فَكَانَ فِي يَدِهِ. رَوَاهُ الدَّمِيرِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِلنَّوَوِيِّ، قُلْتُ: لَعَلَّ النَّهْيَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ الِاتِّخَاذَ لِعَدَمِ بُلُوغِ النَّهْيِ إِيَّاهُ انْتَهَى. قَالَ مِيرَكُ: أَوْ حُمِلَ النَّهْيُ عَلَى التَّنْزِيهِ انْتَهَى. فَمَا رُوِيَ مِنْ أَخْذِ الْخَاتَمِ مِنْ مُعَاذٍ يَدْفَعُ قَوْلَ الْخُصُوصِيَّةِ بِهِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعْدٍ أَنْبَأَنَا حَاتِمُ) بِمُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ فَوْقِيَّةٍ (بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) هُوَ الصَّادِقُ بْنُ الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتَخَتَّمَانِ فِي يَسَارِهِمَا) اتِّبَاعًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ فَعَلَهُ فِي أَكْثَرِ

الْأَحْيَانِ أَوْ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، أَوْ لِبُعْدِهِ عَنْ قَصْدِ الزِّينَةِ عَلَى تَقْدِيرٍ تَسَاوِي فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ لَمْ يَرَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ الْأَحْيَانِ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ لَمْ يَفْعَلَاهُ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِعُنْوَانِ الْبَابِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَرَ الْحَسَنَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَتَخَتَّمُونَ فِي الْيَسَارِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْآدَابِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهٌ لِلْفَصْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ وَهُمَا فِي التَّخَتُّمِ بِالْيَمِينِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ الطَّبَّاعِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْحَكَّاكِ وَنَقَّاشِ الْخَاتَمِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّعْلِيقِ وَالْأَرْبَعَةُ (حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْوَاوِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَتَّمَ فِي يَمِينِهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَتَّمَ فِي يَسَارِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ أَيْضًا أَيْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِلَّا فَقَدْ صَحَّ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى التَّخَتُّمُ فِيهِمَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، حَيْثُ جَعَلَ قَوْلَهُ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا مِنْ مَتْنِ الشَّمَائِلِ، قَالَ مِيرَكُ: بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِهِ فِي الْجَامِعِ أَقُولُ: قَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصَرِ الْيُسْرَى، وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ: كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (الْمُحَارِبِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِمُهْمَلَةٍ، وَكَسْرِ رَاءٍ وَمُوَحَّدَةِ نِسْبَةً لِبَنِي مُحَارِبٍ قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَفِي نُسْخَةٍ: زِيَادَةُ الْكُوفِيِّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ زَايٍ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) مَرَّ ذِكْرُهُ (عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ) قَالَ مِيرَكُ: زَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: (فَكَانَ يَلْبَسُهُ فِي يَمِينِهِ) أَيْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ جُوَيْرِيَةُ وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَالَ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى (فَاتَّخَذَ النَّاسُ) أَيِ الذُّكُورُ مِنْهُمْ أَوِ الْكُلُّ، ثُمَّ نُسِخَ وَأُبِيحَ لِلنِّسَاءِ (خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَطَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ لِلْوَحْيِ بِتَحْرِيمِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ تَعْقِيبِيَّةٌ، وَجَعَلَهَا الْعِصَامُ تَفْرِيعِيَّةً، حَيْثُ قَالَ: تَفْرِيعٌ لِلطَّرْحِ عَلَى اتِّخَاذِ النَّاسِ دُونَ لُبْسِهِمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا صَارَ مَنْهِيًّا هُوَ اتِّخَاذُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ اللُّبْسِ، حَيْثُ كُرِهَ اتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّاسَ اتَّخَذُوهَا لِلُّبْسِ أَوِ

اتَّخَذُوهَا وَلَبِسُوهَا وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّرْحَ قَبْلَ لُبْسِهِمْ مَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ اتِّخَاذِ خَاتَمِ الذَّهَبِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ إِجْمَاعًا، وَقَدْ طَرَحَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَالَ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا) وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ لُبْسُهُ، وَأَمَّا جَعْلُ نَفْيِ اللُّبْسِ كِنَايَةً عَنْ كَرَاهِيَةِ الِاتِّخَاذِ، فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ كَرَاهَةُ اللُّبْسِ، وَعَلَى أَنَّهُمْ لَبِسُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ، قَوْلُهُ: (فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) أَيْ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَالْخَوَاتِيمُ جَمْعُ خَاتَمٍ كَالْخَوَاتِمِ وَالْيَاءُ فِيهَا لِلْإِشْبَاعِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا هُوَ النَّاسِخُ لِحِلِّهِ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ أَخَذَ ذَهَبًا فِي يَدٍ وَحَرِيرًا فِي يَدٍ، وَقَالَ: هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهَا. وَوَقَعَ لِبَعْضِ مَنْ لَا إِلْمَامَ لَهُ بِالْفِقْهِ هُنَا تَخْلِيطٌ فَاجْتَنِبْهُ، كَيْفَ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَرَخَّصَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ خَمْسَةً مِنَ الصَّحَابَةِ مَاتُوا وَخَوَاتِيمُهُمْ مِنْ ذَهَبٍ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ صَحَّ عَنْهُمْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهْيُ عَنْهُ انْتَهَى. قَالَ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ: تَبَدَّلَ الْحُكْمُ فِيهِمَا اتِّخَاذُ خَاتَمِ الذَّهَبِ، تَبَدَّلَ جَوَازُهُ بِالِامْتِنَاعِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَاللُّبْسِ فِي الْيَمِينِ تَبَدَّلَ بِاللُّبْسِ فِي الْيَسَارِ، وَتَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُنَافِي مَا قَالَ النَّوَوِيُّ: مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ التَّخَتُّمِ فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ، وَلَبِسُوهَا فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَهُ، وَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ، مَعَ جَوَازِ لُبْسِهِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَجْهَهُ هُوَ أَنْ لَا يَلْبَسَ أَحَدٌ مِمَّنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ بِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَلَمَّا رَآهُمُ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ، فَرَقَى الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ اصْطَنَعْتُهُ، وَإِنِّي لَا أَلْبَسُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ فَرَمَى بِهِ فَلَا يُدْرَى مَا فَعَلَ، قَالَ: وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مِنْ ذَهَبٍ، وَصَادَفَ وَقْتَ تَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِخَاتَمِ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْحَلْقَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا بَأْسَ، بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ عَلَى الْخَاتَمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ لُبْسَ خَاتَمِ الذَّهَبِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، لَا تَحْرِيمٍ، فَقَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، لَيْسَ بِسَدِيدٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ بِالنَّاسِ الْجُمْهُورَ، أَوْ يُقَالَ: انْقَرَضَ قَرْنُ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَصُهَيْبٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ، وَحُذَيْفَةَ وَأَبِي أَسِيدٍ، كَانُوا يَجْعَلُونَ خَوَاتِيمَهُمْ مِنْ ذَهَبٍ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَاسْتَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الْبَرَاءِ الَّذِي رَوَى النَّهْيَ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى جَابِرٍ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَخْرَجَ الْبَغَوِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوَهُ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ رَأَيْتُ عَلَى الْبَرَاءِ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَأَلْبَسَنِيهِ، فَقَالَ: الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ الْحَازِمِيُّ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ، وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مَنْسُوخٌ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَوْ ثَبَتَ النَّسْخُ عِنْدَ الْبَرَاءِ مَا لَبِسَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ النَّهْيِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْهُ، وَهُوَ حَدِيثُ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: «نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ» فَالْجَمْعُ بَيْنَ رِوَايَتِهِ وَفِعْلِهِ، إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ، أَوْ فَهِمَ الْخُصُوصِيَّةَ مِنْ قَوْلِهِ الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ، لَعَلَّ الْبَرَاءَ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ كَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ لِلْبَرَاءِ: لِمَ تَتَخَتَّمُ بِالذَّهَبِ وَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

(باب ما جاء في صفة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم)

فَيَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تَأْمُرُونِي أَنْ أَضَعَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الصِّفَةُ الْوَصْفُ وَالْكَشْفُ وَالتَّبْيِينُ، وَبُدِأَ فِي آلَاتِ الْحَرْبِ بِالسَّيْفِ. لِأَنَّهُ أَنْفَعُهَا وَأَيْسَرُهَا وَأَغْلَبُهَا اسْتِعْمَالًا وَأُرْدِفَ بَابُ الْخَاتَمِ بِبَابِ السَّيْفِ ; لِمَا عُلِمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ الْخَاتَمَ لِيَخْتِمَ بِهِ رَسَائِلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلًا، فَلَمَّا امْتَنَعُوا حَارَبَهُمْ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) مَرَّ ذِكْرُهُمَا (أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِضَّةٍ) أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْقَبِيعَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، مَا عَلَى رَأْسِ قَائِمِ السَّيْفِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا تَحْتَ شَارِبَيِ السَّيْفِ مِمَّا يَكُونُ فَوْقَ الْغِمْدِ، فَيَجِئُ مَعَ قَائِمِ السَّيْفِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ السَّيْفِ وَسَائِرِ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْفِضَّةِ، وَأَمَّا التَّحْلِيَةُ بِالذَّهَبِ فَغَيْرُ مُبَاحٍ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْلِيَةِ اللِّجَامِ وَالسَّرْجِ فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ كَالسَّيْفِ وَحَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ زِينَةِ الدَّابَّةِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْلِيَةِ سِكِّينِ الْحَرْبِ وَالْمِقْلَمَةِ، بِقَلِيلٍ مِنَ الْفِضَّةِ انْتَهَى، قَالَ مِيرَكُ: وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَبِيعَتَهُ كَانَتْ فِضَّةً فَقَطْ، لَكِنْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَبِيعَتُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَإِذَا حَلَقَتُهُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْحَمَائِلُ مِنْ فِضَّةٍ، قَالَ: فَسَلَلْتُهُ فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ كَانَ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ السَّهْمِيِّ، أَصَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ نَعْلُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِلَقُهُ وَقِبَاعُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ نَعْلُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِضَّةً، وَقَبِيعَتُهُ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ حِلَقُ فِضَّةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَاصِلُ أَنَّ الذَّهَبَ لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ مُطْلَقًا لَا اسْتِعْمَالًا وَلَا اتِّخَاذًا وَلَا تَضْبِيبًا وَلَا تَمْوِيهًا، لَا لِآلَةِ الْحَرْبِ وَلَا لِغَيْرِهَا، وَكَذَا الْفِضَّةُ إِلَّا فِي التَّضْبِيبِ وَالْخَاتَمِ وَتَحْلِيَةِ آلَةِ الْحَرْبِ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، مِنْ حِلِّ

التَّمْوِيهِ تَارَةً، وَحُرْمَتِهِ أُخْرَى، مَحْمُولٌ عَلَى تَفْصِيلٍ عُلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ مِنْ ذَلِكَ الْمُمَوَّهِ حُرِّمَتِ اسْتَدَامَتُهُ، كَابْتِدَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ حَرُمَ الِابْتِدَاءُ فَقَطْ، أَمَّا نَفْسُ التَّمْوِيهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ، وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ وَالتَّسَبُّبُ فِيهِ فَحَرَامٌ مُطْلَقًا، وَيَتَأَتَّى هَذَا التَّفْصِيلُ فِي تَمْوِيهِ الرِّجَالِ الْخَاتَمَ وَآلَةَ الْحَرْبِ بِالذَّهَبِ، وَقَالَ قَاضِي خَانَ: يُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالِادِّهَانُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَذَا الْمَجَامِرُ وَالْمَكَاحِلُ وَالْمَدَاهِنُ، كَذَا الِاكْتِحَالُ بِمَيْلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَذَا السُّرُرُ وَالْكَرَاسِيُّ إِذَا كَانَتْ مُفَضَّضَةً أَوْ مُذَهَّبَةً، وَكَذَا السَّرْجُ إِذَا كَانَ مُفَضَّضًا أَوْ مُذَهَّبًا، كَذَا اللِّجَامُ وَالرِّكَابُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْمُصْحَفَ مُفَضَّضًا أَوْ مُذَهَّبًا، وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمِنْطَقَةِ وَالسِّلَاحِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَيُكْرَهُ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ يَخْلُصُ مِنْهُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمَّا التَّمْوِيهُ الَّذِي لَا يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَلَا بَأْسَ بِمَسَامِيرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: حَدَّثَنِي (أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ) أَخِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ لَكِنْ يَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ (قَالَ: كَانَتْ) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَ (قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِضَّةٍ. (حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ صُدْرَانَ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ أُخْرَى (الْبَصْرِيُّ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا (أَخْبَرَنَا طَالِبُ بْنُ حُجَيْرٍ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ آخِرُهُ رَاءٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ هُودٍ) بِالتَّنْوِينِ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ أَيِ الْعَبْدِيُّ) قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: كَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ الْمَقْرُؤَةِ، وَصَوَابُهُ سَعْدٌ بِغَيْرِ يَاءٍ انْتَهَى. أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ لِأُمِّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَهُوَ مَزْيَدَةُ بْنُ جَابِرٍ أَوِ ابْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ (الْعَصْرِيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْعَبْدِيُّ ابْنُ عَبْدِ قِيسٍ صَحَابِيٌّ قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: وَكَانَ مِنَ الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَنَزَلْتُ قَبَّلْتُ يَدَهُ، وَمَزْيَدَةُ ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَهُمُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ: مَزِيدَةُ بِوَزْنِ كَبِيرَةٍ (قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ) أَيْ فَتْحِهَا (وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ) لَا يُعَارِضُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ حُرْمَتِهِ بِالذَّهَبِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ الْجَوَابُ بِأَنَّ هَذَا قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ ; لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ عَلَى مَا نُقِلَ، وَلَعَلَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ أَنَّهُ كَانَتْ فِضَّتُهُ مُمَوَّهَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ لَهُ سُيُوفٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ السَّابِقَ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَيْثُ مَا سُؤَالُ الرَّاوِي عَنِ الذَّهَبِ (قَالَ طَالِبٌ: فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفِضَّةِ) أَيِ الْمُمَوَّهَةِ (فَقَالَ: كَانَتْ قَبِيعَةُ السَّيْفِ فِضَّةً) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ وَجَدُّ هُودٍ مَزْيَدَةُ الْعَصْرِيُّ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، إِذْ لَيْسَ لَهُ سَنَدٌ يُعْتَمَدُ بِهِ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الِاسْتِيعَابِ فِي تَرْجَمَةِ مَزْيَدَةَ الْعَبْدِيِّ، وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لَا حَسَنٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ

(باب ما جاء في صفة درع رسول الله صلى الله عليه وسلم)

الرَّازِيُّ: هَذَا مُنْكَرٌ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: صَدَقَ ابْنُ الْقَطَّانِ، هَذَا وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفَّلَ سَيْفًا لِنَفْسِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، يُقَالُ لَهُ ذُو الْفِقَارِ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلَهُ وَزَادَ فَأَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سِلَاحِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ: سَيْفٌ قَلْعِيٌّ، وَسَيْفٌ بَتَّارٌ، وَسَيْفٌ يُدْعَى الْحَتْفَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ) بِضَمِّ الشِّينِ وَقِيلَ: إِنَّهُ مُثَلَّثَةٌ (الْبَغْدَادِيُّ) بِالْمُهْمَلَتَيْنِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ) أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ) ضَعِيفٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنِ ابْنِ سِيرِينَ) لَقَبٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ (قَالَ صَنَعْتُ) مِنَ الصُّنْعِ أَيْ أَمَرْتُ بِأَنْ يُصْنَعَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ صُغْتُ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ مِنَ الصَّوْغِ وَالصِّيَاغَةِ، أَيْ أَمَرْتُ بِأَنْ يُصَاغَ (سَيْفِي عَلَى سَيْفِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) أَيِ عَلَى تَمْثَالِ سَيْفِهِ فِي الشَّكْلِ وَالْوَضْعِ، وَجَمِيعِ الْكَيْفِيَّاتِ (وَزَعَمَ سَمُرَةَ) أَيْ قَالَ أَوْ ظَنَّ (أَنَّهُ صَنَعَ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الصُّنْعِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى سَمُرَةَ، وَقَوْلُهُ: (سَيْفَهُ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ صِيغَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْيَاءِ مِنَ الصَّوْغِ، وَسَيْفُهُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَجَوَّزَ الْأَوَّلَ أَيْضًا عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَوَجْهُهُ مَعْلُومٌ (عَلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ) أَيِ الصُّنْعُ أَوِ السَّيْفُ وَأَمَّا جَعْلُ ضَمِيرِهِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُقَدَّرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ (حَنَفِيًّا) أَيْ مَنْسُوبًا إِلَى بَنِي حَنِيفَةَ قَبِيلَةُ مَسْلَمَةَ ; لِأَنَّ صَانِعَهُ مِنْهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مَصْنُوعًا لَهُمْ أَوْ مِمَّنْ يَعْمَلُ كَعَمَلِهِمْ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَيْئَةِ سُيُوفِهِمْ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَمَلِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِحُسْنِ الصَّنْعَةِ فِي اتِّخَاذِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَتَى بِهِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَنَعُوهُ، قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ، أَيْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَكَانَ سَيْفُ سَمُرَةَ حَنَفِيًّا أَوْ مِنْ كَلَامِ سَمُرَةَ أَيْ قَالَ سَمُرَةُ: وَكَانَ سَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَفِيًّا انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْسَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ فِي عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ الْكَاتِبِ وَضَعَّفَهُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (بْنُ مُكْرَمٍ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِكْرَامِ (الْبَصْرِيُّ) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ (قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أَيِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ (نَحْوَهُ) أَيْ مَعْنَى ذَلِكَ السَّنَدِ قَالَهُ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ دِرْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

أَيْ صِفَةِ لُبْسِ دِرْعِهِ بِحَذْفِ مُضَافٍ لِيُوَافِقَ حَدِيثَيِ الْبَابِ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ حَسَنٌ وَذُهِلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ فَهْمِهِ، فَقَالَ: وَهُوَ غَفْلَةٌ عَمَّا يَأْتِي فِيهِمَا، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَوَّلِهَا صِفَةُ اللُّبْسِ مُطْلَقًا انْتَهَى. وَهُوَ خَطَأٌ ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ، صِفَةُ لُبْسِهِ، وَهُوَ لُبْسُ الِاثْنَيْنِ مِنْهُ، وَالدِّرْعُ بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ثَوْبُ الْحَرْبِ مِنْ حَدِيدٍ، مُؤَنَّثٌ وَقَدْ تُذَكَّرُ، قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَةُ أَدْرُعٍ، ذَاتُ الْفُضُولِ سُمِّيَتْ لِطُولِهَا أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ حِينَ سَارَ إِلَى بَدْرٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهِيَ الَّتِي رَهَنَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَاتُ الْوِشَاحِ، وَذَاتُ الْحَوَاشِي، وَالسِّغْدِيَّةُ، وَالْفِضَّةُ، أَصَابَهُمَا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَيُقَالُ السِّغْدِيَّةُ كَانَتْ دِرْعَ دَاوُدَ الَّتِي لَبِسَهَا لِقِتَالِ جَالُوتَ، وَالْبَتْرَاءُ وَالْخِرْنَقُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ دِرْعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هِيَ يَمَانِيَّةٌ رَقِيقَةٌ ذَاتُ زَرَافِينَ، إِذَا عُلِّقَتْ بِزَرَافَتِهَا لَمْ تَمَسَّ الْأَرْضَ، فَإِذَا أُرْسِلَتْ مَسَّتِ الْأَرْضَ، وَمِنْ طَرِيقِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ كِلَاهُمَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ دِرْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا حَلْقَتَانِ مِنْ فِضَّةٍ عِنْدَ مَوْضِعِ الثَّدْيِ، أَوْ قَالَ: عِنْدَ مَوْضِعِ الصَّدْرِ، وَحَلْقَتَانِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، قَالَ: فَلَبِسَهَا فَخَطَّتِ الْأَرْضَ. (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الْكَافِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) أَخْرَجَ حَدِيثَهَ الْأَرْبَعَةُ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ عَبَّادٍ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) أَحَدُ الْعَبَادِلَةِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ مُتَأَخِّرِي الصَّحَابَةِ، عَالِمٌ زَاهِدٌ عَابِدٌ اسْتُخْلِفَ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ، وَتَابَعَهُ مَمَالِكُ الْإِسْلَامِ سِوَى الشَّامِ، صَلَبَهُ الْحَجَّاجُ (عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَلَّ السَّيْفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ مِيرَكُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مُلْحَقًا بِصَحَّ، وَحُذِفَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرُ الزُّبَيْرِ وَاقْتُصِرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُ الزُّبَيْرِ فِي الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّهُ هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَبِذِكْرِهِ يَكُونُ الْحَدِيثُ مُسْنَدًا مُتَّصِلًا، وَبِحَذْفِهِ يَكُونُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَحْضُرْ وَاقِعَةَ أُحُدٍ، كَمَا سَيَأْتِي وَبِذِكْرِ الزُّبَيْرِ يَصِحُّ قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ قَالَ: فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ بِالْفَاءِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ، بِلَا تَرَاخٍ عَنِ اسْتِوَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّخْرَةِ وَسَمَاعِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ طَلْحَةَ جَلَسَ تَحْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الْجَبَلَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ، وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ حَذْفِ الزُّبَيْرِ، يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ كَذِبًا مَحْضًا ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَحْضُرْ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ، فَإِنَّ مَوْلِدَهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَيُقَالُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ، وَوَاقِعَةُ أُحُدٍ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُحْمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الْحَذْفِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَحَذَفَهُ فِي الْإِسْنَادِ فَيَصِيرُ الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ الْكَذِبُ الْمَحْظُورُ، وَلَا التَّدْلِيسُ الْمَحْذُورُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي عَلَى مَا سَيَأْتِي (قَالَ) أَيِ الزُّبَيْرُ أَوِ ابْنُهُ نَقْلًا عَنْهُ (كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعَانِ) قَالَ مِيرَكُ: هُمَا ذَاتُ الْفُضُولِ وَالْفِضَّةُ، كَمَا رَوَاهُ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيِّ (فَنَهَضَ) كَمَنَعَ أَيْ قَامَ، وَنَهَضَ النَّبْتُ أَيِ: اسْتَوَى عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، أَيْ فَأَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ (إِلَى الصَّخْرَةِ) أَيْ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا لِيَسْتَعْلِيَهَا فَيَرَاهُ النَّاسُ فَيَعْلَمُونَ حَيَاتَهُ، وَيَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ (فَلَمْ يَسْتَطِعْ) أَيِ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الصَّخْرَةِ لِثِقَلِ دِرْعَيْهِ، أَوْ لِضَعْفٍ طَرَأَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ آلَامُ ضُرُوبٍ وَصَلَتْ إِلَيْهِ، وَكَثْرَةُ دَمٍ سَائِلٍ مِنْ رَأَسِهِ وَجَبْهَتِهِ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ حَجَرٍ رُمِيَ بِهِ، حَتَّى سَقَطَ بَيْنَ الْقَتْلَى (فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ) أَيْ أَجْلَسَهُ (تَحْتَهُ فَصَعِدَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ طَلَعَ بِإِمْدَادِهِ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اسْتَوَى) أَيْ تَمَكَّنَ وَاسْتَقَرَّ (عَلَى الصَّخْرَةِ) وَهِيَ حَجَرٌ عَظِيمٌ يَكُونُ غَالِبًا فِي سَفْحِ الْجَبَلِ (قَالَ) أَيِ الرَّاوِي (فَسَمِعْتُ) بِالْفَاءِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَعَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مِيرَكُ فِي الْقَضِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَجَعَلَ الْعِصَامُ أَصْلَهُ سَمِعْتُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي نُسْخَةٍ فَسَمِعْتُ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَوْجَبَ طَلْحَةُ) أَيْ لِنَفْسِهِ الْجَنَّةَ أَوِ الشَّفَاعَةَ أَوِ الْمَثُوبَةَ الْعَظِيمَةَ بِفِعْلِهِ هَذَا، أَوْ بِمَا فَعَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَيْثُ جَعَلَ نَفْسَهُ فِدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى شُلَّتْ يَدُهُ وَجُرِحَ بِبِضْعٍ وَثَمَانِينَ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ) بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ فَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) حَضَرَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ) أَيْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (دِرْعَانِ قَدْ ظَاهَرَ بَيْنَهُمَا) أَيْ أَوْقَعَ الْمُظَاهَرَةَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَبِسَ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهُ مِنَ التَّظَاهُرِ بِمَعْنَى التَّعَاوُنِ، قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَفِي الصِّحَاحِ: الظِّهَارَةُ خِلَافُ الْبِطَانَةِ، وَظَاهَرَ بَيْنَ ثَوْبَيْنِ أَيْ طَارَقَ بَيْنَهُمَا وَطَابَقَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَبِسَ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى، حَتَّى صَارَتْ كَالظِّهَارَةِ لَهَا اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْحَرْبِ، وَتَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وَأَخْذًا لِلْحَذَرِ مِنَ الْحَذَرِ، وَفِرَارًا مِنَ الْقَضَاءِ إِلَى الْقَدْرِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ الْحَزْمَ وَالتَّوَقِّيَ مِنَ الْأَعْدَاءِ لَا يُنَافِي

(باب ما جاء في صفة مغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم)

التَّوَكُّلَ وَالتَّسْلِيمَ وَالرِّضَا، وَاحْتَرَزَ بِظَاهِرٍ عَمَّا يُتَوَهَّمُ عِنْدَ حَذْفِهِ مِنْ صِدْقِهِ بِلُبْسِ وَاحِدٍ إِلَى وَسَطِهِ، وَآخَرَ مِنْ وَسَطِهِ إِلَى رِجْلَيْهِ، كَالسَّرَاوِيلِ قَالَ مِيرَكُ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ السَّائِبَ هَذَا لَمْ يَشْهَدْ وَاقِعَةَ أُحُدٍ لِمَا سَبَقَ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَنِ السَّائِبِ عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، أَوْ لَبِسَ دِرْعَيْنِ، وَهَذَا الرَّجُلُ الْمُبْهَمُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَإِنَّهُ رَوَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الِاسْتِيعَابِ فِي تَرْجَمَةِ مُعَاذٍ التَّمِيمِيِّ، فَقَالَ: ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْوَحْدَانِ، وَذُكِرَ بِسَنَدٍ عَنِ السَّائِبِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ مُعَاذٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهَرَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الِاسْتِيعَابِ، وَأَظُنُّ أَنَّ قَوْلَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ سَهْوٌ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ، وَالصَّوَابُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ السِّلَاحَ يَوْمَئِذٍ، بَلْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، أَقُولُ أَمَّا كَوْنُهُ مُحْرِمًا، فَلَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ لُبْسِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَالْقَضِيَّةُ قَاضِيَةٌ بِوُقُوعِهِ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُبَايَعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَتِهِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ طَلْحَةَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنِ السَّائِبِ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْمِقْدَادَ وَسَعْدًا فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ: لَمْ يُبَيِّنْ مَا حَدَّثَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَوْ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ مِغْفَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمِغْفَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، مَا يُلْبَسُ تَحْتَ الْبَيْضَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْبَيْضَةِ أَيْضًا، وَأَصْلُ الْغَفْرِ السَّتْرُ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَقِيلَ: هِيَ حَلْقَةٌ تُنْسَجُ مِنَ الدِّرْعِ عَلَى قَدْرِ الرَّأْسِ، وَفِي الْمُحْكَمِ هُوَ مَا يُجْعَلُ مِنْ فَضْلِ دِرْعِ الْحَدِيدِ عَلَى الرَّأْسِ كَالْقَلَنْسُوَةِ، وَقِيلَ: هُوَ رَفْرَفُ الْبَيْضَةِ (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) أَيْ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أَيِ الزُّهْرِيِّ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ: مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَكَّةَ أُبِيحَتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَا دَخَلَهَا مُتَهَيِّئًا لِلْقِتَالِ، وَقِيلَ: خُصِّصَ النَّهْيُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةٌ فِي حَمْلِهِ ; وَلِذَا دَخَلَ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَمَعَهُ وَمَعَ الْمُسْلِمِينَ السِّلَاحُ فِي الْقِرَابِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ حَمْلِهِ فَمَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ حَمْلُ السِّلَاحِ لِلْمُحَارَبَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ بَعْدَ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ بَعْدَ أَنْ نَزَعَ الْمِغْفَرَ (هَذَا ابْنُ خَطَلٍ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، فَلَمَّا أَسْلَمَ سُمِّيَ عَبْدَ اللَّهِ (مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ خَوْفًا مِنْ قَتْلِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ الْوَحْيَ، وَقَتَلَ مُسْلِمًا كَانَ يَخْدِمُهُ لَمَّا أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَاتَّخَذَ قَيْنَتَيْنِ تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْعِصَامُ: وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِهَا مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ. وَالتَّمَسُّكُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا هُوَ مِنْ عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ مَنْ تَمَسَّكَ بِذَيْلِ الْكَعْبَةِ فِي كُلِّ جَرِيمَةٍ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَثْنِينَ لِمَا

عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرْبَعَةٌ لَا أُؤَمِّنُهُمْ لَا فِي حِلٍّ وَلَا فِي حَرَمٍ، الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْدٍ، وَهِلَالُ بْنُ خَطَلٍ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: أَرْبَعَةُ نَفَرٍ وَامْرَأَتَانِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ (فَقَالَ اقْتُلُوهُ) وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ رِوَايَةِ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ رَأَى مِنْكُمُ ابْنَ خَطَلٍ فَلْيَقْتُلْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ مَالِكٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، كَانَ ابْنُ خَطَلٍ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْرِ انْتَهَى. يَعْنِي فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِهْدَارِ دَمِهِ، وَقِيلَ: سَبَبُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ يَخْدِمُهُ، وَكَانَ مُسْلِمًا فَنَزَلَ مَنْزِلًا، وَأَمَرَ مَوْلَاهُ أَنْ يَذْبَحَ تَيْسًا وَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا، وَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ فَسَقَطَ عَنْهُمْ بِقَتْلِ وَاحِدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَوْ عَلَى فَرْضِ الْعَيْنِ فَيَلْزَمُ كُلًّا الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَتْلِهِ، فَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ عِصْيَانُ الْبَاقِي بِمُبَادَرَةِ قَاتِلِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْحَضْرَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مُبَادَرَةِ قَتْلِهِ، عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْلِيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ أَنَّهُ أَمَرَ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِقَتْلِهِ لَا جَمْعًا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِ الْبَعْضِ إِلَى جَمْعٍ بَيْنَهُمْ كَمَالُ ارْتِبَاطٍ ; وَلِهَذَا أَقْدَمَ بِقَتْلِهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَحْدَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ مِنْ أَنَّهُ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي تَعْيِينِ قَاتِلِهِ، وَبِهِ جَزَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ أَخْبَارِ السِّيَرِ وَتُحْمَلُ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا قَتْلَهُ، فَكَانَ الْمُبَاشِرُ لَهُ مِنْهُمْ أَبَا بَرْزَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ شَارَكَهُ فَقَدْ جَزَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ بِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ حُرَيْثٍ وَأَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا فِي رِوَايَةِ أَنَّهُ اسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا وَكَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ فَقَتَلَهُ الْحَدِيثَ. قَالَ مِيرَكُ: وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ فِيهِ أَقْوَالًا مِنْهَا أَنَّ قَاتِلَهُ شَرِيكُ بْنُ عَبْدَةَ الْعَجْلَانِيُّ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ أَبُو بَرْزَةَ، وَقِيلَ: قَتَلَهُ الزُّبَيْرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: وَأُخِذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ مِنْ تَحْتِ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقُتِلَ بَيْنَ الْمَقَامِ وَزَمْزَمَ، قَالَ مِيرَكُ: وَرِجَالُهُ ثِقَاةٌ، إِلَّا أَنَّ فِي أَبِي مَعْشَرٍ مَقَالًا، قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ، فَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقِيلَ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَقِيلَ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ الْبَلَاذُرِيُّ: أَثْبَتُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ مِنْهُمْ أَبُو بَرْزَةَ، ضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِتَحَتُّمِ قَتْلِ سَابِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ إِلَّا لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ فَقُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَهُ قِصَاصًا بِذَلِكَ الْمُسْلِمِ الَّذِي قَتَلَهُ، فَهِيَ وَاقِعَةُ حَالٍ فِعْلِيَّةٌ مُحْتَمَلَةٌ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْتُهُ أَنَّ ابْنَ أَبِي سَرْحٍ كَانَ مِمَّنْ نَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلِهِ، لِمُشَابَهَتِهِ لِابْنِ خَطَلٍ فِيمَا مَرَّ عَنْهُ لَمَّا أَسْلَمَ قَبِلَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ خَطَلٍ ارْتَدَّ ثُمَّ فِي حَالِ ارْتِدَادِهِ صَدَرَ عَنْهُ مَا صَدَرَ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الِارْتِدَادُ بِسَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِتَابَتِهِ وَقَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَوْبَتَهُ بِشَرَائِطِهَا مَقْبُولَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ حَدًّا أَوْ سِيَاسَةً قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِحِلِّ إِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ لَا يُنَجِّسُهُ انْتَهَى. وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَتْلَهُ لَا يُسَمَّى حَدًّا وَلَا قِصَاصًا ; لِأَنَّهُ كَانَ حَرْبِيًّا، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ قَتْلَهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَجَّسَ الْمَسْجِدُ، ثُمَّ أَطَالَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ; وَلِذَا تَرَكْنَا بَحْثَهُ قَالَ الْحَنَفِيُّ: مَعَ أَنَّهُ حَنَفِيٌّ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْحَرَمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ جَنَى خَارِجَهُ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ انْتَهَى. وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ عِنْدَنَا فِي مَنْ جَنَى خَارِجَ الْحَرَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ الْتَجَأَ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، بَلْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يَشْرَبُ حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، ثُمَّ يُقْتَصُّ وَمَكَّةُ حِينَئِذٍ كَانَتْ دَارَ حَرْبٍ، وَابْنُ خَطَلٍ مُرْتَدٌّ الْتَحَقَ بِالْمُشْرِكِينَ فَوَقَعَتِ الْمُصَالَحَةُ بِقَتْلِ أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً. وَأَمَّا عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ فَتْحَهَا كَانَ عَنْوَةً، فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.

(حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ) ثِقَةٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ) تَقَدَّمَ (قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) وَهُوَ الزُّهْرِيُّ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ) أَيْ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ) بِلَامِ التَّعْرِيفِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ وَفِي بَعْضِ الْأُصُولِ «مِغْفَرٌ» فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْآتِي أَنَّهُ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ - الْمُخَرَّجُ فِي مُسْلِمٍ - أَنَّ عَقِبَ دُخُولِهِ نَزَعَ الْمِغْفَرَ، ثُمَّ لَبِسَ الْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ، فَخَطَبَ بِهَا لِرِوَايَةِ: «خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَالْخُطْبَةُ كَانَتْ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْفَتْحِ، وَهَذَا الْجَمْعُ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَاخْتَارَهُ الْعِرَاقِيُّ وَفِيهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِمَامَةَ كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ حِينَ دُخُولِهِ مَكَّةَ، لَا أَنَّهُ لَبِسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ زَمَانَ الْحَالِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّحِدًا مَعَ زَمَانِ عَامِلِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقْصَدَ الِاتِّسَاعُ فِي زَمَانِ دُخُولِ مَكَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ سَوَادَ عِمَامَتِهِ لَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا بَلْ لَمَّا كَانَ الْمِغْفَرُ فَوْقَ الْعِمَامَةِ فِي الْأَيَّامِ الْحَارَّةِ، وَكَانَتِ الْعِمَامَةُ مُتَّسِخَةً وَمُتَلَوِّنَةً بِسَبَبِهِ، وَلَمَّا رَفَعَ الْمِغْفَرَ عَنْهَا ظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهَا سَوْدَاءُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ مِنَ الْجَمِيعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمِغْفَرِ بَيَّنَ أَنَّهُ دَخَلَ مُتَأَهِّبًا لِلْقِتَالِ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْعِمَامَةِ بَيَّنَ أَنَّهُ دَخَلَ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَجَمْعٌ غَرِيبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لُبْسَ أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِحْرَامِهِ ; لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالنِّيَّةِ وَاللُّبْسَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي أَنَّ لُبْسَ الْمِغْفَرِ يَكْفِي لِلدَّلَالَتَيْنِ عَلَى زَعْمِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الْعِمَامَةِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِفَرْضِ صِحَّةِ عَدَمِ إِحْرَامِهِ، أَنَّ سَبَبَهُ كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حُصُولِ تَمَكُّنِهِ مِنَ الدُّخُولِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَبَيْنَ عَدَمِ الدُّخُولِ إِلَيْهِ بِسَبَبِ مَنْعِ الْأَعْدَاءِ، فَكَانَ قَصْدُهُ الْأَوَّلُ إِنَّمَا هُوَ قُرْبَ الْحَرَمِ ; لِيَنْظُرَ فِيهِ كَيْفَ الْأَمْرُ أَلَهُ الْغَلَبَةُ أَمْ لَا، فَحِينَئِذٍ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ نُسُكٍ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا مِنَ الْأَفَاقِي، إِذَا قَصَدَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ لَهُ الْمُجَاوَزَةُ مِنَ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ثُمَّ دُخُولُهُ مَكَّةَ بِاخْتِيَارِهِ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِغْفَرَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُوَشَّحُ، وَلِلْآخَرِ لَسُوعٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ لَهُ بَيْضَةٌ، وَكَانَ فِي رَأْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى مَالِكٍ قَوْلَهُ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ، وَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ

وَالْمَحْفُوظُ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَتُعُقِبَّ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَجَدُوا بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا غَيْرَ مَالِكٍ تَابَعُوهُ فِي ذِكْرِ الْمِغْفَرِ، وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (قَالَ) أَيْ أَنَسٌ، وَإِنَّمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ لِطُولِ كَلَامِهِ أَوْ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَاعِلُ قَالَ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ لَا التِّرْمِذِيُّ حَتَّى يَحْكُمَ عَلَى الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ السِّيَاقَ الْمُطَابِقَ لِلسِّيَاقِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ شِهَابٍ يُحْكَمُ عَلَى الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ (فَلَمَّا نَزَعَهُ) أَيْ نَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِغْفَرَ وَنَحَّاهُ عَنْ رَأْسِهِ (جَاءَهُ رَجُلٌ) قِيلَ: هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ (فَقَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اقْتُلُوهُ) أَيْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّغْلِيبِ أَوِ الِالْتِفَاتِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ: «اقْتُلْهُ» (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيِ الزُّهْرِيُّ قَالَ مِيرَكُ: هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ لِمَا وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا (وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا) أَيْ عَلَى صُورَةِ الْمُحْرِمِ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَابِسًا لُبْسَ الْحَلَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيُّ مَذْهَبَهُ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ دُخُولِهَا إِذَا لَمْ يُرِدْ نُسُكًا انْتَهَى. قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ عَنْ مَالِكٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَفْظُهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ: اقْتُلْهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ مُحْرِمًا، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَمَا هُنَا انْتَهَى. وَالْجَمْعُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ اقْتُلْهُ وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ قَتْلَهُ وَحْدَهُ صَعْبٌ، قَالَ اقْتُلُوهُ ; وَلِهَذَا تَبَادَرُوا إِلَى قَتْلِهِ، ثُمَّ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا نَرَى مُحْرِمًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَدِلًّا بِلُبْسِ الْمِغْفَرِ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ جَابِرٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ دُخُولَ الْحَرَمِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْخَائِفِ الْمُتَأَهِّبِ لِلْقِتَالِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ: الْإِحْرَامُ وَاجِبٌ إِنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ حَاجَتُهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ قَصْدِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ دَخَلَ لِحَاجَةٍ تَتَكَرَّرُ كَحَطَّابٍ وَخَشَّاشٍ وَصَيَّادٍ وَنَحْوِهِمْ، أَوْ لَا تَتَكَرَّرُ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ تَجِبُ مُطْلَقًا، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْوُجُوبُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ لَا يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَسَنِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَجَزَمَ الْحَنَابِلَةُ بِاسْتِثْنَاءِ ذَوِي الْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: إِنَّ دُخُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَدَلِيلُهُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَوَازُ دُخُولِهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لَا تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِيهَا ; لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَوْ غَلَبُوا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَكَّةَ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْقِتَالُ مَعَهُمْ فِيهَا، فَقَدْ عَكَسَ اسْتِدْلَالَهُ النَّوَوِيُّ، فَقَالَ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ تَبْقَى دَارَ إِسْلَامٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَبَطَلَ مَا صَوَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ عَلَى أَنَّ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ نَظَرًا، فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ وَقَدْ حَكَاهُ الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا قُلْتُ: مَا صَوَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَرْضِيٌّ غَيْرُ لَازِمِ الْوُقُوعِ ; وَلِذَا خَالَفَ مَنْ خَالَفَ، وَأَمَّا دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فَصَحِيحَةٌ، وَلَا يُنَافِيهَا مُخَالَفَةُ الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ، فَبَطَلَ إِبْطَالُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(باب ما جاء في عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(بَابُ مَا جَاءَ فِي عِمَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ «صِفَةِ» ، وَالْعِمَامَةُ بِالْكَسْرِ: مَعْرُوفٌ، وَوَهِمَ الْعِصَامُ حَيْثُ قَالَ: بِالْفَتْحِ كَالْغَمَامَةِ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْمِغْفَرِ وَالْبَيْضَةِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْمُرَادُ بِهَا فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ كُلُّ مَا يُعْقَدُ عَلَى الرَّأْسِ سَوَاءٌ كَانَ تَحْتَ الْمِغْفَرِ أَوْ فَوْقَهُ أَوْ مَا يُشَدُّ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَمَا يُشَدُّ عَلَى رَأْسِ الْمَرِيضِ أَيْضًا انْتَهَى. وَيُعَارِضُ الْعِصَامُ وَابْنُ حَجَرٍ هُنَا بِمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا فَأَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِ كَلَامِهِمَا إِيرَادًا وَدَفْعًا (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ بَدَلُ حَدَّثَنَا أَخْبَرَنَا (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ح) . تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ بِحْثِ الْحَاءِ وَأَنَّهُ عَلَامَةُ تَحْوِيلِ الْإِسْنَادِ (وَحَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ السَّوَادِ، وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ أَفْضَلَ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ خَيْرَ ثِيَابِكُمُ الْبِيضُ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا

الدِّينَ لَا يَتَغَيَّرُ كَالسَّوَادِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ، وَفِي شَرْحِ الزَّيْلَعِيِّ مِنْ عُلَمَائِنَا الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُسَنُّ لُبْسُ السَّوَادِ لِحَدِيثٍ فِيهِ، وَقَدْ جَمَعَ السُّيُوطِيُّ جُزْءً فِي لُبْسِ السَّوَادِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ وَآثَارًا وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ أَنَّ تِلْكَ الْعِمَامَةَ وَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَهِيَ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَيَجْعَلُونَهَا عَلَى رَأْسِ مَنْ تُقَرَّرُ لَهُ الْخِلَافَةُ، وَهِيَ الْآنَ بِمَحْرُوسَةِ مِصْرَ فِي أَيْدِي أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ، وَيَضَعُهَا الْخَلِيفَةُ عَلَى رَأْسِ السُّلْطَانِ يَوْمَ تَوْلِيَةِ السَّلْطَنَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ عِمَامَةٌ تُسَمَّى السَّحَابُ، وَكَانَ يَلْبَسُ تَحْتَهَا الْقَلَانِسَ جَمْعُ قَلَنْسُوَةٍ، وَهِيَ غِشَاءٌ مُبَطَّنٌ يَسْتَتِرُ بِهِ الرَّأْسُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ الشَّاشِيَّةُ وَالْعِرْقِيَّةُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ قَلَنْسُوَةً ذَاتَ آذَانٍ يَلْبَسُهَا فِي السَّفَرِ، وَرُبَّمَا وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِذَا صَلَّى، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالْمُصَنِّفُ فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَائِمِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ شَقَّةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنَّ عِمَامَتَهُ كَانَتْ سَوْدَاءَ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ رَايَتَهُ سَوْدَاءُ تُسَمَّى الْعُقَابَ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ ابْنُ عُيَيْنَةَ (عَنْ مُسَاوِرٍ) بِضَمِّ مِيمٍ وَمُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ وَاوٍ وَرَاءٍ (الْوَرَّاقِ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَائِعُ الْوَرَقِ أَوْ صَانِعُهُ أَوْ مَنْسُوبٌ إِلَى وَرَقِ الشَّجَرِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) مُصَغَّرُ حَرْثٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَمُثَلَّثَةٍ، رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِمَامَةً سَوْدَاءَ) يُحْتَمَلُ عَامَ الْفَتْحِ وَغَيْرَهُ، وَحَالَ الْخُطْبَةِ وَغَيْرَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَيَجِيءُ مَا يُبَيِّنُهُ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ وَيُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ) أَيْ عَلَى الْمِنْبَرِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ لُبْسَ السَّوَادِ إِنَّمَا كَانَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَقَطْ ; لِأَنَّ خُطْبَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِنْبَرٍ بَلْ كَانَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ (وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ) أَيْ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ كَذَا فِي الْمِشْكَاةِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ عِصَابَةٌ سَوْدَاءُ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْعِمَامَةِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ وَالْقَامُوسِ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَصْبِ وَهُوَ الشَّدُّ لِمَا يُشَدُّ بِهِ، وَهَذِهِ النُّسْخَةُ تُسَاعِدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْعِمَامَةِ تَحْتَ الْمِغْفَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَزَادَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي خَطَبَ النَّاسَ أَيْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْعَسْقَلَانِيِّ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ مُسَاوِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَقَوْلُهُ: طَرَفَيْهَا بِالتَّثْنِيَةِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْإِفْرَادِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ انْتَهَى. وَقَدْ لَبِسَ السَّوَادَ جَمَاعَةٌ كَعَلِيٍّ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ، كَالْحَسَنِ كَانَ يَخْطُبُ بِثِيَابٍ سُودٍ وَعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، أَوْ عِصَابَةٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَ يَخْطُبُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، وَمُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ لَبِسَ عِمَامَةً سَوْدَاءَ وَجُبَّةً سَوْدَاءَ وَعِصَابَةً سَوْدَاءَ، وَأَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَذَّاءَ وَعَمَّارٍ كَانَ يَخْطُبُ كُلَّ جُمُعَةٍ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ أَمِيرُهَا وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَلْبَسُهَا فِي الْعِيدَيْنِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يَعْتَمُّ بِهَا وَوَرَدَ بِسَنَدٍ وَاهٍ هَبَطَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ وَعَلَيْهِ قُبَاءٌ أَسْوَدُ وَعِمَامَةٌ سَوْدَاءُ،

فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الصُّورَةُ لَمْ أَرَكَ هَبَطْتَ بِهَا عَلَيَّ، قَالَ هَذِهِ صُورَةُ الْمُلُوكِ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ عَمِّكَ، قُلْتُ: وَهُمْ عَلَى حَقٍّ، قَالَ جِبْرِيلُ: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْعَبَّاسِ وَوَلَدِهِ حَيْثُ كَانُوا، وَأَيْنَ كَانُوا، قَالَ جِبْرِيلُ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِكَ زَمَانٌ يُعِزُّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ بِهَذَا السَّوَادِ، فَقُلْتُ: رِيَاسَتُهُمْ مِمَّنْ؟ قَالَ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، قُلْتُ: وَمَنْ أَتْبَاعُهُمْ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، قُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْلِكُونَ؟ قَالَ: الْأَخْضَرَ وَالْأَصْفَرَ وَالْحَجَرَ وَالْمَدَرَ وَالسَّرِيرَ وَالْمِنْبَرَ وَالدُّنْيَا إِلَى الْمَحْشَرِ، وَالْمُلْكَ إِلَى الْمَنْشَرِ، وَسَأَلَ الرَّشِيدُ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْهُ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ يَكْرَهُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يُجَلَّى فِيهِ عَرُوسٌ، وَلَا يُلَبِي فِيهِ مُحْرِمٌ، وَلَا يُكَفَّنُ فِيهِ مَيِّتٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِ جَوَازِ لُبْسِ الْأَسْوَدِ فِي الْخُطْبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبْيَضُ أَفْضَلَ مِنْهُ. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ بِالْيَمَنِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَرْبَعَةُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدِينِيُّ) نِسْبَةً إِلَى مَدِينَةِ السَّلَامِ عَلَى الْأَصَحِّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: الْمَدَنِيُّ (عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَخْرَجَ حَدِيثَهُ السِّتَّةُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) نِسْبَةً إِلَى الْجَدِّ، إِذْ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخُو سَالِمٍ، مَاتَ قَبْلَ أَخِيهِ سَالِمٍ، كَذَا فِي الْكَاشِفِ (عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَمَّ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ لَفَّ عِمَامَتَهُ عَلَى رَأْسِهِ (سَدَلَ عِمَامَتَهُ) أَيْ أَرْخَى طَرَفَهَا الَّذِي يُسَمَّى الْعِلَاقَةَ، قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: سَدَلَ الثَّوْبَ سَدْلًا مِنْ بَابِ طَلَبَ إِذَا أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضُمَّ جَانِبَيْهِ، وَقِيلَ: فَهُوَ أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيُرْخِيَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَأَسْدَلَ خَطَأٌ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ) بِالتَّثْنِيَةِ وَفِي رِوَايَةٍ أَرْسَلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ السَّلَامِ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمُّ، قَالَ: يُدِيرُ كَوْرَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَغْرِسُهَا مِنْ وَرَائِهِ، وَيُرْخِي لَهَا ذُؤَابَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ (قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِهِ وَقَوْلُهُ: (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) مِنْ كَلَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْعَطْفِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ كَلَامَ أَبِي عِيسَى لَكَانَ مُنْقَطِعًا (وَرَأَيْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسَالِمًا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ إِسْدَالِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ

الْكَتِفَيْنِ، عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: قَالَ نَافِعٌ: لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ كَلَامِ عُبَيْدِ اللَّهِ، كَذَا حَقَّقَهُ الْعِصَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْخِي عَلَاقَتَهُ أَحْيَانًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَحْيَانًا يَلْبَسُ الْعِمَامَةَ مِنْ غَيْرِ عَلَاقَةٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُصَنِّفُ فِي الْجَامِعِ بِسَنَدِهِمَا عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ: عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ، وَسَدَلَ طَرَفَيْهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ مُعْتَمًّا، قَدْ أَرْسَلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ، فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ سُنَّةٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ تَحْتَ الْعَمَائِمِ، وَيَلْبَسُ الْعَمَائِمَ بِغَيْرِ الْقَلَانِسِ، قَالَ الْجَوْزِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: السُّنَّةُ أَنْ يَلْبَسَ الْقَلَنْسُوَةَ وَالْعَمَائِمَ، فَأَمَّا لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ وَحْدَهَا، فَهُوَ زِيُّ الْمُشْرِكِينَ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رُكَانَةَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: قَدْ تَتَبَّعْتُ الْكُتُبَ وَتَطَلَّبْتُ مِنَ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ لِأَقِفَ عَلَى قَدْرِ عِمَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِمَامَةٌ قَصِيرَةٌ، وَعِمَامَةٌ طَوِيلَةٌ، وَأَنَّ الْقَصِيرَةَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَالطَّوِيلَةَ كَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَدْخَلِ أَنَّ عِمَامَتَهُ كَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي مَلْبَسِهِ أَتَمَّ، وَنَفْعُهُ لِلنَّاسِ أَعَمَّ، إِذْ تَكْبِيرُ الْعِمَامَةِ يُعَرِّضُ الرَّأْسَ لِلْآفَاتِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْفُقَهَاءِ الْمَكِّيَّةِ، وَالْقُضَاةِ الرُّومِيَّةِ، وَتَصْغِيرُهَا لَا يَقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَكَانَ يَجْعَلُهَا وَسَطًا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ: عَلَيْكَ أَنْ تَتَسَرْوَلَ قَاعِدًا وَتَتَعَمَّمَ قَائِمًا انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ: أَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئًا بَدِيعًا، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى رَبَّهُ وَاضِعًا يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَكْرَمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالْعَذَبَةِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ أَصْلًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلْ هَذَا مِنْ قَبِيحِ رَأْيِهِمَا وَضَلَالِهِمَا إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ، وَأَطَالَا فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ، وَالْحَطِّ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَفْيِهِمْ لَهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْجِهَةِ وَالْجِسْمِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَهُمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ مَا تُصَمُّ عَنْهُ الْآذَانُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، قَبَّحَهُمَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَجِلَّاءُ مَذْهَبِهِ مُبَرَّؤُنَ عَنْ هَذِهِ الْوَصْمَةِ الْقَبِيحَةِ كَيْفَ وَهِيَ كُفْرٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ أَقُولُ صَانَهُمَا اللَّهُ مِنْ هَذِهِ السِّمَةِ الشَّنِيعَةِ، وَالنِّسْبَةِ الْفَظِيعَةِ، وَمَنْ طَالَعَ شَرْحَ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَمِنْ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ: عَلَى مَا نَصَّهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يَعْنِي الشَّيْخَ عَبْدَ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ الْحَنْبَلِيَّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْجَلِيَّ، تُبَيِّنُ مَرْتَبَتَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَمِقْدَارَهُ فِي الْعِلْمِ وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ أَعْدَاؤُهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنَ التَّشَبُّهِ وَالتَّمْثِيلِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي رَمْيِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بِذَلِكَ، كَرَمْيِ الرَّافِضَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَوَاصِبُ، وَالنَّاصِبَةُ بِأَنَّهُمْ رَوَافِضُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُمْ نَوَائِبُ حَشْوِيَّةٍ، وَذَلِكَ مِيرَاثٌ مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمْيِهِ وَرَمْيِ أَصْحَابِهِ بِأَنَّهُمْ صَبَأَةٌ، قَدِ ابْتَدَعُوا دِينًا مُحْدَثًا، وَهَذَا مِيرَاثٌ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَبِيِّهِمْ بِتَلْقِيبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَهُمْ بِالْأَلْقَابِ الْمَذْمُومَةِ. وَقَدَّسَ اللَّهُ رُوحَ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ: وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الرَّفْضِ: شِعْرٌ: إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّيَ رَافِضِي وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَةَ حَيْثُ يَقُولُ: شِعْرٌ: إِنْ كَانَ نَصْبًا حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدٍ فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّيَ نَاصِبِي وَعَفَى اللَّهُ عَنِ الثَّالِثِ حَيْثُ يَقُولُ: شِعْرٌ: فَإِنْ كَانَ تَجْسِيمًا ثُبُوتُ صِفَاتِهِ وَتَنْزِيهُهَا عَنْ كُلِّ تَأْوِيلِ مُفْتَرِ فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ رَبِّي مُجَسِّمٌ هَلُمُّوا شُهُودًا وَامْلَأُوا كُلَّ مَحْضَرِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنَ التَّشْنِيعِ الْمَسْطُورِ، وَهُوَ أَنْ حَفِظَ حُرْمَةَ نُصُوصِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِإِجْرَاءِ أَخْبَارِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَهُوَ اعْتِقَادُ مَفْهُومِهَا الْمُتَبَادَرِ إِلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، وَلَا نَعْنِي بِالْعَامَّةِ الْجُهَّالَ، بَلْ عَامَّةَ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَيْفَ اسْتَوَى فَأَطْرَقَ

مَالِكٌ حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَبَيْنَ الْكَيْفِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ شَافٍ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ، مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالنُّزُولِ وَالْغَضَبِ وَالرَّحْمَةِ وَالضَّحِكِ، فَمَعَانِيهَا كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ، وَأَمَّا كَيْفِيَّاتُهَا فَغَيْرُ مَعْقُولَةٍ، إِذْ تَعَقُّلُ الْكَيْفِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الذَّاتِ وَكُنْهِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَكَيْفَ تُعْقَلُ لَهُمْ كَيْفِيَّةُ الصِّفَاتِ. وَالْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، أَنْ يَصِفَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ، بَلْ يُثْبِتُ لَهُ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَيَنْفِي عَنْهُ مُشَابَهَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيَكُونُ إِثْبَاتُكَ مُنَزِّهًا عَنِ التَّشْبِيهِ، وَنَفْيُكَ مُنَزِّهًا عَنِ التَّعْطِيلِ، فَمَنْ نَفَى حَقِيقَةَ الِاسْتِوَاءِ، فَهُوَ مُعَطِّلٌ، وَمَنْ شَبَّهَ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَهُوَ مُمَثِّلٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ اسْتِوَاءٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَهُوَ الْمُوَحِّدُ الْمُنَزِّهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ وَتَبَيَّنَ مَرَامُهُ وَظَهَرَ أَنَّ مُعْتَقَدَهُ مُوَافِقٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ، فَالطَّعْنُ الشَّنِيعُ وَالتَّقْبِيحُ الْفَظِيعُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ عَلَيْهِ، وَلَا مُتَوَجِّهٍ إِلَيْهِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ بِعَيْنِهِ مُطَابِقٌ لِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْمُجْتَهِدُ الْأَقْدَمُ، فِي فِقْهِهِ الْأَكْبَرِ مَا نَصُّهُ: وَلَهُ تَعَالَى يَدٌ وَوَجْهٌ وَنَفْسٌ، فَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالنَّفْسِ، فَهُوَ لَهُ صِفَاتٌ بِلَا كَيْفٍ، وَلَا يُقَالُ أَنَّ يَدَهُ قُدْرَتُهُ، أَوْ نِعْمَتُهُ ; لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ الصِّفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْقَدَرِ وَالِاعْتِزَالِ، وَلَكِنَّ يَدَهُ صِفَتُهُ بِلَا كَيْفٍ. وَغَضَبُهُ وَرِضَاهُ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ بِلَا كَيْفٍ، انْتَهَى. فَإِذَا انْتَفَى عَنْهُ التَّجْسِيمُ فَالْمَعْنَى الْبَدِيعُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْكَرِيمِ لَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ، وَتَوْجِيهٌ بَاهِرٌ، سَوَاءٌ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ، أَوْ تَجَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ بِالتَّجَلِّي الصُّورِيِّ الْمَعْرُوفِ، عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُذَكِّرًا بِهَيْئَتِهِ وَمُفَكِّرَا بِرُؤْيَتِهِ الْحَاصِلَةِ مِنْ كَمَالِ تَجْلِيَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ أَنْبِيَائِهِ، وَأَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ بِحُسْنِ تَرْبِيَتِهِ، وَجَلَى مِرْآةَ قُلُوبِهِمْ بِحُسْنِ تَجْلِيَتِهِ، حَتَّى شَهِدُوا مَقَامَ الْحُضُورِ وَالْبَقَاءِ، وَتَخَلَّصُوا عَنْ صَدَأِ الْحُظُورِ وَالْفَنَاءِ، رَزَقَنَا اللَّهُ أَشْوَاقَهُمْ، وَأَذَاقَنَا أَحْوَالَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ، وَأَمَاتَنَا عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ. (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا (وَهُوَ) أَيْ أَبُو سُلَيْمَانَ هُوَ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ) فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، مِنَ الْغَسْلِ لُقِّبَ بِهِ حَنْظَلَةُ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورِ. قَالَ مِيرَكُ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْمَدَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْغَسِيلِ، وَالْغَسِيلُ جَدُّ أَبِيهِ حَنْظَلَةَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حِينَ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ جُنُبًا حِينَ سَمِعَ نَفِيرَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ، فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ (عَنْ عِكْرِمَةَ) أَيْ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ) قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الْخُطْبَةُ وَقَعَتْ فِي مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، وَفِيهَا الْوَصِيَّةُ بِشَأْنِ الْأَنْصَارِ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنِ ابْنِ الْغَسِيلِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُتَعَطِّفًا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرًا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا وَيَنْفَعُهُ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَلْيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَهُ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، (وَعَلَيْهِ) أَيْ عَلَى رَأْسِهِ (عِصَابَةٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: عِمَامَةٌ بَدَلَ عِصَابَةٍ، عَكْسُ مَا سَبَقَ عَلَى أَنَّ الْعِصَابَةَ تَأْتِي بِمَعْنَى الْعِمَامَةِ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ (دَسْمَاءُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى، وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ، أَيْ: سَوْدَاءُ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَمِنْهُ

(باب ما جاء في صفة إزار رسول الله صلى الله عليه وسلم)

قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رَأَى غُلَامًا مَلِيحًا: دَسِّمُوا - بِالتَّشْدِيدِ - نُونَتَهُ، أَيْ سَوِّدُوا النَّقْرَةَ الَّتِي فِي ذَقَنِهِ ; لِئَلَّا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ، وَقِيلَ: مَعْنَى دَسْمَاءَ أَنَّهَا مُتَلَطِّخَةٌ بِدُسُومَةِ شَعْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَهُ، كَمَا مَرَّ، وَالدُّسُومَةُ غَيَّرَتْهُ إِلَى السَّوَادِ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْوَدَّتْ مِنَ الْعَرَقِ، وَالدَّسْمَاءُ فِي الْأَصْلِ الْوَسِخَةُ، وَهِيَ ضِدُّ النَّظِيفَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لَوْنُهَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا حَاشِيَةُ بُرْدٍ، وَالْحَاشِيَةُ غَالِبًا تَكُونُ مِنْ لَوْنٍ غَيْرِ لَوْنِ الْأَصْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ إِزَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْإِزَارُ بِالْكَسْرِ الْمِلْحَفَةُ، وَيُؤَنَّثُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَسْتُرُ أَسْفَلَ الْبَدَنِ، وَيُقَابِلُهُ الرِّدَاءُ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ أَعْلَى الْبَدَنِ، وَلَعَلَّ حَذْفَهُ فِي الْعُنْوَانِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ طُولُ رِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ رِدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدٌ طُولُهُ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ، وَإِزَارُهُ مِنْ نَسْجِ عُمَانَ طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ فِي ذِرَاعَيْنِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) أَيِ: السِّخْتِيَانِيُّ (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ) رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ عَامِرٌ وَهُوَ تَابِعِيٌّ كُوفِيٌّ، كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ شُرَيْحٍ، فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَهُوَ جَدُّ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الْإِمَامِ فِي الْكَلَامِ، وَفِي أَصْلِ الْعِصَامِ عَنْ أَبِيهِ أَيْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، قَالَ: وَفِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ وَبِذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا لِأَنَّ أَبَا بُرْدَةَ كَمَا أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَصْلِنَا الْمُقَابَلِ بِأَصْلِ السَّيِّدِ مِيرَكْ شَاهْ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا فِي سَائِرِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، مَعَ أَنَّ وُجُودَهُ لَوْ صَحَّ لَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا إِلَّا إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ أَيْضًا، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ رِوَايَتِهِ عَنْهَا لَا يَجْعَلُ الْحَدِيثَ مُتَّصِلًا، كَمَا حُقِّقَ فِي الْأُصُولِ (قَالَ) أَيْ أَبُو بُرْدَةَ (أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ) أَيْ إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِأَمْرِهَا (كِسَاءً) بِكَسْرِ الْكَافِ ثَوْبٌ مَعْرُوفٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا رِدَاءٌ (مُلَبَّدًا) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ مُرَقَّعًا، يُقَالُ: لَبَّدْتُ الثَّوْبَ إِذَا رَقَعْتَهُ وَقِيلَ: التَّلْبِيدُ جَعْلُ بَعْضِهِ مُلْتَزِقًا بِبَعْضٍ كَأَنَّهُ زَالَ وَطَاءَتُهُ وَلِينُهُ، لِتَرَاكُمِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ ; وَلِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَعْنَاهُ أَيْ مُرَقَّعًا صَارَ كَاللُّبْدِ وَاسْتَبْعَدَهُ الْعِصَامُ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَبْعَدُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ أَقْرَبُ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: الْمُلَبَّدُ الْمُرَقَّعُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي ثَخُنَ وَسَطُهُ حَتَّى صَارَ كَاللُّبَدِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ لِلرُّقْعَةِ الَّتِي يُرَقَّعُ بِهَا الْقَمِيصُ لُبْدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ حَتَّى يَتَرَاكَبَ وَيَجْتَمِعَ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّبَدِ هُنَا الَّذِي ثَخُنَ وَسَطُهُ، وَصُفِقَ لِكَوْنِهِ كِسَاءً، لَمْ يَكُنْ قَمِيصًا كَذَا

ذَكَرَهُ مِيرَكْ شَاهْ (وَإِزَارًا غَلِيظًا) أَيْ خَشِنًا (فَقَالَتْ) أَيْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ هَذَا اللُّبْسَ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُوَسِّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِفَتْحِهِ وَنَصْرِهِ (قُبِضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْقَابِضُ مَعْلُومٌ أَيْ أُخِذَ (رُوحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ) أَيْ تَوَاضُعًا وَانْكِسَارًا وَعُبُودِيَّةً وَافْتِقَارًا، وَإِجَابَةً لِدُعَائِهِ مِرَارًا اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ «إِزَارًا غَلِيظًا» ، مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهُ الْمُلَبَّدَةَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفِيدُ مَعْنًى ثَالِثًا لِـ «مُلَبَّدًا» ، وَهُوَ أَنَّهُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِكِسَاءٍ، وَأَنَّ التَّلْبِيدَ فِي أَصْلِ النَّسْجِ دُونَ التَّرْقِيعِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ يُبَيِّنُ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَعْرَاضِهَا وَشَهَوَاتِهَا، حَيْثُ اخْتَارَ لُبْسَهُمَا، وَاجْتَزَأَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ أَدْنَى الْكِفَايَةِ بِهِمَا، انْتَهَى. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ غَنِيًّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَنِهَايَةِ أَمْرِهِ، نَعَمْ. ظَهَرَ لَهُ الْمُلْكُ وَالْغِنَى، وَلَكِنِ اخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْفَنَاءَ ; لِيَكُونَ مُتَّبِعًا لِجُمْهُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُتَّبِعًا لِخُلَاصَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّتِي) اسْمُهَا رُهْمٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْهَاءِ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ خَالِدٍ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقِيلَ: بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَنْظَلَةَ (تُحَدِّثُ عَنْ عَمِّهَا) أَيْ عَمِّ عَمَّةِ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، اسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْمُحَارِبِيُّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَأَمَّا مَا قَالَ الْعِصَامُ أَنَّ الْأَصَحَّ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ عَمِّ أَبِيهَا، أَيْ عَمِّ ابْنِ حَنْظَلَةَ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي أَصْلِنَا، وَلَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ أَصْلًا، نَعَمْ. ذَكَرَ مِيرَكْ شَاهْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ الْكَمَالِ عَنْ عَمِّ أَبِيهِ وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ إِلَى الْأَشْعَثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَمَّ عَمَّةِ الشَّخْصِ هُوَ عَمُّ أَبِيهِ (قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي) أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ (بِالْمَدِينَةِ) أَيْ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بَيْنَا بِحَذْفِ الْمِيمِ، وَأَصْلُهُ بَيْنَ وَهُوَ الْوَسَطُ، وَقَدْ تُشْبَعُ فَتْحَتُهَا فَتَتَوَلَّدُ أَلِفًا، وَقَدْ تُزَادُ فِيهَا مِيمٌ، وَهُمَا مُضَافَانِ إِلَى مَا بَعْدَهُمَا، وَقِيلَ: مَا وَالْأَلِفُ عِوَضَانِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ وَفِي الْمُغْرِبِ بَيْنَ مِنَ الظُّرُوفِ اللَّازِمَةِ، وَلَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَقَدْ يُحْذَفُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَيُعَوَّضُ عَنْهُ مَا أَوِ الْأَلِفُ، وَفِي النِّهَايَةِ هُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ بِمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ، وَيُضَافَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ أَوْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى جَوَابٍ يَتِمُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَالْأَفْصَحُ فِي جَوَابِهِمَا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إِذْ، وَإِذَا. وَقَدْ جَلَا فِي الْجَوَابِ كَثِيرًا، يُقَالُ: بَيْنَا زَيْدٌ جَالِسٌ دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو، وَإِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ (إِذَا) بِالْأَلِفِ لِلْمُفَاجَأَةِ (إِنْسَانٌ خَلْفِي) قَالَ

صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الْعَامِلُ فِي إِذَا مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ، تَقْدِيرُهُ وَقْتَ ذِكْرِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فَاجَئُوا وَقْتَ الِاسْتِبْشَارِ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَقْتَ مَشْيِي بِالْمَدِينَةِ، فَاجَأْتُ قَوْلَ إِنْسَانٍ خَلْفِي، فَحِينَئِذٍ بَيْنَمَا ظَرْفٌ لِهَذَا الْمُقَدَّرِ، وَإِذَا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، فَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ مَعْمُولِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ، كَذَا حَقَّقَهُ الْحَنَفِيُّ (يَقُولُ) أَيْ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ بَلْ عَيْنُ الْأَعْيَانِ وَإِنْسَانُ الْعَيْنِ عَيْنُ الْإِنْسَانِ، حِينَ رَآنِي مُسْبِلًا إِزَارِي، وَغَافِلًا عَنْ حُسْنِ شِعَارِي، ثُمَّ قَوْلُهُ يَقُولُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُوفِ، وَالْمَقُولُ قَوْلُهُ: (ارْفَعْ إِزَارَكَ) أَيْ عَنِ الْأَرْضِ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الرَّفْعَ (أَتْقَى) مِنَ التَّقْوَى أَيْ أَقْرَبُ إِلَيْهَا وَأَدَلُّ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ غَالِبًا عَلَى انْتِفَاءِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالتَّاءُ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْوَاوِ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْوِقَايَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ تَوَهَّمُوا أَنَّ التَّاءَ مِنْ أَصْلِ الْحُرُوفِ، فَقَالُوا: تَقَى يَتَّقِي مِثْلَ رَمَى يَرْمِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْقَى بِالنُّونِ مِنَ النَّقَاءِ، أَيْ أَنْظَفُ مِنَ الْوَسَخِ (وَأَبْقَى) بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ أَكْثَرُ دَوَامًا لِلثَّوْبِ، فَعَلَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ بِالْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ أَوِ الْقَالَبِ أَوَّلًا ; لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، وَثَانِيًا بِالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّهَا التَّابِعَةُ لِلْأُخْرَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ الْأُخْرَوِيَّةَ لَا تَخْلُو عَنِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَأَنْقَى مِنَ الدَّنَسِ وَفِي نُسْخَةٍ أَبْقَى، أَيْ أَكْثَرُ بَقَاءً فَغَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ؛ مَعَ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ تَقْتَضِيهَا بَلِ النَّقَاوَةُ هِيَ عَيْنُ التَّقْوَى أَوْ بَعْضُهَا فِي الْمَعْنَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اخْتِلَافَ النُّسَخِ فِي أَتْقَى لَا فِي أَبْقَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ بِتَعَدُّدِ النُّقْطَةِ الْفَوْقِيَّةِ، أَوْ بِوَحْدَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَخِيرَ التَّصْحِيفُ ; لِأَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الْمُعَوَّلِ (فَالْتَفَتُّ) كَذَا بِخَطِّ مِيرَكَ فِي الْهَامِشِ وَاقِعًا عَلَيْهِ عَلَامَةُ نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، أَيْ نَظَرْتُ إِلَى وَرَائِي (فَإِذَا هُوَ) أَيِ الْإِنْسَانُ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فَاعْتَذَرْتُ عَنْ فِعْلِي (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هِيَ) أَيِ الْإِزَارُ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (بُرْدَةٌ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ كِسَاءٌ يَلْبَسُهُ الْأَعْرَابُ (مَلْحَاءُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ تَأْنِيثُ أَمْلَحَ، وَالْمُلْحَةُ بِالضَّمِّ بَيَاضٌ يُخَالِطُهُ سَوَادٌ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: الْمَلْحَاءُ الَّتِي فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، وَقِيلَ: مَا فِيهِ الْبَيَاضُ أَغْلَبُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مُلْحَاءُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمِهِ، وَكَأَنَّ الصَّحَابِيَّ أَرَادَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ لَا خُيَلَاءَ فِيهَا، وَأَنَّ أَمْرَ بَقَائِهَا وَنَقَائِهَا سَهْلٌ لَا كُلْفَةَ مَعَهُمَا، فَأَجَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الْإِقْتِدَاءِ بِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كَمَالِ الْحِكَمِ الشَّامِلَةِ لِعُمُومِ الْأُمَمِ بِسَبَبِهِ، وَحِينَئِذٍ (قَالَ أَمَا لَكَ) بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وَمَا نَافِيَةٌ (فِيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ أَلَيْسَ لَكَ فِي فِعْلِي الْمُحْتَوِي عَلَى قَوْلِي وَحَالِي (أُسْوَةٌ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ قُدْوَةٌ وَمُتَابَعَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ أَيْ فِي قَوْلِي فَلَا يُلَائِمُهُ، قَوْلُهُ: (

فَنَظَرْتُ) أَيْ إِلَى لُبَاسِهِ (فَإِذَا إِزَارُهُ) بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ (إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْكَامِلِ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ; لِيَكْمُلَ هَذَا، وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، حَيْثُ قَالَ: كَانَ الصَّحَابِيُّ تَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ، الْأَمْرَ بِالْقَطْعِ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهَا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ لَا يُنَاسِبُ قَطْعُهَا، انْتَهَى. وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا لَفْظًا فَإِنَّ إِرَادَةَ الْقَطْعِ مِنَ الرَّفْعِ لَا تُتَصَوَّرُ مِنْ عَجَمِيٍّ فَكَيْفَ تَجُوزُ مِنْ صَحَابِيٍّ عَرَبِيٍّ، وَأَمَّا مَعْنًى، فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ اعْتِذَارُهُ اعْتِرَاضًا مَعَ أَنَّ الْبُرْدَةَ الْمَلْحَاءَ مِمَّا يَلْبَسُهُ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ قَوْلُ الْعِصَامِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: أَرَادَ إِنَّهَا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ وَالْعَادَةُ فِي الِاكْتِسَاءِ بِهَا هُوَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ أَرْفَعُهَا انْتَهَى. وَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى ; وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِبَعْضِهِمْ هُنَا تَخْلِيطٌ فَاجْتَنِبْهُ، ثُمَّ بِمَا قَرَّرْنَاهُ سَابِقًا انْدَفَعَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، مِنْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ إِنَّمَا يَتِمُّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: أَتْقَى بِالْفَوْقِيَّةِ ; لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ وَالْأَحْرَى بِالِاعْتِنَاءِ بِهِ إِذِ اخْتِلَالُهُ لَهُ يَقْدَحُ نُقْصَانًا فِي الدِّينِ، وَهُوَ التَّكَبُّرُ وَالْخُيَلَاءُ، وَلَمْ يَعْتَذِرْ عَنِ الْأَخِيرَيْنِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِمَا أَسْهَلُ وَأَخَفُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ نَصْرٍ) بِسُكُونِ مُهْمَلَةٍ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ) بِالتَّصْغِيرِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (عَنْ إِيَاسِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَهُوَ نِسْبَةٌ إِلَى الْجَدِّ، فَإِنَّ سَلَمَةَ بْنَ عَمْرٍو غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ (قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بِلَا انْصِرَافٍ. وَقِيلَ: بِانْصِرَافٍ (يَأْتَزِرُ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا أَلِفًا، أَيْ يَلْبَسُ الْإِزَارَ وَيُرْخِيهِ (إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ بِقَرِينَةٍ، مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ فِي جَمْعِ الْأَنْصَافِ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْسِعَةِ (وَقَالَ) أَيْ عُثْمَانُ وَيُحْتَمَلُ سَلَمَةَ عَلَى بُعْدٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَكْرَارُ قَالَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ يَقُولُ عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ يَأْتَزِرُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ مُكَرَّرًا (هَكَذَا) أَيْ مِثْلَ هَذَا الِاتِّزَارِ الْمَذْكُورِ (كَانَتْ إِزْرَةُ صَاحِبِي) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الزَّايِ صِيغَةُ النَّوْعِ وَالْهَيْئَةِ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ عُثْمَانَ بِصَاحِبِي (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ سَلَمَةَ، أَوْ يَعْنِي سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَهُ إِيَاسٌ، وَفَائِدَةُ نَقْلِ سَلَمَةَ حِينَئِذٍ الْإِزْرَةَ عَنْ عُثْمَانَ، مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِيُعْلَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ مَحْفُوظَةٌ مَعْمُولَةٌ لِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلْيَتَأَكَّدِ النَّدْبُ ; وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَأَمَّا نُسْخَةُ ابْنِ سَعْدٍ بِلَا يَاءٍ فَتَحْرِيفٌ (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَنْبَأَنَا، وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) أَيِ السُّبَيْعِيِّ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ) بِضَمِّ نُونٍ وَفَتْحِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ يَاءٍ فَرَاءٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي نُسْخَةٍ يَزِيدُ بِفَتْحِ تَحْتِيَّةٍ، وَكَسْرِ زَايٍ آخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، فَفِي التَّقْرِيبِ مُسْلِمُ بْنُ نُذَيْرٍ مُصَغَّرًا، وَيُقَالُ: ابْنُ يَزِيدَ كُوفِيٌّ يُكَنَّى أَبَا عِيَاضٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) بِكَسْرِ النُّونِ بِلَا يَاءٍ، كَانَ حُذَيْفَةُ صَاحِبَ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ وَالْفِتَنِ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ قَبْلَ بَدْرٍ وَشَهِدَا أُحُدًا وَقُتِلَ أَبُوهُ فِي الْمَعْرَكَةِ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً، فَوَهَبَ لَهُمْ دَمَهُ (قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَضَلَةِ سَاقِي) بِفَتْحِ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، كُلُّ لَحْمَةٍ

مُجْتَمِعَةٍ فِي عَصَبٍ، فَفِي النِّهَايَةِ عَلَى وَزْنِ طَلْحَةَ، وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَفِي الْقَامُوسِ مُحَرَّكَةٌ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ (أَوْ سَاقَهُ) شَكٌّ مِنْ رَاوِي حُذَيْفَةَ هَلْ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِعَضَلَةِ حُذَيْفَةَ، أَوْ أَخَذَ بِعَضَلَةِ نَفْسِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَقِيلَ: الشَّكُّ إِمَّا مِنْ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ، أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ حُذَيْفَةَ فَبَعِيدٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ مِيرَكُ: الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بِلَفْظِ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَلَ مِنْ عَضَلَةِ سَاقِي بِغَيْرِ شَكٍّ، انْتَهَى. فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّكَّ مِنْ حُذَيْفَةَ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَلَا يَتَّجِهُ جَزْمُ الشَّارِحِينَ بِأَنَّهُ مِنَ الرُّوَاةِ انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ مَنْ جَزَمَ بِهِ، بَلْ قَالُوا بِتَرْجِيحِهِ، وَأَمَّا ابْنُ حَجَرٍ مَعَ كَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعِصَامِ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْجَزْمِ وَالْقَطْعِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَذَا) أَيِ الْعَضَلَةُ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ تَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ (مَوْضِعُ الْإِزَارِ) أَيْ مَوْضِعُهُ اللَّائِقُ بِهِ (فَإِنْ أَبَيْتَ) أَيِ امْتَنَعْتَ مِنْ قَبُولِ النَّصِيحَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْعَمَلِ بِالْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ، وَأَرَدْتَ التَّجَاوُزَ عَنِ الْعَضَلَةِ، (فَأَسْفَلُ) بِالرَّفْعِ أَيْ فَمَوْضِعُهُ أَسْفَلُ مِنَ الْعَضَلَةِ قَرِيبًا مِنْهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ (فَإِنْ أَبَيْتَ فَلَا حَقَّ) أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَقَّ (لِلْإِزَارِ فِي الْكَعْبَيْنِ) أَيْ فِي وُصُولِهِ إِلَيْهِمَا وَالْمَعْنَى إِذَا جَاوَزَ الْإِزَارُ الْكَعْبَيْنِ فَقَدْ خَالَفْتَ السُّنَّةَ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ الْإِزَارُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ انْتَهَى. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُخَرَّجَ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْبَالَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ جَائِزٌ، لَكِنْ مَا أَسْفَلَ مِنْهُ مَمْنُوعٌ ; وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ فِيمَا يَنْزِلُ إِلَيْهِ طَرَفُ الْإِزَارِ هُوَ نِصْفُ السَّاقِ، وَالْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ مَا تَحْتَهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَمَا نَزَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ فَمَمْنُوعٌ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، وَإِلَّا فَمَنْعَ تَنْزِيهٍ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ هَذَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِسْبَالِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ; لِئَلَّا يَنْجَرَّ إِلَى مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» ، وَيُفْهَمَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَنَّ الِاسْتِرْخَاءَ إِلَى مَا وَرَاءَ الْكَعْبَيْنِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ فِي مَعْنَى الْإِزَارِ الْقَمِيصَ، وَسَائِرَ الْمَلْبُوسَاتِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِزَارُ بِالذِّكْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَضِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ، أَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ غَالِبَ مَلْبُوسَاتِهِمْ كَانَ إِزَارًا، قَالَ مِيرَكُ: وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْإِسْبَالِ مَنْ أَسْبَلَهُ لِضَرُورَةٍ كَمَنْ يَكُونُ بِكَعْبِهِ جُرْحٌ يُؤْذِيهِ الذُّبَابُ مَثَلًا، إِنْ لَمْ يَسْتُرْهُ بِإِزَارِهِ وَثَوْبِهِ حَيْثُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْعِرَاقِيُّ مُسْتَدِلًّا بِإِذْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي لُبْسِ قَمِيصِ الْحَرِيرِ مِنْ أَجْلِ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمَا فِيهِ لَمَّا شَكَيَا إِلَيْهِ الْقَمْلَ، وَجَمَعَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْعِلَّتَيْنِ كَانَتَا بِهِمَا مَعًا، أَوْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْأُخْرَى، أَوْ أَنَّ الْحَكَّةَ نَشَأَتْ عَنِ الْقَمْلِ فَنُسِبَتِ الْعِلَّةُ تَارَةً لِلسَّبَبِ، وَتَارَةً لِلْمُسَبِّبِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا جَوَازُ تَعَاطِي مَا نُهِيَ عَنْهُمَا شَرْعًا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، كَمَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِلتَّدَاوِي. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِسْبَالِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، لِمَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مُسْبِلِ الْإِزَارِ، قَالَتْ: كَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ، فَقَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ، فَالْمَقْصُودُ حُصُولُ السَّتْرِ وَالْمُجَاوَزَةُ عَنِ الْحَدِّ مَمْنُوعٌ، إِمَّا كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا، فَإِذَا لَبِسَتِ الْمَرْأَةُ خُفًّا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّجَاوُزُ عَنِ الْقَدَمِ فِي حَقِّهِنَّ، وَكَذَا جَوَازُ الْإِرْخَاءِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِلتَّسَتُّرِ، فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الثِّيَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(باب ما جاء في مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم)

قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ تَحْرِيمَ إِسْبَالِ الْإِزَارِ مَخْصُوصٌ بِالْجَرِّ ; لِأَجْلِ الْخُيَلَاءِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا، لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءً، وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا، وَالْبَطَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: التَّكَبُّرُ وَالطُّغْيَانُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُعْلَمُ مِنْ بَعْضِ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُ الْإِسْبَالِ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ أَيْضًا، كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبُخَارِيِّ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ، لَكِنْ يُسْتَدَلُّ بِالتَّقْيِيدِ فِي حَدِيثِهِ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِالْخُيَلَاءِ وَالْبَطَرِ عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الزَّجْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَا، فَلَا يَحْرُمُ الْإِسْبَالُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الْخُيَلَاءِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِحْدَى شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءً» ، هَذَا وَيَدْخُلُ فِي الزَّجْرِ عَنْ جَرِّ الثَّوْبِ تَطْوِيلُ أَكْمَامِ الْقَمِيصِ، وَالْعَذَبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ كَرَاهَةَ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ مِنَ الطُّولِ وَالسَّعَةِ، وَتَبِعَهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: حَدَثَ لِلنَّاسِ اصْطِلَاحٌ، وَصَارَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلَائِقِ شِعَارٌ يُعْرَفُونَ بِهِ، فَمَهْمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْخُيَلَاءِ فَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ، فَلَا يَجْرِي النَّهْيُ فِيهِ، مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. قِيلَ: وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْدُو مِنْهُ إِلَّا طَيِّبٌ، كَانَ عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَّسِخَ لَهُ ثَوْبٌ، وَمِنْ خَوَاصِّهِ أَنَّ ثَوْبَهُ لَمْ يَقْمَلْ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ الذُّبَابَ كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى ثِيَابِهِ قَطُّ، وَأَنَّ الْبَعُوضَ لَا يَمْتَصُّ دَمَهُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ فَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِهِ، وَاسْتَأْنَسَ لَهُ بِأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَلْبَسْهُ إِلَّا يَوْمَ قَتْلِهِ، لَكِنْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَاهُ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِيَلْبَسَهُ، قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّهُ لَبِسَهُ، وَكَانُوا يَلْبَسُونَهُ فِي زَمَانِهِ وَبِإِذْنِهِ انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ مِرْطًا مُرَحَّلًا مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، وَالْمِرْطُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ يُؤْتَزَرُ بِهِ، وَالْمُرَحَّلُ بِضَمٍّ فَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، هُوَ مَا فِيهِ صُوَرُ رَحَّالِ الْإِبِلِ، وَلَا بَأْسَ بِهَا إِذْ لَا يَحْرُمُ إِلَّا تَصْوِيرُ الْحَيَوَانِ، وَقَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ إِزَارُ خَزٍّ فِيهِ عَلَمٌ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: غَيْرُ جَيِّدٍ، إِنَّمَا ذَلِكَ تَفْسِيرُ الْمُرَجَّلِ بِالْجِيمِ، وَرِوَايَتُهُ بِالْمُهْمَلَةِ عَلَى مَا صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمِشْيَةُ بِالْكَسْرِ مَا يَعْتَادُهُ الشَّخْصُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَى مَا هُوَ وَضْعُ الْفِعْلَةِ بِالْكَسْرِ، ذَكَرَهُ الْجَارَبَرْدِيُّ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحِ اللَّامِ فَكَسْرِ الْهَاءِ ابْنُ عُقْبَةَ الْحَضْرَمِيُّ صَدُوقٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْعِصَامُ: خَلَطَ

بَعْدَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِضَعْفِهِ فِي التَّهْذِيبِ (عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ) أَيْ أَبْصَرْتُ أَوْ عَلِمْتُ، وَهُوَ أَبْلَغُ (شَيْئًا) تَنْوِينُهُ لِلتَّنْكِيرِ (أَحْسَنَ) صِفَةُ شَيْئًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى الثَّانِي (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ كَوْنِ شَيْءٍ أَحْسَنَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْسَنُ مِمَّا عَدَاهُ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ عُرْفًا كَمَا سَبَقَ (كَأَنَّ الشَّمْسَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ تَعْلِيلٍ، أَيْ كَانَ شُعَاعُهَا أَوْ جِرْمُهَا خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ فِي الثَّانِي، مَعَ أَنَّهُ أَبْلَغُ (تَجْرِي فِي وَجْهِهِ) شَبَّهَ جَرَيَانَ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا بِجَرَيَانِ الْحُسْنِ وَنُورِهِ فِي وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَكَسَ التَّشْبِيهَ مُبَالَغَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَنَاهِي التَّشْبِيهِ، بِجَعْلِ وَجْهِهِ مَقَرًّا وَمَكَانًا لِلشَّمْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، لَوْ رَأَيْتَهُ لَرَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظِلٌّ، وَلَمْ يَقُمْ مَعَ شَمْسٍ قَطُّ إِلَّا غَلَبَ ضَوْءُهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَقُمْ مَعَ سِرَاجٍ قَطُّ إِلَّا غَلَبَ ضَوْءُهُ ضَوْءَ السِّرَاجِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى أَحْسَنِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْوَجْهَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ الْمَحَاسِنُ ; لِأَنَّ حُسْنَ الْبَدَنِ تَابِعٌ لِحُسْنِهِ غَالِبًا، (وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ) بِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِلَا تَاءٍ، أَيْ فِي كَيْفِيَّةِ مَشْيِهِ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا الْأَرْضُ) بِالرَّفْعِ (تُطْوَى) أَيْ تُجْمَعُ وَتُجْعَلُ مَطْوِيَّةً (لَهُ) أَيْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ (إِنَّا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، وَفِي نُسْخَةٍ وَإِنَّا (لَنُجْهِدُ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا انْتَهَى. فَمَا وَقَعَ لِابْنِ حَجَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلرِّوَايَةِ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلدِّرَايَةِ، يُقَالُ: أَجْهَدَ دَابَّتَهُ وَجَهَدَهَا إِذَا حَمَلَ عَلَيْهَا فِي السَّيْرِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْمَشَقَّةِ فَالْمَعْنَى إِنَّا نُتْعِبُ (أَنْفُسَنَا) وَنُوقِعُهَا فِي الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ فِي حَالِ سَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ) أَيْ غَيْرُ مُبَالٍ بِجَهْدِنَا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نُجْهِدُ أَوْ مَفْعُولِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ سُرْعَةَ مَشْيِهِ كَانَتْ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْهَوْنِ، وَالتَّأَنِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِسُرْعَةٍ فَاحِشَةٍ تُذْهِبُ بَهَاءَهُ وَوَقَارَهُ، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ سُرْعَتَهُ فِي مِشْيَتِهِ، كَانَتْ مِنْ كَمَالِ الْقُوَّةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْعَجَلَةِ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اقْتِرَانِ الْجُمْلَتَيْنِ، أَنَّ حُسْنَ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُسْتَمِرًّا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ، وَسُكُونِ جِيمٍ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ مِنَ الْمَشَايِخِ (قَالُوا: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ) بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ فَسُكُونِ فَاءٍ (قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ أَوْ ضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ أَيْ مِنْ أَوْلَادِهِ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، (قَالَ) أَيْ إِبْرَاهِيمُ (كَانَ عَلِيٌّ إِذَا وَصَفَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه

(باب ما جاء في تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وسلم قَالَ) أَيْ عَلِيٌّ (كَانَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ (إِذَا مَشِيَ تَقَلَّعَ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ قَلَعَ الشَّجَرَةَ إِذَا نَزَعَهَا مَنْ أَصْلِهَا، أَيْ مَشَى بِقُوَّةٍ، وَدَفْعٍ كَامِلٍ ; لِأَنَّ التَّقَلُّعَ رَفْعُ الرِّجْلِ مِنَ الْأَرْضِ بِهِمَّةٍ وَقُوَّةٍ، لَا مَعَ اخْتِيَالٍ وَتَقَارُبِ خُطًا ; لِأَنَّ تِلْكَ مِشْيَةُ النِّسَاءِ وَالْمُتَشَابِهِ بِهِنَّ (كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَنْزِلُ (فِي صَبَبٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى، وَهُوَ مَا انْحَدَرَ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ صَبَبٍ، فَهِيَ بِمَعْنَى فِي أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْحَدِيثُ سَبَقَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَيَحْتَمِلُ إِتْيَانُهُ هُنَا أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا مِنْهُ أَوْ حَدِيثًا بِرَأْسِهِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبِي عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ (عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ مُطْعِمٍ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مُخَفَّفًا (عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزٌ (تَكَفُّؤًا) بِضَمِّ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا هَمْزٌ، وَفِي نُسْخَةٍ تَكَفَّى بِلَا هَمْزٍ تَكَفِّيًا، بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ، وَقَدْ مَرَّ مَعْنَاهُ، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى تَقَلَّعَ أَيْ تَمَايَلَ إِلَى أَمَامِهِ ; لِيَرْفَعَهُ عَنِ الْأَرْضِ بِكُلِّيَّتِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَا مَعَ اهْتِزَازٍ وَتَكَسُّرٍ، وَجَرِّ رِجْلٍ بِالْأَرْضِ عَلَى هَيْئَةِ الْمُتَمَاوِتِ أَوْ مِشْيَةِ الْمُخْتَالِ (كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ) (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَقَنُّعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) التَّقَنُّعُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ بِطَرَفِ الْعِمَامَةِ، أَوْ بِرِدَاءٍ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعِمَامَةِ أَوْ تَحْتَهَا، لِمَا وَرَدَ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ فِي الْقَائِلَةِ مُتَقَنِّعًا بِثَوْبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَغَشِّيًا بِهِ فَوْقَ الْعِمَامَةِ لَا تَحْتَهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا اسْتِعْمَالُ الْقِنَاعِ وَهُوَ ثَوْبٌ يُلْقِي بِهِ الشَّخْصُ عَلَى رَأْسِهِ بَعْدَ تَدْهِينِهِ ; لِئَلَّا يَصِلَ أَثَرُ الدُّهْنِ إِلَى الْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ وَأَعَالِي الثَّوْبِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَجَعَلَهُ بَابًا مَعَ أَنَّ حَدِيثَهُ سَبَقَ فِي بَابِ التَّرَجُّلِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ اللُّبَاسِ غَيْرُ ظَاهِرٍ انْتَهَى. وَأَقُولُ: وَكَذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ قَدْ يُجْعَلُ لَهُ بَابَانِ وَأَكْثَرَ، بِاعْتِبَارِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَبْوَابِ كِتَابِهِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْجَوَابِ عَنِ الثَّانِي لَكِنْ بِعِبَارَةٍ شَنِيعَةٍ حَيْثُ قَالَ: وَيَرُدُّ بِأَنَّ التَّقَنُّعَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَاشِي كَثِيرًا لِلْوِقَايَةِ مِنْ نَحْوِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ. وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ لِذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْيِ مُنَاسَبَةٌ تَامَّةٌ، تَمَّ كَلَامُهُ وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ لَكَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ حَاصِلَةٌ أَيْضًا مَعَ مُنَاسَبَاتٍ أُخَرَ، بِاعْتِبَارِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّقَنُّعِ هُنَا لَيْسَ إِلَّا ظِلَالَ الْوَاقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَكَلَامُهُ حَارٌّ وَجَوَابُهُ بَارِدٌ فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنْبَأَنَا (الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ) بِالتَّكْبِيرِ فِيهِمَا (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُنْصَرِفٌ، وَغَيْرُ مُنْصَرِفٍ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ لُبْسِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ (كَأَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ لِلتَّشْبِيهِ (ثَوْبُهُ) أَيْ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ قِنَاعِهِ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ رَأْسَهُ (ثَوْبَ زَيَّاتٍ) بِصِيغَةِ النِّسْبَةِ

(باب ما جاء في جلسته)

أَيْ بَائِعِ الزَّيْتِ أَوْ صَانِعِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُمَا مُدَّهِنًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي جِلْسَتِهِ) بِالْإِضَافَةِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ جِلْسَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَمَّا جَعْلُ الْحَنَفِيِّ وَالْعِصَامِ جِلْسَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا، وَإِضَافَتُهُ نُسْخَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَكَذَا اقْتِصَارُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى جِلْسَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، اسْمٌ لِلنَّوْعِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ بِقَرِينَةِ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ، وَرُبَّمَا يُفَرِّقُ فَيَجْعَلُ الْقُعُودَ لِمَا هُوَ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسَ لِمَا هُوَ مِنَ الِاضْطِجَاعِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِلْسَةِ الْمُعَنْوَنَةِ مُقَابَلَةُ الْقَوْمَةِ ; لِيَشْمَلَ الْبَابُ حَدِيثَ الِاسْتِلْقَاءِ أَيْضًا. (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنْبَأَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَّانَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ يَنْصَرِفُ وَلَا يَنْصَرِفُ (عَنْ جَدَّتَيْهِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ (عَنْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ أَنَّهَا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَاعِدٌ) بِالرَّفْعِ مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ (الْقُرْفُصَاءَ) بِضَمِّ قَافٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَضَمِّ فَاءٍ، فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَهِيَ جِلْسَةُ الْمُحْتَبِي، يُقَالُ: قَرْفَصَ الرَّجُلُ إِذَا شَدَّ يَدَيْهِ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ، فَيُلْصِقَ فَخِذَيْهِ بِبَطْنِهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى سَاقَيْهِ، كَمَا يَحْتَبِي بِالثَّوْبِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُنْكَبًّا وَيُلْصِقَ بَطْنَهُ بِفَخِذَيْهِ، وَيَتَأَبَّطَ كَفَّيْهِ، وَهِيَ جِلْسَةُ الْأَعْرَابِ وَفِي الْقَامُوسِ الْقُرْفُصَاءُ مُثَلَّثَةُ الْقَافِ وَالْفَاءُ مَقْصُورَةٌ وَبِالضَّمِّ مَمْدُودَةٌ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ انْتَهَى. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ الرِّوَايَةُ وَالنُّسْخَةُ (قَالَتْ) أَيْ قَيْلَةُ (فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ (الْمُتَخَشِّعَ) مِنَ التَّخَشُّعِ، ظُهُورُ الْخُشُوعِ صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِرَأَيْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ (فِي الْجِلْسَةِ) أَيْ فِي هَيْئَةِ جِلْسَتِهِ، وَكَيْفِيَّةِ قَعْدَتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ إِظْهَارَ عُبُودِيَّتِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: «أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ» ، لَا عَلَى هَيْئَةِ جُلُوسِ الْجَبَّارِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ التَّرَبُّعِ، وَالتَّمَدُّدِ وَالِاتِّكَاءِ، وَرَفْعِ الرَّأْسِ شَمَّاخَةَ الْأَنْفِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَالِاحْتِجَابِ عَنِ الْمُحْتَاجِينَ (أُرْعِدْتُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ حَصَلَتْ لِي رِعْدَةٌ (مِنَ الْفَرَقِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ أَيِ الْخَوْفِ

الْإِلَهِيِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّوَاضُعِ النَّبَوِيِّ، يَعْنِي كَانَ مَعَ تَخَشُّعِهِ عَظِيمًا، هَابَتْنِي عَظَمَتُهُ وَحَصَلَ لِيَ الْخَوْفُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ: «مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ» ، قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ قِصَّةِ قَيْلَةَ أَنَّهُ أَوَّلُ مُلَاقَاتِهَا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلِذَا هَابَتْهُ وَوَقَعَ فِي قِصَّتِهَا بَعْدَ قَوْلِهَا أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَقَالَ لَهُ جَلِيسُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرْعِدَتِ الْمِسْكِينَةُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيَّ، وَأَنَا عِنْدَ ظَهْرِهِ، يَا مِسْكِينَةُ عَلَيْكِ السَّكِينَةُ، فَلَمَّا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ دَخَلَ قَلْبِي مِنَ الرُّعْبِ، وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ قَيْسٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ رَجُلًا فَأُرْعِدَ، فَقَالَ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» ، وَالتَّخَشُّعُ إِمَّا بِهَذِهِ الْجِلْسَةِ، وَإِمَّا بِأُمُورٍ أُخَرَ شَاهَدْتُهَا فِي الْحَضْرَةِ. (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ) ثِقَةٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَشَايِخِ (قَالُوا: أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ (بْنِ تَمِيمٍ) أَيِ الْأَنْصَارِيِّ الْمُزَنِيِّ ثِقَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ رِوَايَةً (عَنْ عَمِّهِ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، رَوَى صِفَةَ الْوُضُوءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْحَرَّةِ، وَرَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا) أَيْ مُضْطَجِعًا عَلَى قَفَاهُ (فِي الْمَسْجِدِ) وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّوْمُ، وَفِي الْقَامُوسِ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ نَامَ وَهُوَ حَالٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَاضِعًا) مُتَرَادِفَيْنِ أَوْ مُتَدَاخِلَيْنِ (إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) أَيْ مَعَ نَصْبِ الْأُخْرَى أَوْ مَدِّهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُنَافِيهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ ثُمَّ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي حَدِيثٍ: الْأَصْلُ بَيَانُ جَوَازِ هَذَا الْفِعْلِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ عَنْهُ، إِمَّا مَنْسُوخٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ النَّهْيِ أَنْ تَبْدُوَ عَوْرَةُ الْفَاعِلِ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِزَارَ رُبَّمَا ضَاقَ، فَإِذَا شَالَ لَابِسُهُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فَوْقَ الْأُخْرَى بَقِيَتْ هُنَاكَ فُرْجَةٌ تَظْهَرُ مِنْهَا عَوْرَتُهُ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ لِضَرُورَةٍ مِنْ تَعَبٍ، وَطَلَبِ رَاحَةٍ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقِيلَ: وَضْعُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رِجْلَاهُ مَمْدُودَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْكَشِفُ شَيْءٌ مِنَ الْعَوْرَةِ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ نَاصِبًا رُكْبَةَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَيَضَعَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى عَلَى الرُّكْبَةِ الْمَنْصُوبَةِ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَلَى الثَّانِي، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالتَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنَ ادِّعَاءِ النَّسْخِ ; لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَوَازَ مِنْ خَصَائِصِهِ بَعِيدٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ أَيْضًا ; وَلِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاتِّكَاءِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا، يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِحَالَةِ الِاعْتِكَافِ، فَإِنَّ قُعُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجَامِعِ عُلِمَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، حَيْثُ كَانَ يَجْلِسُ عَلَى وَقَارٍ وَتَوَاضُعٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ الْعِصَامُ: وَجْهُ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْجِلْسَةِ خَفِيٌّ، لَمْ يَتَصَدَّ لَهُ شَارِحٌ انْتَهَى. وَتَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الْجُلُوسِ عَلَى سَائِرِ كَيْفِيَّاتِهِ بِالْأَوْلَى انْتَهَى. وَيَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِلْبَابِ وَإِلَّا ظَهَرَ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجِلْسَةِ هَيْئَةُ الْجُلُوسِ الْمُقَابِلِ لِلْقِيَامِ،

(باب ما جاء في تكأة رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. (حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَدَنِيُّ) وَفِي نُسْخَةِ الْمَدِينِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ حِبَّانَ إِلَى الْوَضْعِ، لَكِنْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَنْصَارِيِّ) مَجْهُولٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ (عَنْ رُبَيْحِ) مُصَغَّرُ رِبْحٍ بِرَاءٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَمُهْمَلَةٍ، (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) مَقْبُولٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَبِيهِ) أَيِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ ضَمِّ الْمُعْجَمَةِ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي الْمَجْلِسِ (احْتَبَى بِيَدَيْهِ) زَادَ الْبَزَّارُ (وَنَصَبَ رُكْبَتَيْهِ) وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «جَلَسَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَضَمَّ رِجْلَيْهِ وَأَقَامَهَا، وَاحْتَبَى بِيَدَيْهِ» ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وَفِي بَعْضِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: احْتَبَى الرَّجُلُ: إِذَا جَمَعَ ظَهْرَهُ وَسَاقَيْهِ بِعِمَامَتِهِ، وَقَدْ يَحْتَبِي بِيَدَيْهِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الِاحْتِبَاءُ الْجُلُوسُ بِالْحَبْوَةِ، وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ ظَهْرَهُ وَسَاقَيْهِ بِإِزَارٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ سَيْرٍ يَجْعَلُونَهُ بَدَلًا عَنِ الِاسْتِنَادِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْحِبْوَةُ، وَالِاحْتِبَاءُ بِالْيَدِ هُوَ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى سَاقَيْهِ فِي جِلْسَةِ الْقُرْفُصَاءِ، فَيَكُونُ يَدَاهُ بَدَلًا عَمَّا يَحْتَبِي بِهِ مِنَ الْإِزَارِ وَغَيْرِهِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الِاحْتِبَاءُ جِلْسَةُ الْأَعْرَابِ، وَمِنْهُ الِاحْتِبَاءُ حِيطَانُ الْعَرَبِ، أَيْ لَيْسَ فِي الْبَرَارِي حِيطَانٌ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْتَنِدُوا احْتَبَوْا ; لِأَنَّ الثَّوْبَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ السُّقُوطِ، وَيُصَيِّرُهَا لَهُمْ كَالْجِدَارِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِاحْتِبَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ رُبَّمَا تَسْتَجْلِبُ النَّوْمَ، فَيَفُوتُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ، وَرُبَّمَا يُفْضِي إِلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الصَّلَاةِ، هَذَا وَجَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءُ أَيْ نَقِيَّةٌ بَيْضَاءُ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرِّيَاضِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، انْتَهَى. فَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَصِّصٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَتَارَةً تَرَبَّعَ، وَتَارَةً احْتَبَى، وَتَارَةً اسْتَلْقَى، وَتَارَةً ثَنَى رِجْلَيْهِ، تَوْسِعَةً لِلْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي تُكَأَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) التُّكَأَةُ بِالْهَمْزَةِ بِوَزْنِ الْهُمَزَةِ مَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ مِنْ وِسَادَةٍ وَغَيْرِهَا، وَأَصْلُهَا وُكَأَةٌ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً، كَمَا فِي تُرَاثٍ وَتُجَاهٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا مَا هُيِّئَ وَأُعِدَّ لِذَلِكَ فَخَرَجَ الْإِنْسَانُ إِذَا اتَّكَئَ عَلَيْهِ، فَلَا يُسَمَّى تُكَأَةً، وَمِنْ ثَمَّةَ تَرْجَمَ لَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِبَابَيْنِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا، وَقَدَّمَ هَذَا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الِاتِّكَاءِ، وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ فَعَارِضٌ وَقَلِيلٌ ; وَلِهَذَا أَيْضًا تَرْجَمَ هُنَا بِالتُّكَأَةِ دُونَ الِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا، وَفِيمَا يَأْتِي بِالِاتِّكَاءِ دُونَ الْمُتَوَكَّأِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ اسْتِعْمَالَهَا فِي التَّعْبِيرِ بِالتُّكَأَةِ هُنَا، وَبِالْمُتَوَكَّأِ عَلَيْهِ ثَمَّةَ أَوْ فِي التَّعْبِيرِ بِالِاتِّكَاءِ لِلتُّكَأَةِ وَالْمُتَوَكَّأِ عَلَيْهِ وَوَجْهُهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ التُّكَأَةَ مَقْصُودَةٌ لَا الِاتِّكَاءُ بِطَرِيقِ الذَّاتِ، فَكَانَ النَّصُّ فِي التَّرْجَمَةِ أَوْلَى، وَالْمُتَوَكَّأُ عَلَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّ حَذْفَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَالنَّصُّ عَلَى الِاتِّكَاءِ أَوْلَى، فَانْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ، بِأَنَّ الْكُلَّ بَابٌ وَاحِدٌ، فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ بَابَيْنِ. (حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ حَاتِمِ بْنِ وَاقِدٍ (الدُّورِيُّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى مَحِلَّةٍ مِنْ بَغْدَادَ، أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا (الْبَغْدَادِيُّ) ثِقَةٌ حَافِظٌ كَانَ ابْنُ مَعِينٍ، إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ صَدِيقُنَا وَصَاحِبُنَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَرْبَعَةُ (

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكِ) بِكَسْرِ السِّينِ (بْنِ حَرْبٍ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُمْ (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ) بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ مِخَدَّةٍ كَائِنَةٍ (عَلَى يَسَارِهِ) أَيْ حَالَ كَوْنِهَا مَوْضُوعَةً عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، فَيَجُوزُ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْوِسَادَةِ يَمِينًا وَيَسَارًا، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ أَنَّهُ بَيَّنَ انْفِرَادَ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ فِي جَامِعِهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ الْعِصَامُ: قَوْلُهُ: مُتَّكِئًا بَدَلٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَنْسَبُ مِنْ كَوْنِهِ حَالًا، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ قِيلَ: الِاتِّكَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ قَاعِدًا عَلَى وَطَاءٍ، كَأَنَّ الْمُتَّكِئَ جَعَلَ الْوَضَّاءَ وِكَاءً سَدَّ بِهِ مَقْعَدَهُ، لِتَمَكُّنِهِ فِيهِ، وَذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ إِلَى أَنَّ الْعَامَّةَ لَا تَفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الْمَيْلَ إِلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ، وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى يَسَارِهِ يَصْرِفُهُ إِلَى مَا يُرِيدُ بِهِ الْعَامَّةُ. (حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (الْجُرَيْرِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى، فَتَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ مَرَّ ذِكْرُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَكْرَةَ) الْبَصْرِيِّ التَّابِعِيِّ، وَهُوَ أَوَّلٌ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ فِي بَصْرَةَ، رَوَى عَنْهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، نَزَلَ الطَّائِفَ حِينَ نَادَى الْمُسْلِمُونَ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْحِصَارِ فَهُوَ حُرٌّ مِنَ الْبَكْرَةِ، فَسُمِّيَ بِهَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا) بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، وَلَا نَافِيَةٌ (أُحَدِّثُكُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ (بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) أَيْ بِجِنْسِ مَعْصِيَةٍ هِيَ أَكْبَرُ الْمَعَاصِي الْكِبَارِ، فَلَا يَرُدُّ مَا قَالَ الْعِصَامُ أَنَّ تَعَدُّدَ الْكَبَائِرِ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ كَبِيرَةٌ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا كَانَ الْمَعْنَى مُتَعَدِّدًا مِنَ الْكَبَائِرِ كُلٌّ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَا ذَلِكَ الْمُتَعَدِّدِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ مُتَعَدِّدٌ، وَهَذَا بِأَنْ يَقْصِدَ بِالْأَكْبَرِ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، لَا الزِّيَادَةَ الْمُطْلَقَةَ كَمَا بَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ» فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، «أَلَا أُخْبِرُكُمْ» ، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ» ، وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا أَعَادَهَا ثَلَاثًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ شَأْنٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا عَدَدُ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ حَالٌ، فَقَدْ أَبْعَدَ عَنِ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِالْوَاسِطَةِ لِأُحَدِّثُكُمْ، وَالْكَبَائِرُ جَمْعُ كَبِيرَةٍ وَهِيَ مَا تَوَعَّدَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، بِحَدٍّ فِي الدُّنْيَا وَبِعَذَابٍ فِي الْعُقْبَى، كَذَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ ضَعِيفٍ، الْكَبِيرَةُ

كُلُّ ذَنْبٍ أَدْخَلَ صَاحِبَهُ النَّارَ، أَيْ جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لِدُخُولِهِ إِيَّاهَا ; وَلِهَذَا هِيَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْإِسْفِرَايِينِيِّ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ صَغِيرَةٌ، نَظَرًا لِمَنْ عَصَى، وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: حَدُّهَا مُبْهَمٌ عَلَيْنَا، كَمَا أَبْهَمَ عَلَيْنَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَسَاعَةَ الْجُمُعَةِ، وَوَقْتَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ لَيْلًا، وَالصَّلَاةَ الْوُسْطَى، وَحِكْمَتُهُ هُنَا: الِامْتِنَاعُ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْكَبِيرَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَأَنَّ لِلْكَبِيرَةِ حَدًّا، فَقِيلَ: هِيَ مَا فِيهِ حَدٌّ، وَقِيلَ: مَا وَرَدَ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَقَدْ عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ مِنْهَا جُمَلًا مُسْتَكْثَرَةً، كَقَتْلِ نَفْسٍ، وَزِنًا، وَلِوَاطَةٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَسَرِقَةٍ وَقَذْفٍ، وَشَهَادَةِ زُورٍ، وَكَتْمِ شَهَادَةٍ، وَيَمِينٍ غَمُوسٍ، وَغَصْبِ مَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ، وَفِرَارٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِلَا عُذْرِ، وَرِبًا وَأَخْذِ مَالِ يَتِيمٍ، وَرَشْوَةٍ وَعُقُوقِ أَصْلٍ، وَقَطْعِ رَحِمٍ وَكَذِبٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْدًا، وَإِفْطَارٍ فِي رَمَضَانَ غُدُوًّا، وَبَخْسِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذِرَاعٍ، وَتَقْدِيمِ مَكْتُوبَةٍ عَلَى وَقْتِهَا، وَتَأْخِيرِهَا عَنْهُ، وَتَرْكِ زَكَاةٍ، وَضَرْبِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ عُدْوَانًا، وَسَبِّ صَحَابِيٍّ وَغَيْبَةِ عَالِمٍ أَوْ حَامِلِ قُرْآنٍ، وَسِعَايَةٍ عِنْدَ ظَالِمٍ، وَدِيَاثَةٍ وَقِيَادَةٍ وَتَرْكِ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ قَادِرٍ، وَتَعَلُّمِ سِحْرٍ أَوْ تَعْلِيمِهِ أَوْ عَمَلِهِ، وَنِسْيَانِ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَإِحْرَاقِ حَيَوَانٍ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَأْسٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْنٍ مِنْ مَكْرِهِ، وَنُشُوزِ زَوْجَةٍ، وَإِبَاءِ حَلِيلَةٍ مِنْ حَلِيلِهَا عَدْوًا، وَنَمِيمَةٍ، وَحُكِيَ أَنَّ الْغَيْبَةَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا بِالْإِجْمَاعِ نَعَمْ تُبَاحُ لِأَسْبَابٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَصْرُ الصَّغَائِرِ مُتَعَذِّرٌ (قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ) فَائِدَةُ النِّدَاءِ مَعَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى عِظَمِ الْإِذْعَانِ لِرِسَالَتِهِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَاسْتِجْلَابِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ الْعَلِيَّةِ (قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) الْإِشْرَاكُ جَعْلُ أَحَدٍ شَرِيكًا لِآخَرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا اتِّخَاذُ إِلَهٍ غَيْرُ اللَّهِ، كَذَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الْكُفْرِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ، لَا سِيَّمَا فِي بَلَدِ الْعَرَبِ، فَذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُصُوصُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ قُبْحًا مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَهُوَ التَّعْطِيلُ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُطْلَقٌ، وَالْإِشْرَاكُ ثَبَاتٌ مُقَيَّدٌ، فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) أَيْ عِصْيَانُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا، وَجَمَعَهُمَا لِأَنَّ عُقُوقَ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ عُقُوقَ الْآخَرِ غَالِبًا، وَيَجُرُّ إِلَيْهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ عُقُوقُ كُلٍّ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْأَجْدَادُ، ثُمَّ الْعُقُوقُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُخَالَفَةُ مَنْ حَقُّهُ وَاجِبٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِّ، وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْمُرَادُ صُدُورُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا إِلَّا فِي شِرْكٍ وَمَعْصِيَةٍ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا فَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَا

كَافِرَيْنِ، وَفِي الْحَدِيثِ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي الْمُبَاحَاتِ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَاسْتِحْبَابِهِمَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَذَلِكَ، وَمِنْهُ تَقْدِيمُهُمَا عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْأَمْرَيْنِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ: ضَابِطُهُ أَنْ يَعْصِيَهُ فِي جَائِزٍ، وَلَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِمَرْضِيٍّ، وَالَّذِي آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ أَئِمَّتِنَا أَنَّ ضَابِطَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِنْهُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ فِي الْعُرْفِ. قُلْتُ: حَاصِلُهُ أَنَّ الْعُقُوقَ مُخَالَفَةٌ تُوجِبُ الْغَضَبَ، وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَمِنَ الصَّغَائِرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، لَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الرِّضَا وَالسُّخْطِ حَالًا مُتَوَسِّطًا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ. قِيلَ: الْقَتْلُ وَالزِّنَا أَكْبَرُ مِنَ الْعُقُوقِ بَلْ قِيلَ لَا خِلَافَ أَنَّ أَكْبَرَ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ قَتْلُ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِمَ حُذِفَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ أَحَادِيثٍ أُخَرَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُرَاعِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَحْوَالَ الْحَاضِرِينَ، كَقَوْلِهِ مَرَّةً: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا، وَأُخْرَى أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْجِهَادُ، وَأُخْرَى أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ (قَالَ) أَيْ أَبُو بَكْرَةَ (وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ إِثْمِ شَهَادَةِ الزُّورِ (وَكَانَ مُتَّكِئًا) أَيْ قَبْلَ الْجِلْسَةِ وَالْجُمْلَةِ، حَالٌ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اهْتَمَّ بِذَلِكَ حَتَّى جَلَسَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّكِئًا، وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ، وَعِظَمِ قُبْحِهِ، وَسَبَبُ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ الزُّورِ أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ أَسْهَلُ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ، وَالتَّهَاوُنَ بِهِمَا أَكْثَرُ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ، وَالْعُقُوقَ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعَ السَّلِيمَ، وَالْعَقْلَ الْقَوِيمَ، وَأَمَّا الزُّورُ فَالْحَوَامِلُ وَالْبَوَاعِثُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ، كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا، فَاحْتِيجَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِتَعْظِيمِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعْظِيمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ قَطْعًا، بَلْ لِكَوْنِ مَفْسَدَتِهِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا، بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ قَاصِرَةٌ غَالِبًا، وَقِيلَ: خَصَّ شَهَادَةَ الزُّورِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْكَافِرَ إِذْ هُوَ شَاهِدُ زُورٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الْمُسْتَحِلِّ وَهُوَ كَافِرٌ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الزِّنَا وَالْقَتْلُ وَغَيْرُهُمَا، فَكَانَتْ أَبْلَغَ ضَرَرًا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، فَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِجُلُوسِهِ وَتَكْرِيرِهِ ذَلِكَ فِيهَا، دُونَ غَيْرِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَجْهُ إِدْخَالِ الْعُقُوقِ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ، وَبَيْنَ قَوْلِ الزُّورِ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِهِ كَلِمَةُ الْكُفْرِ، هُوَ أَنَّ الْعُقُوقَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَفِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَاهُنَا غُلَامًا قَدِ احْتُضِرَ، فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَهَا، قَالَ: أَلَيْسَ كَانَ يَقُولُهَا فِي حَيَاتِهِ، قَالُوا: بَلَى قَالَ، فَمَا مَنَعَهُ مِنْهَا عِنْدَ مَوْتِهِ، فَنَهَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَضْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَى الْغُلَامَ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَهَا، قَالَ: وَلِمَ، قَالَ: لِعُقُوقِ وَالِدَتِي، قَالَ: أَهِيَ حَيَّةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهَا، فَجَاءَتْهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْنُكِ هُوَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ أَنَّ نَارًا أُجِّجَتْ، فَقِيلَ لَكِ: إِنْ لَمْ تَشْفَعِي فِيهِ قَذَفْنَاهُ فِي هَذِهِ النَّارِ، فَقَالَتْ: إِذًا كُنْتُ أَشْفَعُ لَهُ، قَالَ: فَأَشْهِدِي اللَّهَ، وَأَشْهِدِينَا بِأَنَّكِ قَدْ رَضِيتِ عَنْهُ، فَقَالَتْ: قَدْ رَضِيتُ عَنِ ابْنِي، قَالَ: يَا غُلَامُ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاتِّكَاءَ وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التُّكَأَةِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ أَنْسَبُ لِبَابِ الِاتِّكَاءِ مِنْ بَابِ التُّكَأَةِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَهُ، وَدَفَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الِاتِّكَاءَ مُسْتَلْزِمٌ لِلتُّكَأَةِ، فَكَأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ، انْتَهَى. وَفِيهِ مِنَ الْبَحْثِ مَا لَا يَخْفَى، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الِاتِّكَاءَ فِي الذِّكْرِ، وَإِفَادَةِ الْعِلْمِ بِمَحْضَرِ الْمُسْتَفِيدِينَ مِنْهُ لَا يُنَافِي الْأَدَبَ وَالْكَمَالَ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْصَارِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ، (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، فَكَانَ سَائِلًا، قَالَ: مَا فَعَلَ بَعْدَ مَا جَلَسَ، فَقَالَ: قَالَ: (وَشَهَادَةُ الزُّورِ) عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ أَيْ، وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ

شَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يَرُدُّ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنَ الْعُقُوقِ، وَفِي النِّهَايَةِ الزُّورُ بِضَمِّ الزَّايِ: الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ وَالتُّهْمَةُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَصْلُ الزُّورِ تَحْسِينُ الشَّيْءِ، وَوَصْفُهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ، حَتَّى يُخَيَّلَ لِمَنْ سَمِعَهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَقِيلَ لِلْكَذِبِ: زُورٌ ; لِأَنَّهُ مَائِلٌ عَنْ جِهَتِهِ (أَوْ قَوْلُ الزُّورِ) وَهُوَ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ، أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّنْوِيعِ. وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ لَا شَكَّ فِيهَا، وَهِيَ «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْنَا: أَلَا سَكَتَ» ، وَكَذَا وَقَعَ فِي الْعُمْدَةِ بِالْوَاوِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَيُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ، فَإِنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكِذْبَةُ الْوَاحِدَةُ مُطْلَقًا كَبِيرَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، قَالَ مِيرَكُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ الْكَذِبِ وَمَرَاتِبَهُ مُتَفَاوِتَةٌ، بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ; لِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةِ زُورٍ قَوْلُ زُورٍ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُ الزُّورِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: شَهَادَةُ الزُّورِ هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْبَاطِلِ مِنْ إِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ، أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ، أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْهُ، وَلَا أَكْثَرُ فَسَادًا بَعْدَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، (قَالَ) أَيْ أَبُو بَكْرَةَ (فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهَا) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَوِ الْجُمْلَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: شَهَادَةُ الزُّورِ، أَوْ قَوْلُ الزُّورِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَالضَّمِيرُ فِي يَقُولُهَا هُنَا لِقَوْلِهِ: أَلَا وَمَا بَعْدَهَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ، فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ (حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ) أَيْ تَمَنِّينَا أَنَّهُ سَكَتَ إِشْفَاقًا عَلَيْهِ، وَكَرَاهِيَةً لِمَا يُزْعِجُهُ كَيْلَا يَتَأَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: خَوْفًا مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْعَذَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدَبِ مَعَهُ، وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَاعِظَ وَالْمُفِيدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى التَّكْرَارَ وَالْمُبَالَغَةَ، وَإِتْعَابَ النَّفْسِ فِي الْإِفَادَةِ، حَتَّى يَرْحَمَهُ السَّامِعُونَ وَالْمُسْتَفِيدُونَ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا) بِالتَّشْدِيدِ وَهِيَ لِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَ، وَقَدْ تَرِدُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَمَا هُنَا (إِنَّا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: خَصَّصَ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ كَرَاهَتَهُ لَهُ دُونَ أُمَّتِهِ عَلَى مَا زَعَمَهُ ابْنُ الْقَاصِّ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَالْأَصَحُّ كَرَاهَتُهُ لَهُمْ أَيْضًا، فَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَضِيَّةَ كَمَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمُ الِاتِّكَاءِ فِي الْأَكْلِ، إِذْ مَقَامُهُ الشَّرِيفُ يَأْبَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَامْتَازَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَعْرِيضُ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَعْجَامِ، بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِلْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْخُيَلَاءِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَنِي قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى امْتِنَاعِهِ، إِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ الْخَفِيِّ لَا الْجَلِيِّ (فَلَا آكُلُ) بِالْمَدِّ عَلَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ (مُتَّكِئًا)

بِالْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ، وَالتَّاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِكَاءِ، وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ الْكِيسُ وَنَحْوُهُ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ أَيْ لَا أَقْعُدُ مُتَّكِئًا عَلَى وَطَاءٍ تَحْتِي ; لِأَنَّ هَذَا فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ الطَّعَامَ، وَإِنَّمَا أَكْلِي بُلْغَةٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ قُعُودِي لَهُ مُسْتَوْفِرًا وَلَيْسَ الْمُتَّكِئُ هُنَا الْمَائِلُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، كَمَا تَظُنُّهُ الْعَامَّةُ، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمُتَّكِئَ هُنَا لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمَائِلِ، بَلْ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ، فَيُكْرَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا ; لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُتَكَبِّرِينَ الَّذِينَ لَهُمْ نَهْمَةٌ وَشَرَهٌ، وَاسْتِكْثَارٌ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا مُضْطَجِعًا، إِلَّا فِيمَا يَنْتَقِلُ بِهِ، وَلَا يُكْرَهُ قَائِمًا لَكِنَّهُ قَاعِدًا أَفْضَلُ. قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: الِاتِّكَاءُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ الِاتِّكَاءُ عَلَى أَحَدِ الْجَنْبَيْنِ، الثَّانِي: وَضْعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهَا، وَالثَّالِثُ: التَّرَبُّعُ عَلَى وَطَاءٍ وَالِاسْتِوَاءُ عَلَيْهِ، وَالرَّابِعُ: اسْتِنَادُ الظَّهْرِ عَلَى وِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ حَالَةَ الْأَكْلِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ; لِأَنَّ فِيهِ تَكَبُّرًا، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْعُدَ عِنْدَ الْأَكْلِ مَائِلًا إِلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، قَالَ: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ، فَجَثَى عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَكٌ لَمْ يَأْتِهِ قَبْلَهَا، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا، أَوْ مَلَكًا نَبِيًّا، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدًا نَبِيًّا، قَالَ: فَمَا آكُلُ مُتَّكِئًا» ، وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: «مَا رُؤِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ فَزِعَ، فَقَالَ: إِنِّي أُعِيذُ بِكَ رَسُولَكَ» ، وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَرَّةَ الَّتِي فِي أَثَرِ مُجَاهِدٍ، مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي نَاسِخِهِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ جِبْرِيلَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا فَنَهَاهُ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، بَعْدَ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، فَزَعَمَ ابْنُ الْقَاصِّ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ، وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَقَالَ: قَدْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُتَنَعِّمِينَ، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ بِالْمَرْءِ مَانِعٌ لَا يُمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ الْأَكْلِ إِلَّا مُتَّكِئًا، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةٌ، ثُمَّ سَاقَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا كَذَلِكَ، وَأَشَارَ إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ عَنْهُمْ عَلَى الضَّرُورَةِ. وَفِي الْحَمْلِ نَظَرٌ، إِذْ قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ الْأَكْلِ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّكَاءِ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى كَرَاهَةِ كُلِّ مَا يُعَدُّ الْآكِلُ فِيهِ مُتَّكِئًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ بِعَيْنِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى، فَالْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَظُهُورِ قَدَمَيْهِ، أَوْ يَنْصِبُ الرِّجْلَ الْيُمْنَى، وَيَجْلِسُ عَلَى الْيُسْرَى، وَاسْتَثْنَى الْغَزَّالِيُّ مِنْ كَرَاهَةِ الْأَكْلِ مُضْطَجِعًا، أَكْلَ

(باب ما جاء في اتكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم)

النَّقْلِ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ، وَأَقْوَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَأْكُلُوا تُكَأَةً مَخَافَةَ أَنْ يُعَظِّمَ بُطُونَهُمْ، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ بَقِيَّةُ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ، حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ حَمَلَ الِاتِّكَاءَ عَلَى الْمَيْلِ عَلَى أَحَدِ الشِّقَيْنِ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ، فَإِنَّهُ لَا يَنْحَدِرُ عَلَى مَجَارِيِ الطَّعَامِ سَهْلًا، وَلَا يُسِيغُهُ هَنِيئًا، وَرُبَّمَا تَأَذَّى بِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ وَفِي آخِرِهِ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَسْقَلَانِيُّ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ) وَسَيَجِئُ فِي الْكِتَابِ مُصَرِّحًا أَنَّ الثَّوْرِيَّ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا صَنِيعُ الْمِزِّيِّ فِي تَهْذِيبِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ يَرْوِي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا، لَكِنَّ رِوَايَتَهُ لَيْسَتْ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا آكُلُ مُتَّكِئًا) قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِاخْتِلَافِ بَعْضِ رِجَالِ السَّنَدِ، وَتَغْيِيرٍ يَسِيرٍ فِي الْمَتْنِ، وَالْغَرَضُ تَأْكِيدُ هَذَا الْأَمْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا لَا يَخْفَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا قَبْلَهُ لِلتَّرْجَمَةِ بَيَانُ أَنَّ اتِّكَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ، فَفِيهِ نَوْعُ بَيَانٍ لِتُكَأَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ. (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (ابْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) صَحَابِيَّانِ (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ) بِكَسْرِ الْوَاوِ مَا يُتَوَسَّدُ بِهِ مِنَ الْمِخَدَّةِ (قَالَ أَبُو عِيسَى) يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ جَامِعُ هَذَا الْكِتَابِ (لَمْ يَذْكُرْ) أَيْ فِيهِ كَمَا فِي النُّسَخِ، يَعْنِي مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (وَكِيعٌ: «عَنْ يَسَارِهِ» ) أَيْ هَذَا اللَّفْظَ، أَوْ هَذَا الْقَيْدَ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: مُرَادُهُ أَنَّ وَكِيعًا رَاوِي ذَلِكَ الْخَبَرِ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الِاتِّكَاءِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الِاتِّكَاءِ، وَقَوْلُهُ: (هَكَذَا) أَيْ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْكَيْفِيَّةِ (رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ نَحْوَ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى) وَفِي نُسْخَةٍ ذَكَرَ (فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (عَلَى يَسَارِهِ إِلَّا مَا رَوَى إِسْحَاقُ) فِيهِ مُسَامَحَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: إِلَّا إِسْحَاقَ (بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ) قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: فَتَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ رِوَايَةَ إِسْحَاقَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى شَرْحِ كَيْفِيَّةِ اتِّكَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَرَائِبِ، فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ مِيرَكُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، أَنَّ وَكِيعًا وَغَيْرَهُ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَذْكُرُوا قَوْلَهُ: عَلَى يَسَارِهِ، إِلَّا إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ الرَّاوِي عَنْ إِسْرَائِيلَ، كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ، فَعُلِمَ أَنَّ إِسْحَاقَ تَفَرَّدَ بِزِيَادَةِ: «عَلَى يَسَارِهِ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى إِيرَادُ هَذَا الطَّرِيقِ عُقَيْبَ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي اتِّكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ مِيرَكُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ اتِّكَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَالَةَ الْمَشْيِ لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمُورَدَيْنِ فِيهَا، وَلَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَزَعَمَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْبَابَ وَالَّذِي قَبْلَهُ بَابًا وَاحِدًا، انْتَهَى. وَأَرَادَ بِبَعْضِ النَّاسِ مُلَّا حَنَفِي. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَنَسٍ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ لِبَاسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَاكِيًا) أَيْ مَرِيضًا مِنَ الشَّكْوَى، وَالشِّكَايَةُ بِمَعْنَى الْمَرَضِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ: أَيْ مَرِيضًا ذَا شِكَايَةٍ، فَغَيْرُ مَرْضِيٍّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ قِيلَ: وَهَذَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ (فَخَرَجَ) أَيْ مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (يَتَوَكَّأُ) مِنَ التَّوَكُّؤِ بِمَعْنَى الِاتِّكَاءِ عَلَى الشَّيْءِ، أَيْ يَتَحَامَلُ وَيَعْتَمِدُ (عَلَى أُسَامَةَ) أَيِ ابْنِ زَيْدٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَعَلَيْهِ) أَيْ وَفَوْقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثَوْبٌ قِطْرِيٌّ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ، نَوْعٌ مِنَ الْبُرُدِ غَلِيظٌ (قَدْ تَوَشَّحَ بِهِ) أَيْ أَدْخَلَهُ تَحْتَ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْرِمُ (فَصَلَّى بِهِمْ) أَيْ إِمَامًا بِأَصْحَابِهِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ الْخَفَّافُ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْأُولَى صَانِعُ الْخُفِّ أَوْ بَايِعُهُ، (الْحَلَبِيُّ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ) بِمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ فَرَاءٍ سَاكِنَةٍ فَقَافٍ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. (عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ) أَيِ الْفَضْلِ (دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ) بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيْ مَاتَ (فِيهِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، أَيْ خِرْقَةٌ أَوْ عِمَامَةٌ كَمَا مَرَّ، لَكِنَّ قَوْلَهُ الْآتِيَ اشْدُدْ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ رَأْسِي، يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ بَلْ يُعَيِّنُهُ، قَالَ مِيرَكُ: الْعَصْبُ الشَّدُّ، وَمِنْهُ الْعِصَابَةُ لِمَا يُشَدُّ بِهِ (صَفْرَاءُ) قَالَ: الْحَنَفِيُّ لَعَلَّ صُفْرَتَهَا لَمْ تَكُنْ أَصْلِيَّةً، بَلْ كَانَتْ عَارِضَةً فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ ; لِأَجْلِ الْعَرَقِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْسَاخِ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عِصَابَةٍ فِي سَمَاءٍ فِي بَابِ الْعِمَامَةِ، قُلْتُ: إِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا، إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْعِصَابَةِ الْعِمَامَةَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْخِرْقَةِ، فَلَا إِشْكَالَ (فَسَلَّمْتُ) أَيْ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ (فَقَالَ) أَيْ لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يَا فَضْلُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ أُجِيبُ لَكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (قَالَ: اشْدُدْ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ رَأْسِي) هُوَ لَا يُنَافِي الْكَمَالَ فِي التَّوَكُّلِ ; لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّدَاوِي، وَإِظْهَارُ الِافْتِقَارِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ (قَالَ) أَيِ الْفَضْلُ (فَفَعَلْتُ) أَيْ مَا أَمَرَنِي بِهِ (ثُمَّ قَعَدَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا (فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَى مَنْكِبِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ عِنْدَ قَصْدِ الْقُعُودِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ عِنْدَ إِرَادَةِ الْقِيَامِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَى مَنْكِبِي، أَيْ فَاتَّكَأَ عَلَيَّ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: فَوَضَعَ كَفَّهُ وَكَانَ مُتَّكِئًا (ثُمَّ قَامَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ يُسَمَّى اتِّكَاءً، إِذْ قَدْ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الشَّيْءِ (وَدَخَلَ فِي الْمَسْجِدِ)

(باب ما جاء في صفة أكل رسول الله)

وَفِي نُسْخَةٍ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الشَّائِعُ حَذْفُ فِي، وَتَعْدِيَةُ دَخَلَ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَفِي الْحَدِيثِ) أَيْ وَفِي آخِرِهِ (قِصَّةٌ) أَيْ طَوِيلَةٌ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَسَتَأْتِي فِي بَابِ الْوَفَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ أَكْلِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: «أَكْلِ النَّبِيِّ» (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْأَكْلُ إِدْخَالُ غَيْرِ الْمَائِعِ مِنَ الْفَمِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَالشُّرْبُ إِدْخَالُ الْمَائِعِ مِنْهُ إِلَيْهَا. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَفِي نُسْخَةٍ: «سَعِيدِ» ، وَهُوَ سَهْوٌ قَالَهُ مِيرَكُ (بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) قَالَ مِيرَكُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالشَّكِّ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُمَا ثِقَتَانِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَيُقَالُ لِعَبْدِ اللَّهِ رُؤْيَةٌ وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَيُقَالُ: وُلِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ السَّلَمِيِّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمَدَنِيِّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَلْعَقُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ يَلْحَسُ (أَصَابِعَهُ) أَيْ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَا فِي الْأَثْنَاءِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَيُسَنُّ قَبْلَ الْمَسْحِ أَوِ الْغَسْلِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ لَعْقُهَا ; لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا، مُحَافَظَةً عَلَى الْبَرَكَةِ، وَتَنْظِيفًا لَهَا، لَا فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ ; لِأَنَّ فِيهِ تَقْذِيرَ الطَّعَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَلْعَقُ أَوْ يُلْعِقُ أَيْ يُلْعِقُهَا غَيْرَهُ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَا يَتَقَذَّرُهُ، مِنْ نَحْوِ وَلَدٍ وَخَادِمٍ، وَزَوْجَةٍ يُحِبُّونَهُ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ بَرَكَةً، لِحَدِيثِ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامَهُ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ» ، أَيْ لَا يَعْلَمُ الْبَرَكَةَ فِي أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَلَيْسَ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ وَقَدَّرَهُ بِمَا يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ فِي أَيِّ طَعَامِهِنَّ الْبَرَكَةُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ الطَّعَامُ، لَا مُجَرَّدُ الْإِصْبَعِ، فَتَأَمَّلْ (ثَلَاثًا) قَالَ

الْحَنَفِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ ثَلَاثًا قَيْدُ اللَّعْقِ، أَيْ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ ثَلَاثَ لَعَقَاتٍ، بِأَنْ يَلْعَقَ كُلًّا مِنْ أَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ جَعْلَهُ لِلْأَصَابِعِ بَعِيدٌ، وَإِنْ كَانَ تُلَائِمُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ كَانَ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ تَثْلِيثُ اللَّعْقِ فِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ، كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ، وَإِنَّ اللَّعْقَ ثَلَاثٌ لِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثِ، كَمَا بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الرِّوَايَتَانِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ لِلْأُولَى عَنْ ظَاهِرِهَا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ مِيرَكُ، مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ ثَلَاثًا مِنَ الْأَصَابِعِ، لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، وَمَنْ جَعَلَهُ قَيْدًا لِيَلْعَقَ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ يَلْعَقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ أَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ أَبْعَدَ الْمَرَامَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِلَعْقِ أَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الطُّرُقِ، فَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَيْهَا جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَالْمُجْمَلِ عَلَى الْمُبَيِّنِ، لَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ الرَّاوِي، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ، كَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ. فَكَانَتْ رِوَايَتُهُ مُفَسِّرَةً لِرِوَايَتِهِ الْأُولَى. قُلْتُ: فِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، كَمَا سَيَأْتِي بِهِ تَصْرِيحًا وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ يَأْكُلُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ، وَالْحَرِيصَ يَأْكُلُ بِالْخَمْسِ، وَيَدْفَعُ بِالرَّاحَةِ، وَأَشْرَفُ مَا يَكُونُ الْأَكْلُ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ وَلَعْقِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ وَمَا لَعِقَهَا ثَلَاثًا، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَعَارَفٍ، فَفِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الشَّرَهِ وَالْخِسَّةِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ مِيرَكَ مَا فِي الْأَصْلِ (قَالَ أَبُو عِيسَى) يَعْنِي الْمُصَنِّفَ (وَرَوَى غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ: كَانَ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ) أَيِ الْإِبْهَامَ وَالْمُسَبِّحَةَ وَالْوُسْطَى. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: صِفَةُ لَعْقِ الْأَصَابِعِ وَلَفْظُهُ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ: الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَالْوُسْطَى، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا، الْوُسْطَى ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا ثُمَّ الْإِبْهَامَ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الْوُسْطَى أَكْثَرُ تَلْوِيثًا ; لِأَنَّهَا أَطْوَلُ فَيَبْقَى مِنَ الطَّعَامِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا ; وَلِأَنَّهَا لِطُولِهَا أَوَّلُ مَا يَقَعُ فِي الطَّعَامِ، أَوْ لِأَنَّ الَّذِي يَلْعَقُ الْأَصَابِعَ يَكُونُ بَطْنُ كَفِّهِ إِلَى جِهَةِ وَجْهِهِ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِالْوُسْطَى انْتَقَلَ إِلَى السَّبَّابَةِ، إِلَى جِهَةِ يَمِينِهِ، ثُمَّ إِلَى الْإِبْهَامِ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: جَاءَتْ عِلَّةُ لَعْقِ الْأَصَابِعِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ، وَقَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّ مَسْحَهَا قَبْلَ لَعْقِهَا فِيهِ زِيَادَةُ تَلْوِيثٍ، لِمَا يَمْسَحُ بِهِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالرِّيقِ، لَكِنْ إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ انْتَهَى. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَعْلِيلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَنْقُولٌ وَالْآخَرُ مَعْقُولٌ، ثُمَّ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ: «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ مَا أَصَابَهَا مِنْ أَذًى، وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَمْسَحَ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» . وَزَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يَرْفَعُ الصَّحْفَةَ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ بِلَفْظِ: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ يُبَارَكُ لَهُ» . وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، ثُمَّ رَأَيْتُ

الْعَسْقَلَانِيَّ قَالَ: وَالْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تَمْنَعُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْحُكْمِ عِلَّتَانِ فَأَكْثَرُ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى وَاحِدَةٍ لَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ، وَقَدْ أَبْدَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عِلَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَهَاوَنَ بِقَلِيلِ الطَّعَامِ. قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ تُسْتَفَادَ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ يُرِيدُ أَنْ لَا يُتَهَاوَنَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ احْتِمَالِ كَوْنِهَا مَحَلَّ الْبَرَكَةِ الْكَثِيرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ، أَنَّ لِلطَّعَامِ الَّذِي يَحْضُرُ الْإِنْسَانَ فِيهِ بَرَكَةٌ لَا يَدْرِي أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَةَ فِيمَا أَكَلَ، أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصَابِعِهِ، أَوْ فِيمَا بَقِيَ بِأَسْفَلِ الْقَصْعَةِ، أَوْ فِي اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ ; لِتَحْصِيلِ الْبَرَكَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ وَقَعَ لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ. إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ، فَلْيُمِطْ بِهَا مَا كَانَ مِنْ أَذًى، ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعَهَا لِلشَّيْطَانِ. وَلَهُ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثٍ حَسَنٍ، وَأَمَرَ بِأَنْ يَسْلِتَ الْقَصْعَةَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: السَّلْتُ تَتَبُّعُ مَا يَبْقَى فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغْذِيَةُ، وَتَسْلَمُ عَاقِبَتُهُ مِنَ الْأَذَى، وَيَقْوَى عَلَى الطَّاعَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ لَعْقَ الْأَصَابِعِ اسْتِقْذَارًا. نَعَمْ. يَحْصُلُ ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ ; لِأَنَّهُ يُعِيدُ أَصَابِعَهُ فِي الطَّعَامِ، وَعَلَيْهَا أَثَرُ رِيقِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَابَ قَوْمٌ أَفْسَدَ عَقْلَهُمُ التَّرَفُّهُ، أَنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ مُسْتَقْبَحٌ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي عَلِقَ بِالْأَصَابِعِ أَوِ الصَّحْفَةِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَا أَكَلُوهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَائِرُ أَجْزَائِهِ مُسْتَقْذَرًا، لَمْ يَكُنِ الْجُزْءُ الْبَاقِي مِنْهُ مُسْتَقْذَرًا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ مَصِّهِ أَصَابِعَهُ بِبَطْنِ شَفَتَيْهِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَدْ يَتَمَضْمَضُ الْإِنْسَانُ فَيُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِي فِيهِ فَيُدَلِّكُ أَسْنَانَهُ وَبَاطِنَ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ ذَلِكَ قَذَارَةٌ، أَوْ سُوءُ أَدَبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنِ اسْتَقْذَرَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا مَعَ نِسْبَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا خُشِيَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ إِذْ مَنِ اسْتَقْذَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ، وَيُسَنُّ لَعْقُ الْإِنَاءِ لِخَبَرِ أَحْمَدَ وَالْمُصَنِّفِ، وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ شَاهِينَ، وَالدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِمْ: «مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ ثُمَّ لَحَسَهَا اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ» . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ: «مَنْ أَكَلَ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْخِوَانِ أَوِ الْقَصْعَةِ أَمِنَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ، وَصُرِفَ عَنْ وَلَدِهِ الْحُمْقُ» . وَلِلدَّيْلَمِيِّ: «مَنْ أَكَلَ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْمَائِدَةِ خَرَجَ وَلَدُهُ صِبَاحَ الْوُجُوِهِ، وَنُفِيَ عَنْهُ الْفَقْرُ» ، وَأَوْرَدَهُ فِي الْإِحْيَاءِ بِلَفْظِ عَاشَ فِي سَعَةٍ، وَعُوفِيَ فِي وَلَدِهِ، وَالثَّلَاثَةُ مَنَاكِيرٌ، قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ، مَنْ لَعِقَ الصَّحْفَةَ، وَلَعِقَ أَصَابِعَهُ أَشْبَعَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ الْعِرْبَاضِ، وَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ جَائِزٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الْخَلِّ أَوِ الْخِلَالِ (حَدَّثَنَا عَفَّانُ) بِلَا صَرْفٍ، وَقَدْ يُصْرَفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِعْلَانُ مِنَ الْعِفَّةِ، أَوْ فَعَّالٌ مِنَ الْعُفُونَةِ (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ) بِكَسْرِ عَيْنِهِ أَيْ لَحِسَ (أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ. (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ) بِالْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: «زَيْدٍ» ، وَهُوَ سَهْوٌ (الصُّدَائِيُّ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى صُدَاءٍ مَمْدُودَةٌ قَبِيلَةٌ (الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ يَعْنِي الْحَضْرَمِيَّ) وَهُوَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ (أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَفَسَّرَ الْأَكْثَرُونَ،

الِاتِّكَاءَ بِالْمَيْلِ عَلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ; لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْآكِلِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مَجْرَى الطَّعَامِ الطَّبِيعِيِّ عَنْ هَيْئَتِهِ، وَيَعُوقُهُ عَنْ سُرْعَةِ نُفُوذِهِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَيَضْغَطُ الْمَعِدَةَ فَلَا يَسْتَحْكِمُ فَتْحُهَا لِلْغِذَاءِ. وَنُقِلَ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهُ بِالتَّمَكُّنِ لِلْأَكْلِ، وَالْقُعُودِ فِي الْجُلُوسِ، كَالْمُتَرَبِّعِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى وَطَاءٍ تَحْتَهُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ تَسْتَدْعِي كَثْرَةَ الْأَكْلِ، وَتَقْتَضِي الْكِبْرَ. وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ زَجْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ الْأَكْلِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ النَّخَعِيِّ، كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مُتَّكِئِينَ، مَخَافَةَ أَنْ يُعَظِّمَ بُطُونَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلْأَكْلِ مُتَوَرِّكًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَضَعُ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَأَفْضَلُهَا ; لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ الَّذِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الِاتِّكَاءِ زِيَادَةُ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ رَفْعُهُ (نَحْوَهُ) أَيْ مِثْلَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مَعْنًى مَعَ اخْتِلَافِهِ لَفْظًا هَذَا، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ أَوَّلَ الْبَابِ أَوْ آخِرَهُ، لِئَلَّا يَقَعَ فَصْلٌ بِالْأَجْنَبِيِّ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْأَكْلِ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ وَلَعْقِهِنَّ. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ) بِسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ (بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنِ ابْنٍ) بِالتَّنْوِينِ لِلتَّنْكِيرِ (لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ كَعْبٍ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ يَلْحَسُهُنَّ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَلَا يَضُمُّ إِلَيْهَا الرَّابِعَةَ وَالْخَامِسَةَ، إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَقَدْ قِيلَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُبَّمَا يَسْتَعِينُ فِي الْأَكْلِ بِرَابِعِ أَصَابِعِهِ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ بِإِصْبَعَيْنِ، وَقَالَ: الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ بِهِمَا. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ أَكَلَ بِخَمْسٍ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْقَلِيلِ النَّادِرِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ عَلَى الْمَائِعِ، فَإِنَّ عَادَتَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ هُوَ الْأَكْلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَعْقُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ، قِيلَ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ الْأَنْفَعُ إِذِ الْأَكْلُ بِإِصْبَعٍ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الْمُتَكَبِّرِينَ لَا يَسْتَلِذُّ بِهِ الْآكِلُ، وَلَا يَسْتَمْرِي بِهِ لِضَعْفِ مَا يَنَالُهُ مِنْهُ كُلَّ مَرَّةٍ، فَهُوَ كَمَنْ أَخَذَ حَقَّهُ حَبَّةً حَبَّةً، وَبِالْإِصْبَعَيْنِ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الشَّيْطَانِ، لَيْسَ فِيهِ اسْتِلْذَاذٌ كَامِلٌ مَعَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ الْفَرْدِيَّةَ، وَاللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَبِالْخَمْسِ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الْحَرِيصِينَ وَالْمُنْتَجِعِينَ يُوجِبُ ازْدِحَامَ الطَّعَامِ عَلَى مَجْرَاهُ، مِنَ الْمَعِدَةِ، فَرُبَّمَا انْسَدَّ مَجْرَاهُ، فَأَوْجَبَ الْمَوْتَ فَوْرًا وَفَجْأَةً. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ جِيءَ (بِتَمْرٍ فَرَأَيْتُهُ يَأْكُلُ) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (وَهُوَ مُقْعٍ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِقْعَاءِ، أَيْ جَالِسٌ عَلَى وَرِكَيْهِ، وَهُوَ

(باب ما جاء في صفة خبز رسول الله صلى الله عليه وسلم)

الِاحْتِبَاءُ الَّذِي هُوَ جِلْسَةُ الْأَنْبِيَاءِ، (مِنَ الْجُوعِ) أَيْ لِأَجْلِهِ يَعْنِي أَنَّ إِقْعَاءَهُ كَانَ لِأَجْلِ جُوعِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَأْكُلُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَهُوَ مُحْتَفِزٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِقْعَاءُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يُلْصِقَ الرَّجُلُ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَتَسَانِدَ ظَهْرَهُ، قَالَ: وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْإِقْعَاءُ الْمَنْهِيُّ لِلصَّلَاةِ هُوَ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي النِّهَايَةِ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ مُقْعِيًا، أَيْ كَانَ يَجْلِسُ عِنْدَ الْأَكْلِ عَلَى وَرِكَيْهِ مُسْتَوْفِزًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، وَتَبِعَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ جَالِسًا عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ، وَالِاسْتِيفَازُ الِاسْتِعْجَالُ مِنَ اسْتَفَزَّهُ، إِذَا حَرَّكَهُ وَأَزْعَجَهُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِفْعَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ: افْتِعَالٌ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ مِنَ الِاسْتِعْجَالِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: وَكَرِهَ الْإِقْعَاءَ: الْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ أَنَّهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْوَرِكَيْنِ وَنَصْبُ الْفَخِذَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ ; لِأَنَّ الْكَلْبَ هَكَذَا يُقْعِي، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَزَادَ فِيهِ شَيْئًا آخَرَ، وَهُوَ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنْ يَفْرِشَ رِجْلَيْهِ وَيَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَثَالِثٍ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ وَيَقْعُدَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَغَلَطٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْإِقْعَاءَ سُنَّةُ نَبِيِّنَا، وَفَسَّرَ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا قَالَ: وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، فَالْإِقْعَاءُ ضَرْبَانِ مَكْرُوهٌ، وَغَيْرُ مَكْرُوهٍ انْتَهَى. وَمَحَلُّهُ بَابُ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ جَالِسٌ عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبٌ سَاقَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِقْعَاءُ الْمَكْرُوهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُكْرَهْ هُنَا ; لِأَنَّ ثَمَّةَ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْكِلَابِ، وَهُنَا تَشَبُّهٌ بِالْأَرِقَّاءِ فَفِيهِ غَايَةُ التَّوَاضُعِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ هَيْئَتَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرُ مُتَكَلِّفٍ وَلَا مُعْتَنٍ بِشَأْنِ الْأَكْلِ، وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِقْعَاءُ لَهُ مَعَانٍ فَيُحْمَلُ إِقْعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ جُلُوسِهِ عِنْدَ أَكْلِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الِاحْتِبَاءُ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَفِي الْقَامُوسِ أَقْعَى فِي جُلُوسِهِ، أَيْ تَسَانَدَ إِلَى مَا وَرَائَهُ، وَحِينَئِذٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ عَنِ اللُّغَوِيِّينَ بِالْجَمْعِ، بَيْنَ هَيْئَةِ الِاحْتِبَاءِ، وَالتَّسَانُدِ إِلَى الْوَرَاءِ، فَمَعْنَى مُقْعٍ مِنَ الْجُوعِ مُحْتَبِيًا، مُسْتَنِدًا لِمَا وَرَائَهُ مِنَ الضَّعْفِ الْحَاصِلِ لَهُ بِسَبَبِ الْجُوعِ، وَبِمَا تَقَرَّرَ، تَحَرَّرَ أَنَّ الِاسْتِنَادَ لَيْسَ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الْأَكْلِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا لِذَلِكَ الضَّعْفِ الْحَاصِلِ لَهُ، الْحَامِلِ عَلَيْهِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ خُبْزِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَزَعَمَ أَنَّ فِي التَّرْجَمَةِ حَذْفًا، أَيْ خُبْزِ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُطَابِقَ الْحَدِيثَ - بَاطِلٌ عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلًا فِيهِمْ، فَالتَّرْجَمَةُ لَا حَذْفَ فِيهَا ; لِأَنَّ مَا يَأْكُلُهُ عِيَالُهُ يُسَمَّى خُبْزَهُ، وَيَكُونُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ) أَيِ ابْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيُّ أَبُو بَكْرٍ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ الثَّالِثَةِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (يُحَدِّثُ عَنِ الِأَسْوَدِ) هُوَ أَخُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّاوِي عَنْهُ (بْنِ يَزِيدَ) أَيِ ابْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيُّ أَبُو عُمَرَ أَوْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ، مُكْثِرٌ فَقِيهٌ مِنَ الثَّانِيَةِ، عَلَى مَا فِي التَّقْرِيبِ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ) أَيْ أَهْلُ بَيْتِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي عِيَالَهُ الَّذِينَ كَانُوا فِي مُؤْنَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَفْظَ الْآلِ مُقْحَمٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ ; لِإِسْنَادِهِ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بِهِ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ التَّرْجَمَةِ أَيْضًا (مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ) وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا التَّقْيِيدُ بِثَلَاثِ لَيَالٍ، لَكِنْ فِيهَا: «مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ» ، فَلَا تَنَافِيَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيَّامِ الْأَيَّامُ بِلَيَالِيهَا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّيَالِي

هُنَاكَ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا، وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، (مُتَتَابِعِينَ) وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَشْبَعُ يَوْمَيْنِ، لَكِنْ غَيْرَ مُتَوَالِيَيْنِ (حَتَّى قُبِضَ) أَيْ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَمَاتَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْأَسْفَارِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْغَزْوِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ تَشَرَّفَتْ بِمُلَازَمَتِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ صَرَّحَتِ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ عَنْهَا بِلَفْظِ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهَا: الْمَدِينَةَ، يُخْرِجُ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَوْلُهَا: مِنْ طَعَامِ بُرٍّ، يُخْرِجُ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ. وَقَوْلُهَا: تِبَاعًا، يُخْرِجُ التَّفَارِيقَ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ: «مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا وَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ» . قَالَ الشَّيْخُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّمْرَ كَانَ أَيْسَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ رُبَّمَا لَمْ يَجِدُوا فِي الْيَوْمِ إِلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ وَجَدُوا أَكْلَتَيْنِ، فَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ مِسْعَرٍ بِلَفْظِ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ، إِلَّا وَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: «خَرَجَ - تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَمْلَأْ بَطْنَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ طَعَامَيْنِ، كَانَ إِذَا شَبِعَ مِنَ التَّمْرِ، لَمْ يَشْبَعْ مِنَ الشَّعِيرِ، وَإِذَا شَبِعَ مِنَ الشَّعِيرِ، لَمْ يَشْبَعْ مِنَ التَّمْرِ» . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ يُنَافِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدَّخِرُ قُوتَ عِيَالِهِ سَنَةً. وَيُجَابُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوَاخِرَ حَيَاتِهِ، لَكِنْ تَعْرِضُ عَلَيْهِ حَوَائِجُ الْمُحْتَاجِينَ، فَيُخْرِجُهُ فِيهَا، فَصَدَقَ عَلَيْهِ، أَنَّهُ ادَّخَرَ قُوتَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَشْبَعُوا كَمَا ذُكِرَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مَا ادَّخَرَ لَهُمْ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ تَضْيِيقَ الْحَالِ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ تَعُمُّ الْأَحْوَالَ، فَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَدَّخِرُ قُوتَهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدَّخِرُ لِنَفْسِهِ فَمَا كَانُوا يَشْبَعُونَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَشْبَعُونَ مِنَ الْقِلَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَادَتُهُمْ عَدَمَ الشِّبَعِ، نَعَمْ. مَا كَانُوا يَجِدُونَ مِنْ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الشِّبَعِ غَالِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرَ شَعِيرٍ فِي زِقٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. (حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَفَتْحِ كَافٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أَبِي بَكْرَةَ (حَدَّثَنَا حَرِيزُ) بِفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَكَسْرِ رَاءٍ، وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَزَايٍ (بْنُ عُثْمَانَ عَنْ سُلَيْمِ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْبَاهِلِيُّ (يَقُولُ: مَا كَانَ يَفْضُلُ) بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَزِيدُ (عَنْ) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى (أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزُ الشَّعِيرِ) كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ شِبَعِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمَعْنَى لَمْ يَكْثُرْ مَا يَجِدُونَهُ، وَلَا يَخْبِزُونَهُ مِنَ الشَّعِيرِ عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَفْضُلَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ كَانُوا مَا يَجِدُونَهُ لَا يُشْبِعُهُمْ فِي الْأَكْثَرِ. قَالَ مِيرَكُ: أَيْ كَانَ لَا يَبْقَى فِي سُفْرَتِهِمْ فَاضِلًا عَنْ مَأْكُولِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَفَعَ عَنْ مَائِدَتِهِ كِسْرَةَ خُبْزٍ فَضْلًا حَتَّى قُبِضَ. قَالَ: وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَشْبَعُونَ مِنْ ذَلِكَ الْخُبْزِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مُحْتَمَلًا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحَالُ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ،

فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ الْأَجْمَلُ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ) بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ مِيمٍ، (حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى (عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا أَيْ يَسْتَمِرُّ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي عَلَى نَعْتِ التَّوَالِي (طَاوِيًا) أَيْ خَالِيَ الْبَطْنِ جَائِعًا، قَالَ مِيرَكُ: الطَّوَى الْجُوعُ، طَوِيَ بِالْكَسْرِ يَطْوِي، طَوَى إِذَا جَاعَ فَهُوَ طَاوٍ وَطَيَّانٌ أَيْ: جَائِعٌ، وَطَوَى بِالْفَتْحِ يَطْوِي طَيًّا إِذَا جَوَّعَ نَفْسَهُ قَصْدًا، يُقَالُ: فُلَانٌ يَطْوِي لَيَالِيَ وَأَيَّامًا (هُوَ وَأَهْلُهُ) أَيْ عِيَالُهُ، وَيُكْنَى عَنِ الزَّوْجَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَارَ بِأَهْلِهِ وَتَأَهَّلَ: تَزَوَّجَ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ: سُكَّانُهُ، كَمَا فِي الْمُغْرِبِ (لَا يَجِدُونَ) أَيْ لَا يَجِدُ الرَّسُولُ وَأَهْلُهُ (عَشَاءً) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْعِشَاءِ بِالْكَسْرِ، وَالْمَعْنَى لَا يَجِدُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ فِي اللَّيْلِ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ (وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ) . (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (قِيلَ لَهُ) أَيْ لِسَهْلٍ (أَكَلَ) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ أَدَاتِهِ انْتَهَى. وَفِي نُسْخَةٍ أَكَلَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ) بِفَتْحِ نُونٍ وَكَسْرِ قَافٍ، وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ: الدَّرْمَكَةُ، وَهُوَ الْخُبْزُ النَّقِيُّ عَنِ النُّخَالَةِ، وَيُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: مَيْدَهْ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ سُهِّلَ بِالنَّقْيِ (الْحُوَّارَى) تَفْسِيرٌ لِلنَّقِيِّ أَدْرَجَهُ الرَّاوِي فِي الْخُبْزِ، وَالْحُوَّارَى بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، وَزَعْمُ تَشْدِيدِ الْيَاءِ خَطَأٌ، الَّذِي نُخِلَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، مِنَ التَّحْوِيرِ وَهُوَ التَّبْيِيضُ (فَقَالَ سَهْلٌ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ) أَيْ مَا رَآهُ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ، فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى (حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) كِنَايَةً عَنْ مَوْتِهِ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ رُوحِهِ تَأَهَّلَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَرُؤْيَتِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْغَايَةِ بِمَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ

مِنْ نَفْيِ رُؤْيَتِهِ عَدَمُ وُجُودِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ لِسَهْلٍ (هَلْ كَانَتْ لَكُمْ) لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ قُطَّانُ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ (مَنَاخِلُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، جَمْعُ مُنْخُلٍ بِضَمَّتَيْنِ آلَةُ النَّخْلِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، وَفَتْحُ الْخَاءِ لُغَةٌ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فِي زَمَانِهِ (قَالَ: مَا كَانَتْ لَنَا مَنَاخِلُ) فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْجَمْعِ نَفْيُ الْمُفْرَدِ، وَالْمُرَادُ مَا كَانَتْ لَنَا مَنَاخِلُ فِي عَهْدِهِ ; لِيُطَابِقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَلِيُوَافِقَ مَا فِي الْوَاقِعِ، إِذْ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مَنَاخِلُ، مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى حَالِهِ ; وَلِذَا قِيلَ: الْمُنْخُلُ أَوَّلُ بِدْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ، إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ (فَقِيلَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِالشَّعِيرِ) أَيْ بِدَقِيقِهِ مَعَ كَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ النُّخَالَةِ (قَالَ: كُنَّا نَنْفُخُهُ) بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ نُطَيِّرُهُ إِلَى الْهَوَاءِ بِالْيَدِ، أَوْ بِغَيْرِهَا (فَيَطِيرُ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الشَّعِيرِ مَا طَارَ، مِمَّا فِيهِ خِفَّةٌ كَالتِّبْنِ، وَيَبْقَى مَا فِيهِ رَزَانَةٌ كَالدَّقِيقِ (ثُمَّ نَعْجِنُهُ) بِفَتْحِ النُّونِ فَكَسْرِ الْجِيمِ. وَفِي هَذَا بَيَانُ تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّكَلُّفَ وَالِاهْتِمَامَ بِشَأْنِ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَنِي بِهِ إِلَّا أَهْلُ الْحَمَاقَةِ وَالْغَفْلَةِ وَالْبِطَالَةِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلٍ نَحْوَ رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَرُوِيَ عَنْ سَهْلٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْخُلًا مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَظُنُّ أَنَّ سَهْلًا احْتَرَزَ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجَّهَ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ مَرَّتَيْنِ إِلَى جَانِبِ الشَّامِ، تَاجِرًا وَوَصَلَ إِلَى بُصْرَى وَحَضَرَ فِي ضِيَافَةِ بَحِيرَا الرَّاهِبِ، وَكَانَتِ الشَّامُ إِذْ ذَاكَ مَعَ الرُّومِ، وَالْخُبْزُ النَّقِيُّ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا بَعْدَ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْمَدِينَةِ، وَقَدِ اشْتَهَرَ أَنَّ سَبِيلَ الْعَيْشِ صَارَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، اضْطِرَارًا وَاخْتِيَارًا. وَلَوْ قِيلَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجَّهَ فِي أَوَاخِرِ سِنِيِّ الْهِجْرَةِ إِلَى غَزْوِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَوَصَلَ إِلَى تَبُوكَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَأَى النَّقِيَّ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ أَيْضًا. أُجِيبَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْتَحْ تِلْكَ الْكُورَةَ، وَلَا طَالَتْ إِقَامَتُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَرْبَابُ السِّيَرِ أَنَّ قَافِلَةَ الشَّامِ جَاءَتْ إِلَى تَبُوكَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلًا فِيهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ سَهْلٍ رُؤْيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِهِ، لَا إِلَى مَا فِي الْوَاقِعِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ وَارِدٌ أَصْلًا، وَرَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: «قُوتُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» ، وَحَكَى الْبَزَّارُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَصَاحِبِ النِّهَايَةِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ تَصْغِيرُ الْأَرْغِفَةِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الدَّيْلَمِيِّ: «صَغِّرُوا الْخُبْزَ وَأَكْثِرُوا عَدَدَهُ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» . فَإِنَّهُ وَاهٍ وَمِنْ ثَمَّةَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَمِنْ خَبَرِ: «الْبَرَكَةُ فِي صِغَرِ الْقُرْصِ» فَإِنَّهُ كَذِبٌ. كَمَا نُقِلَ عَنِ النَّسَائِيِّ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عُبَيْدٌ الْبَصْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْإِسْكَافِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي (عَنْ قَتَادَةَ) اعْلَمُ أَنَّ رِوَايَةَ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ مِنْ قَبِيلِ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ ; لِأَنَّهُمَا مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِشَامٌ مِنَ الْمُكْثِرِينَ عَنْ قَتَادَةَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْهُ، وَسَمِعَهُ

مِنْ يُونُسَ عَنْهُ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مَا أَكَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ) الْمَشْهُورُ فِيهِ كَسْرُ الْمُعْجَمَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَهُوَ الْمَائِدَةُ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا طَعَامٌ، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ إِخْوَانٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَعَلَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ الْإِخْوَانِ وَالْأَصْحَابِ عِنْدَهَا، وَحَوْلَهَا وَقِيلَ: سُمِّيَ خِوَانًا ; لِأَنَّهُ يُتَخَوَّنُ مَا عَلَيْهِ أَيْ يُنْتَقَصُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْخِوَانُ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُطْلَقُ الْخِوَانُ فِي الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا لَهُ أَرْجُلٌ، وَيَكُونُ مُرْتَفِعًا عَنِ الْأَرْضِ وَاسْتِعْمَالُهُ لَمْ يَزَلْ مِنْ دَأْبِ الْمُتْرَفِينَ، وَصَنِيعِ الْجَبَّارِينَ لِئَلَّا يَفْتَقِرُوا إِلَى خَفْضِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْأَكْلِ، فَالْأَكْلُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ (وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الرَّاءُ، إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الْإِدَامِ، وَهِيَ فَارِسِيَّةُ وَأَكْثَرُ مَا يُوضَعُ فِيهَا الْكَوَامِيخُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَشْتَهِي وَيَهْضِمُ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ فَتْحُ رَائِهِ ; لِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنْ مَفْتُوحِهَا، قَالَ مِيرَكُ: جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الرَّاءَ فِي سُكُرُّجَةٍ مَضْمُومَةٌ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَكِّيٍّ أَنَّهُ صَوَّبَ فَتْحَ الرَّاءِ، وَالْعَرَبُ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْكَوَامِيخِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْجُوَارِشَاتِ، وَالْمُخَلَّلَاتِ عَلَى الْمَوَائِدِ، حَوْلَ الْأَطْعِمَةِ لِلتَّشَهِّي وَالْهَضْمِ، قِيلَ: لَمْ يَأْكُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السُّكُرُّجَةِ ; لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا مُعْتَادُ أَهْلِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُخْلِ، انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ مِنْ دَأْبِ الْمُتْرَفِينَ وَعَادَةِ الْحَرِيصِينَ عَلَى الْأَكْلِ الْمُفْرِطِينَ (وَلَا خُبِزَ) مَاضٍ مَجْهُولٍ (لَهُ) أَيْ لِأَجْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مُرَقَّقٌ) مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مُرَقَّقًا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، فَالْجَارُّ هُوَ النَّائِبُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مُلَيَّنٌ مُحَسَّنٌ، كَخُبْزِ الْحُوَّارَى وَشَبَهِهِ، وَقِيلَ: الْخُبْزُ الْمُرَقَّقُ هُوَ الرَّغِيفُ الْوَاسِعُ الرَّقِيقُ، وَيُقَالُ لَهُ الرُّقَاقُ، بِالضَّمِّ كَطَوِيلٍ وَطُوَالٍ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، هُوَ الْخَفِيفُ، وَقِيلَ: هُوَ السَّمِيدُ، وَمَا يُصْنَعُ مِنْهُ الْكَعْكُ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ غَرِيبٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْقِيقَ الْخُبْزِ دَأْبُ أَرْبَابِ التَّكَلُّفِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَرِيئًا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّنَعُّمِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَلَا بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُهُ إِذَا خُبِزَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ، مَا أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَشَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَالسَّمِيطُ مَا أُزِيلَ شَعْرُهُ، بِمَاءٍ سُخْنٍ وَشُوِيَ بِجِلْدِهِ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِصَغِيرِ السِّنِّ، كَالسَّخْلَةِ وَهِيَ مِنْ فِعْلِ الْمُتْرَفِينَ، وَفِي مَعْنَاهَا الدَّجَاجَةُ، لَكِنْ سَيَأْتِي أَنَّهُ أَكَلَ الدَّجَاجَةَ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَرَ السَّمِيطَ فِي مَأْكُولِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَعْهُودٍ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَمَدُّحٌ، انْتَهَى. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلتَّقْيِيدِ ; لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ، وَفِيهِ الْمُرَقَّقُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَكَلَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِبَيَانِ الْوَاقِعِ (قَالَ) أَيْ يُونُسُ (فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ

فَعَلَى مَا) كَذَا هُوَ فِي نُسَخِ الشَّمَائِلِ بِإِشْبَاعِ فَتْحَةِ الْمِيمِ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ، وَعِنْدَ أَكْثَرِهِمْ فَعَلَى مَ بِمِيمٍ مُفْرَدَةٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ حُذِفَ الْأَلِفُ ; لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، لَكِنْ قَدْ تُرَدُّ فِي الِاسْتِعْمَالَاتِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْأَصْلِ، نَحْوَ قَوْلِ حَسَّانَ: عَلَى مَا قَالَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا اتَّصَلَ الْجَارُّ بِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ الْأَلْفِ نَحْوَ: حَتَّامَ، وَإِلَامَ وَعَلَامَ، كُتِبَ مَعَهَا بِالْأَلِفَاتِ لِشِدَّةِ الِاتِّصَالِ بِالْحُرُوفِ، هَذَا وَالْمَعْنَى فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ (كَانُوا يَأْكُلُونَ) إِنْ جُعِلَتِ الْوَاوُ لِلتَّعْظِيمِ، كَمَا فِي رَبِّ ارْجِعُونِ، أَوْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ فَظَاهِرٌ أَوْ لِلصَّحَابَةِ، فَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُمْ يَتَأَسَّوْنَ بِأَحْوَالِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَكَانَ السُّؤَالُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي مَالِهِ، كَالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ، (قَالَ) أَيْ قَتَادَةُ مَوْقُوفًا (عَلَى هَذِهِ السُّفَرِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ جَمْعُ سُفْرَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ فِي الْأَصْلِ طَعَامٌ يَتَّخِذُهُ الْمُسَافِرُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ فِي جِلْدٍ مُسْتَدِيرٍ، فَنُقِلَ اسْمُهُ إِلَى ذَلِكَ الْجِلْدِ، وَسُمِّي كَمَا سُمِّيَتِ الْمَزَادَةُ رَاوِيَةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ، وَاشْتُهِرَتْ لِمَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ، جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، مَا عَدَا الْمَائِدَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّهَا شِعَارُ الْمُتَكَبِّرِينَ غَالِبًا (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: يُونُسُ هَذَا الَّذِي رَوَى عَنْ قَتَادَةَ، هُوَ يُونُسُ الْإِسْكَافُ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ صَانِعُ الْقَفْشِ وَفِي نُسْخَةٍ بِجَرِّ الْإِسْكَافِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ (عَنْ مُجَالِدٍ) بِكَسْرِ اللَّامِ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، هُوَ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الْكُوفِيُّ، أَحَدُ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ، وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ قَطُّ، وَلَا حَدَّثْتُ بِحَدِيثٍ إِلَّا حَفِظْتُهُ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ وَلَهُ ثَنْتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، كَذَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، لِمُؤَلِّفِ الْمِشْكَاةِ (عَنْ مَسْرُوقٍ) يُقَالُ: أَنَّهُ سُرِقَ صَغِيرًا، ثُمَّ وُجِدَ، فَسُمِّيَ مَسْرُوقًا، أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدْرَكَ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، شَهِدَ فِي حَرْبِ الْخَوَارِجِ، وَمَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَمِائَةٍ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَدَعَتْ لِي بِطَعَامٍ) أَيْ أَمَرَتْ خَادِمَهَا أَنْ يُقَدِّمَهُ إِلَيَّ، قَالَ مِيرَكُ: أَيْ أَضَافَتْنِي (وَقَالَتْ: مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ) أَيْ مِمَّا حَضَرَ عِنْدِي، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ (مَرَّتَيْنِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَبْلَغُ فِي الْمُدَّعَى (فَأَشَاءُ) أَيْ أُرِيدُ (أَنْ أَبْكِيَ) بِأَنْ لَا أَدْفَعَ الْبُكَاءَ عَنْ نَفْسِي (إِلَّا بَكَيْتُ) أَيْ تَحَزُّنًا لِتِلْكَ الشِّدَّةِ الَّتِي قَاسَتْهَا الْحَضْرَةُ النَّبَوِيَّةُ، أَوْ

تَأَسُّفًا عَلَى فَوْتِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ الْمَرْضِيَّةِ. قِيلَ: عَبَّرَتْ بِأَبْكِي لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ; لِأَنَّ أَبْكِي مَعْمُولٌ لِأَشَاءُ الْمُسْتَقْبَلُ فَلَزِمَ كَوْنُهُ مُسْتَقْبَلًا، بِخِلَافِ بَكَيْتُ بَعْدَ إِلَّا ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا وُجِدَ، وَقِيلَ: الْفَاءُ فِي «فَأَشَاءُ» لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ إِلَّا بَكَيْتُ ; لِأَنِّي أَشَاءُ أَنْ أَبْكِيَ فَالْعِلَّةُ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَعْلُولِ، لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا ; وَلِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ ; لِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهَا أَنَّ مُرَادَهَا أَنَّهُ مَا يَحْصُلُ لِي مِنْ شِبَعٍ، وَلَا تَسَبَّبَ عَنْهُ مَشِيئَتِي لِلْبُكَاءِ إِلَّا يُوجَدُ مِنِّي فَوْرًا، مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَقِيلَ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ لَازِمٌ لِلشِّبَعِ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْمَشِيئَةُ، وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ لَازِمَةً لِلشِّبَعِ، وَلِذَا قَالَتْ: فَأَشَاءُ وَلَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى: «مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ إِلَّا بَكَيْتُ» (قَالَ) أَيْ: مَسْرُوقٌ (قُلْتُ: لِمَ) أَيْ لِمَ تَشَائِينَ أَنْ تَبْكِي، وَفِي التَّحْقِيقِ لِمَ تَتَسَبَّبُ عَنِ الشِّبَعِ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْمُسَبَّبُ عَنْهَا وُجُودُ الْبُكَاءِ فَوْرًا؟ (قَالَتْ: أَذْكُرُ) أَيْ أَشَاءُ أَنْ أَبْكِيَ لِأَنِّي أَذْكُرُ (الْحَالَ الَّتِي فَارَقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّنْيَا) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْنَا، وَهِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ، قَالَ مِيرَكْ شَاهْ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ فَارَقَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذِهِ النُّسْخَةُ أَنْسَبُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْجِيهٍ وَتَكَلُّفٍ وَتَقْدِيرٍ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَى بِمَعْنَى عَنْ أَوِ التَّقْدِيرُ مُتَعَدِّيًا، وَمَا رَأَى عَلَيْنَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا قَالَتْ: كُلَّمَا شَبِعْتُ بَكَيْتُ، لِتَذَكُّرِ الْحَالِ الَّتِي فَارَقَتْ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَّنَتْ تِلْكَ الْحَالَةَ بِقَوْلِهَا: (وَاللَّهِ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ) تَنْوِينُهُمَا لِلتَّنْكِيرِ قَصْدًا لِلْعُمُومِ، وَلَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَإِذَا لَمْ يَشْبَعْ مِنْهُمَا فَبِالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْبَعَ مِنْ غَيْرِهِمَا، مِنَ الْأَعْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ عُمْرِهِ، فَلَمْ يُوجَدْ يَوْمٌ قَطُّ شَبِعَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ مِنْهُمَا، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ شَبِعَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَرَّةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، قِيلَ: كَلِمَةُ لَا فِي: «وَلَا لَحْمٍ» ، تُفِيدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ مَا شَبِعَ مِنْ لَحْمٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا: الْمَقْصُودُ نَفْيُ شِبَعِهِ مِنْ خُبْزٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ مَا شَبِعَ مَنْ لَحْمٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، لَا نَفْيُ شِبَعِهِ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا مَعًا مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ آكَدُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَنْسَبُ فِي مَزِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنِ الِأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ) أَيْ فَضْلًا عَنْ خُبْزِ بُرٍّ (يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ) أَيْ تُوُفِّيَ وَفَاءً بِقَوْلِهِ: حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَالْغِنَى، وَاخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْفَنَاءَ. «أُرِيدُ أَنْ أَجُوعَ يَوْمًا فَأَصْبِرُ، وَأَشْبَعُ يَوْمًا فَأَشْكُرُ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَمَالَ هُوَ الْحَالُ الْمُتَضَمِّنُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَلَالِ، وَالْجَمَالِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِمَا الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ وَالْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْكَاشِفِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخَ الشَّمَائِلِ، وَأَبُو مَعْمَرٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ بَعْدَ وَاوِ عَمْرٍو، وَقَالَا: بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ حَيْثُ قَرَأَ الْوَاوَ مُكَرَّرًا، وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ (قَالَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ) بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى

(باب ما جاء في صفة إدام رسول الله صلى الله عليه وسلم)

خِوَانٍ، وَلَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا) فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا قَطُّ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، (حَتَّى مَاتَ) قَالَ مِيرَكُ: فَائِدَةُ تَكْرَارِ الْحَدِيثِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي السَّنَدِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَتَفَاوُتٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِالتَّطْوِيلِ وَالِاقْتِصَارِ لِلتَّقْوِيَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ إِدَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي النِّهَايَةِ الْإِدَامُ بِالْكَسْرِ، وَالْأُدَامُ بِالضَّمِّ، مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ يَعْنِي مَائِعًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ. «سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ، وَسَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمَاءُ، وَسَيِّدُ الرَّيَاحِينِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ» ، يَعْنِي وَرَقَ الْحِنَّاءِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُ عَنْ أَنَسٍ. خَيْرُ الْإِدَامِ اللَّحْمُ، وَهُوَ سَيِّدُ الْإِدَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ جُعِلَ اللَّحْمُ إِدَامًا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَا يَجْعَلُهُ إِدَامًا، وَيَقُولُ: لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ ثُمَّ أَكَلَ لَحْمًا لَا يَحْنَثُ. قَالَ الْعِصَامُ: وَلَا يُنَافِيهِ عَدَمُ حِنْثِ مَنْ حَلِفَ لَا يَأْتَدِمُ بِهِ ; لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَأَهْلُهُ لَا يُعِدُّونَ اللَّحْمَ إِدَامًا ; لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقْصِدُونَهُ لِذَاتِهِ لَا لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى إِسَاغَةِ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ كَمَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ، بَلْ يَحْنَثُ ; لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ اللَّحْمَ إِدَامٌ، قُلْتُ: الْمَسْأَلَةُ إِذَا كَانَتْ خِلَافِيَّةً فِي الْمَذْهَبِ، فَلَا اعْتِرَاضَ، مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ هَذَا. وَقَالَ مِيرَكُ: الْإِدَامُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، كَالْأُدْمِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَيُقَالُ: بِضَمِّهَا أَيْضًا، مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ، وَيُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ، وَجَمْعُهُمَا أُدُمٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَالدَّالِ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَيُقَالُ: أَدَمَ الْخُبْزَ بِاللَّحْمِ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ إِذَا أَكَلَهُمَا مَعًا، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّ الْأُدْمَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ إِدَامٍ، وَفِي الْمُغْرِبِ الْإِدَامُ هُوَ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ، وَجَمْعُهُ أُدُمٌ بِضَمَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ الَّذِي يُطَيِّبُ الْخُبْزَ وَيَلْتَذُّ بِهِ الْآكِلُ وَالْأُدْمُ مِثْلُهُ، وَالْجَمْعُ آدَامٌ كَحُلْمٍ وَأَحْلَامٍ، وَمَدَارُ التَّرْكِيبِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِصْلَاحِهِ الْخُبْزَ وَجَعْلِهِ مُلَائِمًا لِحِفْظِ الصِّحَّةِ فِي الْجِسْمِ، وَالَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ الْأَدِيمُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (وَمَا أُكِلَ مِنَ الْأَلْوَانِ) أَيْ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ، وَأَصْنَافِهَا جَمْعًا وَفُرَادَى وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ حَبْسُ نَفْسِهِ النَّفِيسَةِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَغْذِيَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ غَالِبًا بِالطَّبِيعَةِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ الْأَطْعِمَةِ بَلْ كَانَ يَأْكُلُ مَا اعْتِيدَ مِنْ لَحْمٍ وَفَاكِهَةٍ وَتَمْرٍ وَغَيْرِهَا، مِمَّا سَيَأْتِي. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

قَالَا: أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَنْبَأَنَا (يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي حَدِيثِهِ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (نِعْمَ الْأُدْمُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ (أَوِ الْإِدَامُ) وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ (الْخَلُّ) يَعْنِي وَقَعَ الشَّكُّ فِي حَدِيثِهِ دُونَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، عَلَى الْإِبْهَامِ لَا يُلَائِمُ الْمَقَامَ، وَقَوْلُ الْحَنَفِيِّ: أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بَعِيدٌ عَنِ الْمَرَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ مَدْحُ الِاقْتِصَادِ فِي الْمَأْكَلِ، وَمَنْعُ النَّفْسِ مِنْ مَلَاذِّ الْأَطْعِمَةِ، وَالتَّقْدِيرُ ائْتَدِمُوا بِالْخَلِّ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَخِفُّ مُؤْنَتُهُ، وَلَا يَعِزُّ وُجُودُهُ، وَلَا تَتَأَنَّقُوا فِي الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّهَا مَفْسَدَةٌ فِي الدِّينِ، مَقْصَمَةٌ لِلْبَدَنِ، هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَالصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ أَنَّهُ مَدْحٌ لِلْخَلِّ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الِاقْتِصَادُ فِي الْمَطْعَمِ، وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ، فَمَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدَ أُخَرَ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَدَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّوَابُ، إِذْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْدَحُ طَعَامًا، وَلَا يَذُمُّهُ، فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ شَائِبَةُ الشَّهْوَةِ، وَفِي الثَّانِي احْتِقَارُ النِّعْمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَإِنَّهُ قَامِعٌ لِلصَّفْرَاءِ، نَافِعٌ لِلْأَبْدَانِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِمَدْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ تَفْضِيلًا، فَإِنَّهُ مِنَ الْحُكْمِيَّاتِ الَّتِي لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ فَائِدَةٍ، وَخَاصِّيَّةٍ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ. وَرِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُسْلِمٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْأُدْمَ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَدَعَا بِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ التَّحْدِيثِ عَلَى الْأَكْلِ تَأْنِيسًا لِلْآكِلِينَ. وَعَنْ أُمٍّ سَعِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الْخَلِّ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّهُ كَانَ إِدَامَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» . وَفِي حَدِيثٍ: «لَمْ يُفْقَرْ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ» . رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، رَدٌّ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ الْحَالِ الْحَاضِرِ، لَا لِتَفْضِيلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، خِلَافًا لِمَنْ ظَنَّهُ ; لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَهُ قَدَّمُوا لَهُ خُبْزًا، فَقَالَ: أَمَا مِنْ أُدْمٍ، فَقَالُوا مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَقَالَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ. جَبْرًا وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِ مَنْ قَدَّمَهُ، لَا تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَوْ حَضَرَ نَحْوُ لَحْمٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ لَبَنٍ لَكَانَ أَوْلَى بِالْمَدْحِ مِنْهُ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مَدْحُهُ، لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأُدْمِ، هَذَا وَفِي طَلَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِدَامَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَكْلَ الْخُبْزِ مَعَ الْإِدَامِ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ، بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَاسْتُفِيدَ مِنْ كَوْنِهِ أُدْمًا أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أُدُمًا حَنِثَ بِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْحَنَفِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ، ثِقَةٌ مُتْقِنٌ صَاحِبُ حَدِيثٍ مِنَ السَّابِعَةِ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ: أَلَسْتُمْ) الْخِطَابُ لِلتَّابِعِينَ أَوْ لِلصَّحَابَةِ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ) مَا بَدَلٌ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، أَيْ أَيُّ شَيْءٍ شِئْتُمْ مِنْهُمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَيَكُونَ ظَرْفًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ وَفِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ خَبَرُ أَلَسْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَلَسْتُمْ مُتَنَعِّمِينَ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مِقْدَارَ مَا شِئْتُمْ مِنَ التَّوْسِعَةِ وَالْإِفْرَاطِ فِيهِ، فَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ تَعْبِيرُ تَوْبِيخٍ ; وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَضَافَهُ إِلَيْهِمْ لِلْإِلْزَامِ حِينَ لَمْ يَقْتَدُوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ،

فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَمُسْتَلَذَّاتِهَا، وَفِي التَّقْلِيلِ لِمَأْكُولَاتِهَا وَمَشْرُوبَاتِهَا، وَأَمَّا قَتْلُ خَالِدٍ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ، لَمَّا قَالَ لَهُ كَانَ صَاحِبُكُمْ يَقُولُ: كَذَا، فَقَالَ صَاحِبُنَا: وَلَيْسَ بِصَاحِبِكَ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ لَمْ يَكُنْ لِمُجَرَّدِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، بَلْ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُ الرِّدَّةُ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَا أَبَاحَ لَهُ بِهِ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى النَّظَرِ فَقَوْلُهُ: (وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ) حَالٌ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَأَدْخَلَ الْوَاوَ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَوَّلُ عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، وَالدَّقَلُ بِفَتْحَتَيْنِ التَّمْرُ الرَّدِيءُ وَيَابِسُهُ، وَمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ، فَتَرَاهُ لِيُبْسِهِ وَرَدَائَتِهِ لَا يَجْتَمِعُ، وَيَكُونُ مَنْشُورًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ) مَفْعُولُ يَجِدُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَمِنَ الدَّقَلِ بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ) نِسْبَةً إِلَى خُزَاعَةَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ سُفْيَانَ) أَيِ الثَّوْرِيِّ (عَنْ مُحَارِبِ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (بْنِ دِثَارٍ) بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ كَذَا فِي الْجَامِعِ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَالثَّلَاثَةُ أَيْضًا، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ (عَنْ زَهْدَمٍ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (الْجَرْمِيِّ) بِالْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَالرَّاءِ السَّاكِنَةِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ، وَذُكِرَ فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَأُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ جِيءَ (بِلَحْمِ دَجَاجٍ) قَالَ الْحَنَفِيُّ: مَفْعُولٌ قَائِمٌ مَقَامَ فَاعِلِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: نَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ أَبِي مُوسَى، وَزَعَمَ أَنَّهُ بِلَحْمِ دَجَاجٍ، غَلَطٌ فَاحِشٌ، انْتَهَى. وَفِي كَوْنِهِ غَلَطًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا، نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذِ التَّقْدِيرُ أُتِيَ بِلَحْمِ دَجَاجٍ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ لِلْحَاضِرِينَ، كَمَا سَيَأْتِي فَتُقُدِّمَ طَعَامُهُ. ثُمَّ الدَّجَاجُ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ أَنَّ الدَّجَاجَ اسْمُ جِنْسٍ، وَهُوَ مُثَلَّثُ الدَّالِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَابْنُ مَائِدٍ، وَلَمْ يَحْكِ النَّوَوِيُّ ضَمَّ الدَّالِ، وَاحِدَةُ دَجَاجَةٍ مُثَلَّثَةٌ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمَّ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَأَفَادَ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِهِ أَنَّ الدِّجَاجَ بِالْكَسْرِ اسْمٌ لِلذُّكْرَانِ دُونَ الْإِنَاثِ، الْوَاحِدُ مِنْهَا دِيكٌ، وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْإِنَاثِ دُونَ الذُّكْرَانِ، وَالْوَاحِدُ دَجَاجَةٌ بِالْفَتْحِ أَيْضًا، سُمِّيَ بِهِ لِإِسْرَاعِهِ مِنْ دَجَّ يَدِجُّ مِنْ حَدِّ نَصَرَ إِذَا بَالَغَ فِي السَّيْرِ سَرِيعًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ فِيهِ دَجَاجٌ كَمَا يَأْتِي (فَتَنَحَّى) مِنَ التَّنَحِّي مِنَ النَّحْوِ أَيْ صَارَ إِلَى طَرَفِ الْقَوْمِ وَتَبَاعَدَ (رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) قِيلَ: هُوَ زَهْدَمُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَى حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ مِنْ تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى مِنَ الْمَوَالِي. وَزَعَمَ أَنَّهُ زَهْدَمُ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِرَجُلٍ لَيْسَ فِي مَحِلِّهِ ; لِأَنَّ زَهْدَمَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بَيَّنَهُ بِصِفَتِهِ وَنِسْبَتِهِ (فَقَالَ) أَيْ أَبُو مُوسَى (مَا لَكَ) اسْتِفْهَامٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أَيُّ شَيْءٍ مَانِعٌ أَوْ بَاعِثٌ لَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ مِنَ التَّنَحِّي (قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (إِنِّي رَأَيْتُهَا) أَيْ أَبْصَرْتُ الدَّجَاجَةَ - جِنْسُهَا - حَالَ كَوْنِهَا (تَأْكُلُ شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْقَاذُورَاتِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ

نَتِنًا بِنُونَيْنِ بَيْنَهُمَا فَوْقِيَّةٌ مَكْسُورَةٌ، وَيَجُوزُ سُكُونُهَا بِتَقْدِيرِ ذَا، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ شَيْئًا لَا أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ (فَحَلَفْتُ) بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ أَقْسَمْتُ (أَنْ لَا آكُلَهَا) وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَلِفَهُ لِإِبَاءِ طَبْعِهِ وَكَرَاهَتِهِ لِأَكْلِهَا نَتِنًا كَمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: فَقَذِرْتُهُ لَا لِتَوَّهُمِ حُرْمَتِهِ، كَمَا تَوَهَّمَ الْحَنَفِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ الْحُرْمَةَ مَا احْتَاجَ إِلَى الْيَمِينِ، وَأَيْضًا كَوْنُهُ مِنَ التَّابِعِينَ وَفِي أَيَّامِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، يُمْنَعُ أَنْ يُحَرِّمَ حَلَالًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، مَعَ أَنَّ الطَّعَامَ مَطْبُوخٌ فِي بَيْتِ أَبِي مُوسَى (قَالَ) أَيْ أَبُو مُوسَى (ادْنُ) بِضَمِّ النُّونِ أَمْرٌ مِنَ الدُّنُوِّ أَيِ اقْرُبْ، وَخَالِفْ طَبْعَكَ، وَتَابِعْ شَرْعَكَ (فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاجٍ) فَالْأَنْسَبُ مُتَابَعَتُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: لَعَلَّهُ فَهِمَ أَنَّ فِي جِنْسِهَا جَلَّالَةً، وَهِيَ يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ أَكْلُهَا عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالْحِنْثِ حِينَئِذٍ، قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهَا جَلَّالَةً ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ أَكْلِهَا الْقَذَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ الَّذِي حُصُولُهُ شَرْطٌ فِي تَسْمِيَتِهَا جَلَّالَةً، حَتَّى يَجْرِيَ ذَلِكَ الْخِلَافُ فِيهَا، نَعَمْ، لَوْ قَيَّدَ يَمِينَهُ بِالْجَلَّالَةِ لَمْ يُنْدَبِ الْحِنْثُ فِيهَا، انْتَهَى. وَفِي جَوَابِ السُّؤَالِ وَتَطَابُقِهِمَا نَظَرٌ لَا يَخْفَى مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ أَوْ كَرَاهَتِهَا مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ حَبْسِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْفُرُوعِ، وَلَا يُظَنُّ بِالْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَرْتَكِبُوا الْكَرَاهَةَ، فَضْلًا عَنِ الْحُرْمَةِ. (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الْأَعْرَجُ الْبَغْدَادِيُّ) بِالْمُهْمَلَةِ فَالْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ وَإِهْمَالُهُمَا وَإِعْجَامُهُمَا (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ قَالَ مِيرَكُ: وَفِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ رَوَى لَهُ حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَفِينَةَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَامِعِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِبْرَاهِيمُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَبُو الْحَجَّاجِ النَّضْرُ بْنُ طَاهِرٍ الْبَصْرِيُّ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ عُمَرَ بْنِ سَفِينَةَ (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ سَفِينَةَ وَهُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ مِهْرَانَ أَوْ غَيْرُهُ، فَلُقِّبَ بِسَفِينَةَ ; لِكَوْنِهِ حَمَلَ شَيْئًا كَثِيرًا فِي السَّفَرِ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ لَهُ أَحَادِيثُ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (قَالَ: أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حُبَارَى) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:

أَلِفُ حُبَارَى لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، وَلَا لِلْإِلْحَاقِ، وَإِنَّمَا بُنِيَ الِاسْمُ عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ، أَيْ لَا تُنَوَّنُ. قُلْتُ: هَذَا سَهْوٌ مِنْهُ بَلْ أَلِفُهَا لِلتَّأْنِيثِ كَسُمَانَى، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ لَانْصَرَفَتْ. وَالْحُبَارَى طَائِرٌ مَعْرُوفٌ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: فِي الْجَمْعِ حُبَارَيَاتٌ، وَأَهْلُ مِصْرَ يُسَمُّونَ الْحُبَارَى الْحَبْرَجَ، وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ الطَّيْرِ طَيَرَانًا، وَأَبْعَدِهَا شَوْطًا، وَذَلِكَ أَنَّهَا تُصَادُ بِالْبَصْرَةِ، فَتُوجَدُ فِي حَوَاصِلِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ الَّتِي شَجَرَتُهَا الْبُطْمُ وَمَنَابِتُهَا تُخُومُ بِلَادِ الشَّامِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي الْمَثَلِ: أَطْلَبُ مِنَ الْحُبَارَى. وَإِذَا نُتِفَ رِيشُهَا، وَأَبْطَأَ نَبَاتُهَا مَاتَتْ حُزْنًا، وَهُوَ طَائِرٌ كَبِيرُ الْعُنُقِ، رَمَادِيُّ اللَّوْنِ فِي مِنْقَارِهِ بَعْضُ الطُّولِ، لَحْمُهُ بَيْنَ لَحْمِ الْبَطِّ وَالدَّجَاجِ، وَهُوَ أَخَفُّ مِنْ لَحْمِ الْبَطِّ، وَسِلَاحُهَا سِلَاحُهَا. وَمِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا تُصَادُ وَلَا تَصِيدُ، وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الطَّيْرِ حِيلَةً فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَمُوتُ جُوعًا بِهَذَا السَّبَبِ وَوَلَدُهَا يُقَالُ لَهَا: النَّهَارُ، وَفَرْخُ الْكَرَوَانِ اللَّيْلُ قَالَ الشَّاعِرُ (شِعْرٌ) : وَنَهَارًا رَأَيْتُ مُنْتَصَفَ اللَّيْلِ ... وَلَيْلًا رَأَيْتُ نِصْفَ النَّهَارِ كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَقِيلَ: يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْحُمْقِ، وَيُقَالُ كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ حَتَّى الْحُبَارَى، وَقِيلَ: يُوجَدُ فِي بَطْنِهِ حَجَرٌ إِذَا عُلِّقَ عَلَى شَخْصٍ، لَمْ يَحْتَلِمْ مَا دَامَ عَلَيْهِ هَذَا. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الْحُبَارَى لَيَمُوتَ هَزْلًا بِذَنْبِ بَنِي آدَمَ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْبِسُ عَنْهَا الْقَطْرَ، بِشُؤْمِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا أَبْعَدُ الطَّيْرِ نُجْعَةً، وَرُبَّمَا تُذْبَحُ بِالْبَصْرَةِ، وَيُوجَدُ فِي حَوَاصِلِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ، وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ مَنَابِتِهَا مَسِيرَةُ أَيَّامٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالنُّجْعَةُ طَلَبُ الْكَلَاءِ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ حِمَارِ الْوَحْشِ، وَلَحْمَ الْجَمَلِ سَفَرًا، وَحَضَرًا وَلَحْمَ الْأَرْنَبِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ الْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ) هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ وَيُقَالُ: الْكُلَيْنِيُّ بِنُونٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ، مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ التَّيْمِيُّ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ (زَهْدَمِ الْجَرْمِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى) أَيْ حَاضِرِينَ أَوْ جَالِسِينَ (قَالَ) أَيْ: زَهْدَمُ وَأُعِيدَ تَأْكِيدًا (فَتُقُدِّمَ طَعَامُهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّقَدُّمِ، كَذَا مَضْبُوطٌ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقَدَّمَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّقْدِيمِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَفِي الْقَامُوسِ قَدَمَ الْقَوْمَ كَنَصَرَ وَقَدَّمَهُمْ وَاسْتَقْدَمَهُمْ، تَقَدَّمَهُمْ وَالْمَعْنَى فَأُتِيَ بِطَعَامِهِ (وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ) أَيْ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ فِي جُمْلَتِهِ (لَحْمُ دَجَاجٍ) وَالثَّانِي أَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ طَعَامٌ آخَرُ لَمَا تَنَحَّى، وَأَكَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَبَعُّدُهُ مِنْ أَكْلِهِ خُصُوصًا فَتَأَمَّلْ (وَفِي الْقَوْمِ) أَيِ الْحَاضِرِينَ (رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ) أَيْ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِمْ تَيَّمَهُ الْحُبُّ أَيْ عَبَّدَهُ وَذَلَّلَهُ، وَهُوَ تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَهُمْ حَيٌّ مِنْ بَنِي بَكْرٍ يُقَالُ لَهُمُ اللَّهَازِمُ (أَحْمَرُ) صِفَةُ رَجُلٍ (كَأَنَّهُ مَوْلَى) أَيْ مِنْ مَوَالِيهِمْ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِ، أَوْ يُشْبِهُ مَوْلًى لِحُمْرَةِ وَجْهِهِ (قَالَ) أَيْ زَهْدَمُ (فَلَمْ يَدْنُ) أَيْ لَمْ يَقْرُبِ الرَّجُلُ إِلَى الطَّعَامِ، وَهُوَ مَعْنَى التَّبَعُّدِ السَّابِقِ، أَوْ هُمَا كِنَايَتَانِ عَنْ عَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى الطَّعَامِ، وَانْتِفَاءِ تَنَاوُلِهِ مِنْهُ (فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: (ادْنُ) أَيِ اقْرُبْ إِلَى الطَّعَامِ، وَكُلْ (فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْهُ) تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ رَاجِعٌ إِلَى الدَّجَاجِ هُنَا، بِخِلَافِهِ

هُنَاكَ، فَإِنَّهُ إِلَى الدَّجَاجَةِ، وَلِكُلٍّ وُجْهَةٌ تُظْهِرُ وَجْهَهُ (قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا) وَفِي نُسْخَةٍ نَتِنًا (فَقَذِرْتُهُ) بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ اسْتَقْذَرْتُهُ وَعَدَدْتُهُ قَذِرًا، قَالَ مِيرَكُ: وَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الطَّرِيقِ الْأَوْلَى أَيْضًا ; لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَحَلَفْتُ أَنْ) وَفِي نُسْخَةٍ أَنِّي (لَا أَطْعَمَهُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ لَا آكُلُهُ (أَبَدًا) أَيْ مُدَّةَ مَا أَعِيشُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ الدَّجَاجِ عِنْدَ أَبِي مُوسَى إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً، لَا تَخْلُو عَنْ إِشْكَالٍ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَوْرَدَهُمَا الْمُصَنِّفُ، إِذِ الْأَوْلَى بِظَاهِرِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اعْتِذَارَ الرَّجُلِ عَنْ تَنَحِّيهِ مِنَ الْقَوْمِ، مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُوسَى إِيَّاهُ: ادْنُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحَدِيثَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ بِظَاهِرِهَا يَدُلُّ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْرِفَ إِحْدَاهُمَا عَنِ الظَّاهِرِ، تَدَبَّرْ. قُلْتُ: تَدَبَّرْنَا وَوَجَدْنَا الْقِصَّةَ وَاحِدَةً، فَدَبَّرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِتَعَدُّدِ قَوْلِهِ: ادْنُ، بَلْ هُوَ مُتَعَيِّنٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ حِينَ تَنَحَّى: ادْنُ مَا لَكَ، أَوْ مَا لَكَ ادْنُ، كَمَا هُوَ الْعَادَةُ، وَلَمَّا تَعَلَّلَ بِمَا تَعَلَّلَ، قَالَ لَهُ: ادْنُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحَدِيثَ هَذَا. وَفِي تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَمِنْ جَهَلَةِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يُقَلِّلُ الْمَطْعَمَ، وَأَكْلَ الدَّسَمِ حَتَّى يَيْبَسَ بَدَنُهُ، وَيُعَذِّبَ نَفْسَهُ بِلُبْسِ الصُّوفِ، وَيَمْتَنِعَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَمَا هَذِهِ طَرِيقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا طَرِيقُ صَحَابَتِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَجُوعُونَ إِذَا لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، فَإِذَا وَجَدُوا أَكَلُوا، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ وَيُحِبُّهُ، وَيَأْكُلُ الدَّجَاجَ وَيُحِبُّ الْحَلْوَاءَ، وَيُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ، فَإِنَّ الْمَاءَ الْحَارَّ يُؤْذِي الْمَعِدَةَ وَلَا يَرْوِي. وَكَانَ رَجُلٌ يَقُولُ: لَا آكُلُ الْخَبِيصَ ; لِأَنِّي لَا أَقُومُ بِشُكْرِهِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا رَجُلٌ أَحْمَقٌ، وَهَلْ يَقُومُ بِشُكْرِ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا سَافَرَ حَمَلَ مَعَهُ فِي سُفْرَتِهِ اللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ، وَالْفَالَوْذَجَ، انْتَهَى. وَمَحْمَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا وَمِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ. وَقَالَ السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذْلِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: الَّذِي يَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ مِنْ وَسَطِ قَلْبِهِ، يَعْنِي مَرْتَبَةَ الشُّكْرِ، أَتَمُّ مِنْ حَالَةِ الصَّبْرِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ، نَعَمْ. إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَمَقَامُهُ الصَّبْرُ، وَبِهِمَا يَتِمُّ مَقَامُ الرِّضَى بِالْقَضَاءِ، وَهُوَ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ وَيُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ) قِيلَ: اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ دِرْهَمٍ (الزُّبَيْرِيُّ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (وَأَبُو نُعَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، يُقَالُ لَهُ عَطَاءٌ) فِي التَّقْرِيبِ شَامِيٌّ أَنْصَارِيٌّ سَكَنَ السَّاحِلَ، مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ (عَنْ أَبِي أَسِيدٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ الزُّرَقِيُّ، قَالَ فِي الْإِكْمَالِ أَبُو أَسِيدٍ هَذَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ

مُصَغَّرًا، وَلَا يَصِحُّ وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ: كُلُوا الزَّيْتَ، إِلَى آخِرِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: أَبُو أَسِيدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمَدَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ لَهُ حَدِيثٌ وَالصَّحِيحُ فِيهِ فَتْحُ الْهَمْزَةِ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا الزَّيْتَ) أَيْ مَعَ الْخُبْزِ، وَاجْعَلُوهُ إِدَامًا، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ الزَّيْتَ مَائِعٌ، فَلَا يَكُونُ تَنَاوُلُهُ أَكْلًا، وَلَا الِاعْتِرَاضُ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْبَابِ (وَادَّهِنُوا بِهِ) أَمْرٌ مِنَ الِادِّهَانِ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ وَأَمْثَالُ هَذَا الْأَمْرِ لِلِاسْتِحْبَابِ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، وَيَرُدُّهُ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الزَّيْتَ يَحْصُلُ (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) يَعْنِي زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا وَانْتِفَاعِ أَهْلِ الشَّامِ بِهَا كَذَا قِيلَ. وَالْأَظْهَرُ لِكَوْنِهَا تَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، قِيلَ: بَارَكَ فِيهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَلْزَمُ مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ بَرَكَةُ ثَمَرَتِهَا، وَهِيَ الزَّيْتُونُ، وَبَرَكَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الزَّيْتِ وَكَيْفَ لَا وَفِيهِ التَّأَدُّمُ وَالتَّدَهُّنُ، وَهُمَا نِعْمَتَانِ عَظِيمَتَانِ وَقَدْ وَرَدَ: عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ زَيْتَ الزَّيْتُونِ، فَتَدَاوَوْا بِهِ، فَإِنَّهُ مُصَحِّحَةٌ مِنَ الْبَاسُورِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ سَبْعِينَ دَاءً مِنْهَا الْجُذَامُ. هَذَا وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلْبَابِ، أَنَّ الْأَمْرَ بِأَكْلِهِ يَسْتَدْعِي أَكْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، أَوْ يُقَالُ: الْمَقْصُودُ مِنَ التَّرْجَمَةِ مَعْرِفَةُ مَا أَكَلَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَحَبَّ الْأَكْلَ مِنْهُ. (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ) بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاكِنٌ (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أَسِيدٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ طَيِّبٌ مُبَارَكٌ. وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْهُ، وَقَالَ: فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ سَبْعِينَ دَاءً مِنْهَا الْجُذَامُ (قَالَ أَبُو عِيسَى) يَعْنِي الْمُصَنِّفَ (وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِلَا وَاوٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الِاسْتِئْنَافِيَّةِ (كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (يَضْطَرِبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) أَيْ فِي إِسْنَادِهِ (فَرُبَّمَا) بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالِاضْطِرَابِ هُنَا (أَسْنَدَهُ) أَيْ: أَوْصَلَهُ وَرَفَعَهُ كَمَا سَبَقَ (وَرُبَّمَا أَرْسَلَهُ) أَيْ فَحَذَفَ الصَّحَابِيَّ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يُؤَخِّرَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى إِيرَادِ الْأَسَانِيدِ بِالتُّهَمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُضْطَرِبَ عَلَى مَا فِي جَوَاهِرِ الْأُصُولِ هُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ الرُّوَاةُ فِيهِ، فَيَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى

وَجْهٍ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، مُخَالِفٍ لَهُ، وَيَقَعُ الِاضْطِرَابُ فِي الْإِسْنَادِ تَارَةً، وَفِي الْمَتْنِ أُخْرَى، وَفِيهِمَا أُخْرَى، مِنْ رَاوٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ إِنْ أَمْكَنَ التَّرْجِيحُ بِحِفْظِ رُوَاةِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ كَثْرَةِ صُحْبَةِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ لِلرَّاجِحِ، وَلَا اضْطِرَابَ حِينَئِذٍ، وَإِلَّا فَمُضْطَرِبٌ يَسْتَلْزِمُ الضَّعْفَ، انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَخَالُفُ رِوَايَتَيْنِ أَمْ أَكْثَرَ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا مُخَالَفَةً لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَتَرَجَّحْ إِحْدَاهُمَا بِنَحْوِ كَثْرَةِ طُرُقِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ كَوْنِهَا أَصَحُّ أَوْ أَشْهَرُ أَوْ رُوَاتُهَا أَتْقَنُ أَوْ مَعَهُمْ زِيَادَةُ عِلْمٍ كَمَا هُنَا فَإِنَّ الْمُسْنَدَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى الْمُرْسَلِ سِيَّمَا وَالْمُرْسَلُ أُسْنِدَ مَرَّةً أُخْرَى، فَوَافَقَ إِسْنَادَ غَيْرِهِ لَهُ دَائِمًا، وَهُوَ أَبُو أَسِيدٍ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ. (حَدَّثَنَا السِّنْجِيِّ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَبِالْجِيمِ نِسْبَةً إِلَى سَنْجٍ، قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى مَرْوَ (وَهُوَ أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (الْمَرْوَزِيُّ) بِفَتْحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاكِنٌ (السِّنْجِيُّ) ذَكَرَهُ أَوَّلًا، وَثَانِيًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ ذِكْرُ نِسْبَتِهِ فَقَطْ، وَقَدْ يَقَعُ ذِكْرُ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَنِسْبَتِهِ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ) أَيْ مِثْلَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى (وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَنْ عُمَرَ) يَعْنِي فَيَكُونُ الْحَدِيثُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مُرْسَلًا، فَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ، وَالِاضْطِرَابُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ وَفَاعِلُهُ (الدُّبَّاءُ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُعْجِبُهُ، أَيْ يُرْضِيهِ أَكْلُهُ، وَيَسْتَحْسِنُهُ وَيُحِبُّ تَنَاوُلَهُ، وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ، وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، مَمْدُودٌ، وَيَجُوزُ الْقَصْرُ، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْمُسْتَدِيرِ مِنْهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الدُّبَّاءُ هُوَ الْيَقْطِينُ وَهُوَ بِالْمَدِّ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَحَكَى الْقَاضِي فِيهِ الْقَصْرَ أَيْضًا، الْوَاحِدَةُ: دُبَّاءَةٌ أَوْ دُبَّاةٌ، انْتَهَى. وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَتَاجِ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الدُّبَّاءُ هِيَ الْقَرْعُ، وَاحِدُهَا: دُبَّاءَةٌ، وَزْنُهَا فُعَّالٌ، وَلَامُهَا هَمْزَةٌ، وَلَا يُعْرَفُ انْقِلَابُ لَامِهَا عَنْ وَاوٍ أَوْ يَاءٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَخْرَجَهَا الْهَرَوِيُّ فِي الدَّالِ مَعَ الْبَاءِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ زَائِدَةٌ، وَأَخْرَجَهَا الْجَوْهَرِيُّ فِي الْمُعْتَلِّ، عَلَى أَنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ، وَكَأَنَّهُ أَشْبَهَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَأُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِتْيَانِ أَيْ فَجِيءَ (بِطَعَامٍ) أَيْ فِيهِ دُبَّاءٌ (أَوْ دُعِيَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ طُولِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَهُ) أَيْ لِلطَّعَامِ، وَالشَّكُّ مِنْ أَنَسٍ، أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، قَالَ أَنَسٌ: (فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ) أَيْ أَطْلُبُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ (فَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ قُدَّامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مُخْتَلِفًا، يَجُوزُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيهِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ صَاحِبِهِ كَرَاهَةً وَمُنَاوَلَةُ الضِّيفَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مِمَّا وُضِعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمِ اعْتِمَادًا عَلَى رِضَى الْمُضِيفِ، وَإِنَّمَا يُمْتَنَعُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ قُدَّامِ الْآخَرِ لِنَفْسِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ ; لِكَوْنِهِ مَخْصُوصًا بِغَيْرِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (لِمَا أَعْلَمُ) مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ لِعِلْمِي أَوْ لِلَّذِي أَعْلَمُهُ (أَنَّهُ) أَيِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُحِبُّهُ) أَيِ الدُّبَّاءَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، بِفَتْحِ اللَّامِ

وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ حِينَ أَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَبِهِمَا قُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا قِيلَ: وَكَانَ سَبَبُ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مَا فِيهِ مِنْ إِفَادَةِ زِيَادَةِ الْعَقْلِ، وَالرُّطُوبَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَمَا كَانَ يَلْحَظُهُ مِنَ السِّرِّ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِ، إِذْ خَصَّصَهُ بِالْإِنْبَاتِ عَلَى أَخِيهِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى وَقَاهُ حَرَّ الشَّمْسِ، وَبَرْدَ اللَّيْلِ، وَتَرَبَّى فِي ظِلِّهِ فَكَانَ لَهُ كَالْأُمِّ الْحَاضِنَةِ لِوَلَدِهَا. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ) أَيِ ابْنِ طَارِقِ بْنِ نَافِقٍ الْأَحْمَسِيِّ بِمُهْمَلَتَيْنِ، ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مُقِلٌّ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فِي بَيْتِهِ (فَرَأَيْتُ عِنْدَهُ دُبَّاءً يُقَطِّعُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَالتَّقْطِيعُ جَعْلُ الشَّيْءِ قِطْعَةً قِطْعَةً، وَبَابُ التَّفْعِيلِ لِلتَّكْثِيرِ (فَقُلْتُ: مَا هَذَا) أَيْ مَا فَائِدَتُهُ لَا مَا حَقِيقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَ فِي مَا ; لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رَدًّا عَلَى شَارِحٍ، حَيْثُ قَالَ: الْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ تَوَهُّمٌ مِنْهُمَا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الدُّبَّاءُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى مَا فَائِدَةُ كَثْرَةِ تَقْطِيعِهِ (قَالَ: نُكْثِرُ) بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ مَكْسُورَةٍ مِنَ التَّكْثِيرِ، هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ كَثِيرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِكْثَارِ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لَكِنَّ الْأُصُولَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ تَحْتِيَّةٍ، وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ مُشَدَّدَةٍ، فَقَوْلُهُ: (بِهِ) أَيْ بِالتَّقْطِيعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ: (طَعَامَنَا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَرْفُوعٌ عَلَى الْأَخِيرِ، وَقَالَ الْعِصَامُ: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْرُوفِ، مِنَ التَّقْطِيعِ، كَتَكْثِيرٍ مِنَ التَّكْثِيرِ، وَفِي بَعْضِهَا بِقَطْعٍ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَنُكْثِرُ مِنَ الْإِكْثَارِ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْرُوفِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَفِي بَعْضِهَا يُقَطَّعُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَيَكْثُرُ مُسْنَدًا إِلَى طَعَامِنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِأَمْرِ الطَّبْخِ، وَمَا يُصْلِحُهُ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّوَكُّلَ، بَلْ يُلَائِمُ الِاقْتِصَادَ فِي الْمَعِيشَةِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْقَنَاعَةِ، وَلَمَّا كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، وَالْمُطْلَقُ يُصْرَفُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ (قَالَ أَبُو عِيسَى وَجَابِرٌ هَذَا) أَيِ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا سَبَقَ (هُوَ جَابِرُ بْنُ طَارِقٍ، وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي طَارِقٍ) يَعْنِي لَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمُكْثِرِينَ وَهُوَ وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (وَهُوَ) أَيْ جَابِرُ بْنُ طَارِقٍ (رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْرِفُ لَهُ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ) رُوِيَ مَعْلُومًا عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ، وَرُوِيَ مَجْهُولًا عَلَى صِيغَةِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُنْصَبُ الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، وَعَلَى الثَّانِي يُرْفَعُ، قِيلَ: لَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ هَذَا فِي جَابِرٍ هَذَا وَتَرْكِهِ فِي ابْنِ أَسِيدٍ السَّابِقِ مَعَ أَنَّ مِثْلَهُ فِيهِ انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ حَالَ أَبِي أَسِيدٍ مَشْهُورٌ بِالنَّفْيِ عَنْ ذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ حَفِظَ ذَلِكَ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ، فَبَيَّنَ مَا عَرَفَهُ وَسَكَتَ عَمًّا لَا يَعْرِفُهُ،

وَزَيْدٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَأَبُو خَالِدٍ اسْمُهُ سَعْدٌ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) قِيلَ: هُوَ أَخُو الْأَخْيَافِ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ (أَنَّهُ) أَيْ إِسْحَاقَ (سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ غُلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي لَفْظِهِ أَنَّ مَوْلَى خَيَّاطًا دَعَاهُ (لِطَعَامٍ صَنَعَهُ فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: أَيْ إِسْحَاقُ، فَقَالَ: (أَنَسٌ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ) يَعْنِي بِطَلَبٍ مَخْصُوصٍ أَوْ تَبَعًا لَهُ لِكَوْنِهِ خَادِمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَرَّبَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ فَقَدَّمَ الْخَيَّاطُ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا) بِفَتْحَتَيْنِ (فِيهِ دُبَّاءٌ) بِضَمِّ دَالٍ، وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ وَبِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ، الْقَرْعُ، الْوَاحِدَةُ: دُبَّاءَةٌ (وَقَدِيدٌ) أَيْ لَحْمٌ مَمْلُوحٌ مُجَفَّفٌ فِي الشَّمْسِ أَوْ غَيْرِهَا، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْقَدُّ الْقَطْعُ طُولًا كَالشِّقِّ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ رَجُلٍ ذَبَحْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً وَنَحْنُ مُسَافِرُونَ، فَقَالَ: أَمْلِحْ لَحْمَهَا، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ (قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ) أَيْ يَتَطَلَّبُ (الدُّبَّاءَ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ) وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَإِنَّمَا كُسِرَ هُنَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهُوَ مُفْرِدُ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى، أَيْ جَوَانِبِهَا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِجَانِبِهِ دُونَ جَانِبِ الْبَقِيَّةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَلَا يُعَارِضُهُ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لِلْقَذَرِ وَالْإِيذَاءِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوَدُّونَ ذَلِكَ مِنْهُ لِتَبَرُّكِهِمْ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَحْوَ بُصَاقِهِ وَمُخَاطِهِ، يُدَلِّكُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، وَقَدْ شَرِبَ بَعْضُهُمْ بَوْلَهُ، وَبَعْضُهُمْ دَمَهُ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ إِلَيْهِ وَلَا أَطْعَمُهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مُخْتَلِفًا يَجُوزُ أَنْ يَمُدَّ الْآكِلُ يَدَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيهِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ صَاحِبِهِ كَرَاهَةً، وَيُقَالُ: رَأَيْتُ النَّاسَ حَوْلَهُ وَحَوْلَيْهِ، وَحَوَالَيْهِ وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ فِي الْجَمِيعِ وَلَا يَجُوزُ كَسْرُهَا، وَيُقَالُ: حَوَالَيِ الدَّارِ، قِيلَ: كَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ حَوَالَيْنَ، كَقَوْلِكَ: جَانِبَيْنِ فَسَقَطَتِ النُّونُ، لِلْإِضَافَةِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، ثُمَّ الْقَصْعَةِ بِفَتْحِ الْقَافِ هِيَ الَّتِي يَأْكُلُ مِنْهَا عَشَرَةُ أَنْفُسٍ، كَذَا فِي مُهَذِّبِ الْأَسْمَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ وَهِيَ الَّتِي يَأْكُلُ مِنْهَا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ عَلَى مَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَالصِّحَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: هِيَ تَسَعُ ضِعْفَيْ مَا تَسَعُ الْقَصْعَةُ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ (فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ) أَيْ مَحَبَّةً شَرْعِيَّةً لَا طَبِيعِيَّةً، أَوِ الْمُرَادُ أُحِبُّهَا مَحَبَّةً زَائِدَةً (مِنْ يَوْمِئِذٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ مُعْرَبٌ مَجْرُورٌ بِمِنْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، عَلَى اكْتِسَابِ الْبِنَاءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَرُوِيَ بَعْدَ يَوْمِئِذٍ فَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْدَ مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَهُ، بَلْ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَحِينَئِذٍ يَوْمِئِذٍ بَيَانٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، وَأَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ، فَيَجُوزُ الْوَجْهَانِ، كَمَا قُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ فِي السَّبْعَةِ وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ

أَكْلِ الشَّرِيفِ طَعَامَ مَنْ دُونَهُ مِنْ مُحْتَرِفٍ وَغَيْرِهِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ وَمُؤَاكَلَةُ الْخَادِمِ، وَبَيَانُ مَا كَانَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَاللُّطْفِ بِأَصْحَابِهِ، وَتَعَاهُدِهِمْ بِالْمَجِيءِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِ الْإِجَابَةُ إِلَى الطَّعَامِ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَأَنَّهُ يُسَنُّ مَحَبَّةُ الدُّبَّاءِ لِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُحِبُّهُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَأَنَّ كَسْبَ الْخَيَّاطِ لَيْسَ بِدَنِيءٍ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَسَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) كَحَبِيبٍ (وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالُوا: أَخْبَرَنَا) وَفِي أَصْلٍ صَحِيحٍ أَنْبَأَنَا (أَبُو أُسَامَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ) بِالْمَدِّ وَيَجُوزُ قَصْرُهُ، فَفِي الْمُغْرِبِ الْحَلْوَاءُ، الَّذِي يُؤْكَلُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْجَمْعُ الْحَلَاوَى، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقِيلَ: الْحَلْوَاءُ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ حَلَاوَةٌ، فَقَوْلُهُ: (وَالْعَسَلَ) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمَجِيعُ، وَهُوَ تَمْرٌ يُعْجَنُ بِاللَّبَنِ، وَقِيلَ: مَا صُنِعَ وَعُولِجَ مِنَ الطَّعَامِ بِحُلْوٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفَاكِهَةِ، وَنُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ مَقْصُورٌ يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ مَمْدُودٌ يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، فَقَالَ: هِيَ بِالْقَصْرِ، فَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْحَلْوَاءُ الْعَسَلُ مِنْ جُمْلَةِ الطَّيِّبَاتِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَدَخَلَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّ مَا شَابَهَ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَآكِلِ اللَّذِيذَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ حُبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا عَلَى مَعْنَى كَثْرَةِ التَّشَهِّي، وَشِدَّةِ نَزْعِ النَّفْسِ لِأَجْلِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنَالُ مِنْهُمَا إِذَا حَضَرَا نَيْلًا صَالِحًا، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُعْجِبُهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى السُّكَّرَ، وَخَبَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ مَلَاكَ أَنْصَارِيٍّ، فَجَاءَتِ الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الْأَطْبَاقُ عَلَيْهَا اللَّوْزُ وَالسُّكَّرُ، فَأَمْسَكُوا أَيْدِيَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَنْتَهِبُونَ، قَالُوا: إِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ النُّهْبَةِ، قَالَ: أَمَّا الْعِرْسَانُ فَلَا، قَالَ مُعَاذٌ: فَرَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاذِبُهُمْ وَيُجَاذِبُونَهُ غَيْرَ ثَابِتٍ، كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: قَالَ: وَلَا يَثْبُتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى شَيْءٌ، وَشَنَّعَ عَلَى احْتِجَاجِ الطَّحَاوِيِّ بِهِ لِمَذْهَبِهِ أَنَّ النِّثَارَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، قُلْتُ: لَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ لَمَا احْتَجَّ بِهِ لِمَذْهَبِهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي رِيَاضِهِ، أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَبَصَ فِي الْإِسْلَامِ عُثْمَانُ، قَدِمَتْ عَلَيْهِ عِيرٌ تَحْمِلُ دَقِيقًا وَعَسَلًا فَخَلَطَهُمَا، وَصَحَّ أَنَّ عِيرًا قَدِمَتْ فِيهَا جَمَلٌ لَهُ عَلَيْهِ دَقِيقٌ حُوَّارَى، وَعَسَلٌ وَسَمْنٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ دَعَا بِبُرْمَةٍ فَنُصِبَتْ عَلَى النَّارِ، وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الْعَسَلِ وَالدَّقِيقِ وَالسَّمْنِ، ثُمَّ عُصِدَ حَتَّى نَضِجَ، ثُمَّ أُنْزِلَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا هَذَا شَيْءٌ تُسَمِّيهِ فَارِسٌ الْخَبِيصَ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا الزَّعْفَرَانِيَّةُ، (أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) بِجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ (أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ) اسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ (أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَرَّبَتْ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ قَدَّمَتْ (

إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنْبًا مَشْوِيًّا) قَالَ شَارِحٌ: مِنْ شَاةٍ وَرَدَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِهَذَا التَّقْيِيدِ (فَأَكَلَ مِنْهُ) قِيلَ: الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ هَذَا عَقِبَ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ، أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَةِ، وَأَنْفَعُهَا لِلْبَدَنِ وَالْكَبِدِ وَالْأَعْضَاءِ، وَلَا يَنْفِرُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ بِهِ عِلَّةٌ، أَوْ آفَةٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، اللَّحْمُ سَيِّدُ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، سَيِّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا اللَّحْمُ، ثُمَّ الْأُرْزُ، وَمِنْهَا عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ عَنْ أَبِي سَمْعَانَ، سَمِعْتُ عُلَمَاءَنَا يَقُولُونَ: كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّحْمَ، وَهُوَ يَزِيدُ فِي السَّمْعِ، وَهُوَ سَيِّدُ الطَّعَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَكْلُهُ يُزِيدُ سَبْعِينَ قُوَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَكْلُهُ يُزِيدُ فِي الْعَقْلِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُحَسِّنُ الْخُلُقَ، وَمَنْ تَرَكَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا سَاءَ خُلُقُهُ، ذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ (ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَمَا تَوَضَّأَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِحَدِيثِ تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، وَيُوَافِقُهُ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ وَإِنْ كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: أَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِوَاءً) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَمْدُودًا أَيْ مَشْوِيًّا، يَعْنِي مَعَ الْخُبْزِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَفِي الْقَامُوسِ شَوَى اللَّحْمَ شَيًّا فَاشْتَوَى وَانْشَوَى، وَهُوَ الشِّوَاءُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ، وَكَغِنَى فَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ لَحْمًا ذَا شِوًى، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّ الشِّوَاءَ لَيْسَ مَصْدَرًا بَلِ اسْمٌ لِلَّحْمِ الْمَشْوِيِّ بِالنَّارِ (فِي الْمَسْجِدِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى، وَمَحَلُّهُ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَا يُقَذِّرُ الْمَسْجِدَ، وَإِلَّا فَيُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ أَكْلِهِمْ عَلَى زَمَنِ الِاعْتِكَافِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ خِلَافُ الْأَوْلَى مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَلَمْ نَزِدْ عَلَى أَنْ مَسَحْنَا أَيْدِينَا بِالْحَصْبَاءِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (وَكِيعٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (عَنْ أَبِي صَخْرَةَ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: ضِفْتُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ) قِيلَ: مَعْنَاهُ صِرْتُ ضَيْفًا لِرَجُلٍ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ أَيْ كُنْتُ لَيْلَةً ضَيْفَهُ، وَزَيَّفَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: مَعَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ نَزَلْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجْلٍ ضَيْفَيْنِ لَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: ضَافَ الْقَوْمَ وَتَضَيَّفَهُمْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ ضَيْفًا، وَأَضَافُوهُ وَضَيَّفُوهُ أَنْزَلُوهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ

بِلَفْظِ ضِفْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ صَارَ ضَيْفًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ضِفْتُ الرَّجُلَ إِذَا نَزَلْتُ بِهِ فِي ضِيَافَتِهِ وَأَضَفْتُهُ إِذَا أَنْزَلْتُهُ وَتَضَيَّفْتُهُ إِذَا أَنْزَلْتُ بِهِ، وَتَضَيَّفَنِي إِذَا أَنْزَلَنِي، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: ضِفْتُهُ أَضِيفُهُ ضَيْفًا، نَزَلْتُ عَلَيْهِ ضَيْفًا كَتَضَيَّفْتُهُ، وَفِي الصِّحَاحِ أَضَفْتَ الرَّجُلَ وَضَيَّفْتَهُ إِذَا أَنْزَلْتَهُ لَكَ ضَيْفًا وَقَرَّبْتَهُ، وَضِفْتُ الرَّجُلَ ضِيَافَةً، إِذَا نَزَلْتَ عَلَيْهِ ضَيْفًا، وَكَذَا تَضَيَّفْتُهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ مَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مُقْحَمَةٌ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الشَّارِحِ زَيْنِ الْعَرَبِ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ لِمَعَ عِنْدَ الْإِضَافَةِ ثَلَاثَ مَعَانٍ، الْأَوَّلُ مَوْضِعُ الِاجْتِمَاعِ، الثَّانِي زَمَانُهُ، الثَّالِثُ مُرَادِفُهُ عِنْدَ هَذَا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الضِّيَافَةُ فِي بَيْتِ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنَةِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَا أَفَادَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ جَعَلْتُهُ ضَيْفًا لِي حَالَ كَوْنِي مَعَهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَعْنَى ضِفْتُ لُغَةً (فَأُتِيَ بِجَنْبٍ مَشْوِيٍّ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَأَمَرَ بِجَنْبٍ مَشْوِيٍّ (ثُمَّ أَخَذَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشَّفْرَةَ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَهِيَ السِّكِّينُ الْعَرِيضُ الَّذِي امْتُهِنَ بِالْعَمَلِ، وَيُسَمَّى الْخَادِمُ شَفْرَةً ; لِأَنَّهُ يُمْتَهَنُ فِي الْأَعْمَالِ كَمَا تُمْتَهَنُ هَذِهِ فِي قَطْعِ اللَّحْمِ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ (فَحَزَّ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ فَقَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِي) أَيْ لِأَجْلِي وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحَزَّ (بِهَا) أَيْ بِالشَّفْرَةِ وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَمَا فِي كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، فَيَكُونُ الْجَارُّ مُتَعَلِّقًا بِحَزَّ أَيْضًا (مِنْهُ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْجَنْبِ الْمَشْوِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَجَعَلَ أَيْ طَفِقَ وَشَرَعَ يَحُزُّ لِي، وَفِي نُسْخَةٍ فَجَعَلَ يَحُزُّ، فَحَزَّ لِي، وَأُخْرَى فَجَعَلَ يَحُزُّ لِي بِهَا مِنْهُ، وَالْحَزُّ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْحُزَّةُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَزَّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ، فَإِنَّهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ، وَانْهَشُوهُ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ، وَقَالَا: لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِزَازُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخًا لِنَهْيِهِ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ، وَأَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ تَنْبِيهًا، عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: مَعْنَى كَوْنِهِ مِنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ أَيْ مِنْ دَأْبِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ: كُلُّ فَاعِلٍ لَا يُسَمَّى صَانِعًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِيهِ وَيَتَدَرَّبَ يَعْنِي لَا تَجْعَلُوا الْقَطْعَ بِالسِّكِّينِ دَأْبَكُمْ وَعَادَتَكُمْ كَالْأَعَاجِمِ، بَلْ إِذَا كَانَ نَضِيجًا فَانْهَشُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَضِيجًا فَحُزُّوهُ بِالسِّكِّينِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ فِي لَحْمٍ قَدْ تَكَامَلَ نُضْجُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَطْيَبُ ; وَلِذَا عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ، وَالْهَنِيُّ اللَّذِيذُ الْمُوَافِقُ لِلْغَرَضِ، وَالْمَرِيءُ مِنَ الِاسْتِمْرَاءِ هُوَ ذَهَابُ ثِقَلِ الطَّعَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ انْهَشُوا اللَّحْمَ نَهْشًا، فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ هَذَا ضَعِيفٌ، لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ فَهُوَ حَسَنٌ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ النَّهْشَ أَوْلَى، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا مَرَّ، أَوْ عَلَى الصَّغِيرِ وَالِاحْتِزَازُ عَلَى الْكَبِيرِ ; لِشِدَّةِ لَحْمِهِ، هَذَا وَإِنَّمَا حَزَّ لِلْمُغِيرَةِ تَوَاضُعًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارًا لِمَحَبَّتِهِ لَهُ، لِيَتَأَلَّفَهُ لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ، وَحَمْلًا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَتُهُ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ صُدُورِ مِثْلِ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ بَلْ لِأَصَاغِرِهِمْ (قَالَ) أَيِ الْمُغِيرَةُ (فَجَاءَ بِلَالٌ) وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ يُعَذَّبُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَعْتَقَهُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي، شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا بَعْدَهَا وَمَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْ غَيْرٍ عَقِبٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ (يُؤْذِنُهُ) بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَيُبْدَلُ وَاوًا مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَقَدْ يُبَدَّلُ وَتَشْدِيدُ الذَّالِ مِنَ التَّأْذِينِ بِمَعْنَاهُ، لَكِنْ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْمُشَدَّدَ مُخْتَصٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِإِعْلَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (بِالصَّلَاةِ) يُفِيدُ التَّجْرِيدَ،

وَيُقَوِّي الرِّوَايَةَ الْأُولَى (فَأَلْقَى) أَيْ رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشَّفْرَةَ فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِبِلَالٍ (تَرِبَتْ يَدَاهُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لَصِقَتَا بِالتُّرَابِ، مِنْ شِدَّةِ الِافْتِقَارِ دَعَاءٌ بِالْعَدَمِ وَالْفَقْرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الزَّجْرُ، لَا وُقُوعَ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ إِيذَانَهُ بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْعَشَاءِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَّسِعٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَالِ الضَّيْفِ، وَقِيلَ: قِيَامُهُ كَانَ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ، وَمَعْنَى تَرِبَتْ يَدَاهُ، لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَحْلَاهُ (قَالَ) أَيْ لِلْمُغِيرَةِ (وَكَانَ شَارِبُهُ) أَيْ شَارِبُ الْمُغِيرَةِ (قَدْ وَفَى) أَيْ طَالَ، وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ شَارِبُهُ وَفَاءً (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَهُ) أَيْ لِلْمُغِيرَةِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَشَارِبِي وَفَاءً أَيْ تَمَامًا، فَقَالَ لِي فَوَضَعَ مَكَانَ الضَّمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْغَائِبَ، إِمَّا تَجْرِيدًا أَوِ الْتِفَاتًا (أَقُصُّهُ) بِتَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ أَوْ لِمُجَرَّدِ إِخْبَارٍ (لَكَ) أَيْ لِنَفْعِكَ أَوْ لِأَجْلِ قُرْبِكَ مِنِّي (عَلَى سِوَاكٍ) أَيْ يُوضَعُ السِّوَاكُ تَحْتَ الشَّارِبِ، ثُمَّ قَصَّهُ مَا فَضَلَ عَنِ السِّوَاكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَصُّ بِالشَّفْرَةِ أَوْ بِالْمِقْرَاضِ (أَوْ قُصُّهُ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالصَّادِ وَتُفْتَحُ أَيْ أَنْتَ (عَلَى سِوَاكٍ) وَالشَّكُّ مِنَ الْمُغِيرَةِ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْقَافِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَالَ، أَيْ قَالَ كَانَ شَارِبُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَقَصَّهُ كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى فَقَالَ، أَيْ فَقَالَ أَقُصُّهُ أَوْ قُصَّهُ عَلَى سِوَاكٍ، ثُمَّ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ قَالَ، وَكَانَ شَارِبُهُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يُلَائِمُ وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيذَانِ، وَرَمْيِ الشَّفْرَةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا يُزَيِّفُ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي شَارِبِهِ لِبِلَالٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُ بِلَالٍ قَبْلَ الْإِيذَانِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي شَارِبِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَقُصُّهُ لَكَ أَيْ لِأَجَلِكَ تَتَبَرَّكُ بِهِ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأَوَّلِ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا طَوِيلَ الشَّارِبِ، فَدَعَا بِسِوَاكٍ وَشَفْرَةٍ، فَوَضَعَ السِّوَاكَ تَحْتَ شَارِبِهِ، ثُمَّ حَزَّهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: " كَانَ شَارِبِي وَفَى فَقَصَّهُ لِي عَلَى سِوَاكٍ "، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَعْيِينُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، أَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نَقَلَ كَلَامَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَعْنَى، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الِالْتِفَاتِ، تَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ يُوَافِقُهُ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْمَعْنَى وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَبْنِيُّ هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي إِحْفَائِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يُظْهِرُ بِهِ حُمْرَةَ الشَّفَةِ، وَطَرَفَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ فِي الْأَحَادِيثِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَفْضَلُ حَلْقُ الشَّارِبِ أَوْ قَصُّهُ، قِيلَ: الْأَفْضَلُ حَلْقُهُ لِحَدِيثٍ فِيهِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ الْقَصُّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، بَلْ رَأْيُ مَالِكٍ تَأْدِيبُ الْحَالِقِ، وَمَا مَرَّ عَنِ النَّوَوِيِّ قِيلَ: يُخَالِفُهُ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ أَنَّهُمَا كَانَا يَحْفِيَانِهِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، الْإِحْفَاءُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يُحْفِيهِ شَدِيدًا، وَرَأَى الْغَزَّالِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ السِّبَالَيْنِ، اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَغَيْرِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتُرُ الْفَمَ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ غَمْرُ الطَّعَامِ، إِذْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَكَرِهَ الزَّرْكَشِيُّ إِبْقَاءَهُ لِخَبَرِ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَجُوسُ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ،

وَيَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ، فَخَالِفُوهُمْ، وَكَانَ يَحُزُّ سِبَالَهُ كَمَا يَحُزُّ الشَّاةَ وَالْبَعِيرَ، وَفِي خَبَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، قُصُّوا سِبَالَكُمْ، وَوَفِّرُوا لِحَاكُمْ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِّرُوا اللِّحَى وَخُذُوا مِنَ الشَّوَارِبِ، وَانْتِفُوا الْإِبِطَ، وَقُصُّوا الْأَظَافِيرَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَقُصُّوا سِبَالَكُمْ، وَالْعُثْنُونُ اللِّحْيَةُ، وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ أَيْ شَعْرُ عَانَتِهِ حَلَقَهُ، وَصَحَّ لَكِنْ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا طَلَا بَدَأَ بِعَانَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنَّوْرَةِ، وَسَائِرِ جَسَدِهِ، وَخَبَرُ أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ زَعَمَ الدَّمِيرِيُّ وَغَيْرُهُ وُرُودَهُ، وَفِي مُرْسَلٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّمُ أَظَافِرَهُ، وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَرَوَى النَّوَوِيُّ كَالْعَبَّادِيِّ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْغِنَى عَلَى كُرْهٍ، فَلْيُقَلِّمْ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ "، وَفِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ: " يَا عَلِيٌّ: قَصُّ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْغُسْلُ وَالطِّيبُ وَاللِّبَاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قِيلَ: وَلَمْ يَثْبُتْ فِي قَصِّ الظُّفُرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَدِيثٌ، بَلْ كَيْفَ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَلَا فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لَهُ شَيْءٌ، وَمَا يُعْزَى مِنَ النَّظْمِ فِي ذَلِكَ لِعَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ بَاطِلٌ. (حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ) بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ (التَّيْمِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ التَّمِيمِيِّ بِمِيمَيْنِ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ عَابِدٌ مِنَ السَّادِسَةِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: إِمَامٌ ثَبْتٌ (عَنْ أَبِي زُرْعَةَ) بِضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، فَقِيلَ: هِرَمٌ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: جَرِيرٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ) أَيْ جِيءَ بِبَعْضِ اللَّحْمِ (فَرَفَعَ إِلَيْهِ) أَيْ مِنْ جُمْلَتِهِ (الذِّرَاعَ) أَيِ السَّاعِدَ قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْعُرْفِ وَاللُّغَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، كَمَا فِي الْمُغْرِبِ لِمُطَابَقَتِهِ لِلْعُرْفِ، أَنَّهُ إِطْلَاقُ الْكُلِّ وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ، (وَكَانَتْ) أَيِ الذِّرَاعُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الذِّرَاعُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَجَزَمَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْمُغْرِبِ بِكَوْنِهِ مُؤَنَّثًا (تُعْجِبُهُ) مِنَ الْإِعْجَابِ، قِيلَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ تَعَجِبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُرْعَةِ نُضْجِهَا مَعَ زِيَادَةِ لِينِهَا، وَبُعْدِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْأَذَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِإِفَادَةِ زِيَادَةِ قُوَى الْقَوِيِّ بِهَا (فَنَهَسَ) بِالْمُهْمَلَةِ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الذِّرَاعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُعْجَمَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ النَّهْسُ أَخْذُ اللَّحْمِ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَالنَّهْشُ بِجَمِيعِهَا، وَقِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ أَخْذُ مَا عَلَى الْعَظْمِ مِنَ اللَّحْمِ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَقِيلَ: بِالْمُعْجَمَةِ هَذَا وَبِالْمُهْمَلَةِ تَنَاوَلُهُ بِمُقَدَّمِ الْفَمِ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ تَوَاضُعًا، وَإِلَّا فَالْقَطْعُ بِالسِّكِّينِ مُبَاحٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي وَقَعَ فِي الْمِشْكَاةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا، وَقَالَ مِيرَكُ: وَإِنَّمَا فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ; وَلِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ تَرْكِ التَّكَبُّرِ وَالتَّكَلُّفِ، وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، انْتَهَى. فَمَا ثَبَتَ عَنْهُ الْقَطْعُ بِالسِّكِّينِ، يُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى قَطْعِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ زُهَيْرٍ)

بِالتَّصْغِيرِ (يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعْدِ) وَفِي نُسْخَةٍ سَعِيدِ (بْنِ عِيَاضٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ) بِالتَّذْكِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالتَّأْنِيثِ (الذِّرَاعُ قَالَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (وَسُمَّ فِي الذِّرَاعِ) إِنْ كَانَ مِنَ السُّمِّ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ السُّمِّ، كَانَ الْأَمْرُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ ضَمِيرًا رَاجِعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أُعْطِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّمَّ فِي الذِّرَاعِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّمِّ بِمَعْنَى جَعْلِ السُّمِّ فِي الطَّعَامِ، فَذَلِكَ الْأَمْرُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ هُوَ فِي الذِّرَاعِ، كَذَا حَقَّقَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جُعِلَ فِيهِ سُمٌّ قَاتِلٌ لِوَقْتِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُقْمَةً ثُمَّ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّهُ مَسْمُومٌ، فَتَرَكَهُ. وَلَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ السُّمُّ يَعْنِي حِينَئِذٍ، وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ كُلَّ عَامٍ، حَتَّى مَاتَ بِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزِيَادَةِ حُصُولِ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ السُّمُّ مُثَلَّثُ السِّينِ، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَفْصَحُهَا الْكَسْرُ (وَكَانَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (يُرَى) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يَظُنُّ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ (أَنَّ الْيَهُودَ سَمُّوهُ) أَيْ أَعْطُوا الرَّسُولَ السُّمَّ، فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ الضَّمِيرُ لِلذِّرَاعِ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، ثُمَّ إِنَّمَا سَمَّتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ لِرِضَاهُمْ بِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي سَمَّتْهُ لَمْ تَسُمَّهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ شَاوَرَتْ يَهُودَ خَيْبَرَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارُوا عَلَيْهَا بِهِ، وَاخْتَارُوا لَهَا ذَلِكَ السُّمَّ الْقَاتِلَ، وَقَدْ دَعَاهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهَا: مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَتْ: قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّهُ السُّمُّ، وَإِلَّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَعَفَا عَنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِحَقِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَكَلُوا مَعَهُ مِنْهَا، وَهُوَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ قَتَلَهَا فِيهِ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي ذَلِكَ، كَخَبَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ دَعَا الْيَهُودَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَبِيهِمْ، فَقَالُوا: فُلَانٌ، فَقَالَ: كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ فَصَدَّقُوهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ: اخْسَئُوا فِيهَا فَوَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا، قَالَ لَهُمْ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَذَكَرُوا نَحْوَ مَا مَرَّ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَكَخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ يَهُودِيَّةً سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً، ثُمَّ أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ مَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: سَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ، قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ، قَالَ: هَذِهِ يَعْنِي الذِّرَاعَ، قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّهُ السُّمُّ، وَإِلَّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَعَفَا عَنْهَا، وَلَمْ يُعَاقِبْهَا، وَتُوَفِّي أَصْحَابُهُ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَاحْتَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْلَى كَاهِلِهِ، مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ، وَكَخَبَرِ الدِّمْيَاطِيِّ جَعَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ تَسْأَلُ أَيُّ الشَّاةِ أَحَبُّ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُونَ: الذِّرَاعُ، فَعَمَدَتْ إِلَى عَنْزٍ لَهَا فَذَبَحَتْهَا، وَصَلَتْهَا ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى سُمٍّ يَقْتُلُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَقَدْ شَاوَرَتْ يَهُودَ فِي سُمُومٍ، فَاجْتَمَعُوا لَهَا عَلَى ذَلِكَ، فَسَمَّتِ الشَّاةَ وَأَكْثَرَتْ فِي الذِّرَاعَيْنِ وَالْكَتِفِ، فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، وَتَنَاوَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّرَاعَ فَانْتَهَسَ مِنْهَا، وَتَنَاوَلَ بِشْرٌ عَظْمًا آخَرَ، فَلَمَّا ازْدَرَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُقْمَتَهُ، ازْدَرَدَ بِشْرٌ مَا فِي فِيهِ، وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الذِّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، وَفِيهِ أَنَّ بِشْرًا مَاتَ، وَأَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْهَا، وَأَجَابَ السُّهَيْلِيُّ بِمَا مَرَّ أَنَّهُ تَرَكَهَا أَوَّلًا ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا مَاتَ بِشْرٌ قَتَلَهَا فِيهِ، وَأَبْدَاهُ الْبَيْهَقِيُّ احْتِمَالًا،

وَعِنْدَ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ، فَتَرَكَهَا وَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ ; لِأَنَّهُ لَمَّا تَرَكَهَا لِإِسْلَامِهَا وَلِكَوْنِهِ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، مَاتَ بِشْرٌ فَلَزِمَهَا الْقِصَاصُ بِشَرْطِهِ، فَدَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا قِصَاصًا، أَقُولُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمَّا أَسْلَمَتْ تَرَكُوا الْقِصَاصَ، ثُمَّ إِسْلَامُهَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي مَغَازِيهِ، وَأَنَّهَا اسْتَدَلَّتْ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ السُّمِّ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ جِبْرِيلَ وَالشَّاةَ مَا أَخْبَرَاهُ قَبْلَ تَنَاوُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، لِتَظْهَرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ، وَلِيَكُونَ سَبَبًا لِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ، وَحُجَّةً عَلَى مَنْ عَانَدَ فِي كُفْرِهِ وَتَصَمَّمَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ (بْنُ زَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ بِلَا تَاءٍ، وَهُوَ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَلَهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (قَالَ: طَبَخْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِدْرًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ شَاةً أَوْ لَحْمًا فِي قِدْرٍ، فَذَكَرَ الْقِدْرَ، وَأَرَادَ مَا فِيهِ مَجَازًا، بِذِكْرِ الْمَحَلِّ، وَإِرَادَةِ الْحَالِّ، ثُمَّ مَا قَدَّرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ طَعَامًا فِي قِدْرٍ، (وَكَانَ يُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ فَنَاوَلْتُهُ) أَيْ أَعْطَيْتُهُ (الذِّرَاعَ) ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا نَاوَلَهُ بِلَا طَلَبٍ ; لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يُعْجِبُهُ (ثُمَّ قَالَ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ فَنَاوَلْتُهُ) أَيِ الذِّرَاعَ فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُنَا مَحْذُوفٌ (ثُمَّ قَالَ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ) الْوَاوُ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ نَاوَلْتُكَ الذِّرَاعَيْنِ، وَكَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ، حَتَّى أُنَاوِلَكَ ثَالِثًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ أَوْ تَعَجُّبٌ لَا إِنْكَارٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ (فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَيْ بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا، وَفِيهَا الْمَذْهَبَانِ الْمَشْهُورَانِ: التَّأْوِيلُ إِجْمَالًا، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَتَفْوِيضُ التَّفْصِيلِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَالتَّأْوِيلُ تَفْصِيلًا، وَهُوَ مُخْتَارُ أَكْثَرِ الْخَلَفِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ السَّلَفُ عَدَمَ التَّفْصِيلِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُضْطَرُّوا إِلَيْهِ لِقِلَّةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ فِي زَمَانِهِمْ وَآثَرَ الْخَلَفُ التَّفْصِيلَ ; لِكَثْرَةِ أُولَئِكَ فِي زَمَانِهِمْ، وَعَدَمِ إِقْنَاعِهِمْ بِالتَّنْزِيهِ الْمُجَرَّدِ ; وَلِذَا زَلَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَدَمُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ (لَوْ سَكَتَّ) أَيْ عَمَّا قُلْتَ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ، وَامْتَثَلْتَ أَمْرِي فِي مُنَاوَلَةِ الْمُزَادِ (لَنَاوَلْتَنِي الذِّرَاعَ) أَيْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ (مَا دَعَوْتُ) أَيْ مُدَّةَ مَا طَلَبْتُ الذِّرَاعَ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ يَخْلُقُ فِيهَا ذِرَاعًا بَعْدَ ذِرَاعٍ مُعْجِزَةً وَكَرَامَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَفٌ وَكَرَمٌ. قِيلَ: وَإِنَّمَا مَنَعَ كَلَامُهُ تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ ; لِأَنَّهُ شَغَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى رَبِّهِ، بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ خَارِقَ الْعَادَةِ، يَكُونُ فِي حَالَةِ الْفَنَاءِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَعَدَمِ الشُّعُورِ عَنِ السَّوَاءِ، حَتَّى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَعْرِفُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَكَيْفَ فِي حَالِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ، أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لَا يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. هَذَا وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ أُهْدِيَتْ لَهُ شَاةٌ فَجَعَلَهَا فِي قِدْرٍ، فَدَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: شَاةٌ أُهْدِيَتْ لَنَا، قَالَ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ فَنَاوَلْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ الْآخَرَ فَنَاوَلْتُهُ، فَقَالَ: نَاوِلَنِي الذِّرَاعَ

الْآخَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا لِلشَّاةِ ذِرَاعَانِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَكَتَّ لَنَاوَلْتَنِي ذِرَاعًا فَذِرَاعًا مَا سَكَتُّ، الْحَدِيثَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ) بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ (عَنْ فُلَيْحِ) بِضَمِّ فَاءٍ وَفَتْحِ لَامٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ (بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبَّادٍ) قَبِيلَةٌ (يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا كَانَتِ) وَفِي نُسْخَةٍ مَا كَانَ (الذِّرَاعُ أَحَبَّ اللَّحْمِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِأَحَبِّ اللَّحْمِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَطْيَبَ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ (وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يَجِدُ اللَّحْمَ إِلَّا غِبًّا) بِكَسْرِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، لَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنْ يُؤْتَى بِاللَّحْمِ. (وَكَانَ يَعْجَلُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ يُسْرِعُ (إِلَيْهَا) أَيْ إِلَى الذِّرَاعِ (لِأَنَّهَا أَعْجَلُهَا) أَيْ أَسْرَعُ اللُّحُومِ (نُضْجًا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ طَبْخًا، وَضَمِيرُ أَعْجَلُهَا إِلَى اللُّحُومِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجِدُ اللَّحْمَ ; لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِاللَّامِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَجَعَلَهُ لِلَّحْمِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَأْنِيثَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قِطْعَةٌ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، وَلَعَلَّ تَعْجِيلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الذِّرَاعِ فَرَاغُهُ مِنْ أَمْرِ الْأَكْلِ، وَتَوَجُّهُهُ إِلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّرَاعَ لِنُضْجِهَا وَسُرْعَةِ اسْتِمْرَائِهَا مَعَ زِيَادَةِ لَذَّتِهَا وَحَلَاوَةِ مَذَاقِهَا، وَبُعْدِهَا عَنْ مَوَاضِعِ الْأَذَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا بِحَسَبِ مَا فَهِمَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَإِلَّا فَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ وَغَيْرُهَا أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهُ مَحَبَّةً غَرِيزِيَّةً طَبِيعِيَّةً، سَوَاءٌ فَقَدَ اللَّحْمَ أَمْ لَا، وَكَأَنَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ تَنْزِيهَ مَقَامِهِ الشَّرِيفِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَيْلٌ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَلَاذِّ، وَإِنَّمَا سَبَبُ الْمَحَبَّةِ سُرْعَةُ نُضْجِهَا، فَيَقِلُّ الزَّمَنُ فِي الْأَكْلِ، وَيَتَفَرَّغُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَا مَحْذُورَ فِي مَحَبَّةِ الْمَلَاذِّ بِالطَّبْعِ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ كَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ الْمُنَافِي لِلْكَمَالِ الْتِفَاتُ النَّفْسِ وَعَنَاؤُهَا فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ، وَتَأَثُّرُهَا لِفَقْدِهِ. وَمِمَّا كَانَ يُحِبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَيْضًا الرَّقَبَةُ، عَلَى مَا وَرَدَ عَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهَا ذَبَحَتْ شَاةً فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ، فَقَالَتْ: مَا بَقِيَ عِنْدَنَا إِلَّا الرَّقَبَةُ، وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ أُرْسِلَ بِهَا، فَقَالَ لِلرَّسُولِ ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَرْسِلِي بِهَا فَإِنَّهَا هَادِيَةُ الشَّاةِ، وَأَقْرَبُ الشَّاةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الْأَذَى. فَهِيَ كَلَحْمِ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ، أَخَفُّ عَلَى الْمَعِدَةِ، وَأَسْرَعُ هَضْمًا، وَمِنْ ثَمَّةَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثَرَ مِنَ الْغِذَاءِ مَا كَثُرَ نَفْعُهُ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْقُوَى، وَخَفَّ عَلَى الْمَعِدَةِ، وَكَانَ أَسْرَعَ انْحِدَارًا عَنْهَا وَهَضْمًا ; لِأَنَّ مَا جَمَعَ ذَلِكَ أَفْضَلَ الْغِذَاءِ. وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ الْكُلْيَتَيْنِ، لِمَكَانِهِمَا مِنَ الْبَوْلِ، قُلْتُ: رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي الطِّبِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ مِنَ الشَّاةِ سَبْعًا: الْمَرَارَةَ، وَالْمَثَانَةَ، وَالْحَيَاءَ، وَالذَّكَرَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالْغُدَّةَ، وَالدَّمَ، وَكَانَ أَحَبَّ الشَّاةِ إِلَيْهِ مُقَدَّمُهَا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا، وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ الضَّبَّ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ عَائِشَةَ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا مِنْ فَهْمٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ قَبِيلَةٌ، وَاسْمُ هَذَا الشَّيْخِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ الْفَهْمِيُّ، وَيُقَالُ: اسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي فِي الْإِسْنَادِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ فَهْمٍ غَيْرِ مُسَمًّى (يَقُولُ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، قَالَ بِلَفْظِ الْمَاضِي (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَطْيَبَ اللَّحْمِ) أَيْ: أَلَذَّهُ وَأَلْطَفَهُ، فَأَطْيَبُ بِمَعْنَى أَحْسَنَ (لَحْمُ الظَّهْرِ) أَوْ مَعْنَاهُ أَطْهَرُ ; لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ مِنَ الْأَذَى ; وَلَعَلَّ فِيهِ تَقْوِيَةً لِلظَّهْرِ أَيْضًا وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، أَنَّ أَطْيَبِيَّتَهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا تَنَاوَلَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ ; لِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يَذُقْ لَمْ يَعْرِفْ، وَيُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ قِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ، وَيُقَالُ: اسْمُ أَبِي مُلَيْكَةَ: زُهَيْرٌ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ) كَانَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرُ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مُتَّصِلًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ. (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةٌ (مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ) بِتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَاسْمُهُ شُعْبَةُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ سَالِمٌ، أَوْ رُؤْبَةُ أَوْ مُسْلِمٌ، أَوْ خِدَاشٌ أَوْ مُطَرَّفٌ، أَوْ حَمَّادٌ أَوْ خُبَيْبٌ،

عَشَرَةُ أَقْوَالٍ، وَهُوَ الْمُقْرِي صَاحِبُ عَاصِمٍ الْقَارِئِ الْمَشْهُورِ (عَنْ ثَابِتٍ أَبِي حَمْزَةَ) وَفِي نُسْخَةٍ: ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ (الثُّمَالِيِّ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ، وَخِفَّةِ الْمِيمِ مَنْسُوبٌ إِلَى ثُمَالَةَ، وَهُوَ لَقَبُ عَوْفِ بْنِ أَسْلَمَ أَحَدُ أَجْدَادِ أَبِي حَمْزَةَ، وَلُقِّبَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ بِثُمَالَتِهِ أَيْ بِرَغْوَتِهِ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ وَعِدَّةٍ وَعَنْهُ وَكِيعٌ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَخَلْقٌ ضَعَّفُوهُ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ أُمِّ هَانِئٍ) بِهَمْزٍ فِي آخِرِهِ، قَالَ مِيرَكُ: هِيَ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْمُهَا فَاخِتَةُ، وَقِيلَ: هِنْدٌ، لَهَا صُحْبَةٌ وَأَحَادِيثُ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فِي بَيْتِي يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (فَقَالَ: أَعِنْدَكِ شَيْءٌ) أَيْ مِمَّا يُؤْكَلُ (فَقُلْتُ: لَا إِلَّا خُبْزٌ يَابِسٌ وَخَلٌّ) الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ وَالْمُسْتَثْنَى بَدَلٌ مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ فِي الصِّحَاحِ قَوْلُ عَائِشَةَ: «لَا إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ» ، قَالَ الْمَالِكِيُّ: فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى إِبْدَالِ مَا بَعْدَ إِلَّا مِنْ مَحْذُوفٍ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا شَيْءٌ عِنْدَنَا إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ عِنْدَنَا، فَلَيْسَتْ لَا الَّتِي لِنَفِي الْجِنْسِ مِمَّا بَعْدَ إِلَّا مُسْتَثْنًى اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا بِمَا قَبْلَهَا، الدَّالُّ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ انْتَهَى. وَبَعْدَهُ لَا يَخْفَى، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْهَا، وَالْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَفْظُهُمْ: «مَا أَقْفَرَ مِنْ أُدُمٍ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ» فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَيُحْمَلُ التَّغْيِيرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. قِيلَ: مِنْ حَقِّ أُمِّ هَانِئٍ أَنْ تُجِيبَ بِبَلَى عِنْدِي خُبْزٌ، فَلِمَ عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى تِلْكَ الْعِبَارَةِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا عَظَّمَتْ شَأْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَتْ أَنَّ الْخُبْزَ الْيَابِسَ وَالْخَلَّ لَا يَصْلُحَانِ أَنْ يُقَدَّمَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الضَّيْفِ، فَمَا عَدَّتْهُمَا بِشَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّةَ طَيَّبَ خَاطِرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَرَ حَالَهَا (فَقَالَ: هَاتِي) أَيْ أَعْطِي اسْمَ فِعْلٍ قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْضِرِي أَيْ مَا عِنْدَكِ، وَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ بِقَرِينَةِ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ (مَا أَقْفَرَ) أَيْ مَا خَلَا (بَيْتٌ مِنْ أُدُمٍ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِأَقْفَرَ (فِيهِ خَلٌّ) صِفَةُ بَيْتٍ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ حَالٌ، وَذُو الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَوْصُوفِيَّةِ، أَيْ بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ، كَذَا قَالَهُ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ، وَفِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ لِلسَّيِّدِ فِي بَحْثِ الْفَصَاحَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَأَنَّ مَجِيءَ الْحَالِ عَنِ النَّكِرَةِ الْعَامَّةِ بِالنَّفْيِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صِفَةٌ لِبَيْتٍ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ; لِأَنَّ أَقْفَرَ عَامِلٌ فِي بَيْتٍ وَصِفَتِهِ وَفِيمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ مَا خَلَا مِنَ الْإِدَامِ، وَلَا عُدِمَ أَهْلُهُ الْإِدَامَ، وَالْقَفَارُ الطَّعَامُ بِلَا إِدَامٍ، وَأَقْفَرَ الرَّجُلُ إِذَا أَكَلَ الْخُبْزَ وَحْدَهُ مِنَ الْقَفْرِ، وَالْقِفَارُ وَهِيَ الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَتَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ بِالْفَاءِ وَالْقَافِ، وَلَيْسَ بِرِوَايَةٍ وَدِرَايَةٍ، قُلْتُ: أَمَّا الدِّرَايَةُ فَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ مَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ، مَا احْتَاجَ وَلَا افْتَقَرَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ أَجْلِ إِدَامٍ، وَيَكُونُ فِي بَيْتِهِمْ خَلٌّ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَقَدْ وَجَدْنَا بِخَطِّ الشَّيْخِ نُورِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْأَيْجَبِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ، أَنَّهُ «أَفْقَرَ» نُسْخَةٌ. ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ لِلْخُبْزِ وَالْخَلِّ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِسُؤَالِ الطَّعَامِ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ السَّائِلُ مِنْهُ، لِصِدْقِ الْمَحَبَّةِ وَالْعِلْمِ بِمَوَدَّةِ الْمَسْئُولِ، لِذَلِكَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيِ

ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَارِقٍ الْبَجَلِيِّ (عَنْ مُرَّةَ) أَيِ ابْنِ شَرَاحِيلَ (الْهَمْدَانِيِّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ نِسْبَةً إِلَى الْقَبِيلَةِ (عَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ الْأَشْعَرِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ) أَيْ مُطْلَقًا أَوْ نِسَاءِ زَمَانِهَا أَوْ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كُنَّ فِي زَمَانِهَا (كَفَضْلِ الثَّرِيدِ) فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْخُبْزُ الْمَأْدُومُ بِالْمَرَقِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ اللَّحْمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَلَذُّ وَأَقْوَى، وَهُوَ الْأَغْلَبُ (عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) أَيْ بَاقِي الْأَطْعِمَةِ وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مِنْ جِنْسِهِ بِلَا ثَرِيدٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بِسَائِرِ الطَّعَامِ جَمِيعِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّرِيدُ مِنَ الْخُبْزِ، وَالثَّرِيدُ مِنَ الْحَيْسِ. وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: الْبَرَكَةُ فِي ثَلَاثَةٍ فِي الْجَمَاعَةِ وَالثَّرِيدِ وَالسَّحُورِ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: الثَّرِيدُ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَقِ، فَثَرِيدُ اللَّحْمِ أَفْضَلُ مِنْ مَرَقِهِ، وَثَرِيدُ مَا لَا لَحْمَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ مَرَقِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ فَضْلِ الثَّرِيدِ نَفْعُهُ، وَالشِّبَعُ مِنْهُ، وَسُهُولَةُ مَسَاغِهِ، وَالِالْتِذَاذُ بِهِ، وَيُسْرُ تَنَاوُلِهِ، وَتَمَكُّنُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَخْذِ كِفَايَتِهِ مِنْهُ بِسُرْعَةٍ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَقِ، وَمِنْ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّاتِ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمُ الثَّرِيدُ أَحَدُ اللَّحْمَيْنِ، وَفِي النِّهَايَةِ بَلِ اللَّذَّةُ وَالْقُوَّةُ إِذَا كَانَ اللَّحْمُ نَضِيجًا فِي الْمَرَقِ، أَكْثَرَ مِمَّا فِي نَفْسِ اللَّحْمِ، وَقَالَ الْأَطِبَّاءُ: هُوَ يُعِيدُ الشَّيْخَ إِلَى صِبَاهُ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفَضَائِلَ الَّتِي اجْتَمَعَتْ فِي عَائِشَةَ، مَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنْ كَوْنِهَا امْرَأَةَ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبَّ النِّسَاءِ إِلَيْهِ، وَأَعْلَمَهُنَّ وَأَنْسَبَهُنَّ وَأَحْسَبَهُنَّ، وَإِنْ كَانَتْ لِخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ وُجُوهٌ أُخَرُ مِنَ الْفَضَائِلِ الْبَهِيَّةِ، وَالشَّمَائِلِ الْعَلِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْهَيْئَةَ الْجَامِعِيَّةَ فِي الْفَضِيلَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالثَّرِيدِ، لَمْ تُوجَدْ فِي غَيْرِهَا ; وَلِهَذَا قِيلَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَفْضَلِيَّةِ عَائِشَةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّ فَضْلَ الثَّرِيدِ عَلَى بَاقِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ جِهَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَفْضَلِيَّةَ، مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ فَاطِمَةَ وَخَدِيجَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الثَّرِيدَ مَعَ اللَّحْمِ جَامِعٌ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَاللَّذَّةِ، وَسُهُولَةِ التَّنَاوُلِ، وَقِلَّةِ الْمُدَّةِ فِي الْمَضْغِ، فَضُرِبَ بِهِ مَثَلًا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهَا أُعْطِيَتْ مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَحَلَاوَةِ النُّطْقِ، وَفَصَاحَةِ اللَّهْجَةِ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ، وَرَزَانَةِ الرَّأْيِ، وَرَصَانَةِ الْعَقْلِ، التَّحَبُّبَ إِلَى الْبَعْلِ، فَهِيَ تَصْلُحُ لِلتَّبَعُّلِ وَالتَّحَدُّثِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِهَا، وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا وَحَسْبُكَ أَنَّهَا عَقَلَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَعْقِلْ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَرَوَتْ مَا لَمْ يَرْوِ مِثْلُهَا مِنَ الرِّجَالِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو طُوَالَةَ) بِضَمِّ الطَّاءِ كَانَ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ حَتَّى آسِيَةَ، وَأُمِّ مُوسَى، فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِنِ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ آسِيَةَ وَضَمَّ إِلَيْهَا مَرْيَمَ، وَمَا قَالَهُ فِيهِمَا مُحْتَمِلٌ لِحَدِيثِ: فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بَعْدَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَإِذَا فُضِّلَتْ فَاطِمَةُ، فَعَائِشَةُ أَوْلَى وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَأْوِيلِ النِّسَاءِ بِنِسَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِتَخْرُجَ مَرْيَمُ وَأُمُّ مُوسَى وَحَوَّاءُ وَآسِيَةُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي غَيْرِ مَرْيَمَ وَآسِيَةَ، نَعَمْ. تُسْتَثْنَى خَدِيجَةُ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ عَائِشَةَ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِتَصْرِيحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرْزَقْ خَيْرًا مِنْ خَدِيجَةَ، وَفَاطِمَةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، إِذْ لَا يَعْدِلُ بَضْعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ،

وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ بَقِيَّةَ أَوْلَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَاطِمَةَ، وَأَنَّ سَبَبَ الْأَفْضَلِيَّةِ مَا فِيهِنَّ مِنَ الْبَضْعَةِ الشَّرِيفَةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ حَكَى السُّبْكِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ عَصْرِهِ، أَنَّهُ فَضَّلَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، أَيْ مِنْ حَيْثُ الْبَضْعَةِ لَا مُطْلَقًا، فَهُمْ أَفْضَلُ مِنْهَا عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَأَكْثَرُ ثَوَابًا وَآثَارًا فِي الْإِسْلَامِ، قُلْتُ: إِذَا لُوحِظَتِ الْحَيْثِيَّةُ فَمَا يُوجَدُ أَفْضَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُطْلَقًا ; وَلِذَا قِيلَ: أَنَّ عَائِشَةَ أَفْضَلُ مِنْ فَاطِمَةَ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَكُونُ مَعَ زَوْجَيْهِمَا فِي الْجَنَّةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ مَنْزِلَتِهِمَا، هَذَا وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي إِتْمَامِ الدِّرَايَةِ شَرْحِ النُّقَايَةِ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» ، وَفِي الصَّحِيحِ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيَّ وَبَشَّرَنِي أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأُمَّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَمْعِ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، حَتَّى تَمُرَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِهَا عَلَى مَرْيَمَ خُصُوصًا، إِذَا قُلْنَا: بِالْأَصَحِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَبِيَّةً، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ، مَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَفَاطِمَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا فَاطِمَةُ» ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمُرْسَلُ يُفَسِّرُ الْمُتَّصِلَ، قُلْتُ: يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ خَدِيجَةُ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، بَعْدَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ رَكِبَتْ بَعِيرًا مَا فَضَّلْتُ عَلَيْهَا أَحَدًا» ، ثُمَّ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ وَآسِيَةُ وَخَدِيجَةُ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ. وَفِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا الْوَقْفُ، قُلْتُ: وَقَدْ صَحَّحَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ قَالَتْ: قَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَزَقَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، آمَنَتْ بِي حِينَ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَأَعْطَتْنِي مَالَهَا حِينَ حَرَمَنِي النَّاسُ. وَسُئِلَ ابْنُ دَاوُدَ، فَقَالَ: عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ مِنْ جِبْرِيلَ وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، فَقِيلَ: فَأَيٌّ أَفْضَلُ فَاطِمَةُ أَمْ أُمُّهَا؟ قَالَ: فَاطِمَةُ بَضْعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا نَعْدِلُ بِهَا أَحَدًا. وَسُئِلَ السُّبْكِيُّ، فَقَالَ: الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنُدِينُ اللَّهَ بِهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ، ثُمَّ أُمَّهَا خَدِيجَةَ، ثُمَّ عَائِشَةَ، وَعَنِ ابْنِ الْعِمَادِ، أَنَّ خَدِيجَةَ إِنَّمَا فُضِّلَتْ عَلَى فَاطِمَةَ بِاعْتِبَارِ الْأُمُومَةِ، لَا السِّيَادَةِ، انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَيْثِيَّاتِ مُخْتَلِفَةٌ، وَالرِّوَايَاتِ مُتَعَارِضَةٌ، وَالْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ، وَالتَّوَقُّفَ لَا ضَرَرَ فِيهِ قَطْعًا، فَالتَّسْلِيمَ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ) قِيلَ: اسْمُهُ ذَكْوَانُ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرَهُ (تَوَضَّأَ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثَةٌ، وَيُحَرَّكُ وَكَكَتِفٍ وَرَجُلٍ وَإِبِلٍ، شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْمَخِيضِ الْغَنَمِيِّ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ أَكْلِ قِطْعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْأَقِطِ، فَفِي الْقَامُوسِ الثَّوْرُ الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْأَقِطِ، فَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ بَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ (ثُمَّ رَآهُ أَكَلَ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) أَيِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ، وَهُوَ الْوُضُوءُ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ، قَدْ نُسِخَ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآخِرَةٍ مِنْ أَكْلِهِ كَتِفَ الشَّاةِ، وَعَدَمَ تَوَضُّئِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ثُمَّ الْمُقْتَضِيَةُ لِلتَّرَاخِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ: الثَّوْرُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ،

فَعَلَى هَذَا الْإِضَافَةُ فِي ثَوْرِ أَقِطٍ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، أَوِ الْبَيَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّوْرُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ: الْقِطْعَةُ، وَثَوْرُ أَقِطٍ: قِطْعَةٌ مِنْهُ، وَهُوَ لَبَنٌ جَامِدٌ مُسْتَحْجِرٌ بِالطَّبْخِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وَلَوْ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ، يُرِيدُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَتَوَضَّأُ مِنْ أَثْوَارِ أَقِطٍ أَكَلْتُهَا، انْتَهَى. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ تَوَضَّأَ احْتِيَاطًا أَوْ أَرَادَ غَسْلَ فَمِهِ، وَكِلَاهُمَا لَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، نَعَمْ خِلَافُ الْأَوْلَى لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ ارْتِكَابُهُ لِضَرُورَةٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّوَضُّؤَ أُرِيدَ بِهِ فِي مَقَامَيِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَوَّلًا: مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَتَنْظِيفُهُ، وَثَانِيًا: مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ حَتَّى يَنْدَفِعَ التَّدَافُعُ بَيْنَهُمَا، إِذَا تَقَرَّرَ، فَنَقُولُ: أَنَّ تَوَضُّأَهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ أَوَّلًا، وَعَدَمَهُ ثَانِيًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ، فَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّأْ» ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالتَّوَضُّؤِ هُنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، أَنَّ وَضُوأَهُ أَوَّلًا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَمْرِ، ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا، فَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ مُحْيِ السُّنَّةِ أَنَّ حَدِيثَ تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ مَنْسُوخٌ، بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ الْمَتْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْوُضُوءِ فِي مَوْضِعَيْهِ، مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ، وَيُتَصَوَّرُ أَرْبَعَ صُوَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْوُضُوءَ الْأَوَّلَ كَانَ بَعْدَ الْأَكْلِ أَوْ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ شَارِحٌ: قِيلَ: الْمُرَادُ غَسْلُ الْفَمِ وَالْكَفَّيْنِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَالْأَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ أَوَّلًا إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ نَظَافَةَ الْيَدِ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالْوَسَخِ، وَاسْتِحْبَابُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ، إِلَّا أَنْ لَا يَبْقَى عَلَى الْيَدِ أَثَرُ الطَّعَامِ، بِأَنْ كَانَ يَابِسًا أَوْ لَمْ يَمَسَّهُ بِهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدِ لِلطَّعَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْيَدِ قَذَرًا، وَيَبْقَى عَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ رَائِحَةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، فَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، مِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إِلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ بِأَكْلِهِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ، مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ بِجَوَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ بِأَسَانِيدِهِمُ الصَّحِيحَةِ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ غَسْلُ الْفَمِ وَالْكَفَّيْنِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْخِلَافَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ ثَوْرَ الْأَقِطِ، وَكَتِفَ الشَّاةِ بِطَرِيقِ الِائْتِدَامِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْإِدَامِ عَادَةً، فَاعْتُبِرَ الْعُرْفُ وَحُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فَذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) قِيلَ: اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا عُمَرَ كُنْيَةُ يَحْيَى (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ وَائِلِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِيهِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ) بِالْهَمْزِ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِتَمْرٍ وَسَوِيقٍ) أَيْ جَعَلَ طَعَامَ وَلِيمَتِهِ عَلَيْهَا مِنْ تَمْرٍ وَسَوِيقٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ، وَهُوَ الطَّعَامُ الْمُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَقَدْ يُجْعَلُ عِوَضَ الْأَقِطِ الدَّقِيقُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحَيْسُ الْخَلْطُ، وَتَمْرٌ يُخْلَطُ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَيُعْجَنُ شَدِيدًا ثُمَّ يُنْدَرُ مِنْهُ نَوَاهُ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِيهِ سَوِيقٌ، قِيلَ: الْوَلِيمَةُ اسْمٌ لِطَعَامِ الْعُرْسِ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلْمِ، وَهُوَ الْجَمْعُ وَزْنًا وَمَعْنًى ; لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ. وَنُقِلَ عَنِ الْكَشَّافِ أَنَّ اسْمَ الْوَلِيمَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ دَعْوَةٍ تُتَّخَذُ لِسُرُورٍ خَاصٍّ مِنْ نِكَاحٍ، وَخِتَانٍ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنِ اسْتُعْمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَيُقَيَّدُ فِي غَيْرِهِ، فَيُقَالُ وَلِيمَةُ الْخِتَانِ، وَنَحْوُ

ذَلِكَ، وَصَفِيَّةُ هَذِهِ بِنْتُ حُيَيِّ بِنِ أَخْطَبَ الْيَهُودِيِّ، وَهِيَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهِيَ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ قَوْمِهَا، كَانَتْ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَوَقَعَتْ فِي السَّبْيِ، وَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، وَكَانَتْ رَأَتْ قَبْلُ أَنَّ الْقَمَرَ سَقَطَ فِي حِجْرِهَا، فَتَأَوَّلَ بِذَلِكَ، قَالَ الْحَاكِمُ: وَكَذَا جَرَى لِجُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ وَقَعَتْ فِي يَدِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، وَأَسْلَمَتْ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَمَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ هَذَا. وَنَقَلَ الْقَاضِي اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْإِجَابَةِ فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ، وَقَالَ: اخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: لَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَى كُلِّ دَعْوَةٍ مِنْ عُرْسٍ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ، لَكِنَّ مَحَلَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَوْ عُرْفِيٌّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْوَلِيمَةُ طَعَامٌ يُصْنَعُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ) وَفِي نُسْخَةٍ سُفْيَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَهِيَ غَلَطٌ ; لِأَنَّ سُفْيَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَمْ يُذْكَرْ فِي الرُّوَاةِ (الْبَصْرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُكْسَرُ (حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْفَضْلُ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمَسْمُوعَةِ فِي بِلَادِنَا، وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ فُضَيْلٌ بِالتَّصْغِيرِ، كَمَا وَجَدْنَاهُ فِي النُّسَخِ الشَّامِيَّةِ (بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي) وَفِي نُسْخَةٍ ثَنَا (فَائِدٌ) بِالْفَاءِ (مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ) هُوَ الْقِبْطِيُّ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: أَسْلَمُ، أَوْ ثَابِتٌ أَوْ هُرْمُزُ (مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: هُوَ أَبُو رَافِعٍ أَسْلَمُ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، كَانَ قِبْطِيًّا وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ، فَوَهَبَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَشَّرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِ الْعَبَّاسِ أَعْتَقَهُ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ بَدْرٍ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ قَبْلَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِيَسِيرٍ (قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ) أَيِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ (عَنْ جَدَّتِهِ سَلْمَى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهِيَ زَوْجَةُ أَبِي رَافِعٍ (أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْحُسَيْنَ بِالتَّصْغِيرِ بَدَلًا عَنِ الْحَسَنِ (وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ جَعْفَرٍ) أَيْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (أَتَوْهَا) أَيْ جَاءُوا سَلْمَى زَائِرِينَ لَهَا (فَقَالُوا) أَيْ بَعْضُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ لَهَا (اصْنَعِي لَنَا طَعَامًا مِمَّا كَانَ يُعْجِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ، إِمَّا مِنَ الْإِعْجَابِ فَرَسُولُ اللَّهِ مَفْعُولُهُ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِيهِ لِلْمَوْصُولِ، أَوْ مِنَ الْعَجَبِ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ بَابِ عَلِمَ، فَهُوَ فَاعِلُهُ وَضَمِيرُ الْمَوْصُولِ فِي الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِمَّا كَانَ يُعْجِبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ فَاعِلًا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ يَسْتَحْسِنُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ إِنْ كَانَ يُعْجِبُ مِنَ الْإِعْجَابِ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا بِنَاءً عَلَى مَعْنَى الْإِعْجَابِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَجَبِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَكَذَا الْحَالُ فِيمَا وَقَعَ ثَانِيًا (وَيُحَسِّنُ) مِنَ الْإِحْسَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ التَّحْسِينِ (أَكْلَهُ) بِالنَّصْبِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ (فَقَالَتْ يَا بُنَيَّ) بِالتَّصْغِيرِ لِلشَّفَقَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوِ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَبِهِمَا قُرِئَ فِي التَّنْزِيلِ، ثُمَّ إِفْرَادُهُ مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ هُوَ الْمُلَائِمُ إِيثَارًا لِأَكْبَرِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اتَّحَدَتْ طِلْبَتُهُمْ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِيَ مُصَغَّرًا وَمُكَبَّرًا انْتَهَى. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ جَمْعًا لَكِنَّ الْمُكَبَّرَ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي أُصُولِنَا، وَقَدْ قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ الْمَسْمُوعَةُ فِيهِ التَّصْغِيرُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَهَا وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ بِرِضَى الْآخَرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (لَا نَشْتَهِيهِ الْيَوْمَ) وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْتَمَسَ مِنْهَا الطَّعَامَ الْمَوْصُوفَ الْمَذْكُورَ (قَالَ) أَيِ الْمُخَاطَبُ بِيَا بُنَيَّ أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ، (بَلَى) أَيْ نَشْتَهِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَرَكَةِ، وَنَفْيُهَا مَحْمُولٌ عَلَى طَرِيقِ الطَّبْعِ وَعُرِّفَ الْوَقْتُ لِاتِّسَاعِ الْعَيْشِ وَذَهَابِ ضِيقِهِ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا ; وَلِهَذَا قَيَّدَتْهُ بِالْيَوْمِ (اصْنَعِيهِ لَنَا قَالَ) أَيِ الرَّاوِي عَنْ سَلْمَى أَوْ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ (فَقَامَتْ فَأَخَذَتْ شَيْئًا) أَيْ قَلِيلًا (مِنَ الشَّعِيرِ)

وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ شَعِيرٍ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ (فَطَحَنَتْهُ ثُمَّ جَعَلَتْهُ) أَيْ دَقِيقَهُ (فِي قِدْرٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: بُرْمَةٍ، (وَصَبَّتْ) أَيْ: كَبَّتْ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الدَّقِيقِ (شَيْئًا) أَيْ: قَلِيلًا (مِنْ زَيْتٍ) أَيْ زَيْتِ الزَّيْتُونِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الدُّهْنُ (وَدَقَّتِ الْفُلْفُلَ) بِضَمِّ الْفَاءَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ الْأَوَّلِ، هُوَ الرِّوَايَةُ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ مُهَذَّبِ الْأَسْمَاءِ فِي الْمَضْمُومَةِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَهُوَ حَبَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفُلْفُلُ كَهُدْهُدٍ وَزِبْرِجٍ، حَبٌّ هِنْدِيٌّ وَالْأَبْيَضُ أَصْلَحُ، وَكِلَاهُمَا نَافِعٌ لِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا، (وَالتَّوَابِلَ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَبْزَارُ الطَّعَامِ وَهِيَ أَدْوِيَةٌ حَارَّةٌ، يُؤْتَى بِهَا مِنَ الْهِنْدِ، وَقِيلَ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْكُزْبَرَةِ وَالزَّنْجَبِيلِ وَالرَّازِيَانِجِ وَالْكَمُّونِ، جَمْعُ تَابِلٍ بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ أَوْ مَفْتُوحَةٍ، (فَقَرَّبَتْهُ) أَيِ الطَّعَامَ بَعْدَ طَحْنِهِ وَغَرْفِهِ فِي وِعَاءٍ، (إِلَيْهِمْ فَقَالَتْ هَذَا) أَيْ وَأَمْثَالُهُ (مِمَّا كَانَ يَعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالضَّبْطَيْنِ (وَيُحَسِّنُ أَكْلَهُ) بِالْوَجْهَيْنِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ السِّلْقَ مَطْبُوخًا بِالشَّعِيرِ، قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي الْأَصْلِ قَرِيبًا وَأَكْلُ الْخَزِيرَةِ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَزَايٍ مَكْسُورَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: كَالْعَصِيدَةِ إِلَّا أَنَّهَا أَرَقُّ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: دَقِيقٌ يُخْلَطُ بِشَحْمٍ، وَالْجَوْهَرِيُّ كَالطِّيبِيِّ لَحْمٌ يُقَطَّعُ صِغَارًا وَيُصَبُّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، فَإِذَا نَضِجَ ذُرَّ عَلَيْهِ دَقِيقٌ، وَقِيلَ: هِيَ بِالْإِعْجَامِ مِنَ النُّخَالَةِ وَبِالْإِهْمَالِ مِنَ اللَّبَنِ. وَأَكْلُ الْكَبَاثِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِمُثَلَّثَةٍ آخِرَهُ النَّضِيجُ مِنْ ثَمَرِ الْأَرَاكِ، وَقِيلَ: وَرَقُهُ، وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ جُمَّارَ النَّخْلِ، وَهُوَ كَرُمَّانٍ شَحْمُهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِجُبْنَةٍ فِي تَبُوكَ، فَدَعَا بِسِكِّينٍ فَسَمَّى وَقَطَعَ أَيْ بِقِطْعَةٍ مِنَ الْجُبْنِ، وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ بِضَمٍّ وَبِضَمَّتَيْنِ، وَكَعُتُلٍّ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ تَجَبَّنَ اللَّبَنُ صَارَ كَالْجُبْنِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الِأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ نُبَيْحٍ) بِضَمِّ نُونٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ (الْعَنَزِيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَبِالزَّايِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي عَنَزَةَ، قَبِيلَةٌ مِنْ رَبِيعٍ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) صَحَابِيَّانِ (قَالَ: أَتَانَا النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا فَذَبَحْنَا لَهُ) أَيْ لِأَجْلِهِ أَصَالَةً وَلِأَصْحَابِهِ تَبَعًا (شَاةً) وَهِيَ جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ الضَّأْنَ وَالْمَعِزَ، وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا، وَأَصْلُهَا شَاهَةٌ ; لِأَنَّ تَصْغِيرَهَا شُوَيْهَةٌ فَحُذِفَتِ الْهَاءُ، وَأَمَّا عَيْنُهَا فَوَاوٌ، وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ يَاءً فِي شِيَاهٍ لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: «لَهُمْ» أَيْ لِجَابِرٍ وَأَهْلِ مَنْزِلِهِ (كَأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّا نُحِبُّ اللَّحْمَ) أَيْ مُطْلَقًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَدْحِ اللَّحْمِ أَوْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى الْقُوَّةِ، لِمُدَافَعَةِ الْعَدُوِّ وَمُقَاوَمَتِهِمْ أَوِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَأْنِيسُهُمْ وَجَبْرُ خَاطِرِهِمْ، دُونَ إِظْهَارِ الشَّغَفِ بِاللَّحْمِ وَالْإِفْرَاطِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْمُضِيفِ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُثَابِرَ عَلَى مَا يُحِبُّهُ الضَّيْفُ إِنْ عَرَفَهُ، وَلِلضَّيْفِ إِلَى أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يُحِبُّهُ، حَيْثُ لَمْ يُوقِعِ الْمُضِيفَ فِي مَشَقَّةٍ، (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ) أَيْ طَوِيلَةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ أَنَّ جَابِرًا فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: انْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوعًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بَهِيمَةٌ دَاجِنٌ أَيْ شَاةٌ سَمِينَةٌ، فَذَبَحْتُهَا أَنَا وَطَحَنَتْ أَيْ زَوْجِي الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ سِرًّا، وَقُلْتُ لَهُ: تَعَالَى أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا صَنَعَ سَوْرًا أَيْ بِسُكُونِ الْوَاوِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، طَعَامًا يَدْعُوا إِلَيْهِ النَّاسَ، وَاللَّفْظَةُ فَارِسِيَّةٌ فَحَيْهَلًا بِكُمْ، أَيْ هَلُمُّوا مُسْرِعِينَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُنْزِلَنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزَنَّ عَجِينَتَكُمْ

حَتَّى أَجِيءَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِ خَابِزَةً لِتَخْبِزَ مَعَكِ، وَاقْدَحِي - أَيِ اغْرِفِي - مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا، وَهُمْ أَلْفٌ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَأَنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغُطُّ - أَيْ تَغْلِي -، وَيُسْمَعُ غَطِيطُهَا كَمَا هِيَ، وَأَنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ. كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ، كَأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ بَعْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْزِلِ جَابِرٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي قِصَّةِ الْخَنْدَقِ يَدُلُّ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ فِي رَيْبٍ فَارْجِعْ إِلَى الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي فِي مِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ دَفْعُ الْإِشْكَالِ بِأَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: أَتَانَا أَيْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَنَا بِمُنَادَاتِنَا إِيَّاهُ، فَذَبَحْنَا لَهُ شَاةً فَنَادَيْنَاهُ وَأَعْلَمْنَاهُ بِمَا عِنْدَنَا مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ، وَصَاعِ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: «كَأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّا نُحِبُّ اللَّحْمَ» ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَذَبَحْنَا لَهُ شَاةً أُخْرَى لِمَا رَأَيْنَا مِنْ كَثْرَةِ أَصْحَابِهِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ مَنْزِلَ جَابِرٍ لِحَاجَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَانْقَلَبَ جَابِرٌ إِلَى بَيْتِهِ، وَصَنَعَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِهِ، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ وَاسْتِيفَاؤُهَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُطَوَّلَاتِ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) أَيْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخُو عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُفْيَانُ) أَيْ فِي إِسْنَادٍ آخَرَ (وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بِالْوَاوِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَحْوِيلُ الْإِسْنَادِ وَفِي نُسْخَةٍ (ح) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنَ الْمَسْجِدِ (وَأَنَا مَعَهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ مَعَهَا خَدَمُهَا وَحَشَمُهَا (فَذَبَحَتْ لَهُ شَاةً) أَيْ حَقِيقَةً أَوْ أَمَرَتْ بِذَبْحِهَا، وَالْجَزْمُ بِالثَّانِي يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ (فَأَكَلَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَالَةً وَغَيْرُهُ مَعَهُ تَبَعًا (مِنْهَا) أَيْ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ (وَأَتَتْهُ) أَيِ الْمَرْأَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ (بِقِنَاعٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ الطَّبَقُ الَّذِي يُؤْكَلُ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقَيَّدَهُ فِي الْقَامُوسِ بِأَنَّهُ طَبَقٌ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ جَاءَتْهُ بِهِ مَوْضُوعًا فِيهِ (مِنْ رُطَبٍ) أَيْ: بَعْضُهُ (فَأَكَلَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الرُّطَبِ، أَوْ مِمَّا فِي الْقِنَاعِ (ثُمَّ تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ) أَيْ لِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لِغَيْرِهِ (وَصَلَّى) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ، فَأَتَتْهُ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ مِنْ مَحَلِّهَا (فَأَتَتْهُ بِعُلَالَةٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ بَقِيَّةٍ (مِنْ عُلَالَةِ الشَّاةِ) أَيْ مِنْ بَقِيَّةِ لَحْمِهَا، وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَزَعَمَ أَنَّهَا بَيَانِيَّةٌ بُعَيْدَ ذِكْرِهِ ابْنَ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْعُلَالَةَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ بَقِيَّةُ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ، فَالْبَيَانِيَّةُ لَهَا وَجْهٌ وَجِيهٌ (فَأَكَلَ) قِيلَ: فِيهِ شَبِعَ مِنْ لَحْمٍ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَمَا مَرَّ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهَا أَوْ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، لَكِنَّ دَعْوَى الشِّبَعِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، نَعَمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الْأَكْلِ ثَانِيًا، بَلْ قَدْ يُنْدَبُ ذَلِكَ جَبْرًا لِخَاطِرِ الْمُضِيفِ وَنَحْوِهِ، (ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وَالْأَوَّلُ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، وَالثَّانِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ. (حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ) بِضَمِّ الْفَاءِ فَفَتْحِ اللَّامِ (بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ) يُقَالُ: اسْمُهَا سَلْمَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّةُ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ،

وَيُقَالُ: هِيَ إِحْدَى خَالَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَائِهِ: هِيَ بِنْتُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَيُقَالُ: الْعَدَوِيَّةُ لَهَا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ، وَلَنَا دَوَالٍ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ جَمْعُ دَالِيَةٍ، وَهِيَ الْعَذْقُ مِنَ النَّخْلَةِ، يُقْطَعُ ذَا بُسْرٍ ثُمَّ تُعَلَّقُ، فَإِذَا رَطُبَ يُؤْكَلُ، وَالْوَاوُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْأَلْفِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ فَقَوْلُهُ: (مُعَلَّقَةٌ) بِالرَّفْعِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِدَوَالٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِقَوْلِهَا دَوَالٍ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ، (قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ) قَالَ الْعِصَامُ: أَيْ قَائِمًا وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلْمَقَامِ لَكِنَّ الْجَزْمَ بِهِ غَيْرُ قَائِمٍ (وَعَلِيٌّ مَعَهُ يَأْكُلُ) أَيْ قَائِمًا لِقَوْلِهَا بَعْدُ فَجَلَسَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ لِعَلِيٍّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (مَهْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، كَلِمَةٌ بُنِيَتْ عَلَى السُّكُونِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ اكْفُفْ، وَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ (يَا عَلِيُّ فَإِنَّكَ نَاقِهٌ) بِكَسْرِ الْقَافِ بَعْدَهُ هَاءٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ نَقَهَ الشَّخْصُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، فَيَكُونُ مِنْ حَدِّ سَأَلَ أَوْ عَلِمَ، وَالْمَصْدَرُ النَّقَهَةُ وَمَعْنَاهُ بَرِئَ مِنَ الْمَرَضِ، وَكَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ كَمَالُ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهِ قَبْلَ الْمَرَضِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالنَّقَاهَةِ، وَهِيَ حَالَةٌ بَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، كَذَا أَفَادَهُ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، (قَالَتْ: فَجَلَسَ عَلِيٌّ) أَيْ وَتَرَكَ أَكْلَ الرُّطَبِ (وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ رُفَقَائِهِ غَيْرُ عَلِيٍّ (قَالَتْ: فَجَعَلْتُ لَهُمْ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَيْ طَبَخْتُ لِأَضْيَافِي، وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فَجَعَلْتُ لَهُ بِإِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ شُرَّاحِهِ رَاجِعًا إِلَى عَلِيٍّ، وَبِهَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ قَالَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَجَعَلْتُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنِي إِذَا تَرَكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَكْلَ الرُّطَبِ، جَعَلْتُ لَهُ إِلَى آخِرِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ لَكِنْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ لَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَتْبُوعُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ أَيْ لَهُ أَصَالَةً وَلِغَيْرِهِ تَبَعًا، مَعَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ قَدْ يَكُونُ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي نُسْخَةٍ لَهُمَا وَمَا أَبْعَدَ مَنْ قَالَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ لِابْنِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَكَذَا فِي الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَكْثَرُ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ حِينَ جَعَلُوا الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ مُفْرَدًا، لِيَرْجِعَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهَا وَالضَّيْفَانِ، انْتَهَى. فَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ أَيْ بَعْدَ عَرْضِ أَكْلِ الرُّطَبِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ، جَعَلَتْ لَهُمْ (سِلْقًا) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (شَعِيرًا) أَيْ نَفْسَهُ أَوْ مَاءَهُ أَوْ دَقِيقَهُ وَالْمَعْنَى فَطَبَخْتُ وَقَدَّمْتُ لَهُمْ (فَقَالَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ النَّبِيُّ: (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ لِعَلِيٍّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يَا عَلِيُّ مِنْ هَذَا) أَيِ: الطَّبِيخِ أَوِ الطَّعَامِ (فَأَصِبْ) أَمْرٌ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ إِذَا امْتَنَعْتَ مِنْ أَكْلِ الرُّطَبِ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا فَكُلْ مِنْهُ مَعَنَا، وَفِي التَّعْبِيرِ بِأَصِبْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَكْلَهُ مِنْهُ هُوَ الصَّوَابُ، كَمَا يُفِيدُهُ تَقْدِيرُ الْجَارِّ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى فَخَصَّهُ بِالْإِصَابَةِ وَلَا تَتَجَاوَزْ إِلَى أَكْلٍ مِنَ الْبُسْرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَمَّا مِنْ هَذَا فَأَصِبْ، وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيمُ مِنْ هَذَا يُوجِبُ الْحَصْرَ، أَيْ أَصِبْ مِنْ هَذَا لَا مِنْ غَيْرِهِ (فَإِنَّ هَذَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَإِنَّهُ (أَوْفَقُ لَكَ) أَيْ

مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَوْ مِنْ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَمْ يَقُلْ فِي «أَوْفَقَ» مِنْهُ ; لِيَكُونَ إِشْكَالًا يَسْتَدْعِي جَوَابًا، كَمَا فَهِمَ الشُّرَّاحُ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الظَّاهِرُ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ هُنَا وَرَدَ لِمُجَرَّدِ الْمُوَافَقَةِ ; لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمَزِيَّةِ وَالْفَضْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْفَضْلِ فِي الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِطَرِيقِ الْإِمْكَانِ، فَيُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ أَوْ بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّمَا مَنَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرُّطَبِ ; لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تَضُرُّ بِالنَّاقِهِ لِسُرْعَةِ اسْتِحَالَتِهَا، وَضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِهَا لِعَدَمِ الْقُوَّةِ، فَأَوْفَقُ بِمَعْنَى مُوَافِقٍ، إِذْ لَا أَوْفَقِيَّةَ فِي الرُّطَبِ لَهُ أَصْلًا، وَيَصِحُّ كَوْنُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِأَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ فِي الرُّطَبِ مُوَافَقَةً لَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّ ضُرَّهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ السِّلْقِ وَالشَّعِيرِ ; لِأَنَّهُ أَنْفَعُ الْأَغْذِيَةِ لِلنَّاقِهِ ; لِأَنَّ فِي مَاءِ الشَّعِيرِ مِنَ التَّغْذِيَةِ وَالتَّلْطِيفِ وَالتَّلْيِينِ وَتَقْوِيَةِ الطَّبِيعَةِ، مَا هُوَ نَافِعٌ لِلنَّاقِهِ جِدًّا. فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي الْحَمِيَّةُ لِلْمَرِيضِ وَالنَّاقِهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: أَنْفَعُ مَا يَكُونُ الْحَمِيَّةُ لِلنَّاقِهِ ; لِأَنَّ التَّخْلِيطَ يُوجِبُ انْتِكَاسَهُ، وَهُوَ أَصْعَبُ مِنَ ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ، وَالْحَمِيَّةُ لِلصَّحِيحِ مَضَرَّةٌ، كَالتَّخْلِيطِ لِلْمَرِيضِ وَالنَّاقِهِ وَقَدْ تَشْتَدُّ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ إِلَى ضَارٍّ، فَيَتَنَاوَلُ مِنْهُ يَسِيرًا فَتَقْوَى الطَّبِيعَةُ عَلَى هَضْمِهِ، فَلَا يَضُرُّ بَلْ رُبَّمَا يَنْفَعُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ دَوَاءٍ يَكْرَهُهُ الْمَرِيضُ ; وَلِذَا أَقَرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَرْمَدُ عَلَى تَنَاوُلِ التَّمَرَاتِ الْيَسِيرَةِ، وَخَبَرُهُ فِي ابْنِ مَاجَهْ قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ، فَقَالَ: ادْنُ كُلْ، فَأَخَذْتُ تَمْرًا فَأَكَلْتُ، فَقَالَ: أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِكَ رَمَدٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْضُغُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَتَبَسَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ أَصْلٌ عَظِيمٌ لِلطِّبِّ وَالتَّطَبُّبِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي التَّدَاوِي فَقَدْ صَحَّ: «أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً فَتَدَاوَوْا» . وَفِي رِوَايَةٍ: «حَيْثُ خُلِقَ الدَّاءُ خُلِقَ الدَّوَاءُ فَتَدَاوَوْا» ، وَصَحَّ أَيْضًا: «تَدَاوُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً إِلَّا دَاءً وَاحِدًا، وَهُوَ الْهَرَمُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلَّا السَّامَ» أَيِ: الْمَوْتَ يَعْنِي الْمَرَضَ الَّذِي قُدِّرَ الْمَوْتُ فِيهِ، وَصَحَّ أَيْضًا لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أَصَابَ دَوَاءَ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَسَّرَتْهُ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ: «مَا مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَلَهُ دَوَاءٌ» ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكًا، وَمَعَهُ سِتْرٌ فَجَعَلَهُ بَيْنَ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، فَكُلَّمَا شَرِبَ الْمَرِيضُ مِنَ الدَّوَاءِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الدَّاءِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بُرْأَهُ أَمَرَ الْمَلَكَ فَرَفَعَ السِّتْرَ ثُمَّ يَشْرَبُ الْمَرِيضُ الدَّوَاءَ فَيَنْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ وَغَيْرِهِ،: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» ، وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ رِعَايَةَ الْأَسْبَابِ بِالتَّدَاوِي لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ بِالْأَكْلِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ بِتَدَاوِي الْمُتَوَكِّلِ اقْتِدَاءً بِسَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجَابَ عَنْ خَبَرِ: «مَنِ اسْتَرْقَى وَاكْتَوَى بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ» ، أَيْ مِنْ تَوَكُّلِ الْمُتَوَكِّلِينَ الَّذِينَ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَجَعَلَ بَعْضَ التَّوَكُّلِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ إِنِ اسْتَرْقَى بِمَكْرُوهٍ، أَوْ عَلَّقَ شِفَاءَهُ بِوُجُودٍ، نَحْوَ الْكَيِّ، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ، نَاظِرٌ لِلرَّبِّ الدَّوَاءَ مُتَوَقِّعًا لِلشِّفَاءِ مِنْ عِنْدِهِ، قَاصِدًا صِحَّةَ بَدَنِهِ لِلْقِيَامِ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، فَتَوَكُّلُهُ بَاقٍ بِحَالِهِ اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِ سَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ إِذْ عَمِلَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا عَلَى أَنَّهُ قِيلَ: لَا يُتِمُّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُقْتَضَيَاتٍ لِمُسَبِّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، فَتَعْطِيلُهَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَهَذَا الْبَحْثُ بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطَّبِيبِ، وَحَثٌّ عَلَى طَلَبِ الدَّوَاءِ، وَتَخْفِيفٌ لِلْمَرِيضِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ أَنَّ لِدَائِهَا دَوَاءً يُزِيلُهُ قَوِيَ رَجَاؤُهَا، وَانْبَعَثَ حَارُّهَا الْغَرِيزِيُّ، فَتَقْوَى الرُّوحُ النَّفْسَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ، وَبِقُوَّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَقْوَى الْقُوَى الْحَامِلَةُ لَهَا، فَيَتَدَفَّعُ الْمَرِيضُ وَتَقْهَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ فِي أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً التَّقْدِيرُ أَوْ إِنْزَالُ عِلْمِهِ عَلَى لِسَانِ مَلِكِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ إِلْهَامِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِلْهَامِهِ عَلَى أَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ كَصِدْقِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخُضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّفْرِيجِ عَنِ الْمَكْرُوبِ أَصْدَقُ فِعْلًا، وَأَشْرَعُ نَفْعًا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْحِسِّيَّةِ بِشَرْطِ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ رُبَّمَا تَخَلَّفَ الشِّفَاءُ عَمَّنِ اسْتَعْمَلَ طِبَّ النُّبُوَّةِ لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ، مِنْ نَحْوِ ضَعْفِ اعْتِقَادِ الشِّفَاءِ بِهِ، وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ أَيْضًا فِي عَدَمِ نَفْعِ الْقُرْآنِ لِكَثِيرِينَ مَعَ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ.

وَقَدْ طَبَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَمَحَلُّ بَسْطِهَا فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ، وَسَائِرِ السِّيَرِ مِنْ كِتَابِ الْمَوَاهِبِ، وَزَادِ الْمَعَادِ لِابْنِ الْقَيِّمِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ) أَيِ الثَّوْرِيِّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَحْيَانًا (يَأْتِينِي) أَيْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ (فَيَقُولُ) أَيْ لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (أَعِنْدَكِ غَدَاءٌ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُؤْكَلُ أَوَّلَ النَّهَارِ (فَأَقُولُ لَا) أَيْ أَحْيَانًا (قَالَتْ) أَيْ عَائِشَةُ (فَيَقُولُ) أَيْ حِينَئِذٍ (إِنِّي صَائِمٌ) وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ بِزِيَادَةِ إِذَنْ أَيْ نَاوٍ لِلصَّوْمِ، فَهُوَ خَبَرٌ لَفْظًا، وَإِنْشَاءٌ مَعْنًى، أَوْ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ نَوَى الصَّوْمَ لِيَتَحَقَّقَ النِّيَّةُ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الصَّوْمِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِظْهَارِ الْعِبَادَةِ لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، كَتَعْلِيمِ مَسْأَلَةٍ وَبَيَانِ حَالَةٍ، وَعَلَى جَوَازِ نِيَّةِ النَّفْلِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ، بِشَرْطِ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ النِّيَّةِ، بِمَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ التَّبْيِيتُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ فِي اللَّيْلِ» ، قَالَ: وَلَا دَلِيلَ فِي: «إِنِّي صَائِمٌ» ، إِذِ الِاحْتِمَالُ إِنِّي صَائِمٌ إِذًا كَمَا كُنْتُ، أَوْ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الْفِطْرِ لِعُذْرٍ ثُمَّ تَمَّمَ الصَّوْمَ، وَلَا خَفَاءَ فِي بُعْدِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَالْخَبَرُ مُقَيَّدٌ عِنْدَنَا بِالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالْفَرَائِضِ (قَالَتْ: فَأَتَانَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَأَتَانِي (يَوْمًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (أُهْدِيَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُرْسِلَتْ (لَنَا هَدِيَّةٌ قَالَ: وَمَا هِيَ قُلْتُ: حَيْسٌ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ، هُوَ التَّمْرُ مَعَ السَّمْنِ وَالْأَقِطِ، وَقَدْ يُجْعَلُ عِوَضَ الْأَقِطِ الدَّقِيقُ أَوِ الْفَتِيتُ، ثُمَّ يُدَلَّكُ حَتَّى يَخْتَلِطَ، وَأَصْلُ الْحَيْسِ الْخَلْطُ (قَالَ أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا) أَيْ مُرِيدًا لِلصَّوْمِ وَقَاصِدًا لَهُ مِنْ غَيْرِ صُدُورِ نِيَّةٍ جَازِمَةٍ، (قَالَتْ: ثُمَّ أَكَلَ) وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ النَّفْلَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِنْ أَفْطَرَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا ثُمَّ أَكَلَ لِضَرُورَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِالْقَضَاءِ لَمَّا أَكَلَتْ فِي صَوْمِ نَفْلٍ، وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَمَلَ الشَّافِعِيَّةُ الْأَمْرَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ خِلَافَ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَّصِلَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: «الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» . فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمِيرُ نَفْسِهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَلَوْ كَانَ عَادَتَهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ تَطَوُّعًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُلْزِمٌ، فَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ الْمَلْعَبَةُ فِي الصَّلَاةِ

مَثَلًا بِأَنْ يَشْرَعَهَا وَيَقْطَعَهَا. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى) قِيلَ: اسْمُهُ سَمْعَانُ (الْأَسْلَمِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ) لَمْ يُسَمَّ (الْأَعْوَرِ) صِفَةٌ لِأَحَدِهِمَا (عَنْ يُوسُفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) صَحَابِيَّانِ وَرَوَى يُوسُفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، كَذَا قِيلَ: وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ مِائَةٍ لَهُ عَنْ عُثْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ زِيَادَةُ: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ» ، قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُكَنَّى أَبَا يَعْقُوبَ، كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ وَلَدِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ، وَأَقْعَدَهُ فِي حِجْرِهِ، وَسَمَّاهُ يُوسُفَ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَهُ رِوَايَةٌ، وَلَا دِرَايَةَ لَهُ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَمَّا أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، فَيُكَنَّى أَبَا يُوسُفَ أَحَدُ الْأَحْبَارِ، وَأَحَدُ مَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ يُوسُفُ وَمُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، (قَالَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ أَوِ ابْنُهُ (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (أَخَذَ كِسْرَةً) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ قِطْعَةً (مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْكِيرِ (فَوَضَعَ عَلَيْهَا تَمْرَةً ثُمَّ قَالَ هَذِهِ) أَيِ التَّمْرَةُ (إِدَامُ هَذِهِ) أَيِ الْكِسْرَةِ (فَأَكَلَ) بِالْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ التَّمْرُ طَعَامًا مُسْتَقِلًّا، وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا بِالْأُدُومَةِ، أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَهَا، قَالَ مِيرَكُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ التَّمْرَ إِدَامٌ، كَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَيَرُدُّ قَوْلَ مَنْ شَرَطَ الِاصْطِنَاعَ فِي الْإِدَامِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكِنْ خَصَّصَ مِنَ الْإِدَامِ مَا يُؤْكَلُ غَالِبًا وَحْدَهُ، كَالتَّمْرِ وَلَمْ يَعُدَّهُ مِنَ الْإِدَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ إِطْلَاقُ الْإِدَامِ عَلَى التَّمْرِ فِي الْحَدِيثِ مَجَازًا أَوْ تَشْبِيهًا بِالْإِدَامِ، حَيْثُ أَكَلَهُ مَعَ الْخُبْزِ، قُلْتُ: هَذَا الْمُحْتَمَلُ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِلَّا لَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَأَمَا مَبْنَى الْأَيْمَانِ وَالْحِنْثِ، فَعَلَى الْعُرْفِ الْمُخْتَلِفِ زَمَانًا وَمَكَانًا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِيهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ، فَإِنَّ الشَّعِيرَ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَالتَّمْرَ حَارٌّ رَطْبٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِيهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ مَا لَا يَخْفَى. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي الدَّارِمِيَّ (حَدَّثَنَا سَعِيدُ) بِالْيَاءِ (بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبَّادِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (بْنِ الْعَوَّامِ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَيُكْسَرُ، وَسُكُونِ الْفَاءِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يَرْسُبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَقِيَ فِي آخِرِ الْوِعَاءِ مِنْ نَحْوِ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ ثُفْلٌ فَلْيَصْطَنِعْ» (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيْ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ أَنَسٌ بِالثُّفْلِ (مَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ) أَيْ فِي الْقِدْرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِعْجَابِهِ أَنَّهُ مَنْضُوجٌ غَايَةَ النُّضْجِ الْقَرِيبِ إِلَى الْهَضْمِ، فَهُوَ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ أَوْ أَلَذُّ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوَاضُعِ وَالصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ

(باب ما جاء في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام)

بِالْقَلِيلِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَاقِي الْقَوْمَ آخِرُهُمْ شُرْبًا» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، أَوْ فِي الصَّحْفَةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ فَلَحِسَهَا اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ، وَقِيلَ: الثُّفْلُ هُوَ الثَّرِيدُ، وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّ الثُّفْلَ بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَضَمِّهَا وَهُوَ أَفْصَحُ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَفَسَّرَهُ شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ بِمَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ، وَقَالَ الشَّارِحُ: الْمُظْهَرُ أَيْ: فِي الْقِدْرِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَيْ مَا بَقِيَ فِي الْقَصْعَةِ، وَيُقَالُ: فِي وَجْهِ إِعْجَابِهِ مَا بَقِيَ فِي الْقِدْرِ أَنَّهُ أَقَلُّ دَهَانَةً، فَيَكُونُ أَسْرَعُ انْهِضَامًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَجْمَعُ طُعُومًا فِي الْقِدْرِ فَيَكُونُ أَلَذَّ وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ دَأْبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيثَارُ، وَمُلَاحَظَةُ الْغَيْرِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ وَالضِّيفَانِ، وَأَرْبَابِ الْحَوَائِجِ، وَتَقْدِيمُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَا جَرَمَ كَانَ يَصْرِفُ الطَّعَامَ الْوَاقِعَ فِي أَعَالِي الْقِدْرِ وَالظُّرُوفِ إِلَيْهِمْ، وَيَخْتَارُ لِخَاصَّتِهِ مَا بَقِيَ مِنْهُ فِي الْأَسَافِلِ رِعَايَةً لِسُلُوكِ سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَغْبِيَاءِ الْأَغْنِيَاءِ يَتَكَبَّرُونَ وَيَأْنَفُونَ مِنْ أَكْلِ الثُّفْلِ، وَيَصُبُّونَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بِجَمِيلِ حِكْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُنُوفَ اللَّطَائِفِ، وَأُلُوفَ الْمَعَارِفِ وَالظَّرَائِفِ فَطُوبَى لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، هَذَا وَقَالَ الشُّرَّاحُ: لَقَدْ أَعْجَبَ الْمُصَنِّفَ فَخَتَمَ الْبَابَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ ثُفْلُ الْأَحَادِيثِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ مَا فِيهِ فِي تَعْبِيرِهِ بِالثُّفْلِ مَا قَدْ يَحْسُنُ فِيهِ رَدٌّ، وَفِي الْقَامُوسِ الثُّفْلُ مَا اسْتَقَرَّ تَحْتَ الشَّيْءِ مِنْ كُدْرَةٍ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ عَلَى تَفْسِيرِ الرَّاوِي لَهُ بِمَا ذُكِرَ حَذَرًا مِنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْهُ إِسْنَادُ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرِ الْمُرَادِ، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ فِي إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُشْتَمِلِ آخِرُهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ صَنْعَةَ حُسْنِ الْمَقْطَعِ، خَتْمًا لِلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الطَّعَامِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ مَا جَاءَ وَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عِنْدَ الطَّعَامِ أَيْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، لِمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، بِأَنْ يُرَادَ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَإِيرَادِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهَا، أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذَا الْبَابِ كَيْفِيَّةَ الْوُضُوءِ الْمُسْتَحَبِّ عِنْدَ الطَّعَامِ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ يَدُلَّانِ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ هُنَا ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ، ثُمَّ أَرْدَفَهُمَا بِحَدِيثِ سَلْمَانَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الْعُرْفِيِّ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، تَحْصِيلًا لِلْبَرَكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَضْمُونَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ اللَّذَيْنِ يَخُصَّانِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ بِالصَّلَاةِ، يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوُضُوءِ الْمَذْكُورِ آخِرَ الْبَابِ هُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ حَتَّى لَا يَتَحَقَّقَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَهَذَا مُخْتَارُ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْوَجْهُ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَمَجَازِهِ فَأَرَادَ الْأَوَّلَ مِنْ حَيْثُ نَفْيِهِ، وَالثَّانِيَ مِنْ حَيْثُ إِثْبَاتِهِ، انْتَهَى. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ مَا ذُكِرَ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ النَّظَافَةُ الشَّامِلَةُ لَهُمَا، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ، كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَضَمَّنَ التَّرْجَمَةَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى التَّرْجَمَةِ سَائِغَةً شَائِعَةً، وَإِنَّمَا الْمَعِيبُ النَّقْصُ عَمَّا فِيهَا، ثُمَّ الطَّعَامُ هَاهُنَا مَا يُؤْكَلُ، كَمَا أَنَّ الشَّرَابَ مَا يُشْرَبُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْبُرِّ كَمَا وَرَدَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَصَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ) أَيِ السِّخْتِيَانِيِّ (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ) بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْمَكَانُ الْخَالِي، وَالْمُرَادُ هُنَا مَكَانُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ الْمُتَوَضَّأِ، غَيْرُ ظَاهِرٍ لَمْ نَجِدْهُ،

وَكَذَا قَوْلُهُ: عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ اسْتِحْيَاءً وَتَجَمُّلًا (فَقُرِّبَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الطَّعَامُ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْكِيرِ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (أَلَا نَأْتِيكَ) بِالِاسْتِفْهَامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِهِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِوَضُوءٍ) لِلتَّعْدِيَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْعَرْضِ نَحْوَ أَلَا تَنْزِلُ عِنْدَنَا، وَالْمَعْنَى أَلَا تَتَوَضَّأُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (قَالَ: إِنَّمَا أُمِرْتُ) أَيْ وُجُوبًا (بِالْوُضُوءِ) بِضَمِّ الْوَاوِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ أَيْ بِفِعْلِهِ (إِذَا قُمْتُ) مُتَعَلِّقٌ بِالْوُضُوءِ لَا بِأُمِرْتُ أَيْ أَرَدْتُ الْقِيَامَ، وَأَنَا مُحْدِثٌ (إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوُضُوءُ عِنْدَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَإِرَادَةِ الطَّوَافِ، وَلَعَلَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ الطَّعَامِ وَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ، فَنَفَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَبْلَغِ، حَيْثُ أَتَى بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، وَأَسْنَدَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي جَوَازَهُ، بَلِ اسْتِحْبَابُهُ فَضْلًا عَنِ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الْعُرْفِيِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ، سَوَاءٌ غَسَلَ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَكْلِ أَمْ لَا. قَالَ مِيرَكُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي يَلِيهِ تَعَرُّضٌ لِغَسْلِ الْيَدَيْنِ ; لِأَجْلِ الطَّعَامِ لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَكْلِ، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا غَسَلَهُمَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ الْمَفْهُومِ مِنْ جَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا، قَبْلَ الطَّعَامِ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ) تَصْغِيرُ الْحَارِثِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَائِطِ) الْغَوْطُ عُمْقُ الْأَرْضِ الْأَبْعَدُ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْمُنْخَفِضِ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قِيلَ لِمَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ تُقْضَى فِي الْمُنْخَفِضِ، حَيْثُ هُوَ أَسْتَرُ لَهُ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى النَّحْوِ نَفْسِهِ، كَذَا حَرَّرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْغَائِطَ أَصْلُهُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ، كَانُوا يَأْتُونَهُ لِلْحَاجَةِ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْكُنُفِ فِي الْبُيُوتِ، فَكَنُّوا بِهِ عَنْ نَفْسِ الْحَدَثِ لِمَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ كَرَاهَةً لِذِكْرِهِ بِخَاصِّ اسْمِهِ، إِذْ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ التَّعَفُّفُ، وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِي كَلَامِهِمْ، وَصَوْنُ الْأَلْسِنَةِ عَمَّا يُصَانُ الْأَبْصَارُ وَالْأَسْمَاعُ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَخْصُوصُ، وَمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الْكَنِيفِ، وَهُوَ الْمُسْتَرَاحُ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ (فَأُتِيَ) أَيْ جِيءَ (بِطَعَامٍ فَقِيلَ لَهُ أَلَا تَوَضَّأُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِإِثْبَاتِهِمَا، وَالْمَعْنَى أَلَا تُرِيدَ الْوُضُوءَ فَنَأْتِيكَ بِالْوَضُوءِ، كَمَا تَقَدَّمَ (فَقَالَ أُصَلِّي) وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ إِيجَابِ الْوُضُوءِ لِلْأَكْلِ (فَأَتَوَضَّأَ) بِالنَّصْبِ لِكَوْنِهِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَقَصْدِ السَّبَبِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ لِعَدَمِ قَصْدِهَا ذَكَرَهُ الْعِصَامُ، وَقَالَ

الْحَنَفِيُّ: رُوِي مَنْصُوبًا عَلَى سَبَبِيَّةِ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ لِلْوُضُوءِ، وَمَرْفُوعًا نَظَرًا إِلَى مُجَرَّدِ اسْتِلْزَامِهَا لَهُ، لَا إِلَى السَّبَبِيَّةِ. (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ح) إِشَارَةٌ إِلَى تَحْوِيلِ الْإِسْنَادِ ; وَلِذَا عَطَفَ فِي قَوْلِهِ: (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجُرْجَانِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْأُولَى (عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ) عَلَى زِنَةِ فَاعِلٍ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ (عَنْ زَاذَانَ) بِزَايٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ بَيْنَ أَلِفَيْنِ آخِرُهَا نُونٌ (عَنْ سَلْمَانَ) الْفَارِسِيِّ (قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ) أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ) بِفَتْحِ أَنَّ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا (الْوُضُوءُ) أَيْ غَسْلُ الْيَدَيْنِ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أَيِ الْمَقْرُوءَ الْمَذْكُورَ (لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ أَنِّي سَأَلْتُهُ، هَلْ بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ، وَالْحَالُ أَنِّي أَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الِاخْتِصَارِ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ بِمَا بَعْدَ الطَّعَامِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ) وَهَذَا يُحْتَمَلُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى تَحْرِيفِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنْ يَكُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ زَادَتِ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ أَيْضًا اسْتِقْبَالًا لِلنِّعْمَةِ بِالطِّهَارَةِ الْمُشْعِرَةِ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى

(باب ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الطعام)

مَا وَرَدَ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ جَوَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. وَقَالَ مِيرَكُ: الْمُرَادُ مِنَ الْوُضُوءِ الْأَوَّلِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِطْلَاقًا لِلْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ مَجَازًا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْظِيمُ نِعْمَةِ اللَّهِ لِيُبَارِكَ لَهُ فِيهِ ; وَلِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ يَكُونُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ ; وَلِأَنَّ الْيَدَ لَا تَخْلُو عَنْ تَلَوُّثٍ فِي تَعَاطِي الْأَعْمَالِ، وَغَسْلُهُمَا أَقْرَبُ إِلَى النَّظَافَةِ وَالنَّزَاهَةِ ; وَلِأَنَّ الْأَكْلَ يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الطَّهَارَةِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَيُبْتَدَأُ فِيهِ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْوُضُوءِ الثَّانِي غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ مِنَ الدُّسُومَاتِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» . أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ انْتَهَى. وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ اللُّحُومِ شَيْئًا فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ مِنْ رِيحٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُؤْذِي مَنْ حَذَاهُ» ، قِيلَ: وَمَعْنَى: «بَرَكَةُ الطَّعَامِ مِنَ الْوُضُوءِ قَبْلَهُ» النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ نَفْسِهِ، وَبَعْدَهُ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ فِي فَوَائِدِهَا وَآثَارِهَا، بِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِسُكُونِ النَّفْسِ وَقَرَارِهَا وَسَبَبًا لِلطَّاعَاتِ وَتَقْوِيَةً لِلْعِبَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْمُرْضِيَةِ وَالْأَفْعَالِ السَّنِيَّةِ، وَجَعْلِهِ نَفْسَ الْبَرَكَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِلَّا فَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَنْشَأُ عَنْهُ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا، الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ، مِنْ أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَ الْأَكْلِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ سَلْمَانَ فِي جَامِعِهِ وَفِي الْبَابِ، عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي حَدِيثَ سَلْمَانَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُوضَعَ الرَّغِيفُ تَحْتَ الْقَصْعَةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْمُؤَلِّفِ. وَلَعَلَّ كَلَامَ الثَّوْرِيِّ مُحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ شُبْهَةٌ فِي طَهَارَةِ الْيَدِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِسْرَافٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَاشِفِ، فِي تَرْجَمَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ: كَانَ شُعْبَةُ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ مَحَلُّهُ الصِّدْقُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ رِوَايَاتِهِ سَقِيمَةٌ، انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ تَغَيَّرَ بِالْآخِرَةِ لَمَّا كَبِرَ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الطَّعَامِ) أَيْ أَكْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ عِنْدَ الطَّعَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ (وَبَعْدَ مَا يَفْرُغُ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الطَّعَامِ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَمْدُ (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) وَاسْمُهُ سُوَيْدٌ بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ رَاشِدِ بْنِ جَنْدَلٍ الْيَافِعِيِّ) نِسْبَةً إِلَى مَوْضِعٍ أَوْ إِلَى قَبِيلَةٍ مِنْ رُعَيْنٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ) أَيِ الْخَزْرَجِيِّ، وَاسْمُهُ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَكَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي حُرُوبِهِ كُلِّهَا، وَمَاتَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مُرَابِطًا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَذَلِكَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَعْطَاهُ أَبُوهُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ خَرَجَ مَعَهُ فَمَرِضَ، فَلَمَّا ثَقُلَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاحْمِلُونِي، فَإِذَا صَادَفْتُمُ الْعَدُوَّ فَادْفِنُونِي تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، فَفَعَلُوا وَدَفَنُوهُ قَرِيبًا عَنْ سُورِهَا، وَهُوَ مَعْرُوفٌ إِلَى الْيَوْمِ مُعَظَّمٌ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ فَيُشَفَّعُونَ، فَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقُرِّبَ) أَيْ إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (طَعَامٌ فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ، أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا) أَيْ فِي أَوَّلِ وَقْتِ أَكْلِنَا فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَوَّلَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً) أَيْ مِنْهُ (فِي آخِرِهِ) أَيْ فِي آخِرِ وَقْتِ أَكْلِنَا إِيَّاهُ (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ هَذَا) أَيْ بَيِّنْ لَنَا الْحِكْمَةَ وَالسَّبَبَ فِي حُصُولِ عَظَمَةِ الْبَرَكَةِ وَكَثْرَتِهَا فِي أَوَّلِ أَكْلِنَا هَذَا الطَّعَامَ، وَقِلَّتِهَا فِي الْآخِرِ، وَانْعِدَامِ الْبَرَكَةِ مِنْهُ (قَالَ: إِنَّا ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ أَكَلْنَا) فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّ سُنَّةَ التَّسْمِيَةِ تَحْصُلُ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَهِيَ أَكْمَلُ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَإِنِ اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِأَفْضَلِيَّةِ ذَلِكَ دَلِيلًا خَاصًّا، وَتُنْدَبُ حَتَّى لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، إِنْ لَمْ يَقْصِدُوا بِهَا قُرْآنًا وَإِلَّا حَرُمَتْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا تُنْدَبُ فِي مَكْرُوهٍ، وَلَا حَرَامٍ بَلْ

لَوْ سَمَّى عَلَى خَمْرٍ كَفَرَ، عَلَى مَا فِيهِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَحَلِّهِ (ثُمَّ قَعَدَ مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى، فَأَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ) أَيْ فَانْعَدَمَ بَرَكَتُهُ بِسُرْعَةٍ، وَأَكْلُ الشَّيْطَانِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا ; لِإِمْكَانِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الطِّيبِيَّ نَقَلَ عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَوْ سَمَّى وَاحِدٌ فِي جَمَاعَةٍ يَأْكُلُونَ لَكَفَى ذَلِكَ، وَسَقَطَ عَنِ الْكُلِّ، ثُمَّ قَالَ: فَتَنْزِيلُهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ، أَيْ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنَ الطَّعَامِ، وَلَمْ يُسَمِّ، أَوْ يُقَالُ: أَنَّ شَيْطَانَ هَذَا الرَّجُلِ جَاءَ مَعَهُ، فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُنَا مُؤَثِّرَةً فِيهِ، وَلَا هُوَ سَمَّى يَعْنِي لِتَكُونَ تَسْمِيَتُهُ مَانِعَةً مِنْ أَكْلِ شَيْطَانِهِ مَعَهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ التَّوْجِيهَ الْأَوَّلَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، إِذْ كَلِمَةُ ثُمَّ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى تَرَاخِي قُعُودِ الرَّجُلِ عَنْ أَوَّلِ اشْتِغَالِهِمْ بِالْأَكْلِ، وَأَمَّا عَلَى تَرَاخِيهِ عَنْ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ كَمَا ادَّعَاهُ فَلَا. وَأَمَّا التَّوْجِيهُ الثَّانِي فَحَسَنٌ، لَكِنْ لَيْسَ صَرِيحًا فِي دَفْعِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَالْأَوْلَى مَا يُقَالُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا اشْتَغَلَ جَمَاعَةٌ بِالْأَكْلِ مَعًا، وَسَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ تَسْمِيَةُ هَذَا الْوَاحِدِ تُجْزِئُ عَنِ الْبَوَاقِي مِنَ الْحَاضِرِينَ، لَا عَنْ شَخْصٍ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُمْ وَقْتَ التَّسْمِيَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّسْمِيَةِ عَدَمُ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ مَعَ الْآكِلِ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ إِنْسَانٌ وَقْتَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، لَمْ تُؤَثِّرْ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ فِي عَدَمِ تَمَكُّنِ شَيْطَانِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَكْلِ مَعَهُ، تَأَمَّلْ. (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ) كَانَ يَبِيعُ الْبَزَّ الدَّسْتَوَائِيَّةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا (عَنْ بُدَيْلٍ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ، وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ (الْعُقَيْلِيِّ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِتَصْغِيرِهِمَا (عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ) قِيلَ: هِيَ اللَّيْثِيَّةُ الْمَكِّيَّةُ، وَقِيلَ: تَيْمِيَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (عَنْ عَائِشَةَ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ، عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَى حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ، عَنْ عَائِشَةَ فِي الِاسْتِحَاضَةِ، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ، فَلَا أَدْرِي هَلِ الْجَمِيعُ وَاحِدٌ أَمْ لَا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَائِهِ، أَنَّهَا بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَتْ مَاشِيَةً، وَبَايَعَتْ (قَالَتْ) أَيْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَنَسِيَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُخَفَّفَةِ، فَفِيهِ بَيَانُ الْجَوَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ نَسِيتُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ أُنْسِيتُ إِذِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْسَاهُ تَنْزِيهِيٌّ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَدَبُ اللَّفْظِيُّ الَّذِي لَا حُرْمَةَ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَالْمَعْنَى تَرَكَ نَاسِيًا (أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ) أَيِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأَكْلِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي أَثْنَائِهِ أَنَّهُ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَوَّلًا (فَلْيَقُلْ) أَيْ نَدْبًا (بِسْمِ اللَّهِ) الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ (أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَالرَّاءِ عَلَى

أَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ لَهُ التَّسْمِيَةُ، فَلَا يُقَالُ ذِكْرُهُمَا يُخْرِجُ الْوَسَطَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ النِّصْفُ الْأَوَّلُ، وَبِآخِرِهِ النِّصْفُ الثَّانِي، فَلَا وَاسِطَةَ أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَكَلْتُ أَوَّلَهُ وَآكُلُ آخِرَهُ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ: أَيْ أَكَلَ. بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ مُسْتَعِينًا بِهِ، قِيلَ: فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ أَكْلَ أَوَّلِهِ لَيْسَ فِي زَمَانِ الِاسْتِعَانَةِ بِسْمِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْتِ أَكْلِ أَوَّلِهِ مُسْتَعِينًا بِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ فِي وَقْتِ أَكْلِ أَوَّلِهِ مُسْتَعِينٌ بِهِ حُكْمًا ; لِأَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَشَأْنَهُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ لِنِسْيَانِهِ، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النِّسْيَانَ فِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ حَالَ الذَّبْحِ مَعْفُوٌّ، مَعَ أَنَّهَا شَرْطٌ، فَكَيْفَ وَالتَّسْمِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَكْلِ إِجْمَاعًا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ شَارِحٍ قَالَ: فَنَسِيَ أَوْ تَرَكَ عَلَى وَجْهٍ، فَإِنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ، فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَا يَتَدَارَكُ بِهِ مَا فَاتَهُ، بِخِلَافِ التَّعَمُّدِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَلْحَقَ بِهِ أَئِمَّتُنَا مَا إِذَا تَعَمَّدَ أَوْ جَهِلَ أَوْ كَرِهَ انْتَهَى. أَمَّا الْعَمْدُ فَقَدْ عَرَفْتَهُ، وَأَمَّا الْجَهْلُ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ إِذَا تَرَكَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ أَكْلِهِ جَهْلًا بِكَوْنِ التَّسْمِيَةِ سُنَّةً، فَلْيَقُلْ فِي أَثْنَائِهِ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِذَا عَلِمَ الْمَسْأَلَةَ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا يَخْفَى نُدْرَتُهُ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْجَهْلَ عُذْرٌ كَالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ التَّعَمُّدِ فَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَأَشَدُّ مِنْهُمَا عُذْرًا، مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَنْعُهُ عَنِ الْبَسْمَلَةِ إِلَّا جَهْرًا أَوْ لِسَانًا، فَحِينَئِذٍ يَكْتَفِي بِذِكْرِ اللَّهِ قَلْبًا، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ التَّعَمُّدِ، وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَصِيرُ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ، يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، فَكَذَا فِي أَوَّلِ الْأَكْلِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ. فَرْعٌ. نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَذَكَرَهَا فِي خِلَالِ الْوُضُوءِ، فَسَمَّى لَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ، بِخِلَافِ نَحْوِهِ فِي الْأَكْلِ كَذَا فِي الْغَايَةِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ فِي الْأَكْلِ تَحْصِيلَ السُّنَّةِ فِي الْبَاقِي لِاسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ، انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَوْ سَمَّى بَعْدَ فَرَاغِ الْأَكْلِ لَا يَكُونُ آتِيًا بِالسُّنَّةِ، لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَشْمَلُهُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِ الطَّعَامِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ لِيَمْنَعَ الشَّيْطَانَ وَبِالْفَرَاغِ لَا يُمْنَعُ، مَرْدُودٌ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِذَلِكَ فَحَسْبُ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَيْضًا لِيَقِيءَ الشَّيْطَانُ مَا أَكَلَهُ، وَالْمَقْصُودُ حُصُولُ ضَرَرِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَذَا الْغَرَضِ أَيْضًا لَأَمَرَ مَنْ قَعَدَ لِلْأَكْلِ، وَلَمْ يُسَمِّ سَابِقًا بِالتَّسْمِيَةِ لَاحِقًا، وَأَيْضًا فِي حَدِيثِ الِاسْتِقَاءِ تَقْيِيدٌ يُفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَثْنَاءُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيٍّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَأْكُلُ فَلَمْ يُسَمِّ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إِلَّا لُقْمَةٌ، فَلَمَّا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ، قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ اسْتَقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ، انْتَهَى. وَظَاهِرٌ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَيُرَدُّ بِهِ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ أَوْ كَانَ مُلْحَقًا بِهِمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (الْهَاشِمِيُّ الْبَصْرِيُّ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِهَا، (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ (أَنَّهُ) أَيْ عُمَرُ وَهُوَ رَبِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (طَعَامٌ فَقَالَ: ادْنُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ، أَمْرٌ مِنَ الدُّنُوِّ، أَيِ اقْرَبْ إِلَيَّ وَإِلَى الطَّعَامِ، (يَا بُنَيَّ) بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ شَفَقَةً وَاهْتِمَامًا بِحَالِهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِهَا (فَسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى) أَمْرُ نَدْبٍ اتِّفَاقًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسَنُّ لِلْمُبَسْمِلِ الْجَهْرُ لِيُسْمِعَ مَنْ

عِنْدَهُ، انْتَهَى. وَكَوْنُهُ سُنَّةً يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ صَرِيحٍ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ، نَعَمْ يُسْتَحَبُّ جَهْرُهَا لِيَشْرُدَ الشَّيْطَانُ عَنْهُ ; وَلِيَتَذَكَّرَ بِهَا رَفِيقُهُ، إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَحَدٌ (وَكُلْ بِيَمِينِكَ) قَالَ مِيرَكُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ الثَّلَاثَةَ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلنَّدْبِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَيُؤَيِّدُهُ وُرُودُ الْوَعِيدِ فِي الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: كُلْ بِيَمِينِكَ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تَأْكُلُ بِشِمَالِهَا، فَدَعَا عَلَيْهَا، فَأَصَابَهَا الطَّاعُونُ فَمَاتَتْ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الزَّجْرِ وَالسِّيَاسَةِ، انْتَهَى. وَوَرَدَ لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ. وَوَرَدَ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ، وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ، وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ، وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ، رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّشَبُّهِ بِالشَّيْطَانِ، فَيُفِيدُ الِاسْتِحْبَابَ (وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) أَيْ نَدْبًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: وُجُوبًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، وَمَزِيدِ شَرَهٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَانْتَصَرَ لَهُ السُّبْكِيُّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ، وَمَوَاضِعَ مِنَ الْأُمِّ، وَفِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ، أَنَّهُ يَحْرُمُ الْأَكْلُ مِنْ رَأْسِ الثَّرِيدِ، وَالْقِرَانُ فِي التَّمْرِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا مَكْرُوهَانِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ رِضَا مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ، وَإِلَّا فَلَا حُرْمَةَ وَلَا كَرَاهَةَ، لِمَا مَرَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ، وَالْجَوَابُ بِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ مَرْدُودٌ، بِأَنَّ أَنَسًا كَانَ يَأْكُلُ مَعَهُ، عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَكْلَ مِمَّا يَلِي الْآكِلَ سُنَّةٌ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، انْتَهَى. فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ التَّتَبُّعُ الْمَذْكُورُ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ عَلَى تَدْوِيرِهَا إِلَى مَا يَلِيهِ، ثُمَّ أَكْلُهُ مِنْهُ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ صَدَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرَاغِ أَنَسٍ مِنَ الْأَكْلِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ التَّتَبُّعِ بِيَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مِمَّا يَلِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي جَانِبَيْهِ، وَهَذَا أَظْهَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ لَوْنًا وَاحِدًا، فَلَا يَتَعَدَّى الْآكِلُ مِمَّا يَلِيهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَكْثَرَ فَيَتَعَدَّاهُ، نَعَمْ فِي الْفَاكِهَةِ مِمَّا لَا يُقَذَّرُ فِي الْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ مَا يَلِي الْآكِلَ، لَا كَرَاهَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ، وَلَا تَقَذُّرَ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمُ التَّعْمِيمَ غَفْلَةً عَنِ الْمَعْنَى وَالسُّنَّةِ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْمُخَصِّصُ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْمِيمُ فِي الْفَاكِهَةِ أَيْضًا، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِمَّا يَكُونُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَمَعَ هَذَا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَهِ، وَالتَّطَلُّعِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ،

وَتَرْكِ الْإِيثَارِ الَّذِي هُوَ اخْتِيَارُ الْأَبْرَارِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ دِرْهَمٍ (الزُّبَيْرِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ الثَّوْرِيُّ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ الْمُصَحَّحِ (عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رِيَاحٍ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَحْتِيَّةٍ (عَنْ رِيَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ) أَيْ مِنْ أَكْلِ مَأْكُولِهِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ، أَوْ مَعَ أَضْيَافِهِ، أَوْ فِي مَنْزِلِ الْمُضِيفِ، عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ الْآتِي، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ أُمَّتَهُ الضَّعِيفَةَ، مَعَ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ (قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ) أَيْ مُوَحِّدِينَ مُنْقَادِينَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ، قِيلَ: وَفَائِدَةُ إِيرَادِ الْحَمْدِ بَعْدَ الطَّعَامِ أَدَاءُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَطَلَبُ زِيَادَةِ النِّعْمَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعْمَةِ، فِي حُصُولِ مَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَتَوَقَّعُ حُصُولَهُ، وَانْدِفَاعِ مَا كَانَ يَخَافُ وُقُوعَهُ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَاعِثُ الْحَمْدِ هُنَا هُوَ الطَّعَامُ، ذَكَرَهُ أَوَّلًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَكَانَ السَّقْيُ مِنْ تَتِمَّتِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُقَارِنًا لَهُ فِي التَّحْقِيقِ غَالِبًا، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مَنْ ذَكَرَ النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ إِلَى النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ، فَذَكَرَ مَا هُوَ أَشْرَفُهَا، وَخَتَمَ بِهِ ; لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الِانْقِيَادِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا، قَدْرًا وَوَصْفًا وَوَقْتًا وَاحْتِيَاجًا وَاسْتِغْنَاءً بِحَسَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ وَقَضَاهُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ) يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيَّ الْكُلَاعِيَّ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، قَالَ: لَقِيتُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ، مَاتَ بِطَرَسُوسَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) قَدْ فَسَّرُوا الْمَائِدَةَ بِأَنَّهَا خِوَانٌ عَلَيْهِ طَعَامٌ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بِرِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْكُلْ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، فَقِيلَ: أَكَلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ ; لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ أَنَسًا مَا رَأَى وَرَآهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي أَوْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخِوَانِ مَا يَكُونُ بِخُصُوصِهِ وَالْمَائِدَةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ ; لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا تَحَرَّكَ أَوْ أَطْعَمَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْمَائِدَةُ وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ الطَّعَامِ أَوْ بَقِيَّتُهُ أَوْ إِنَاؤُهُ، فَيَكُونُ مُرَادُ أَبِي أُمَامَةَ إِذَا رُفِعَ مِنْ عِنْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وُضِعَ عَلَيْهِ أَوْ بَقِيَّتُهُ (يَقُولُ) أَيْ رَافِعًا صَوْتَهُ إِذْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْحَمْدِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ، إِذَا لَمْ يَفْرُغْ جُلَسَاؤُهُ، كَيْلَا يَكُونَ مَنْعًا لَهُمْ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِنْعَامُ بِالْإِطْعَامِ (حَمْدًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلْحَمْدِ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَوْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ (كَثِيرًا) أَيْ لَا نِهَايَةَ لِحَمْدِهِ كَمَا لَا غَايَةَ لِنِعَمِهِ (طَيِّبًا) أَيْ خَالِصًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (مُبَارَكًا) هُوَ وَمَا قَبْلَهُ صِفَاتٌ لِحَمْدًا، وَقَوْلُهُ: (فِيهِ) ضَمِيرُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَمْدِ أَيْ حَمْدًا ذَا بَرَكَةٍ دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ ; لِأَنَّ نِعَمَهُ لَا تَنْقَطِعُ عَنَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَمْدُنَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ أَيْضًا، وَلَوْ نِيَّةً وَاعْتِقَادًا (غَيْرَ مُوَدَّعٍ) بِنَصْبِ غَيْرِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْحَمْدِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَمُوَدَّعٍ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ غَيْرَ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ أَيْ مَا تَرَكَكَ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْقَائِلِ، أَيْ غَيْرَ تَارِكِ الْحَمْدِ أَوْ تَارِكِ الطَّلَبِ

وَالرَّغْبَةِ، فِيمَا عِنْدَهُ وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ لَا يُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ) إِذِ الرِّوَايَةُ فِيهِ لَيْسَتْ إِلَّا عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرَّسْمِ، وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَطْرُوحٍ، وَلَا مُعْرِضٍ عَنْهُ، بَلْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ لَا. لَا أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ كَمَا قِيلَ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّهُ بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَمْ تُسْتَفَدْ مِنْ سَابِقِهِ نَصًّا وَهِيَ أَنَّهُ لَا اسْتِغْنَاءَ لِأَحَدٍ عَنِ الْحَمْدِ لِوُجُوبِهِ بِهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ نِعَمِهِ، بَلْ نِعَمُهُ لَا تُحْصَى، وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ وَاجِبٌ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِوُجُوبِهِ أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَفْظًا يَأْثَمُ، بَلْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِهِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، وَمَنْ أَتَى بِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ، أَمَّا شُكْرُ النِّعَمِ بِمَعْنَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ إِجْمَاعًا ثُمَّ قَوْلُهُ: (رَبَّنَا) بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَجْهِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا «غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ» الْحَدِيثَ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ، فَيَكْفِي لَكِنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ وَيَكْفِي وَلَا يُكْفَى، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ أَيْ: غَيْرَ مَرْدُودٍ عَلَيْهِ إِنْعَامُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الْكِفَايَةِ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُكْفًى، رَزَقَ عِبَادَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَكْفِيهِمْ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ، وَمَكْفِيٌّ بِمَعْنَى مَقْلُوبٍ مِنَ الْإِكْفَاءِ وَهُوَ الْقَلْبُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ غَيْرُ مُكَافَأٍ بِالْهَمْزَةِ، أَيْ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُكَافَأُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ هَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِالْيَاءِ وَلِكُلٍّ مَعْنًى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَ اسْمِ الْمَفْعُولِ فِي مُوَدَّعٍ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى الْحَمْدِ أَوْ إِلَى الطَّعَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ «غَيْرَ» مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ يَعْنِي مِنَ اللَّهِ فِي الْحَمْدِ لِلَّهِ، بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَوِ الْفَاعِلِيَّةِ فِيهِ، أَيِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُوَدَّعٍ، أَيْ غَيْرُ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ ; لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ هُوَ الْمَرْجِعُ وَالْمُسْتَغَاثُ وَالْمَدْعُوُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ مَرْفُوعًا أَيْ هُوَ غَيْرُ مُوَدَّعٍ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ غَيْرُ مَتْرُوكٍ، بَلِ الِاشْتِغَالَ بِهِ دَائِمٌ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، كَمَا أَنَّ نِعَمَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تَنْقَطِعُ عَنَّا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ ضَرُورِيٌّ دَائِمًا، وَنَصْبُ «غَيْرَ» وَرَفْعُهُ بِحَالِهِمَا، وَعَلَى الثَّالِثِ مَعْنَاهُ أَنَّ الطَّعَامَ غَيْرُ مَتْرُوكٍ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ دَائِمَةٌ، وَجُمْلَةُ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ فِي غَيْرٍ بِحَالِهِمَا، وَقَوْلُهُ: رَبُّنَا رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ رَبُّنَا، أَوْ أَنْتَ رَبُّنَا اسْمَعْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «غَيْرُ» بِالرَّفْعِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَنْهُ، وَاضِحُ الْفَسَادِ، إِذْ ضَمِيرُ عَنْهُ لِلْحَمْدِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَجْهُ أَنَّ ضَمِيرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، فَلَا فَسَادَ حِينَئِذٍ أَصْلًا، وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: «رَبَّنَا» ، حَيْثُ قَالَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ رَبُّنَا هَذَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي نَصْبِهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الِاخْتِصَاصِ أَوْ إِضْمَارِ، أَعْنِي أَيْضًا خِلَافًا لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى النِّدَاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ وَأَفْضَيْتَ، وَهَدَيْتَ وَأَحْيَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ عِنْدَ قَوْمٍ، لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَدْعُوَ لَهُمْ، فَدَعَا فِي مَنْزِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي مَنْزِلِ سَعْدٍ، بِقَوْلِهِ: أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَسَقَاهُ آخَرُ لَبَنًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْتِعْهُ بِشَبَابِهِ، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يَرَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ. رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَفِي خَبَرٍ مُرْسَلٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ مَعَ قَوْمٍ كَانَ آخِرَهُمْ أَكَلًا، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا، إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ فَلَا يَقُومُ الرَّجُلُ وَإِنْ شَبِعَ، حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةً. (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ) بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ، أَيِ ابْنُ وَزِيرٍ قِيلَ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ مُسْتَمْلَى وَكِيعٍ، حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، مَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، (

(باب ما جاء في قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم)

حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، مَمْدُودًا، فِي آخِرِهِ يَاءُ النِّسْبَةِ، (عَنْ بُدَيْلِ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ فَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ، (بْنِ مَيْسَرَةَ الْعُقَيْلِيِّ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا (عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ مِنْ قَبِيلِ. وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي. أَيْ طَعَامًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فِي سِتَّةٍ) أَيْ مَعَ سِتَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا أَيْ كَائِنًا فِي سِتَّةٍ، (مِنْ أَصْحَابِهِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الطَّعَامِ، (فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ) أَيْ جَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّسْمِيَةَ، وَشَرَعَ فِي الْأَكْلِ، فَأَكَلَ الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ (بِلُقْمَتَيْنِ) وَفِي نُسْخَةٍ فِي لُقْمَتَيْنِ، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ سَمَّى) أَيْ لَوْ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: بِسْمِ اللَّهِ (لَكَفَاكُمْ) أَيِ الطَّعَامُ بِبَرَكَةِ التَّسْمِيَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْخِطَابِ الْأَعْرَابِيُّ أَيْضًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَكَفَانَا، وَالْأَوَّلُ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْأَذْكَارِ، قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُتَّحِدَةً مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَيُحْتَمَلُ التَّعَدُّدُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّ عَائِشَةَ رَأَتْ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ بِعَيْنِهَا، قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا سَمِعَتْ شَرْحَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَاضِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ زَكَرِيَّا) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ (بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ) اللَّامُ لِلْجِنْسِ أَوِ الِاسْتِغْرَاقِ (أَنْ يَأْكُلَ) أَيْ بِسَبَبِ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ وَقْتَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لِيَرْضَى أَيْ يُحِبُّ أَنْ يَأْكُلَ، (الْأَكْلَةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيِ الْمَرَّةَ مِنَ الْأَكْلِ حَتَّى يَشْبَعَ، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيِ اللُّقْمَةَ، وَهِيَ أَبْلَغُ فِي بَيَانِ اهْتِمَامِ أَدَاءِ الْحَمْدِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْفَقُ مَعَ قَوْلِهِ (أَوْ يَشْرَبُ الشَّرْبَةَ) فَإِنَّهَا بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِهِ (فَيَحْمَدُهُ) بِالرَّفْعِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ نُسَخِ الشَّمَائِلِ، أَيْ فَهُوَ أَيِ الْعَبْدُ يَحْمَدُهُ (عَلَيْهَا) عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَكْلَةِ وَالشَّرْبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الْفِقْرَةِ الْأُولَى أَيْضًا، فَلَا إِشْكَالَ، ثُمَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا شَكُّ رَاوٍ، ثُمَّ قَالَ: رَوَى فَيَحْمَدَهُ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْأَوَّلُ، فَتَدَبَّرْ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَدَحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

فِي الْمُغْرِبِ الْقَدَحُ بِفَتْحَتَيْنِ الَّذِي يُشْرَبُ بِهِ. (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَدَحَ خَشَبٍ) بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: أَوْ بِمَعْنَى مِنْ مَعَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ (غَلِيظًا مُضَبَّبًا بِحَدِيدٍ) وَفِي الْمُغْرِبِ بَابٌ مُضَبَّبٌ مَشْدُودٌ بِالضَّبَّاتِ، جَمْعُ ضَبَّةٍ، وَهِيَ حَدِيدَتُهُ الْعَرِيضَةُ الَّتِي يُضَبَّبُ بِهَا، وَهُمَا بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ لِلشَّمَائِلِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الْقَدَحِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، وَجَعَلَ أَصْلَ الْحَدِيثِ بِجَرِّهِمَا، ثُمَّ قَالَ: وَفِي نُسْخَةٍ «غَلِيظًا مُضَبَّبًا» ، قَالَ: وَالْأُولَى مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ جَامِعِ الْمُؤَلِّفِ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا تَرْجِيحُ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَيْ كَمَا سَيَأْتِي بِجَمِيعِ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَجَعْلُ الْأُولَى مِنْ قَبِيلِ «جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ» ، مِمَّا جُرَّ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ فَبَعِيدٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا هَاهُنَا، وَمَا فِي «جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ» ، أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْقَائِلَ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يُقَارِبُهُ، لَا أَنَّهُ يُمَاثِلُهُ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ الْخَشَبُ بِكَوْنِهِ غَلِيظًا مُضَبَّبًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ هُنَا، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَدَحِ خَشَبٍ بِمَعْنَى مِنْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَدَحَ مَا أُخِذَ مِنْ خَشَبٍ مُضَبَّبًا، وَأَيْضًا فَالْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ الْغَلِيظِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَدَحِ لَا أَنَّهُ لِلْخَشَبِ، فَإِنَّهُ لَا كَلَامَ فِيهِ فَالصَّوَابُ أَنْ يُثْبَتَ. فِي الْجَامِعِ «غَلِيظٌ مُضَبَّبٌ» أَيْ يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَذَلِكَ الْقَدَحُ غَلِيظٌ مُضَبَّبٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ رِوَايَةِ الرَّفْعِ لَا يُجْعَلُ أَصْلًا بَلْ يُذْكَرُ رِوَايَةً. نَعَمْ ذَكَرَ شَارِحٌ لِهَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ «غَلِيظٌ مُضَبَّبٌ» ، كَمَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ أَوْ مَجْرُورٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ إِلَّا إِذَا وَرَدَ جَرُّهُمَا بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ (فَقَالَ) أَيْ أَنَسٌ (يَا ثَابِتُ هَذَا قَدَحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ تَوَاضُعِهِ، وَتَرْكِ تَكَلُّفِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ هُوَ قَدْحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ أَيْ طُولُهُ أَقْصَرُ مِنْ عَرْضِهِ، اتُّخِذَ مِنَ النُّضَارِ بِضَمِّ النُّونِ وَخِفَّةِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَاهُ الْعُودُ الْخَالِصُ، وَقَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ السِّيَرِ: أَصْلُهُ مِنَ النَّبْعِ بِفَتْحِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَثْلِ يَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَدِ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِفِضَّةٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَاصِلَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَسٌ، وَكَلَامُ الْعَسْقَلَانِيِّ يَمِيلُ إِلَى الْأَوَّلِ، حَيْثُ قَالَ: هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ انْصَدَعَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشِّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاصِلُ أَنَسًا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ «فَجَعَلْتُ مَكَانَ الشِّعْبِ سِلْسِلَةً» ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: فَاتَّخَذَ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِاتِّخَاذِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَجَعَلْتُ عَلَى الْإِسْنَادِ الْحَقِيقِيِّ، فَاتَّفَقَ الرِّوَايَتَانِ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ فَجُعِلَتْ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُسْنَدًا إِلَى سِلْسِلَةٍ، أَوْ فَجُعِلَتْ سِلْسِلَةٌ أُخْرَى، أَوْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ مَكَانَ الشِّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ ذَهَبٍ، لِمَا قَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَ حَلْقَةِ قَدَحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَنَهَاهُ أَبُو طَلْحَةَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةُ أَنَسٍ، وَقَالَ: لَا تُغَيِّرْ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَاشْتَرَى هَذَا الْقَدَحَ مِنْ مِيرَاثِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ بِثَمَانِ مِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رَآهُ بِالْبَصْرَةِ وَشَرِبَ مِنْهُ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَاصِمٍ رَأَيْتُهُ عِنْدَ أَنَسٍ فِيهِ ضَبَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (حُمَيْدٌ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُقَالُ سَقَاهُ وَأَسْقَاهُ بِمَعْنًى فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنْ جَعَلُوا لِلْخَيْرِ سَقَى وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا وَأَسْقَى لِضِدِّهِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا انْتَهَى. وَفِيهِ مَعَ جَهْلِ الْجَاعِلِينَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا أَيْ كَثِيرًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاءَ مُسْتَعْمَلٌ فِي ضِدِّ الْخَيْرِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي السَّقْيِ، كَمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ زِيَادَةِ الْهَمْزَةِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنَ الْبَابَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِسْقَاءِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ضِدِّ الْخَيْرِ: وَسُقُوا

(باب ما جاء في صفة فاكهة رسول الله صلى الله عليه وسلم)

مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ نَعَمْ. قَدْ يُسْتَعْمَلُ الْإِسْقَاءُ لِمَعَانٍ أُخَرَ، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَلَعَلَّ أَنَسًا عَدَلَ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْأَبْلَغَ فِي الْمَقَامِ مَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ خَوْفَ الِالْتِبَاسِ، وَقَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِهَذَا الْقَدَحِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقَدَحُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَعَدُّدُ الْقَدَحِ النَّبَوِيِّ عِنْدَ أَنَسٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَدَحُ الْكَائِنُ مِنَ الْخَشَبِ الْغَلِيظِ بَعْدَ الصُّنْعِ الْمُضَبَّبِ بِحَدِيدٍ، فَالتَّضْبِيبُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْإِشَارَةِ ; لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ بِجَمِيعِ خُصُوصِيَّاتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِابْنِ حَجَرٍ هُنَا كَلَامٌ بَيْنَ طَرَفَيْهِ تَنَافٍ فِي الْمَعْنَى، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ بِقَدَحِي هَذَا (الشَّرَابَ) أَيْ جِنْسُ مَا يُشْرَبُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ (كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ وَأَبْدَلَ مِنْهُ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، اهْتِمَامًا بِهَا وَلِكَوْنِهَا أَشْهَرَ أَنْوَاعِهِ، فَقَالَ: (الْمَاءَ) وَبَدَأَ بِهِ ; لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ الْأَتَمُّ (وَالنَّبِيذَ) وَهُوَ مَاءٌ يُجْعَلُ فِيهِ تَمَرَاتٌ أَوْ غَيْرُهَا، مِنَ الْحَلَوِيَّاتِ كَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَكَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ لِيَحْلُوَ. «وَكَانَ يُنْبَذُ لَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيَشْرَبُهُ إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَاللَّيْلَةَ الَّتِي تَجِيءُ وَالْغَدَ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ أَمَرَ فَصُبَّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا النَّبِيذُ لَهُ نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي زِيَادَةِ الْقُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثِ أَيَّامٍ خَوْفًا مِنْ تَغَيُّرِهِ إِلَى الْإِسْكَارِ، (وَالْعَسَلَ) أَيْ مَاءَ الْعَسَلِ ; لِأَنَّهُ يُلْحَسُ وَلَا يُشْرَبُ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِالتَّغْلِيبِ، كَذَا ذَكَرُوهُ لَكِنْ قَالَ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ (وَاللَّبَنَ) . (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ فَاكِهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَاكِهَةُ هِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا، وَقِيلَ: بَلْ مَا عَدَا التَّمْرَ وَالرُّمَّانَ، وَقَائِلُ هَذَا كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اخْتِصَاصِهَا بِالذِّكْرِ وَعَطْفِهِمَا عَلَى الْفَاكِهَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، قُلْتُ: الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ ; وَلِأَنَّ التَّمْرَ غِذَاءٌ وَالرُّمَّانَ دَوَاءٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: هِيَ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ أَيْ يُتَنَعَّمُ بِهِ، وَلَا يُتَغَذَّى بِهِ، كَالطَّعَامِ انْتَهَى. وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَلَا يُتَدَاوَى بِهِ، لَكِنْ تَرَكَهُ لِلْوُضُوحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالزَّايِ مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي فَزَارَةَ (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِضَمٍّ، وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ مَمْدُودًا (بِالرُّطَبِ) أَيْ مَصْحُوبًا مَعَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُقَدَّمَ أَصْلٌ فِي الْمَأْكُولِ، كَالْخُبْزِ وَالْمُؤَخَّرَ كَالْإِدَامِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِثَّاءً، وَفِي شِمَالِهِ رُطَبًا، وَهُوَ يَأْكُلُ مِنْ ذَا مَرَّةً، وَمِنْ ذَا مَرَّةً، انْتَهَى. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَبْدِيلِ مَا فِي يَدَيْهِ ; لِئَلَّا يَلْزَمَ الْأَكْلَ بِالشِّمَالِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الطَّعَامَيْنِ مَعًا، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الْخِلَافِ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ هَذَا التَّوَسُّعِ وَالتَّرَفُّهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ مُرَاعَاةِ صِفَاتِ الْأَطْعِمَةِ، وَطَبَائِعِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِهَا، عَلَى قَاعِدَةِ الطِّبِّ ; لِأَنَّ فِي الرُّطَبِ حَرَارَةً، وَفِي الْقِثَّاءِ بُرُودَةً، فَإِذَا أُكِلَا مَعًا اعْتَدَلَا، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْمُرَكَّبَاتِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَمِنْ فَوَائِدِ أَكْلِ هَذَا الْمُرَكَّبِ الْمُعْتَدِلِ تَعْدِيلُ الْمِزَاجِ، وَتَسْمِينُ الْبَدَنِ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «أَرَادَتْ أُمِّي أَنْ تُعَالِجَنِي لِلسِّمَنِ لِتُدْخِلَنِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ، فَسَمِنْتُ كَأَحْسَنِ السِّمَنِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ التَّمْرُ بِالْقِثَّاءِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا جُمِعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَّمْنَا لَهُ زُبْدًا وَتَمْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ.

(حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (الْبَصْرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ) وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطِّبِّ لَهُ بِسَنَدٍ، فِيهِ ضَعْفٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ، وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ، فَيَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْبِطِّيخِ، وَكَانَ أَحَبَّ الْفَاكِهَةِ إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، وَيَقُولُ: يُكْسَرُ حَرُّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا، وَبَرْدُ هَذَا بِحَرِّ هَذَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْبِطِّيخُ كَسِكِّينٍ الْبِطِّيخُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْبِطِّيخِ، فَقِيلَ: هُوَ الْأَصْفَرُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بِالْخِرْبِزِ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَخْضَرُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ رَطْبٌ بَارِدٌ، وَيُعَادِلُ حَرَارَةَ الرُّطَبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ بِأَنَّهُ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً، وَفَعَلَ هَذَا أُخْرَى، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، وَيَقُولُ: «يَدْفَعُ حَرُّ هَذَا بَرْدَ هَذَا، وَبَرْدُ هَذَا حَرَّ هَذَا» ، وَفِي الْبِطِّيخِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا هَاهُنَا شَيْءٌ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَخْضَرُ، وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي جَلَاءٍ، وَهُوَ أَسْرَعُ انْحِدَارًا عَنِ الْمَعِدَةِ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ، انْتَهَى. (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (حَدَّثَنَا أَبِي) أَيْ جَرِيرٌ (قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدًا) بِالتَّصْغِيرِ (يَقُولُ) أَيْ حُمَيْدٌ قَالَ: وَهْبٌ أَوْ سَمِعْتُ حُمَيْدًا يَقُولُ: وَهْبٌ (أَوْ قَالَ) أَيْ جَرِيرٌ (حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، قَالَ وَهْبٌ) وَالْمَقْصُودُ غَايَةُ الِاحْتِيَاطِ فِي عِبَارَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِلَّا فَمَرْتَبَةُ السَّمَاعِ وَالْقَوْلِ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي أُصُولِ اصْطِلَاحَاتِهِمْ (وَكَانَ) أَيْ حُمَيْدٌ (صَدِيقًا لَهُ) أَيْ لِوَهْبٍ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَهُوَ بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى الْحَبِيبِ الصَّادِقِ فِي الْمُصَافَاةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ كَثِيرَ الصِّدْقِ، وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ: «لَهُ» ، لَا مُلَاءَمَةَ لَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى وَكَانَ حُمَيْدٌ مُصَدِّقًا لِوَهْبٍ فِي رِوَايَتِهِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْخِرْبِزِ وَالرُّطَبِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي آخِرِهَا زَايٌ وَهُوَ الْبِطِّيخُ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُعَرَّبُ الْخَرْبَزَةِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْبَاءِ وَفِي آخِرِهَا هَاءٌ، وَهُوَ الْأَصْفَرُ فَيُحْمَلُ عَلَى نَوْعٍ مِنْهُ لَمْ يَتِمَّ نُضْجُهُ، فَإِنَّ فِيهِ بُرُودَةً يَعْدِلُهَا الرُّطَبُ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الْأَخْضَرُ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَصْفَرَ فِيهِ حَرَارَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْأَصْفَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلرُّطَبِ بُرُودَةً، وَإِنْ كَانَ فِيهِ لِحَلَاوَتِهِ طَرَفُ حَرَارَةٍ، هَذَا فَقَدْ رَوَى الطَّيَالِسِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْخِرْبِزَ بِالرُّطَبِ، وَيَقُولُ: هُمَا الْأَطْيَبَانِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى اللَّبَنَ بِالتَّمْرِ الْأَطْيَبَيْنِ.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ) نِسْبَةً إِلَى الرَّمْلَةِ وَهِيَ مَوَاضِعُ أَشْهَرُهَا بَلَدٌ بِالشَّامِ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ (حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) بِضَمِّ الرَّاءِ (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ) أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ لَهُ طُرُقًا كَثِيرَةً عَنْ عَائِشَةَ، وَكَذَا عَنْ غَيْرِهَا، فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، هَذَا وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ، كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ وَيُلْقِي النَّوَى عَلَى الطَّبَقِ، وَلَعَلَّ الطَّبَقَ غَيْرُ طَبَقِ الرُّطَبِ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَى الشِّيرَازِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ تُلْقَى النَّوَاةُ عَلَى الطَّبَقِ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ الرُّطَبُ أَوِ التَّمْرُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَقْذَرُ مِنْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: «الْعِنَبُ دُو دُو - يَعْنِي اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ - وَالتَّمْرُ يَكْ يَكْ» يَعْنِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَهُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْأَعَاجِمِ لَا أَصْلَ لَهُ، ذَكَرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا السَّخَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ خَرْطًا، يُقَالُ: خَرَطَ الْعُنْقُودَ وَاخْتَرَطَهُ إِذَا وَضَعَهُ فِي فِيهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ حَبَّهُ وَيُخْرِجُ عُرْجُونَهُ عَارِيًا مِنْهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَالْحَدِيثُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَكِتَابُهُ هَذَا خَالٍ عَنِ الْمَوْضُوعِ، فَلَا يُعَارِضُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَفِي الْغَيْلَانِيَّاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ خَرْطًا، وَفِي رِوَايَةٍ بِالصَّادِ بَدَلَ الطَّاءِ، لَكِنْ قَالَ الْعَقِيلِيُّ: لَا أَصْلَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، انْتَهَى. مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ لَا أَصْلَ لِسَنَدِهِ الَّذِي هُوَ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ، وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَذَكَرْنَاهُ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْمِشْكَاةِ، ثُمَّ أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَوْضُوعِ لِلْفَاكِهَةِ، أَنَّهُ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ: «آخِرُ طَعَامٍ أَكَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ بَصَلٌ» انْتَهَى. وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْمِشْكَاةِ فِي بَابِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ح) إِشَارَةٌ إِلَى تَحْوِيلِ السَّنَدِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، حَيْثُ قَالَ: (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مَعْنٌ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ) وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى (إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ) أَيْ بَاكُورَةَ كُلِّ فَاكِهَةٍ (جَاءُوا بِهِ) أَيْ بِأَوَّلِ الثَّمَرِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِيثَارًا لَهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حُبًّا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِجَنَابِهِ، وَطَلَبًا لِلْبَرَكَةِ، فِيمَا جَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ، وَطَلَبًا لِمَزِيدِ اسْتِدْرَارِ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَيَرَوْنَهُ أَوْلَى النَّاسِ بِمَا سِيقَ إِلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلَفَاؤُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ كَذَلِكَ، (فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ) أَيْ مُسْتَقْبِلًا لِلنِّعْمَةِ الْمُجَدَّدَةِ بِالتَّضَرُّعِ وَالْمَسْأَلَةِ، وَالتَّوَجُّهِ وَالْإِقْبَالِ التَّامِّ إِلَى الْمُنْعِمِ الْحَقِيقِيِّ، طَلَبًا لِمَزِيدِ الْإِنْعَامِ عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثِمَارِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا) أَيْ عُمُومًا شَامِلًا لِأَهْلِهَا وَثِمَارِهَا، وَسَائِرِ مَنَافِعِهَا (وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا) أَيْ خُصُوصًا وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَفِي مُدِّنَا) وَالْمُرَادُ بِهِ الطَّعَامُ الَّذِي يُكَالُ بِالصِّيعَانِ وَالْأَمْدَادِ، فَيَكُونُ لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ فِي

أَقْوَاتِهِمْ فِي عُمُومِ أَوْقَاتِهِمْ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا الْأَصْلُ فِي أُمُورِ مَعَاشِهِمُ الْمُعِينَةُ عَلَى أُمُورِ مَعَادِهِمْ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الثِّمَارَ لِأَنَّ الْمَقَامَ كَانَ مُسْتَدْعِيًا لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الصَّاعَ وَالْمُدَّ اهْتِمَامًا لِشَأْنِهِمَا، وَالصَّاعُ مِكْيَالٌ يَسَعُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْمُدِّ فَقِيلَ: هُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَفُقَهَاءِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ: هُوَ رِطْلَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءِ الْعِرَاقِ، فَيَكُونُ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا، عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَأَدِلَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي نَحْوِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ ضَيَّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ صَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَّهُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ، ثُمَّ يَنْبَغِي لِكُلِّ آخِذِ بَاكُورَةٍ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمُبَارَكِ إِلَى رَبِّهَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْبَرَكَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ وَاللُّزُومِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَرَكَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ دِينِيَّةً، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ وَالْبَقَاءِ لَهَا، كَبَقَاءِ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ وَثَبَاتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ دُنْيَوِيَّةً مِنْ تَكْثِيرِ الْكَيْلِ وَالْقَدْرِ بِهَا، حَتَّى يَكْفِيَ مِنْهُ فِي الْمَدِينَةِ مَا لَا يَكْفِي مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، أَوْ يُرْجِعُ الْبَرَكَةَ إِلَى التَّصَرُّفِ بِهَا فِي التِّجَارَاتِ وَأَرْبَاحِهَا، أَوْ إِلَى كَثْرَةِ مَا يُكَالُ بِهَا مِنْ غَلَّاتِهَا وَثِمَارِهَا، أَوْ تُرْجَعُ إِلَى الزِّيَادَةِ فِيمَا يُكَالُ بِهَا لِاتِّسَاعِ عَيْشِهِمْ وَكَثْرَتِهِ، بَعْدَ ضِيقِهِ لِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَسَّعَ مِنْ فَضْلِهِ لَهُمْ، وَمَلَّكَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْخِصْبِ وَالرِّيفِ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا، حَتَّى كَثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاتَّسَعَ عَيْشُهُمْ وَصَارَتْ هَذِهِ الْبَرَكَةُ فِي الْكَيْلِ نَفْسِهِ، فَزَادَ مُدُّهُمْ وَصَارَ هَاشِمِيًّا، مِثْلَ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً وَنِصْفًا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ ظُهُورُ إِجَابَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبُولِهِ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ مِنْ تِلْكَ التَّوْجِيهَاتِ الْبَرَكَةَ فِي نَفْسِ مَكِيلِ الْمَدِينَةِ، بِحَيْثُ يَكْفِي الْمُدُّ فِيهَا لِمَنْ لَا يَكْفِيهِ فِي غَيْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا وُجِدَتِ الْبَرَكَةُ فِيهَا فِي وَقْتٍ حَصَلَتْ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ دَوَامُهَا فِي كُلِّ حِينٍ، وَلِكُلِّ شَخْصٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِاتِّسَاعِ عَيْشِهِمْ، إِلَخْ. لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ) وَلَمْ يَقُلْ فِي وَصْفِهِ خَلِيلُكَ أَوْ حَبِيبُكَ تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ، أَوْ تَأَدُّبًا مَعَ جَدِّهِ (وَأَنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ) أَيْ بِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (لِمَكَّةَ) وَدُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ قَوْلُهُ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ يَعْنِي وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ، بِأَنْ تَجْلِبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ النِّعْمَةَ فِي أَنْ يُرْزَقُوا أَنْوَاعَ الثَّمَرَاتِ حَاضِرَةً فِي وَادِيَاتٍ لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا نَجْمٌ، وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَاءٌ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجَابَ دَعْوَتَهُ وَجَعَلَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَعَمْرِي إِنَّ دُعَاءَ حَبِيبِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتُجِيبَ لَهَا، وَضَاعَفَ خَيْرَهَا، بِمَا جَلَبَ إِلَيْهَا فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ إِلَى مَغَارِبِهَا، كَكُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَخَاقَانَ مِمَّا لَا يُحْصَى وَلَا يُحْصَرُ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ، يَأْرِزُ الدِّينُ إِلَيْهَا مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ وَشَاسِعِ الْبِلَادِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وَالضَّمِيرَانِ لِمِثْلِ مَا دَعَاكَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخَلِيلَ بِمَعْنَى الْفَاعِلٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُلَّةِ بِضَمِّ الْخَاءِ، وَهِيَ الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتِ الْقَلْبَ، وَتَمَكَّنَتْ فِي خِلَالِهِ، وَهَذَا صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أَيْ سَالِمٍ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَّةِ، بِالْفَتْحِ وَهِيَ الْحَاجَةُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَإِظْهَارِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمِهِ لَدَيْهِ، حَتَّى قَالَ حِينَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ لِجِبْرِيلَ حَيْثُ: قَالَ لَهُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ أَمَّا إِلَيْكَ، فَلَا، قَالَ: فَاسْأَلْ رَبَّكَ، قَالَ: كَفَى عِلْمُهُ بِالْحَالِ عَنِ السُّؤَالِ بِالْمَقَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلَّةَ لِنَفْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا خَلِيلُ اللَّهِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ هُوَ أَرْفَعُ

مِنَ الْخَلِيلِ، فَإِنَّهُ خُصَّ بِمَقَامِ الْمَحْبُوبِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ مِنْ مَقَامِ الْخُلَّةِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ اللَّائِقِ بِهِ، التَّوَاضُعُ وَالِانْكِسَارُ، لَا التَّمَدُّحُ وَالِافْتِخَارُ، وَأَيْضًا رَاعَى الْأَدَبَ مَعَ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَمَيُّزِهِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَمِثْلَهُ مَعَهُ (قَالَ) أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ) أَيْ: أَيَّ صَغِيرٍ (يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: «وُلَيْدٍ» بِالتَّصْغِيرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اخْتِيَارَ الْأَصْغَرِ فَالْأَصْغَرِ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ الْأَوَّلُ بِدُونِ «لَهُ» ، قَالَ مِيرَكْ شَاهْ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَمِثْلَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ، فَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الرِّوَايَتَيْنِ الْمُطْلَقَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُقَيَّدَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ قَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ الرِّوَايَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَصْغَرُ وَلِيدٍ لَهُ، يَعْنِي لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْتَنِي فِي أَنَّهُ يُعْطِيهِ لِأَصْغَرِ وَلَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بِحَسَبِ مَا اتُّفِقَ لَهُ مِنْ حُضُورِ أَيِّ صَغِيرٍ ظَهَرَ، نَعَمْ. لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنَ الصِّغَارِ، رُبَّمَا يَخُصُّ أَحَدًا مِنْ صِغَارِ أَهْلِ بَيْتِهِ لِقُرْبِهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ صَغِيرٍ آخَرَ فَلَا يُتَصَوَّرُ إِيثَارُ أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، عَلَى أَوْلَادِ سَائِرِ أَصْحَابِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ كَرِيمِ أَخْلَاقِهِ، وَحُسْنِ آدَابِهِ، ثُمَّ تَخْصِيصُ الصِّغَارِ بِبَاكُورَةِ الثِّمَارِ لِلْمُنَاسَبَةِ الْوَاضِحَةِ بَيْنَهُمَا، مِنْ حُدْثَانِ عَهْدِهِمَا بِالْإِبْدَاعِ ; وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ أَرْغَبُ فِيهِ وَأَكْثَرُ تَطَلُّبًا، وَأَشَدُّ حِرْصًا، وَلَفْتًا مَعَ مَا فِي إِيثَارِهِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ قَمْعِ الشَّرَهِ الْمُوجِبِ لِتَنَاوُلِهِ، وَكَسْرِ الشَّهْوَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَوْقِهِ، وَمِنْ أَنَّ النُّفُوسَ الزَّكِيَّةَ لَا تَرْكَنُ إِلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنَ الْبَاكُورَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعُمَّ وُجُودُهُ، وَيَقْدِرَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى أَكْلِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ حُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ وَمَرْحَمَتِهِ وَمُلَاطَفَتِهِ مَعَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَتَنْزِيلُ كُلِّ أَحَدٍ فِي مَقَامِهِ وَمَرْتَبَتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ الرُّبَيِّعِ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ، عَلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ (بِنْتِ مُعَوَّذِ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا عَلَى الْأَشْهَرِ وَجَزَمَ الْوَقْشِيُّ أَنَّهُ بِالْكَسْرِ كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْحَافِظِ بْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ، وَأَغْرَبَ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ، وَتَبِعَ الْوَقْشِيَّ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى الْكَسْرِ (بْنِ عَفْرَاءَ) وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ، وَعَفْرَاءُ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ الْحَارِثُ (قَالَتْ) أَيْ بِنْتُ مُعَوَّذٍ (بَعَثَنِي مُعَاذٌ) أَيِ ابْنُ عَفْرَاءَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَهُوَ عَمُّهَا وَهُوَ الْمُشَارِكُ لِأَخِيهِ فِي قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ بِبَدْرٍ، وَتَمَّ أَمْرُ قَتْلِهِ عَلَى يَدِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنْ جَزَّ رَأَسَهُ وَهُوَ مَجْرُوحٌ مَطْرُوحٌ يَتَكَلَّمُ (بِقِنَاعٍ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ مَعَ إِرَادَةِ الْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ الطَّبَقُ الَّذِي يُؤْكَلُ فِيهِ، وَقِيلَ: الَّذِي يُهْدَى عَلَيْهِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: (مِنْ رُطَبٍ) لِلتَّبْعِيضِ أَيْ بِقِنَاعٍ فِيهِ بَعْضُ رُطَبٍ (وَعَلَيْهِ) أَيْ وَعَلَى الْقِنَاعِ أَوِ الرُّطَبِ (أَجْرٌ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ وَرَاءٍ مُنَوَّنٍ مَكْسُورٍ جَمْعُ جُرٍّ وَبِكَسْرِ الْجِيمِ، وَقِيلَ: بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ وَاوٌ كَأَدْلٍ جَمْعُ دَلْوٍ، وَهُوَ الصَّغِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْحَنْظَلِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْقِثَّاءُ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ بِمِنِ الْبَيَانِيَّةِ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: هُوَ صِغَارُ الْقِثَّاءِ

(باب في صفة شراب رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وَقِيلَ: الرُّمَّانُ وَأَصْلُهُ أَجْرُوٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا جَمَعَتْ فِعْلًا عَلَى أَفْعُلٍ، كَضِرْسٍ وَأَضْرُسٍ، وَكَلْبٍ وَأَكْلُبٍ أَيْ صِغَارٍ (مِنْ قِثَّاءِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَبِضَمٍّ (زُغْبٍ) بِضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، جَمْعُ الْأَزْغَبِ مِنَ الزَّغَبِ بِالْفَتْحِ، هُوَ صِغَارُ الرِّيشِ أَوَّلُ مَا طَلَعَ شَبَّهَ بِهِ مَا عَلَى الْقِثَّاءِ مِنَ الزَّغَبِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَرُوِيَ زُغْبٌ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ أَجْرٍ، وَمَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ قِثَّاءٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ وَأَجْرٍ زُغْبٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ وَعَلَى قِنَاعِ الرُّطَبِ قِنَاعٌ آخَرُ مِنْ قِثَّاءِ زُغْبٍ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ جَرُّ زُغْبٍ (كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْقِثَّاءَ) أَيْ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الرُّطَبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُؤَيِّدُ لِمَا سَبَقَ مِنْ جَمْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا (فَأَتَيْتُ بِهِ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ جِئْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِنَاعِ الْمَذْكُورِ، وَفِي نُسَخٍ بِهَا أَيِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ (وَعِنْدَهُ) الْوَاوُ لِلْحَالِ (حُلِيَّةٌ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ جَمْعُ حُلِيٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَقَدْ يُكْسَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ قُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَكَذَا بِكَسْرِهَا عَلَى الْإِتْبَاعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَتَخْفِيفِ تَحْتِيَّةٍ عَلَى وَزْنٍ لِحْيَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِوُجُودِ التَّاءِ وَاخْتَارَهُ الْحَنَفِيُّ. وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الْحُلِيُّ عَلَى فُعُولٍ جَمْعٌ كَثُدِيٍّ فِي جَمْعِ ثَدْيٍ، وَهِيَ مِمَّا تَتَحَلَّى بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، انْتَهَى. وَأَمَّا وَجْهُ الْحُلِيَّةِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَعَ تَاءِ التَّأْنِيثِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا إِذَا جَوَّزَ إِلْحَاقَ التَّاءِ بِالْجَمْعِ، انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ الْحَلْيُ بِالْفَتْحِ مَا يُزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَصُوغِ الْمَعْدِنِيَّاتِ أَوِ الْحِجَارَةِ، جَمْعُهُ حُلِيٌّ كَدُلِيٍّ أَوْ هُوَ جَمْعٌ وَالْوَاحِدُ حَلْيَةٌ كَظَبْيَةٍ، وَالْحِلْيَةُ بِالْكَسْرِ الْحَلْيُ الْجَمْعُ حَلًى وَحُلًى، انْتَهَى. وَبِهَذَا يُعْرَفُ مَا فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: حِلْيَةٌ بِكَسْرٍ أَوْ فَتْحٍ فَسُكُونٍ فَتَخْفِيفٍ وَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: حَلْيَةٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ مَعْنَى الْجَمْعِ أَوِ الْجِنْسِ لَا الْوَحْدَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَتَشْدِيدٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوْ سَهْوُ قَلَمٍ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (قَدْ) لِلتَّحْقِيقِ وَمَدْخُولُهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْحِلْيَةِ أَوْ حَالٌ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: (قَدِمَتْ عَلَيْهِ) بِكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْقُدُومِ، وَهُوَ الْعَوْدُ مِنَ السَّفَرِ فَالْإِسْنَادُ فِيهِ مَجَازِيٌّ، أَيْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْحِلْيَةُ (مِنَ الْبَحْرَيْنِ) بَلَدٌ مَشْهُورٌ (فَمَلَأَ يَدَهُ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْحِلْيَةِ (فَأَعْطَانِيهِ) أَيْ مَلَأَ يَدَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ كَرَمِهِ وَمُرُؤَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرِعَايَتِهِ الْمُنَاسِبَةِ التَّامَّةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ أَحَقُّ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، (أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أَخُو عَلِيٍّ بِتَقْدِيرِ هُوَ الرَّاجِعِ إِلَى عَقِيلٍ (عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوَّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ وَأَجْرِ) بِالْجَرِّ (زُغْبٍ فَأَعْطَانِي مِلْءَ كَفِّهِ حُلِيًّا) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَتَخْفِيفِ تَحْتِيَّةٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، فَلَا وَجْهَ لَهُ لَا رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً (أَوْ قَالَتْ: ذَهَبًا) وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي عَنِ الرُّبَيِّعِ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (بَابٌ فِي صِفَةِ شَرَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

أَيْ مَا كَانَ يَشْرَبُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بَابُ مَا جَاءَ إِلَخْ (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ ابْنُ عُيَيْنَةَ، كَمَا سَيَأْتِي (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ وَقَوْلُهُ: (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مُتَعَلِّقٌ بِأَحَبِّ وَخَبَرُ كَانَ (الْحُلْوُ الْبَارِدُ) وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْعَذْبُ ; لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا، وَهِيَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْقَافِ عَيْنٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَاسْتِعْذَابُ الْمَاءِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي التَّرَفُّهِ الْمَذْمُومِ، بِخِلَافِ تَطْيِيبِهِ بِنَحْوِ الْمِسْكِ، فَقَدْ كَرَّهَهُ مَالِكٌ لِمَا فِيهِ مِنَ السَّرَفِ، وَقَدْ شَرِبَ الصَّالِحُونَ الْمَاءَ الْحُلْوَ وَطَلَبُوهُ، وَلَيْسَ فِي شُرْبِ الْمَاءِ الْمَالِحِ فَضِيلَةٌ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَهُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْفُرَاتُ الَّذِي يَكْسِرُ الْعَطَشَ وَالسَّائِغُ الَّذِي يَسْهُلُ انْحِدَارُهُ، وَالْأُجَاجُ الَّذِي يَحْرِقُ لِمُلُوحَتِهِ، كَانَ السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ يَقُولُ: إِذَا شَرِبْتُ الْمَاءَ الْحُلْوَ أَحْمَدُ رَبِّي مِنْ وَسَطِ قَلْبِي. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَاءَ الْمَمْزُوجَ بِالْعَسَلِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ السُّكَّرَ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْعَسَلِ مِنَ الشِّفَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مَعَ نَظَرِ الِاعْتِبَارِ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فِيهِ مِنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ مَا لَا يَهْتَدِي لِمَعْرِفَتِهِ إِلَّا أَفَاضِلُ الْأَطِبَّاءِ، فَإِنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ وَلَعْقِهِ عَلَى الرِّيقِ يُزِيلُ الْبَلْغَمَ، وَيَغْسِلُ حَمْلَ الْمَعِدَةِ، وَيَجْلُو لِزُوجَتَهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهَا الْفَضَلَاتِ، وَيُسَخِّنُهَا بِاعْتِدَالٍ، وَيَفْتَحُ السُّدَدَ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ رَطْبٌ، يَقْمَعُ الْحَرَارَةَ، وَيَحْفَظُ الْبَدَنَ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَاءَ الْمَنْقُوعَ فِيهِ تَمْرٌ وَزَبِيبٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ النَّبِيذِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ يَشْرَبُ اللَّبَنَ خَالِصًا تَارَةً وَبِالْمَاءِ الْبَارِدِ أُخْرَى لِأَنَّ اللَّبَنَ عِنْدَ الْحَلْبِ يَكُونُ حَارًّا وَتِلْكَ الْبِلَادُ حَارَّةٌ غَالِبًا فَكَانَ يَكْسِرُ حَرَّهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَنْصَارِيٍّ فِي حَائِطٍ لَهُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ - أَيْ: قِرْبَةٍ خَلِقَةٍ - وَإِلَّا كَرَعْنَا فَانْطَلَقَ لِلْعَرِيشِ فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ مَاءً، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ فَشَرِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَاصِلُ عُنْوَانِ الْبَابِ أَنَّ الْحُلْوَ الْبَارِدَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ، وَالْمَخْلُوطَ بِالْحَلَاءِ وَاللَّبَنَ الْخَالِصِ، وَالْمَخْلُوطَ بِالْبَارِدِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اللَّبَنِ: زِدْنَا مِنْهُ، وَفِي غَيْرِهِ أَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ غَيْرِهِ هُوَ الطَّعَامُ لَا الشَّرَابُ، فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا وَفِي أُخْرَى أَخْبَرَنَا (عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ) أَيِ ابْنُ جُدْعَانَ (عَنْ عُمَرَ هُوَ) أَيْ عُمَرُ الْمَذْكُورُ هُوَ (ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا) ضَمِيرُ تَأْكِيدٍ تَصْحِيحًا لِلْعَطْفِ بِقَوْلِهِ: (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ) أَيْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مِنْ بَعْضِ مَا فِيهِ (وَأَنَا عَلَى يَمِينِهِ) أَيْ مُسْتَعْلٍ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا لِسَبْقِي بِهَا (وَخَالِدٌ عَنْ شِمَالِهِ) أَيْ مُتَأَخِّرٌ مُتَجَاوِزٌ

عَنْهَا لِتَأَخُّرِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِمَّا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ مُخَالَفَتَهُ بِعَلَى فِي حَقِّهِ، وَبِعْنَ فِي خَالِدٍ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَالِدٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِصِغَرِهِ وَقَرَابَتِهِ، فَقُدِّمَ جَبْرًا لِخَاطِرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ التَّخَالُفَ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ مَعَهُ انْتَهَى. وَلِلطِّيبِيِّ كَلَامٌ مَبْسُوطٌ بَيَّنَاهُ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، (فَقَالَ لِيَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُسَكَّنُ (الشَّرْبَةُ لَكَ) أَيْ لِأَنَّكَ صَاحِبُ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ: الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ. رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السِّتَّةِ عَنْ أَنَسٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ نَدْبًا وَلَوْ صَغِيرًا مَفْضُولًا ; وَلِذَا قَالَ: (فَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدًا) أَيْ مُرَاعَاةً لِلْأَكْبَرِ أَوِ الْأَفْضَلِ. وَفِي نِسْبَةِ الْمَشِيئَةِ إِلَيْهِ تَطْيِيبٌ لِخَاطِرِهِ، وَتَنْبِيهُ نَبِيِّهِ عَلَى أَنَّ الْإِيثَارَ أَوْلَى لَهُ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ يُشْكَلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا يُكْرَهُ الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ، حَيْثُ آثَرَ مَنْ لَيْسَ أَوْلَى مِنْهُ بِذَلِكَ، وَإِلَّا كَمَا هُنَا، وَكَتَقْدِيمِ غَيْرِ الْأَفْقَهِ مَثَلًا عَلَى الْأَفْقَهِ فِي الْإِمَامَةِ، فَلَا كَرَاهَةَ انْتَهَى. وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْإِمَامَةِ وَغَيْرِهَا، لَا يُسَمَّى إِيثَارًا، وَإِنَّمَا الْإِيثَارُ إِذَا كَانَ مُتَسَاوِيًا مَعَ غَيْرِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فِي الِاتِّفَاقِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ مَعَ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَعْرَابِيِّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ (فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَنَصْبِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ أَيْ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنِّي أَنْ أَخْتَارَ (عَلَى سُؤْرِكَ) بِضَمٍّ فَسُكُونِ هَمْزٍ، وَيُبْدَلُ أَيْ مَا بَقِيَ مِنْكَ (أَحَدًا) أَيْ غَيْرِي يَفُوزُ بِهِ، وَرُوِيَ مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلٍ مِنْكَ أَحَدًا، وَفِي النِّهَايَةِ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ

عَبَّاسٍ لَا أُوثِرُ بِسُؤْرِكَ أَحَدًا، أَيْ لَا أَتْرُكُهُ لِأَحَدٍ غَيْرِي، انْتَهَى. وَلَعَلَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ أَوِ الْمُرَادَ مِنْ إِطْلَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الْفَضْلُ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى قَوَاعِدِ الْمُحَدِّثِينَ، كَمَا إِذَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِذَا أُطْلِقَ الْحَسَنُ فَهُوَ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ سُؤْرِ أَحَدٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ تَقْدِيرٌ حَسَنٌ ; لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَنَعَ الْإِيثَارَ ; لِأَنَّهُ يُحْرَمُ عَنْ سُؤْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقَعُ لَهُ سُؤْرُ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ خَالِدًا مَا كَانَ يَشْرَبُ سُؤْرَهُ كُلَّهُ، مَعَ إِفَادَةِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ فَرَاغُ اللَّبَنِ بِشُرْبِ خَالِدٍ، لَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْإِيثَارِ أَوْلَى لِلْحِرْمَانِ الْكُلِّيِّ، لَكِنْ غَفَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَنَّ سُؤْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ بَقَاءِ سُؤْرِ خَالِدٍ أَفْضَلُ، فَكَانَ الْإِيثَارُ مُوجِبًا لِلْأَكْمَلِ، فَإِنَّ سُؤْرَ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ ; وَلِذَا لَمَّا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ مَاءَ زَمْزَمَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلْفَضْلِ: هَاتِ الشَّرْبَةَ مِنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ مَاءَ السِّقَايَةِ اسْتَعْمَلَتْهُ الْأَيَادِي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أُرِيدُ بَرَكَةَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ إِلَى الْمَطَاهِرِ أَيِ السِّقَايَاتِ، فَيُؤْتَى بِالْمَاءِ فَيَشْرَبُهُ، وَيَرْجُو بَرَكَةَ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الرَّدَّ عَلَى قَائِلِ الْمُضَافِ، وَنَسَبَ قَوْلَهْ إِلَى الرَّكَاكَةِ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ) أَيْ نَدْبًا بَعْدَ أَكْلِهِ وَالْحَمْدِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فَلْيَقُلْ حَالَ الْأَكْلِ، فَإِنَّ آخِرَهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَمْدِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ ; لِأَنَّ حَالَ الْأَكْلِ لَا يُقَالُ أَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، أَوْ زِدْنَا مِنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا) أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ جَمَاعَةَ الْآكِلِينَ (فِيهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ رِعَايَةً لِلَّفْظِ الْوَارِدِ وَمُلَاحَظَةً لِعُمُومِ الْإِخْوَانِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، (وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ) أَيْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْنَاهُ (وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا) أَيْ خَالِصًا أَوْ مَمْزُوجًا بِمَاءٍ وَغَيْرِهِ، (فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ) أَيْ مِنْ جِنْسِ اللَّبَنِ الَّذِي شَرِبْنَا مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي اللَّبَنِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى دَلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ) بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ أَيْ لَا يُغْنِي وَلَا يَكْفِي، وَلَا يَقُومُ شَيْءٌ (مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) أَيْ مَقَامَهُمَا (غَيْرَ اللَّبَنِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِ، وَأَغْرَبَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْحَقُ مَا عَدَا اللَّبَنَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ بِهِ أَوْ بِالطَّعَامِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ أَدْنَى تَأَمُّلٍ فِي الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ الْمُؤَلِّفُ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثَيْنِ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَمِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: (هَكَذَا) أَيْ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي إِيرَادِ الْإِسْنَادِ (رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْحَدِيثَ) يَعْنِي الْأَوَّلَ (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ) أَيْ مُتَّصِلًا كَمَا ذَكَرْنَا يَعْنِي وَلَهُ إِسْنَادٌ آخَرُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: (وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا) أَيْ بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِسْقَاطِ عُرْوَةَ، فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ، سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَأَبَا الطُّفَيْلِ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ; وَلِذَا قَالَ: (وَلَمْ يَذْكُرُوا) أَيِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَكْثَرُونَ (فِيهِ) أَيْ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَهَكَذَا رَوَى يُونُسُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ

(باب ما جاء في شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم)

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا) أَيْ فَيَكُونُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مُنْفَرِدًا مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ فِي إِسْنَادِهِ مَوْصُولًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (قَالَ أَبُو عِيسَى وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ) أَيْ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ فَيَكُونُ حَدِيثُهُ غَرِيبًا إِسْنَادًا، وَالْغَرَابَةُ لَا تُنَافِي الصِّحَّةَ، وَالْحُسْنَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ سَنَدَ الْإِرْسَالِ أَصَحُّ مِنْ سَنَدِ الِاتِّصَالِ، كَمَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِهِ فِي جَامِعِهِ، وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، انْتَهَى. وَهُوَ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ مَذْهَبَنَا وَمَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِذَا اعْتَضَدَ بِمُتَّصِلٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ ذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِسْنَادِ، وَإِنْ كَثُرَتْ رُوَاةُ الْإِرْسَالِ ; لِأَنَّ مَعَ الْمُسْنَدِ زِيَادَةَ عِلْمٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، انْتَهَى. (وَمَيْمُونَةُ) أَيِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي (بِنْتُ الْحَارِثِ) أَيِ الْهِلَالِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ (زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُقَالُ: إِنَّ اسْمَهَا كَانَ بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ، كَانَتْ تَحْتَ مُعَوَّذِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَبُو دِرْهَمٍ وَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، بِسَرَفَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مَاتَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا وَبَنَى بِهَا فِيهِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَدُفِنَتْ فِيهِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ التَّنْعِيمِ وَالْوَادِي فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَبُنِيَ عَلَى قَبْرِهَا مَسْجِدٌ يُزَارُ وَيُتَبَرَّكُ بِهِ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ الْفَضْلِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ، وَأُخْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَهِيَ آخِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ: (هِيَ خَالَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ) بَيَانُ وَجْهِ دُخُولِهِمَا عَلَى مَيْمُونَةَ، وَزَيْدٌ يَزِيدُ اسْتِطْرَادًا (وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ) أَيِ الْحَدِيثِ الثَّانِي (عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، (فَرَوَى بَعْضُهُمْ) أَيْ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ) كَمَا سَبَقَ فِي الْإِسْنَادِ (وَرَوَى شُعْبَةُ) أَيْ مِنْ بَيْنِ الْمُحَدِّثِينَ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ) أَيْ فَقَالَ شُعْبَةُ فِي إِسْنَادِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: (عَنْ عَلِيٍّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَرْمَلَةَ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ) أَيِ الصِّحَّةُ فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ الْأَوَّلُ عُمَرُ بِلَا وَاوٍ، الثَّانِي أَبِي حَرْمَلَةَ عَلَى الْكُنْيَةِ لَا بِالِاكْتِفَاءِ عَلَى الْعَلَمِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ هَذَا الْبَيَانَ مَعَ اسْتِفَادَتِهِ مِنْ إِيرَادِ إِسْنَادِهِ، لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالتَّصْرِيحِ، وَلِمَقَامِ الِاخْتِلَافِ بِالتَّصْحِيحِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الشُّرْبُ بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّشَرُّبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي التَّاجِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَقَدْ قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ لَكِنَّ الْكَسْرَ شَاذٌّ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّصْبِ أَشْهَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فَالْكَسْرُ بِمَعْنَى الْمَشْرُوبِ، وَكَذَا الْفَتْحُ وَالضَّمُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا، وَأَمَّا نَقْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْحَنَفِيِّ أَنَّ الشَّرْبَ بِالْفَتْحِ جَمْعُ شَارِبٍ، كَصَحْبٍ جَمْعِ صَاحِبٍ، عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ وُرُودِهِ، فَلَا مُنَاسَبَةَ لَهُ بِالْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ) بِضَمِّ هَاءٍ وَفَتْحِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ مُصَغَّرُ هِشَامٍ، (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَاصِمٌ الْأَحْوَلٌ وَمُغِيرَةُ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ، هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الضَّرِيرُ أَبُو هِشَامٍ ثِقَةٌ مُتْقِنٌ إِلَّا أَنَّهُ يُدَلِّسُ، وَلَا سِيَّمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذَكَرَهَ مِيرَكُ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ) قِيلَ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (مِنْ زَمْزَمَ) وَهِيَ بِئْرٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَكَّةَ، سُمِّيَتْ بِهَا لِكَثْرَةِ مَائِهَا، وَيُقَالُ مَاءُ زَمْزَمَ وَزَمْزَمٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ عَلَمٍ لَهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَهُوَ قَائِمٌ) وَفِي رِوَايَةِ

الشَّيْخَيْنِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، قَالَ عَاصِمٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ، فَحَلَفَ أَنَّهُ مَا كَانَ حِينَئِذٍ إِلَّا رَاكِبًا، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ، ثُمَّ أَنَاخَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الطَّوَافِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَعَلَّ شُرْبَهُ مِنْ زَمْزَمَ حِينَئِذٍ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى بَعِيرِهِ، وَيَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ عُمْدَةَ عِكْرِمَةَ فِي كَوْنِهِ شَرِبَ قَائِمًا، إِنَّمَا هُوَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَسَعَى كَذَلِكَ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَخَلُّلِ رَكْعَتِيِ الطَّوَافِ بَيْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّاهُمَا عَلَى الْأَرْضِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهِ شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ، وَهُوَ قَائِمٌ كَمَا حَفِظَهُ الشَّعْبِيُّ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي سِيَاقِ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّهُ اسْتَسْقَى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ عِنْدَ إِتْمَامِ الْمَنَاسِكِ، لَا يَنْفِي هَذَا التَّأْوِيلَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ: وَهُوَ قَائِمٌ، عَلَى أَنَّهُ رَاكِبٌ ; لِأَنَّ الرَّاكِبَ سَيَّرَهُ بِالْقَائِمِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ سَائِرًا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ، أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ إِدِّعَاءُ كَوْنِ الشُّرْبِ مِنْ زَمْزَمَ وَقَعَ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْعَاصِمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، بَلْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَشُرْبُهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي الشُّرْبِ قَائِمَا عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِ السُّنَّةِ: وَأَمَّا النَّهْيُ فَنَهْيُ أَدَبٍ وَإِرْفَاقٍ ; لِيَكُونَ تَنَاوُلُهُ عَلَى سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الْفَسَادِ، وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينَ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ غَالِبًا قَاعِدًا، وَقَدْ شَرِبَ مَرَّةً قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّهْيُ نَاسِخٌ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلنَّهْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشُّرْبُ قَائِمًا كَانَ لِعُذْرٍ ; وَلِذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَبَ قَائِمًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ النَّسْخَ أَوِ الضَّعْفَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَكَيْفَ يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخُ، وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ أَوْ إِلَى الْقَوْلِ بِالضَّعْفِ مَعَ صِحَّةِ الْكُلِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَقِئْ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ مُخْتَصًّا بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَبِفَضْلِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَصْلِ أَيْضًا وَنُكْتَةُ التَّخْصِيصِ فِي مَاءِ زَمْزَمَ، هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ التَّضَلُّعِ مِنْ مَائِهِ، وَفِي فَضْلِ الْوُضُوءِ هِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى وُصُولِ بَرَكَتِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يُسَنُّ الشُّرْبُ مِنْ زَمْزَمَ قَائِمًا اتِّبَاعًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمُ حَيْثُ تَبِعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِيَامِ الْمَخْصُوصِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى عُمُومِ نَهْيِهِ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، وَنَازَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ) بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ مِيرَكُ: ضَمِيرُ أَبِيهِ رَاجِعٌ إِلَى عَمْرٍو، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (عَنْ جَدِّهِ)

رَاجِعٌ إِلَى أَبِيهِ شُعَيْبٍ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، وَمُحَمَّدٌ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَلَمْ يَرْوِ شُعَيْبٌ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ، كَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ النُّقَّادِ كَثِيرًا مَا وَقَعَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، بِلَفْظِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَحَدِيثُهُ مُتَّصِلٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَرَادَ جَدَّهُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ جَدَّ أَبِيهِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ الْأَفْضَلُ مِنْ أَبِيهِ، وَالْأَكْثَرُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ تَلَقِّيًا وَأَخْذًا لِلْعِلْمِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ فَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ وَرِوَايَتُهُ مُحْتَجٌّ بِهَا، وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهَذَا السَّنَدِ أَكْثَرُ الْحُفَّاظِ لَا سِيَّمَا الْبُخَارِيِّ، خَرَّجَ لَهُ فِي الْقَدَرِ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمُ احْتَجُّوا بِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِقَرَائِنَ أَثْبَتَتْ عِنْدَهُمْ سَمَاعَهُ مِنْ جَدِّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ خَالَفَ الْآخَرُونَ نَظَرًا لِاحْتِمَالِهِ الِانْقِطَاعَ، وَيَرُدُّهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ مَعَ كَوْنِ الْأَكْثَرِينَ عَلَى خِلَافِهِ، وَزَعْمُ أَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الْإِسْنَادَ مِنْ صَحِيفَةٍ لَا اعْتِدَادَ بِهَا لَمْ يَثْبُتْ هُوَ وَلَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إِذَا عَرَضَ الْمُتَأَخِّرُونَ كَالْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا بِهِ، (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ (يَشْرَبُ قَائِمًا) أَيْ نَادِرًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَحَمْلُ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى التَّنْزِيهِ، أَوْ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِخُصُوصِيَّةٍ، (وَقَاعِدًا) أَيْ مِرَارًا كَثِيرَةً لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ وَالْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَعَادَتِهِ الْأَجْمَلِ، وَهُمَا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: أَيْ حَالَ كَوْنِهِ شَارِبًا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ حَالَةَ الْقِيَامِ، وَحَالَةَ الْقُعُودِ، انْتَهَى. وَفِيهِ - لَا يَخْفَى، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْمَكْرُوهِ، فَكَيْفَ شَرِبَ قَائِمًا فَمَرْدُودٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ، (حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ) أَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُ قَالَ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ (سَقَيْتُ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فَالْمُرَادُ بِتَعَدُّدِ الْإِسْنَادِ قُوَّةُ الِاعْتِمَادِ، وَفِي سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَدُّدِ شُرْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا، كَانَ عَلَى يَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (وَمُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ (الْكُوفِيُّ قَالَا) أَيِ الْمُحَمَّدَانِ (أَنْبَأَنَا ابْنُ الْفُضَيْلِ) بِالتَّصْغِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّكْبِيرِ (عَنِ الِأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ) بِفَتْحِ مِيمٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ تَحْتِيَّةٍ فَفَتَحَاتٍ، (عَنِ النَّزَّالِ) بِفَتْحِ نُونٍ وَتَشْدِيدِ زَايٍ، (بْنِ سَبْرَةَ) بِفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ، فَرَاءٍ فَتَاءِ تَأْنِيثٍ، (قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ) أَيْ جِيءَ (بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ وَهُوَ فِي الرَّحَبَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيُسَكَّنُ، وَفِي الصِّحَاحِ الرَّحَبَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ، وَالرَّحْبَةُ بِالسُّكُونِ أَيْضًا الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ وَمِنْهُ أَرْضٌ رَحْبَةٌ بِالسُّكُونِ أَيْ مُتَّسِعَةٌ، وَرَحَبَةُ الْمَسْجِدِ بِالتَّحْرِيكِ هِيَ سَاحَتُهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَعَلَى هَذَا يُقْرَأُ فِي الْحَدِيثِ بِالسكونِ، ويُحتَمَل أنَّها

صَارَتْ رَحْبَةُ الكُوفَة بِمَنزِلَةِ رَحْبَة الَمسْجِدِ فَيُقْرَأَ بِالتَّحْرِيكِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: أَمَّا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُ مَكَانٌ وَسَطَ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْعُدُ فِيهِ وَيَعِظُ (فَأَخَذَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْمَاءِ أَوِ الْكُوزِ (كَفًّا) أَيْ قَدْرَ كَفٍّ مِنَ الْمَاءِ (فَغَسَلَ يَدَيْهِ) أَيْ إِلَى رُسْغَيْهِ (وَمَضْمَضَ) عَطْفٌ عَلَى أَخَذَ لَا عَلَى غَسَلَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَاسْتَنْشَقَ) إِلَخْ وَقَالَ الْعِصَامُ: الظَّاهِرُ عَطْفُ مَضْمَضَ عَلَى غَسَلَ، فَيَكُونُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ وَمَسْحُ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالرَّأْسِ مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ، وَلَا صَارِفَ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَحَرَّرَ عَنْ لُزُومِ ذَلِكَ فَجَعَلَهُ عَطْفًا عَلَى أَخَذَ، انْتَهَى. وَقُلْتُ: لَا صَارِفَ أَقْوَى مِنَ اسْتِبْعَادِ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَمَسْحِ بَعْضِهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ، مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ الشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِ الْعُرْفِيِّ، (وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ) أَيْ غَسَلَهَا غَسْلًا خَفِيفًا، فَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي كَلَامِهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ، وَيُؤَيِّدُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ غَسَلَهَا، أَوْ لَمْ يَغْسِلْهَا، فَالْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءُ الْعُرْفِيُّ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّنْظِيفِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَرْكُ ذِكْرِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْأَصْلِ، فَيُحْمَلُ خِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ فِي الرَّحَبَةِ أَوْ تَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا (وَرَأْسَهُ) أَيْ وَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ وَرِجْلَيْهِ، أَيْ وَمَسَحَهُمَا أَيْ غَسَلَهُمَا غَسْلًا خَفِيفًا، وَفِي رِوَايَةٍ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (ثُمَّ شَرِبَ) أَيْ مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ مِنْ فَضْلِ مَاءِ وَضُوئِهِ، (وَهُوَ قَائِمٌ) حَالٌ (ثُمَّ قَالَ هَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ، الْإِشَارَةُ لِمَا عَدَا الشُّرْبِ، (وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ) أَيْ مَنْ لَمْ يُرِدْ طُهْرَ الْحَدَثِ، بَلْ أَرَادَ التَّجْدِيدَ أَوِ التَّنْظِيفَ، وَإِلَّا فَوُضُوءُ الْمُحْدِثِ مَعْلُومٌ بِشَرَائِطَ مَعْرُوفَةٍ، (هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ) وَمِنْ بَعْضِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الشُّرْبُ قَائِمًا، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ. قَالَ مِيرَكُ: الظَّاهِرُ أَنَّ صَنِيعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، لَا لِبَيَانِ الِاسْتِحْبَابِ ; لِيُعْلَمَ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالشُّرْبَ قَائِمًا جَائِزَانِ. قُلْتُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ فَضْلِ الْوُضُوءِ ; لِيَكُونَ فِعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ، نَعَمْ شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِحْبَابِ بِخُصُوصِ هَذَا الْمَاءِ الْمُتَبَرَّكِ عُقَيْبَ هَذَا الْفِعْلِ الْمُعَظَّمِ، وَهُوَ مُخْتَارُ مَشَايِخِنَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَمَلُ عَلِيٍّ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ. ثُمَّ الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَذْكُورٌ فِي الْمِشْكَاةِ، بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ شَرْحًا بَيِّنًا. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَيُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عِصَامٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ قِيلَ: اسْمُهُ ثُمَامَةُ، وَقِيلَ: خَالِدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْعَتَكِيُّ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، كَذَا حَقَّقَهُ الْجَزَرِيُّ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا إِذَا شَرِبَ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُبِينُ الْإِنَاءَ عَنْ فِيهِ، فَيَتَنَفَّسُ ثُمَّ

يَعُودُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ التَّنَفُّسُ فِي الْإِنَاءِ، بِلَا إِبَانَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ أَنَسٍ (وَيَقُولُ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هُوَ) أَيِ الشُّرْبُ بِالتَّنَفُّسِ ثَلَاثًا (أَمْرَأُ) أَيْ أَسْوَغُ وَأَهْضَمُ (وَأَرْوَى) أَيْ أَكْثَرُ رِيًّا ; لِأَنَّهُ أَقْمَعُ لِلْعَطَشِ، وَأَقَلُّ أَثَرًا فِي بَرْدِ الْمَعِدَةِ، وَضَعْفِ الْأَعْصَابِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِ وَغَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَمْرَأُ وَأَرْوَى وَأَبْرَأُ، أَيْ أَكْثَرُ بُرْأً وَصِحَّةً. وَقَدْ وَرَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ، وَإِذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ إِلَى فِيهِ سَمَّى اللَّهَ، وَإِذَا أَخَّرَهُ حَمِدَ اللَّهَ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا. هَذَا وَقَدْ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ، فِي التَّنَفُّسِ خَارِجَ الْمَاءِ، أَنَّ التَّنَفُّسَ فِيهِ يُغَيِّرُ الْمَاءَ، إِمَّا لِتَغَيُّرِ الْفَمِ بِمَأْكُولٍ أَوْ تَرْكِ سِوَاكٍ، أَوْ لِأَنَّ التَّنَفُّسَ يَصْعَدُ بِبُخَارٍ فِي الْمَعِدَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْعَبِّ نَفَسًا وَاحِدًا، وَقَالَ: ذَلِكَ شُرْبُ الشَّيْطَانِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا. " إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ مَصًّا، وَلَا يَعُبُّ عَبًّا، فَإِنَّ الْكُبَادَ مِنَ الْعَبِّ ". وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. " إِذَا شَرِبْتُمُ الْمَاءَ فَاشْرَبُوهُ مَصًّا، وَلَا تَشْرَبُوهُ عَبًّا، فَإِنَّ الْعَبَّ يُورِثُ الْكُبَادَ. وَمِنْ آفَاتِ الشُّرْبِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يُخْشَى مِنَ الشَّرَقِ ; لِانْسِدَادِ مَجْرَى الشَّرَابِ; لِكَثْرَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، فَإِذَا شَرِبَ عَلَى دُفْعَاتٍ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) بِفَتْحِ خَاءٍ وَسُكُونِ شِينٍ مُعْجَمَتَيْنِ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ (أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ رِشْدِينَ) فِي التَّقْرِيبِ هُوَ بِكَسْرٍ فَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ فَدَالٍ مَكْسُورَةٍ، فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَنُونٍ قَالَ مِيرَكُ: هُوَ ضَعِيفٌ (ابْنِ كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ كُرَيْبٍ وَهُوَ ثِقَةٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ مَرَّتَيْنِ) أَيْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ، وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ» . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ ; لِأَنَّهُ إِنْ رَوَى بِنَفَسَيْنِ اكْتَفَى بِمَا، وَإِلَّا فَثَلَاثٌ وَهَذَا لَيْسَ نَصًّا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنَفُّسُ فِي

الْأَثْنَاءِ، وَسَكَتَ عَنِ التَّنَفُّسِ الْأَخِيرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاقِعِ فِي الْخَتْمِ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ) اتَّفَقَ اسْمُ الْوَلَدِ وَالْأَبِ وَهَذَا كَثِيرٌ كَمَا وَقَعَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغَزَالِيِّ، وَكَذَا الْجَزَرِيُّ (بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ أَسِيدٌ، وَقِيلَ: أُسَامَةُ (عَنْ جَدَّتِهِ كَبْشَةَ) بِفَتْحِ كَافٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، قَالَ مِيرَكُ: كَبْشَةُ بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيَّةُ، أُخْتُ حَسَّانَ لَهَا صُحْبَةٌ وَحَدِيثٌ، وَيُقَالُ فِيهَا: كُبَيْشَةُ بِالتَّصْغِيرِ،، وَكَبْشَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ زَوْجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَهَا صُحْبَةٌ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَةَ هُنَا هِيَ الْأُولَى، انْتَهَى. وَجَزَمَ شَارِحٌ وَقَالَ: كَبْشَةُ هِيَ كَبْشَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَيُقَالُ: كُبَيْشَةُ وَتُعْرَفُ بِالْبَرْصَاءِ، وَهِيَ جَدَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنْهَا، وَلَهَا صُحْبَةٌ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ) أَيْ فِي بَيْتِي (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ) أَيْ مِنْ فَمِ قِرْبَةٍ (مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا) أَيْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الشُّرْبِ مِنْهَا قَاعِدًا. وَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ، عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَاخْتِنَاثُهَا أَنْ يَقْلِبَ رَأْسَهَا ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ نَهْيٌ تَنْزِيهِيٌّ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ، وَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، (فَقُمْتُ إِلَى فِيهَا) أَيْ قَاصِدًا إِلَى فَمِ الْقِرْبَةِ (فَقَطَعْتُهُ) أَيْ لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ، أَوْ لِعَدَمِ الِابْتِذَالِ، قَالَهُ مِيرَكُ: وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ نَاقِلًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَقَطْعُهَا فَمَ الْقِرْبَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَصُونَ مَوْضِعًا أَصَابَهُ فَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْتَذَلَ وَيَمَسَّهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالثَّانِي أَنْ تَحْفَظَهُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاءِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ، انْتَهَى. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ هَاءٍ وَكَسْرِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ هَدَى يَهْدِي كَرَمَى، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ يَغْلَطُونَ فِي لَفْظِهِ فَيَكْسِرُونَ الْمِيمَ، وَفِي مَعْنَاهُ بِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْهَادِي (حَدَّثَنَا عَزْرَةُ) بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَزَايٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ بَعْدَهَا هَاءٌ (بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ ثُمَامَةَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ) أَيْ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ التَّنَفُّسِ (وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِفَتْحِ أَنَّ لِأَنَّهُ مَفْعُولُ زَعَمَ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى قَالَ، وَلِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا مَقَالٌ كَاسِدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمٍ فَاسِدٍ (كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا) عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ الْمُعْتَادِ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ مَرَّتَيْنِ أَحْيَانًا. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِالْجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا (عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ) أَيِ ابْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ زَيْدٍ) بِالتَّنْوِينِ (ابْنِ) بِالْأَلِفِ وَهُوَ مَجْرُورٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ ابْنِ زَيْدٍ مُضَافًا إِلَى (ابْنَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ)

أَيْ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَقِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَشَرِبَ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ، وَهُوَ قَائِمٌ) حَالٌ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهَا، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا قَامَتْ وَمَشَتْ مُنْتَهِيَةً (إِلَى رَأْسِ الْقِرْبَةِ) أَيْ فَمِهَا (فَقَطَعَتْهَا) أَيْ فَقَطَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ رَأْسَ الْقِرْبَةِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا قِطْعَةً فِي الْمَآلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقَطَعَتْهُ وَهِيَ الْقِيَاسُ. قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَرَأَى قِرْبَةً مُعَلَّقَةً فِيهَا مَاءٌ، فَشَرِبَ مِنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَطَعَتْهَا بَعْدَ شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَقَالَتْ: لَا يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالِاخْتِصَارُ مِنْ سِيَاقِ التِّرْمِذِيِّ، وَقَعَ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَوْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ (النَّيْسَابُورِيُّ) بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، كَانَ يُذَاكِرُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَصَامَ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، مَاتَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ (أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ (الْفَرْوِيُّ) بِفَتْحِ فَاءٍ وَسُكُونِ رَاءٍ، مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ أَبِي فَرْوَةَ (حَدَّثَتْنَا) بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ (عُبَيْدَةُ) بِالتَّصْغِيرِ، (بِنْتُ نَائِلٍ) بِالْهَمْزَةِ كَقَائِلٍ وَبَائِعٍ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا كَمَا سَيَأْتِي، فَإِطْلَاقُهُ مُوهِمٌ مُخِلٌّ، (عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ قَائِمًا) أَيْ أَحْيَانًا أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْوُضُوءِ أَوْ مَاءِ زَمْزَمَ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي أُخْرَى قَالَ أَبُو عِيسَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، أَوْ بَعْضُ أَصْحَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَأَخْطَأَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ أَبُو عِيسَى بَدَلَ قَالَ بَعْضُهُمْ، وَوَجْهُ الْخَطَأِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا يَخْفَى (عَنْ عُبَيْدَةَ بِنْتِ نَابِلٍ) أَيْ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا هُوَ بِالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ، انْتَهَى. وَفِيهِ مُسَامَحَةٌ لِأَنَّهُ بِالْهَمْزِ وَلَعَلَّهُ اعْتَبَرَ أَصْلَهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ النَّيْلِ أَوْ رَاعَى الْمَرْكَزَ، لَكِنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ ذَكَرَ فِي مَادَّةِ النَّوْلِ أَنَّ نَائِلَةَ بِنْتَ أَسْلَمَ صَحَابِيَّةٌ، وَأَبُو نَائِلَةَ صَحَابِيٌّ، وَفِي مَادَّةِ النَّبْلِ بِالْمُوَحَّدَةِ نَبِيلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ صَحَابِيَّةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَبَا نَائِلَةَ، قَالَ مِيرَكُ: عُبَيْدَةُ بِالتَّصْغِيرِ بِنْتُ نَابِلٍ أَوَّلُهُ نُونٌ وَبَعْدَ الْأَلِفِ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ كَذَا صَحَّحَهُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا، وَلَمْ يُصَحِّحِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ عُبَيْدَةَ، وَلَا أَبَاهَا نَابِلَ قَالَ: عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَابِلٍ مَقْبُولَةٌ مِنَ السَّابِعَةِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَكَذَا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا فِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ هَذَا، وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُبَيْدَةُ أَيْ بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الشَّيْخِ نُورِ الدِّينِ الْأَيْجِيِّ، وَلَيْسَ فِيهَا بِنْتُ نَابِلٍ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهَذَا خِلَافُ تَصْحِيحِ ابْنِ مَاكُولَا، حَيْثُ قَالَ: عُبَيْدَةُ بِالتَّصْغِيرِ، فَالظَّاهِرُ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَنْسُبْ عُبَيْدَةَ إِلَى أَبِيهَا، لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، بَلْ قَالَ: حَدَّثَتْنَا عُبَيْدَةُ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تَمَّ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّانِي أَوَّلُهُ بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعَطُّرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(باب ما جاء في تعطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعَطُّرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) التَّعَطُّرُ: اسْتِعْمَالُ الْعِطْرِ كَمَا أَنَّ التَّطَيُّبَ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ، وَرَجُلٌ مُعَطَّرٌ كَثِيرُ التَّعَطُّرِ، وَالْعِطْرُ بِالْكَسْرِ الطِّيبُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ طَيِّبَ الرِّيحِ دَائِمًا، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّ طِيبًا، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ أَنَسٌ: مَا شَمَمْتُ رِيحًا قَطُّ وَلَا مِسْكًا وَلَا عَنْبَرًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ مِسْكَةً، وَلَا عَنْبَرَةً، وَالْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْخُلُقِ بِلَفْظِ مِسْكًا، وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَثَ فِي يَدِهِ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَ عُقْبَةَ، وَبَطْنَهُ فَعَبِقَ بِهِ طِيبٌ حَتَّى كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ كُلُّهُنَّ تَجْتَهِدُ أَنْ تُسَاوِيَهُ فِيهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ مَعَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَطَيَّبُ. وَرَوَى هُوَ وَأَبُو يَعْلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَتَ أَيْ مَسَحَ بِأُصْبُعِهِ لِمَنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى تَجْهِيزِ بِنْتِهِ مِنْ عَرَقِهِ فِي قَارُورَةٍ، وَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَطَّيِّبْ بِهِ فَكَانَتْ إِذَا تَطَيَّبَتْ بِهِ شَمَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَلِكَ الطِّيبَ فَسُمُّوا بَيْتَ الْمُطَيَّبِينَ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمُرُّ بِطَرِيقٍ فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ أَنَّهُ سَلَكَهُ مِنْ طِيبِ عَرَقِهِ وَعَرْفِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَمُرُّ بِحَجَرٍ إِلَّا يَسْجُدُ لَهُ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ مِنْ طَرِيقٍ وَجَدُوا مِنْهُ رَائِحَةَ الطِّيبِ، وَقَالُوا: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ نَامَ عِنْدَ أُمِّ أَنَسٍ فَعَرِقَ فَسَلَتَتْ عَرَقَهُ فِي قَارُورَتِهَا فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ لِطِيبِنَا، وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ. وَأَمَّا فَضَلَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَاكَ تَدْخُلُ الْخَلَاءَ ثُمَّ يَأْتِي الَّذِي بَعْدَكَ فَلَا يَرَى لِمَا يَخْرُجُ مِنْكَ أَثَرًا فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَقَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ هَذَا مِنْ مَوْضُوعَاتِ الْحَسَنِ بْنِ عِلْوَانَ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ فَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي مُعْجِزَاتِهِ كِنَايَةٌ عَنْ كَذِبِ الْحَسَنِ بْنِ عِلْوَانَ يُحْمَلُ عَلَى مَتْنِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِخُصُوصِهِ، وَهُوَ. أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ أَجْسَادَنَا نَبَتَتْ عَلَى أَرْوَاحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا خَرَجَ مِنْهَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ. أَوْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ خَاصٌّ بِتِلْكَ الطَّرِيقِ دُونَ بَقِيَّةِ الطُّرُقِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تِلْكَ الطُّرُقِ وَهَذَا الْأَظْهَرُ. ثُمَّ مَا ذَكَرَ إِنَّمَا هُوَ الْغَائِطُ وَأَمَّا الْبَوْلُ فَقَدْ

شَاهَدَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَشَرِبَتْهُ بَرَكَةُ أُمُّ أَيْمَنَ مَوْلَاتُهُ وَبَرَكَةُ أُمُّ يُوسُفَ خَادِمَةُ أُمِّ حَبِيبَةَ صَحِبَتْهَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ فَشَرِبَتْهُ بَرَكَةُ الثَّانِيَةُ فَقَالَ لَهَا: صَحَحْتِ يَا أُمَّ يُوسُفَ فَلَمْ تَمْرَضْ سِوَى مَرَضِ مَوْتِهَا. وَصَحَّ عَنْ بَرَكَةَ الْأُولَى قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لَيْلَةٍ إِلَى فَخَّارَةٍ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ فَبَالَ فِيهَا فَقُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنَا عَطْشَانَةٌ فَشَرِبْتُ مَا فِيهَا، وَأَنَا لَا أَشْعُرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا أُمَّ أَيْمَنَ قُوْمِي فَأَهْرِيقِي مَا فِي تِلْكَ الْفَخَّارَةِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ شَرِبْتُ مَا فِيهَا فَضَحِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَا يَنْجَعَنَّ بَطْنُكِ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى طَهَارَةِ فَضَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ وِفَاقًا لِجَمْعٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ وَعَدَّهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَقِيلَ سَبَبُهُ شَقُّ جَوْفِهِ الشَّرِيفِ وَغَسْلُ بَاطِنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أَيِ الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ سَمِعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَمَعْنَ بْنَ عِيسَى وَالنَّضْرَ بْنَ شُمَيْلٍ وَغَيْرَهُمْ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَكَانَ فَوْقَ الثِّقَةِ قَالَ زَكَرِيَّا: بَعَثَ إِلَيْهِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَعَ الْفُجْلِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَتِ الشَّمْسُ رُءُوسَ الْحِيطَانِ أَيْ قَرُبَتْ أَنْ تَغْرُبَ مَاتَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَشَايِخِ سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ (قَالُوا) أَيْ هُوَ وَإِيَّاهُمْ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبُو حُمَيْدٍ الزُّبَيْرِيُّ) نِسْبَةً إِلَى الْمُصَغَّرِ (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ كَانَتْ بِالتَّأْنِيثِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَقِيمٌ لِلْإِسْنَادِ إِلَى ظَاهِرٍ غَيْرِ حَقِيقِيٍّ فِي التَّأْنِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (سُكَّةٌ) بِضَمِّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ كَافٍ ضَرْبٌ مِنَ الطِّينِ يُتَّخَذُ مِنْ مِسْكٍ وَرَامِكٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِفَتْحٍ وَهُوَ نَوْعُ عِطْرٍ وَاشْتُقَّ مِنَ الرُّمْكَةِ وَهُوَ لَوْنٌ أَبْيَنُ كَدَوْرَةٍ مِنَ الْوَرَقَةِ كَذَا فِي السَّامِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَسَامِي (يَتَطَيَّبُ مِنْهَا) حَالٌ أَوْ هُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ وَفِي النِّهَايَةِ: السُّكَّةُ طِيبٌ مَعْرُوفٌ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الطِّيبِ وَيُسْتَعْمَلُ. وَفِي الِاخْتِيَارَاتِ الْبَدِيعَةِ أَنَّ السُّكَّةَ عُصَارَةُ الْأَمْلَجِ وَأَحْسَنُهُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ هَكَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ظَرْفٌ فِيهَا طِيبٌ. يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ مِنْهَا لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِهَا نَفْسَ الطِّيبِ لَقَالَ يَتَطَيَّبُ بِهَا، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ السُّكَّةُ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ طِيبٌ مَجْمُوعٌ مِنْ أَخْلَاطٍ، وَالسُّكَّةُ قِطْعَةٌ مِنْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ وِعَاءً. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هِيَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْكَافِ الْمُشَدَّدَةِ طِيبٌ مُرَكَّبٌ. قَالَ مِيرَكُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا نَفْسَ الطِّيبِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ كَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لِيُشْعِرَ بِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِدُفَعَاتٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِهَا، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْوِعَاءَ فَمِنْ لِلِابْتِدَاءِ هَذَا. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: «السُّكُّ» طِيبٌ يُتَّخَذُ مِنَ الرَّامِكِ مَدْقُوقًا مَنْخُولًا مَعْجُونًا بِالْمَاءِ، وَيُعْرَكُ شَدِيدًا، وَيُمْسَحُ بِدُهْنِ الْخِيرِيِّ لِئَلَّا يَلْتَصِقَ بِالْإِنَاءِ، وَيُتْرَكُ لَيْلَةً ثُمَّ يُسْحَقُ الْمِسْكُ، وَيَلْقَمُهُ وَيُعْرَكُ شَدِيدًا، وَيُقَرَّصُ وَيُتْرَكُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُثْقَبُ بِمِسَلَّةٍ، وَيَنْتَظِمُ فِي خَيْطٍ قِنَّبٍ وَيُتْرَكُ سَنَةً، وَكُلَّمَا عُتِّقَ طَابَتْ رَائِحَتُهُ، وَالرَّامِكُ كَالصَّاحِبِ شَيْءٌ أَسْوَدُ يُخْلَطُ بِالْمِسْكِ، وَقَدْ يُفْتَحُ الْمِيمُ أَيْضًا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْقِنَّبُ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَتَشْدِيدِ النُّونِ ضَرْبٌ مِنَ الْكِتَّانِ يُفْتَلُ مِنْهُ الْحِبَالُ كَذَا فِي شَمْسِ الْعُلُومِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَطَيَّبُ قَالَتْ: نَعَمْ بِذِكَارَةِ الطِّيبِ الْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ. فِي النِّهَايَةِ ذِكَارَةُ الطِّيبِ بِالْكَسْرِ، وَذُكُورَتُهُ مَا تَصْلُحُ لِلرِّجَالِ، وَهُوَ مَا لَا لَوْنَ لَهُ كَالْمَسِّ وَالْعِنَبِ وَالْعُودِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَجْمِرُ بِأُلْوَةٍ غَيْرِ مُطَرَّاةٍ وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأُلْوَةِ. فِي النِّهَايَةِ الْأَلْوَةُ الْعُودُ يُتَبَخَّرُ بِهِ، وَقِيلَ ضَرْبٌ مِنْ خِيَارِهِ، وَتُفْتَحُ هَمْزَتُهُ، وَتُضَمُّ وَهِيَ أَصْلِيَّةٌ، وَقِيلَ زَائِدَةٌ، وَالْأُلْوَةُ الْمُطَرَّاةُ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا أَلْوَانُ الطِّيبِ وَغَيْرُهَا كَالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ وَالطِّيبِ، وَالْكَافُورِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ، وَسُكُونِ زَايٍ قَرَأَ (بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ) بِضَمِّ مُثَلَّثَةٍ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ، وَقَالَ أَنَسٌ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرُدُّ الطِّيبَ) هَذَا حَدِيثٌ

صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ. قَالَ مِيرَكُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ قَالَ رَيْحَانٌ بَدَلَ طِيبٍ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَثْبَتُ قُلْتُ، وَسَيَأْتِي تَعْلِيلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا بِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ هَذَا، وَالْمَحْمِلُ هُنَا بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَمْلُ بِالْفَتْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِثَقِيلٍ بَلْ قَلِيلِ الْمِنَّةِ، وَمَعَ هَذَا طِيبُ الرَّائِحَةِ، فَالْهَدِيَّةُ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً، وَتَتَضَمَّنُ مَنْفَعَةً فَلَا تُرَدُّ لِئَلَّا يَتَأَذَّى الْمُهْدِي إِذَا لَمْ يَكُنْ طَمَّاعًا. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَالدَّالِ، وَيُفْتَحُ (عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثٌ) أَيْ ثَلَاثُ هَدَايَا (لَا تُرَدُّ) بِالتَّأْنِيثِ وَقِيلَ بِالتَّذْكِيرِ أَيْضًا لَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ أَوْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْهَدَايَا، وَيُرَادُ بِهَا مَا يُهْدَى ثُمَّ إِنَّهُ بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ قِيلَ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ فَيَكُونُ نَهْيًا صَرِيحًا فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: قَوْلُهُ ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنًى فِي ثَلَاثٍ مِنَ الْعَظَمَةِ، وَالشَّرَفِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ، وَخِفَّةِ الْمَحَمِلِ لِيَكُونَ صِفَةً نَكِرَةً مُبْتَدَأً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثٌ مُبْتَدَأً، وَلَا تُرَدُّ صِفَتُهُ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ (الْوَسَائِدُ) بَعْدَ عَطْفِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ انْتَهَى، وَالْوَسَائِدُ جَمْعُ الْوِسَادَةِ، وَهِيَ مَا يُجْعَلُ تَحْتَ الرَّأْسِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَيُقَالُ لَهَا الْمِخَدَّةُ إِذْ قَدْ يُوضَعُ تَحْتَ الْخَدِّ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ (وَالدُّهْنُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بَدَلَهُ (وَالطِّيبُ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالدُّهْنِ هُوَ الَّذِي لَهُ طِيبٌ فَعَبَّرَ تَارَّةً عَنْهُ بِالطِّيبِ، وَأُخْرَى بِالدُّهْنِ (وَاللَّبَنُ) كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ الْوَسَائِدُ وَالدُّهْنُ، وَاللَّبَنُ. وَنُقِلَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي جَامِعِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ أَيْضًا قِيلَ أَرَادَ بِالدُّهْنِ الطِّيبَ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهَذَا نَصٌّ مِنَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الدُّهْنَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالطِّيبُ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِيهِ أَصْلًا، فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الْخَلَلِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعَلَّلِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الطِّيبُ بَدَلُ (وَاللَّبَنُ) وَكَقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ وَفِي نُسْخَةٍ، وَاللَّبَنُ بَدَلُ الدُّهْنِ قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ إِذَا أَكْرَمَ رَجُلٌ ضَيْفَهُ بِوِسَادَةٍ فَلَا يَرُدُّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ إِذَا أَهْدَى رَجُلٌ إِلَى أَخِيهِ وِسَادَةً أَوْ دُهْنًا أَوْ لَبَنًا أَوْ طِيبًا ; فَلَا يَرُدُّهَا لِأَنَّ هَذِهِ هَدَايَا قَلِيلَةُ الْمِنَّةِ ; فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ، وَهَذَا أَوْجَهُ، تَأَمَّلْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوِسَادَةِ التَّافِهَةُ الَّتِي لَا مِنَّةَ عُرْفًا فِي قَبُولِهَا، وَحِينَئِذٍ يُلْحَقُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ كُلُّ مَا لَا مِنَّةَ عُرْفًا فِي قَبُولِهَا. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ) قِيلَ اسْمُهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ (الْحَفَرِيُّ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْفَاءِ نِسْبَةً إِلَى حَفَرَ مَحَلٍّ بِالْكُوفَةِ كَانَ يَنْزِلُهُ (عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) بِفَتْحٍ، وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ أَيِ الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ رَجُلٍ) وَفِي نُسْخَةٍ الطُّفَاوِيِّ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْفَاءِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَيَأْتِي فِي السَّنَدِ الْآتِي بَدَلَهُ الطُّفَاوِيُّ مَنْسُوبٌ لِطُفَاوَةَ حَيٍّ مِنْ قِيسِ غَيْلَانَ، وَهُوَ مَجْهُولٌ أَيْضًا فَفِي الْحَدِيثِ مَجْهُولٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، قُلْتُ: الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: حَسَّنَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ تَابِعِيُّ، وَالرَّاوِي

عَنْهُ ثِقَةٌ فَجَهَالَتُهُ تُغْتَفَرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طِيبُ الرِّجَالِ) قَالَ مِيرَكُ: الطِّيبُ قَدْ جَاءَ مَصْدَرًا وَاسْمًا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَمَعْنَاهُ مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ انْتَهَى قِيلَ وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَصْدَرِ هُنَا، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ بَعِيدٌ (مَا ظَهَرَ رِيحُهُ، وَخَفِيَ لَوْنُهُ) كَمَاءِ الْوُرُودِ، وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ (وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ، وَخَفِيَ رِيحُهُ) كَالزَّعْفَرَانِ، وَالصَّنْدَلِ، وَفِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَكَالْحِنَّاءِ وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُمْ إِذْ هُمْ شَافِعِيُّونَ، وَالْمُقَرَّرُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ أَرَاهُمْ حَمَلُوا هَذَا عَلَى مَا إِذَا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا ; فَلْتَطَّيَّبْ بِمَا شَاءَتِ انْتَهَى ; فَإِنَّ مُرُورَهَا عَلَى الرِّجَالِ مَعَ ظُهُورِ رَائِحَةِ الطِّيبِ مِنْهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا ; فَلَا تَشَهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى «كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ وَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ ; فَهِيَ زَانِيَةٌ» . ثُمَّ الطِّيبُ يَتَأَكَّدُ لِلرِّجَالِ فِي نَحْوِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدِ، وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَحُضُورِ الْمَحَافِلِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالْمُعَلِّمِ، وَالذِّكْرِ، وَيَتَأَكَّدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ ; فَإِنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ مُهْمِلَةٍ، وَسُكُونِ جِيمٍ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) سَبَقَ (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنِ الطُّفَاوِيَّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الطُّفَاوِيَّ لَمْ يُسَمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى فَقَوْلُهُ (بِمَعْنَاهُ) لِلتَّأَكُّدِ كَمَا أَنَّ الْإِيرَادَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لِزِيَادَةِ الِاعْتِمَادِ فِي الِاسْتِنَادِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَا) أَيْ مُحَمَّدٌ، وَعَمْرٌو (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) بِضَمِّ زَايٍ فَفَتْحِ رَاءٍ (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) أَيِ ابْنُ أَبِي عُثْمَانَ (الصَّوَّافُ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (عَنْ حَنَانٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ الْأُولَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فَمُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِمُوَحَّدَتَيْنِ، وَسَيَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ) بِفَتْحِ نُونٍ، وَسُكُونِ هَاءٍ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي نَهْدٍ قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلَّ بِتَثْلِيثِ مِيمٍ، وَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ مُخَضْرَمٌ مِنْ كِبَارِ الثَّانِيَةِ ثَبْتٌ ثِقَةٌ عَابِدٌ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ بَعْدَهَا، وَعَاشَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرَ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَائِهِ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَأَسْلَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلْقَهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ مَسْعُودٍ، وَأَبَا مُوسَى، وَرَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ، وَغَيْرُهُ انْتَهَى، فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ مُرْسَلًا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُكُمْ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ عُرِضَ عَلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ ; فَلَا يَرُدُّهُ ; فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ، وَقَوْلُهُ (الرَّيْحَانُ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَهُوَ كُلُّ نَبْتٍ طَيِّبِ الرِّيحِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْمُومِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ قَالَ مِيرَكُ: وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ يَخُصُّونَهُ بِالْآسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّامِ يَخُصُّونَهُ بِالْحَبَقِ، وَالْحَبَقُ قِيلَ الْفَوْدَجُ، وَقِيلَ وَرَقُ الْخِلَافِ وَقِيلَ الشَّاهِسْفَرَمُ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الطِّيبُ كُلُّهُ لِيُوَافِقَ مَا مَرَّ، وَيُطَابِقَ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ، وَمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ، وَرِوَايَةَ

الْبُخَارِيِّ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرُدَّ الطِّيبَ (فَلَا يَرُدَّهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهِ نَهْيًا بِخِلَافِ مَا رُوِيَ بِضَمِّ الدَّالِ ; فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ النَّهْيَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا بِمَعْنَى النَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْفَصِيحِ الْمَشْهُورِ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ ; فَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَبَرًا يَتَعَيَّنُ الضَّمُّ ; فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ عَلَى الْفَصِيحِ هَذَا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ الْفَتْحُ لَا غَيْرُ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رِوَايَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا يَرُدَّهُ بِفَتْحِ الدَّالِ قَالَ: وَأَنْكَرَهُ مُحَقِّقُو شُيُوخِنَا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَصَوَابُهُ ضَمُّ الدَّالِ قَالَ: وَوَجَدْتُهُ بِخَطِّ الْأَشْيَاخِ بِضَمِّ الدَّالِ، وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ قُلْتُ عِبَارَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْفَتْحَ وَاجِبٌ فِي نَحْوِ رُدَّهَا، وَالضَّمَّ فِي رُدُّهُ عَلَى الْأَفْصَحِ، فَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى الْفَصِيحِ، وَتَخْطِئَتَهُمْ عَلَى غَيْرِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُوجَدُ فِيهِ الْفَصِيحُ، وَالْأَفْصَحُ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ نَقْلَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ الْأَصَحُّ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى اعْتِبَارِ مَا عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ مِنَ الْوَجْهِ الْأَرْجَحِ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ اخْتِيَارِ الْفَتْحِ فِي (فَلَا يَرُدَّهُ) لِيَكُونَ نَصًّا عَلَى النَّهْيِ بِخِلَافِ الضَّمِّ ; فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّهْيِ، وَالنَّفْيِ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَمْ يُوجَدْ فِي نَحْوِ رُدُّهُ ; لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُفِيدٌ لِمَعْنَى الْأَمْرِ، فَتَأَمَّلْ، وَاخْشَ الزَّلَلَ، وَلَا تَكْسَلْ مِنَ الْمَلَلِ، وَبِهَذَا انْدَفَعَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ مِنْ أَنَّ الْفَتْحَ هُوَ اخْتِيَارُ مَنْ لَا يُحَقِّقُ الْعَرَبِيَّةَ (فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ) يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ الطِّيبِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَخَلَقَ اللَّهُ الطِّيبَ فِي الدُّنْيَا لِيُذَكِّرَ الْعِبَادَ بِطِيبِ الدُّنْيَا طِيبَ الْآخِرَةِ، وَيَرْغَبُونَ فِي الْجَنَّةِ، وَيَزِيدُونَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَصِلُوا بِسَبَبِهَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ طِيبَ الدُّنْيَا خَرَجَ عَيْنُهُ مِنَ الْجَنَّةِ نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَذْرُهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أُنْمُوذَجٌ مِنْ طِيبِهَا وَإِلَّا فَطِيبُ الْجَنَّةِ يُوجَدُ رِيحُهُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ كَمَا فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ وَرَدَ اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ (قَالَ أَبُو عِيسَى: أَيِ الْمُؤَلِّفُ (لَا نَعْرِفُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمُتَكَلِّمِ (لِحَنَانٍ) أَيِ الْمَذْكُورِ فِي السَّنَدِ الْمَسْطُورِ (غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ) بِرَفْعِ غَيْرُ، وَنَصْبِهِ لِمَا سَبَقَ (وَقَالَ) عَطْفٌ عَلَى لَا نَعْرِفُ مِنْ مَقُولِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ إِلَخْ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ) بِكَسْرِ التَّاءِ (فِي كِتَابِ الْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيلِ حَنَانٍ الْأَسَدِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَيُسَكَّنُ (وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ شُرَيْكٍ) بِضَمِّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَفَتْحِ رَاءٍ (وَهُوَ صَاحِبُ الرَّقِيقِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْقَافِ الْأُولَى (عَمُّ وَالِدِ مُسَدَّدٍ) بِضَمِّ مِيمٍ، وَفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَمُشَدِّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ (وَرَوَى) أَيْ حَنَانٌ (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ وَرَوَى عَنْهُ) أَيْ عَنْ حَنَانٍ (الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الصَّوَّافُ سَمِعْتُ) أَيْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ (أَيْ) يَعْنِي أَبَا حَاتِمٍ (يَقُولُ ذَلِكَ) أَيْ هَذَا الْقَوْلَ فِي تَرْجَمَةِ حَنَانٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَسَدُ بْنُ شُرَيْكٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَزْدِ بْنِ يَغُوثَ، وَيُقَالُ لِلْأَسَدِ وَيُقَالُ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ الْأَسْدِيُّ بِسُكُونِ السِّينِ، وَالْأَزْدِيُّ بِالزَّايِ السَّاكِنَةِ بَدَلُ السِّينِ، وَالْكُلُّ صَحِيحٌ ; فَإِنَّهُ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ شُرَيْكٍ مِنْ أَوْلَادِ الْأَزْدِ بْنِ يَغُوثَ، وَيُقَالُ لِلْأَسْدِ أَزْدٌ كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَنْسَابِ فِي الْأَزْدِ بْنِ يَغُوثَ وَيُقَالُ لِلْأَسْدِ أَزْدٌ كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَنْسَابِ فِي الْأَزْدِ بَطْنٌ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أَسدِ بْنِ شُرَيْكٍ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ابْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ فَهْمٍ لَهُمْ خُطَّةٌ بِالْبَصْرَةِ، وَيُقَالُ لَهَا خُطَّةُ بَنِي أَسَدٍ، وَمِنْهُمْ مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْأَسْدِيُّ الْمُحَدِّثُ بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرِ الْعَسْقَلَانِيُّ: مِنْ حَنَانٍ بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ، وَتَخْفِيفِ النُّونِ الْأَسْدِيِّ عَمُّ وَالِدِ مُسَدَّدٍ كُوفِيٌّ مَقْبُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ فِي الْأَصْلِ كُوفِيًّا، وَهُوَ مُقِلٌّ جِدًّا لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ الْمُرْسَلُ ; فَإِنَّ أَبَا عُثْمَانَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مُخَضْرَمٌ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدِ) بِالْجِيمِ بَعْدَ ضَمِّ الْمِيمِ، وَبِاللَّامِ الْمَكْسُورَةِ (بْنِ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا أَبِي) أَيْ سَعِيدٌ (عَنْ بَيَانٍ) بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ، وَتَحْتِيَّةٍ (عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبَجَلِيِّ أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ جَرِيرٌ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَسَكَنَهَا زَمَانًا ثُمَّ انْتَقَلْتُ إِلَى قَرْقِسْيَا، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (قَالَ عُرِضْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ نَفْسِي كَعَرْضِ الْجَيْشِ عَلَى الْأَمِيرِ لِيَعْرِفَهُمْ، وَيَتَأَمَّلَهُمْ حَتَّى يَرُدَّ مَنْ لَا يُرْضِيهُ ثُمَّ صَرَّحَ، وَقَالَ: أَوْ هُوَ لِلْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ عَرَضَنِي عَلَيْهِ، وَلَّاهُ ذَلِكَ لِيَنْظُرَ فِي قُوَّتِي، وَجَلَادَتِي عَلَى الْقِتَالِ قُلْتُ، وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ (بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) ، وَسَبَبُ الْعَرْضِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ حَتَّى ضَرَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَرَهُ، وَدَعَا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ جَرِيرًا غَابَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَحَضَرَ فَأَمَرَ بِعَرْضِهِ لِيَتَبَيَّنَ حَالَهُ، وَمَا وَقَعَ لَهُ فِي رُكُوبِ الْخَيْلِ كَذَا قَرَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَرْضَ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَشْيِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ مُصَرَّحًا، وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ تَثْبِيتُهُ عَلَى الْخَيْلِ بِدُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يُلَائِمُهُ الِامْتِحَانُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (فَأَلْقَى جَرِيرٌ رِدَاءَهُ) الضَّمِيرُ لِجَرِيرٍ. (وَمَشَى فِي إِزَارٍ) . كَانَ الْقِيَاسُ ; فَأَلْقَيْتُ رِدَائِي، وَمَشَيْتُ ; فَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ قَيْسٍ كَمَّلَ بِهِ كَلَامَ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ بِالْمَعْنَى، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ ; فَيَأْبَاهُ الْفَاءُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ جَرِيرٌ إِظْهَارًا لِقُوَّتِهِ، وَتَجَلُّدِهِ فِي شَجَاعَتِهِ (فَقَالَ) عَطْفٌ عَلَى عُرِضْتُ أَيْ ; فَقَالَ عُمَرُ (لَهُ) أَيْ: لِجَرِيرٍ (خُذْ رِدَاءَكَ) أَيْ، وَاتْرُكْ مَشْيَكَ ; فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَمْرُكَ. (فَقَالَ عُمَرُ) «أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ» (لِلْقَوْمِ) . أَيْ لِلْحَاضِرِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ. (وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا) . أَيْ: مَا عَلِمْتُ صُورَةَ رَجُلٍ لِيَنْدَفِعَ الْمُسَامَحَةُ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُسْتَثْنَى أَيْضًا (أَحْسَنَ) أَيْ مَا عَدَاهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَالْمُسْتَثْنَى عَقْلًا. (مِنْ صُورَةِ جَرِيرٍ) . أَيْ مِنْ وَجْهِهِ أَوْ بَدَنِهِ ; فَلَا يُشْكَلُ بِحُسْنِ دِحْيَةَ قِيلَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (أَحْسَنَ) صُورَةً مِنْ جَرِيرٍ. (إِلَّا مَا بَلَغَنَا مِنْ صُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) . اعْلَمْ أَنَّ رَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ ; فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ عَلَى مَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى عَلِمْتُ ; فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ أَنْسَبُ لِتَعْرِيفِ حُسْنِ جَرِيرٍ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَيُعْلَمُ مِنْ ذِكْرِ صُورَةِ الْمُفَضَّلِ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رَجُلٍ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ صُورَتُهُ ; فَزَعَمَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ صُورَةَ رَجُلٍ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَغَرَابَتُهُ لَا تَخْفَى ; لِأَنَّ ذِكْرَ صُورَةِ الْمُفَضَّلِ هُوَ الْمُوجِبُ لِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ الْمُصَحِّحِ لِلْحَمْلِ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ جَرِيرَ يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: مَوْلَى آلِ عُمَرَ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ شِقَّةُ قَمَرٍ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ جَمَالَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، وَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ صَفَائِهِ، وَكَثْرَةِ ضِيَائِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ صُورَتَهُ كَانَ يَقَعُ نُورُهَا عَلَى الْجِدَارِ بِحَيْثُ يَصِيرُ كَالْمِرْآةِ يَحْكِي مَا قَابَلَهُ مِنْ مُرُورِ الْمَارِّ لَكِنَّ اللَّهَ سَتَرَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْجَمَالِ الزَّاهِرِ، وَالْكَمَالِ الْبَاهِرِ إِذْ لَوْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ لَصَعُبَ النَّظَرُ إِلَيْهِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَقِيلَ شَطْرُ حُسْنِ أَهْلِ زَمَانِهِ أَوْ شَطْرُ حُسْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّ حُسْنَ السِّيرَةِ أَفْضَلُ مِنْ حُسْنِ الصُّورَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» . وَقَالَ مِيرَكُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ مُلْحَقَاتِ

(باب كيف كان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

بَعْضِ النُّسَّاخِ سَهْوًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجْهُهُ أَنَّ طِيبَ الصُّورَةِ يَلْزَمُهُ غَالِبًا طِيبُ رِيحِهَا، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّعَطُّرِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ بَلِ التَّعَسُّفِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُتَصَرَّفَ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ بِزِيَادَةٍ، وَحُسْنِ صُورَةِ الْأَصْحَابِ، وَعَرْضِهِمْ عَلَى ابْنِ الْخَطَّابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. (بَابٌ كَيْفَ كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هَذَا كَمَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ كَتَبْتُ عَلَيْهِ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً فِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْإِعْرَابِ بِلَا أَغْرَابٍ بِالْتِمَاسِ بَعْضِ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَقَدْ ضُبِطَ الْبَابُ هَذَا مُنَوَّنًا، وَغَيْرُ مُنَوَّنٍ، وَيُحْتَمَلُ تَسْكِينُهُ عَلَى التَّعْدَادِ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ ; فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هَذَا، بِهَذَا مَعْرُوفٌ، وَمَا بَعْدَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَطْعِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ لِمَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ، وَكَيْفَ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ إِنْ كَانَتْ كَانَ نَاقِصَةً، وَعَلَى الْحَالِيَّةِ إِنْ كَانَتْ تَامَّةً، وَقُدِّمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِوُجُوبِ تَصْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِضَافَةِ بِقَدْرٍ مُضَافٍ آخَرَ لِيَتِمَّ الْمَعْنَى الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمَبْنِيِّ أَيْ هَذَا بَابُ جَوَابِ كَيْفَ كَانَ أَوْ بَيَانِ كَيْفَ كَانَ، وَسَبَبُ التَّقْدِيرِ أَنَّ لَفْظَ بَابٍ لَا يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ عَلَى الصَّوَابِ، وَلِذَا قِيلَ إِنَّ إِضَافَتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ كَلَا إِضَافَةٍ. وَبِهَذَا ظَهَرَ ضَعْفُ مَا قَالَ الْحَنَفِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ مُضَافًا إِلَى الْجُمْلَةِ الْمَصْدَرِيَّةِ بِكَيْفِ، وَالْمَعْنَى بَابُ كَيْفِيَّةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا خَارِجًا عَمَّا نَحْنُ فِيهِ هَذَا وَرَوَى الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أُحِبُّ الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ لِأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، وَكَلَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَكَ أَفْصَحُنَا، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا قَالَ: كَانَتْ لُغَةُ إِسْمَاعِيلَ دَرَسَتْ أَيْ مَاتَتْ فَصَاحَتُهَا، فَجَاءَنِي بِهَا جِبْرِيلُ ; فَحَفِظْتُهَا، وَرَوَى الْعَسْكَرِيُّ لَكِنْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ، وَنَشَأْنَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّكَ تُكَلِّمُ الْعَرَبَ بِلِسَانٍ مَا نَفْهَمُ أَكْثَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدَّبَنِي ; فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ ; فَصَرَّحَ الْحُفَّاظُ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ. (حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ اللَّيْثُ مَوْلَاهُمْ أَبُو زَيْدٍ الْمَدَنِيُّ صَدُوقٌ يُهْمٌ مِنَ السَّابِعَةِ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) تَابِعِيٍّ جَلِيلٍ (عَنْ عُرْوَةَ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْرُدُ) أَيْ فِي كَلَامِهِ، وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَصِلْ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَتَبَيَّنُ بَعْضُ حُرُوفِهِ لِسَامِعِهِ (سَرْدَكُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ كَسَرْدِكُمْ، وَقَوْلُهُ (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى سَرْدِهِمُ الَّذِي يَسْرُدُونَهُ (وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ ظَاهِرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بَيَّنَهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي (فَصْلٍ) بِالْجَرِّ تَأْكِيدٌ لِبَيِّنٍ عَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى، وَصِفَةٌ لِكَلَامٍ عَلَى الثَّانِيَةِ أَيْ: مَفْصُولٍ مُمْتَازٍ عَنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُهُ مَنْ يُخَاطَبُ بِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بَيْنَهُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، وَضَمِيرُهُ لِلْكَلَامِ، وَفَصْلٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى فَاصِلٌ أَوْ مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ مُبَالَغَةً أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَلَامٌ فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَيَّنَهُ عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنَ التَّبْيِينِ، وَفِي بَعْضِهَا بَيْنَ فَصْلٍ بِإِضَافَةِ بَيْنَ إِلَى فَصْلٍ، وَالظَّرْفُ صِفَةُ كَلَامٍ أَيْ كَلَامٍ كَائِنٍ بَيْنَ فَصْلٍ كَانَ الْفَصْلُ مُحِيطًا بِهِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدًا إِذَا تَابَعَ الْحَدِيثَ اسْتِعْجَالًا، وَسَرْدُ الصَّوْمِ تَوَالِيهِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَتَابِعًا بِحَيْثُ يَأْتِي بَعْضُهُ تِلْوَ بَعْضٍ ;

فَيَلْتَبِسُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ بَلْ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ وَاضِحٍ مَفْهُومٍ غَايَةَ الْوُضُوحِ، وَنِهَايَةُ الْبَيَانِ (يَحْفَظُهُ) أَيْ كَلَامَهُ (مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ) أَيْ كُلُّ مَنْ جَلَسَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِظُهُورِهِ عَلَى مَنْ يَكُونُ مُقْبِلًا عَلَيْهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا: كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (سَلْمُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (بْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى) بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ (عَنْ ثُمَامَةَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعِيدُ الْكَلِمَةَ) أَيِ الصَّادِقَةَ بِالْجُمْلَةِ أَوِ الْجُمَلِ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مَالَا يَتَبَيَّنُ مَبْنَاهَا أَوْ مَعْنَاهَا إِلَّا بِالْإِعَادَةِ (ثَلَاثًا) مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ يَتَكَلَّمُ بِهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الْإِعَادَةَ بِحَقِيقَتِهَا لَوْ كَانَتْ ثَلَاثًا لَكَانَ تَكَلُّمُهُ أَرْبَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ (لِتُعْقَلَ عَنْهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لِتُفْهَمَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، وَتُؤْخَذَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَالشَّفَقَةِ، وَالْمَرْحَمَةِ عَلَى الْخَلْقِ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّلَاثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَرَاتِبَ الْفَهْمِ ثَلَاثٌ هِيَ: أَعْلَى، وَأَوْسَطُ، وَأَدْنَى، وَإِنَّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ فِي ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَلَوْ زِيدَ عَلَيْهِ بَكَرَّاتٍ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَبُو وَكِيعٍ حَدَّثَنَا جُمَيْعٌ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ عُمَرَ) وَفِي نُسْخَةٍ ابْنُ عَمْرٍو بِالْوَاوِ، وَفِي هَامِشِ أَصْلِ السَّيِّدِ صَوَابُهُ عُمَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ انْتَهَى. وَهُوَ كَذَا فِي أَصْلِ الشَّرْحِ ثُمَّ قَالَ شَارِحُهُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عُمَرُ بَدَلُ عُمَيْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِجْلِيُّ) بِكَسْرٍ، فَسُكُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَاللَّامِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ أَوَّلِهِ، وَسُكُونُ ثَانِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا السَّنَدُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ (زَوْجِ خَدِيجَةَ) أَيْ: أَوَّلًا وَهُوَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَبِي هَالَةَ (يُكَنَّى) أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ (أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (قَالَ: سَأَلْتُ خَالِيَ) أَيْ أَخَا أُمِّي مِنَ الْأُمِّ (هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، وَكَانَ، وَصَّافًا) أَيْ كَثِيرَ الْوَصْفِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَبَقَتِ الرِّوَايَةُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَوْلُهُ: (قُلْتُ) بَيَانٌ لِسَأَلْتُ (صِفْ لِي مَنْطِقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ كَيْفِيَّةَ نُطْقِهِ، وَهَيْئَةَ سُكُوتِهِ الْمُقَابِلِ لَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ) أَيْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السُّكُوتَ لِكَوْنِهِ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ

(دَائِمَ الْفِكْرِة) وَلَا شَكَّ أَنَّ تَوَاصُلَ أَحْزَانِهِ إِنَّمَا كَانَ لِمَزِيدِ تَفَكُّرِهِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكِبْرِيَائِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي دَوَامَ الصَّمْتِ، وَعَدَمَ الرَّاحَةِ إِذْ مِنْ لَازِمِ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ انْتِفَاؤُهَا فَقَوْلُهُ (لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ) مِنْ لَوَازِمِ مَا قَبْلَهُ صَرَّحَ بِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَتَنْبِيهًا لِمَا قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَرِيحُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْخَيْرَاتِ قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَيْ لَا يَسْتَرِيحُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا كَأَهْلِهَا قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَرِحْنَا يَا بِلَالُ. وَخَبَرُ: قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ. هَذَا وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً (طَوِيلَ السَّكْتِ) خَبَرٌ آخَرُ لِكَانَ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا، وَصَحَّ حَدِيثُ. مَنْ صَمَتَ نَجَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ; فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ وَرُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسًا إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَّةٍ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ ; فَيَتَحَرَّزُ عَنِ الْكَلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ. رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِي، وَفِي شَأْنِهِ نَزَلَ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ) مِنَ الِافْتِتَاحِ أَيْ: وَيَبْدَؤُهُ (وَيَخْتِمُهُ) بِكَسْرِ التَّاءِ مِنَ الْخَتْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ، وَيَخْتَتِمُهُ مِنَ الِاخْتِتَامِ أَيْ: وَيُتِمُّهُ (بِاسْمِ اللَّهِ) مُرْتَبِطٌ بِالْفِعْلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَحْفُوظًا بِذِكْرِ اللَّهِ، وَمُسْتَعَانًا بِاللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ اسْتِيعَابُ الزَّمَانِ بِذِكْرِ الْوَقْتَيْنِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ وَفِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا إِذًا مَا أَظُنُّ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ كَلِمَةٌ، وَلَا حَرْفٌ إِلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ اللَّهِ الْمَنِيفِ لِأَنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِهِ يَقُولُ: وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا لَكِنْ لَيْسَ الذِّكْرُ مُنْحَصِرًا فِي التَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ كُلُّ مُطِيعٍ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ ; فَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ، وَاخْتِتَامِهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي جَزْمِهِ ; بِأَنَّ الْمُرَادَ بِاسْمِ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِ الْبَسْمَلَةُ غَالِبًا لِنَدْبِهَا فِي كُلِّ ذِي بَالٍ غَيْرِ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ بِغَيْرِهِ كَالْأَذَانِ،

وَالصَّلَاةِ وَفِي الْآخِرَةِ الْحَمْدَلَةُ أَوْ غَيْرُهَا كَالِاسْتِغْفَارِ قَالَ: وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِاسْمِ اللَّهِ الْبَسْمَلَةُ حَتَّى فِي الْآخِرَةِ ; فَقَالَ: لَمْ يُشْتَهَرِ اخْتِتَامُ الْأَمْرِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ غَلَطٌ عَجِيبٌ قُلْتُ، وَكَذَا مَا اشْتُهِرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ يَبْتَدِئُ الْكَلَامَ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ، وَدَعْوَى الْغَالِبِيَّةِ مَمْنُوعَةٌ، وَإِنَّمَا الشَّارِعُ رَغَّبَ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ إِذَا ابْتَدَأَ بِأَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يَنْسَوْنَ ذِكْرَ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِّ لِيَشْتَمِلَ بَرَكَتُهُ إِيَّاهُمْ فِي الْحَالِ، وَالْمَآلِ. وَأَمَّا هُوَ بِنَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا كَانَ غَمْضَةَ جَفْنٍ وَلَا طَرْفَةَ عَيْنٍ غَافِلًا عَنِ الْمَوْلَى ; فَكَلَامُهُ كُلُّهُ ذِكْرٌ، وَسُكُوتُهُ جَمِيعُهُ فِكْرٌ، وَحَالُهُ دَائِرٌ بَيْنَ صَبْرٍ، وَشُكْرٍ فِي كُلِّ حُلْوٍ وَمُرٍّ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِأَشْدَاقِهِ جَمْعُ شِدْقٍ، وَهُوَ: طَرَفُ الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِرَحْبِ الشِّدْقَيْنِ بِخِلَافِ ضِدِّهِ ; فَإِنَّهُ لَا يَنْفَهِمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَمَا يُشَاهَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ أَرْبَابِ الرُّعُونَةِ بِخِلَافِ ضِدِّهِ ; فَإِنَّهُ لَا يَنْفَهِمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَمَا يُشَاهَدُ بَعْضُ أَرْبَابِ الرُّعُونَةِ، وَأَصْحَابُ الْكِبْرِ، وَالْخَدِيعَةِ حَيْثُ يَكْتَفُونَ بِأَدْنَى تَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ، وَأَمَّا التَّشَدُّقُ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ أَنْ يَفْتَتِحَ فَاهُ، وَيَتَّسِعَ فِي الْكَلَامِ، وَيَتَكَلَّفَ فِي الْعِبَارَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْمَرَامِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلَامَهُ كَانَ وَسَطًا عَدْلًا خَارِجًا عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، مِنْ فَتْحِ كُلِّ الْفَمِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى طَرَفِهِ الْقَلِيلِ الْقَاصِرِ عَنْ تَأْدِيَةِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْأَحْكَامِ ; فَيَكُونُ بَيَانًا لِفَصَاحَةِ كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِرَحْبِ شِدْقَيْهِ، فَكَلَامُ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْكَلَامَ (وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ) الْجَوَامِعُ جَمْعُ جَامِعَةٍ، وَالْكَلِمُ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ جِنْسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَقِيلَ جَمْعٌ حَيْثُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى الثَّلَاثِ، فَصَاعِدًا، وَالْكَلِمُ الطَّيِّبُ يُؤَوَّلُ بِبَعْضِ الْكَلِمِ كَذَا حَرَّرَهُ مَوْلَانَا نُورُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجَامِيُّ - قُدِّسَ سِرُّهُ السَّامِي - لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الصُّعُودَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِبَعْضِ الطَّيِّبِ دُونَ بَعْضٍ. ثُمَّ الْإِضَافَةُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ مُتَضَمِّنَةٍ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ فَقِيلَ هِيَ الْقُرْآنُ وَقَرَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي وَصْفِ مَنْطِقِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَعَمُّ ; فَإِنَّ الْمَدْحَ فِيهَا أَتَمُّ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ أَيْ: بِمَضْمُونِ مَا فِيهِ مِنْ مَبَانِيهِ، وَمَعَانِيهِ، فَلَا يَخْرُجُ كَلَامُهُ عَنْ طِبْقِ كَلَامِ رَبِّهِ فِي كُلِّ أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ، وَجَمِيعِ شَأْنِهِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ - «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» أَيْ: كَانَ خُلُقُهُ أَنْ يَمْتَثِلَ قَوْلًا، وَفِعْلًا حُمِدَ فِيهِ، وَيَجْتَنِبَ عَنْ خُلُقٍ، وَحَالٍ ذُمَّ فِيهِ لِلتَّنْبِيهِ. وَأَغْرَبَ شَارِحٌ، وَقَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَشْدَاقِهِ بَدَلَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ أَرْبَابِ الرِّوَايَةِ، وَأَصْحَابِ الدِّرَايَةِ، وَقَدْ جَمَعَ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُفْرَدِ الْمُوجَزِ الْبَدِيعَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ حُسْنِ الصَّنِيعِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَمْعِ أَرْبَعِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَذْكُرُهَا فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ لِيَكُونَ مِنَ الشَّمَائِلِ مُشْتَمِلًا أَيْضًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ، وَهُوَ الْمُوَفِّقُ، وَالْمُعِينُ مُلْتَزِمًا بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ حَدِيثٍ يَتَضَمَّنُ بَدِيعَ حُكْمٍ، وَصَنِيعَ حُكْمٍ، اقْتِصَارًا وَتَحْقِيقًا لِمَا رَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا. فَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (1) الْأَيْمَنُ، فَالْأَيْمَنُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ (2) الْإِيمَانُ يَمَانٍ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (3) اخْبَرْ تَقْلَهْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (4) أَرْحَامَكُمْ أَرْحَامَكُمْ. ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ (5) اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا. ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ (6) أَعْلِنُوا النِّكَاحَ. أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (7) أَكْرِمُوا الْخُبْزَ. الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ (8) الْزَمْ بَيْتَكَ. الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (9) تَهَادَوْا تَحَابُّوا. أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (10) الْحَرْبُ خَدْعَةٌ. الشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ (11) الْحُمَّى شَهَادَةٌ. الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ (12) الدِّينُ النَّصِيحَةُ. الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ثَوْبَانَ (13) سَدِّدُوا وَقَارِبُوا. الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (14) شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ. عَنْ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (15) الصَّبْرُ رِضًا. ابْنُ عَسَاكِرَ (16) الصَّوْمُ جُنَّةٌ. النَّسَائِيُّ عَنْ مُعَاذٍ (17) الطِّيَرَةُ شِرْكٌ. أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (18) الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ. الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (19) الْعِدَةُ دَيْنٌ. الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ (20) الْعَيْنُ حَقٌّ الشَّيْخَانِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (21) الْغَنَمُ بَرَكَةٌ. أَبُو يَعْلَى عَنِ الْبَرَاءِ (22) الْفَخْذُ عَوْرَةٌ. (23) قَفْلَةٌ كَغَزْوَةٍ. أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو (24) قَيِّدْ وَتَوَكَّلْ. الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ (25) الْكُبْرَ الْكُبْرَ. الشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَلِيمَةَ (26) مَوَالِينَا مِنَّا. الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (27) الْمُؤْمِنُ مُكَفِّرٌ.

الْحَاكِمُ عَنْ سَعْدٍ (28) الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ. الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (29) الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ. الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (30) الْمُنْتَعِلُ رَاكِبٌ. ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ (31) نَصْبِرُ، وَلَا نُعَاقِبُ. الْأَرْبَعَةُ عَنْ أُبَيٍّ (32) النَّارُ جُبَارٌ. أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (33) النَّبِيُّ لَا يُورَثُ. أَبُو يَعْلَى عَنْ حُذَيْفَةَ (34) النَّدَمُ تَوْبَةٌ. أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (35) الْوِتْرُ بِلَيْلٍ. أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (36) لَا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. ابْنُ مَاجَهْ عَنْ حِبَّانَ (37) لَا تَغْضَبْ. الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (38) لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ. أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (39) لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ (40) يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ. التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (كَلَامُهُ فَصْلٌ) أَيْ: فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ لِلْمُبَالِغَةِ أَوِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ: ذُو فَضْلٍ أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ: مَفْصُولٌ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمَصُونٌ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ أَصْلًا بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ، وَالصَّوَابُ أَوْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ أَوْ مَفْصُولٌ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ بَعْضُ كَلَامِهِ مُتَّصِلًا بِبَعْضٍ آخَرَ بِحَيْثُ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ أَوْ يُشْعِرُ بِالْعَجَلَةِ الْمَذْمُومَةِ أَوْ فَصْلٌ أَيْ: وَسَطٌ عَدْلٌ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ، وَالتَّفْرِيطِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ (لَا فُضُولَ، وَلَا تَقْصِيرَ) كَالْبَيَانِ لَهُ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْمَعْنَى لَا زِيَادَةَ، وَلَا نُقْصَانَ فِي كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِفَتْحِ الِاسْمَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَالْخَبَرَ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَا فُضُولَ فِي كَلَامِهِ وَلَا تَقْصِيرَ فِي تَحْصِيلِ مَرَامِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا فَلَا عَاطِفَةٌ فَالْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَهُ فَصْلٌ لَيْسَ بِفُضُولٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ، وَلَا الثَّانِيَةُ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَإِلَى هُنَا انْتَهَى مَا يُعْلَمُ بِهِ كَيْفِيَّةُ كَلَامِهِ الْوَافِي بِالْمَرَامِ وَصِفَةُ مَنْطِقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَانَ الرَّاوِي ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ اسْتِطْرَادًا مُتَطَوِّعًا فِيهِ، وَاعْتِضَادًا لَمَّا خَطَرَ فِي خَاطِرِهِ أَنَّ لِلسَّائِلِ فِي مَعْرِفَةِ جَمِيعِ أَخْلَاقِهِ مُرَادًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَجْرِي الْكَلَامُ عَلَى الْكَلَامِ، وَلَوِ اعْتَنَى بِبَاقِي الْحَدِيثِ لَحُمِلَعَلَى مَعَانٍ تُنَاسِبُ الْكَلَامَ فِي الْمَرَامِ، فَقَوْلُهُ (لَيْسَ بِالْجَافِي) أَيِ: الْعَدِيمِ الْبِرِّ قَوْلًا وَفِعْلًا مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَفَاءِ خِلَافَ الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ، بَلْ بِرُّهُ حَصَلَ لِلْأَجَانِبِ، فَضْلًا عَنِ الْأَقَارِبِ، وَوَصَلَ عَلَى الْأَعْدَاءِ ; فَكَيْفَ إِلَى الْأَحِبَّاءِ ; لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ مُهْدَاةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ مُرْسَلَةٌ لِلْعَالَمِينَ أَوْ لَيْسَ بِالْفَظِّ الْغَلِيظِ الْخِلْقَةِ وَالطَّبْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ الْآيَةَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ «مَنْ بَدَا جَفَا» أَيْ: سَكَنَ الْبَادِيَةَ غَلُظَ طَبْعُهُ لِقِلَّةِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَالْجُفَاءُ: غِلَظُ الطَّبْعِ. ذَكَرُهُ فِي النِّهَايَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَجْفُوَا بِأَصْحَابِهِ بَلْ يُحْسِنُ إِلَى كُلٍّ فِي بَابِهِ (وَلَا الْمَهِينِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى الْحَقِيرِ أَيْ مَا كَانَ حَقِيرًا ذَمِيمًا بَلْ كَانَ كَبِيرًا عَظِيمًا تَغْشَاهُ مِنْ أَنْوَارِ الْوَقَارِ وَالْمَهَابَةِ، وَالْجَلَالَةِ مَا تَرْتَعِدُ مِنْهُ فَرَائِصُ الْكُفَّارِ، وَالْفُجَّارِ، وَتَخْضَعُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ جُفَاةُ الْأَعْرَابِ، وَتَذِلُّ لِعَظَمَتِهِ عُظَمَاءُ الْمُلُوكِ عَلَى كَرَاسِيِّهِمْ ; فَضْلًا عَنِ الْحِجَابِ بِالْأَبْوَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّهَا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ فَفِي النِّهَايَةِ يُرْوَى بِفَتْحِ الْمِيمِ زَائِدَةٍ، وَالْفَتْحُ مِنَ الْمَهَانَةِ، وَهُوَ الْحَقَارَةُ فَتَكُونُ الْمِيمُ أَصْلِيَّةً انْتَهَى. فَعَلَى الْأَوَّلِ أَجْوَفٌ، وَعَلَى الثَّانِي صَحِيحٌ ; فَتَأَمَّلْ ثُمَّ لَا يَخْفَى

أَنَّ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ ; فَيَكُونُ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ مَذَلَّةٍ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ جَافٍّ لِلْأَحِبَّاءِ، وَلَا ذَلِيلٍ لَدَى الْأَعْدَاءِ بَلْ مُتَوَاضِعٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمُتَكَبِّرٌ عَلَى الْمُتَجَبِّرِينَ ; فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيُوَافِقُ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (يُعَظِّمُ) بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ (النِّعْمَةَ) أَيْ: يَقُومُ بِتَعْظِيمِهَا قَوْلًا بِحَمْدِهِ، وَفِعْلًا بِالْقِيَامِ بِشُكْرِهِ فِي صَرْفِهَا لِمَرْضَاةِ رَبِّهِ (وَإِنْ دَقَّتْ) أَيْ: وَإِنْ صَغُرَتْ، وَقَلَّتِ النِّعْمَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ نِعْمَةً ظَاهِرِيَّةً أَوْ بَاطِنِيَّةً دُنْيَوِيَّةً أَوْ أُخْرَوِيَّةً. فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَلِيلِ جَلِيلٌ. وَمَا يَشْكُرُ الْكَثِيرَ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ (لَا يَذُمُّ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ النِّعْمَةِ (شَيْئًا) . وَالظَّرْفُ بَيَانٌ لَهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ: وَمِنْ جُمْلَةِ تَعْظِيمِهَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَذُمُّ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ كَانَ يَمْدَحُهَا، وَيَشْكُرُهَا لِمَا عِنْدَهُ مِنْ كَمَالِ شُهُودِ عَظَمَةِ الْمُنْعِمِ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَظَمَةِ النِّعْمَةِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ نَفْيِ الْمَذَمَّةِ، وَمَدْحِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ أَفْرَادِ النِّعْمَةِ (غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَذُمُّ ذَوَاقًا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَتَخْفِيفِ وَاوِهِ أَيْ: مَأْكُولًا، وَمَشْرُوبًا (وَلَا يَمْدَحُهُ) أَمَّا نَفْيُ مَدْحِهِ ; فَلِكَوْنِ الْمَدْحِ يُشْعِرُ بِالْحِرْصِ، وَالشُّهْرَةِ، وَبِهَذَا اتَّضَحَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجْرٍ فِي قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلْمَدْحِ عَلَى حَدِّ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ لَيْسَ فِي مَحَلٍّ لِلْحَلِّ فَتَأَمَّلْ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ كَلَامًا الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: هَذَا دَفْعُ وَهْمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَمْدَحُهَا، وَدَفَعَهُ أَنَّهُ لَا يَمْدَحُهَا، وَلَا يَذُمُّهَا هَذَا. قَالَ مِيرَكُ: الذَّوَّاقُ فَعَّالٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِنَ الذَّوْقِ، وَيَقَعُ عَلَى الِاسْمِ، وَالْمَصْدَرِ، وَفِي الْفَائِقِ الذَّوَّاقُ اسْمُ مَا يُذَاقُ أَيْ: لَا يَصِفُ الطَّعَامَ بِطَبِيعَةٍ، وَلَا بِبَشَاعَةٍ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ كَانَ يَمْدَحُ جَمِيعَ نِعَمِ اللَّهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَذَمَّتِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِمَدْحِ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَلَا يَذُمُّهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ (وَلَا تُغْضِبُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: لَا تُوقِعُهُ فِي الْغَضَبِ (الدُّنْيَا) أَيْ: جَاهُهَا، وَمَالُهَا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَالِهَا، وَمَا لَهَا، وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (وَلَا مَا كَانَ لَهَا) أَيْ: وَلَا يُغْضِبُهُ أَيْضًا مَا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ مَا بِالدُّنْيَا لِدَنَاءَتِهَا، وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا، وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا، وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا، وَزِيَادَةُ لَا لِمَزِيدِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَكَأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ فَقَالَ: وَكَيْفَ تُغْضِبُهُ، وَهُوَ مَا كَانَ خُلِقَ لَهَا أَيْ: لِلتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا بَلْ لِهِدَايَةِ الضَّالِّينَ انْتَهَى. وَهُوَ صَحِيحٌ بِحَسَبِ الدِّرَايَةِ لَكِنْ يُخَالِفُهُ الرِّوَايَةُ (فَإِذَا تُعُدِّيَ الْحَقُّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا تَجَاوَزَ أَحَدٌ عَنِ الْحَقِّ (لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ) أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ غَضَبَهُ، وَلَمْ يُقَاوِمْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَانِعَةِ فِي الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ (حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ: حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلْحَقِّ بِالْحَقِّ (لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ) أَيْ: وَلَوْ تُعُدِّيَ فِي حَقِّهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ مِنْ أَجْلَافِ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ (وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا) بَلْ يُقَابِلُهُ بِالْحِلْمِ، وَالْكَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (إِذَا أَشَارَ) أَيْ: إِلَى إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ (أَشَارَ) أَيْ: إِلَيْهِ (بِكَفِّهِ كُلِّهَا) أَيْ: جَمِيعِهَا، وَلَا يَقْتَصِرُ

عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِبَعْضِهَا لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَأَخْلَاقِ الْمُتَجَبِّرِينَ (وَإِذَا تَعَجَّبَ) أَيْ: فِي أَمْرٍ (قَلَبَهَا) أَيْ: قَلَبَ الْكَفَّ مِنَ الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَيْهَا حَالَ التَّعَجُّبِ بِأَنْ يَكُونَ ظَهْرُ الْيَدِ فَوْقًا ; فَيَقْلِبُهَا بِأَنْ يَجْعَلَ بَطْنَهَا أَعْلَى إِشَارَةً إِلَى تَقَلُّبِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ أَوِ اكْتِفَاءً بِالْفِعْلِ عَنِ الْقَوْلِ فِي إِظْهَارِ التَّعَجُّبِ (وَإِذَا تَحَدَّثَ) أَيْ: تَكَلَّمَ (اتَّصَلَ) أَيْ: حَدِيثُهُ (بِهَا) أَيْ: بِكَفِّهِ بِمَعْنَى أَنَّ حَدِيثَهُ يُقَارِنُ تَحْرِيكَهَا ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ التَّحْرِيكَ الْمُقَارِنَ لِلْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ (وَضَرَبَ بِرَاحَتِهِ) أَيْ: بِكَفِّهِ (الْيُمْنَى بَطْنَ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى) وَكَانَ هَذَا عَادَتَهُمْ، وَقِيلَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَتَنَازَعَ اتَّصَلَ، وَضَرَبَ فِي بَطْنِ إِبْهَامِهِ وَأُعْمِلَ الثَّانِي، وَقُدِّرَ لِلْأَوَّلِ أَيْ: أَوْصَلَ الْكَفَّ إِلَى بَطْنِ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى، وَقِيلَ أَقْوَالٌ أُخَرُ مُتَعَارِضَةٌ، وَمُتَنَاقِصَةٌ لَيْسَ تَحْتَهَا فَائِدَةٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا (وَإِذَا غَضِبَ) أَيْ: مِنْ أَحَدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أُغْضِبَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ (أَعْرَضَ) أَيْ: عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْغَضَبُ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْحِلْمِ، وَالْكَرْمِ، وَعَفَى عَنْهُ (وَأَشَاحَ) أَيْ: جَدَّ فِي الْإِعْرَاضِ، وَبَالَغَ فِيهِ عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ، وَقِيلَ أَيْ: بِوَجْهٍ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَإِذَا فَرِحَ) أَيْ: فَرَحَا كَثِيرًا (غَضَّ طَرْفَهُ) بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: أَطْرَقَ وَلَمْ يَفْتَحْ عَيْنَهُ تَوَاضُعًا، وَتَمْكِينًا، وَفِي رِوَايَةٍ، وَكَانَ إِذَا رَضِيَ، وَسُرَّ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صَارَ مَسْرُورًا، وَفَرِحًا ; فَكَأَنَّ وَجْهَهُ وَجْهُ الْمِرْآةِ (وَكَأَنَّ الْجُدُرَ تُلَاحِكُ وَجْهَهُ) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فِي كِتَابِ الْفَائِقِ الْمُلَاحَكَةُ، وَالْمُلَاحَمَةُ أُخْتَانِ يُقَالُ لُوحِكَ فِقَارُ النَّاقَةِ ; فَهُوَ مُلَاحَكٌ أَيْ: لُوحِمَ بَيْنَهُ، وَأُدْخِلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَكَذَا الْبِنَاءُ وَنَحْوُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ جُدُرَ الْبَيْتِ تُرَى فِي وَجْهِهِ كَمَا تُرَى فِي الْمِرْآةِ لِوَضَاءَتِهِ انْتَهَى. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْرَفُ رِضَاهُ، وَغَضَبُهُ بِوَجْهِهِ كَانَ إِذَا رَضِيَ فَكَأَنَّمَا تُلَاحِكُ الْجُدَرُ وَجْهَهُ، وَإِذَا غَضِبَ خَسَفَ لَوْنُهُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَاصِمٍ يَعْنِي شَيْخَهُ أَبَا الْحَكَمِ اللَّيْثِيِّ يَقُولُ هِيَ الْمِرْآةُ تُوضَعُ فِي الشَّمْسِ ; فَيُرَى ضَوْءُهَا عَلَى الْجُدُرِ يَعْنِي تُلَاحِكُ الْجُدَرَ (جُلُّ ضَحِكِهِ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: مُعْظَمُهُ (التَّبَسُّمُ) فَلَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. لَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ ; فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ. وَزِيدَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (يَفْثُرُّ) بِسُكُونِ الْفَاءِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: يَضْحَكُ ضَحِكًا حَسَنًا بِحَيْثُ يَنْكَشِفُ ضَحِكُهُ، وَيَصْدُرُ حَتَّى بَدَتْ أَسْنَانُهُ (عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ) أَيِ: السَّحَابِ، وَهُوَ الْبَرَدُ بِفَتْحَتَيْنِ شَبَّهَ بِهِ أَسْنَانَهُ الْبِيضَ، وَقِيلَ

(باب ما جاء في ضحك رسول - صلى الله عليه وسلم -)

حَبُّ الْغَمَامِ اللؤلؤ لأنه يحصل من ماء المطر النازل من الغمام، وَهُوَ أَنْسَبُ فِي بَابِ التَّشْبِيهِ لِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنَ الْبُرُودَةِ، وَلِمَا فِي الثَّانِي مِنْ زِيَادَةِ تَشْبِيهِ الْفَمِ بِالصَّدَفِ، وَالرِّيقِ بِمَاءِ الرَّحْمَةِ فِي بَحْرِ النِّعْمَةِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي ضَحِكِ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَابُ ضَحِكٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بَابُ ضَحِكٍ قَالَ الْعِصَامُ: وَفِي نُسْخَةٍ بَابٌ مُنَوَّنًا، وَضَحِكَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، انْتَهَى. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى ثُمَّ الضَّحِكُ مَضْبُوطٌ فِي الْأُصُولِ بِكَسْرٍ، فَسُكُونٍ، وَفِي الْقَامُوسِ ضَحِكَ ضَحِكًا بِالْفَتْحِ، وَبِالْكَسْرِ، وَبِكَسْرَتَيْنِ، وَكَكَتِفٍ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ (أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَتَشْدِيدِ ثَانِيهِ (وَهُوَ ابْنُ أَرْطَأَةَ) غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلتَّأْنِيثِ، وَالْعَلَمِيَّةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرْطَى: شَجَرٌ نُورُهُ كَنُورِ الْخِلَافِ، وَثَمَرُهُ كَالْعُنَّابِ لَكِنَّهُ مُرٌّ تَأْكُلُهُ الْإِبِلُ، الْوَاحِدَةُ: أَرْطَاةٌ وَأَلِفَهُ لِلْإِلْحَاقِ ; فَيُنَوَّنُ نَكِرَةً لَا مَعْرِفَةً أَوْ أَلِفُهُ أَصْلِيَّةٌ ; فَيُنَوَّنُ دَائِمًا، وَوَزْنُهُ أَفْعَلُ، وَمَوْضِعُهُ الْمُعْتَلُّ، وَبِهِ سُمِّيَ، وَكُنِّيَ (عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) بِكَسْرِ السِّينِ (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ فِي سَاقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لِلتَّعْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي الْمِشْكَاةِ بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ (حُمُوشَةٌ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمِيمِ أَيْ: دِقَّةُ، وَدِقَّتُهَا مِمَّا يُمْتَدَحُ بِهِ، وَقَدْ أَكْثَرَ أَهْلُ الْقِيَافَةِ مِنْ ذِكْرِ مَحَاسِنِ ذَلِكَ، وَفَوَائِدِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْعِصَامِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ الْمُعْجَمِ ; فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَمُعَارِضٌ لِلُّغَةِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَامُوسُ، وَالنِّهَايَةُ، وَمُغَيِّرٌ لِلْمَعْنَى فَإِنَّ الْخَمْشَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ خَدْشُ الْوَجْهِ، وَلَطْمُهُ، وَقَطْعُ عُضْوٍ مِنْهُ (وَكَانَ لَا يَضْحَكُ إِلَّا تَبَسُّمًا) جَعَلَ التَّبَسُّمَ مِنَ الضَّحِكِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّ التَّبَسُّمَ مِنَ الضَّحِكِ بِمَنْزِلَةِ السِّنَةِ مِنَ النَّوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) أَيْ: شَارِعًا فِي الضَّحِكِ، وَهَذَا الْحَصْرُ يُحْمَلُ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ جُلَّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ، وَلِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقِيلَ مَا كَانَ يَضْحَكُ إِلَّا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا ; فَلَمْ يَزِدْ عَلَى التَّبَسُّمِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَتَعْلِيلٌ مُسْتَحْسَنٌ، وَوَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كَانَ إِذَا ضَحِكَ يَتَلَأْلَأُ فِي الْجُدُرِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يُشْرِقُ نُورُهُ عَلَيْهِ إِشْرَاقًا كَإِشْرَاقِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا (فَكُنْتُ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُخَاطَبِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، وَفِي الْمِشْكَاةِ نَقْلًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَكُنْتُ بِالْوَاوِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ (إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ) أَيْ بَادِيَ الرَّأْيِ (قُلْتُ أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ (هُوَ) (وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِأَكْحَلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يُقَالُ رَجُلٌ أَكْحَلُ بَيِّنُ الْكَحَلِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلُو جُفُونَ عَيْنَيْهِ سَوَادٌ مِثْلُ الْكُحْلِ مِنْ غَيْرِ اكْتِحَالٍ ; فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ، وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ عَلَى الْمُكْتَحِلِ تَأَمَّلْ ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَفِي الْقَامُوسِ الْكَحَلُ مُحَرَّكَةٌ أَنْ يَعْلُوَ مَنَابِتَ الْأَشْفَارِ سَوَادُ خِلْقَةٍ أَوْ أَنْ يَسْوَدَّ مَوَاضِعُ الْكُحْلِ، كَحِلَ كَفَرِحَ، فَهُوَ أَكْحَلُ، انْتَهَى. فَلَا يَخْفَى أَنَّ أَكْحَلَ لَهُ مَعْنَيَانِ، فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي عَلَى الثَّانِي ; فَتَأَمَّلْ.

أَوْ يُقَالُ مَعْنَاهُ أَنَّ عَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي نَظَرِ الْخَلَائِقِ مَكْحُولٌ لَا حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَكْحُولٍ ; فَيُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ أَكْحَلَ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ لَيْسَ لِنَفْيِ الْحَالِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَكْثَرِ، فَهُنَا لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَقِيلَ لِمُطْلَقِ النَّفْيِ ; فَلَا إِشْكَالَ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ) بِفَتْحِ جِيمٍ فَسُكُونِ زَايٍ فَهَمْزٍ (قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: تَبَسُّمَهُ أَكْثَرَ مِنْ ضَحِكِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ ; فَإِنَّ ضَحِكَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ تَبَسُّمِهِمْ ; فَلَا يُنَافِي مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مُتَوَاصِلُ الْأَحْزَانِ كَذَا حَقَّقَهُ الْفَاضِلُ مَوْلَانَا عَبْدُ الْغَفُورِ، وَتَبِعَهُ الشُّرَّاحُ، وَتَعَقَّبَهُ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) صِلَةُ (أَكْثَرَ تَبَسُّمًا) ، وَمَعْنَاهُ بِمُقْتَضَى الْعُرْفِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ تَبَسُّمًا مِنْ غَيْرِهِ قُلْتُ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ التَّبَسُّمِ أَحْيَانًا عَلَى مَا وَرَدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ، فَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ مُتَعَيِّنٌ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. غَايَتُهُ أَنَّهُ مُتَفَرِّعٌ عَلَى أَنَّ ضَحِكَ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ تَبَسُّمِهِمْ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ الْمُشَاهَدُ فِي عَامَّتِهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَفِي جَمِيعِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ ; فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ سَائِرَ النَّاسِ ضَحِكُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ تَبَسُّمِهِمْ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ هُوَ دَعْوَى بَيَانٍ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ انْدِفَاعُ التَّدَافُعِ بِهِ، انْتَهَى. قَالَ شَارِحٌ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَوَاصِلُ الْأَحْزَانِ بَاطِنًا بِسَبَبِ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَكَانَ أَكْثَرَ تَبَسُّمًا ظَاهِرًا مَعَ النَّاسِ تَآلُفًا بِهِمْ وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَوَاصُلَ الْأَحْزَانِ لَا يُنَافِي كَثْرَةَ تَبَسُّمِهِ لِأَنَّ الْحُزْنَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدِ الْخَلَّالُ) بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ، فَتَشْدِيدِ لَامٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَائِعَ الْخَلِّ أَوْ صَانِعَهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقِ السَّيْلَحَانِيُّ) بِفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، وَفَتْحِ لَامٍ، فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ نِسْبَةً لِسَيْلَحُونَ قَرْيَةٍ بِفَتْحٍ أَوْ كَسْرٍ، أَوَّلُهُ الْمُهْمَلَةُ فَتَحْتِيَّةٌ فَلَامٌ مَفْتُوحَةٌ فَمُهْمَلَةٌ انْتَهَى. وَفِي صِحَّةِ النَّسَبِ بَحَثَ نُعْمٌ فِي الْقَامُوسِ (سَيْلَحُونَ) قَرْيَةٌ وَلَا تَقُلْ سَالِحُونَ هَذَا وَفِي نُسْخَةٍ السُّيَلْحَانِيُّ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ وَفِي نُسْخَةٍ السَّيْلَخِينِيُّ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ) أَيِ: ابْنِ جَزْءٍ (قَالَ: مَا كَانَ ضَحِكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي غَالِبِ أَوْقَاتِهِ (إِلَّا تَبَسُّمًا قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ) قِيلَ غَرَابَتُهُ نَاشِئَةٌ مِنْ تَفَرُّدِ اللَّيْثِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَجَلَالَتِهِ ; فَهِيَ غَرَابَةٌ فِي السَّنَدِ لَا تُنَافِي صِحَّتَهُ. (حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ) بِفَتْحٍ، فَتَشْدِيدٍ (الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ،

فَضَمٍّ (بْنِ سُوَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي لَأَعْلَمُ) أَيْ: بِالْوَحْيِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا، وَالْمَعْنَى أَعْرِفُ (أَوَّلَ رَجُلٍ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ صَوَابُهُ آخِرَ رَجُلٍ (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَآخِرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَدُّدِ بِنَاءً عَلَى نُسْخَةِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى نُسْخَةِ الْآخِرِ، فَيَتَعَيَّنُ الِاتِّحَادُ، فَتَأَمَّلْ لِيَتَبَيَّنَ لَكَ الْمُرَادُ، وَالْأَوَّلُ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاقِفِينَ فِي الْحِسَابِ قَالَ شَارِحٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَآخِرَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَحَاصِلُهُ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا هُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ ; فَيَجِبُ أَنْ يُخَصَّ بِالْأَوَّلِ مِنَ الْمُذْنِبِينَ ; لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا هُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلرَّجُلِ الثَّانِي، وَهُوَ آخِرُ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوْ آخِرُ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ آخِرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ حَالُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي بَعْدَ هَذَا ; فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِحَالِ رَجُلٍ ثَالِثٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَالْآخِرُ عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هُنَا وَهْمًا، وَالصَّوَابُ إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَخْ ; فَإِنَّهُ هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَيُؤْتَى إِلَخْ. عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا بَيَانٌ لِحَالِ رَجُلٍ ثَالِثٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ بَيَانٌ لِآخِرِ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ تَأَمَّلْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَيُقَالُ) أَيْ: فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ (اعْرِضُوا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، وَكَسْرِ رَاءٍ أَمْرٌ مِنَ الْعَرْضِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ (صِغَارَ ذُنُوبِهِ) بِكَسْرِ الصَّادِ صَغَائِرَ ذُنُوبِهِ (وَيُخَبَّأُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْخَبْءِ بِالْهَمْزَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي إِعْرَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَطَفَ جُمْلَتَهُ عَلَى جُمْلَةِ اعْرِضُوا ; فَلَا يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ اعْرِضُوا، وَاخْبِئُوا عَنْهُ ذَلِكَ انْتَهَى. فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ الْخَلَلُ، وَالْمَعْنَى يَخْفَى (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الرَّجُلِ (كِبَارُهَا) أَيْ: كَبَائِرُ ذُنُوبِهِ أَيْ لِلْحِكْمَةِ الْآتِيَةِ (فَيُقَالُ لَهُ عَمِلْتَ) أَيْ: مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ (يَوْمَ كَذَا) أَيْ: فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ مِنَ السَّنَةِ، وَالشَّهْرِ وَالْأُسْبُوعِ وَالْيَوْمِ، وَالسَّاعَةِ (كَذَا) أَيْ: مِنَ الذَّنْبِ (وَكَذَا) أَيْ: مِنَ الذَّنْبِ الْآخَرِ (وَهُوَ مُقِرٌّ لَا يُنْكِرُ) أَيْ: فَيَتَذَكَّرُ ذَلِكَ، وَيُصَدِّقُهُ هُنَالِكَ (وَهُوَ مُشْفِقٌ) مِنَ الْإِشْفَاقِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ خَائِفٌ (مِنْ كِبَارِهَا) أَيْ: مِنْ إِظْهَارِهَا، وَاعْتِبَارِهَا ; فَإِنَّ مَنْ يُؤْخَذُ بِالصَّغِيرَةِ ; فَبِالْأَوْلَى أَنْ يُعَاقَبَ بِالْكَبِيرَةِ (فَيُقَالُ أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً) إِمَّا لِتَوْبَةٍ أَوْ لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَظْلُومًا فِي حَيَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ (فَيَقُولُ) أَيْ: طَمَعًا لِلْحَسَنَاتِ (إِنَّ لِي ذُنُوبًا مَا أَرَاهَا هَاهُنَا) أَيْ: فِي مَوْضُوعِ الْعَرْضِ أَوْ فِي صَحِيفَةِ الْأَعْمَالِ (قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ ثُمَّ بَدَتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ (نَوَاجِذُهُ) فِي النِّهَايَةِ النَّوَاجِذُ مِنَ الْأَسْنَانِ الضَّوَاحِكُ وهي

الَّتِي تَبْدُو عِنْدَ الضِّحْكِ والأَكْثَر الأَشْهَر أَنَّهَا أَقْصَى الأَسْنَان والُمرَادُ الأَوَّلُ لأَِنَّهُ مَا كَانَ يَبْلُغُ بِهِ الضِّحْك حَتَّى يَبْدُو آخِرُ أَضْرَاسِهِ كَيْفَ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَوَاخِرُ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُرَادَ مُبَالَغَةً مِنْهُ فِي ضَحِكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ ظُهُورُ نَوَاجِذٍ مِنَ الضَّحِكِ، وَهُوَ أَقْيَسُ الْقَوْلَيْنِ لِاشْتِهَارِ النَّوَاجِذِ بِأَوَاخِرِ الْأَسْنَانِ، وَفِي الْقَامُوسِ، النَّوَاجِذُ: هِيَ أَقْصَى الْأَسْنَانِ أَوِ الَّتِي تَلِي الْأَنْيَابَ أَوِ الْأَضْرَاسَ انْتَهَى. وَقِيلَ هِيَ مِنَ الْأَنْيَابِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا أَرْبَعٌ مِنْ آخِرِ الْأَسْنَانِ كُلٌّ مِنْهَا يُسَمَّى ضِرْسُ الْعَقْلِ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْبُتُ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَدْ لَا يُوجَدُ هَذِهِ الْأَسْنَانُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْأَسْنَانِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَائِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبَجَلِيِّ (قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا مَنَعَنِي مِنْ مُجَالَسَتِهِ الْخَاصَّةِ أَوْ مِنْ بَيْتِهِ حَيْثُ يُمْكِنُ الدُّخُولُ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ إِنِّي لَمْ أَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ الْبَتَّةَ مَطْلُوبَاتِي مِنْهُ (مُنْذُ أَسْلَمْتُ) أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ جَرِيرٌ: أَسَلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَسَكَنَهَا زَمَانًا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى قِرْقِيسْيَا وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (وَلَا رَآنِي) أَيْ: مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِذِ الْحَذْفُ مِنَ الثَّانِي لِدِلَالَةِ الْأَوَّلِ كَثِيرٌ (إِلَّا ضَحِكَ) أَيْ: إِلَّا تَبَسَّمَ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُطَابِقِ لِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ الْمُوَافَقَةِ لِمَا فِي الْمِشْكَاةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَائِدٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي حَازِمٍ (عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا رَآنِي مُنْذُ أَسْلَمْتُ) مُتَعَلِّقٌ بِكُلٍّ مِنَ الْفِعْلَيْنِ (إِلَّا تَبَسَّمَ) مُرْتَبِطٌ بِالْفِعْلِ الثَّانِي وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا رَآنِي كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّبَسُّمِ لَهُ كُلَّ مَرَّةٍ فِي رُؤْيَتِهِ أَنَّهُ رَآهُ مُظْهِرَ الْجَمَالِ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ صُورَةٌ حَسَنَةٌ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَقِّهِ أَنَّهُ يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ. (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ أَيِ: ابْنِ عُمَرَ (

السَّلْمَانِيُّ) بِفَتْحِ السِّينِ، وَسُكُونِ اللَّامِ، وَيُفْتَحُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي سَلْمَانَ قَبِيلَةٌ مِنْ مُرَادٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ) أَيْ: عَنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ (خُرُوجًا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ (رَجُلٌ) قِيلَ اسْمُهُ جُهَيْنَةُ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ أَوْ هَنَّادٌ الْجُهَنِيُّ (يَخْرُجُ مِنْهَا زَحْفًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بِغَيْرِ لَفْظِهِ أَوْ حَالٌ أَيْ: زَاحِفًا، وَالزَّحْفُ: الْمَشْيُ عَلَى الِاسْتِ مَعَ إِشْرَافِ الصَّدْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ حَبْوًا بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ الْمَشْيُ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ أَوِ الرُّكْبَتَيْنِ أَوِ الْمَقْعَدِ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يُرَادُ بِهِ الْآخَرُ أَوْ أَنَّهُ يَزْحَفُ تَارَةً، وَيَحْبُوا أُخْرَى (فَيُقَالُ لَهُ انْطَلِقْ) أَيْ: اذْهَبْ (فَادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ: فَيَذْهَبُ لِيَدْخُلَ) أَيِ: الْجَنَّةَ لِكَيْ يَدْخُلَهَا أَيْ: فَيُسْرِعُ لِيَدْخُلَهَا (فَيَجِدُ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا الْمَنَازِلَ) فَيُقَالُ لَهُ أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَتَقِيسُ زَمَنَكَ هَذَا الَّذِي أَنْتَ فِيهِ الْآنَ بِزَمَنِكَ الَّذِي كُنْتَ فِي الدُّنْيَا إِنَّ الْأَمْكِنَةَ إِذَا امْتَلَأَتْ بِالسَّاكِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلَّاحِقِ مَسْكَنٌ فِيهَا (فَيَقُولُ نَعَمْ ; فَيُقَالُ لَهُ تَمَنَّ) أَيْ: مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَنَوْعٍ تَشْتَهِي مِنْ وُسْعِ الدَّارِ، وَكَثْرَةِ الْأَشْجَارِ، وَالثِّمَارِ ; فَإِنَّ لَكَ مَعَ امْتِلَائِهَا مَسَاكِنَ كَثِيرَةً، وَأَمَاكِنَ كَبِيرَةً، وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلُّهَا عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِقُدْرَةِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ (قَالَ: فَيَتَّمَنَّ) أَيْ: فَيَسْأَلُ مَا يُعَدُّ مُحَالًا (فَيُقَالُ لَهُ ; فَإِنَّ لَكَ الَّذِي تَمَنَّيْتَ وَعَشَرَةَ أَضْعَافِ الدُّنْيَا) أَيْ: وَلَا تَقِسْ حَالَ الْأُخْرَى عَلَى الْأُولَى فَإِنَّ تِلْكَ دَارُ ضِيقٍ، وَمِحْنَةٍ وَهَذِهِ دَارُ سِعَةٍ، وَمِنْحَةٍ (قَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيَقُولُ) أَيْ: مِنْ غَايَةِ الْفَرَحِ، وَالِاسْتِبْشَارِ، وَنِهَايَةِ الِانْبِسَاطِ وَطَيِّ بِسَاطِ الْأَدَبِ مَعَ الْجَبَّارِ (أَتَسْخَرُ) أَيْ: تَسْتَهْزِئُ (بِي) وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ بَدَلَ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ لَكِنَّ الْأُصُولَ الْمُعْتَمَدَةَ، وَالنُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ عَلَى الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَعَكَسَ ابْنُ حَجَرٍ الْقَضِيَّةَ تَبَعًا لِبَعْضِ الشُّرَّاحِ، وَجَعَلَ النُّونَ أَصْلًا ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ أَتَسْخَرُ بِي، وَالْأُولَى أَفْصَحُ، وَأَشْهَرُ، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ. قِيلَ وَعِنْدِي تَسْخَرُ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى تَهْزَأُ قُلْتُ أَمَّا لُغَةً فَفِي الْقَامُوسِ سَخِرَ مِنْهُ وَبِهِ كَفَرِحَ هَزِئَ ; فَهَاتَانِ لُغَتَانِ فَصَيْحَتَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَفْصَحَ هُوَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَقَدْ جَاءَ بِالْأَوْلَى مِنْهُمَا حَيْثُ قَالَ تَعَالَى فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ وَلَا نَعْرِفُ فِي الْقُرْآنِ تَعْدِيَتَهُ بِالْبَاءِ، وَلَا بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَلَا فِي اللُّغَةِ هَذَا الْمَعْنَى نَعَمْ جَاءَ سَخَرَهُ كَمَنَعَهُ سِخْرِيًّا بِالْكَسْرِ وَيُضَمُّ، كَلَّفَهُ مَا لَا يُرِيدُ وَقَهَرُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَلَا مِرْيَةٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ أَفْصَحَ، وَأَشْهَرَ خَطَأٌ رِوَايَةً، وَدِرَايَةً وَالْقَوْلُ بِالتَّضَمُّنِ مُسْتَدْرَكٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِتَحَقُّقِهِ لُغَةً، فَرِوَايَةُ النُّونِ تُحْمَلُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْمَعْنَى أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي (وَأَنْتَ الْمَلِكُ) أَيْ: وَالْحَالُ إِنَّكَ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ عَظِيمُ الْبُرْهَانِ وَأَنَا الْعَبْدُ الذَّلِيلُ

الْمُسْتَهَانُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الدَّهَشِ، وَالتَّحَيُّرِ وَالْغُرُورِ لِمَا نَالَهُ مِنَ السُّرُورِ بِكَثْرَةِ الْحُورِ، وَالْقُصُورِ مِمَّا كَانَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ، وَلَمْ يَتَصَوَّرْ فِي آمَالِهِ مِنْ حُسْنِ مَا لَهُ ; فَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ ضَابِطًا لِأَقْوَالِهِ، وَلَا عَالِمًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ جَرَيَانِ حَالِهِ بَلْ جَرَى لِسَانُهُ بِمُقْتَضَى عَادَتِهِ فِي مُخَاطَبَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمُحَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ. نَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَمَّنْ قَالَ مِمَّنْ لَمْ يَضْبِطْ نَفْسَهُ حَالَةَ غَايَةِ الْفَرَحِ فِي الدُّعَاءِ حَيْثُ صَدَرَ مِنْهُ سَبَقَاللِّسَانُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ مَكَانَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ، وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْمَقَالِ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ ; فَيُقَالُ (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) جَمْعُ النَّاجِذِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَسْنَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ هِيَ الْأَضْرَاسُ كُلُّهَا، وَقِيلَ بَلْ هِيَ الَّتِي تَلِي الْأَنْيَابَ، وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ كَانَ جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمَ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِإِبْدَاءِ أَقْصَى الْأَسْنَانِ فَالْوَجْهُ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّحِكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوصَفَ بِإِبْدَاءِ نَوَاجِذِهِ حَقِيقَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّوَاجِذَ بِمَعْنَى أَقْصَى السِّنَانِ لُغَةً لَكِنَّهُ رَفَضَ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ هُنَا، وَعَدَلَ إِلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ ضَحِكَ فُلَانٌ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَصْدُهُمْ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّحِكِ إِذْ لَيْسَ فِي إِبْدَاءِ مَا وَرَاءَ النَّابِ مُبَالَغَةٌ ; فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِأَوَّلِ مَرَاتِبِ الضَّحِكِ. وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا غَايَةٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةٌ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، وَالْبَدِيعِ الَّتِي هِيَ زُبْدَةُ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ عُمْدَةُ كَلَامِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالرِّوَايَاتِ النُّورَانِيَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا كَمَالُ الْإِعْجَازِ، وَظُهُورُ الْإِطْنَابِ، وَالْإِيجَازِ، وَبَيَانُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَبُلُوغُ مَبْلَغِ الْبَلَاغَةِ، وَحُصُولُ مُفْصِحِ الْفَصَاحَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ. وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: وَكَمْ تَرَى مِمَّنْ ضَاقَ عَطَنُهُ، وَجَفَا عَنِ الْعِلْمِ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَنْتَحِيهَا الْعَرَبُ لَا تُسَاعِدُ اللُّغَةَ ; فَيَهْدِمُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ الْأَوْضَاعُ، وَيَخْتَرِعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَضْعًا مُسْتَحْدَثًا لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ الْمَوْثُوقُ بِعَرَبِيَّتِهِمْ، وَلَا الْعُلَمَاءُ الْأَثْبَاتُ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنْهُمْ، وَاحْتَاطُوا، وَتَأَنَّقُوا فِي تَلَقِّيهَا، وَتَدَاوِينِهَا ; فَيَضِلُّ، وَيُضِلُّ وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ; فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَجْرِي مِنْهُ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ. قُلْتُ لَوْ حُمِلَ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى مَا تَدَاوَلَتْهُ الْعَرَبُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْيَدِ، وَالْعَيْنِ، وَالِاسْتِوَاءِ، وَغَيْرِهَا لِوُقُوعِ جَمِيعِ النَّاسِ فِي فَسَادِ الِاعْتِقَادِ مِنَ التَّجْسِيمِ، وَالتَّشْبِيهِ، وَإِثْبَاتِ الْجِهَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ رَبُّ الْعِبَادِ. فَالْمَخْلَصُ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا التَّفْوِيضُ، وَالتَّسْلِيمُ كَمَا هُوَ طَرِيقُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، أَوِ التَّأْوِيلُ اللَّائِقُ بِالْمَقَامِ دَفْعًا لِتَوَهُّمٍ فَوَهْمُ الْعَوَامِّ كَمَا سَبِيلُ غَالِبِ الْخَلَفِ، وَالثَّانِي أَضْبَطُ وَأَحْكَمُ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَأَسْلَمُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا) أَيْ: حَضَرْتُهُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) حَالَ كَوْنِهِ (أَتَى) أَيْ: جِيءَ (بِدَابَّةٍ) وَهِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ثُمَّ خَصَّهَا الْعُرْفُ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ (لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ) أَيْ: أَرَادَ وَضْعَهَا (فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ) قِيلَ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ نُوحٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّ عَلِيًّا نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَأَسَّى بِهِ فِي ذَلِكَ ; فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يُقَالُ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ إِلَخْ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَبْنِيَّ عَلَيْهِ فِعْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ وَلَا بِدْعَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ كَمَا أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَذْكَارِ الْآتِيَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ

مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ (فَلَمَّا اسْتَوَى) أَيْ: اسْتَقَرَّ (عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: عَلَى نِعْمَةِ الرُّكُوبِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْمَرْغُوبِ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: تَعَجُّبًا مِنْ تَسْخِيرِ الدَّابَّةِ الْقَوِيَّةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالنَّاقَةِ لِلْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ الْبِنْيَةِ (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ) أَيْ: ذَلَّلَ (لَنَا) أَيْ: لِأَجْلِنَا (هَذَا) أَيِ: الْمَرْكُوبَ (وَمَا كُنَّا لَهُ) أَيْ: لِتَسْخِيرِهِ (مُقْرِنِينَ) أَيْ: مُطِيقِينَ لَوْلَا تَسْخِيرُهُ لَنَا (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا) أَيْ: حُكْمِهِ، وَأَمْرِهِ أَوْ قَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ أَوْ جَزَائِهِ، وَأَجْرِهِ (لَمُنْقَلِبُونَ) أَيْ: رَاجِعُونَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَنَاسَبَ ذِكْرُهُ لِأَنَّ الدَّابَّةَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ بَعْدَ وُقُوعِ الْمُصِيبَةِ لَا قَبْلَهُ لَا سِيَّمَا وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمِنَّةِ الَّتِي يَجِبُ الْحَمْدُ عَلَيْهَا (ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: شُكْرًا لِلتَّسْخِيرِ (ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي التَّكْرِيرِ إِشْعَارٌ بِتَعْظِيمِ النِّعْمَةِ أَوِ الْأَوَّلُ: لِحُصُولِ النِّعْمَةِ، وَالثَّانِي: لِدَفْعِ النِّقْمَةِ، وَالثَّالِثُ: لِعُمُومِ الْمِنْحَةِ (وَاللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: تَعَجُّبًا لِلتَّسْخِيرِ (ثَلَاثًا) إِمَّا تَعْظِيمًا لِهَذِهِ الصَّنْعَةِ، أَوِ الْأَوَّلُ: إِيمَاءٌ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ فِي ذَاتِهِ، وَالثَّانِي: لِلتَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ فِي صِفَاتِهِ، وَالثَّالِثُ: إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاسْتِوَاءِ الْمَكَانِيِّ، وَالِاسْتِعْلَاءِ الزَّمَانِيِّ (سُبْحَانَكَ) أَيْ: أُسَبِّحُكَ تَنْزِيهًا مُطْلَقًا وَتَسْبِيحًا مُحَقَّقًا إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أَيْ: بِعَدَمِ الْقِيَامِ لِوَظِيفَةِ شُكْرِ الْإِنْعَامِ، وَلَوْ بِغَفْلَةٍ أَوْ خَطْرَةٍ أَوْ نَظْرَةٍ (فَاغْفِرْ لِي ; فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) فَفِيهِ إِشْعَارٌ لِلِاعْتِرَافِ بِتَقْصِيرِهِ مَعَ إِنْعَامِ اللَّهِ، وَتَكْثِيرِهِ (ثُمَّ ضَحِكَ) أَيْ: عَلِيٌّ (فَقُلْتُ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ) وَفِي نُسْخَةٍ تَضْحَكُ، وَفِي أُخْرَى فَقَالَ أَيِ ابْنُ رَبِيعَةَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ، وَوُجِّهَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِلِانْتِقَالِ مِنَ التَّكَلُّمِ عَلَى الْغَيْبَةِ أَوْ مِنْ بَابِ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى لِلرَّاوِي عَنْهُ، ثُمَّ خِطَابُهُ بِقَوْلِهِ (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَضِيَّةَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ (قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ مُجِيبًا لَهُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ) أَيْ: قَوْلًا، وَفِعْلًا (ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ) أَيْ: لَيَرْضَى (مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ رَبِّي اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَالَ: وَأَغْرَبَ مِيرَكُ فِي قَوْلِهِ بِتَقْدِيرِ قَدْ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ إِذَا كَانَتْ فِعْلِيَّةً مُضَارِعِيَّةً مُثْبَتَةً تَتَلَبَّسُ بِالضَّمِيرِ وَحْدَهُ لِمُشَابَهَتِهِ لَفْظًا، وَمَعْنًى لِاسْمِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْوَاوِ نَحْوُ جَاءَنِي زَيْدٌ يُسْرِعُ. قِيلَ وَقَدْ سُمِعَ بِالْوَاوِ، نَعَمْ لَا بُدَّ فِي الْمَاضِي الْمُثْبَتِ مِنْ (قَدْ) ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ بَلْ تَقْدِيرُ قَدْ مَضَرَّةٌ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْمَعْنَى قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي غَيْرُ غَافِلٍ أَوْ جَاهِلٍ بَلْ حَالَ كَوْنِهِ عَالِمًا (أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ أَحَدٌ غَيْرِي) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّهُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا كَلَامُهُ تَعَالَى كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يَجْعَلَ (يَعْلَمُ) بَدَلًا مِنْ (يَعْجَبُ) أَوْ حَالًا لَازِمَةً مِنْ ضَمِيرِهِ الرَّاجِعِ عَلَى الرَّبِّ هَذَا. وَقَدْ قَالَ شَارِحٌ: التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِعْظَامِ الشَّيْءِ، وَمَنْ ضَحِكَ مِنْ أَمْرٍ إِنَّمَا يَضْحَكُ مِنْهُ إِذَا اسْتَعْظَمَهُ فَكَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَافَقَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَافَقَ الرَّبَّ تَعَالَى، انْتَهَى. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ عِلْمَ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا رَبُّهُ لَيْسَ مِمَّا يُسْتَعْظَمُ. فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ التَّعَجُّبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمُحَالِ أُرِيدَ بِهِ غَايَتُهُ، وَهُوَ الرِّضَا، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِجَزِيلِ الثَّوَابِ لِلْعَبْدِ الْعَاصِي، وَهُوَ مُقْتَضٍ لِفَرَحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُوجِبِ لِضَحِكِهِ، وَلَمَّا تَذَكَّرَ ذَلِكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ اقْتَضَى مَزِيدَ فَرَحِهِ ; فَضَحِكَ لَا أَنَّ ضَحِكَهُ مُجَرَّدُ تَقْلِيدٍ ; فَإِنَّهُ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَكَلَّفُ لَهُ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي حَمْلُ ضَحِكِ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه

وسلم - وَالْوَلِيِّ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْوَدُ) بِتَكْرَارِ مُحَمَّدٍ عَلَى الصَّوَابِ (عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ سَمِعَ أَبَاهُ، وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي التَّابِعِينَ (قَالَ: قَالَ سَعْدٌ) هُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقَالَ: كُنْتُ ثَالِثَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ تَرْجَمَةٍ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ) كَجَعْفَرٍ حَفِيرٌ حَوْلَ أَسْوَارِ الْمَدِينَةِ مُعَرَّبُ كِنْدَةَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ) أَيْ: عَامِرٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيُّ، وَالْعِصَامُ، وَابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: فَاعِلُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ، وَأَنْسَبَ (قُلْتُ) لِسَعْدٍ أَوْ لِعَامِرٍ (كَيْفَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَيْفَ كَانَ أَيْ: عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ ضَحِكُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (قَالَ) أَيْ: سَعْدٌ أَوْ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَكَأَنَّهُ نَقَلَ كَلَامَ أَبِيهِ بِالْمَعْنَى، وَبُعْدَهُ لَا يَخْفَى كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ (كَانَ رَجُلٌ مَعَهُ تُرْسٌ) الْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ (وَكَانَ سَعْدٌ رَامِيًا) إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَالَ الثَّانِي لِعَامِرٍ ; فَلَا إِشْكَالَ غَيْرَ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَبِي، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي أَسَانِيدِ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ لِسَعْدٍ ; فَهُوَ مِنَ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ (وَكَانَ) قِيلَ هَذَا مِنْ كَلَامِ سَعْدٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَيْ: وَكَانَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ (يَقُولُ) أَيْ: يَفْعَلُ (كَذَا وَكَذَا بِالتُّرْسِ) أَيْ: يُشِيرُ يَمِينًا، وَشِمَالًا (يُغَطِّي جَبْهَتَهُ) أَيْ: حَذَرًا عَنِ السَّهْمِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانًا لِلْإِشَارَةِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَقُولُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْقَوْلَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَتُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِ الْكَلَامِ وَاللِّسَانِ، فَتَقُولُ: قَالَ بِيَدِهِ أَيْ: أَخَذَهُ، وَقَالَ: بِرِجْلِهِ أَيْ: مَشَى وَقَالَتْ بِهِ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً أَيْ: أَوْمَأَتْ بِهِ وَقَالَ بِالْمَاءِ عَلَى يَدِهِ أَيْ: قَلَبَهُ، وَقَالَ: بِثَوْبِهِ أَيْ: رَفَعَهُ وَقَالَ: بِالتُّرْسِ أَيْ: أَشَارَ وَقَلَبَ، وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْمُذْكُورَاتِ غَيْرَهَا انْتَهَى. وَقَدْ غَفَلَ الْحَنَفِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ: فِي قَوْلِهِ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا أَيْ: مَا لَا يُنَاسِبُ لِجَنَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا لِأَصْحَابِهِ، وَبِالتُّرْسِ مُتَعَلِّقٌ بِيُغَطِّي (فَنَزَعَ لَهُ سَعْدٌ) سَبَقَ بَحْثُهُ (بِسَهْمٍ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ: أَخْرَجَ، وَمَدَّ لَهُ سَعْدٌ سَهْمًا مُنْتَظِرًا كَشْفَ جَبْهَتِهِ. (فَلَمَّا رَفَعَ) . أَيِ: الرَّجُلُ (رَأْسَهُ) أَيْ: مِنْ تَحْتِ التُّرْسِ ; فَظَهَرَتْ جَبْهَتُهُ؛ (رَمَاهُ فَلَمْ يُخْطِئْ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، فَهَمْزٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ طَائِهِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَالَ الْعِصَامُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْخَطَاءِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِخْطَاءِ أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ، وَلَمْ يَتَعَدَّ (هَذِهِ) أَيْ: جَبْهَتَهُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ السَّهْمِ بَلْ أَصَابَهَا، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ قَلْبٍ نَحْوُ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. وَقَوْلُهُ (يَعْنِي جَبْهَتَهُ) كَلَامُ عَامِرٍ أَوْ مَنْ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ سَعْدًا يَعْنِي أَيْ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ هَذِهِ الْجَبْهَةَ هَذَا خُلَاصَةُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ أَطْنَبَ الْحَنَفِيُّ، وَجَمَعَ بَيْنَ السَّمِينِ، وَالْهُزَالِ مِنَ الْكَلَامِ، فَتَأَمَّلْ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الظَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي النِّهَايَةِ أَخْطَأَ يُخْطِئُ إِذَا سَلَكَ سَبِيلَ الْخَطَاءِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَيُقَالُ خَطَأَ يَعْنِي أَخْطَأَ أَيْضًا، وَقِيلَ خَطَأَ إِذَا تَعَمَّدَ، وَأَخْطَأَ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ وَيُقَالُ لِمَنْ أَرَادَ شَيْئًا، فَفَعَلَ غَيْرَهُ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ الصَّوَابِ أَخْطَأَ انْتَهَى. كَلَامُهُ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ ; فَلَمْ يُخْطِئْ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْإِخْطَاءِ أَيْ: لَمْ تُخْطِئْ هَذِهِ الرَّمْيَةُ مِنْهُ أَيْ: مِنَ الرَّجُلِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي جَبْهَتَهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَلَمْ يُخْطَئْ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَطَاءِ وَالْإِخْطَاءِ،

(باب ما جاء في صفة مزاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَلَمْ يُخْطِأْ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الْإِخْطَاءِ كَمَا مَرَّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، فَلَمْ يَخْطُ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْخَطْوِ. وَالْخُطُوَاتُ: بِالضَّمِّ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْمَشْيِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ، وَجَمْعُ الْخُطْوَةِ فِي الْكَثْرَةِ خُطًى، وَفِي الْقِلَّةِ خُطْوَاتٌ بِسُكُونِ الطَّاءِ، وَضَمِّهَا وَفَتْحِهَا، وَلَا بُدَّ هُنَا مِنَ اعْتِبَارِ التَّجَوُّزِ أَيْ: لَمْ تَتَجَاوَزْ هَذِهِ الرَّمْيَةُ مِنَ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى. (وَانْقَلَبَ) أَيْ: سَقَطَ الرَّجُلُ عَلَى عَقِبِهِ (وَشَالَ بِرِجْلِهِ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: رَفَعَهَا يُقَالُ شَالَتِ النَّاقَةُ بِذَنَبِهَا، وَأَشَالَتْهُ أَيْ: رَفَعَتْهُ، وَفِي بَعْضِ نُسْخَةٍ، وَأَشَالَ فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، فَشَالَ بِالْفَاءِ بَدَلَ الْوَاوِ، وَفِي بَعْضِهَا، وَأَشَادَ مِنَ الْإِشَادَةِ، وَيَقْرُبُ مَعْنَاهُ مِمَّا مَرَّ وَتَعَدَّى بِالْبَاءِ قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ لِمَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ الْإِشَادَةَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشَّيْءِ، وَتَعْرِيفُ الضَّالَّةِ، وَالْإِهْلَاكُ. (فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) أَيْ: مِنْ قَتْلِ سَعْدٍ إِيَّاهُ، وَغَرَابَةِ إِصَابَةِ سَهْمِهِ لِعَدُوِّهِ، وَالِانْقِلَابِ النَّاشِئِ عَنْهُ مَعَ رَفْعِ الرِّجْلِ لَا مِنَ انْكِشَافِ عَوْرَتِهِ لِأَنَّ كَشْفَ عَوْرَةِ الْحَرْبِيِّ، وَالنَّظَرَ إِلَيْهِ قَصْدًا يَحْرُمُ. (قُلْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقُلْتُ، وَالْقَائِلُ: هُوَ عَامِرٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: قَائِلُهُ مُحَمَّدٌ الرَّاوِي عَنْ عَامِرٍ. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ) . أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) أَيْ: سَعْدٌ أَوْ عَامِرٌ. (مِنْ فِعْلِهِ) أَيْ: مِنْ فِعْلِ سَعْدٍ، وَهُوَ عَلَى الْأَوَّلِ الْتِفَاتٌ. (بِالرَّجُلِ) . قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: ضَحِكَ مِنْ قَتْلِهِ عَدُوَّهُ لَا مِنَ الِانْكِشَافِ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ. انْتَهَى وَفِيهِ أَنَّ مِنَ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَضْحَكَ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ بَلْ إِنَّمَا ضَحِكَ فَرَحًا بِمَا فَعَلَهُ سَعْدٌ بِعَدُوِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقَتْلِ الْعَجِيبِ، وَالِانْقِلَابِ الْغَرِيبِ، وَسُرُورًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِطْفَاءِ نَارِ الْكُفْرِ، وَإِبْدَاءِ نُورِ الْإِيمَانِ، وَقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِجَنَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ فِي نَفْسِ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ إِشَارَةً عَلَى رَدِّ ذَلِكَ، فَكَأَنَّ السَّائِلَ تَرَدَّدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ مِنْ كَشْفِ عَوْرَةِ الرَّجُلِ كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ بَعْضِهِمْ أَوْ مِنْ فِعْلِ سَعْدٍ بِهِ، فَقَالَ: مِنْ فِعْلِهِ بِالرَّجُلِ أَيْ: قَتْلِهِ ; فَإِنَّ كَشْفَ عَوْرَتِهِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ سَعْدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ مُزَاحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَسْرِهَا، وَالْأَوَّلُ: أَظْهَرُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي النِّهَايَةِ الْمُزَاحُ: الدُّعَابَةُ، وَقَدْ مَزَحَ يَمْزَحُ، وَالِاسْمُ بِالضَّمِّ، وَأَمَّا الْمِزَاحُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، فَهُوَ مَصْدَرُ مَازَحَهُ يُمَازِحُهُ، وَهُمَا يَتَمَازَحَانِ وَفِي الْقَامُوسِ: مَزَحَ كَمَنَعَ مُزَاحًا بِضَمٍّ انْتَهَى.

وَمَعْنَاهُ الِانْبِسَاطُ مَعَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ لَهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْهُزْؤُ وَالسُّخْرِيَةُ، وَالضَّمُّ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا لَا الْكَسْرُ كَمَا قَالَ شَارِحٌ: لِأَنَّهُ مَصْدَرُ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، وَهُوَ لِلْمُغَالَبَةِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ. عَلَى مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، فَقَدْ رَوَاهُ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَجَازِيِّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا إِسْنَادٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، فَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا، وَكَانَ عَالِمًا ذَا صَلَاةٍ وَصِيَامٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَاحَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ إِفْرَاطٌ، وَيُدَاوَمُ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ يُورِثُ الضَّحِكَ، وَقَسْوَةَ الْقَلْبِ، وَيَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَيَئُولُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْإِيذَاءِ، وَيُوجِبُ الْأَحْقَادَ، وَيُسْقِطُ الْمَهَابَةَ، وَالْوَقَارَ، فَأَمَّا مَا سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَهُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ عَلَى النُّدْرَةِ لِمَصْلَحَةِ تَطْيِيبِ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ، وَمُؤَانَسَتِهِ وَهُوَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، فَاعْلَمْ هَذَا ; فَإِنَّهُ مِمَّا يَعْظُمُ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ) بِضَمِّ الذَّالِ، وَيُسَكَّنُ فِي النِّهَايَةِ مَعْنَاهُ الْحَضُّ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا يُقَالُ لَهُ لِأَنَّ السَّمْعَ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْأُذُنَيْنِ فَغَفَلَ وَلَمْ يُحْسِنِ الْوَعْيَ، لَمْ يُعْذَرْ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ جُمْلَةِ مُدَاعَبَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَطِيفِ أَخْلَاقِهِ انْتَهَى. وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ أَنَسًا كَانَ صَغِيرًا عُمُرُهُ عَشْرَ سِنِينَ خَادِمًا لِحَضْرَتِهِ، وَاقِفًا فِي خِدْمَتِهِ، فَمُزَاحُهُ مَعَهُ لِكَوْنِهِ صَغِيرًا. وَمِمَّا وَقَعَ مِنْ مُزَاحِهِ مَعَ الصِّغَارِ أَنَّهُ مَجَّ مَجَّةً فِي وَجْهِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةِ سِنِينَ يُمَازِحُهُ، فَكَانَ فِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ إِنَّهُ لَمَّا كَبُرَ لَمْ يَبْقَ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الرِّوَايَةِ غَيْرُهَا، فَعُدَّ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَرُوَاتِهِمْ، وَجُعِلَ عُمُرُهُ أَقَلَّ زَمَانِ التَّحَمُّلِ. وَأَنَّهُ نَضَحَ الْمَاءَ فِي وَجْهِ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَلَمْ يَزَلْ رَوْنَقُ الشَّبَابِ فِي وَجْهِهَا، وَهِيَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُونَ، وَأَوْرَدُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ انْقِيَادِهِ، وَحُسْنِ خِدْمَتِهِ (قَالَ مَحْمُودٌ) : أَيْ: شَيْخُ الْمُصَنِّفِ، وَقَالَ شَارِحٌ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَبُو عِيسَى بَدَلَ مَحْمُودٍ (قَالَ أَبُو أُسَامَةَ) أَيْ: شَيْخُ شَيْخِهِ (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ لَهُ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ (يُمَازِحُهُ) أَيْ: مُزَاحُهُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْفِعْلِ، وَإِرَادَةِ الْمَصْدَرِ مِنْ مَجَازِ إِطْلَاقِ الْكُلِّ، وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ وَهُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) ، وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا أُسَامَةَ الرَّاوِيَ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمُدَاعَبَةِ، ثُمَّ وَجْهُ الْمُزَاحِ أَنَّهُ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِمَّا قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ الرَّاوِي حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمُدَاعَبَةِ، ثُمَّ وَجْهُ الْمُزَاحِ أَنَّهُ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِمَّا قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَوَاسِّ إِلَّا الْأُذُنَانِ أَوْ كَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمَا لَا غَيْرُ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِ أُذُنَيْهِ طَوِيلَتَيْنِ أَوْ قَصِيرَتَيْنِ أَوْ مَعْيُوبَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ) وَفِي نُسْخَةٍ ابْنُ السَّرِيِّ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ (حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) بِالتَّشْدِيدِ قِيلَ، وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ: أَنَّهُ كَانَ وَلِذَا دَخَلَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ (لَيُخَالِطُنَا) وَفِي نُسْخَةٍ لَيُخَاطِبُنَا (حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (مَا فَعَلَ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَيُحْتَمَلُ الْمَفْعُولُ (النُّغَيْرُ) بِضَمِّ نُونٍ فَفَتْحِ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، تَصْغِيرُ النُّغْرِ جَمْعُ نُغَرَةٍ كَهُمَزَةٍ وَهُوَ طَائِرٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُورَ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ، وَقِيلَ هُوَ فَرْخُ الْعُصْفُورِ، وَقِيلَ هُوَ الْعُصْفُورُ صَغِيرُ الْمِنْقَارِ أَحْمَرُ الرَّأْسِ، وَقِيلَ أَهْلُ

الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَهُ الْبُلْبُلَ، فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَبُو عُمَيْرٍ اسْمُهُ كَبْشَةُ أَخو أَنَسٍ لِأُمِّهِ وَأَبُو طَلْحَةَ بْنُ زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ. انْتَهَى وَقَدْ مَاتَ نُغَيْرُهُ الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَمَازَحَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُمَازَحَةً. فِيهِ مُمَازَحَةُ الصَّغِيرِ لِتَسْلِيَتِهِ، وَتَطْيِيبِ خَاطِرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيفَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّعَلُّقُ بِالْفَانِي كَمَا حُكِيَ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ مَعْشُوقُهُ وَكَانَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ عَارِفٌ: لِمَ لَمْ تُحِبَّ الْحَيَّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلُطْفُهُ لَا يَفُوتُ؟ . هَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: حَتَّى غَايَةٌ لِقَوْلِهِ يُخَالِطُنَا، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِأَنَسٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَيِ: انْتَهَى مُخَالَطَتُهُ بِأَهْلِنَا كُلِّهِمْ حَتَّى الصَّبِيِّ، وَحَتَّى الْمُدَاعَبَةِ مَعَهُ، وَحَتَّى السُّؤَالِ عَنْ فِعْلِ نُغَيْرِهِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِعْلُ التَّأْثِيرُ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَثِّرِ وَالْعَمَلُ كُلُّ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْحَيَوَانِ بِقَصْدٍ وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَقَعُ مِنْهَا فِعْلٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْجَمَادَاتِ، وَالْمَعْنَى مَا حَالُهُ، وَشَأْنُهُ (قَالَ أَبُو عِيسَى: وَفِقْهُ هَذَا الْحَدِيثِ) أَيِ: الْمَسَائِلُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْزَحُ وَفِيهِ) أَيْ: فِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ كَنَّى غُلَامًا صَغِيرًا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَفْعُولُهُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ بِالْبَاءِ، وَدُونَهَا، وَعَلَى الثَّانِي، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْبَاءِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكُنْيَةُ وَاحِدَةُ الْكُنَى وَاكْتَنَى فُلَانٌ هَكَذَا وَفُلَانٌ يُكَنَّى بِأَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَكُنْيَتُهُ أَبَا زَيْدٍ وَبِأَبِي زَيْدٍ نُكَنِّيهِ (فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ) . وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ تَكْنِيَةٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَكُونَ مَكْنِيًّا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَكَنَّاهُ بِكُنْيَةٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَكُونَ مَكْنِيًّا مِنْ أَوَّلُ فَكَنَّاهُ بِكُنْيَةٍ، وَعَدَلَ عَنِ اسْمِهِ إِلَى كُنْيَتِهِ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ فِي الْكَلَامِ. وَالنَّهْيُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ تَكَلُّفٌ، وَتَكْلِيفٌ لِلطَّبْعِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ السَّجْعِ فِي الْكَلَامِ: وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالسَّجْعِ حِينَ الْمُزَاحِ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ كَلِمَاتِهِ الْمُسَجَّعَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدَعْوَةٍ لَا تُسْمَعُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ. ثُمَّ خُلَاصَةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي فِقْهِ الْحَدِيثِ هُنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّكَنِّي لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْكَذِبِ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّكْنِيَةِ التَّعْظِيمُ، وَالتَّفَاؤُلُ لَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ مِنْ إِثْبَاتِ أُبُوَّةٍ، وَبُنُوَّةٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ عُمَيْرٌ مُصَغَّرُ الْعُمُرِ لِلْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّهُ يَعِيشُ قَلِيلًا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْأَخْذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْنِيَةُ الصَّغِيرِ بِأَبِي فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الْإِيلَادُ وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ أَبِي الْفَضْلِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ عُمَيْرًا مُصَغَّرُ عُمُرٍ لَا أَنَّهُ اسْمُ شَخْصٍ آخَرَ انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ أَيْنَ لَهُ الْجَزْمُ بِأَنَّ عُمَيْرًا تَصْغِيرُ عُمُرٍ، وَلَيْسَ بِعَلَمٍ مَعَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ عَلَمٌ مُتَعَارَفٌ، وَحِينَئِذٍ صَحَّ الْأَخْذُ بِهِ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ بِمَا ذَكَرَ، فَتَأَمَّلْهُ تَمَّ كَلَامُهُ. وَفِيهِ عَلَى أُسْلُوبِ آدَابِ الْبَحْثِ أَنَّ صَاحِبَ الْقِيلِ مَانِعٌ لِلْعَلَمِيَّةِ جَازِمًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ جَازِمًا، وَسَنَدُ مَنْعِهِ وَاضِحٌ جِدًّا لِوُضُوحِ فَقْدِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّكْنِيَةِ هَذَا فَعَلَى مُدَّعِي الْإِثْبَاتِ إِثْبَاتُهُ، فَلَا يَكْفِي فِي الْمَقَامِ قَوْلُهُ أَنَّهُ عَلَمٌ مُتَعَارَفٌ كَثِيرًا إِذِ الْخَصْمُ لَا يَمْنَعُ مِثْلَهُ فِي غَيْرِ الصَّغِيرِ. فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ كَانَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ إِذْ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُ؟ قَالُوا: مَاتَ نُغَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَاءَهُ وَرَوَاهُ، فَقَالَ أَبَا عُمَيْرٍ: مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ هَذَا وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَابِ أَبِي الْفَضْلِ لِلتَّفَاؤُلِ فَالتَّفَاؤُلُ بِقِلَّةِ الْعَيْشِ مِنْ قِلَّةِ الْعَقْلِ. بَقِيَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ، فَيُقَالُ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْلَاقِهِ الْحَسَنَةِ أَنْ يَقُولَ لِوَلَدٍ صَغِيرٍ عِبَارَةً مُشْعِرَةً بِأَنَّ عُمُرَهُ قَصِيرٌ، نَعَمْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُ عَلَمِيَّةٍ لَهُ لَكَانَ وَجْهٌ وَجِيهٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ تَصْغِيرٌ لِلْعُمُرِ بِاعْتِبَارِ عُمُرِ طَيْرِهِ أَيْ: أَيْ يَا صَاحِبَ نُغَيْرٍ عُمُرُهُ قَصِيرٌ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَجَلَهُ فَرَغَ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي التَّسْلِيَةِ عِنْدَ التَّعْزِيَةِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (وَفِيهِ) أَيْ وَفِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الصَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ الصَّغِيرَ: (الطَّيْرَ) وَفِي نُسْخَةٍ الطَّائِرَ (يَلْعَبُ) أَيِ: الصَّبِيُّ. (بِهِ) أَيْ: بِالطَّيْرِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا

عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ قَالُوا: وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِمَالَةِ الصَّغِيرِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالصَّغِيرِ يُفِيدُ أَنَّ الْكَبِيرَ مَمْنُوعٌ مِنَ اللَّعِبِ بِالطَّيْرِ لِمَا وَرَدَ مَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ فِيهِ. قِيلَ وَفِيهِ جَوَازُ صَيْدِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ لَكِنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا أَنَّهُ كَانَ مِمَّا صِيدَ خَارِجَهَا، وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ ثَبْتٍ (وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِلْغُلَامِ. (يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ نُغَيْرٌ فَيَلْعَبُ بِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ يَلْعَبُ بِهِ. (فَمَاتَ فَحَزِنَ الْغُلَامُ عَلَيْهِ، فَمَازَحَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟) . قَالُوا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ ; فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ عَلِمَ بِمَوْتِ النُّغَيْرِ. وَفِيهِ إِبَاحَةُ تَصْغِيرِ الْأَسْمَاءِ، وَإِبَاحَةُ الدُّعَابَةِ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. وَفِيهِ كَمَالُ خُلُقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ رِعَايَةَ الضُّعَفَاءِ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِ الْأَصْفِيَاءِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ فِيهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ قُلْتُ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ غَرِيبٌ، وَاسْتِنْبَاطٌ عَجِيبٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهَا مِنْ أَيْنَ لَهُ ثُبُوتُ الْخَلْوَةِ مَعَهَا مَعَ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ ابْنُهَا، وَهُوَ خَادِمٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاضِرٌ مَعَهُ مَعَ أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ فِعْلُهُ هَذَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْهُ مُوجِبٌ لِلْقَوْلِ بِالِاخْتِصَاصِ إِذْ حُرْمَةُ الْخَلْوَةِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ إِجْمَاعِيَّةٌ لَا أَعْرِفُ فِيهَا خِلَافًا لَا سَلَفًا، وَلَا خَلَفًا وَلَوْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَالْمَلَاحِدَةِ وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَوْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَالْمَرْأَةُ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةَ لَمَا حَلَّ الِاخْتِلَاءُ بَيْنَهُمَا. وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَرَدَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْغَلَبَةِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْجَارِيَةِ، وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَنَحْوَهَا، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ أَبْحَاثًا لَطِيفَةً وَنُقُولًا شَرِيفَةً أَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَهَا، وَأُحَقِّقَ عَجْرَهَا وَبَجْرَهَا مِنْهَا قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مُبَاحٌ بِخِلَافِ مَكَّةَ، وَهُوَ غَلَطٌ وَأَيُّ دَلَالَةٍ عَلَى ذَلِكَ ; فَإِنَّ ذَلِكَ الطَّيْرَ مِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ اصْطِيدَ فِي الْحَرَمِ، وَلَيْسَ احْتِمَالُ اصْطِيَادِهِ فِيهِ أَوْلَى مِنِ احْتِمَالِ اصْطِيَادِهِ خَارِجَهُ. قُلْتُ: هَذَا خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ آدَابِ الْبَحْثِ فَإِنَّ الْقَائِلَ إِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ وُجُودِ الصَّيْدِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ مِمَّا اصْطِيدَ فِيهَا لِأَنَّهُ مَمْنُوعُ الْأَصْلِ، وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنَّهُ صِيدَ خَارِجَهَا فَيَصْلُحُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا فَأَيُّ غَلَطٍ فِي الْقَوْلِ مَعَ أَنَّ مَذْهَبَ الْقَائِلِ هُوَ أَنَّ الصَّيْدَ إِذَا أُخِذَ خَارِجَ الْحَرَمِ، وَأُدْخِلَ فِيهِ صَارَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ

حَتَّى لَوْ ذُبِحَ فِيهِ لَكَانَ مَيْتَةً هَذَا، وَالْقَوْلُ نُسِبَ إِلَى مُحْيِي السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا: أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مُبَاحٌ بِخِلَافِ صَيْدِ مَكَّةَ، فَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى كَمَالِ إِنْصَافِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عِنْدَهُ فَإِنَّ النَّوَوِيَّ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ كَذَا سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْكَبْرِيِّ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَهِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا فِيهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا أَمِنَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ انْتَهَى. فَهُوَ نَقْلٌ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَعَ مَا يُرَادُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُقْتَضَى الْعُقُولِ، وَالنُّقُولِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ بَيْتٍ بِهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ مَانِعُ خَلْوَةٍ مِنْ نَحْوِ امْرَأَةٍ أُخْرَى مَعَهَا، وَهُمَا اثْنَتَانِ يَحْتَشِمُهُمَا أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَإِلَّا حَرُمَتْ خَلْوَةُ الرَّجُلِ بِهِمَا أَوْ مَحْرَمٌ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا عَلَى بَحْثٍ مِنْهُ انْتَهَى. وَفِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا نَعَمِ الظَّاهِرُ أَنَّ أُمَّ أَنَسٍ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ دُخُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا مِنْ غَيْرِ حُضُورِ أَحَدٍ مَعَهُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَحَارِمِهَا مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ أَنَّ أَنَسًا مَعَهَا وَهُو إِمَّا بَالِغٌ أَوْ مُرَاهِقٌ. وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ فَقِيهٍ جَوَّزَ حُضُورَ امْرَأَةٍ أُخْرَى يَحْتَشِمُهَا وَتَوَقَّفَ فِي جَوَازِ مُرَاهِقٍ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: وَفِي أَخْذِ هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ كَالْمَحْرَمِ ; فَكَانَ يَجُوزُ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ قُلْتُ هَذَا النَّقْشُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ الْعَرْشِ، وَمَعَ هَذَا يَرُدُّهُ تَأْوِيلُ الْعُلَمَاءِ خَلْوَتَهُ مَعَ بَعْضِهِنَّ كَأُمِّ سُلَيْمٍ بِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حُرْمَةُ رَضَاعٍ. ثُمَّ قَالَ بَلْ قَالَ أَئِمَّتُنَا: أَنَّ سُفْيَانَ، وَغَيْرَهُ كَانُوا يَزُورُونَ رَابِعَةَ، وَيَجْلِسُونَ إِلَيْهَا. قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَهَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ يَخْتَلِي مَعَهَا بَلِ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَجَنَّبُ إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَائِلَةً بِأَنَّهُ تَارِكُ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَحَاشَا الْأَوْلِيَاءِ مَعَ كَمَالِ وَرَعِهِمْ، وَاحْتِيَاطِهِمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَقَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ هَذَا الْأَمْرُ الْمَكْرُوهُ الْمُنْكَرُ شَرْعًا، وَعُرْفًا مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَلَا بَاعِثًا لِلْحَالِ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَغْرَبَ فِي الْكَلَامِ حَيْثُ بَنَى عَلَى النِّظَامِ الْغَيْرِ التَّامِّ فَقَالَ: قَالُوا أَيْ: بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ وَجَدْنَا رَجُلًا مِثْلَ سُفْيَانَ، وَامْرَأَةً مِثْلَ رَابِعَةَ أَبَحْنَا لَهُ الْخَلْوَةَ بِهَا لِلْأَمْنِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَالْفِتْنَةِ حِينَئِذٍ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ بُطْلَانِهِ. ثُمَّ زَادَ فِي الْغَرَابَةِ بِقَوْلِهِ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُ الْأَمْنِ بَلْ يَكْفِي مَظِنَّتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَوَّزُوا خَلْوَةَ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ دُونَ عَكْسِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِي بِهِمَا، وَيَقَعُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ فِيهِمَا أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ إِذِ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِي مِنْ مِثْلِهَا وَبَعِيدٌ وُقُوعُ الْفَاحِشَةِ مِنْهَا بِحَضْرَتِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ أَيْضًا قَدْ يَخْتَلِيَانِ بِهَا، وَيَقَعُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا الْفَاحِشَةُ فِيهَا بِحُضُورِهِ، فَالْبُعْدُ مُشْتَرَكٌ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي الِاحْتِمَالِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ مَعَ وُجُودِ الْمَظِنَّةِ، بَلْ وَلَا يَصِحُّ مَعَ تَحْقِيقِ الْأَمْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الشُّرَّاحِ مِمَّا فِيهِ غَايَةُ الرَّكَاكَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالْغَرَابَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِمَّا أَوْجَبَ إِعْرَاضَنَا عَنْهَا وَتَخْلِيَةَ شَرْحِ الشَّمَائِلِ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَمَا قِيلَ الْأَظْهَرُ مِنْ أَنَّ الْمُزَاحَ مُبَاحٌ فِيهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَتَعَيَّنَ النَّدْبُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، وَالْأُصُولِيِّينَ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَانِعَ عَنِ السُّنِّيَّةِ نَهْيُهُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ عَنِ الْمُزَاحِ، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ يَكُونُ فِعْلًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِنَّ نَهْيَهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ كَمَا فِي الشُّرْبِ قَائِمًا، وَمِنْ فَمِ السِّقَاءِ، وَكَالْبَوْلِ قَائِمًا، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، بَلْ وَلَوْلَا أَنَّهُ ثَبَتَ الْمُزَاحُ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَّرَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ عَنْهُ لَحُمِلَ مُزَاحُهُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ هَذَا. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ أَلْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الْمَهَابَةَ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مُزَاحُهُ وَلَا مُدَاعَبَتُهُ. فَقَدْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، وَمَهَابَةٌ فَقَالَ: هَوِّنْ عَلَيْكَ ; فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، وَلَا جَبَّارٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ بِمَكَّةَ، فَنَطَقَ الرَّجُلُ بِحَاجَتِهِ، فَقَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا أَلَا فَتَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا مَلَأْتُ عَيْنِي قَطُّ حَيَاءً مِنْهُ، وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَلَوْ قِيلَ لِي صِفْهُ لَمَا قَدِرْتُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِهِ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَوْلَا مَزِيدُ تَأَلُّفِهِ وَمُبَاسَطَتِهِ لَهُمْ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ هَيْبَةً وَفَرَقًا مِنْهُ لَا سِيَّمَا عَقِبَ مَا كَانَ يَتَجَلَّى عَلَيْهِ مِنْ مَوَاهِبِ الْقُرْبِ، وَعَوَائِدِ الْفَضْلِ، لَكِنَّهُ كَانَ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِلَّا بَعْدَ الْكَلَامِ مَعَ عَائِشَةَ أَوْ الِاضْطِجَاعِ بِالْأَرْضِ إِذْ لَوْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي تَجَلَّى بِهَا مِنَ الْقُرْبِ فِي مُنَاجَاتِهِ، وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكِلُّ

الْإِنْسَانُ عَنْ وَصْفِ بَعْضِهِ لَمَا اسْتَطَاعَ بَشَرٌ أَنْ يَلْقَاهُ، فَكَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَهَا أَوْ يَضْطَجِعُ بِالْأَرْضِ لِيَسْتَأْنِسَ بِجِنْسِهِمْ أَوْ بِجِنْسِ أَصْلِ خَلْقِهِمْ، وَهِيَ الْأَرْضُ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ بِحَالَةٍ يَقْدِرُونَ عَلَى مُشَاهَدَتِهَا رِفْقًا بِهِمْ، وَرَحْمَةً لَهُمْ. (حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ) بِضَمِّ الدَّالِ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ) وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ: «الْحُسَيْنِ» بِالتَّصْغِيرِ قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ غَلَطٌ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ فَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَيُفْتَحُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: تُمَازِحُنَا، وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ نَهَيْتَنَا عَنِ الْمُزَاحِ كَمَا سَبَقَ، وَنَحْنُ أَتْبَاعُكَ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِكَ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَخْلَاقِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ (قَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا) جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ عَلَى وَجْهٍ مُتَضَمِّنٍ لِلْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى نَهْيِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا حَتَّى فِي مُزَاحِي، فَكُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ، بِخِلَافِ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ حَالَ مَزْحِهِ فِي الْبَاطِلِ مِنَ السُّخْرِيَةِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى، وَالْكَذِبِ وَالضَّحِكِ الْمُفْرِطِ الْمُوجِبِ لِقَسَاوَةِ الْقَلْبِ. وَإِنَّمَا أُطْلِقَ النَّهْيُ نَظَرًا إِلَى أَحْوَالِ الْأَغْلَبِ كَمَا هُوَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ فَقَدْ ثَبَتَ مُزَاحُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَعَهُ أَيْضًا، وَقَرَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثٍ أَذْكُرُهُ بَعْدَ حَدِيثِ زَاهِرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ تُدَاعِبُنَا يَعْنِي تُمَازِحُنَا انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ مَشَايِخِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ تَصْدِيرَ الْجُمْلَةِ بِأَنَّ الْمُؤَكِّدَةِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ أَمْرٍ سَابِقٍ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ فِي صَدْرِ الرِّسَالَةِ، وَمَكَانَتِكَ مِنَ اللَّهِ الْمُدَاعَبَةُ، فَأَجَابَهُمْ بِالْقَوْلِ الْمُوجِبِ أَيْ: نَعَمْ أُدَاعِبُ، وَلَكِنْ لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا لِلَّهِ دَرُّ مُزَاحٍ هُوَ حَقٌّ، فَكَيْفَ بِجِدِّهِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ إِلَى آخِرِهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَتَأَمَّلْ وَلَا تُمْلِلْ، وَانْصِفْ لِيَظْهَرَ لَكَ وَجْهُ الْخَلَلِ فِيمَا جَرَى بِهِ قَدَمُ الزَّلَلِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا) قِيلَ كَانَ بِهِ نَوْعٌ مِنَ الْبَلَاهَةِ (اسْتَحْمَلَ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى دَابَّةٍ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُعْطِيَهُ حَمُولَةً يَرْكَبُهَا (فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ) أَيْ: مُرِيدٌ لِحَمْلِكَ (عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ) أَرَادَ بِهِ الْمُبَاسَطَةَ لَهُ، وَالْمُلَاطَفَةَ مَعَهُ بِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ شِفَاءً لِبَلَهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ إِظْهَارًا لِتَحَقُّقِهِ فِيهِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ عَلَى مَا وَرَدَ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ

الْبُلْهُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِمْ فَطِنِينَ فِي أَحْوَالِ الْعُقْبَى، فَهُمْ مِنَ الْأَبْرَارِ عَكْسُ صِفَةِ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: سُمُّوا بُلْهًا حَيْثُ رَضُوا بِالْجَنَّةِ، وَلَمْ يَطْلُبُوا الزِّيَادَةَ قَالَ تَعَالَى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ هِيَ اللِّقَاءُ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ) تَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِوَلَدِهَا هُوَ الصَّغِيرُ مِنْ أَوْلَادِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلُ) أَيْ: صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ، وَالْمَعْنَى مَا تَلِدُ جَمِيعًا (إِلَّا النُّوقَ) بِضَمِّ النُّونِ جَمْعُ النَّاقَةِ، وَهِيَ أُنْثَى الْإِبِلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْإِبِلِ وَلَدُ النَّاقَةِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَوْ تَدَبَّرْتَ فِي الْكَلَامِ لَعَرَفْتَ الْمَرَامَ، فَفِيهِ مَعَ الْمُبَاسَطَةِ لَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى إِرْشَادِهِ، وَإِرْشَادِ غَيْرِهِ ; بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ قَوْلًا أَنْ يَتَأَمَّلَهُ، وَلَا يُبَادِرَ إِلَى رَدِّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُدْرِكَ غَوْرَهُ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا) هُوَ ابْنُ حَرَامٍ ضِدُّ حَلَالٍ الْأَشْجَعِيُّ شَهِدَ بَدْرًا (وَكَانَ يُهْدِي) عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْإِهْدَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْهَدِيَّةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ) أَيْ: حَاصِلُهُ مِنْهَا مِمَّا يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الْأَزْهَارِ، وَالْأَثْمَارِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِهَا (فَيُجَهِّزُهُ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: يُعِدُّ وَيُهَيِّئُ لَهُ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْبَادِيَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبُلْدَانِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ) أَيْ: زَاهِرٌ إِلَى وَطَنِهِ جَزَاءً وِفَاقًا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا) أَيْ: نَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَا يَسْتَفِيدُ الرَّجُلُ مِنْ بَادِيَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ بَادِيَتُهُ، وَقِيلَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: سَاكِنُ بَادِيَتِنَا كَمَا حُقِّقَ (فِي وَسَائِلِ الْقُرْبَةِ) ، وَقِيلَ تَاؤُهُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَيْدِينَا، وَالْبَادِي: هُوَ الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ (وَنَحْنُ) أَيْ: أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ زَاهِرَ بْنَ حَرَامٍ (حَاضِرُوهُ) أَيْ: حَاضِرُوا الْمَدِينَةِ لَهُ، وَفِيهِ كَمَالُ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، وَالْمَعْنَى: وَنَحْنُ نُعِدُّ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَادِيَتِهِ مِنَ الْبَلَدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ ذِكْرِ الْمُنْعِمِ بِإِنْعَامِهِ لِكَوْنِهِ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ فِي مُتَابَعَةِ هَذِهِ الْمُجَامَلَةِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُ) أَيْ: حُبًّا شَدِيدًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَهَادُوا تَحَابُّوا» ، وَالْجُمْلَةُ تَمْهِيدٌ، وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (وَكَانَ رَجُلًا) أَيْ: مِنْ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْآيَةَ (دَمِيمًا) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: قَبِيحَ الصُّورَةِ مَعَ كَوْنِهِ مَلِيحَ السِّيرَةِ. فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُسْنِ الْبَاطِنِ، وَلِذَا وَرَدَ. «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ» ، (فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا) فَنِعْمَ الطَّالِبُ الَّذِي جَاءَ مَطْلُوبُهُ (وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِمَتَاعِهِ الظَّاهِرِيِّ وَذَاهِلٌ عَنِ النِّعْمَةِ

الْغَيْرِ الْمُتَرَقَّبَةِ مِنْ مَجِيءِ مَطْلُوبِهِ الْمُشْتَرِي (وَاحْتَضَنَهُ) عَطْفٌ عَلَى أَتَاهُ، وَفِي الْمِشْكَاةِ بِالْفَاءِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا أَيْضًا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ أَيْ: أَدْخَلَهُ فِي حِضْنِهِ (مِنْ خَلْفِهِ) وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ وَرَائِهِ، وَأَدْخَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ إِبِطَيْ زَاهِرٍ فَاعْتَنَقَهُ، وَأَخَذَ عَيْنَيْهِ بِيَدَيْهِ كَيْلَا يَعْرِفَهُ، فَقَوْلُهُ (وَلَا يُبْصِرُ) أَيْ: لَا يُبْصِرُهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ احْتَضَنَهُ، وَفِي الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ جَمْعًا بَيْنَ النُّسْخَتَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ هُوَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ يُقَالُ احْتَضَنَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ فِي حِضْنِهِ، وَالْحِضْنُ: مَا دُونُ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ، وَهُوَ مَا دُونَ الْخَاصِرَةِ إِلَى الضِّلْعِ، وَحِضْنَا الشَّيْءِ جَانِبَاهُ (فَقَالَ: مَنْ هَذَا) أَيْ: الْمُحْتَضِنُ (أَرْسِلْنِي) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا؟ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْمِشْكَاةِ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُهُ مُكَرَّرًا (فَالْتَفَتَ) أَيْ: بِبَعْضِ بَصَرِهِ، وَرَأَى بِطَرْفِهِ طَرَفَ مَحْبُوبِهِ، وَطَرَفًا مِنْ طَرَفِ مَطْلُوبِهِ (فَعَرَفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: عَرَفَهُ بِنَعْتِ الْجَمَالِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ (لَا يَأْلُوا) أَيْ: بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَيُبَدَّلُ وَبِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: لَا يُقَصِّرُ (مَا أَلْصَقَ) أَيْ: أَلْزَقَ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْمِشْكَاةِ (ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى فَطَفِقَ لَا يُقَصِّرُ فِي لَزْقِ ظَهْرِهِ بِصَدْرِ مَصْدَرِ الْفَيُوضِ الصَّادِرَةِ فِي الْكَائِنَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ مِمَّنْ هُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ تَبَرُّكًا، وَتَلَذُّذًا بِهِ، وَتَدَلُّلًا عَلَى مَحْبُوبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مَمْسُوكًا بِيَدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا كَانَ مُقْتَضَى الْأَدَبِ أَنْ يَقَعَ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيُقَبِّلَهُمَا بِمُقْلَتَيْهِ، وَيَتَبَرَّكَ بِغُبَارِ قَدَمَيْهِ، وَيَجْعَلَهُ كُحْلَ عَيْنَيْهِ (حِينَ عَرَفَهُ) كَأَنَّهُ ذَكَرَهُ ثَانِيًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْشَأَ هَذَا الْإِلْصَاقِ لَيْسَ إِلَّا لِمَعْرِفَتِهِ (فَجَعَلَ) وَفِي الْمِشْكَاةِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ هُنَا: وَجَعَلَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ) أَيْ: هَذَا الْعَبْدَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ عَبْدًا، وَاضِحٌ؛ فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَوَجْهُ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الشِّرَاءِ الَّذِي يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَعَلَى الِاسْتِبْدَالِ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ يُقَابِلُ هَذَا الْعَبْدَ بِالْإِكْرَامِ أَوْ مَنْ يَسْتَبْدِلُهُ مِنِّي بِأَنْ يَأْتِيَنِي بِمِثْلِهِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَكِنَّ جَوَابَهُ الْآتِيَ لَا يُلَائِمُ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ التَّعْرِيضَ لَهُ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِبَذْلِهَا فِي جَمِيعِ مَطَالِبِهِ، وَمَا يُرْضِيهِ. فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ أَنَّ الِاشْتِرَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ فِيهِ تَوْرِيَةٌ أَوْ تَشْبِيهٌ أَوْ قَبْلَهُ مُضَافٌ مُقَدَّرٌ أَيْ: مَنْ يَشْتَرِي مِثْلَ هَذَا الْعَبْدِ مِنِّي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لَا سِيَّمَا وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْمُزَاحِ إِرَادَةُ تَحَقُّقِ بَيْعِهِ لِيُشْكِلَ عَلَى الْفَقِيهِ بِأَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ غَيْرُ جَائِزٍ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا) بِالتَّنْوِينِ جَوَابٌ، وَجَزَاءٌ بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِنْ بِعْتَنِي، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ إِنْ عَرَضْتَنِي عَلَى الْبَيْعِ إِذًا (وَاللَّهِ تَجِدُنِي بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ (كَاسِدًا) أَيْ: مَتَاعًا رَخِيصًا أَوْ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ، وَفِي نُسْخَةٍ إِذًا تَجِدُنِي وَاللَّهِ كَاسِدًا بِتَأْخِيرِ كَلِمَةِ الْقَسَمِ عَنِ الْفِعْلِ قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ تَجِدُونِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَيَحْتَاجُ عَلَى تَكَلُّفٍ قُلْتُ، وَجْهُهُ أَنَّ الْجَمْعَ لِتَعْظِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الضَّمِيرُ لَهُ، وَلِأَصْحَابِهِ الْمَعْرُوضِينَ عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ ; فَيَكُونُ مَرْفُوعًا أَوْ بِتَخْفِيفِهِ ; فَيَصِيرُ مُحْتَمَلًا، وَوَجْهُ النَّصْبِ ظَاهِرٌ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَالُ لَا الِاسْتِقْبَالُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَبَعًا لِشَارِحٍ، وَفِي رِوَايَةٍ إِذًا هَذَا وَاللَّهِ بِزِيَادَةِ: «هَذَا» ، قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ لَهَا صِحَّةً فِي الرِّوَايَةِ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا فِي الدَّارِيَةِ إِذْ لَا خَفَاءَ فِي رَكَاكَةِ: «إِذًا هَذَا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا» ، وَلَعَلَّهُ تَحْرِيفٌ هُنَا أَيْ: فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنَ السُّوقِ أَوْ مَقَامِ الْعَرْضِ فَلَهُ وَجْهٌ هَاهُنَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَكِنْ (عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ) الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٍ بِكَاسِدٍ قُدِّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ، وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ (أَوْ قَالَ:) شَكٌ مِنَ الرَّاوِي (أَنْتَ) وَفِي نُسْخَةٍ لَكِنْ (عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ) وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ ; فَتَأَمَّلْ ;

فَإِنَّ الْمَنْطُوقَ أَقْوَى مِنَ الْمَفْهُومِ هَذَا. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعُكَّةَ مِنَ السَّمْنِ أَوِ الْعَسَلِ فَإِذَا طُولِبَ بِالثَّمَنِ جَاءَ بِصَاحِبِهِ فَيَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطِهِ مَتَاعَهُ أَيْ: ثَمَنَهُ، فَمَا يَزِيدُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ يَبْتَسِمَ، وَيَأْمُرَ بِهِ ; فَيُعْطَى. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ طُرْفَةٌ إِلَّا اشْتَرَاهَا ثُمَّ جَاءَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ هَدِيَّةٌ لَكَ ; فَإِذَا طَالَبَهُ صَاحِبُهَا بِثَمَنِهَا جَاءَ بِهِ ; فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الثَّمَنَ، فَيَقُولُ أَلَمْ تُهْدِهِ لِي، فَيَقُولُ لَيْسَ عِنْدِي، فَضَحِكَ، وَيَأْمُرُ لِصَاحِبِهِ بِثَمَنِهِ، قُلْتُ، فَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا رَأَى طُرْفَةً أَعْجَبَتْهَا نَفْسَهُ اشْتَرَاهَا، وَآثَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا وَأَهْدَاهَا إِلَيْهِ عَلَى نِيَّةِ أَدَاءِ ثَمَنِهَا إِذَا حَصَلَ لَدَيْهِ فَلَمَّا عَجِزَ، وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ رَجَعَ إِلَى مَوْلَاهُ، وَأَبْدَى إِلَيْهِ صَنِيعَ مَا وَلَّاهُ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ; فَرَجَعَ بِالْمُطَالَبَةِ إِلَى سَيِّدِهِ فَفِعْلُهُ هَذَا جِدُّ حَقٍّ مَمْزُوجٌ بِمُزَاحِ صِدْقٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَمُصْعَبٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مَنِ الْإِصْعَابِ، وَهُوَ الْأَصْلُ الصَّوَابُ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ بَدَلَهُ: «مَنْصُورٌ» قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ خَطَأٌ. (حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ (عَنِ الْحَسَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ ; فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عَنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ (قَالَ أَتَتْ عَجُوزٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ وَلَا تَقُلْ عَجُوزَةً إِذْ هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ قِيلَ إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أُمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَعَمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِشَارِحٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: كَذَا سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ لِمَا سَيَأْتِي (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ) أَيْ: لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ) كَانَ الرَّاوِي نَسِيَ الِاسْمَ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَامَ لَفْظَ فُلَانٍ مَقَامَهُ (إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ

قَالَ) أَيِ: الْحَسَنُ نَاقِلًا (فَوَلَّتْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: أَدْبَرَتْ، وَذَهَبَتْ (تَبْكِي) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ وَلَّتْ أَيْ: ذَهَبَتْ حَالَ كَوْنِهَا بَاكِيَةً (فَقَالَ: أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا) سَدَّ مَسَدَّ ثَانِي وَثَالِثِ مَفَاعِيلِ أَخْبِرُوهَا (وَهِيَ عَجُوزٌ) حَالٌ أَيْ: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَالَ كَوْنِهَا عَجُوزًا بَلْ تَدْخُلُهَا شَابَّةً بِجَعْلِهِ تَعَالَى إِيَّاهَا كَذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَ «أَخْبِرُوهَا» رَاجِعٌ إِلَيْهَا قَطْعًا، وَأَمَّا ضَمِيرُ «أَنَّهَا» يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا، يُعْلَمُ بِالْمُقَايَسَةِ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ مُبَشَّرَةً بِالْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى جِنْسِ الْعَجُوزِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ» وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِنْ قَالَ بِبُعْدِهِ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ، عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ «إِنَّهَا» قَابِلَةٌ بِأَنْ تُجْعَلَ لِلْقِصَّةِ وَضَمِيرَ الْفَاعِلِ فِي «لَا تَدْخُلُهَا» لِجِنْسِ الْعَجُوزِ وَلَا يَأْبَاهُ قَوْلُهُ وَهِيَ عَجُوزٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا تَدْخُلُهَا بَاقِيَةً عَلَى وَصْفِ الْعُجُوزِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا كَلَامٌ يَمُجُّهُ السَّمْعُ ; فَامْتَنَعَ مِنْ ذِكْرِهِ الطَّبْعُ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى) اسْتِئْنَافٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْعِلَّةِ (يَقُولُ) أَيْ: فِي كِتَابِهِ (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) الضَّمِيرُ لَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ السَّابِقِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ فُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ، وَالْمُرَادُ النِّسَاءُ أَيْ: أَعَدْنَا إِنْشَاءَهُنَّ إِنْشَاءً خَاصًّا، وَخَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) أَيْ: عَذَارَى كُلَّمَا أَتَاهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَجَدُوهُنَّ أَبْكَارًا، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: «عُرُبًا أَتْرَابًا» ، وَالْعُرُبُ بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي: جَمْعُ عَرُوبٍ كَرُسُلٍ وَرَسُولٍ أَيْ: عَوَاشِقَ، وَمُحَبَّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ الْعَرُوبُ الْمَلَقَةُ، وَالْمَلَقُ: الزِّيَادَةُ فِي التَّوَدُّدِ، وَقِيلَ الْغُنْجَةُ، وَالْغُنْجُ فِي الْجَارِيَةِ تَكَسُّرٌ وَتَذَلُّلٌ، وَقِيلَ الْحَسَنَةُ الْكَلَامُ، وَأَمَّا الْأَتْرَابُ فَمُسْتَوِيَاتُ السِّنِّ بَنَاتُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَزْوَاجُهُنَّ كَذَلِكَ كَذَا فِي الْمَدَارِكِ وَقِيلَ بَنَاتُ ثَلَاثِينَ سَنَةً إِذْ هَذَا أَكْمَلُ أَسْنَانِ نِسَاءِ الدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ. هُنَّ اللَّوَاتِي قُبِضْنَ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَجَائِزَ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ ; فَجَعَلَهُنَّ عَذَارَى مُتَعَشِّقَاتٍ عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ أَفْضَلَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ، وَمَنْ يَكُونُ لَهَا أَزْوَاجٌ ; فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، الْحَدِيثُ فِي الطَّبَرَانِيِّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مُطَوَّلًا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَدِهِ إِلَى مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا عَجُوزٌ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقَالَتْ هِيَ عَجُوزٌ مِنْ أَخْوَالِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعُجُزَ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ عَجُوزٍ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ ; فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرْأَةِ ; فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: لَهُ عَائِشَةُ لَقَدْ لَقِيَتْ مِنْ كَلِمَتِكَ مَشَقَّةً وَشِدَّةً فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -

(باب ما جاء في صفة كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعر)

يُنْشِئُهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَجُوزًا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَتْهُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ لَهَا وَمَازَحَهَا أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الصَّلَاةِ فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ تَبْكِي لِمَا قُلْتَ لَهَا أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَقَالَ أَجَلْ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا وَهُنَّ الْعَجَائِزُ الرُّمْصُ، وَهُوَ جَمْعُ الرَّمْصَاءِ، وَالرَّمَصُ وَسَخُ الْعَيْنِ يَجْتَمِعُ فِي الْمُوقِ هَذَا، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ضَمِيرَ أَنْشَأْنَاهُنَّ لِلْحُورِ الْعِينِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى خَلَقْنَاهُنَّ كَامِلَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ وِلَادَةٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ لَكِنْ عَلَى هَذَا وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ إِلَى نِسَاءِ الْجَنَّةِ بِأَجْمَعِهِنَّ وَحَاصِلُهُ أَنَّ نِسَاءَ الْجَنَّةِ كُلَّهُنَّ أَنْشَأَهُنَّ اللَّهُ خَلْقًا آخَرَ يُنَاسِبُ الْبَقَاءَ، وَالدَّوَامَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ الْخُلُقِ، وَتَوَفُّرَ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ، وَانْتِفَاءَ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَالزَّوَالِ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا نَعْتَ النِّسَاءِ الَّتِي خَلَقَهُنَّ لِلرِّجَالِ ; فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ، وَقَدْ رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلَيْنِ أَبْنَاءَ ثَلَاثِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً» ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَلَعَلَّ اقْتِصَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْعَجَائِزِ لِسَبَبِ وُرُودِ الْحَدِيثِ أَوْ لِأَنَّ غَيْرَهُنَّ يَعْلَمُ بِالْمُقَايَسَةِ بَلْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْمٍ الْفِهْرِيِّ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْ عَنْ زَوْجِهَا أَهُوَ الَّذِي بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الشِّفَاءِ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشِّعْرِ) الشِّعْرُ مَعْرُوفٌ، وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشِّعْرَ، وَمِنْهُ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ: أَصَبْتُ عِلْمًا دَقِيقًا كَإِصَابَةِ الشِّعْرِ قِيلَ، وَأَصْلُهُ الشَّعَرُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَسُمِّيَ الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ فَالشِّعْرُ فِي الْأَصْلِ عَلَمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ لَيْتَ شِعْرِي أَيْ: لَيْتَ عِلْمِي، وَأَمَّا مَا فِي الصِّحَاحِ أَيْ: لَيْتَنِي عَلِمْتُ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ، وَالشَّاعِرُ الْمُخْتَصُّ بِصِنَاعَتِهِ كَمَا قَالَهُ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا قَالَ بَعْضُ الْكُفَّارِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ شَاعِرٌ، فَقِيلَ لِمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْوَارِدَةِ الْمَوْزُونَةِ مَعَ الْقَوَافِي يَعْنِي نَحْوَ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ وَنَحْوُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا، نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَقِيلَ أَرَادُوا أَنَّهُ كَاذِبٌ لِأَنَّ مَا فِي الشِّعْرِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ، وَمِنْ ثَمَّةَ سَمَّوُا الْأَدِلَّةَ الْكَاذِبَةَ شِعْرًا، وَقِيلَ فِي الشِّعْرِ: أَكْذَبُهُ أَحْسَنُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا ذُكِرَ فِي حَدِّ الشِّعْرِ أَنَّ شَرْطَهُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَا وَقَّعَ مَوْزُونًا اتِّفَاقًا ; فَلَا يُسَمَّى شِعْرًا كَذَا كَرَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ. وَأَقُولُ هَذَا الْقَيْدُ يُخْرِجُ مَا صَدَرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكَلَامِ الْمَوْزُونِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ ; فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْإِرَادَةِ، وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْقَصْدِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ شَيْءٌ دُونَ الْمَشِيئَةِ، وَلَعَلَّ الْجَوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ تَبَعًا كَمَا حُقِّقَ فِي بَحْثِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ شُرَيْحٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ الْحَارِثِيِّ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَنَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَاهُ هَانِئَ بْنَ زَيْدٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ، وَشُرَيْحٌ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَهُوَ مَنْ ظَهَرَتْ فَتْوَاهُ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْمِقْدَامُ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَ:) كَذَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ أَيْ: شُرَيْحٌ وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ «قَالَتْ» وَعَكَسَ الْحَنَفِيُّ فَقَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «قَالَ» ، تَأَمَّلْ. قُلْتُ لَيْسَ فِيهِ إِشْكَالٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ، غَايَتُهُ أَنَّ عَلَى نُسْخَةِ «قَالَ» ، ظَاهِرُهُ أَنَّ شُرَيْحًا سَمِعَ الْقِيلَ بِلَا نَقْلٍ بِخِلَافٍ «قَالَتْ» ، (قِيلَ لَهَا هَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَمَثَّلُ) أَيْ: يَسْتَشْهِدُ (بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ)

وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ أَيْ: يَتَمَسَّكُ، وَيَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ فَخِلَافُ الْمَقْصُودِ بَلْ يُوهِمُ الْمَعْنَى الْمَرْدُودَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُطَابِقًا لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَا لِلْقَصْدِ الْعُرْفِيِّ، فَفِي الْقَامُوسِ تَمَثَّلَ: أَنْشَدَ بَيْتًا، وَتَمَثَّلَ بِشَيْءٍ ضَرَبَهُ مَثَلًا (قَالَتْ كَانَ) أَيْ: أَحْيَانًا (يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ، وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا إِلَّا الْفَتْحَ، وَمَا بَعْدَهَا ; فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ شَهِيدًا أَمِيرًا فِيهَا سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْمُحْسِنِينَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ. (وَيَتَمَثَّلُ) أَيْ: بِشِعْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا (وَيَقُولُ) أَيْ: مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ أَخِي قَيْسٍ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ قَالَ ذَلِكَ فِي قَصِيدَتِهِ الْمُعَلَّقَةِ، وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْوَاوِ، وَإِشْبَاعِ كَسْرَةِ الدَّالِ مِنَ التَّزْوِيدِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الزَّادِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَصَدْرُ الْبَيْتِ. سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا. مِنَ الْإِبْدَاءِ: وَهُوَ الْإِظْهَارُ هَذَا. وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي بُسْتَانِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ قِيلَ لَهَا أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَمَثَّلُ بِالشِّعْرِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَبْغَضَ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ الشِّعْرُ غَيْرَ أَنَّهُ تَمَثَّلَ مَرَّةً بِبَيْتِ أَخِي قَيْسٍ طَرَفَةَ، فَجَعَلَ آخِرَهُ أَوَّلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَزَوَّدِ ، فَقَالَ: وَيَأْتِيكَ مَنْ تَزَوَّدَ بِالْأَخْبَارِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ هَكَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا أَنَا بِشَاعِرٍ انْتَهَى. وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ ; فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَثَّلَ بِمَعْنَاهُ، وَأَتَى فِيهِ بِحَقِّ لَفْظِهِ، وَمَبْنَاهُ ; فَإِنَّ الْعُمْدَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْفَضْلَةِ، وَالشَّاعِرُ لِضِيقِ النَّظْمِ قَدَّمَ وَأَخَّرَ، فَلَمَّا اسْتَفْهَمَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَا أَنَا بِشَاعِرٍ» أَيْ: حَقِيقَةً وَلَا قَاصِدِ وَزْنَهُ قِرَاءَةً، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي قَالَبِ وَزْنٍ أَوْ بِدُونِهِ، وَلَكِنْ يُشْكِلُ رِوَايَةُ الْكِتَابِ ; فَإِنَّهُ بِظَاهِرِهِ يُعَارِضُ رِوَايَةَ الشَّيْخِ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ بِأَنْ يُقَالَ تَمَثَّلَ بِمَادَّتِهِ، وَجَوْهَرِ حُرُوفِهِ دُونَ تَرْتِيبِهِ الْمَوْزُونِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ التَّأْوِيلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ عَلَى الصَّحِيحِ. بَقِيَ إِشْكَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رَوَاحَةَ لَا سِيَّمَا عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ: «وَيَتَمَثَّلُ بِقَوْلِهِ» ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ شِعْرِ طَرَفَةَ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَلَامٌ بِرَأْسِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ لِقَائِلٍ أَوْ لِشَاعِرٍ مَشْهُورٍ بِهِ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا تَمَثَّلَ بِالْمِصْرَاعِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِإِتْيَانِ الْأَخْبَارِ مِنْ غَيْرِ التَّزْوِيدِ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْمَنْفِيَّةُ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْمُتَّفِقُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمَةِ (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الشِّعْرِ قَالَ: هُوَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشِّعْرَ كَالنَّثْرِ لَكِنَّ التَّجْرِيدَ لَهُ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ مَذْمُومٌ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ كَمَرْمِيٍّ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ) الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا الْقِطْعَةُ مِنَ الْكَلَامِ (كَلِمَةُ لَبِيدٍ) أَيْ: ابْنِ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيِّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ وَفْدِ قَوْمِهِ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ نَزَلَ الْكُوفَةَ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً،

وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَشُعَرَائِهِمْ، وَلَمَّا أَسْلَمَ لَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَالَ يَكْفِينِي الْقُرْآنُ، وَكَأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَحْيَى مِنْ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا بَعْدَ سَمَاعِهِ كَلَامَهُ تَعَالَى، وَحَقَّقَ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ، وَصِدْقَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ أَوْ خَاضَ فِي لُجَجِ أَمْوَاجِ بِحَارِ الْعُلُومِ بِحَيْثُ أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ تَقَاصَرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ. وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَمَثَّلُ بِالشِّعْرِ وَيَمْدَحُهُ أَحْيَانًا تَأَلُّفًا لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَدَرُّجًا بِأَقْوَالِ الْعَارِفِينَ إِلَى كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْمُنَاسَبَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَاجِزَةِ غَالِبًا عَنْ فَهْمِ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا وَجْهُ مَا حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَرَأَ حِزْبَهُ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَرَقَةً بَعْدَ وَرَقَةٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَجْدٌ وَذَوْقٌ وَرِقَّةٌ ثُمَّ حَضَرَ قَوَّالٌ، وَأَنْشَدَ لَهُ شِعْرًا فَحَصَلَ لَهُ سَمَاعٌ، وَتَوَاجُدٌ عَظِيمٌ بِحَسْبِ التَّوْفِيقِ، وَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَمَا تَعْذُرُونَ الْقَائِلِينَ فِي حَقِّي أَنَّهُ الزِّنْدِيقُ وَعَلَى الْجُمْلَةِ ; فَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ لِلَبِيدٍ وَكَلِمَتِهِ ( أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ) فَأَلَا لِلتَّنْبِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ: الْفَانِي الْمُضْمَحِلُّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَلَامُهُ أَصْدَقَ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَ أَصْدَقَ الْكَلَامِ فِي أَحَقِّ الْمَرَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَهُوَ زُبْدَةُ مَسْأَلَةِ التَّوْحِيدِ، وَعُمْدَةُ كَلِمَةِ أَهْلِ التَّفْرِيدِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ. وَقَوْلُ آخَرَ سِوَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا فِي الْوُجُودِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَرْحِ حِزْبِ مَوْلَانَا الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السِّرِّيَّ عِنْدَ قَوْلِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ. وَمُجْمَلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَلَاكِ فِي الْآيَةِ وَالْبُطْلَانِ فِي الْبَيْتِ إِمَّا بِالْفِعْلِ ; فَيَنْعَدِمُ كُلُّ مَخْلُوقٍ ; فَيُوجَدُ فِي كُلِّ آنٍ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ بِأَنَّ الْجَوَاهِرَ كَالْأَعْرَاضِ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ أَوِ الْمُرَادُ قَبُولُهُ لِلْبُطْلَانِ وَالْهَلَاكِ، إِذِ الْمُتَعَقَّلُ إِمَّا ثَابِتُ الْعَدَمِ كَالْمُحَالِ أَوْ وَاجَبُ الْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ كَذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ نُعُوتِ الْكَمَالِ، أَوْ مُحْتَمَلٌ كَالْعَالَمِ وَهُوَ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّهُ مِمَّا فِي صَدَدِ الزَّوَالِ فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ الْمِصْرَاعُ الثَّانِي. وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ. أَيْ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ نَعِيمُكَ فِي الدُّنْيَا غُرُورٌ وَحْسَرَةٌ قَالَ الْحَنَفِيُّ: لِكِنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ لَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ أَصْدَقَ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ أَصْدَقَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الشُّعَرَاءُ» ، وَالْبَيْتُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمِصْرَاعَيْنِ، وَكَثِيرٌ مَا يُذْكَرُ أَحَدُ الْمِصْرَاعَيْنِ لِلِاكْتِفَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، فَتَارَةً يُؤْتَى بِالْمِصْرَاعِ الْأَوَّلِ كَمَا هُنَا، وَتَارَةً بِالْمِصْرَاعِ الثَّانِي كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. (وَكَادَ) أَيْ: قَارَبَ (أُمَيَّةُ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ أَبِي الصَّلْتِ) بِفَتْحٍ، فَسُكُونٍ أَيْ: ابْنُ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ (أَنْ يُسْلِمَ) ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي شِعْرِهِ يَنْطِقُ بِالْحَقَائِقِ وَقَدْ كَانَ مُتَعَبِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَيْنِ الْخَلَائِقِ، وَيَتَدَيَّنُ وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ لَكِنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَلَمْ يُسْلِمْ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبِ) بِضَمِّ جِيمٍ، وَدَالٍ وَيُفْتَحُ (بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَنُسِبَ إِلَى جَدِّهِ سُفْيَانَ (قَالَ أَصَابَ حَجَرٌ: إِصْبَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِكَسْرِ هَمْزَةٍ، وَفَتْحِ بَاءٍ وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ مُثَلَّثُ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ (فَدَمِيَتْ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، فَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ دَمِيَتْ يَدُهُ، وَأَدْمَيْتُهَا أَنَا أَوْ دَمَيْتُهَا، قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِوَانَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ إِلَخْ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ ; فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهُ غَازِيًا فَتُصُحِّفَ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، وَكَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يَعْنِي فِي

كِتَابِ الْأَدَبِ. بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ ; فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ يُرَادُ بِالْغَارِ الْجَيْشُ وَالْجَمْعُ، لَا الْغَارُ الَّذِي هُوَ الْكَهْفُ لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ بَعْضِ الْمَشَاهِدِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مَا ظَنُّكَ بِامْرِئٍ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَارَيْنِ أَيِ: الْعَسْكَرَيْنِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ: خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ قُلْتُ أَمَّا الْقَوْلُ بِالتَّصْحِيفِ ; فَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّحْرِيفِ ; فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَفْظًا، وَلَا مَعْنًى وَمِثْلُ هَذَا الطَّعْنِ لَا يَجُوزُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَمَّا اللَّفْظُ فَظَاهِرٌ وَهُوَ زِيَادَةُ يَاءٍ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُ لَا يُقَالُ كَانَ فِي غَارٍ، مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ: بَيْنَمَا يَمْشِي، لَا تُنَافِي كَوْنَهُ أَوَّلًا فِي الْغَارِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ: خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ ; فَإِنَّ جَيْشَ كُلِّ أَمِيرٍ بِمَنْزِلَةِ كَهْفِهِ الْمُتَقَوِّي بِهِ الْمُلْتَجِئِ إِلَيْهِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ كَانَ فِي غَارٍ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ أَوْ كَهْفٍ فِي بَعْضِ أَمَاكِنِهِ يَحْتَرِسُ فِيهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صُعُودُهُ، وَظُهُورُهُ بِمُعَاوَنَةِ طَلْحَةَ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَهُوَ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَحْسَنُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ بَلْ كَالْمُتَعَيَّنِ لِلدَّلَالَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَلِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا كَلِمَاتٌ مُتَنَاقِضَاتٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا حَيْثُ يَشْغَلُ الْبَالَ فِكْرُهَا (فَقَالَ: هَلْ أَنْتِ) يَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالتَّحْقِيقِ، وَالنَّقْلِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ: مَا أَنْتِ (إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ) بِفَتْحِ الدَّالِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَإِشْبَاعِ التَّاءِ وَهُوَ صِفَةٌ لِإِصْبَعٍ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ، عَامُّ الصِّفَةِ أَيْ: مَا أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ مَوْصُوفَةٌ بِشَيْءٍ إِلَّا بِأَنْ دَمِيتِ، وَقِيلَ بِضَمِيرِ الْغَائِبَةِ فِي دَمِيَتْ، وَلَقِيَتْ وَعَلَيْهِ ; فَهُوَ لَيْسَ بِشِعْرٍ أَصْلًا لَكِنَّ الْمَشْهُورَ بَلِ الصَّوَابُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى كَأَنَّهَا لَمَّا تَوَجَّعَتْ خَاطَبَهَا مُمْلِئًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالتَّشْبِيهِ مُسَلِّيًا أَيْ: تَسَلِّي فَإِنَّكِ مَا ابْتُلِيتِ بِشَيْءٍ مِنَ الْهَلَاكِ، وَالْقَطْعِ وَالْجُرْحِ سِوَى أَنَّكِ دَمِيتِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ دَمُكِ هَدَرًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ قَدَرًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَوِ الْحَالِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ خَبَرُهُ أَيِ: الَّذِي لَقِيتِهِ حَاصِلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; فَلَا تُبَالِي بَلِ افْرَحِي ; فَإِنَّ مِحْنَتَهَا قَلِيلَةٌ، وَمِنْحَتَهَا جَزِيلَةٌ ; فَهِيَ صِبْغَةٌ وَسِيمَةٌ وَصَنْعَةٌ جَسِيمَةٌ. وَقَضِيَّةُ كَسْرِ لَيْلَى قَدَحَ الْمَجْنُونِ شَهِيرَةٌ. وَأَمْثَالُهَا فِي سِيَرِ الْمُحِبِّ، وَالْمَحْبُوبِ كَثِيرَةٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ بِالرَّجَزِ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَوْقَاتِهِ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ الشِّعْرَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ; فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ وَإِنِ اسْتَوَى عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّعْرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ صُدُورُهُ عَنْ نِيَّةٍ لَهُ وَرَوِيَّةٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّفَاقُ كَلَامٍ يَقَعُ أَحْيَانًا فَيَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ عَلَى بَعْضِ أَعَارِيضِ الشِّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ، وَالْبَيْتُ الْوَاحِدُ مِنَ الشِّعْرِ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا الِاسْمُ ; فَيُخَالِفُ مَعْنَى الْآيَةِ. هَذَا مَعَ قَوْلِهِ إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً، وَإِنَّمَا الشَّاعِرُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ الشِّعْرَ، وَيُشَبِّبُهُ وَيُصَفِّيِهِ، وَيَمْدَحُهُ وَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الشُّعَرَاءِ فِي هَذِهِ الْأَفَانِينَ وَقَدْ بَرَّأَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَصَانَ قَدْرَهُ

عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشِّعْرَ لَا يَنْبَغِي، وَإِذَا كَانَ مُرَادُ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَضُرَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنْهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ (نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ) جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قِيسٌ لَكِنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ (أَفَرَرْتُمْ) أَيْ: يَوْمَ حُنَيْنٍ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مُعْرِضِينَ عَنْهُ، وَتَارِكِينَ لَهُ وَإِلَّا فَالْفِرَارُ مِنَ الْكُفَّارِ (يَا أَبَا عُمَارَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ كُنْيَةُ الْبَرَاءِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ أَوْ لِلِاسْتِعْلَامِ (فَقَالَ لَا) أَيْ: مَا فَرَرْنَا جَمِيعًا (وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: أَوَائِلُهُمْ فَفِي النِّهَايَةِ: السَّرَعَانُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ: أَوَائِلُ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَسَارَعُونَ عَلَى الشَّيْءِ، وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ بِسُرْعَةٍ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُ الرَّاءِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ حُنَيْنٍ خَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، وَإِخَاؤُهُمْ وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ فِي قَوْلِهِ سَرَعَانُ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَسْرِهَا جَمْعُ سَرِيعٍ، وَبِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ أَوَائِلُهُمْ. قَالَ مِيرَكُ: هَذَا الْجَوَابُ مِنَ الْبَرَاءِ ظَاهِرٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْكَلَامِ فِي السُّؤَالِ هَكَذَا أَفَرَرْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهِيَ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَخْلُوا عَنْ تَكَلُّفٍ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ الْبَرَاءَ أَشَارَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ الْبَرَاءَ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفِرَّ، وَأَظْهَرَ الشَّجَاعَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَحِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ فِرَارُ الصَّحَابَةِ عَنْهُ لِشِدَّةِ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ، وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِالتَّأْيِيدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ ; وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ فِرَارُهُمْ عَنْهُ إِذَا فَرَّ هُوَ وَتَوَلَّى، وَهُوَ مُحَالٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ كَوْنِهِ مَعْصُومًا مِنَ النَّاسِ عَدَمُ تَصَوُّرِ فِرَارِ أَصْحَابِهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَهُ الْبَرَاءُ مِنْ بَدِيعِ أَدَبِ الْفُضَلَاءِ ; لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَا وَاللَّهِ مَا فَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَرَى لَهُمْ كَذَا وَكَذَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ إِذْ لَيْسَ فِيهَا: «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَقَوْلُ السَّائِلِ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدُلُّ إِلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّ، بَلْ عَلَى أَنَّهُمْ فَرُّوا، وَبَقِيَ هُوَ مُنْفَرِدًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ تَقْدِيرُ

الْكَلَامِ أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَا نَفْيًا لِفِرَارِ الْكُلِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِدْرَاكُ، وَصَرَّحَ بِنَفْيِ تَوْلِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فِرَارِ الْعَسْكَرِ تَوْلِيَةُ الْأَمِيرِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ، وَقِيلَ قَوْلُ الْبَرَاءِ: «لَا» . رَفَعَ الْإِيجَابَ الْكُلِّيَّ الَّذِي تَوَهَّمَهُ السَّائِلُ، وَقَوْلُهُ: «مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ الرَّفْعِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ هَذَا النَّفْيِ أَوْ لِلرَّفْعِ السَّابِقِ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَفِرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يَفِرُّ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، نَعَمْ سَرَعَانُ النَّاسِ جَرَى لَهُمْ ذَلِكَ كَذَا وَكَذَا انْتَهَى. وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ، وَأَطْنَبَ فِي تَوْضِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: وَقَوْلُهُ (لَا) أَيْ: لَمْ نَفِرَّ بِأَجْمَعِنَا بَلْ فَرَّ بَعْضُنَا، وَبَقِيَ بَعْضُنَا وَأَكَّدَ بَقَاءَ الْبَعْضِ بِقَوْلِهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَلْزَمُ مِنْ بَقَائِهِ بَقَاءُ طَائِفَةٍ مَعَهُ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ إِيثَارِهِمْ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ أَدَبِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَلَاغَتِهِ ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ، وَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ تَعْبِيرُ السَّائِلِ: «بِعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَنَّهُ فَرَّ مَعَهُمْ، وَزَادَ فِي التَّأَدُّبِ نَفْيُ التَّوَلِّي دُونَ الْفِرَارِ نَزَاهَةً لِمَقَامِهِ الرَّفِيعِ عَنْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ لَفْظَ الْفِرَارِ فِي النَّفْيِ فَضْلًا عَنِ الْإِثْبَاتِ ; لِأَنَّهُ أَشْنَعُ مِنْ لَفْظِ التَّوَلِّي إِذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ لِتَحَيُّزٍ أَوِ انْحِرَافٍ بِخِلَافِ الْفِرَارِ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْخَوْفِ، وَالْجُبْنِ أَيْ: غَالِبًا وَإِلَّا فِرَارَ الصَّحَابَةِ هُنَا لَمْ يَتَمَحَّضْ لِذَلِكَ قَطْعًا، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: هَذَا الِانْهِزَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَا وَقَعَ عَلَى غَيْرِ نِيَّةِ الْعَوْدِ، وَأَمَّا الِاسْتِعْدَادُ لِلْكَرَّةِ، فَهُوَ كَالتَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْبَرَاءَ أَشَارَ إِلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَالْبَيِّنَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى عَدَمِ فِرَارِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَوَلٍّ فَهُمْ كَذَلِكَ لِمُثَابَرَتِهِمْ عَلَى بَذْلِهِمْ نُفُوسَهُمْ دُونَهُ، وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْذُلُهُ، وَأَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، إِلَى قَوْلِهِ: دُرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْهَزِمًا فَقَالَ: لَقَدْ رَأَى ابْنَ الْأَكْوَعِ فَزِعًا فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: قَوْلُهُ مُنْهَزِمًا حَالٌ مِنَ ابْنِ الْأَكْوَعِ كَمَا صَرَّحَ أَوَّلًا بِانْهِزَامِهِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْهَزَمَ إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْهَزَمَ فِي مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْحَرْبِ. وَمِنْ ثَمَّةَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْهِزَامُ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ انْهَزَمَ فِي مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْحَرْبِ أُدِّبَ تَأْدِيبًا عَظِيمًا لَائِقًا بِعَظِيمِ جَرِيمَتِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ ; فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ، فَيُقْتَلُ مَا لَمْ يَتُبْ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا، وَمُطْلَقًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَنَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ بَلْ لَوْ أَطْلَقَ ذَلِكَ قُتِلَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمُ انْتَهَى. فَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ سَلَاطِينِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَهُوَ عُبَيْدُ خَانْ فِي بَيْتِهِ الْمَشْهُورِ الْمَنْسُوبِ إِلَى الْمَلَاجَامِيِّ حَيْثُ جَعَلَ هِجْرَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِرَارًا أَقْبَحَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ التَّلَفُّظِ بِبَيْتِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ; فَإِنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ الْعَارِفِينَ بِالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ ثُمَّ مِمَّا رَسَخَ بِالْبَالِ، وَخَطَرَ فِي الْحَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ وَرَاءَهُ ; وَإِنَّمَا وَلَّى مُقَدِّمَةُ الْعَسْكَرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ أَيْ: أَوَائِلُهُمُ الْمُسْرِعِينَ فِي السَّيْرِ أَوِ الْمُسْتَعْجِلِينَ فِي الْأَمْرِ لِعَدَمِ رُسُوخِهِمْ، وَوُقُوفِهِمْ بِحَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ فِرَارِهِمْ بِقَوْلِهِ (تَلَقَّتْهُمْ) تَفَعَّلَ مِنَ اللُّقْيِ أَيْ: قَابَلَتْهُمْ وَوَاجَهَتْهُمْ (هَوَازِنُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ بِشِدَّةِ السَّهْمِ لَا يَكَادُ تُخْطِئُ سِهَامُهُمْ (بِالنَّبْلِ) ، الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: بِرَمْيِهِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقِيلَ أَنَّهُ جَمْعُ نَبْلَةٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى نِبَالٍ بِالْكَسْرِ، وَأَنْبَالٍ (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَغْلَتِهِ) أَيِ: الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ شَجَاعَتِهِ الْمُشْعِرَةِ بِعَدَمِ التَّوْلِيَةِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْفِرَارُ بِهَا أَصْلًا لَا نَقْلًا، وَلَا عَقْلًا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَبِمَا ذَكَرْنَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ بَعْدَمَا صَاحَ بِهِمُ الْعَبَّاسُ، وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا، وَفِي رِوَايَةٍ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَقِبِهِمْ فَقَالَ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، وَأَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَكَانَ الْأَصْحَابُ مَشْغُولِينَ بِالْفِرَارِ بِحَيْثُ لَمْ يَنْظُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى خَلْفٍ أَصْلًا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْفَرِدًا فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَقَدْ يُقَالُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكِنَايَةِ عَنْ قِلَّةِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ جُمِعُوا عِنْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ (

وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا) وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبَّاسَ مِمَّنْ صَاحَ عَلَى النَّاسِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَوْجِيهٌ آخَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا فَرَّ مَنْ فَرَّ لَمَّا تَوَهَّمَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُتِلَ أَوْ مَا لَحِقَ أَوْ رَجَعَ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَمَّا سَمِعُوا صِيَاحَ عَبَّاسٍ يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ أَوْ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَيَّ إِلَيَّ ; فَرَجَعُوا مُسْرِعِينَ قَائِلِينَ يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَلَّا تُسْرِعَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ آخِذٌ اللِّجَامَ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاوَبَةِ فِي خِدْمَةِ الْمَقَامِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَرَامِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْفِرَارَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَمُؤَلَّفَتِهِمْ وَأَخْلَاطِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَنِ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ، بَلْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَرَبَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ، وَجَمَاعَةٌ خَرَجُوا لِلْغَنِيمَةِ ; فَلَمَّا انْكَشَفُوا مِنَ الْعَدُوِّ، وَظَنَّ مَنْ فَرَّ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ غَنَاءٌ فَكَدُّوا لِيَعْرِفُوا الْخَبَرَ، فَأُطْلِقَ عَلَى فِعْلِهِمُ الْفِرَارُ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَخْذًا بِالظَّاهِرِ هَذَا وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُغَاثَةَ، هَذَا هَوُ الصَّحِيحُ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدُوسٍ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي رَكِبَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ هِيَ دُلْدُلٌ، وَكَانَتْ شَهْبَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ وَأَمَّا الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ يُقَالُ لَهَا فِضَّةُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ وَذُكِرَ عَكْسُهُ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي مُسْلِمٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ رُكُوبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَغْلَةَ فِي مَوَاطِنِ الْحَرْبِ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الشَّجَاعَةِ، وَلِيَكُونَ أَيْضًا مُعْتَمَدًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَطْمَئِنُ قُلُوبُهُمْ بِهِ، وَبِمَكَانِهِ وَلِيَكُونَ مُمْتَازًا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا فِعْلُهُ هَذَا عَمْدًا، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَفْرَاسٌ مَعْرُوفَةٌ (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ) أَيْ: وَبِحَوْلِ رَبِّهِ يَحُولُ، وَعَلَى عَدُوِّهِ يَصُولُ مُظْهِرًا نَسَبَهُ وَحَسَبَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا وَعَدَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ عَنِ النَّاسِ رَبُّهُ ( أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ ) أَيْ: حَقًّا وَصِدْقًا، فَلَا أَفِرُّ، وَلَا أَزُولُ عَمَّا أَقِرُّ إِذْ صِفَةُ النُّبُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهَا الْكَذِبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا يَكْذِبُ فَلَسْتُ بِكَاذِبٍ فِيمَا أَقُولُ حَتَّى أَنْهَزِمَ، وَلَا أَجُولُ بَلْ أَنَا مُتَيَقِّنٌ أَنَّ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ حَقٌّ، وَإِنَّ خِذْلَانَ أَعْدَائِي صِدْقٌ (أَنَا ابْنُ ... عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) انْتَسَبَ بِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ إِمَّا مُرَاعَاةً لِلْوَزْنِ وَالْقَافِيَةِ، أَوْ لِأَنَّ أَبَاهُ تُوَفِّيَ شَابًّا فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يَشْتَهِرْ كَاشْتِهَارِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ ; فَإِنَّهُ كَانَ سَيِّدَ

قُرَيْشٍ، وَرَئِيسَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ النَّاسُ يَدْعُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَيْضًا فَاشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بُشِّرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيَظْهَرُ، وَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ لَمَّا أَخْبَرَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنٍ. وَقِيلَ ; لِأَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا تَدُلُّ عَلَى ظُهُورِهِ وَكَمَالِ جَمَالِ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. وَبِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ لِتَقْوَى نُفُوسُ الْمُؤَلَّفَةِ، وَنَحْوُهُمْ عَلَى رَجَاءِ الْإِعْلَاءِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ. أَيْ: أَسَدًا وَقَوْلُ سَلَمَةَ: أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ. وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَوْلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْكُفَّارِ ثُمَّ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي الْبَيْتِ سُكُونُ الْبَاءِ فِي الْمِصْرَاعَيْنِ، وَشَذَّ مَا قِيلَ مِنْ فَتْحِ الْبَاءِ الْأُولَى، وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِالْخَفْضِ، وَكَذَا قَوْلُهُ دَمِيَتْ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ حِرْصًا عَلَى أَنْ يُغَيِّرَ الرِّوَايَةَ لِيَسْتَغْنِيَ عَنِ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَالْمَدِّ انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ مُجْمَلَ قِصَّةِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ وَادٍ وَرَاءَ عَرَفَةَ دُونَ الطَّائِفِ قِيلَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثُ لَيَالٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْآثَارِ، وَأَحْبَارُ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَتَمْهِيدِهَا وَأَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا اجْتَمَعَتْ أَشْرَافُ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ، وَقَصَدُوا حَرْبَ الْمُسْلِمِينَ فَسَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، عَشَرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَهُمُ الطُّلَقَاءُ أَيْ: عَنِ الِاسْتِرْقَاقِ، وَخَرَجَ مَعَهُ ثَمَانُونَ مُشْرِكًا مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَوَرَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ رَجُلًا أُطْلِعَ عَلَى جَبَلٍ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ هَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعْنِهِمْ وَغَنَمِهِمُ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «تِلْكَ غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . وَقَوْلُهُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهِمْ وَإِرِدَةِ جَمِيعِهِمْ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، حَتَّى كَانَ بَكْرَةُ أَبِيهِمْ أَيْضًا مَعَهُمْ، وَهِيَ مَا يُسْتَقَى عَلَيْهَا الْمَاءُ، وَالْمُرَادُ بِالظُّعُنِ: النِّسَاءُ، وَاحِدَتُهَا ظَعِينَةٌ ثُمَّ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَزَعْمُ أَنَّهُ الصِّدِّيقُ كَذِبٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، قُلْتُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ نَقْلِهِ، فَلَا مَحْذُورَ فِي قَوْلِهِ: «لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ» ، لِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: «لَنْ يُغْلَبَ اثْنَى عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» إِذْ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْعَسْكَرِ يَقْدِرُ أَنْ يُقَاوِمَ أُلُوفًا كَثِيرَةً، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْغَلَبَةِ، فَهِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ كَثْرَةٍ، وَلَا مِنْ قِلَّةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ نَوْعُ عُجْبٍ، وَتَوَهُّمُ غُرُورٍ مِمَّا قَدْ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ التَّضَرُّعِ، وَالِابْتِهَالِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ الْآيَةَ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَكِبَ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَلَبِسَ دِرْعَيْنِ وَالْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ مِنَ السَّوَادِ، وَالْكَثْرَةِ، وَذَلِكَ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ، وَخَرَجَتِ الْكَتَائِبُ مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي حَمْلَةً وَاحِدَةً فَانْكَشَفَتْ خَيْلُ بَنِي سُلَيْمٍ مُوَلِّيَةً، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَالنَّاسُ. وَقِيلَ وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّهِ الْحَارِثِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ أَكُفُّهَا مَخَافَةَ أَنْ تَصِلَ إِلَى الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي نَحْرِهِمْ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِهِ وَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ الْعَبَّاسَ بِمُنَادَاةِ الْأَنْصَارِ، وَأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَيْ: شَجَرَةِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَنَادَاهُمْ، وَكَانَ صَيِّتًا يُسْمَعُ صَوْتُهُ نَحْوَ ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ فَلَمَّا سَمِعُوهُ أَقْبَلُوا كَأَنَّهُمُ الْإِبِلُ حَنَّتْ عَلَى أَوْلَادِهَا يَقُولُونَ: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، فَتَرَاجَعُوا حَتَّى أَنَّ مَنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ بَعِيرُهُ نَزَلَ عَنْهُ وَرَجَعَ مَاشِيًا فَأَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَمَّا نَظَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قِتَالِهِمْ قَالَ: الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ أَيْ: تَنُّورُ الْخُبْزِ ضَرَبَهُ مَثَلًا لِشِدَّةِ الْحَرْبِ الَّتِي يُشْبِهُ حَرُّهَا حَرَّهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَتَنَاوَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَصَيَاتٍ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ أَيْ: قَبُحَتْ ثُمَّ رَمَى فَامْتَلَأَتْ عَيْنَا كُلٍّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا وَلَّوْا نَزَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَرَسِهِ وَضَرَبَ وُجُوهَهُمْ بِكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ فَحَدَّثَ أَبْنَاؤُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ تُرَابًا، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ كَإِمْرَارِ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّشْتِ الْجَدِيدِ بِالْجِيمِ. . وَلِأَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ سَرْجَ بَغْلَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَ، فَقُلْتُ ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَضَرَبَ وَجُوهَهُمْ، وَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا، وَجَاءَ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْأَنْصَارُ بِسُيُوفِهِمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا الشُّهُبُ فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ الْأَدْبَارَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْهُمْ

أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ لَمَّا لَقِينَاهُمْ أَيِ: الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقِفُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ فَجَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الْبَيْضَاءِ ; فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَقَّانَا عِدَّةُ رِجَالٍ بِيضُ الْوُجُوهِ حِسَانٌ فَقَالُوا: لَنَا شَاهَتِ الْوُجُوهُ ارْجِعُوا قَالَ: فَانْهَزَمْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا. وَفِي سِيرَةِ الدِّمْيَاطِيِّ كَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمُ حَمْرَاءُ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، وَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ فَأَفْضَوْا فِيهِ إِلَى الذُّرِّيَّةِ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» ، وَاسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَكَانَ فِي إِمْسَاكِهِ تَعَالَى لِقُلُوبِ هَوَازِنَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ الْمَجْعُولِ عَلَامَةً عَلَى دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا إِتْمَامٌ لِإِعْزَازِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَزِيدٌ لِنُصْرَتِهِ بِقَهْرِ هَذِهِ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَلْقَوْا قَبْلَهَا مِثْلَهَا، وَأُذِيقُوا أَوَّلًا مَرَارَةَ الْهَزِيمَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ لِتَتَوَاضَعَ رُءُوسٌ رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَلَدَهُ وَحَرَمَهُ عَلَى هَيْئَةِ تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِيَتَبَيَّنَ لِمَنْ قَالَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِنَصْرِ دِينِهِ وَرَسُولِهِ دُونَ كَثْرَتِهِمُ الَّتِي أَعْجَبَتْهُمْ بِأَنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا فَلَمَّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ جَبَرَهَا اللَّهُ بِأَنْ أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا، وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ مَعَهُ إِلَّا هُنَا وَفِي بَدْرٍ، وَاخْتَصَّتَا أَيْضًا بِرَمْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمَا لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْأُولَى كَانَتْ فِي أَوَّلِ أَمْرِ الدِّينِ، وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ. وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ كَثْرَتِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مُعَاوَنَةِ الرَّبِّ فِي كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَلَبِ الْعَدُوِّ، فَانْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى الطَّائِفِ، وَبَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ فَرُّوا إِلَى أَوَطَاسٍ، وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ) أَيْ: قَضَاءِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ لِمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ حَجُّهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا أَوْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ لَا غَيْرَ قَضَاهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إِذَا أُحْصِرَ فِي حَجَّةِ الْفَرْضِ، وَحَلَّ مِنْهَا الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ كَمَا فِي التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا دَلِيلٌ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ التَّامَّةِ، وَالْمُقَارَنَةِ فِي الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ لَكَانَ كَافِيًا. وَأَمَّا مَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْفَرْقَ هُوَ أَنَّ النَّفْلَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ اسْتُثْنِيَ لَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، فَمَنْ شَرَعَ فِي حَجِّ نَفْلٍ أَوْ عُمْرَةٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا إِجْمَاعًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، وَنَحْنُ قِسْنَا سَائِرَ الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِمَا مَعَ دَلَالَةِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ وَمَنْعِ قُبْحِ الْمُلَاعَبَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِأَنْ يَشْرَعَ فِي عِبَادَةٍ ثُمَّ يَتْرُكُهَا ثُمَّ يَفْعَلُهَا ثُمَّ يُبْطِلُهَا وَهَلُمَّ جَرَّا وَقَالَ بْنُ حَجَرٍ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا الْقَضِيَّةُ أَيِ: الْمُقَاضَاةُ وَالْمُصَالَحَةُ لَا الْقَضَاءُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّ عُمْرَتَهُمُ الَّتِي تَحَلَّلُوا مِنْهَا بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ قَضَاؤُهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحْصَرِ عِنْدَنَا انْتَهَى. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى (وَابْنُ رَوَاحَةَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ، وَهُوَ أَحَدُ شُعَرَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَهُوَ) أَيِ: ابْنُ رَوَاحَةَ (يَقُولُ خَلُّوا) أَيْ: دُومُوا عَلَى التَّخْلِيَةِ ; لِأَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ تَرَكُوا مَكَّةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَنِي الْكُفَّارِ) بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ أَيْ: يَا أَوْلَادَ الْكَفَرَةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (عَنْ سَبِيلِهِ) بِإِشْبَاعِ كَسْرَةِ الْهَاءِ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ الْأَصِيلِ، وَسَائِرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَالْمَعْنَى اتْرُكُوا سَبِيلَهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ، وَادْخُلُوا فِي سَبِيلِهِ مِنَ الدِّينِ الْأَقْوَمِ (الْيَوْمَ) أَيْ: هَذَا الْوَقْتَ الَّذِي لَنَا الْغَلَبَةُ عَلَيْكُمْ بِمُقْتَضَى قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ (نَضْرِبْكُمْ) بِسُكُونِ الْبَاءِ لِلضَّرُورَةِ أَيْ: نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ نَقْضِ عَهْدِكُمْ، وَقَصْدِ مَنْعِكُمْ (عَلَى تَنْزِيلِهِ) أَيْ: بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا مُنَزَّلًا عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ بِنَاءً عَلَى تَنْزِيلِكُمْ إِيَّاهُ وَإِعْطَاءِ الْعَهْدِ وَالْأَمَانَ لَهُ فِي دُخُولِ حَرَمِ اللَّهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالضَّمِيرُ فِي كِلَا الْمِصْرَاعَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، سَوَاءٌ لَاحَظْنَا الْفَاعِلَ الْمُقَدَّرَ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِيقَةِ، أَوْ رَاعَيْنَا الْمَجَازَ، فَأَضَفْنَا التَّنْزِيلَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمُ السَّبَبَ فِي نُزُولِهِ حَيْثُ جَوَّزُوا لَهُ فِي قَصْدِ وُصُولِهِ وَغَرَضِ حُصُولِهِ، وَلَا شَكَّ فِي ظُهُورِ هَذَا الْمَحَلِّ لَفْظًا

وَمَعْنًى. وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَ الضَّمِيرَ رَاجِعًا إِلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَفْهَمُهُ نَحْوَ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (ضَرْبًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: ضَرْبًا عَظِيمًا (يُزِيلُ) أَيِ: الضَّرْبُ، وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ (الْهَامَ) أَيْ: جِنْسَ الرَّأْسِ مُبَالَغَةً ; فَإِنَّ مُفْرَدَهُ هَامَةٌ، وَهِيَ الرَّأْسُ أَوْ وَسَطُهُ، وَالْمُرَادُ رُءُوسُ الْكُفَّارِ، وَرُؤَسَاءُ أَهْلِ النَّارِ (عَنْ مَقِيلِهِ) أَيْ: عَنْ مَكَانِهِ، وَمَحَلِّ رُوحِهِ، وَمَوْضِعِ اسْتِرَاحَتِهِ فَأُرِيدَ بِهِ التَّجْرِيدُ أَوِ التَّشْبِيهُ وَالتَّقْيِيدُ. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقِيلَ مَكَانُ الْقَيْلُولَةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الِاسْتِرَاحَةِ فَجُرِّدَ وَأُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْمَكَانِ أَوْ شُبِّهَ بِهِ الْعُنُقُ بِجَامِعِ مَحَلِّ اسْتِرَاحَةِ الرَّأْسِ، وَبَقَائِهِ وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَصِيرُ الْمَعْنَى يُزِيلُ الرَّأْسَ عَنِ الْعُنُقِ أَوِ الْمَقِيلِ كِنَايَةً عَنِ النَّوْمِ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَحَلُّ الِاسْتِرَاحَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّوْمِ أَيْ: يَمْنَعُ الرَّأْسَ عَنِ النَّوْمِ، وَالِاسْتِرَاحَةُ بِهِ لِشِدَّةِ مَا يُقَاسِيهِ عَلَى مُلَاحَظَةِ نَوْعِ قَلْبٍ مِنَ الْكَلَامِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ضَرْبًا يَطْرُدُ النَّوْمَ عَنِ الرَّأْسِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا عِنْدَ كَمَالِ الْأَمْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى هَذَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ لَكِنَّهُ أَبْدَلَ عَجُزَ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ. قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ ... (وَزَادَ عُقْبَةُ) بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ. نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ الْمُصَنِّفِ لَكِنَّهُ ابْتَدَأَ بِعَجُزِ الْأَوَّلِ، وَجَعَلَ عَجُزَ الثَّانِي. يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ. وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَلَى هَذَا. إِنِّي رَأَيْتُ الْحَقَّ فِي قَبُولِهِ. (وَيَذْهَلُ) وَفِي نُسْخَةٍ، وَيَذْهَبُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى مُنَاسَبَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَالْمَعْنَى وَضَرْبًا يُبْعِدُ وَيُشْغِلُ (الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ) أَيْ: فَيَصِيرُ الْيَوْمَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلًّا يَخْشَى فَوَاتَ نَفْسِهِ، وَذَهَابَ نَفْسِهِ كَيَوْمِ الْقِيَامَةِ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَلَا تَسْأَلُ عَمَّنْ كَانَ بِهِ جَمِيعُ أَنْسَابِهَا، وَلِكُلِّ امْرِئٍ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَقُدَّامَ رَسُولِ اللَّهِ (وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ شِعْرًا) أَيْ: وَقَدْ ذُمَّ الشِّعْرُ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلِّ عَنْهُ) أَيِ: اتْرُكْهُ مَعَ شِعْرِهِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ ذَمُّ الشِّعْرِ عَلَى إِطْلَاقِهِ (يَا عُمَرُ) فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْفَارُوقُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ أَفْرَادِهِ ; فَإِنَّ الشِّعْرَ كَسَائِرِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ ذَمُّهُ عَلَى إِرَادَةِ التَّجْرِيدِ لَهُ، وَتَرْكِ مَا يَجِبُ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ وَإِلَّا فَالْكَلَامُ لَهُ تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَنْظُومًا عَلَى طَرِيقَةِ الْبُلَغَاءِ، وَخُطَبَاءِ الْفُصَحَاءِ (فَلَهِيَ) اللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ تَأْكِيدًا، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَبْيَاتِ أَوِ الْكَلِمَاتِ أَوْ إِلَى الْقَصِيدَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ شِعْرًا، وَقِيلَ رَاجِعٌ إِلَى الشِّعْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقَصِيدَةُ أَيْ: فَلَتَأْثِيرُهَا (أَسْرَعُ فِيهِمْ) أَيْ: أَعْجَلُ وَأَنْفَعُ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ فِي إِيذَائِهِمْ (مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ) أَيْ: مِنْ رَمْيِهِ مُسْتَعَارٌ مِنْ نَضْحِ الْمَاءِ، وَاخْتِيرَ لِكَوْنِهِ أَسْرَعَ نُفُوذًا وَأَعْجَلَ سِرَايَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ هِجَاءَهُمْ أَثَّرَ فِيهِمْ تَأْثِيرَ النَّبْلِ، وَقَامَ مَقَامَ الرَّمْيِ فِي النِّكَايَةِ بِهِمْ بَلْ هُوَ أَقْوَى عَلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُشَافَهَةِ بِهِ كَمَا قِيلَ شِعْرٌ: جِرَاحَاتُ السِّنَّانِ لَهَا الْتِئَامٌ. وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ أَيِ: الْكَلَامُ وَلَوْ قِيلَ الْكَلَامُ مَكَانَ اللِّسَانِ لَكَانَ الْبَيْتُ مُطْلَقًا فِي غَايَةٍ مِنَ الْبَيَانِ، وَالنَّبْلُ هُوَ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهِ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ النَّبْلِ عَلَى الرُّمْحِ، وَالسَّيْفِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا، وَأَسْرَعُ تَنْفِيذًا مَعَ إِمْكَانِ إِيقَاعِهِ مِنْ بُعْدٍ إِرْسَالًا، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمَا دَفْعًا وَعِلَاجًا. رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ، وَلِسَانِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَرْمُونَهُمْ بِنَضْحِ النَّبْلِ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَشِعْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بَيَانُ هَجْوِ الْكُفَّارِ، وَأَذَاهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمَانٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجِهَادِ فِيهِمْ، وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ فِي الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ بَيَانًا لِنَقْصِهِمْ،

وَالِاقْتِصَارِ مِنْهُمْ بِهِجَائِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ سِمَاكِ) بِكَسْرٍ فَتَخْفِيفٍ (بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) بِفَتْحٍ وَضَمٍّ (قَالَ جَالَسْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ وَكَانَ) بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ فَكَانَ (أَصْحَابُهُ) أَيْ: فِي جَمِيعِ الْمَجَالِسِ أَوْ فِي بَعْضِهَا (يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ) أَيْ: يَطْلُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ الْمَحْمُودَ، وَالْإِنْشَادُ هُوَ أَنْ يَقْرَأَ شِعْرَ الْغَيْرِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يُنَاشِدُونَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ (وَيَتَذَاكَرُونَ) أَيْ: فِي مَجَالِسِهِمْ دَائِمًا أَوْ أَحْيَانًا (أَشْيَاءَ) أَيْ: مَنْظُومَةً أَوْ مَنْثُورَةً (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي بَعْضِهَا: مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ (وَهُوَ سَاكِتٌ) أَيْ: غَالِبًا لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحَيُّرِ فِي اللَّهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ، وَعُقْبَاهُ، أَوِ الْمَعْنَى سَاكِتٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ إِنْشَادِ الشِّعْرِ، وَذِكْرِ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ فِي عِشْرَتِهِمْ وَزِيَادَةِ أُلْفَتِهِمْ، وَمَحَبَّتِهِمْ بِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ مُبَاحَاتِهِمْ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ نِيَّاتِهِمْ، وَأَخْذِ الْفَوَائِدِ، وَالْحِكَمِ مِنْ حِكَايَاتِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعَارِفِينَ فِي مُشَاهَدَاتِهِمْ. فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَاهِدُ ... دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ (وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَتَبَسَّمُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ (مَعَهُمْ) أَيْ: مَعَ أَصْحَابِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يَتَبَسَّمُ عَلَى رِوَايَاتِهِمْ، وَبَيَانِ حَالَاتِهِمْ، وَتَحْسِينِ مَقَالَاتِهِمْ مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِمَّنْ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْبَابِهِ: مَا نَفَعَ صَنَمٌ أَحَدًا ... مِثْلَ مَا نَفَعَنِي صَنَمِي فَإِنِّي جَعَلْتُهُ مِنَ الْحَيْسِ ... لِمَا كَانَ لِي مِنَ الْكَيْسِ. فَنَفَعَنِي فِي زَمَنِ الْقَحْطِ ... وَمَنْ كَانَ مَعِيَ مِنَ الرَّهْطِ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الْآخَرُ رَأَيْتُ ثَعْلَبًا صَعِدَ فَوْقَ صَنَمِي، وَبَالَ عَلَى رَأْسِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتَّى عَمِيَ. فَقُلْتُ أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعْلَبَانِ بِرَأْسِهِ، فَتَرَكْتُ طَرِيقَةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَدَخَلْتُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هَذّا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ حِلُّ اسْتِمَاعِ الشِّعْرِ، وَإِنْشَادِهِ مِمَّا لَا فُحْشَ، وَلَا خَنَأَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَوَقَائِعِهِمْ فِي حُرُوبِهِمْ، وَمَكَارِمِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ أَشْعَارَهَمُ الَّتِي كَانُوا يَتَنَاشَدُونَهَا فِيهَا الْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ، وَذِكْرُهُمْ أُمُورَ الْجَاهِلِيَّةِ لِلنَّدَمِ عَلَى فِعْلِهَا، فَيَكُونُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ لَا مُبَاحٌ فَقَطْ لِأَنَّ قَاعِدَةَ أَنَّ التَّأْسِيسَ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ تُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْإِبَاحَةُ، وَثَمَّةَ السُّنَّةُ كَمَا قَرَّرْتُهُ خِلَافًا لِشَارِحٍ. قُلْتُ الصَّوَابُ مَا شَرَحَ اللَّهُ لِصَدْرِ ذَلِكَ الشَّارِحِ حَيْثُ حَرَّرَ فِعْلَ أَصْحَابِهِ، وَقَرَّرَ سُكُوتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُرَادِ الشَّارِعِ الْفَاتِحِ لَا عَلَى الْمُبَاحِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي يُسَمَّى لَغْوًا بِلَا فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَدُنْيَوِيَّةٍ وَعَائِدَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرَكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» . وَمَا الْمُوجِبُ لِحَمْلِ مَا ذُكِرَ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِي حُسْنُ الظَّنِّ بِأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بَعْدَ تَشَرُّفِهِمْ بِالْإِسْلَامِ لَا سِيَّمَا وَهُمْ فِي صُحْبَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ مَعَ تَعَدُّدِ مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي الْأَيَّامِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقَاعِدَةِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ زَمَانًا وَمَكَانًا وَرَاوِيًا، فَمَا بَعْدَهُ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَجَعْلِ الْكَلَامِ مُؤَسَّسًا بِسَبَبِهَا عَلَى أَنَّ التَّأْسِيسَ إِذَا بَنَيْنَا عَلَى الْأَسَاسِ النَّفِيسِ يُوجَدُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فِي شِعْرٍ لِلشَّاعِرِ، وَالثَّانِي فِي إِنْشَادِ شِعْرِ الْغَيْرِ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ مُخْتَصٌّ بِالنَّظْمِ، وَالثَّانِيَ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنَ النَّثْرِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَعَدَّدَ، وَحَصَلَتْ فِيهِ الْمُوَاظَبَةُ وَالْمُدَاوَمَةُ يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِعِدَّةٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْعَمَلِ مَرَّةً أَوْ نَادِرًا، فَهُوَ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَكَ انْعِكَاسَ الْقَضِيَّةِ ; فَتَأَمَّلْ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) مُصَغَّرًا (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَشْعَرُ كَلِمَةٍ) أَيْ: أَحْسَنُهَا وَأَدَقُّهَا وَأَجْوَدُهَا وَأَحَقُّهَا، وَالْمَعْنَى أَفْضَلُ قَصِيدَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ (تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ) أَيْ: شُعَرَاؤُهُمْ وَبُلَغَاؤُهُمْ وَفُصَحَاؤُهُمْ (كَلِمَةُ لَبِيدٍ) وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ لَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَالَ: يَكْفِينِي الْقُرْآنُ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ فِي كَمَالِ الْعِرْفَانِ، وَالْإِيقَانِ (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ) قِيلَ لَمَّا سَمِعَ عُثْمَانُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ.

اعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: كَذِبَ لَبِيدٌ ; فَإِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ فَلَمَّا عَقَّبَ لَبِيدُ ذَلِكَ مُبَيِّنًا لِمُرَادِهِ أَنَّهُ نَعِيمُ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ. نَعِيمُكَ فِي الدُّنْيَا غُرُورٌ وَحَسْرَةٌ. الْبَيْتَ، وَسَمِعَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَدَقَ لَبِيدٌ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ) وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ (قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: رَدِيفَهُ وَزَادَ فِي مُسْلِمٍ يَوْمًا (فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ: هِيهِ، فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهِ، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ) . فَفِيهِ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ (فَأَنْشَدْتُهُ مِائَةَ قَافِيَةٍ) إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ تَنَاشُدِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَافِيَّةِ الْبَيْتُ، وَأَطْلَقَ الْجُزْءَ وَأَرَادَ الْكُلَّ مَجَازًا (مِنْ قَوْلِ أُمَيَّةَ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ ثَقَفِيٌّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَدْرَكَ مَبَادِئَ الْإِسْلَامِ، وَبَلَغَهُ خَبَرُ مَبْعَثِ سَيِّدِ الْأَنَامِ لَكِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ غَوَّاصًا فِي الْمَعَانِي، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِهِ: «آمَنَ لِسَانُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ» . وَذَلِكَ لِإِقْرَارِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَيُنْشِدُ فِي ذَلِكَ الشِّعْرَ الْحَسَنَ، وَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَلَمْ يُسْلِمْ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ قَرَأَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَطَمِعَ أَنْ يَكُونَ هُوَ ; فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَصُرِفَتِ النُّبُوَّةُ عَنْ أُمَيَّةَ حَسَدَهُ وَكَفَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، وَمِنْهُ تَعَلَّمَتْهُ قُرَيْشٌ، فَكَانَتْ تَكْتُبُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (كُلَّمَا أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا) أَيْ: كُلَّمَا قَرَأْتُ لَهُ بَيْتًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، لِمَا فِي الْقَامُوسِ أَنْشَدَ الشِّعْرَ: قَرَأَهُ (قَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ كَذَا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (هِيهِ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْهَاءِ الثَّانِيَةِ قَالُوا: وَالْهَاءُ الْأُولَى مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ وَأَصْلُهَا إِيهِ وَهِيَ لِلِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَعْهُودِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْسَنَ شِعْرَ أُمَيَّةَ، وَاسْتَزَادَ مِنْ إِنْشَادِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَعْثِ. قَالَ مِيرَكُ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ: «إِيهِ» اسْمٌ يُسَمَّى بِهِ الْفِعْلُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا اسْتَزَدْتَهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ عَمَلٍ إِيهِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَإِنْ وَصَلْتَ نَوَّنْتَ فَقُلْتَ: إِيهٍ حَدِيثًا. وَقَوْلُهُ: وَقَفْنَا فَقُلْنَا إِيهِ عَنْ أُمِّ سَالِمٍ. فَلَمْ يُنَوِّنْ وَقَدْ وَصَلَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرَى الْوَقْفُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا قُلْتَ إِيهٍ يَا رَجُلُ تَأْمُرُهُ بِأَنْ يَزِيدَكَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَعْهُودِ بَيْنَكُمَا كَأَنَّكَ قُلْتَ هَاتِ الْحَدِيثَ، وَإِنْ قُلْتَ إِيهِ ; فَكَأَنَّكَ قُلْتَ حَدِيثًا مَا ; لِأَنَّ التَّنْوِينَ تَنْوِينُ تَنْكِيرٍ، وَفِي الْبَيْتِ أَرَادَ التَّنْكِيرَ فَتَرَكَهُ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا أَسْكَتَّهُ، وَكَفَفْتَهُ قُلْتَ إِيهًا بِالنَّصْبِ عَنَّا وَإِذَا أَرَدْتَ التَّبْدِيلَ قُلْتَ إِيهًا بِمَعْنَى هَيْهَاتَ (حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةً يَعْنِي بَيْتًا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَعْنِي، وَفِي نُسْخَةٍ بَيْتٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةُ تَمْيِيزِ مِائَةٍ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِيَ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ وَوَجْهُ النَّصْبِ ظَاهِرٌ، وَوَجْهُ الْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَبْقَى الْمُضَافَ إِلَيْهِ عَلَى حَالِهِ كَانَ أَصْلُهُ مِائَةَ بَيْتٍ انْتَهَى. وَفِي نُسْخَةٍ: مِائَةَ بَيْتٍ، وَهُوَ وَاضِحٌ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ

كَادَ) أَيْ: قَارَبَ (لَيُسْلِمُ) وَفِي رِوَايَةٍ لَقَدْ كَادَ أَنْ يُسْلِمَ شِعْرُهُ، وَمَرَّ سَبَبُ ذَلِكَ. قِيلَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ: لَكَ الْحَمْدُ وَالنَّعْمَاءُ وَالْفَضْلُ رَبَّنَا فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْكَ حَمْدًا وَلَا مَجْدَا قَالَ الْحَنَفِيُّ: أَيْ أَنَّهُ كَادَ وَكَلِمَةُ أَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَنْ مُخَفَّفَةٌ اسْمُهَا إِنْ أُعْمِلَتْ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. فَزَعَمَ أَنَّ مَنْ قَالَ: التَّقْدِيرُ أَنَّهُ كَادَ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ النَّحْوِ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ إِذَ مُرَادُهُ إِذَا أُعْمِلَتْ كَمَا ذَكَرَ، وَمُجَرَّدُ حَذْفِ هَذَا الْقَيْدِ لَا يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّ مَنْ حَذَفَهُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ النَّحْوِ. (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ فَالزَّايِ (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ وَالْمَعْنَى) أَيِ: الْمُؤَدَّى (وَاحِدٌ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّايِ فَنُونٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَحْتِيَّةٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ عَلَى مَا فِي التَّقْرِيبِ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ) ضُبِطَ حَسَّانُ مُنْصَرِفًا وَغَيْرَ مُنْصَرِفٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فَعَّالٌ أَوْ فَعْلَانُ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ، وَهُوَ ثَابِتُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً نِصْفُهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَكَذَا عَاشَ أَبُوهُ وَجَدُّ أَبِيهِ الْمَذْكُورُونَ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: يُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، وَهُوَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أَشْعَرَ أَهْلِ الْمَدَرِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَوَى عَنْهُ عُمَرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ، وَمَاتَ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقِيلَ سَنَةُ خَمْسِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مِنْبَرًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةُ النَّبْرِ، وَهُوَ الرَّفْعُ (فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (يَقُومُ عَلَيْهِ قَائِمًا) أَيْ: قِيَامًا وَقَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ الْمُفَصَّلِ قَدْ يَرِدُ الْمَصْدَرُ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ نَحْوَ قُمْتُ قَائِمًا انْتَهَى. وَفِي نُسْخَةٍ يَقُولُ عَلَيْهِ قَائِمًا أَيْ: يَقُولُ حَسَّانُ الشِّعْرَ، وَيُنْشِدُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ حَالَ كَوْنِهِ قَائِمًا (يُفَاخِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ) عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ الْأَصِيلِ أَيْ: عُرْوَةُ رِوَايَةً عَنْ عَائِشَةَ، وَفِي نُسْخَةٍ وَهِيَ الظَّاهِرُ أَوْ قَالَتْ أَيْ: عَائِشَةُ (يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: يُخَاصِمُ عَنْ قِبَلِهِ، وَيُدَافِعُ عَنْ جِهَتِهِ فَقِيلَ الْمُنَافَحَةُ الْمُخَاصَمَةُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُهَاجِي الْمُشْرِكِينَ، وَيَذُمُّهُمْ عَنْهُ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: يُنَافِحُ أَيْ: يُدَافِعُ وَالْمُنَافَحَةُ وَالْمُكَافَحَةُ: الْمُدَافَعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ، نَفَحْتُ الرَّجُلَ بِالسَّيْفِ تَنَاوَلْتُهُ بِهِ يُرِيدُ بِمُنَافَحَتِهِ مُدَافَعَةَ هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَمُجَاوَبَتِهِمْ عَنْ أَشْعَارِهِمْ (وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَعَدُّدِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ لَهُ (أَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ) وَفِي نُسْخَةٍ حَسَّانًا (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بِضَمِّ الدَّالِ، وَسُكُونِهِ أَيْ: بِجِبْرِيلَ وَسُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ بِمَا فِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَالْمَعْرِفَةُ السَّرْمَدِيَّةُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْقُدُسِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ ; لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُصَرِّحًا، وَهُوَ أَنَّ جِبْرِيلَ مَعَ حَسَّانَ (مَا يُنَافِحُ أَوْ يُفَاخِرُ) لِلشَّكِ، وَيَحْتَمِلُ التَّنْوِيعَ وَفِي رِوَايَةٍ: مَا نَافَحَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَمَا لِلدَّوَامِ وَالْمُدَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَشْعَارَ الَّتِي فِيهَا دَفْعُ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي شَأْنِ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ لَيْسَ مِمَّا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكُونُ مِمَّا يُلْهِمُهُ الْمَلَكُ، وَلَيْسَ مِنَ الشِّعْرِ الَّذِي قَالَهُ الشُّعَرَاءُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمْ بِمَعَانٍ فَاسِدَةٍ، فَالْجُمْلَةُ إِخْبَارِيَّةٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهَا جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ، وَيُسَاعِدُهُ مَا الدَّوَامِيَّةُ حَيْثُ قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي الْهَجْوِ وَالطَّعْنِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْسَابِهِمْ مَظِنَّةَ الْفُحْشِ مِنَ الْكَلَامِ، وَبَذَاءَةِ اللِّسَانِ، وَيُؤَدِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَا لَهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى

التَّأْيِيدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْدِيسِهِ مِنْ ذَلِكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ التُّورِبِشْتِيِّ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ شِعْرَكَ هَذَا الَّذِي تُنَافِحُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُلْهِمُكَ الْمَلَكُ سَبِيلَهُ، بِخِلَافِ مَا يَتَقَوَّلُهُ الشُّعَرَاءُ إِذَا اتَّبَعُوا الْهَوَى وَهَامُوا فِي كُلِّ وَادٍ ; فَإِنَّ مَادَّةَ قَوْلِهِمْ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمُ انْتَهَى. وَقِيلَ لَمَّا دَعَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعَانَهُ جِبْرِيلُ بِسَبْعِينَ بَيْتًا هَذَا. وَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيُّ: ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالشَّرَفِ أَيْ: يُفَاخِرُ لِأَجْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجْهَتُهُ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّ حَسَّانًا يُظْهِرُ الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ وَالشَّرَفَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنَّ شَارِحًا عَكَسَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، وَنَسَبَ الْكِبْرَ، وَالْعَظَمَةَ إِلَى حَسَّانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ شَاعِرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ ; فَإِنَّهُ أَبْلَغُ بَلَاغَةً وَتَبْلِيغًا ; فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ التَّابِعُ مُعَظَّمًا لِأَجْلِ الْمَتْبُوعِ كَانَ الْمَتْبُوعُ فِي غَايَةٍ مِنَ الْعَظَمَةِ بِالْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ، وَالتِّبْيَانِ الْعَلِيِّ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَكَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ عَلَى طَرِيقِ الْعَكْسِ فِي الدَّلِيلِ إِيمَاءً إِلَى حَقِيقَةِ التَّعْلِيلِ. لَمَّا دَعَا اللَّهُ دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ بِأَكْرَمِ الرُّسْلِ كُنَّا أَكْرَمَ الْأُمَمِ. وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ تَنَاوُبُ الْحُرُوفِ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِيَّةِ، وَإِمَّا عَلَى قَصْدِ الْمَعَانِي التَّضَمُّنِيَّةِ. وَأَمَّا مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ نِسْبَةَ الْكِبْرِ مَذْمُومَةٌ ; فَلَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا ; فَإِنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى الْكَافِرِينَ قُرْبَةٌ، وَعَلَى سَائِرِ الْمُتَكَبِّرِينَ صَدَقَةٌ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ فَانْدَفَعَ بِهَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ أَنَّهُ يَذْكُرُ مَفَاخِرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَثَالِبَ أَعْدَائِهِ، وَرَدِّ مَقُولِهِمْ فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْسِبُ نَفْسَهُ إِلَى الشَّرَفِ، وَالْكِبْرِ وَالْعِظَمِ بِكَوْنِهِ مِنْ أُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُمْتَازِ بِالْفَضْلِ عَلَى الْخَلَائِقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهُوَ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ وَلَيْتَهُ لَمْ يَذْكُرِ الْكِبْرَ ; فَإِنَّ ذِكْرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهِ مَا فِيهِ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يُوَافِيهِ وَلَا يُنَافِيهِ، ثُمَّ لَا تَنَافِي بَيْنَ جَمْعِهِ بَيْنَ الْمُفَاخَرَتَيْنِ. نَعَمِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُ فَخْرِهِ وَتَعْظِيمُ قَدْرِهِ، وَتَفْخِيمُ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنُو تَمِيمٍ، وَشَاعِرُهُمُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ ; فَنَادَوْهُ يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا نُفَاخِرْكَ أَوْ نُشَاعِرْكَ ; فَإِنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ وَذَمَّنَا شَيْنٌ ; فَلَمْ يَزِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ قَالَ: ذَلِكَ اللَّهُ إِذَا مَدَحَ زَانَ وَإِذَا ذَمَّ شَانَ، إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالْفَخْرِ، وَلَكِنْ هَاتُوا فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ أَنْ يُجِيبَ خَطِيبَهُمْ، فَخَطَبَ فَغَلَبَهُمْ، فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ: أَتَيْنَاكَ كَيْمَا يَعْرِفُ النَّاسُ فَضْلَنَا ... إِذَا خَالَفُونَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ وَأَنَّا رُءُوسُ النَّاسِ فِي كُلِّ مَشْعَرٍ وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَّانًا يُجِيبُهُمْ فَقَامَ فَقَالَ: بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إِنَّ فَخْرَكُمْ ... يَعُودُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمُ ... لَنَا خَوَلٌ مَا بَيْنَ قَنٍّ وَخَادِمِ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ شَاعِرُهُمْ، وَثَابِتٌ الْمَذْكُورُ خَطِيبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَطِيبُ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ خَزْرَجِيٌّ شَهِدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ هَذَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ بُرَيْدَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا» وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ أَبِي دَاوُدَ عَيْلًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: ثَقِيلًا وَوَبَالًا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا ; فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَّةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ، فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، فَتَكَلُّفُ الْعَالِمِ إِلَى عِلْمِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِجَهْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا، فَهُوَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَعْضَ الشِّعْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ (مِنْ) تَبْغِيضِيَّةٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً أَيْ: قَوْلًا صَادِقًا مُطَابِقًا قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَبِهِ يُرَدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الشِّعْرُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ أَوْ عَلَى الشِّعْرِ الْمَذْمُومِ، وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا قَالَ: قُرْآنُكَ الشِّعْرُ. (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى) أَيِ: الْفَزَارِيُّ (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) يَعْنِي وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ (قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ) أَيْ: مِثْلَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنَّمَا الْمُغَايَرَةُ بِحَسْبِ الْإِسْنَادِ، فَالْأَوَّلُ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ

(باب ما جاء في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السمر)

هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ وَهَذَا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ بَدَلَ عَنْ هَاشِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، فَالْإِسْنَادَانِ مُتَّصِلَانِ وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِمَا تَقْوِيَةُ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّمْرِ) السَّمْرُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمِيمِ السَّاكِنَةِ كَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَهُوَ حَدِيثُ اللَّيْلِ مِنَ الْمُسَامَرَةِ، وَهِيَ الْمُحَادَثَةُ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى سَامِرًا تَهْجُرُونَ أَيْ: يَسْمُرُونَ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ، وَالطَّعْنِ فِيهِ حَالَ كَوْنِهِمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ، الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَجَعْلِهِ الْمَصْدَرَ، وَأَصْلُ السَّمْرِ ضَوْءُ لَوْنِ الْقَمَرِ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (الْبَزَّارُ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ (حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ) بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ (حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الثَّقَفِيُّ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْقَافِ مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ ثَقِيفٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُجَالِدٍ) بِالْجِيمِ بَعْدَ ضَمِّ الْمِيمِ (عَنِ الشَّعْبِيُّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ) كَلِمَةُ «ذَاتَ» مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّأْكِيدِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا صِفَةُ مَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: فِي سَاعَاتٍ ذَاتِ لَيْلَةٍ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَيْ: بِضَمَائِرِهَا، وَخَوَاطِرِهَا (نِسَاءَهُ) أَيْ: بَعْضَ نِسَائِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ أَوْ كُلِّهِنَّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُنَّ بَعْضُ بَنَاتِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ مِنَ النِّسَاءِ (حَدِيثًا) أَيْ كَلَامًا عَجِيبًا أَوْ تَحْدِيثًا غَرِيبًا (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: كَأَنَّ الْحَدِيثَ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: كَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ (حَدِيثُ خُرَافَةَ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: مُسْتَمْلَحٌ مِنْ بَابِ الظَّرَافَةِ وَفِي غَايَةٍ مِنَ اللَّطَافَةِ فَفِي الْمُغْرِبِ: الْخُرَافَاتُ: الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَمْلَحَةُ وَبِهَا سُمِّيَ خُرَافَةُ رَجُلٍ اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ كَمَا تَزْعُمُ الْعَرَبُ، فَلَمَّا رَجَعَ أَخْبَرَ بِمَا رَأَى مِنْهَا فَكَذَّبُوهُ، وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُرَافَةُ حَقٍّ يَعْنِي مَا حَدَّثَ بِهِ عَنِ الْجِنِّ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ كَمَا تَزْعُمُ الْعَرَبُ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ وَفِي الْقَامُوسِ خُرَافَةُ كَثُمَامَةَ رَجُلٌ مِنْ عُذْرَةَ اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِمَا رَأَى فَكَذَّبُوهُ، وَقَالُوا: حَدِيثُ خُرَافَةَ أَيْ: هِيَ حَدِيثٌ مُسْتَمْلَحٌ كَذِبٌ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَمْ تُرِدِ الْمَرْأَةُ مَا يُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ كَذِبٌ مُسْتَمْلَحٌ لَأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ إِلَّا الْحَقُّ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُسْتَمْلَحٌ لَا غَيْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَدِيثَ خُرَافَةَ يَشْتَمِلُ عَلَى وَصْفَيْنِ الْكَذِبِ وَالِاسْتِمْلَاحِ، فَيَصِحُّ التَّشْبِيهُ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ حَدِيثَ خُرَافَةَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُكَذِّبُونَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَعَلَى كُلِّ مَا يُسْتَمْلَحُ، وَيُتَعَجَّبُ مِنْهُ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْقَامُوسُ، فَيُحْمَلُ كَلَامُهَا عَلَى التَّجْرِيدِ، وَيَتِمُّ بِهِ التَّسْدِيدُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُبَالَغُ فِي التَّشْبِيهِ فَيُقَالُ هَذَا كَلَامُ صِدْقٍ يُشْبِهُ الْكَذِبَ كَمَا قَالَ الْغَزَّالِيُّ: الْمَوْتُ يَقِينٌ يُشْبِهُ الظَّنَّ عِنْدَ عُمُومِ الْخَلْقِ (فَقَالَ: أَتَدْرُونَ) خَاطَبَهُنَّ خِطَابَ الذُّكُورِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِنَّ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النُّسَخِ أَتَدْرِينَ بِخِطَابِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ الْمَحَارِمِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ مِنَ الْأَجَانِبِ مَعَهُنَّ وَلَكِنَّهُنَّ وَرَاءَ النِّقَابِ أَوْ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَتَبْعِيدُ كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ فِي حَقِّ الشَّارِحِينَ الْمُتَعَارِضِينَ، وَالْمَعْنَى أَتَعْلَمُونَ (مَا خُرَافَةُ) وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ مَا يَدْرُونَ حَقِيقَةَ خُرَافَةَ، وَحَقِيقَةَ كَلَامِهِ بَادَرَ إِلَى بَيَانِهِ قَبْلَ جَوَابِهِمْ فَقَالَ:

(إِنَّ خُرَافَةَ كَانَ رَجُلًا مِنْ عُذْرَةَ) بِضَمِّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَسُكُونِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنَ الْيَمَنِ (أَسَرَتْهُ) أَيِ: اخْتَطَفَتْهُ (الْجِنُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: فِي أَيَّامِهَا، وَهِيَ قَبْلَ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَى الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ فِي الْأَمْثَالِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا رَحِمَ اللَّهُ خُرَافَةَ إِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا (فَمَكَثَ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ: لَبِثَ (فِيهِمْ دَهْرًا) أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا (ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الْإِنْسِ وَكَانَ) بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ فَكَانَ (يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الْأَعَاجِيبِ فَقَالَ النَّاسُ: حَدِيثُ خُرَافَةَ) أَيْ: فِيمَا سَمِعُوهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْعَجِيبَةِ، وَالْحِكَايَاتِ الْغَرِيبَةِ هَذَا حَدِيثُ خُرَافَةَ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَكَاذِيبِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ قَدْ تُرَادُ مُبَالَغَةً فِي الْأَعَاجِيبِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّحَدُّثِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْعِيَالِ، وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَهُنَّ، وَتَفْرِيجِ الْهَمِّ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَالنَّهْيُ الْوَارِدُ مَحْمُولٌ عَلَى كَلَامِ الدُّنْيَا، وَمَا لَا يَعْنِي فِي الْعُقْبَى، وَالْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ خَاتِمَةُ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ بِالْحُسْنَى، وَمُكَفِّرَةٌ لِمَا وَقَعَ لَهُ فِيمَا مَضَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أُمِّ زَرْعٍ فِي بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْهُ وَحِدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ مِنْهَا فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ، وَسَمَاعِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. (حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ) أَيْ: هَذَا حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالْعُنْوَانِ، وَمَيَّزَهُ عَنْ سَائِرِ الْأَقْرَانِ لِطُولِ مَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ، وَلِهَذَا أَفْرَدَهُ بِالشَّرْحِ بَعْضُ الْأَعْيَانِ ثُمَّ أُمُّ زَرْعٍ بِزَايٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَاحِدَةٌ مِنَ النِّسَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهَا لِأَنَّ مُعْظَمَ الْكَلَامِ، وَغَايَةَ الْمَرَامِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَلَسَتْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ جَلَسَ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِكَوْنِ الْفِعْلِ مُسْنَدًا إِلَى الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ بِلَا فَاصِلٍ، نَعَمْ فِي صُورَةِ الْفَصْلِ يَجُوزُ الْوَجْهَانِ نَحْوَ حَضَرَتِ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ، وَحَضَرَ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ، فَوَجْهُ تَذْكِيرِهِ أَنَّهُ عَلَى حَدِّ: «قَالَ فُلَانَةُ» كَمَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ اسْتِغْنَاءً بِظُهُورِ تَأْنِيثِهِ عَنْ عَلَامَتِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّاءَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ فِي إِفَادَةِ التَّأْنِيثِ ابْتِدَاءً كَمَا يُؤَكَّدُ فِي الْأَكْثَرِ انْتِهَاءً، وَكِلَاهُمَا يَقَعُ اهْتِمَامًا وَاعْتِنَاءً، وَقَدْ يُكْتَفَى بِأَصْلِ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ اكْتِفَاءً، وَقِيلَ أَنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ لَا الْجَمَاعَةِ إِذْ حُكْمُ الْإِسْنَادِ إِلَى الْجَمْعِ حُكْمُ الْإِسْنَادِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ الْغَيْرِ الْحَقِيقِيِّ فِي التَّخْيِيرِ، وَالْمَعْنَى جَلَسْتُ فِي بَعْضِ قُرَى مَكَّةَ، وَقِيلَ عَدَنٍ (إِحْدَى عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَكْسِرُونَهَا (امْرَأَةً) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كُلُّهُنَّ مِنَ الْيَمَنِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا غَرَضٌ مُعْتَدٌّ بِهِ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ سُمِّيَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِنْهُنَّ عَمْرَةُ بِنْتُ عُمَرَ وَحَيُّ بِنْتُ كَعْبٍ وَمَهْدَدُ بِنْتُ أَبِي هَرُومَةَ وَكَبْشَةُ وَهِنْدُ وَحُبَّى بِنْتُ عَلْقَمَةَ وَكَبْشَةُ بِنْتُ الْأَرْقَمِ وَبِنْتُ

أَوْسِ بْنِ عَبْدٍ وَأُمُّ زَرْعٍ، وَأَغْفَلَ اسْمَ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُبَهَمَاتِ، وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ أَنَّ اسْمَ أُمِّ زَرْعٍ عَاتِكَةُ، وَلَمْ يُسَمَّ أَبُو زَرْعٍ، وَلَا ابْنُهُ وَلَا ابْنَتُهُ وَلَا جَارِيَتُهُ، وَلَا الْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا، وَلَا الْوَلَدَانِ، وَلَا الرَّجُلُ الَّذِي تَزَوَّجَتْهُ أُمُّ زَرْعٍ بَعْدَ أَبِي زَرْعٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ حَالُ سَائِرِ الْمُبْهَمَاتِ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ (فَتَعَاهَدْنَ) أَيْ: أَلْزَمْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَهْدًا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ تَعَاهَدْنَ، وَهُوَ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ بِتَقْدِيرِ: «قَدْ» أَوْ بِدُونِهِ، أَوْ عَلَى اسْتِئْنَافِ بَيَانٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَتَعَاقَدْنَ) أَيْ: عَقَدْنَ عَلَى الصِّدْقِ مِنْ ضَمَائِرِهِنَّ (أَنْ لَا يَكْتُمْنَ) أَيْ: عَلَى أَنْ لَا يَكْتُمْنَ كُلُّهُنَّ (مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ) أَيْ: أَحْوَالِهِمْ (شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا أَوْ مِنَ الْكِتْمَانِ فَهُوَ إِمَّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لِقَوْلِهِ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ، وَهُوَ قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، وَالظَّرْفُ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْكِتْمَانِ، وَقِيلَ بِأَمْرٍ مُقَدَّرٍ، تَأَمَّلْ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَوْسٍ، وَعُقْبَةَ: أَنْ يَتَصَادَقْنَ بَيْنَهُنَّ، وَلَا يَكْتُمْنَ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: أَنْ يَنْعَتْنَ أَزْوَاجَهُنَّ وَيَصْدُقْنَ. وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ: فَتَبَايَعْنَ عَلَى ذَلِكَ (فَقَالَتْ) بِالْفَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ قَالَتْ: (الْأُولَى زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ) تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ مَعَ مُبَالَغَةٍ كَأَنَّهُ بِتَمَامِهِ وَكَمَالِهِ لَحْمٌ لَا حَيَاةَ فِيهِ، ثُمَّ لَحَمُ جَمَلٍ، وَهُوَ أَخْبَثُ اللَّحْمِ خُصُوصًا إِذَا كَانَ هَزِيلًا، وَلِذَا قَالَتْ: (غَثٍّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ مَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِجَمَلٍ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَمَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ لَحْمٍ ; لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ عَلَى خِلَافٍ فِي مَرْجِعِ هُوَ أَهُوَ الزَّوْجُ أَوِ اللَّحْمُ أَوِ الْجَمَلُ، فَتَأَمَّلْ وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْخَفْضُ، وَقِيلَ الْجَيِّدُ هُوَ الرَّفْعُ، وَالْغَثُّ: الْمَهْزُولُ (عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ) صِفَةٌ أُخْرَى لِلَحْمٍ أَوْ جَمَلٍ، وَقَوْلُهُ (وَعْرٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ صِفَةُ جَبَلٍ أَيْ: غَلِيظٌ يَصْعُبُ الصُّعُودُ إِلَيْهِ وَيَعْسُرُ الْقُعُودُ عَلَيْهِ تَصِفُ قِلَّةَ خَيْرِهِ، وَبُعْدَهُ عَنْهُ مَعَ الْقِلَّةِ كَالْمَشْيِ فِي قُلَّةِ الْجَبَلِ الصَّعْبِ الْوُصُولِ الشَّدِيدِ الْحُصُولِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ قِلَّةِ خَيْرِهِ وَكَثْرَةِ كِبْرِهِ، سَيِّئُ الْخُلُقِ عَظِيمُ الْخَلْقِ يَعْجَزُ عَنْهُ كُلُّ أَحَدٍ فِي إِظْهَارٍ (لَا سَهْلٍ) بِالْجَرِّ وَيُرْفَعُ وَيُفْتَحُ أَيْ: غَيْرُ سَهْلٍ (فَيُرْتَقَى) أَيْ: فَيُصْعَدُ إِلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ (وَلَا سَمِينٍ) بِالْحَرَكَاتِ السَّابِقَةِ (فَيُنْتَقَلُ) لِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَيُؤْخَذُ أَوْ يُحْمَلُ بَلْ يُتْرَكُ لِرَدَاءَتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَفِي نُسْخَةٍ فَيُنْتَقَى بِالْأَلْفِ بَدَلَ اللَّامِ أَيْ: فَيُخْتَارُ لِلْأَكْلِ بِأَنْ يُتَنَاوَلَ، وَيُسْتَعْمَلَ قَالَ مِيرَكُ: لَا سَهْلٌ، وَلَا سَمِينٌ فِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْبِنَاءُ عَلَى الْفَتْحِ ; لِأَنَّهُ اسْمٌ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ جَبَلٍ أَيْ: غَيْرُ سَهْلٍ، وَلَا سَمِينٍ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ لَا بِمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ضَعْفٍ أَيْ: لَيْسَ سَهْلٌ، وَلَا سَمِينٌ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: الرِّوَايَةُ بِالْجَرِّ (قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لَا أَبُثُّ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: لَا أُظْهِرُ (خَبَرَهُ) وَلَا أُبَيِّنُ أَثَرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّ النَّثَّ بِالنُّونِ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ لَا أَنُمُّ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ النَّمِيمَةِ (إِنِّي) بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَبِفَتْحٍ (أَخَافُ) أَيْ: أَنْ أُبْدِيَ خَبَرَهُ وَأَبْدَأَ أَثَرَهُ (أَنْ لَا أَذَرَهُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: لَا أَتْرُكُهُ أَوْ لَا أَتْرُكُ خَبَرَهُ بَلْ (أَنْ أَذْكُرَهُ) أَيْ: بَعْضَ شَيْءٍ مِنْ خَبَرِهِ (أَذْكُرُ عُجَرَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفَتْحِ جِيمِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَبُجَرَهُ) بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أَخْبَارَهُ كُلَّهَا أَيْ: بَادِيهَا وَخَافِيهَا أَوْ أَسْرَارُهُ جَمِيعُهَا أَوْ عُيُوبُهُ جَمِيعُهَا، وَقِيلَ الْعُجَرُ وَالْبُجَرُ: الْغُمُومُ وَالْهُمُومُ، فَأَرَادَتْ بِهِمَا

مَا تُقَاسِي مِنْهُ مِنَ الْأَذِيَّةِ، وَسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: «أَشْكُوا عُجَرِي وَبُجَرِي إِلَى رَبِّي» أَيْ: هُمُومِي وَأَحْزَانِي، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: مَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَ صِفَتَهُ، وَلَا أَقْطَعَهَا مِنْ طُولِهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ أَخَافُ أَنْ لَا أَقْدِرَ عَلَى فِرَاقِهِ لِأَنَّ أَوْلَادِيَ مِنْهُ، وَأَسْبَابَ رِزْقِنَا عَنْهُ، ثُمَّ قِيلَ أَصْلُ الْعُجَرِ جَمْعُ عُجْرَةٍ وَهِيَ نَفْخَةٌ فِي عُرُوقِ الْعُنُقِ حَتَّى تَرَيْهَا نَاتِئَةً مِنَ الْجَسَدِ، وَالْبُجَرُ جَمْعُ بُجْرَةٍ وَهُوَ نُتُوءُ السُّرَّةِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتَا فِي الْعُيُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقِيلَ: «لَا» فِي: «أَنْ لَا أَذَرَهُ» زَائِدَةٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الزَّوْجِ أَيْ: أَخَافُ أَنْ أَذَرَ زَوْجِي بِأَنْ طَلَّقَنِي، وَحَاصِلُ كَلَامِهَا أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَشْكُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أُمُورَهُ كُلَّهَا مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ مِنْهَا (قَالَتِ الثَّالِثَةُ زَوْجِيَ الْعَشَنَّقُ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيِ: الطَّوِيلُ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا الطُّولُ، فَهُوَ طَلَلٌ بِلَا طَائِلٍ فَلَا نَفْعَ عِنْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الزَّمَانُ مَعَهُ يَطُولُ فَمُصَاحِبُهُ حَزِينٌ مَلُولٌ، وَقِيلَ هِيَ السَّيِّئُ الْخُلُقِ كَمَا بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا (إِنْ أَنْطِقْ) أَيْ: أَتَكَلَّمْ بِعُيُوبِهِ أَوْ لِلتَّمَلُّقِ بِهِ (أُطَلَّقْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ ; لِأَنَّهُ عَلَى سُوءِ الْخُلُقِ مُخَلَّقٌ وَقَلْبِي عَلَى حُبِّ الزَّوْجِ مُعَلَّقٌ (وَإِنْ أَسْكُتْ) أَيْ: عَنْ عُيُوبِهِ أَوْ غَضَبًا عَلَيْهِ أَوْ أَدَبًا مَعَهُ (أُعَلَّقْ) أَيْ: بَقِيتُ مُعَلَّقَةً لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ أَيْ: كَالْمُعَلَّقَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لَا يُسْتَقَرُّ بِأَحَدِهِمَا، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْعَشَنَّقُ: هُوَ الطَّوِيلُ الْمُمْتَدُّ الْقَامَةِ أَرَادَتْ أَنَّ لَهُ مَنْظَرًا بِلَا مَخْبَرٍ لِأَنَّ الطُّولَ فِي الْغَالِبِ دَلِيلُ السَّفَهِ، وَلِهَذَا ذَيَّلَتْهُ بِقَوْلِهَا إِنْ أَنْطِقْ إِلَخْ. لِأَنَّ مَا ذَكَرَتْهُ فِعْلُ السُّفَهَاءِ، وَمَنْ لَا تَمَاسُكَ عِنْدَهُ فِي مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ السِّكِّيتِ زِيَادَةٌ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ: «عَلَى حَدِّ السِّنَانِ الْمُذَلَّقِ» بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيِ: الْمُحَدَّدِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ كَثِيرٍ، وَوَجَلٍ كَبِيرٍ (قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ) بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَغْوَارِ، وَقِيلَ كُلُّ مَا نَزَلَ عَنْ نَجْدٍ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَمَّا الْمَدِينَةُ، فَلَا تِهَامَةً، وَلَا نَجْدِيَّةً ; لِأَنَّهَا فَوْقَ الْغَوْرِ دُونَ النَّجْدِ تُرِيدُ حُسْنَ خُلُقِ زَوْجِهَا مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ، وَسُهُولَةَ أَمْرِهِ فِي حَالِ كَمَالِ الِاعْتِدَالِ كَمَا بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا (لَا حَرٌّ) أَيْ: مُفْرِطٌ (وَلَا قَرٌّ) أَيْ: بَرْدٌ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَضَمِّهَا وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِحُسْنِ الِازْدِوَاجِ هُنَا خِلَافًا لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِالضَّمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ كِنَايَتَانِ عَنْ نَوْعَيِ الْأَذَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَنُكْتَةُ تَقْدِيمِ الْحَرِّ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ أَكْثَرُ، وَتَضْعِيفَهُ أَكْبَرُ أَوْ لِوُجُودِ كَثْرَةِ الْحَرِّ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مَكَّةَ سَاعَةً تَبَاعَدَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ سَنَةً» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مِائَتَيْ سَنَةٍ» قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَكَلِمَةُ: «لَا» فِيهِ لِلْعَطْفِ أَوْ بِمَعْنَى لَيْسَ أَوْ بِمَعْنَى غَيْرَ، فَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ مَا بَعْدَهَا مَرْفُوعٌ وَمُنَوَّنٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ، فَهُوَ مَفْتُوحٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ، قُلْتُ: الْأَخِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعِبَارَةِ الْمُوَافِقِ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنْ يُقَالَ

مَعْنَاهُ لَا ذُو حَرٍّ وَلَا ذُو قَرٍّ فَحُذِفَ الْمُضَافُ تَخْفِيفًا، وَكَذَا قَوْلُهَا (وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ) إِعْرَابًا وَمَعْنًى أَيْ: لَيْسَ عِنْدَهُ شَرٌّ يُخَافُ مِنْهُ، وَلَا مَلَالَةٌ فِي مُصَاحَبَتِهِ فَيُسْأَمُ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ حَرِّ لِسَانِهِ، وَبُرُودَةِ طَبْعِهِ، وَنَفْيُ خَشْيَةِ النَّفَقَةِ، وَقِلَّةِ الْمُضَاجَعَةِ (قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ) أَيْ: بِالْبَيْتِ (فَهِدَ) بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ: صَارَ فِي النَّوْمِ كَالْفَهِدِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَغَافُلِهِ فِي الْأُمُورِ، وَعَنْ عَدَمِ ظُهُورِ الشُّرُورِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَهِدَ مَوْصُوفٌ بِكَثْرَةِ النَّوْمِ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ فُلَانٌ أَنْوَمُ مِنَ الْفَهِدِ (وَإِنْ خَرَجَ) أَيْ: مِنَ الْبَيْتِ وَظَهَرَ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَأَقَامَ أَمْرَ الْقِتَالِ (أَسِدَ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: صَارَ فِي الشَّجَاعَةِ، وَالْجَلَادَةِ كَالْأَسَدِ تَصِفُهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ السَّخَاوَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ الشَّجَاعَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَقَدَّمَتْ مَا سَبَقَ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا أَنْسَبُ، وَأَحَقُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ كَمَالِ كَرَمِهِ، وَغَايَةِ هِمَّتِهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا يَجْرِي مِنَ الْأُمُورِ دَاخِلِ الْبَيْتِ، وَلَا يَفْتَقِدُ مَا فِيهِ مِنَ الطَّعَامِ، وَغَيْرِهِ إِكْرَامًا أَوْ تَغَافُلًا أَوْ تَكَاسُلًا، فَكَأَنَّهُ سَاهٍ، وَغَافِلٌ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهَا (وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ) أَيْ: عَمَّا رَآهُ سَابِقًا أَوْ عَمَّا فِي عُهْدَتِهِ مِنْ ضَبْطِ الْمَالِ، وَنَفَقَةِ الْعِيَالِ فَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى سَخَاوَةِ نَفْسِهِ، وَجَوْدَةِ طَبْعِهِ، وَقُوَّةِ قَلْبِهِ، وَثُبُوتِ كَرَمِهِ، وَثَبَاتِ تَمَكُّنِهِ حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ مِنَ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ الدَّنِيَّةِ، وَأَمَّا حَمْلُ كَلَامِهَا عَلَى ذَمِّ زَوْجِهَا، فَلَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ كَمَا لَا يَخْفَى مَعَ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى (قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ) أَيْ: أَكْثَرَ الطَّعَامَ، وَخَلَطَ صُنُوفَهُ كَالْأَنْعَامِ (وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ) اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ مَا فِي الْإِنَاءِ مِنْ نَحْوِ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ، وَرُوِيَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَحَاصِلُ كَلَامِهَا ذَمُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا وَلِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى حِرْصِهِ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِ إِلَى حَالِ عِيَالِهِ، وَنَظَرِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَسَلِ فِي الطَّاعَةِ، وَمِنْ قِلَّةِ الْجُرْأَةِ فِي الشَّجَاعَةِ (وَإِنِ اضْطَجَعَ) أَيْ: أَرَادَ النَّوْمَ (الْتَفَّ) أَيْ: رَقَدَ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، وَتَلَفَّفَ بِكِسَائِهِ وَحْدَهُ، وَانْقَبَضَ إِعْرَاضًا عَنْ أَهْلِهِ، فَتَكُونُ هِيَ كَهَيْئَةٍ حَزِينَةٍ فِي خَلْطَتِهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ حُسْنِ عِشْرَتِهِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَرْقَدِ وَالْمَطْلَبِ، كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهَا (وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ) أَيْ: وَلَا يُدْخِلُ كَفَّهُ إِلَى بَدَنِ امْرَأَتِهِ لِيَعْلَمَ بَثَّهَا وَحُزْنَهَا مِمَّا يَظْهَرُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَرَارَةِ أَوِ الْبُرُودَةِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهَا إِذَا وَقَعَ فِي بَدَنِهَا شَيْءٌ مِنْ قُرْحٍ أَوْ جُرْحٍ أَوْ كَسْرٍ أَوْ جَبْرٍ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا حَتَّى يَضَعَ الْيَدَ عَلَيْهَا لِيَعْلَمَ مِنْهَا الْأَلَمَ، وَيَعْذِرُهَا فِي تَقْصِيرِ الْخَدْمِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ بِجَسَدِهَا عَيْبٌ أَوْ دَاءٌ أَحْزَنَهَا وُجُودُهُ مِنْهَا إِذَا لَبِثَ الْحُزْنُ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ لَا يُدْخِلُ يَدَهُ تَحْتَ ثِيَابِهَا خَوْفًا مِنْ حُزْنِهَا بِسَبَبِ مَسِّهِ مِنْهَا مَا تَكْرَهُ اطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا وَصْفٌ لَهُ بِالْمُرُوءَةِ، وَالْفُتُوَّةِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ فِي الْعِشْرَةِ، وَرَدَّهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِأَنَّهَا كَيْفَ تَمْدَحُهُ بِهَذَا، وَقَدْ ذَمَّتْهُ بِمَا سَبَقَ، وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِأَنَّهُنَّ تَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنْ تَمَحَّضَ قُبْحُ زَوْجِهَا فَذَكَرَتْهُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تَمَحَّضَ حُسْنُ زَوْجِهَا فَذَكَرَتْهُ،

وَمِنْهُنَّ مَنْ جَمَعَ زَوْجُهَا حُسْنًا، وَقُبْحًا فَذَكَرَتْهُمَا، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّهُ ذَمٌّ لَهُ ; لِأَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّهُ يَلْتَفُّ فِي ثِيَابِهِ فِي نَاحِيَةٍ عَنْهَا، وَلَا يُضَاجِعُهَا لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهَا مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي (قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي عَيَايَاءُ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْيَاءَيْنِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْجَمَلُ الَّذِي لَا يَضْرِبُ وَلَا يُلَقِّحُ، وَرَجُلٌ عَيَايَاءُ إِذَا عَيَيَ بِالْأَمْرِ أَوِ النُّطْقِ، وَقِيلَ هُوَ الْعِنِّينُ (أَوْ غَيَايَاءَ) قِيلَ أَوْ لِلشَّكِ، وَقَالَ الشَّارِحُ: فِي أَكْثَرِ الرَّاوِيَاتِ بِالْمُعْجَمَةِ، وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَغَيْرُهُ الْمُعْجَمَةَ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ الْمُهْمَلَةُ لَكِنْ صَوَّبَ الْمُعْجَمَةَ الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، وَهُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْغَيِّ، وَهُوَ الضَّلَالَةُ أَوِ الْخَيْبَةُ، وَقَلْبُ الْوَاوِ يَاءً مَحْمُولٌ عَلَى الشُّذُوذِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلْمُشَاكَلَةِ أَوْ مِنَ الْغَيَابَةِ وَهِيَ الظُّلْمَةُ، وَكُلُّ مَا أَظَلَّ الشَّخْصَ كَالظُّلَلِ الْمُتَكَاثِفَةِ، الظُّلْمَةُ الَّتِي لَا إِشْرَاقَ لَهَا، وَمَعْنَاهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَسْلَكٍ (طَبَاقَاءَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَمْدُودٌ، وَقِيلَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ حُمْقًا، وَقِيلَ هُوَ الْعَاجِزُ الثَّقِيلُ الصَّدْرِ عِنْدَ الْجِمَاعِ يُطْبِقُ صَدْرَهُ عَلَى صَدْرِ الْمَرْأَةِ، فَيَرْتَفِعُ أَسْفَلُهُ عَنْهَا، يُقَالُ جَمَلٌ طَبَاقٌ لِلَّذِي لَا يَضْرِبُ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنِ الْكَلَامِ، فَيَنْطَبِقُ شَفَتَاهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (كُلُّ دَاءٍ) أَيْ: فِي النَّاسِ (لَهُ دَاءٌ) أَيْ: جَمِيعُ الْأَدْوَاءِ مَوْجُودٌ فِيهِ بِلَا دَوَاءٍ، فَفِيهِ سَائِرُ النَّقَائِصِ وَبَقِيَّةُ الْعُيُوبِ، «فَلَهُ دَاءٌ» خَبَرٌ «لِكُلِّ دَاءٍ» ، وَمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ «لَهُ» صِفَةً لِدَاءٍ، وَدَاءٌ خَبَرٌ لِكُلِّ أَيْ: كُلُّ دَاءٍ فِي زَوْجِهَا بَلِيغٌ مُتَنَاهٍ، كَمَا تَقُولُ: «إِنَّ زَيْدًا رَجُلٌ» وَنَحْوُهُ، فَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (شَجَّكِ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: جَرَحَكِ فِي الرَّأْسِ، وَالْخِطَابُ لِنَفْسِهَا أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْخِطَابُ الْعَامُّ (أَوْ فَلَّكِ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ ضَرَبَكِ وَكَسَرَكِ (أَوْ جَمَعَ كُلًّا) أَيْ: مِنَ الشَّجِّ، وَالْفَلِّ (لَكِ) وَالشَّجُّ: الشَّقُّ فِي الرَّأْسِ وَكَسْرُهُ، وَالْفَلُّ كَسْرُ عَظْمِ بَاقِي الْأَعْضَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَشُجَّ رَأْسَ نِسَائِهِ أَوْ يَكْسِرَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِنَّ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَهُنَّ (قَالَتِ الثَّامِنَةُ زَوْجِي الْمَسُّ) اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: مَسُّهُ (مَسُّ أَرْنَبٍ) وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْ: كَمَسِّ الْأَرْنَبِ فِي اللِّينِ وَالنُّعُومَةِ فَزَوْجِي مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ، وَاكْتُفِيَ بِاللَّامِ فِي الرَّبْطِ، وَكَذَا قَوْلُهَا (وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ) بِفَتْحِ الزَّايِ نَوْعٌ مِنَ النَّبَاتِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، وَقِيلَ الزَّعْفَرَانُ، وَقِيلَ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ مَعْرُوفٌ، وَفِي الْفَائِقِ أَنَّ الزَّايَ وَالذَّالَ الْمُعْجَمَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ لُغَتَانِ ثُمَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا تَصِفُهُ لِحُسْنِ الْخُلُقِ وَلِكَرَمِ الْعَشِيرَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ كَلِينِ مَسِّ الْأَرْنَبِ، وَشَبَّهَتْ رِيحَ بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ بِرِيحِ الزَّرْنَبِ، وَقِيلَ كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ لِينِ بَشْرَتِهِ وَطِيبِ عَرَقِهِ، وَجُوِّزَ أَنْ يُرَادَ طِيبُ ثَنَائِهِ عَلَيْهِ، وَانْتِشَارُهُ فِي النَّاسِ كَعَرْفِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الطِّيبِ (قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْعِمَادِ: عِمَادُ الْبَيْتِ تَصِفُهُ بِالشَّرَفِ فِي النَّسَبِ، وَالْحَسَبِ، وَسَنَاءِ الثَّنَاءِ أَيْ: نَسَبُهُ

رَفِيعٌ وَحَسَبُهُ مَنِيعٌ، فَفِي النِّهَايَةِ أَرَادَتْ عِمَادَ بَيْتِ شَرَفِهِ، وَالْعَرَبُ تَضَعُ الْبَيْتَ مَوْضِعَ الشَّرَفِ فِي النَّسَبِ وَالْحَسَبِ، وَالْعِمَادُ الْخَشَبَةُ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا الْبَيْتُ قِيلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ بُيُوتَ السَّادَةِ عَالِيَةٌ، وَقَدْ يُكَنَّى بِالْعِمَادِ عَنِ الْبَيْتِ نَفْسِهِ مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ، وَإِرَادَةِ الْكُلِّ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْجُزْءُ مِمَّا يَكُونُ مَدَارَ الْكُلِّ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ أَبْنِيَتَهُ رَفِيعَةٌ، وَارْتِفَاعُهَا إِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا حَقِيقَةً، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ شُهْرَتِهَا مَجَازًا أَوْ بِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهَا بِأَنْ يَبْنِيَ بُيُوتَهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيَقْصِدَهَا الْأَضْيَافُ، وَأَرْبَابُ الْحَاجَةِ (عَظِيمُ الرَّمَادِ) أَيْ: كَثِيرٌ رَمَادُهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الضِّيَافَةِ، وَزِيَادَةِ الْكَرَمِ وَالسَّخَاوَةِ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ كَثْرَةَ الْجُودِ يَسْتَلْزِمُ إِكْثَارَ الضِّيَافَةِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الطَّبْخِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِكَثْرَةِ الرَّمَادِ، وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ وَقُودِ نَارِهِ لَيْلًا إِذِ الْكِرَامُ يُعَظِّمُونَ النَّارَ فِي اللَّيْلِ عَلَى التِّلَالِ، وَلَا تُطْفَأُ لِيَهْتَدِيَ بِهِ الضِّيفَانُ وَيَقْصِدُونَهُ (طَوِيلُ النِّجَادِ) بِكَسْرِ النُّونِ حَمَائِلُ السَّيْفِ وَطُولُهُ يَدُلُّ عَلَى امْتِدَادِ الْقَامَةِ ; لِأَنَّ طُولَهَا مَلْزُومٌ لِطُولِ نِجَادِهِ، وَقَالَ أَهْلُ الْبَيَانِ: يَنْتَقِلُ مِنْ قَوْلِهِمْ زَيْدٌ طَوِيلُ النِّجَادِ إِلَى طُولِ قَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طُولُ نِجَادٍ ذَكَرَهُ الْكَافِيَجِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ سِعَةِ حُكْمِهِ عَلَى أَتْبَاعِهِ وَأَشْيَاعِهِ كَمَا يُقَالُ سَيْفُ السُّلْطَانِ طَوِيلٌ أَيْ: يَصِلُ حُكْمُهُ إِلَى أَقْصَى مُلْكِهِ، وَأَيْضًا فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى شَجَاعَتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ غَالِبًا لِسَخَاوَتِهِ (قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ) أَصْلُهُ النَّادِي، فَخَفَّفَتْ وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ بِمُؤَاخَاةِ السَّجْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَالنَّادِي مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَمُتَحَدَّثُهُمْ وَإِنَّمَا قُرْبُ بَيْتِهِ مِنَ النَّادِي لِيَعْلَمَ النَّاسُ مَكَانَهُ وَمَكَانَتَهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ إِذْ هُوَ مُجْتَمَعُ رَأْيِ الْقَوْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ أَيْ: عَشِيرَتَهُ، وَقَوْمَهُ إِذْ هُمْ أَهْلُ النَّادِيَةِ، فَالْإِطْلَاقُ مَجَازِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ (قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكْ) أَيِ اسْمُهُ مَالِكٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ، وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهُ (وَمَا مَالِكْ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَمَا مَالِكْ ‍! هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ أَمْرِهِ وَشَأْنِهِ، وَتَعْجِيزٌ عَنْ كُنْهِ بَيَانِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ فَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالتَّعْجِيبِ وَالتَّفْخِيمِ (مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَصْلًا عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِإِحْدَاهُنَّ مِنَ الْمُجَاوِرَاتِ أَوِ لِجِنْسَيْنِ مِنَ الْمُخَاطِبَاتِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْأَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: زَوْجِي مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ زَوْجِ التَّاسِعَةِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ السَّابِقَةِ، وَقِيلَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا سَتَذْكُرُهُ هِيَ بَعْدُ أَيْ: خَيْرٌ مِمَّا أَقُولُهُ فِي حَقِّهِ، فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ فَوْقَ مَا يُوصَفُ مِنَ الْجُودِ، وَالسَّمَاحَةِ (لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ الْمَبْرَكِ، وَهُوَ مَحَلُّ بُرُوكِ الْبَعِيرِ أَوْ زَمَانُهُ أَوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْبُرُوكِ (قَلِيلَاتِ الْمَسَارِحِ) جَمْعُ الْمَسْرَحِ، وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ مِنْ سَرَحَتِ الْمَاشِيَةُ أَيْ: رَعَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِبِلَهُ كَثِيرَةٌ فِي حَالِ بَرُوكِهَا، فَإِذَا سَرَحَتْ كَانَتْ قَلِيلَةً لِكَثْرَةِ مَا نَحَرَ مِنْهَا فِي مَبَارِكِهَا لِلْأَضْيَافِ، وَقِيلَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ مَعَ كَثْرَتِهَا لَا يَسْرَحْنَ نَهَارًا، وَلَا يَغِبْنَ عَنِ الْحَيِّ وَقْتًا أَوْ زَمَانًا أَوْ لَا تَسْرَحُ إِلَى الْمَرْعَى الْبَعِيدِ إِلَّا قَلِيلًا، وَقَدْرَ الضَّرُورَةِ، وَلَكِنَّهُنَّ يَبْرُكْنَ بِفَنَائِهِ حَتَّى إِذَا نَزَلَ ضَيْفُهُ يُقَرِّبُهُ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَلُحُومِهَا (إِذَا سَمِعْنَ) أَيِ: الْإِبِلُ الْبَارِكَةُ فِي الْمَبَارِكِ (صَوْتَ الْمِزْهَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي يُضْرَبُ (أَيْقَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: شَعَرْنَ وَفَطِنَّ (أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ) أَيْ: مَنْحُورَاتٌ لِلضَّيْفِ هُنَالِكَ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ عَوَّدَ إِبِلَهُ بِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْأَضْيَافُ بِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْمَعَازِفِ كَالرَّبَابِ، وَيَسْقِيَهُمُ الشَّرَابَ، وَيُطْعِمَهُمُ الْكَبَابَ، فَإِذَا سَمِعَتِ الْإِبِلُ ذَلِكَ الصَّوْتَ مِنَ الْبَابِ عَلِمَتْ أَنَّهُنَّ مَنْحُورَاتٌ بِلَا حِسَابٍ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ النِّيسَابُورِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمُزْهِرِ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهُوَ مَوْقِدُ النَّارِ

لِلْأَضْيَافِ قَالَ: وَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الْمِزْهَرِ الَّذِي هُوَ الْعُودُ إِلَّا مَنْ خَالَطَهُ الْحَضَرُ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَلِأَنَّ الْمِزْهَرَ بِالْكَسْرِ مَشْهُورٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ، وَإِنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مِنْ غَيْرِ الْحَاضِرَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُنَّ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْيَمَنِ قُلْتُ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ أَنَّهُنَّ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مَكَّةَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْمِزْهَرِ صَوْتُ الْغِنَاءِ أَوْ أَيِّ آلَةٍ لَهُ خُصُوصُ الْعُودِ الْمَشْهُورِ مَعَ أَنَّ الْمِزْهِرَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالْفَائِقِ بِكَسْرِ الْمِيمِ يُطْلَقُ عَلَى الْعُودِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ، وَعَلَى الَّذِي يُزْهِرُ النَّارَ، وَيُقَلِّبُهَا لِلضِّيفَانِ (قَالَتِ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ) : كَذَا بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ فِيهِ، وَمَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالشِّينُ سَاكِنَةٌ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَكْسِرُونَهَا، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا الْحَادِي عَشْرَةَ، وَفِي بَعْضِهَا الْحَادِيَةُ عَشْرَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ يَعْنِي لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُقَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي الْمُذَكَّرِ وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي الْمُؤَنَّثِ كَمَا يُذَكَّرَانِ فِي الْمُذَكَّرِ (زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ) لَعَلَّهُ كُنِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ زِرَاعَتِهِ أَوْ تَفَاؤُلًا لَكَثْرَةِ أَوْلَادِهِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا زَادَ: «صَاحِبُ نَعَمٍ وَزَرْعٍ» (أَنَاسَ) بِزِنَةِ أَقَامَ مِنَ النَّوْسِ وَهُوَ تُحَرُّكُ الشَّيْءِ مُتَدَلِّيًا، وَنَاسَهُ حَرَّكَهُ غَيْرُهُ أَيْ: أَثْقَلَ (مِنْ حُلِيٍّ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَيُكْسَرُ، وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ الْحِلْيَةِ، وَهِيَ الصِّيغَةُ لِلزِّينَةِ (أُذُنَيَّ) بِضَمِّ الذَّالِ، وَيُسَكَّنُ، وَالرِّوَايَةُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِيهِ وَفِي قَوْلِهِ (وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ) أَيْ: سَمَّنَنِي بِإِحْسَانِهِ إِلَيَّ وَتَفَقُّدِهِ لِي وَخُصَّتِ الْعَضُدَيْنِ لِأَنَّهُمَا إِذَا سَمِنَتَا سَمِنَ سَائِرُ الْبَدَنِ كَذَا فِي الْفَائِقِ وَقِيلَ إِنَّمَا خَصَّتْهُمَا بِمُجَاوَرَتِهِمَا لِلْأُذُنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِمَا أَنَّهُ يَظْهَرُ شَحْمُهُمَا عِنْدَ مُزَاوَلَةِ الْأَشْيَاءِ، وَكَشْفِهِمَا غَالِبًا، وَلِذَا صَارَ مَحَلًّا لِلْحُلِيِّ، فَيُلْبَسُ فِيهِ الْمَعَاضِدُ وَالدَّمَالِجُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ قُوَّةِ يَدَيْهَا، وَسَائِرِ بَدَنِهَا أَوْ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ حَالِهَا، وَطِيبِ مُعَاشَرَتِهِ إِيَّاهَا (وَبَجَّحَنِي) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ بَيْنَ الْمُوَحَّدَةِ وَالْحَاءُ الْمُهْمَلَةُ أَيْ: فَرَّحَنِي (فَبَجِحْتُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْجِيمِ الْمُخَفَّفَةِ وَفَتْحِهَا، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفَتْحُ ضَعِيفٌ، وَفِي الْقَامُوسِ الْبَجَحُ مُحَرَّكَةٌ الْفَرَحُ، وَبَجِحَ بِهِ كَفَرِحَ، وَكَمَنَعَ ضَعِيفَةٌ فَمَا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَتْحِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَالْمَعْنَى فَرِحْتُ (إِلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: مَائِلَةً مُتَوَجِّهَةً رَاغِبَةً (نَفْسِي) وَقِيلَ عَظَّمَنِي فَعَظُمَتْ نَفْسِي عِنْدَهُ يُقَالُ فُلَانٌ يَبْجِحُ بِكَذَا أَيْ: يَتَعَظَّمُ وَيَفْتَخِرُ بِهِ (وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُصَغَّرًا لِلتَّقْلِيلِ تَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا أَصْحَابَ غَنَمٍ لَا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَلَا إِبِلٍ (بِشَقٍّ) رُوِيَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ لِأَهْلِ اللُّغَةِ، وَهُوَ بِمَعْنَى اسْمٍ مَوْضُوعٍ بِعَيْنِهِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: فِي الْمُجْمَلِ: أَنَّ الشَّقَّ بِالْفَتْحِ: النَّاحِيَةُ مِنَ الْجَبَلِ، أَيْ: بِشَقٍّ فِيهِ غَارٌ وَنَحْوُهُ، فَالْمَعْنَى بِنَاحِيَةٍ شَاقَّةٍ، أَهْلُهَا فِي غَايَةِ الْجُهْدِ لِقِلَّتِهِمْ، وَقِلَّةِ غَنَمِهِمْ وَمَنْ رَوَاهُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ أَيْ: مَعَ كَوْنِي وَإِيَّاهُمْ فِي مَشَقَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَقِيلَ الصَّوَابُ بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى الْمَوْضِعِ، وَقِيلَ الشِّقُّ بِالْكَسْرِ هُنَا ضِيقُ الْعَيْشِ وَالْجُهْدُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ أَوْلَى الْوُجُوهِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهَا: «وَجَدَنِي» يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ شَأْنِ أَبِي زَرْعٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَأَنَّ تَصْغِيرَ غُنَيْمَةٍ يَدُلُّ عَلَى ضِيقِ حَالِهَا قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْغَنَمِ، وَالْبَادِيَةِ مُطْلَقًا لَا يَخْلُو عَنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وَقَوْلُهُ: «بِشِقٍّ» أَيْضًا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلِكُلٍّ مِنْ هَذَا دَخْلٌ فِي مَدْحِ أَبِي رَزْعٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَلِذَا قَالَتْ: (فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فِيهِمَا أَيْ: فَحَمَلَنِي إِلَى أَهْلِهِ، وَهُمْ أَهْلُ خَيْلٍ وَإِبِلٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَإِلَّا فَمَعْنَى الصَّهِيلِ: صَوْتُ الْخَيْلِ، وَمَعْنَى الْأَطِيطِ: صَوْتُ الْإِبِلِ عَلَى مَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، تُرِيدُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي

أَهْلِ خُمُولَةٍ وَقِلَّةٍ، فَنَقَلَهَا إِلَى أَهْلِ ثَرْوَةٍ وَكَثْرَةٍ، فَإِنَّ أَهْلَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ أَكْبَرُ شَأْنًا مِنْ أَهْلِ الْغَنَمِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا يَعْتَدُّونَ، وَيَعْتَنُونَ بِأَصْحَابِهِمَا دُونَ أَصْحَابِ الْغَنَمِ ثُمَّ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهَا (وَدَائِسٍ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الدَّوْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُوسُ كَنْسَ الْحَبِّ وَيَبْدُرُهُ مِنَ الْبَقَرِ، وَغَيْرِهِ لِيَخْرُجَ الْحَبُّ مِنَ السُّنْبُلِ (وَمُنَقٍّ) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ النُّونِ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، فَلَا يَغُرُّكَ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ رُوِّينَا بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا مَعًا انْتَهَى. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ التَّنْقِيَةِ، فَهُوَ الَّذِي يُنَقِّي الْحَبَّ وَيُصْلِحُهُ، وَيُنَظِّفُهُ مِنَ التِّبْنِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ الدَّوْسِ بِغِرْبَالٍ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمَقَامِ لِاقْتِرَانِهِ بِالدَّائِسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَنِي أَيْضًا فِي أَصْحَابِ زَرْعٍ شَرِيفٍ، وَأَرْبَابِ حَبٍّ نَظِيفٍ فَتَصِفُهُ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ، وَتَعَدُّدِ نِعْمَهُ، وَحُسْنِ أَحْوَالِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيلَ يَجُوزُ كَسْرُ نُونِهِ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَرَدَّ بِأَنَّهُ مِنَ الْإِنْقَاقِ الْمَأْخُوذِ مِنَ النَّقِيقِ، وَهُوَ صَوْتُ الدَّجَاجِ وَالرُّخْمَةِ أَيْ: جَعَلَنِي فِي الطَّارِدِينَ لِلطُّيُورِ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ زُرُوعِهِمِ، وَنِعَمِهِمْ، وَسُمِّيَ هَذَا مُنَقِّي ; لِأَنَّهُ إِذَا طَرَدَ الطَّيْرَ نَقَّ أَيْ: صَوَّتَ فَيَصِيرُ هُوَ أَعْنِي الطَّارِدَ ذَا نَقِيقٍ أَيْ: صَوْتٍ وَقِيلَ الْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْمُنَقِّ بِذَابِحِ الطَّيْرِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَبْحِهِ يَنُقُّ، فَيَصِيرُ هُوَ ذَا نَقِيقٍ أَيْ: جَعَلَنِي مِنْ أَهْلِ ذَابِحِي الطَّيْرِ، وَطَاعِمِي لُحُومِهَا، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ رَبَّاهَا بِلَحْمِ الطَّيْرِ الْوَحْشِيِّ وَهُوَ أَمْرَأُ وَأَطْيَبُ مِنْ لَحْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ زَادَتْ فِي مَدْحِهِ حَيْثُ قَالَتْ (فَعِنْدَهُ) أَيْ: مَعَ هَذَا الْحَالِ (أَقُولُ) أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْأَقْوَالِ (فَلَا أُقَبَّحُ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: فَلَا أُنْسَبُ إِلَيَ تَقْبِيحِ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِي لِكَرَامَتِي عَلَيْهِ، وَلَا يُقَبِّحُهُ لِقَبُولِ كَلَامِي، وَحُسْنِهِ لَدَيْهِ ; فَإِنَّهُ وَرَدَ: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيَصُمُّ» ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا قِيلَ، الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ لِي: قَبَحَكِ اللَّهُ، بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ مِنَ الْقُبْحِ، وَهُوَ الْإِبْعَادُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُقَبِّحُوا الْوُجُوهَ» أَيْ: لَا تَقُولُوا قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَ فُلَانٍ، وَقِيلَ لَا تَنْسُبُوهُ إِلَى الْقُبْحِ ضِدِّ الْحُسْنِ (وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ) أَيْ: أَنَامُ إِلَى الصُّبْحِ لِأَنِّي مَكْفِيَّةٌ عِنْدَهُ بِمَنْ يَخْدِمُنِي، وَمَحْبُوبَةٌ إِلَيْهِ، وَمُعَظَّمَةٌ لَدَيْهِ، فَهُوَ يَرْفُقُ بِي، وَلَا يُوقِظُنِي لِخِدْمَتِهِ، وَمِهْنَتِهِ وَلَا يَذْهَبُ لِغَيْرِي مَعَ مُرُوءَتِهِ، وَكَمَالِ عِزَّتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كِنَايَةً عَنْ نِهَايَةِ أَمْنِهِ، وَغَايَةِ أُمْنِيَتِهِ (وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ) أَيْ: فَأُرْوَى وَأَدَعُهُ، وَأَرْفَعُ رَأْسِيَ، وَالْمَعْنَى لَا أَتَأَلَّمُ مِنْهُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَرْقَدِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَذْكُرِ الْأَكْلَ إِمَّا اكْتِفَاءً أَوْ لِأَنَّ الشُّرْبَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا أُرَاهَا قَالَتْ: هَذَا إِلَّا لِعِزَّةِ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ، وَيُرْوَى بِقَافٍ وَنُونٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ نُونِهِ فِيمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ أَيْ: أُرْوَى حَتَّى أَدَعَ الشُّرْبَ مِنَ الرِّيِّ قِيلَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالنُّونِ أَقْطَعُ الشُّرْبَ وَأَتَمَهَّلُ فِيهِ، وَأَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ رِوَايَةَ النُّونِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ مَكْنُونٍ (أُمُّ أَبِي زَرْعٍ) انْتَقَلَتْ مِنْ مَدْحِهِ إِلَى مَدْحِ أُمِّهِ مَعَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مِنْ كَرَاهَةِ أُمِّ الزَّوْجِ إِعْلَامًا بِأَنَّهَا غَايَةٌ فِي الْإِنْصَافِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ (فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ) الرِّوَايَةُ هَهُنَا، وَفِيمَا بَعْدَهُ بِالْفَاءِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ قِيلَ تَعْجِيبٌ مِنْهَا، وَقَرَنَتْهُ بِالْفَاءِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ وَالِدَةِ أَبِي زَرْعٍ (عُكُومُهَا) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتُفْتَحُ، جَمْعُ عِكْمٍ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْعِدْلِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَتَاعٌ أَيْ: أَوْعِيَةُ طَعَامِهَا (رَدَاحٌ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَرُوِيَ بِكَسْرِهِ أَيْ عِظَامٌ كَبِيرَةٌ وَوُصِفَ الْجَمْعُ بِالْمُفْرَدِ عَلَى إِرَادَةِ: كُلُّ عُكْمٍ مِنْهَا رَدَاحٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ رَدَاحَ هُنَا مَصْدَرٌ كَالذَّهَابِ، وَقِيلَ لَمَّا كَانَتْ جَمَاعَةُ مَا لَا يَعْقِلُ فِي حُكْمِ الْمُؤَنَّثِ أَوْقَعَهَا صِفَةً لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى وَلَوْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَكَانَ الْوَجْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعُكُومُ أُرِيدَ بِهَا الْحَفْنَةُ الَّتِي لَا تَزُولُ عَنْ مَكَانِهَا لِعِظَمِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ كِفْلَهَا وَمُؤَخَّرَهَا، وَكَنَّتْ عَنْ ذَلِكَ بِالْعُكُومِ، وَامْرَأَةٌ رَدَاحٌ عَظِيمَةٌ الْأَكْفَالِ عِنْدَ الْحَرَكَةِ إِلَى

النُّهُوضِ (وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ) بِفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرُوِيَ بِالضَّمِّ أَيْ: وَاسِعٌ يُقَالُ بَيْتٌ فَسِيحٌ، وَفَسَاحٌ كَطَوِيلٍ وَطَوَالٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فُسَاحٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ أَيْ: وَاسِعٌ وَالْفَسِيحُ مِثْلُهُ قُلْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ: «خَيْرُ الْمَجَالِسِ أَفْسَحُهَا» أَيْ: أَوْسَعُهَا وَيُرْوَى وَبَيْتُهَا فَتَاحٌ بِالْفَوْقِيَّةِ بِمَعْنَى الْوَاسِعِ كَذَا فِي الْفَائِقِ أَرَادَتْ سِعَةَ مِسَاحَةِ الْمَنْزِلِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الثَّرْوَةِ وَكَثْرَةِ النِّعْمَةِ، وَوُجُودِ التَّوَابِعِ مِنَ الْخِدْمَةِ قِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ خَيْرَ بَيْتِهَا وَسَعَةَ ذَاتِ يَدِهَا، وَكَثْرَةَ مَالِهَا (ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ مَضْجَعُهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ أَيْ: مَرْقَدُهُ (كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ السَّعَفَةُ، وَهِيَ جَرِيدَةُ النَّخْلِ الْخَضْرَاءُ الرَّطْبَةُ، وَالْمَسَلُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالسِّينِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَذَا قَالُوهُ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ مِنَ السُّلُولِ تَعْنِي أَنَّ مَضْجَعَهُ كَمَوْضِعٍ سُلَّ عَنْهُ الشَّطْبَةُ، وَقِيلَ هِيَ السَّيْفُ تُرِيدُ مَا سُلَّ مِنْ قِشْرِهِ أَوْ غِمْدِهِ مُبَالَغَةً فِي لَطَافَتِهِ، وَتَأْكِيدًا لِظَرَافَتِهِ قَالَ مِيرَكُ: الشَّطْبَةُ أَصْلُهَا مَا شُطِبَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَهُوَ سَعَفُهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُشَقُّ مِنْهُ قُضْبَانٌ دِقَاقٌ، وَيُنْسَجُ مِنْهُ الْحُصْرُ، أَرَادَتْ أَنَّهُ خَفِيفُ اللَّحْمِ دَقِيقُ الْخَصْرِ شَبَّهَتْهُ بِتِلْكَ الشَّطْبَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُمْدَحُ بِهِ الرَّجُلُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَرَادَتْ بِهِ سَيْفًا سُلَّ مِنْ غِمْدٍ شَبَّهَتْهُ بِهِ انْتَهَى. وَحَاصِلُ مَا قَالُوهُ أَنَّهُ تَشْبِيهُ الْمَضْجَعِ بِالْمَسْلُولِ مِنْ قِشْرِهِ أَوْ غِمْدِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْقِشْرِ أَوِ الْغِمْدِ، وَتَشْبِيهُ الِابْنِ بِمَا سُلَّ مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْمَسَلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقِشْرُ أَوِ الْغِمْدُ (وَتُشْبِعُهُ) بِالتَّأْنِيثِ مِنَ الْإِشْبَاعِ لَا مِنَ الشِّبَعِ، وَهُوَ ضِدُّ الْجُوعِ (ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أُنْثَى وَلَدِ الْمَعِزِ، وَقِيلَ الضَّأْنُ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفُصِلَتْ عَنْ أُمِّهَا، وَالذَّكَرُ جَفْرٌ ; لِأَنَّهُ جَفْرٌ جَنْبَاهُ أَيْ: عَظْمٌ، فَهُوَ قَلِيلُ الْأَكْلِ أَوْ قَلِيلُ اللَّحْمِ وَهُوَ مَحْمُودٌ شَرْعًا، وَعُرْفًا لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَتُرْوِيهِ - بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِرْوَاءِ لَا مِنَ الرِّيِّ، وَهُوَ ضِدُّ الْعَطَشِ - فِيقَةُ الْيَعْرَةِ، بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالْقَافِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فَفِي الصِّحَاحِ الْفِيقَةُ: اسْمُ اللَّبَنِ الَّذِي يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ صَارَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَالْجَمْعُ فِيَقٌ ثُمَّ أَفْوَاقٌ، مِثْلُ شِبْرٍ وَأَشْبَارٍ، ثُمَّ أَفَاوِيقُ، وَالْأَفَاوِيقُ أَيْضًا مَا اجْتَمَعَ فِي السَّحَابِ مِنْ مَاءٍ فَهُوَ يُمْطِرُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ، وَأَفَاقَتِ النَّاقَةُ تَفِيقُ إِفَاقَةً أَيِ اجْتَمَعَتِ الْفِيقَةُ فِي ضَرْعِهَا، فَهِيَ مَفِيقٌ وَمَفِيقَةٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْجَمْعُ مَفَاوِيقُ وَفَوَّقْتُ الْفَصِيلَ سَقَيْتُهُ اللَّبَنَ فَوَاقًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ تَذَاكَرَ هُوَ وَمُعَاذٌ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَمَّا أَنَا فَأَتَفَوَّقُهُ تَفُوُّقَ اللُّقُوحِ أَيْ: لَا أَقْرَأُ حِزْبِي بِمَرَّةٍ، وَلَكِنِّي أَقْرَأُ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ، وَأَطْرَافِ النَّهَارِ (بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ طَوْعُ أَبِيهَا) أَيْ: مُطِيعَةٌ وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى (وَطَوْعُ أُمِّهَا) أُعِيدَ «طَوْعُ» إِشْعَارًا بِأَنَّ طَاعَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ، وَالْمَعْنَى لَا تُخَالِفُهُمَا، فِيمَا أَمَرَاهَا أَوْ نَهَيَاهَا (وَمِلْءُ كِسَائِهَا) كِنَايَةً عَنْ ضَخَامَتِهَا، وَسِمَنِهَا، وَامْتَلَاءِ جِسْمِهَا، وَكَثْرَةِ شَحْمِهَا وَلَحْمِهَا، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي النِّسَاءِ أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي خِبَائِهَا بِحَيْثُ لَا يَسَعُهَا غَيْرُ ثَوْبِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: صِفْرُ رِدَائِهَا، بِكَسْرِ الصَّادِ، وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَهُوَ الْخَالِي فَقِيلَ أَيْ: ضَامِرَةُ الْبَطْنِ لِأَنَّ الرِّدَاءَ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَقِيلَ خَفِيفَةُ أَعْلَى الْبَدَنِ، وَهُوَ مَحَلُّ الرِّدَاءِ مُمْتَلِئَةٌ أَسْفَلَهُ وَهُوَ مَكَانُ الْكِسَاءِ لِرِوَايَةِ: وَمَلْءُ إِزَارِهَا، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ امْتَلَاءُ مَنْكِبَيْهَا، وَقِيَامُ نَهْدَيْهَا بِحَيْثُ يَرْفَعَانِ الرِّدَاءَ مِنْ أَعْلَى جَسَدِهَا، فَلَا يَمَسُّهُ فَيَصِيرُ خَالِيًا بِخِلَافِ أَسْفَلِهَا كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (وَغَيْظُ جَارَتِهَا) الْجَارَةُ الضُّرَّةُ لَا تَأْنِيثَ الْجَارِ إِذْ لَا وَجْهَ لِتَأْنِيثِ الْجَارِ ; لِأَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ،

ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِجَارَتِهَا ضُرَّتُهَا لِلْمُجَاوَرَةِ بَيْنَهُمَا غَالِبًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مَحْسُودَةٌ لِجَارَتِهَا، وَأَنَّهَا لِحُسْنِهَا صُورَةً وَسِيرَةً تَغِيظُ جَارَتَهَا، وَرُوِيَ: عَقْرُ جَارَتِهَا، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَسُكُونِ الْقَافِ أَيْ: هَلَاكُهَا مِنَ الْغَيْظِ وَالْحَسَدِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَعُبْرُ جَارَتِهَا، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ بِالْكَسْرِ أَيْ: تَرَى مِنْ حُسْنِهَا وَعِفَّتِهَا وَعَقْلِهَا مَا تَعْتَبِرُ بِهِ أَوْ مِنَ الْعِبْرَةِ بِالْفَتْحِ أَيْ: تَرَى مِنْ جَمَالِهَا وَكَمَالِهَا مَا يُبْكِيهَا لِغَيْظِهَا، وَحَسَدِهَا هَذَا، وَفِي الْفَائِقِ: «بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، وَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، وَفِيُّ الْإِلِّ كَرِيمُ الْخِلِّ بَرُودُ الظِّلِّ طَوْعُ أَبِيهَا» . . الْحَدِيثَ، وَالْإِلُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْعَهْدُ أَيْ: هِيَ وَافِيَةٌ بِعَهْدِهَا، وَكَرَمُ الْخِلِّ أَنْ لَا تُخَادِنَ أَخْدَانَ السُّوءِ، وَبَرْدُ الظِّلِّ مَثَلٌ لِطِيبِ الْعِشْرَةِ، وَإِنَّمَا سَاغَ فِي وَصْفِ الْمُؤَنَّثِ وَفِيُّ وَكَرِيمُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِ الرُّوَاةِ، وَالنَّقْلِ مِنْ صِفَةِ الِابْنِ إِلَى صِفَةِ الْبِنْتِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ إِنْسَانٌ أَوْ شَخْصٌ وَفِيٌّ كِرِيمٌ، وَالثَّانِي أَنْ يُشَبَّهَ فَعِيلٌ الَّذِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ بِالَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ) أَيْ: مَمْلُوكَتُهُ (فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ لَا تَبُثُّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ، وَرُوِيَ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ أَيْ: لَا تَنْشُرُ وَلَا تُظْهِرُ وَلَا تُذِيعُ وَلَا تُشِيعُ (حَدِيثَنَا) أَيْ: كَلَامَنَا وَأَخْبَارَنَا، وَفِي نُسْخَةٍ (تَبْثِيثًا) وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ أُتِيَ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وَرُوِيَ: وَلَا تَغُثُّ طَعَامَنَا تَغْثِيثًا، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: لَا تُفْسِدُهُ (وَلَا تَنْقُثُ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ، وَرُوِيَ: وَلَا تَنْقُلُ، وَهُمَا بِمَعْنًى أَيْ: لَا تُخْرِجُ وَلَا تُفَرِّقُ وَلَا تُذْهِبُ (مِيرَتَنَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: طَعَامَنَا (تَنْقِيثًا) مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَرُوِيَ: وَلَا تَنْقِثُ، بِكَسْرِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ مَصْدَرُهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي وَصْفِهَا بِالْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ، وَالصِّيَانَةِ (وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا) أَيْ: مَكَانَنَا أَيْ: بِتَرْكِ الْكُنَاسَةِ أَوْ بِتَخْبِيَةِ الطَّعَامِ لِلْخِيَانَةِ (تَغْشِيشًا) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ فَقِيلَ الْأَوَّلُ مِنَ الْغِشِّ ضِدِّ الْخَالِصِ أَيْ: تَمْلَؤُهُ بِالْخِيَانَةِ أَوِ النَّمِيمَةِ، وَقِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِفَّةِ فَرْجِهَا، وَالثَّانِي مِنْ عُشِّ الطَّيْرِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُصْلِحَةٌ لِلْبَيْتِ مُهْتَمَّةٌ بِتَنْظِيفِهِ وَإِلْقَاءِ كُنَاسَتِهِ، وَعَدَمِ تَرْكِهَا فِي جَوَانِبِهِ كَأَنَّهَا أَعْشَاشُ الطُّيُورِ، وَقِيلَ لَا تُخَبِّئُ الطَّعَامَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ بِحَيْثُ تُصَيِّرُهَا كَالْأَعْشَاشِ، وَفِي نُسْخَةٍ: «بَيْنَنَا» بِالنُّونِ بَدَلَ «بَيْتَنَا» فَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ مَنْ رَوَاهُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، فَهُوَ يَرْوِي «بَيْنَنَا» بِنُونَيْنِ، وَيَكُونُ مَأْخَذُهُ مِنَ الْغِشِّ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: التَّغْشِيشُ النَّمِيمَةُ انْتَهَى. وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّ التَّغْشِيشَ بِالْمُعْجَمَةِ لَا يَصِحُّ مَعَ رِوَايَةِ الْبَيْتِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ مَعَ رِوَايَةِ الْبَيْنِ أَظْهَرُ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى، وَأَمَّا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْبَيْتِ لِوُضُوحِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (قَالَتْ) أَيْ: أُمُّ زَرْعٍ (خَرَجَ) أَيْ: مِنَ الْبَيْتِ (أَبُو زَرْعٍ) أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ (وَالْأَوْطَابُ) جَمْعُ وَطْبٍ أَيْ: أَسْقِيَةُ اللَّبَنِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ: وَالْوِطَابُ بِكَسْرِ الْوَاوِ (تُمَخَّضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُحَرَّكُ لِاسْتِخْرَاجِ الزُّبْدِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خَرَجَ وَهُوَ أَبُو زَرْعٍ (فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ) أَيْ: يَمْشِيَانِ مَعَهَا أَوْ مَصْحُوبَانِ لَهَا، وَقَوْلُهَا (لَهَا) أَيْ: لَيْسَا لِغَيْرِهَا مُرَافِقَيْنِ بِهَا (كَالْفَهِدَيْنِ) أَيْ: مُشَبَّهَانِ بِالْفَهِدِ، وَهُوَ سَبُعٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَ الدَّمِيرِيُّ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي كَثْرَةِ النَّوْمِ وَالْوُثُوبِ، وَمِنْ خُلُقِهِ أَنَّهُ يَأْنَسُ لِمَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ، وَكِبَارُ الْفُهُودِ أَقْبَلُ لِلتَّأْدِيبِ مِنْ صِغَارِهَا وَأَوَّلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْخَيْلِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَكْثَرُ مَنِ اشْتَهَرَ بِاللَّعِبِ بِهَا أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، هَذَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَالْفَهِدَيْنِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ (يَلْعَبَانِ) وَهُوَ صِفَةٌ لِوَلَدَانِ (مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: وَسَطِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ تَحْتِ صَدْرِهَا (بِرُمَّانَتَيْنِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَعْنِي إِنَّهَا ذَاتَ كِفْلٍ عَظِيمٍ، فَإِذَا اسْتَلْقَتْ عَلَى قَفَاهَا ارْتَفَعَ الْكِفْلُ بِهَا مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِيرَ تَحْتَهَا فَجْوَةٌ يَجْرِي فِيهَا الرُّمَّانُ، وَقِيلَ ذَاتُ ثَدْيَيْنِ حَسَنَيْنِ صَغِيرَيْنِ كَالرُّمَّانَتَيْنِ، وَقِيلَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ لَأَنَّ قَوْلَهَا مِنْ تَحْتِ

خَصْرِهَا يُنَافِيهِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَرْجَحُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَحْتِ صَدْرِهَا، وَمِنْ تَحْتِ دِرْعِهَا، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِرَمْيِ الصِّبْيَانِ الرُّمَّانَ تَحْتَ ظُهُورِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَلَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِاسْتِلْقَاءِ النِّسَاءِ كَذَلِكَ حَتَّى يُشَاهِدَ مِنْهُنَّ الرِّجَالُ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا وَجْهَ الْجَمْعِ بِمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ، وَيَتَشَوَّشُ بِهِ السَّمْعُ (فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا وَنَكَحْتُ) بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ فَنَكَحْتُ (بَعْدَهُ رَجُلًا) أَيْ: كَامِلَ الرُّجُولِيَّةِ (سَرِيًّا) بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ: شَرِيفًا، وَقِيلَ سَخِيًّا (رُكِّبَ شَرِيًّا) بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ: فَرَسَا يَسْتَشْرِي فِي سَيْرِهِ أَيْ: يَمْضِي بِلَا فُتُورٍ، وَلَا انْكِسَارٍ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَيْ: فَرَسًا فَائِقًا جَيِّدًا (وَأَخَذَ خَطِّيًّا) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ، وَالتَّحْتِيَّةِ بَعْدَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَيُكْسَرُ أَيْ: رُمْحًا مَنْسُوبًا إِلَى الْخَطِّ قَرْيَةٌ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ عِنْدَ عُمَانَ، وَالْبَحْرَيْنِ (وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: أَنْعَامًا (ثُرَيًّا) أَيْ: كَثِيرًا مِنَ الْإِرَاحَةِ، وَهِيَ رَدُّ الْمَاشِيَةِ بِالْعَشِيِّ مِنْ مَرْعَاهَا أَيْ: أَتَى بِهَا إِلَى مُرَاحِهَا بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَبِيتُهَا، وَخُصَّتِ الْإِرَاحَةُ بِالذِّكْرِ دُونَ السَّرْحِ ; لِأَنَّ ظُهُورَ النِّعْمَةِ فِي النِّعَمِ حِينَئِذٍ أَتَمُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالنَّعَمُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بَعْضُهَا وَهِيَ الْإِبِلُ، وَادَّعَى الْقَاضِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ النَّعَمَ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِبِلِ، وَالثَّرَى فَعِيلٌ مِنَ الثَّرْوَةِ، وَهِيَ الْكَثْرَةُ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَّرُوا فَرُدَّ، وَوُصِفَتْ بِهِ النَّعَمُ لِأَنَّ النَّعَمَ قَدْ يُذَكَّرُ أَيْضًا أَوْ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ (وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ) يُقَالُ رَاحَتِ الْإِبِلُ تَرُوحُ، وَأَرَحْتُهَا أَيْ: رَدَدْتُهَا أَيْ: مِمَّا تَرُوحُ إِلَى الْمَرَاحِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالْعَبِيدِ أَيْ: يَرْجِعُ بِالْعَشِيِّ، وَهُوَ الرَّوَاحُ ضِدَّ الصَّبَاحِ (زَوْجًا) أَيْ: أَوْ صِنْفًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ كُلِّ ذَابِحَةٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ ; فَإِنْ صَحَّ وَلَمْ يَكُنْ تَحْرِيفًا فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ وَيَكُونُ فَاعِلُهُ بِمَعْنَى مَفْعُولِهِ أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ ذَبْحُهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى (وَقَالَ) أَيِ: الزَّوْجُ الثَّانِي (كُلِي أُمَّ زَرْعٍ) أَيْ: يَا أُمَّ زَرْعٍ (وَمِيرِي) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: أَعْطِي (أَهْلَكِ) وَتَفَضَّلِي عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْمِيرَةِ، وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يَمْتَارُهُ الْإِنْسَانُ أَيْ: يَجْلِبُهُ لِأَهْلِهِ يُقَالُ مَارَ أَهْلَهُ يَمِيرُهُمْ مَيْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ثُمَّ وَصَفَتْ كَثْرَةَ نِعَمِ أَبِي زَرْعِ، وَكَرَمِهِ بِقَوْلِهَا (فَلَوْ جَمَعْتُ) أَيْ: أَنَا (كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ) أَيْ: هَذَا الزَّوْجُ (مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ) أَيْ: قَيْمَتِهَا أَوْ قَدْرِ مَلْئِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِبَارَةِ: مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ، وَلِذَا قِيلَ الشَّيْبُ نِصْفُ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ وَقَالَ تَعَالَى فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا وَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ أَحَبِيَّةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَتْ عَائِشَةُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ) أَيْ: فِي أَخْذِكِ بِكْرًا وَإِعْطَائِكَ كَثِيرًا لَا فِي الطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ إِذْ لَا

(باب في صفة نوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ قِيلَ، وَافْهَمْ مِنْ قَوْلِهِ: لَكِ، أَنَّهُ لَهَا كَأَبِي زَرْعٍ فِي النَّفْعِ لَا فِي الضُّرِّ الَّذِي جُمْلَتُهَا الطَّلَاقُ، وَالتَّزَوُّجُ عَلَيْهَا، وَكَانَ زَائِدَةٌ أَوْ لِلدَّوَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا أَيْ: كَانَ فِيمَا مَضَى مِنَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ كَذَلِكَ أَبَدًا عَلَى وَجْهِ الْبَقَاءِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَاعْتَرَضَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الزَّائِدَةِ غَيْرُ عَامِلَةٍ فَلَا يُوصَلُ بِهَا الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ فِي الْأَصْلِ وَعَلَى الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَمَّا مَضَى إِلَى وَقْتِ تَكَلُّمِهِ بِذَلِكَ، وَأَبْقَى الْمُسْتَقْبَلَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ مَعَ ذَلِكَ إِلَى جَعْلِهَا لِلدَّوَامِ إِذْ هُوَ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَضَرُورَةِ حَاجَةٍ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ ذِكْرِهِنَّ وَحَدِيثِهِنَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ فِي الْأُلْفَةِ وَالرَّفَاءِ لَا فِي الْفُرْقَةِ وَالْخَلَاءِ وَالرَّفَاءُ: الِاجْتِمَاعُ وَالْمُرَافَقَةُ، وَمِنْهَا رَفَوْتُ الثَّوْبَ أَيْ: جَمَعْتُهُ وَالْخَلَاءُ الْمُبَاعَدَةُ وَالْمُجَانَبَةُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ» حَتَّى فِي الْمُفَارَقَةِ لِأَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا، وَتُحْرَمُ مِنْ مَنَافِعَ دِينِيَّةٍ كَانَتْ تَأْخُذُهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمَرْفُوعُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زَرْعٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ وَبَاقِيهِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ، وَجَاءَ خَارِجَ الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا كُلُّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَسَاقَهُ بِسِيَاقٍ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَلَفْظُهُ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: بِأَبِي أَنْتَ، وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ كَانَ أَبُو زَرْعٍ قَالَ: اجْتَمَعَ. . فَسَاقَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ، وَكَذَا جَاءَ مَرْفُوعًا كُلُّهُ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ ثُمَّ أَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ، وَيُقَوِّي رَفْعَ جَمِيعِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ الْمُتَّفَقَ عَلَى رَفْعِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ الْقِصَّةَ، وَعَرَفَهَا فَأَقَرَّهَا، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا كُلُّهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ فَوَائِدَ كَثِيرَةً كَمَا قَالُوا: مِنْهَا حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ لِلْأَهْلِ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَجَوَازُ السَّمَرِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهَا أَنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ كَنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ أَبِي زَرْعٍ طَلَاقُ أُمِّ زَرْعٍ، وَلَمْ يَقَعْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَاقٌ بِتَشْبِيهِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ، وَمِنْهَا أَنَّ ذِكْرَ إِنْسَانٍ لَا بِعَيْنِهِ أَوْ جَمَاعَةٍ كَذَلِكَ بِأَمْرٍ مَكْرُوهٍ لَيْسَ بِغَيْبَةٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمُرَادُ عَدَمُ التَّعْيِينِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ ; فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ السَّامِعِ، فَالَّذِي رَجَّحَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ حِينَئِذٍ، وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا خِلَافُهُ ; لِأَنَّ أَئِمَّتَنَا صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ الْغَيْبَةِ بِالْقَلْبِ وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْغَيْبَةَ بِالْقَلْبِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، فَإِذَا حَرُمَتْ بِهِ، فَأَوْلَى حُرْمَتُهَا بِاللِّسَانِ وَلَوْ بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُغْتَابَ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ الْقَاضِي لِوُرُودِ أَحَادِيثَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ كَذَا وَكَذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ بِخُصُوصِ أَعْيَانِهِمْ، وَأَشْخَاصِهِمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْغَيْبَةُ الْقَلْبِيَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الْإِصْرَارِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى تِلْكَ الْخَصْلَةِ الدَّنِيَّةِ، وَأَمَّا ذِكْرُهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِبْهَامِ، وَالتَّعْمِيَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَا وَجْهَ لَهُ أَنْ يُسَمَّى غَيْبَةً، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي فَتَاوَاهُ: رَجُلٌ اغْتَابَ أَهْلَ قَرْيَةٍ، لَمْ يَكُنْ غَيْبَةً حَتَّى يُسَمِّيَ قَوْمًا مَعْرُوفِينَ (بَابٌ فِي صِفَةِ نَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي نُسْخَةٍ: بَابُ مَا جَاءَ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ، وَيُكْسَرُ مَحَلُّ الِاضْطِجَاعِ، وَالْمُرَادُ بِأَخْذِ الْمَضْجَعِ النَّوْمُ فِيهِ ; فَالْمَعْنَى إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ فِي مَضْجَعِهِ (

وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى) لِكَوْنِهَا أَقْوَى مِنْ أَنَّ التَّيَامُنَ أَوْلَى (تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَقْبِلًا، وَفِي رِوَايَةٍ: تَحْتَ رَأْسِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِاسْتِحْبَابِ التَّيَمُّنِ حَالَةَ النَّوْمِ ; لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إِلَى الِانْتِبَاهِ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْقَلْبِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ; فَيُعَلَّقُ وَلَا يَسْتَغْرِقُ فِي النَّوْمِ بِخِلَافِ النَّوْمِ عَلَى الْأَيْسَرِ ; فَإِنَّ الْقَلْبَ يَسْتَغْرِقُ ; فَيَكُونُ لِاسْتِرَاحَتِهِ حِينَئِذٍ أَبْطَأُ لِلِانْتِبَاهِ قَالُوا: وَالنَّوْمُ عَلَى الْأَيْسَرِ وَإِنْ كَانَ أَهْنَأُ لَكِنَّهُ مُضِرٌّ بِالْقَلْبِ بِسَبَبِ مَيْلِ الْأَعْضَاءِ إِلَيْهِ ; فَتَنْصَبُّ الْمَوَادُّ فِيهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا دُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّهُ لَا يَنَامُ قَلْبُهُ فَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ النَّوْمِ عَلَى الْأَيْمَنِ وَالْأَيْسَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ الْأَيْمَنَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، وَلِتَعْلِيمِ أُمَّتِهِ ; وَلِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَهَذَا هُوَ الْهَيْئَةُ عِنْدَ النَّزْعِ وَكَذَا فِي الْقَبْرِ حَالَ الْوَضْعِ وَكَذَا فِي الصَّلَاةِ وَقْتَ الْعَجْزِ وَالِاسْتِلْقَاءِ وَإِنْ قِيلَ أَحَبُّ عِنْدَ النَّزْعِ وَحَالَةِ الصَّلَاةِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِأَنْ يَكُونُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ مُسْتَقْبِلًا، وَلِخُرُوجِ الرُّوحِ سَهْلًا لَكِنَّ النَّوْمَ عَلَى الظَّهْرِ أَرْدَأُ النَّوْمِ، وَأَرْدَأُ مِنْهُ النَّوْمُ مُنْبَطِحًا عَلَى الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَرَّ بِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: «قُمْ وَاقْعُدْ ; فَإِنَّهَا نَوْمَةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ» ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرُقَادِ اللُّوطِيَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لِلنَّاظِرِ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ النَّفْسِيَّةِ الشُّومِيَّةِ (وَقَالَ رَبِّ قِنِي) أَيِ: احْفَظْنِي (عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ) أَيْ: تُحْيِيهِمْ لِلْبَعْثِ، وَالْحَشْرِ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَنَّ الْيَقَظَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ، وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا» . وَفِي الْحِصْنِ الْحَصِينِ بِلَفْظِ: «اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَلَفْظُهُ: «رَبِّ» بَدَلَ «اللَّهُمَّ» قِيلَ وَذَكَرَ ذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ، وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَإِجْلَالًا لَهُ وَتَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ إِذْ يُنْدَبُ لَهُمُ التَّأَسِّي بِهِ فِي الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّوْمِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا آخِرُ أَعْمَارِهِمْ لِيَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ آخِرَ أَعْمَالِهِمْ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ فِي بَابَيِ الِارْتِكَابِ وَالِاجْتِنَابِ الْمُوجِبِ لِلْعَذَابِ وَالْعِقَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنُ مَهْدِيٍّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ) مُصَغَّرًا وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ (مِثْلَهُ) أَيْ: فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ (وَقَالَ: يَوْمَ تَجْمَعُ عِبَادَكَ) أَيْ: بَدَلَ «يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا وَاحِدٌ مَآلًا وَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِمَا فَاكْتَفَى فِي كُلِّ حَدِيثٍ بِأَحَدِهِمَا ; لِأَنَّهُ يَكُونُ الْبَعْثُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْجَمْعُ ثَانِيًا، ثُمَّ النَّشْرُ ثَالِثًا كَمَا وَرَدَ وَإِلَيْهِ الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، «وَرِبْعِيٌّ» بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ التَّابِعِينَ (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَوَى) بِالْقَصْرِ وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ: دَخَلَ بِقَصْدِ النَّوْمِ وَمَالَ (إِلَى فِرَاشِهِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: مَضْجَعِهِ (قَالَ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا) أَيْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَنَامُ وَأَنْتَبِهُ لِلْقِيَامِ،

أَوْ بِذِكْرِ اسْمِكَ أَحْيَا مَا حَيِيتُ وَعَلَيْهِ أَمُوتُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِاسْمِكَ أَمُوتُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى أَيْ: أَنْتَ تُحْيِينِي وَأَنْتَ تُمِيتُنِي وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أَيْ: سَبِّحْ رَبَّكَ، وَهَكَذَا قَالَ جُلُّ الشَّارِحِينَ قَالَ: وَاسْتَفَدْتُ مِنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَمَعَانِيهَا ثَابِتَةٌ لَهُ فَكُلُّ مَا ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ، فَهُوَ صَادِرٌ عَنْ تِلْكَ الْمُقْتَضَيَاتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِاسْمِكَ الْمُحْيِي أَحْيَا، وَبِاسْمِكَ الْمُمِيتِ أَمُوتُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالْمَعْنَى الَّذِي صَدَرَ بِهِ أَلْيَقُ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ غَيْرَ الْمُسَمَّى وَلَا عَيْنَهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الِاسْمِ زَائِدًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا. كَذَا أَفَادَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَأَقُولُ الْمَعْنَى الَّذِي أُلْحِقَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَبِالْقَبُولِ أَحَقُّ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْقَصْدَ، وَالْمَرَامَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا لِذِكْرِ اسْمِهِ حَالَ نَوْمِهِ، وَيَقَظَتِهِ، وَوَقْتِ حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ (وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا) أَيْ: أَيْقَظَنَا (بَعْدَمَا أَمَاتَنَا) أَيْ: أَنَامَنَا (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أَيِ: التَّفَرُّقُ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ كَالِافْتِرَاقِ حَالَ الْمَعَادِ، وَقِيلَ النَّشْرُ هُوَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَعْنَى كَوْنِ النُّشُورِ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: النَّفْسُ الَّتِي تُفَارِقُ الْإِنْسَانَ عِنْدَ النَّوْمِ وَهِيَ الَّتِي لِلتَّمْيِيزِ، وَالَّتِي تُفَارِقُ عِنْدَ الْمَوْتِ هِيَ الَّتِي لِلْحَيَاةِ، وَهِيَ الَّتِي تَزُولُ مَعَهُ النَّفْسُ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الْآيَةَ وَسُمِّيَ النَّوْمُ مَوْتًا ; لِأَنَّهُ يَزُولُ مَعَهُ الْعَقْلُ، وَالْحَرَكَةُ تَمْثِيلًا وَتَشْبِيهًا، وَقِيلَ الْمَوْتُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى السُّكُونِ يُقَالُ مَاتَتِ الرِّيحُ إِذَا سَكَنَتْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ الْمَوْتُ عَلَى النَّائِمِ بِمَعْنَى إِرَادَةِ سُكُونِ حَرَكَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي زَوَالِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، وَهِيَ الْجَهَالَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَمِنْهُ حَدِيثُ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَقَدْ يُسْتَعَارُ الْمَوْتُ لِلْأَحْوَالِ الشَّاقَّةِ كَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالسُّؤَالِ وَالْهِرَمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِالْحَيَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِتَحَرِّي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوَخِّي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ سُخْطِهِ وَعُقُوبَتِهِ فَمَنْ نَامَ زَالَ عَنْهُ هَذَا الِانْتِفَاعُ وَلَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَ حَيَاتِهِ فَكَانَ كَالْمَيِّتِ، فَكَانَ الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا لِنَيْلِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَزَوَالِ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَنْتَظِمُ مَعَ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَيْ: وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ مِمَّا نَكْتَسِبُهُ فِي حَيَاتِنَا هَذِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِإِمَاتَتِنَا النَّوْمُ، وَأَمَّا النُّشُورُ فَهُوَ الْإِحْيَاءُ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعَادَةِ الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالْمَوْتِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا وَالذِّكْرُ فِي بَدْءِ نَوْمِهِ وَالدُّعَاءُ بَعْدَ يَقَظَتِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السَّالِكُ عِنْدَ نَوْمِهِ يَشْتَغِلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ وَعَمَلِهِ، وَعِنْدَ تَنْبِيهِهِ يَقُومُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِهِ عَلَى فَضْلِهِ وَيَتَذَكَّرُ بِالْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَرْجِعَ الْخَلْقِ كُلِّهِ إِلَى مَوْلَاهُ بَلْ لَا مَوْجُودَ فِي نَظَرِ الْعَارِفِ سِوَاهُ، فَلَا تَغْفَلُ عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَيَتْرُكُ غَيْرَ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ مِنَ الْأَشْغَالِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ) بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ أَبُو مُعَاوِيَةَ الْمِصْرِيُّ (بْنُ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ بْنِ ثُمَامَةَ الْقِتْبَانِيُّ الْمِصْرِيُّ (عَنْ عُقَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ ابْنُ خَالِدِ بْنِ عُقَيْلٍ الْأُبُلِّيُّ (أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَظُنُّهُ رَوَاهُ (عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةِ جَمَعَ كَفَّيْهِ أَيْ: أَوَّلًا (فَنَفَثَ) أَيْ: نَفَخَ (فِيهِمَا) وَقِيلَ النَّفْثُ شَبِيهُ النَّفْخِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ ; لِأَنَّ التَّفْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ ; وَقِيلَ النَّفْثُ إِخْرَاجُ الرِّيحِ مِنَ الْفَمِ ; وَمَعَهُ شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنَ الرِّيقِ، وَفِي الْأَذْكَارِ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّفْثُ نَفْخٌ

لَطِيفٌ بِلَا رِيقٍ (وَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ: يَقْرَأُ هَذِهِ السُّوَرَ، وَيَنْفُثُ حَالَ الْقِرَاءَةِ فِي الْكَفَّيْنِ الْمُجْتَمِعَيْنِ (ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ) أَيْ: مَا قَدَرَ عَلَيْهِ (مِنْ جَسَدِهِ) أَيْ: أَعْضَائِهِ (يَبْدَأُ بِهِمَا) أَيْ: بِكَفَّيْهِ (رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ) وَهُوَ بَيَانٌ لِلْمَسْحِ أَوْ لِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ أَيْ: أَعْضَائِهِ (يَصْنَعُ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَمْعِ وَالنَّفْثِ وَالْقِرَاءَةِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وَالتَّثْلِيثُ مُعْتَبَرٌ فِي الدَّعَوَاتِ لَا سِيَّمَا هُنَا مِنْ مُطَابَقَتِهَا لِلْأَفْعَالِ الثَّلَاثِ وَالسُّوَرِ الثَّلَاثِ، وَفِي الْمِشْكَاةِ: فَنَفَثَ فَقَرَأَ فِيهِمَا بِالْفَاءِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِالْأَوْلَى يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفَاءَ فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَتْ لِتَرْتِيبٍ بَلْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقِيلَ كَانَ الْيَهُودُ يَقْرَءُونَ وَلَا يَنْفُثُونَ فَزَادَ عَلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّفْثَ مُخَالَفَةً لَهُمْ أَقُولُ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ أَيِ: النُّفُوسِ أَوِ النِّسَاءِ السَّوَاحِرِ الَّتِي يَعْقِدْنَ عَقْدًا فِي خُيُوطٍ وَيَنْفُثْنَ عَلَيْهَا، وَتَخْصِيصُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ يَهُودِيًّا سَحَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتِ الْمَعُوذَتَانِ وَخَبَّرَهُ جِبْرِيلُ بِمَوَاضِعِ السِّحْرِ، فَأَرْسَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَاءَ بِهِ فَقَرَأَهُمَا عَلَيْهِ فَكَانَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَوَجَدَ بَعْضَ الْخِفَّةِ قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: «جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فَقَرَأَ» وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْثَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ; بِأَنَّ ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَحَمَلَهُ عَلَى وَهْمِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ مُخَالَفَةُ السَّحَرَةِ وَالْبَطَلَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ ثُمَّ أَرَادَ النَّفْثَ فَقَرَأَ، وَنَفَثَ وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِأَنْ جَمَعَ كَفَّيْهِ، فَقَرَأَ فِيهِمَا ثُمَّ نَفَثَ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ النَّفْثَ وَقَعَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَبَعْدَهَا أَيْضًا. وَأَمَّا رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ بِالْوَاوِ فَأَخَفُّ إِشْكَالًا لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْجَمْعَ لَا التَّرْتِيبَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النَّفْثَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ قُلْتُ وَكَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِالْوَاوِ قَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النَّفْثِ عَلَى الْقِرَاءَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْوَاوِ بَلْ مِنَ الْفَاءِ، وَلَعَلَّ الْفَاءَ سَهْوٌ مِنَ الْكَاتِبِ أَوِ الرَّاوِي، قُلْتُ: الْأَوْلَى أَنْ لَا يُحْمَلُ عَلَى تَخْطِئَةِ الرُّوَاةِ وَلَا الْكُتَّابِ، وَلَا يُفْتَحُ هَذَا الْبَابُ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْخَطَأُ بِالصَّوَابِ، بَلْ يُخَرَّجُ عَلَى وَجْهٍ فِي الْجُمْلَةِ فَفِي الْمُغْنِي قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تُفِيدُ الْفَاءُ التَّرْتِيبَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا أَوْ بِأَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، وَحَيْثُ صَحَّ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ بِالْوَاوِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْفَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَفِي الْقَامُوسِ أَيْضًا أَنَّ الْفَاءَ تَأْتِي بِمَعْنَى الْوَاوِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ كُرَيْبٍ) مُصَغَّرًا (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَامَ حَتَّى نَفَخَ) أَيْ: بِفَمِهِ (وَكَانَ) أَيْ: عَادَتُهُ (إِذَا نَامَ نَفَخَ فَأَتَاهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ) بِالْمَدِّ أَيْ: أَعْلَمَهُ (بِالصَّلَاةِ) أَيْ: لِصَلَاةِ الصُّبْحِ أَوِ الظُّهْرِ (فَقَامَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ عَيْنَهُ كَانَتْ تَنَامُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَيَقَظَةُ

قَلْبِهِ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحَدَثِ (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْتِي قَرِيبًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ كِتَابِ مِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ) بِالصَّرْفِ، وَقَدْ لَا يُصْرَفُ، وَهُوَ ابْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيُّ أَبُو عُثْمَانَ الصَّفَّارُ الْبَصْرِيُّ (حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا) قِيلَ ذَكَرَهُمَا لِأَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَتِمُّ بِدُونِهِمَا كَالنَّوْمِ، فَالثَّلَاثَةُ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ فَكَانَ ذِكْرُهُ مُسْتَدْعِيًا لِذِكْرِهِمَا، وَأَيْضًا النَّوْمُ فَرْعُ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ وَفَرَاغِ الْخَاطِرِ عَنِ الْمُهِمَّاتِ وَالْأَمْنِ مِنَ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ، وَلِذَا قَالَ: (وَكَفَانَا) أَيْ: وَكَفَى مُهِمَّاتِنَا وَدَفَعَ عَنَّا أَذِيَّاتِنَا (وَآوَانَا) بِالْمَدِّ وَقَدْ يُقْصَرَ، وَقِيلَ هُنَا بِالْمَدِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي: «وَلَا مُؤْوِيَ» وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَفْصَحَ فِي اللَّازِمِ الْقَصْرُ وَفِي الْمُتَعَدِّي الْمَدُّ أَيْ: رَدَّنَا إِلَى مَأْوَانَا، وَلَمْ يَجْعَلْنَا مِنَ الْمُنْتَشِرِينَ كَالْبَهَائِمِ فِي صَحْرَانَا (فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ) قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ: لَا رَاحِمَ لَهُ وَلَا عَاطِفَ عَلَيْهِ وَلَا لَهُ مَسْكَنٌ يَأْوِي إِلَيْهِ فَمَعْنَى آوَانَا هُنَا رَحِمَنَا، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الْكَافِي وَالْمُؤْوِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى يَكْفِي شَرَّ بَعْضِ الْخَلْقِ عَنْ بَعْضِهِمْ وَيُهَيِّئُ الْمَسْكَنَ، وَالْمَأْوَى لَهُمْ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْهُمْ فَكَمْ مِنْ خَلْقٍ لَا يَكْفِيهِمُ اللَّهُ شَرَّ الْأَشْرَارِ بَلْ تَرَكَهُمْ وَشَرَّهُمْ حَتَّى يَغْلِبَ عَلِيهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ، وَكَمْ مِنْ خَلْقٍ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ مَأَوًى وَلَا مَسْكَنًا بَلْ تَرَكَهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِبَرْدِ الصَّحَارِي وَحَرِّهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: «كَمْ» تَقْتَضِي الْكَثْرَةَ وَلَا تُرَى مِمَّنْ حَالُهُ هَذَا إِلَّا قَلِيلًا نَادِرًا عَلَى أَنَّهُ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ: أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، قُلْتُ فِي عُمُومِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِشَارَةٌ إِلَى شُمُولِ الرِّزْقِ الْمُتَكَفَّلِ وَالْمَأْوَى ; فَإِنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مَأْوًى إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مَأْوًى صَالِحًا وَكَافِيًا لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: كَمْ، تَقْتَضِي الْكَثْرَةَ يُرَدُّ بِمَنْعِ قِلَّتِهِ، وَعَلَى التَّنْزِيلِ، فَالْكَثِيرُ يَصْدُقُ بِثَلَاثَةٍ فَأَكْثَرَ فَلَا يَكُونُ مَتْرُوكَ الْمَأْوَى، وَالْكِفَايَةُ قَلِيلًا نَادِرًا قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّا نَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنْ عَرَّفَنَا نِعَمِهِ، وَوَفَّقَنَا لِأَدَاءِ شُكْرِهَا فَكَمْ مِنْ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لَمْ يَعْرِفْهَا، فَكَفَرَ بِهَا وَلَمْ يَشْكُرْهَا، وَكَذَلِكَ اللَّهُ مَوْلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِمَعْنَى رَبِّهِمْ وَمَالِكِهِمْ، لَكِنَّهُ نَاصِرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمُحِبٌّ لَهُمْ، فَالْفَاءُ فِي «فَكَمْ» لِتَعْلِيلِ الْحَمْدِ، وَبَيَانِ تَسَبُّبِهِ الْحَامِلِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يُعْرَفُ قَدْرُ النِّعْمَةِ إِلَّا بِضِدِّهَا، وَحَاصِلُهُ فَكَمْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ كَافِيهِ، وَلَا مُؤْوِيهِ أَوْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ عَادَةً، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى كَافٍ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَمُؤْوِي لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ) بِالْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ بِالْجِيمِ الْمَضْمُومَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: صَوَابُهُ بِالْجِيمِ مُصَغَّرًا، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ) نِسْبَةً إِلَى مُزَيْنَةَ مُصَغَّرًا قَبِيلَةٌ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ) بِفَتْحِ

(باب ما جاء في عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -)

الرَّاءِ (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا عَرَّسَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ التَّعْرِيسِ وَهُوَ نُزُولُ الْمُسَافِرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَالنَّوْمِ يَقِفُ وَقْفَةً ثُمَّ يَخْتَارُ الرِّحْلَةَ فَقَوْلُهُ (بِلَيْلٍ) إِمَّا تَأْكِيدٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا انْتَهَى. وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّوْمُ مُطْلَقًا (اضْطَجَعَ) أَيْ: نَامَ أَوْ رَقَدَ (عَلَى شِقِّهِ) أَيْ: طَرَفِهِ وَجَانِبِهِ (الْأَيْمَنِ) وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَوَضَعَ رَأْسَهُ الشَّرِيفَ عَلَى لَبِنَةٍ قُلْتُ لَعَلَّ هَذَا وَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الْقُرَى لِاسْتِبْعَادِ وُجُودِ اللَّبِنَةِ فِي الْبَوَادِي، وَالصَّحَارِي (وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ ذِرَاعَهُ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ) وَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ تَعْلِيمُ أُمَّتِهِ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُثْقِلَ بِهِمُ النَّوْمُ ; فَيُفَوِّتَهُمْ صَلَاةَ الصُّبْحِ عَنْ وَقْتِهَا (بَابُ مَا جَاءَ فِي عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عِبَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ هُنَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، وَعَقَّبَهَا لِنَوْمِهِ لِأَنَّ عِبَادَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَيَّنَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ وَالْمُعَيَّنَةَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ إِنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ نَوْمِهِ عَلَى أَنَّ نَوْمَهُ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ، وَأَكْمَلِ الطَّاعَاتِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ، وَتَرْكِ الْعَادَةِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافًا لِلزَّنَادِقَةِ، وَالْمُلْحِدِينَ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ إِلَى عِلْمِ الْيَقِينِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْعِبَادَةُ، بَلْ إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَوْتُ يَقِينًا ; لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: هُوَ يَقِينٌ يُشْبِهُ الشَّكَ فِي نَظَرِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ فَائِدَةُ الْغَايَةِ الْأَمْرُ بِالدَّوَامِ أَيِ: اعْبُدْ رَبَّكَ فِي جَمِيعِ أَزْمِنَةِ حَيَاتِكَ وَقَدْ رَوَى الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ: «مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ، وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» ، وَرَتَّبَ التَّسْبِيحَ، وَمَا بَعْدَهُ عَلَى ضِيقِ الصَّدْرِ حَيْثُ قَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهَا يَكْشِفُ صَدَأَ الْقَلْبِ فَيَسْتَحْقِرُ الدُّنْيَا ; فَلَا يَحْزَنُ لِفَقْدِهَا، وَلَا يَفْرَحُ لِحُصُولِهَا وَوُجُودِهَا، فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الْآيَةَ وَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا وَإِلَّا لَنُقِلَ وَلَمَا أَمْكَنَ كَتْمُهُ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا مِنْ عُرْفِ تَابِعًا،

وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: بِالْوَقْفِ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَعَمْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ ثُمَّ أَحْجَمَ بَعْضُهُمْ عَنِ التَّعْيِينِ وَجَسَرَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَعَلَيْهِ فَقِيلَ آدَمَ وَقِيلَ نُوحٍ وَقِيلَ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ مُوسَى وَقِيلَ عِيسَى وَقِيلَ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يَنْفَرِدُ بِهِ بَلِ الْقَصْدُ مِنْ بَعْثَتِهِ إِحْيَاءُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ الِاتِّبَاعُ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ إِذْ شَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَمَعْنَى مُتَابَعَتِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ الْمُتَابَعَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَى إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ، وَإِيرَادِ الْأَدِلَّةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَكُّلِ وَالْإِخْلَاصِ، وَنَفْيِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَا وَالِالْتِحَاءِ إِلَى السِّوَى قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْإِمَامُ السَّرَّاجُ الْبُلْقِينِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا كَيْفِيَّةُ تَعَبُّدِهِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءٍ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا يَتَنَسَّكُ فِيهِ وَكَانَ مِنْ نُسُكِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُطْعِمَ الرَّجُلُ مَنْ جَاءَ مِنَ الْمَسَاكِينِ حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، وَقِيلَ كَانَتْ عِبَادَتُهُ التَّفَكُّرُ، أَقُولُ: الظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالْعِبَادَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنَ الْأَذْكَارِ الْقَلْبِيَّةِ، وَالْأَفْكَارِ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْمَصْنُوعَاتِ الْآفَاقِيَّةِ وَالْأَنْفُسِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ السَّنِيَّةِ، وَالشَّمَائِلِ الْبَهِيَّةِ، مِنَ التَّرَاحُمِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالتَّحَمُّلِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالتَّحَقُّقِ بِحَالِ الْفَنَاءِ وَمَقَامِ الْبَقَاءِ عَلَى مَا يَكُونُ مُنْتَهَى حَالِ أَكْمَلِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ، وَلِذَا قِيلَ بِدَايَةُ الْأَنْبِيَاءِ نِهَايَةُ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ بِدَايَةَ الْوَلِيِّ نِهَايَةُ النَّبِيِّ ; فَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْأَوَامِرِ الْفَرْضِيَّةِ، وَالزَّوَاجِرِ الْمَنْهِيَّةِ فَمَا لَمْ يَتَّصِفِ السَّالِكُ بِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُ دِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْوَلَايَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَظٌّ مِنْ حُسْنِ الرِّعَايَةِ، وَحِفْظِ الْحِمَايَةِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَبِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَا: حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبُو عِوَانَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبِالْقَافِ وَجَهِلَ مَنْ ضَبَطَهُ بِالْفَتْحِ (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيِ: اجْتَهَدَ فِي الصَّلَاةِ (حَتَّى انْتَفَخَتْ) أَيْ: تَوَرَّمَتْ (قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ أَتَتَكَلَّفُ هَذَا) أَيْ: أَتُلْزِمُ نَفْسَكَ بِهَذِهِ الْكُلْفَةِ، وَالْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ (وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ) وَفِي نُسْخَةٍ،: «وَقَدْ غُفِرَ لَكَ» بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) فَفِي النِّهَايَةِ: تَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ إِذَا تَجَشَّمْتَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ وَعَلَى خِلَافِ عَادَتِكَ، وَالْمُتَكَلِّفُ الْمُتَعَرِّضُ لِمَا لَا يَعْنِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَنَا وَأُمَّتِي بَرَاءٌ مِنَ التَّكَلُّفِ» انْتَهَى، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ ; فَتَأَمَّلْ (قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: أَتْرُكُ الصَّلَاةَ اعْتِمَادًا عَلَى الْغُفْرَانِ فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا وَقِيلَ لِلتَّسَيُّبِ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ أَيْ: أَتْرُكَ صَلَاتِي بِمَا غَفَرَ لِي فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ‍! يَعْنِي أَنَّ غُفْرَانَ اللَّهِ إِيَّايَ: سَبَبٌ لِأَنْ أُصَلِّيَ شُكْرًا لَهُ فَكَيْفَ

أَتْرُكُهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ: كَيْفَ لَا أَشْكُرُهُ وَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيَّ وَخَصَّنِي بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ؟ ! فَإِنَّ الشَّكُورَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَدْعِي نِعْمَةً خَطِيرَةً، ثُمَّ تَخْصِيصُ الْعَبْدِ بِالذِّكْرِ مُشْعِرٌ بِغَايَةِ الْإِكْرَامِ، وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ وُصِفَ بِهِ فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ ; وَلِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ تَقْتَضِي صِحَّةَ النِّسْبَةِ وَلَيْسَتْ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ وَهِيَ عَيْنُ الشُّكْرِ فَالْمَعْنَى: أَلْزَمُ الْعِبَادَةَ وَإِنْ غُفِرَ لِي لِأَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا، وَقَدْ ظَنَّ مَنْ سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّ سَبَبَهَا إِمَّا خَوْفُ الذَّنْبِ أَوْ رَجَاءُ الْمَغْفِرَةِ ; فَأَفَادَ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ سَبَبًا آخَرَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى التَّأَهُّلِ لَهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَإِجْزَالِ النِّعْمَةِ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا رَغْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَإِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا شُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ» ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ رَبِيعِ الْأَبْرَارِ. (حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ فَتَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ فَمُثَلَّثَةٌ (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مِنَ الْوَرَمِ هَكَذَا سُمِعَ، وَهُوَ نَادِرٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ، وَهُوَ كَذَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى تَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، وَهُوَ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنَ التَّوَرُّمِ، وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى ظَاهِرِ الْمُؤَنَّثِ الْغَيْرِ الْحَقِيقِيِّ جَازَ فِيهِ الْأَمْرَانِ ثُمَّ نَصَبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ بَعْدَ حَتَّى (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (فَقِيلَ لَهُ تَفْعَلُ هَذَا) أَيْ: هَذَا الِاجْتِهَادَ، وَالْمَعْنَى: أَتَفْعَلُ هَذَا؟ ! كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ (وَقَدْ جَاءَكَ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ جَاءَكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُوا عَنْ تَقْصِيرٍ وَتَوَانٍ وَنِسْيَانٍ، وَسَهْوٍ كَمَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَنْبِ مَا تَقَدَّمَ ذَنْبُ آدَمَ، وَبِذَنْبِ مَا تَأَخَّرَ ذَنْبُ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا تَقَدَّمَ مَا فَعَلَهُ مَعَ نَوْعٍ مِنَ التَّقْصِيرِ وَبِمَا تَأَخَّرَ مَا تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا فِي التَّأْخِيرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِ أَحَدٌ عَنْ فَضْلِهِ سُبْحَانَهُ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ عَمِلَ بِالْعَدْلِ مَعَ الْخَلْقِ لَعَذَّبَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَنَسْتَعِيذُ مِنْ عَدْلِهِ (قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. (حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّمْلِيُّ) نِسْبَةً إِلَى رَمْلَةَ، بَلْدَةٌ بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ (حَدَّثَنَا عَمِّي يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ) أَيْ: مِنَ اللَّيْلِ (يُصَلِّي حَتَّى تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ) بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِيَ بِالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ، وَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقَ وَوَجْهُ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ (فَيُقَالُ لَهُ تَفْعَلُ هَذَا) أَيْ: أَتَفْعَلُ هَذَا؟ ! كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَبْلَ قَوْلِهِ: «تَفْعَلُ» (وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْحَدِيثُ بِالْأَسَانِيدِ الثَّلَاثَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ، الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مِنَ التَّهَجُّدِ وَالْوَتْرِ (بِاللَّيْلِ) أَيْ: فِي أَيْ: وَقْتٍ كَانَ مِنْهَا (فَقَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ) أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْوَاقِعَةِ أَحْيَانًا بَعْدَ نِصْفِهِ الْأَوَّلِ (ثُمَّ يَقُومُ) أَيِ: السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لِلتَّهَجُّدِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَيَحْيَى آخِرَهُ (فَإِذَا كَانَ مِنَ السَّحَرِ) وَهُوَ السُّدُسُ

الْأَخِيرُ (أَوْتَرَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: صَلَّى رَكْعَةَ الْوَتْرِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ صَلَّى الْوَتْرَ لِيَشْمَلَ الْمَذْهَبَيْنِ إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً أَوْ رَكَعَاتٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ يَقْرَأُ فِيهِنَّ تِسْعَ سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثِ سُوَرٍ آخِرُهُنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى: بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ: بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُصَنِّفُ قَالَ الْحَنَفِيُّ: كَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِصَارٌ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرِ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْوَتْرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ثُمَّ يَقُومُ إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي اللَّيْلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوَتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّيْلِ فَقَالَتْ: سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ) أَيْ: فِي النَّوْمِ ; فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي السُّدُسِ السَّادِسِ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَمَا بَعْدَهَا مِنْ وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ ; وَلِأَنَّهُ يَدْفَعُ صُفْرَةَ السَّهَرِ عَنِ الْوَجْهِ (فَإِذَا) وَفِي نُسْخَةٍ فَإِنْ (كَانَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ كَانَتْ (لَهُ حَاجَةٌ) أَيْ: فِي مُبَاشَرَةٍ (أَلَمَّ بِأَهْلِهِ) أَيْ: قَرُبَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ قَالَ مِيرَكُ: فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ إِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: فِي كَلِمَةِ ثُمَّ فَائِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي حَاجَتَهُ مِنْ نِسَائِهِ بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ بِالتَّهَجُّدِ ; فَإِنَّ الْجَدِيرَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَاءُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ثُمَّ هُنَا لِتَرَاخِي الْأَخْبَارِ، أَخْبَرَتْ أَوَّلًا أَنَّ عَادَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً بِنَوْمِ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَقِيَامِ آخِرِهِ ثُمَّ اتَّفَقَ أَحْيَانًا أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْ نِسَائِهِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَنَامُ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ (فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ) أَيْ: فَإِنِ انْتَبَهَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ (وَثَبَ) أَيْ: قَامَ بِسُرْعَةٍ وَخِفَّةٍ أَوْ قَعَدَ عَلَى لُغَةِ قَبِيلَةِ حِمْيَرَ ; فَإِنَّ الْوُثُوبَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْقُعُودِ (فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ) أَيِ: اغْتَسَلَ (وَإِلَّا تَوَضَّأَ) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا جَدِيدًا لِأَنَّ نَوْمَهُ لَا يَنْقُضُ كَذَا قِيلَ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْجَزْمَ بِذَلِكَ تَسَاهُلٌ إِذْ يُحْتَمَلُ هَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ نَاقِضٌ آخَرُ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ (وَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ صَلَّى سُنَّةَ الْفَجْرَ فِي الْبَيْتِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا، وَلَفْظُهُمَا كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ ; فَإِنْ كَانَتْ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلْ، وَإِلَّا فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: هَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُورَةِ إِلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ كَانَتْ مُنْحَصِرَةً فِي الْغُسْلِ، وَالْوُضُوءِ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «مَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ أَوْ مَسَّهَا بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ» انْتَهَى. وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِلْمَامِ هُوَ الْجِمَاعُ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَوْلُهُ: «مُنْحَصِرَةٌ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ» ، غَيْرُ صَحِيحٍ هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ «أَفْضَلَ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ» وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرُ الْجِمَاعِ عَنِ

ابْتِدَاءِ النَّوْمِ لِيَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِالْعِبَادَةِ، وَعَدَمُ التَّكَاسُلِ عَنْهَا بِالنَّوْمِ، وَالْقِيَامُ بِالنَّشَاطِ لِلطَّاعَةِ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا: «مَا صَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ بَيْتِي إِلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ أَيِ: الدِّيكَ وَهُوَ يَصِيحُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ رُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي آخِرِهِ، وَرُبَّمَا أَوْتَرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا فِي آخِرِهِ وَرُبَّمَا جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَرُبَّمَا خَافَتَ» . وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: «كَانَ يُصَلِّي بِنَا ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا يُصَلِّي، ثُمَّ يُصَلِّي قَدْرَ مَا نَامَ، ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى، حَتَّى يُصْبِحَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنِّسَائِيِّ: «كَانَ يُصَلِّي الْعَتْمَةَ ثُمَّ يُسَبِّحُ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يِنْصَرِفُ فَيَرْقُدُ مِثْلَ مَا صَلَّى، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ مِنْ نَوْمِهِ ذَلِكَ فَيُصَلِّي قَدْرَ مَا نَامَ، وَصَلَاتُهُ تِلْكَ الْآخِرَةُ إِلَى الصُّبْحِ» . (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) إِشَارَةٌ إِلَى تَحْوِيلِ السَّنَدِ، وَلِذَا عَطَفَ بِقَوْلِهِ (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ) عَنْ كُرَيْبٍ مُصَغَّرًا (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَخْبَرَهُ) أَيْ: كُرَيْبًا (أَنَّهُ) وَأَغْرَبَ شَارِحٌ فَقَالَ: أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَاتَ) أَيْ: رَقَدَ فِي اللَّيْلِ (عِنْدَ مَيْمُونَةَ) أَيْ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَهِيَ خَالَتُهُ) أَيْ: فَهُوَ مَحْرَمٌ لَهَا ; فَإِنَّهَا بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ قِيلَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةُ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ، كَانَتْ تَحْتَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَفَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَبُو رُهْمِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَتَزَوَّجَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ بَعْدَ خَيْبَرَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَكَانَتْ أُخْتُهَا أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ تَحْتَ الْعَبَّاسِ، وَأُخْتُهَا لِأُمِّهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ تَحْتَ جَعْفَرٍ، وَسَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ تَحْتَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قِيلَ وَهِيَ الْوَاهِبَةُ نَفْسَهَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْهَا خِطْبَتُهُ وَهِيَ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا قَالَتْ: هُوَ وَمَا عَلَيْهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَجَعَلَتْ أَمْرَهَا لِلْعَبَّاسِ فَأَنْكَحَهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَمَّا رَجَعَ بَنَى بِهَا بِسَرِفَ حَلَالًا، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَرِوَايَةُ: وَهُوَ مُحْرِمٌ، مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ دَاخِلُ الْحَرَمِ قُلْتُ إِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ حَلَالٌ، وَحَيْثُ جَازَ الِاحْتِمَالُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، فَالْمُعَوَّلُ هُوَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ; فَإِنَّهُ لِلْمَقْصُودِ مُفَصَّلٌ ثُمَّ قَالَ عَلَى أَنَّ مِنْ خُصُوصِيَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ لَهُ النِّكَاحَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ مُخَصِّصٍ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَمِنْ غَرِيبِ التَّارِيخِ أَنَّهَا مَاتَتْ بِسَرِفَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ، وَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَ التَّنْعِيمِ وَالْوَادِي فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَدَخَلَ قَبْرَهَا وَهِيَ آخِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ الْأَشْهَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِضَمِّهَا وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْتُوحِ الْعَيْنِ أَيْ: جَانِبِهَا، وَالْوِسَادَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمِخَدَّةُ الْمَعْرُوفَةُ الْمَوْضُوعَةُ تَحْتَ الْخَدِّ أَوِ الرَّأْسِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هُنَا الْفِرَاشُ لِقَوْلِهِ (وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: وَأَهْلُهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ (فِي طُولِهَا) وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَامَ تَحْتَ رِجْلَيْهِ تَأَدُّبًا، وَتَبَرُّكًا وَقَدْ زَلَّ قَدَمُ ابْنِ حَجَرٍ هُنَا فَتَدَبَّرْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِحِلِّ نَوْمِ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ لَهَا مُمَيِّزٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي فِي لَيْلَةٍ كَانَتْ فِيهَا حَائِضًا قَالَ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ طَرِيقُهَا،

فَهِيَ حَسَنَةُ الْمَعْنَى جِدًّا إِذْ لَمْ يَكُنِ ابْنُ عَبَّاسٍ يَطْلُبُ الْمَبِيتَ فِي لَيْلَةٍ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ سِيَّمَا، وَهُوَ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُرَاقِبًا لِأَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّهُ لَمْ يَنَمْ أَوْ نَامَ قَلِيلًا جِدًّا كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَنَوْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَهْلِهِ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ مِنْ عَادَتِهِ السُّنِّيَّةِ، وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ الْبَهِيَّةِ وَاعْتِزَالُهَا فِي النَّوْمِ كَمَا هُوَ عَادَةُ بَعْضِ الْأَعَاجِمِ، وَالْمُتَكَبِّرِينَ مَذْمُومٌ إِلَّا إِذَا اخْتَارَتِ الْمَرْأَةُ وَأَرَادَ الرَّجُلُ هِجْرَانَهَا تَأْدِيبًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: فَتَحَدَّثَ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ (حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ) أَيْ: تَخْمِينًا وَتَقْرِيبًا (أَوْ قَبْلَهُ) أَيْ: أَوْ كَانَ قَبْلَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ (بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ) أَيْ أَوْ كَانَ بَعْدَهُ (بِقَلِيلٍ فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ) أَيْ: أَثَرَهُ مِمَّا يَعْتَرِي النَّفْسَ مِنَ الْفُتُورِ (عَنْ وَجْهِهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّرْدِيدَ الْمَذْكُورَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَاءً عَلَى تَرَدُّدِهِ بِأَنَّ غَايَةَ النَّوْمِ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَ النِّصْفِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُ مِنَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ: فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ أَوْ نِصْفُهُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ (ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ) أَيْ: مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ حِلُّ الْقِرَاءَةِ لِلْمُحْدِثِينَ حَدَثًا أَصْغَرَ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ بَلْ نَدَبَهَا لَهُ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ نَوْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِنَاقِضٍ إِجْمَاعًا فَكَيْفَ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَاتِ مُحْدِثًا مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ التَّيَمُّمِ لِرَدِّ السَّلَامِ فَكَيْفَ لِكَلَامِ الْمَلِكَ الْعَلَّامِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ قِرَاءَتُهُ مُحْدِثًا لَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، فَقَوْلُهُ بَلْ نَدَبَهَا لَهُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلَا دَلَالَةَ لِقَوْلِهِ: «فَتَوَضَّأَ» عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مُجَرَّدًا (الْخَوَاتِيمَ) جَمْعُ الْخَاتِمَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ الْيَاءِ، وَفِيهِ نَدْبُ قِرَاءَةِ خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَقِبَ الِاسْتِيقَاظِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَى الْفَوَائِدِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْإِيقَاظُ (مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) فِيهِ إِبَاحَةُ قَوْلِ ذَلِكَ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ السَّلَفِ، وَقَالَ: بَلْ يُقَالُ السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ وَكَذَا الْبَقَرَةُ وَأَمْثَالُهَا كَرَاهَةَ ظَاهِرِ الْإِضَافَةِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ. لَيْسَ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ السَّلَفِ لَا تَخْلُو عَنْ أَصْلٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ فَصْلٍ (ثُمَّ قَامَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِلَى شَنٍّ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ الْقِرْبَةُ الْخَلِقَةُ (مُعَلَّقٌ) أَيْ: لِتَبْرِيدِ الْمَاءِ أَوْ لِحِفْظِهِ (فَتَوَضَّأَ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الشَّنِّ وَتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقِرْبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْهُ بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ) أَيْ: وُضُوءَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَالْمَعْنَى أَسْبَغَهُ وَأَكْمَلَهُ، وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وُضُوءًا حَسَنًا بَيْنَ الْوُضُوأَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ أَيْ: لَمْ يُكْثِرْ صَبَّ الْمَاءِ، وَلَمْ يُسْرِفْ فِي الْكَيْفِيَّةِ أَوِ الْكَمِّيَّةِ، وَقَدْ أَبْلَغَ الْوُضُوءَ أَمَاكِنَهُ، وَاسْتَوْفَى عَدَدَهُ الْمَسْنُونَ (ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) حَالٌ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ: فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ثُمَّ صَبَّ فِي الْجَفْنَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: فَتَوَضَّأَ وَاسْتَاكَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَاكَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَوْتَرَ بِثَلَاثٍ. وَلِمُسْلِمٍ: فَاسْتَيْقَظَ، فَتَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ ; فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ. قِيلَ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ فَيُعْمَلُ بِهَا وَإِنْ سَكَتَتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهَا لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَلَيْسَتِ الْوَاقِعَةُ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى يُحْمَلَ الِاخْتِلَافُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا هِيَ

وَاحِدَةٌ، فَيَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ التَّعَارُضِ الْعَمَلُ بِالْأَصَحِّ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ ثُمَّ إِحْدَاهُمَا (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) أَيْ: فَقُمْتُ وَتَوَضَّأْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ (فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى) قِيلَ وَضَعَهَا عَلَيْهِ أَوَّلًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْأُذُنِ أَوْ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ إِلَّا عَلَيْهِ، أَوْ لِيُنْزِلْ بَرَكَتَهَا بِهِ لِيَحْفَظَ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَغَيْرِهِ (فَفَتَلَهَا) بِالْفَاءِ الْعَاطِفَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِي نُسْخَةٍ يَفْتِلُهَا عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، فَحِينَئِذٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَخَذَ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ قِيلَ، وَفَتَلَهَا إِمَّا لِيُنَبِّهَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَوْ لِيَزْدَادَ تَيَقُّظُهُ لِحِفْظِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ أَوْ لِيُزِيلَ مَا عِنْدَهُ مِنَ النُّعَاسِ لِرِوَايَةِ: فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ يَأْخُذُ بِشَحْمَةِ أُذُنِي (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ مَعْنٌ: سِتُّ مَرَّاتٍ) أَيْ: قَوْلُهُ رَكْعَتَيْنِ سِتُّ مَرَّاتٍ فَتَكُونُ صَلَاتُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً (ثُمَّ أَوْتَرَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ فَتَتَامَّتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يَعْنِي فَالْوَتْرُ وَاحِدَةٌ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ أَوْتَرَ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ بِرَكْعَةٍ مُنْضَمَّةٍ إِلَيْهِ لِرِوَايَةِ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، قِيلَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ صَحِيحَةٌ، وَأَنَّ لَهُ مَوْقِفًا مِنَ الْإِمَامِ كَالْبَالِغِ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي غَيْرِ الْمَكْتُوبَاتِ جَائِزَةٌ، أَقُولُ: وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْفُرُوعِ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ بِكَرَاهِيَةِ الْجَمَاعَةِ فِي النَّوَافِلِ إِذَا كَانَ سِوَى الْإِمَامِ أَرْبَعَةٌ، قَالَ فِي الْكَافِي: أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْجَمَاعَةِ إِنَّمَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي، وَأَمَّا لَوِ اقْتَدَى وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ أَوِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لَا يُكْرَهُ، وَإِنِ اقْتَدَى ثَلَاثَةٌ بِوَاحِدٍ اخْتُلِفَ فِيهِ وَإِنِ اقْتَدَى أَرْبَعَةٌ بِوَاحِدٍ كُرِهَ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ النِّقَايَةِ مِنْ جَوَازِ الْجَمَاعَةِ فِي النَّوَافِلِ مُطْلَقًا نَقْلًا عَنِ الْمُحِيطِ، وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّوفِيَّةِ، وَنَحْوِهِمَا فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ الصِّحَّةُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي الْكَرَاهَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ثُمَّ اضْطَجَعَ) قَالَ مِيرَكُ: الْمُرَادُ بِالِاضْطِجَاعِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ التَّهَجُّدِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَزُولَ عَنْهُ تَعَبُ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَيُصَلِّي فَرِيضَةَ الصُّبْحِ بِنَشَاطٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مَلَالَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ الِاضْطِجَاعُ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَيْضًا يَعْنِي لِحَدِيثٍ وَرَدَ بِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَكْرَارِ الِاضْطِجَاعِ ; فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلُ يُسْتَدْرَكْ فِيمَا بَعْدُ (ثُمَّ جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ) أَيْ: بِلَالٌ أَوْ غَيْرُهُ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ (فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) أَيْ: سُنَّةَ الصُّبْحِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَخْفِيفِهَا لَا عَلَى جَوَازِهِ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ، وَسَيَأْتِي تَحَقُّقُهُ (ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ) أَيْ: فَرْضَهُ،

وَرِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ: ثُمَّ اضْطَجَعَ ; فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. هَذَا وَوِتْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِرَ اللَّيْلِ هُوَ الْأَغْلَبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْأَفْضَلُ الْأَكْمَلُ، وَإِلَّا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْتَرَ مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ، وَالْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا دُوِّنَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَعْذَارِ فَإِيتَارُهُ أَوَّلَهُ لَعَلَّهُ كَانَ لِمَرَضٍ، وَأَوْسَطَهُ لَعَلَّهُ كَانَ لِسَفَرٍ. (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَاسْمُهُ نَضْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضَّبِّيُّ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ: فِيهِ فَفِي الْقَامُوسِ (مِنْ) تَأَتِي بِمَعْنَى (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ كَلِمَةُ «مِنْ» فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى نَحْوِ مَا قَالُوهُ فِي نَحْوِ صُمْتُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَفِي نَحْوِ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) بِسُكُونِ الشِّينِ، وَيُكْسَرُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْثَرُ الْوَتْرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَعَمُّ مِنَ الْوَتْرِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: أَكْثَرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ مِنْهَا سُنَّةَ الصُّبْحِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَأَمَّا رِوَايَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَمَعَ هَاتَيْنِ، وَرِوَايَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ حُوسِبَ فِيهَا سُنَّةُ الْعِشَاءِ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُبَّمَا صَلَّى تِسْعًا أَوْ سَبْعًا أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهَا ثَلَاثُ الْوَتْرِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ) بِضَمِّ الزَّايِ أَوَّلَهُ (ابْنِ أَوْفَى) لَهُ صُحْبَةٌ مَاتَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ مَنَعَهُ) ، الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (مِنْ ذَلِكَ) أَيِ: الْفِعْلِ وَهُوَ الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ (النَّوْمَ) فَاعِلُ مَنَعَهُ (أَوْ غَلَبَتْهُ) أَيِ: النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (عَيْنَاهُ) أَيْ: كَثْرَةُ نُعَاسِهِ فِيهِمَا فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَقِيلَ أَنَّهُ شَكٌ مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ غَلَبَةِ الْعَيْنَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَغْلِبُ النَّوْمَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ لَا يَنَامَ، وَمِنْ مَنْعِ النَّوْمِ قُوَّةُ الرَّغْبَةِ فِيهِ لَا أَنَّهُ يَصِيرُ مَغْلُوبًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ مَنْعِ النَّوْمِ أَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ، وَمِنْ غَلَبَةِ الْعَيْنِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مَثَلًا يُمْكِنُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى الْخُشُوعَ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ وَهِجِّيرَاهُ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مِنْ شَكِّ الرَّاوِي انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلتَّقْسِيمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهٌ آخَرُ بِأَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَدَمِ التَّنَبُّهِ، وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَبِهُ وَلَمْ يَتَنَشَّطْ لِلْقِيَامِ، أَوْ يَقُومُ وَيُصَلِّي بَعْضَ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ تَمَامُ الْقِيَامِ (صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً) أَيْ: تَدَارُكًا لِمَا فَاتَهُ مِنَ التَّهَجُّدِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ مِنَ اللَّيْلِ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ النَّافِلَةِ بَلْ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ لِئَلَّا تَعْتَادَ النَّفْسُ بِالتَّرْكِ، وَعَلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ ثِنْتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ عَنْهَا بِلَفْظِ: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَقُمْ مِنَ اللَّيْلِ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهَذَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ وِتْرَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ سَكَتَتْ عَنْ ذِكْرِ الْوَتْرِ ; لِأَنَّ تَدَارُكَهُ مَعْلُومٌ بِالْأَوْلَى لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عِنْدَنَا، وَآكَدُ مِنَ التَّهَجُّدِ عِنْدَ غَيْرِنَا عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى

التَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْوَتْرَ يُقْضَى قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِ الْفَجْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَرَدَ عَنْهَا أَيْضًا: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى النِّسْيَانِ أَوْ ضِيقِ الْوَقْتِ لِأَدَاءِ قَضَاءِ الْوَتْرِ، وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى الْوَتْرَ وَلَوْ سَلِمَ فَقَضَاءُ التَّهَجُّدِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قَضَاءَ الْوَتْرِ بِالْأَوْلَى عَلَى أَنَّهُ مَا صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَهُ الْوَتْرُ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ أَوْسَطَهُ أَوْ آخِرَهُ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ عَائِشَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ عَادَتِهِ فِي اللَّيْلِ أَنْ يُصَلِّيَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مَعَ الْوَتْرِ، فَإِذَا نَامَ عَنِ التَّهَجُّدِ دُونَ الْوَتْرِ كَمَّلَ فِي النَّهَارِ هَذَا الْعَدَدَ الْفَائِتَ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ رِوَايَةِ: ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَبَيْنَ رِوَايَةِ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ حَسَّانَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ مَصْرُوفًا وَغَيْرَ مَصْرُوفٍ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) بِلَا صَرْفٍ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُهُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَلِكَ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ: فِيهَا أَوْ مِنْ أَجْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ أَوْ صَلَاتِهِ (فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ) أَيِ: الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَعْدَ النَّوْمِ الْمُسَمَّاةَ بِالتَّهَجُّدِ أَوْ صَلَاةَ اللَّيْلِ (بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) وَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَهْوِينُ الْأَمْرِ عَلَى النَّفْسِ ابْتِدَاءً لِحُصُولِ النَّشَاطِ، وَالْإِرْشَادُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي شَيْءٍ فَلْيَكُنْ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَتَعَوَّدَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ عَلَى التَّدْرِيجِ، فَيَكُونُ الشُّرُوعُ فِي بَقِيَّةِ عَمَلِهِ بِالنَّشَاطِ، وَإِتْمَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ: ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ) أَيْ: أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ جِيمٍ، وَفَتْحِ هَاءٍ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ جُهَيْنَةَ (أَنَّهُ قَالَ) أَيْ: زَيْدٌ (لِأَرْمُقَنَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ الرُّمُوقِ: وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الْمُرَاقَبَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ وَالْمَعْنَى لَأَنْظُرَنَّ وَأَحْفَظَنَّ (صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ حَتَّى أَرَى كَمْ يُصَلِّي كَذَا فِي شَرْحِ الْمُظْهِرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَدَلَ عَنِ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ لِتَقْرِيرِهَا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَبْلَغَ تَقْرِيرٍ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ عِنَايَتُهُ بِالْمُؤَكِّدَاتِ (قَالَ) أَيْ: زَيْدٌ (فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ) الْعَتَبَةُ أُسْكُفَّةُ الْبَابِ، وَالْمَعْنَى جَعَلْتُ عَتَبَتَهُ الْعَالِيَةَ وِسَادَةً لِي (أَوْ فُسْطَاطَهُ) وَهُوَ بَيْتٌ مِنْ شَعْرٍ بِضَمِّ فَائِهِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ تَوَسُّدِهِ عَتَبَتَهُ ; فَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ تَوَسَّدَ عَتَبَةَ بَيْتِهِ أَوْ عَتَبَةَ فُسْطَاطِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالظَّاهِرُ الثَّانِي ; لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى صَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْخَيْمَةِ فِي زَمَانِ السَّفَرِ الْخَالِي عَنِ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ، فَالتَّرْدِيدُ إِنَّمَا هُوَ فِي عِبَارَتِهِ، وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ مِنْ عَتَبَتِهِ أَيْضًا عَتَبَةُ فُسْطَاطِهِ فَفِي الْحَقِيقَةِ لَا شَكَّ (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) أَيْ: لِمَا سَبَقَ (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) ذَكَرَ طَوِيلَتَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِغَايَةِ التَّطْوِيلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّمَا طَوَّلَهُمَا ; لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ قُوَّةِ الْعِبَادِ، فَقَامَ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ ثُمَّ نَزَلَ بِالتَّدْرِيجِ كَمَا قَالَ: (

ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ) قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ قَوْلُهُ: «ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا» أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْمُوَطَّأِ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَأَفْرَادِ الْحُمَيْدِيِّ لِمُسْلِمٍ، وَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ الرَّكْعَتَانِ الْخَفِيفَتَانِ تَحْتَ مَا أَجْمَلَهُ بِقَوْلِهِ (فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ، وَيَكُونُ الْوَتْرُ رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، وَحَمَلَ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَوْتَرَ، عَلَى ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ مِنَ الْبَيْنِ قُلْتُ لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّهَجُّدِ عِنْدَهُمُ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَيَكُونُ الْوَتْرُ ثَلَاثًا، وَالْمَجْمُوعُ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِهِ حَيْثُ قَرَّرَ كَوْنَ الْوَتْرِ رَكْعَةً وَاحِدَةً مَعَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى خِلَافِهِ بِلَا خِلَافٍ قَالَ: وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ شَارِحُوهُ، وَقَالُوا: الْوَتْرُ هُنَا ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ ; لِأَنَّهُ عَدَّ مَا قَبْلَ الْوَتْرِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ لِقَوْلِهِ: رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ أُخَرَ انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَصْوَبُ رِوَايَةً، وَدِرَايَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَاهُ مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَيُفْتَحُ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا سَلَمَةَ (أَخْبَرَهُ) أَيْ: سَعِيدًا (أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا سَلَمَةَ (سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ؟) أَيْ: فِي لَيَالِيهِ وَقْتَ التَّهَجُّدِ، فَلَا يُنَافِيهِ زِيَادَةُ مَا صَلَّاهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَرَجَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَخَرَجَ فِي الثَّانِيَةِ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ فَكَثُرُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَطَفِقَ رِجَالٌ مِنْهُمْ، فَمَا خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ تَشَهَّدَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمُ اللَّيْلَةَ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجَزُوا عَنْهَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، قُلْتُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَصْحَابِنَا حَيْثُ جَعَلُوا الْمُوَاظَبَةَ مِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ، وَقِيلَ ; لِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ وَاظَبَ عَلَيْهَا مَعَهُمُ افْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ فَأَحَبَّ التَّخْفِيفَ عَنْهُمْ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ: «حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ» ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ الصَّارِفَ مِنْ حَمْلِ الْأَثَرِ عَلَى الْوُجُوبِ تَقْيِيدُهُ بِالْبُيُوتِ ; لِأَنَّ مَبْنَى الْفَرَائِضِ عَلَى الْإِعْلَانِ كَمَا أَنَّ مَبْنَى النَّوَافِلِ عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلِهَذَا قِيلَ النَّوَافِلُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ حَتَّى مِنْ جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: «خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ قِيَامُ هَذَا الشَّهْرِ» (فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مَا نَافِيةٌ وَقَوْلُهُ (لِيَزِيدَ) بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَنْ بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ، وَهُوَ لَامُ التَّأْكِيدِ بَعْدَ النَّفْيِ لَكَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ فَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ ضَبْطِهِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزِيدُ (فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ) أَيْ: مِنَ اللَّيَالِي الْمُتَبَرَّكَةِ (عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) أَيْ: عِنْدَهَا فَلَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ مِنَ الزِّيَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهَا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَكُلٌّ يُخْبِرُ عَنْ عَمَلِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْوَتْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَكْثَرَ الْوَتْرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ضَعِيفٌ، هَذَا وَقَدْ سَبَقَ عَنْهَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، فَكَأَنَّهَا اقْتَصَرَتِ الْحَدِيثَ هُنَا، وَحَذَفَتِ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ لِلْعِلْمِ بِهِمَا أَوْ لِعَدِّهِمَا شُكْرًا لِلْوُضُوءِ عَلَى مَا قِيلَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهَا ابْتِدَاءً (يُصَلِّي أَرْبَعًا) أَيْ: أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ (لَا تَسْأَلْ) أَيْ: أَيُّهَا السَّائِلُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ، وَأَنَّهُ نَهْيٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا مَعْنَاهُ نَهْيٌ (عَنْ

حُسْنِهِنَّ) أَيْ: كَيْفِيَّةً (وَطُولِهِنَّ) أَيْ: كَمِّيَّةً فَقَوْلُ: «لَا تَسْأَلْ» كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الطُّولِ، وَالْحُسْنِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: لَا تَسْأَلْ عَنْهُنَّ مِنْ كَمَالِ الطُّولِ، وَالْحُسْنِ فِي غَايَةٍ ظَاهِرَةٍ مُغْنِيَةٍ عَنِ السُّؤَالِ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَزْمِ بِالنَّهْيِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ تَطْوِيلِ الْقِيَامِ عَلَى تَكْثِيرِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» ، وَقِيلَ الْأَفْضَلُ تَكْثِيرُ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ لِخَبَرِ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ، وَقِيلَ تَطْوِيلُ الْقِيَامِ لَيْلًا أَفْضَلُ، وَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ نَهَارًا أَفْضَلُ (ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَرْبَعِ بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَلَوَيْنِ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ السَّالِكُ أَرْبَعًا بِسَلَامٍ مَرَّةً وَسَلَامَيْنِ أُخْرَى جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَرِعَايَةً لِلْمَذْهَبَيْنِ (ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا) ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّاهَا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مُسْلِمٍ بَعْدَ إِيرَادِ صَلَاةِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْهَا (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ) تَعْنِي وَرُبَّمَا يَفُوتُ بِعَدَمِ الْقِيَامِ بَعْدَ الْمَنَامِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى وُجُوبِهِ ; فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ إِلَّا عَلَى فَوْتِ الْوَاجِبِ (قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) وَالْمَعْنَى أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِأَنِّي لَا أَخْشَى فَوْتَ الْوَتْرِ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِحَيَاةِ قُلُوبِهِمْ، وَاسْتِغْرَاقِ شُهُودِ جَمَالِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَجَعَلَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْأَنْبِيَاءِ مَنْ يَثِقُ بِالِانْتِبَاهِ، وَلَا يَخْشَى فَوْتَهُ، حَيْثُ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي حَقِّهِمْ تَأْخِيرُ الْوَتْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ وِتْرًا» ، عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ ; لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْفَجْرِ مِنْ وَظَائِفِ الْبَصَرِ، أَوْ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَسْهُو يَقَظَةً لِمَصْلَحَةِ التَّشْرِيعِ فَكَذَا نَوْمًا. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ) أَيْ: غَالِبًا أَوْ عِنْدَهَا (يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) ، فَلَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا وَلَعَلَّ الِاخْتِلَافَ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْحَالَاتِ، أَوْ طُولِ الْقِرَاءَةِ وَقِصَرِهَا، أَوْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَقُوَّةٍ وَفَتْرَةٍ أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ (يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ) أَيْ: يَضُمُّ الشَّفْعَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَقِيلَ كَوْنُ الْوَتْرِ وَاحِدَةً مَنْسُوخٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ (فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ صَلَاةِ الْوَتْرِ (اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) أَيْ: لِلِاسْتِرَاحَةِ إِنْ كَانَ الصُّبْحُ قَرِيبًا أَوْ لِلنَّوْمِ إِنْ كَانَ وَقْتَ السَّحَرِ، وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلَفْظُ (نَحْوَهُ) غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (ح) إِشَارَةٌ لِلتَّحْوِيلِ، قَالَ السَّيِّدُ لَيْسَ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي «ح» لَفْظُ (نَحْوَهُ) وَقَالَ عَفِيفُ الدِّينِ فِي نُسْخَةٍ. ح. فَقَطْ وَفِي نُسْخَةٍ (نَحْوَهُ) فَقَطْ وَفِي نُسْخَةِ أَصْلِنَا كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ قَالَ عِصَامُ الدِّينِ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَاءُ التَّحْوِيلِ مَعَ نَحْوِهِ، وَفِي بَعْضِهَا بِدُونِ نَحْوِهِ، وَفِي بَعْضِهَا لَيْسَ حَاءُ التَّحْوِيلِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ النُّسْخَةَ

أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِعَدَمِ التَّحَوُّلِ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَإِيرَادِ التَّحْوِيلِ، قُلْتُ: إِجْمَاعُ النُّسَخِ عَلَى قَوْلِهِ (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ) بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْوِيلِ سَوَاءٌ ضَمَّ مَعَهُ لَفْظَةَ «نَحْوَهُ» لِلتَّأَكِيدِ أَوْ حَذَفَ وَاكْتَفَى بِنَحْوِهِ الْأَخِيرِ الْمَوْجُودِ اتِّفَاقًا نَعَمْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِحَاءِ التَّحْوِيلِ فَقَطْ بَعْدَ قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَمْعَنَ فِي النَّظَرِ فَتَدَبَّرْ. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ) أَيْ: أَحْيَانًا لِمَا سَبَقَ (رَسُولُ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيُّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ) فَالتَّهَجُّدُ سِتُّ رَكَعَاتٍ بِسَلَامَيْنِ أَوْ بِثَلَاثٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ بِكَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ؟ قَالَتْ: يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ، وَثَلَاثٍ، وَسِتٍّ، وَثَلَاثٍ، وَثَمَانٍ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَثَلَاثٍ، وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بَأَنْقَصَ مِنْ سَبْعٍ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سَأَلَهَا عَنْ صَلَاتِهِ فَقَالَتْ: سَبْعًا وَتِسْعًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أُشْكِلَ حَدِيثُهَا عَلَى كَثِيرٍ حَتَّى نُسِبَ إِلَى الِاضْطِرَابِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ لَوِ اتَّحَدَ الرَّاوِي عَنْهَا، وَالْوَقْتُ وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرَتْهُ مِنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسْبِ النَّشَاطِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ انْتَهَى. وَسَيُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ تَارَةً يُصَلِّي قَائِمًا وَهُوَ الْأَغْلَبُ وَتَارَةً جَالِسًا ثُمَّ قَبْلَ الرُّكُوعِ يَقُومُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَبَّا حَنِيفَةَ قَالَ يَتَعَيَّنُ الْوَتْرُ ثَلَاثًا مَوْصُولَةً مُحْتَجًّا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا حَسَنٌ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ، فَأَخَذَ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَتَرَكَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَرَدَ: بِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَرِهَ الثَّلَاثَ الْمَوْصُولَةَ فِي الْوَتْرِ فَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ سُلَيْمَانَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَالْكَلَامُ فِي إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَمُخَالَفَتُهُ تَضُرُّ نَفْسَهُ لَا غَيْرَهُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَكْرُوهٌ، يُحْمَلُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى عِنْدَهُ، فَلَا يُنَافِي مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْحُسْنِ، وَالْجَوَازِ، هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ هُوَ بِظَاهِرِهِ يَعُمُّ الرَّكْعَةَ الْمُفْرَدَةَ الَّتِي لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ، وَتَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَتِهَا، وَالَّتِي قَبْلَهَا شَفْعٌ أَوْ أَكْثَرُ كَمَا قَالُوا بِاسْتِحْبَابِهَا، وَلِابْنِ حَجَرٍ هُنَا أَبْحَاثٌ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا لِلِاخْتِصَارِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ نَحْوَهُ) أَيْ: فِي بَقِيَّةِ الْإِسْنَادِ وَلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَحْوَهُ هَذَا بِمَعْنًى أَيْ: فِي بَقِيَّةِ الْإِسْنَادِ، وَلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَحْوَهُ هَذَا بِمَعْنَى مِثْلِهِ بِلَا تَفَاوُتٍ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) بِالْجَرِّ وَلَوْ رُفِعَ لَهُ وَجْهٌ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: فِي جَامِعِهِ أَبُو حَمْزَةَ عِنْدَنَا طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ انْتَهَى. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَبُو حَمْزَةَ عِنْدَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: طَلْحَةُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو حَمْزَةَ الْأَنْصَارِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَالرَّجُلُ شَيْخُهُ هُوَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) وَرَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مَعَ تَخَالُفٍ فِي بَعْضِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ اللَّيْلِ) مِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ بِمَعْنَى فِي، وَلَفْظُ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ بِالصَّلَاةِ (قَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (فَلَمَّا دَخَلَ) الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: أَرَادَ الدُّخُولَ (فِي الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ) إِلَخْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا بَعْدَ تَكْبِيرَةِ التَّحْرِيمَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ زِيَادَةُ الْكَلِمَاتِ الْآتِيَةِ، وَكَذَا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا دَرَجُوا عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ إِيَّاهُ بِالْكَبِيرِ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَفْعَلُ فَعْلَى يَلْزَمُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، أَوِ الْإِضَافَةُ كَالْأَكْبَرِ وَأَكْبَرِ الْقَوْمِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَجْرِيدِهِ عَنِ الْمُتَعَلِّقَاتِ لِاتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَكْبَرِيَّةِ أَيْضًا قِيلَ حُدُوثُ الْمَوْجُودَاتِ، وَظُهُورُ الْمَخْلُوقَاتِ،

أَوِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنَ الِاسْتِعْمَالَاتِ (ذُو الْمَلَكُوتِ) أَيْ: مَالِكُ الْمُلْكِ وَصِيغَةُ «فَعَلُوتَ» لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ كَمَا فِي رَحَمُوتٍ وَرَهَبُوتٍ وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ: ذُو الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَوَّلِ ظَاهِرُ الْمُلْكِ، وَمِنَ الثَّانِي بَاطِنُهُ كَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِعَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (وَالْجَبَرُوتِ) فَعَلُوتٌ مِنَ الْجَبْرِ وَهُوَ الْقَهْرُ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ فَسُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا قَضَى عَلَيْهِمْ، فَهُوَ الْجَبَّارُ الَّذِي يَقْهَرُ عِبَادَهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ (وَالْكِبْرِيَاءِ) أَيِ: التَّرَفُّعِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ (وَالْعَظَمَةِ) أَيْ: تَجَاوُزِ الْقَدْرِ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَالْكِبْرِيَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الذَّاتِ، وَالْعَظْمَةُ إِشَارَةٌ إِلَى جَمَالِ الصِّفَاتِ (قَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (ثُمَّ قَرَأَ الْبَقَرَةَ) أَيْ: مَعَ فَاتِحَتِهَا وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ اسْتَفْتَحَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، أَوْ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ افْتَتَحَ بِالْبَقَرَةِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ; فَإِنَّ مِنْ عَادَتْهِ دَوَامَ مُوَاظَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَدْ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» عَلَى خِلَافٍ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ أَوِ الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا الرَّاوِي لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثُمَّ رَكَعَ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا) أَيْ: قَرِيبًا (مِنْ قِيَامِهِ) وَالْمُرَادُ أَنَّ رُكُوعَهُ كَانَ مُتَجَاوِزًا عَنِ الْمَعْهُودِ كَالْقِيَامِ، وَأَغْرَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ (مِنْ) هَذِهِ لِلْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ نَحْوًا أَيْ: مَثَلًا، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ مِنْ قِيَامِهِ بَعْدَ الرُّكُوعِ (وَكَانَ يَقُولُ) قِيلَ هُوَ حِكَايَةٌ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ اسْتِحْضَارًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَنَّ «كَانَ» يُحَوِّلُ «يَقُولُ» مِنْ مَعْنَى الْحَالِ إِلَى الْمُضِيِّ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ لِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ الْمُشْعِرِ بِالْكَثْرَةِ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ وَقَالَ: (سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ) بِفَتْحِ يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا (سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ) كَرَّرَهُ لِإِفَادَةِ التَّكْثِيرِ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَانَ قِيَامُهُ) أَيْ: بَعْدَ الرُّكُوعِ (نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ، وَكَانَ يَقُولُ لِرَبِّيَ الْحَمْدُ) بِتَقْدِيمِ الْجَارِّ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاصِ (لِرَبِّيَ الْحَمْدُ) التَّكْرَارُ لِبَيَانِ الْإِكْثَارِ (ثُمَّ سَجَدَ فَكَانَ سُجُودُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ) أَيِ: اعْتِدَالِهِ مِنَ الرُّكُوعِ (وَكَانَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى) اخْتِيرَ التَّسْبِيحَاتُ فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ اخْتَارَهُمَا بَعْدَ نُزُولِهِمَا، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الْعَظَمَةِ لِلرُّكُوعِ الْمُشِيرِ إِلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ، وَالْأَعْلَى لِلْخَفْضِ الدَّالِ عَلَى كَمَالِ الْخُشُوعِ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَانَ مَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنَ السُّجُودِ، وَكَانَ يَقُولُ) أَيْ: فِي جُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ (رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي) وَهَذَا إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِي النَّوَافِلِ، وَقَوْلُهُ (حَتَّى) غَايَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: لَا يَزَالُ يُطَوِّلُ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ حَتَّى (قَرَأَ) فِيهِنَّ (الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ وَالْأَنْعَامَ. شُعْبَةُ) أَيْ: مِنْ بَيْنِ الرُّوَاةِ هُوَ (الَّذِي شَكَّ فِي الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ) وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ أَوِ الْأَنْعَامِ، قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي رَكْعَةٍ لَكِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ هَلْ هُنَّ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ أُخَرَ؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي لِئَلَّا يَلْزَمَ إِطَالَةُ الثَّانِيَةِ قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ: بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَرَأَ فِيهِنَّ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ، وَالْأَنْعَامَ شَكَّ شُعْبَةُ فَيُحْمَلُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ عَلَيْهَا بِأَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ حَتَّى قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِقَرِينَةِ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قُلْتُ: رِوَايَتُهُ غَيْرُ صَرِيحَةٍ فِي الْمَقْصُودِ، وَإِنْ كَانَتْ نَصًّا فِي الْمَعْدُودِ، ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ أَوْ سُؤَالٌ سَأَلَ اللَّهَ أَوْ تَعْوِيذٌ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ قَامَ نَحْوًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَرَأَ الْمَائِدَةَ أَوِ الْأَنْعَامَ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى، أَوْ فِي ثَلَاثٍ أُخَرَ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ الْأَحْنَفِ، عَنْ صِلَةِ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ فَمَضَى، فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَتَيْنِ، فَمَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى فَافْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ، الْحَدِيثَ. قُلْتُ: تَقْدِيمُ النِّسَاءِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمُسْتَقِرُّ مِنْ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْتِيبِ السُّوَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ بِخِلَافِ تَرْتِيبِ الْآيِ ; فَإِنَّهُ قَطْعِيٌّ قَالَ مِيرَكُ: فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ صَرِيحَتَانِ فِي قِرَاءَةِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ مِيرَكُ: وَأَظُنُّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالصَّوَابُ ثُمَّ قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ ثُمَّ رَكَعَ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ التِّرْمِذِيُّ قَوْلَهُ: فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَرَأَ فِيهِنَّ الْبَقَرَةَ إِلَى آخِرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَتَكُونُ صَلَاةُ حُذَيْفَةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَتْ فِي لَيْلَتَيْنِ فِي إِحْدَاهُمَا قَرَأَ السُّوَرَ الثَّلَاثَ فِي رَكْعَةٍ، وَفِي الْأُخْرَى قَرَأَ السُّوَرَ الْأَرْبَعَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ يُقَالُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَهْمًا وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ ; فَإِنَّ فِيهِمَا التَّفْصِيلُ وَالتَّبْيِينُ حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِمَا، «فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ» حَتَّى قَالَ: «يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ» فَمَضَى إِلَى آخِرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ اتِّحَادُ الْمُخْرِجِ، وَهُوَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ لِأَجْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَالِاضْطِرَابِ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي صَحِيحِهِ أَصْلًا انْتَهَى. وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ لَكِنَّ رِوَايَةَ الشَّيْخَيْنِ: «فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ» إِلَى آخِرِهِ ظَاهِرُهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ الْكُلَّ فِي رَكْعَةٍ خَطَأٌ مِنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَمَّا أَوَّلًا، فَلِمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: «فَافْتَتَحَ» إِنَّمَا هُوَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ لَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ مَفْهُومَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ السُّوَرَ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ فِي رَكْعَةٍ لَا أَنَّهُ قَرَأَ الْكُلَّ فِي رَكْعَةٍ. (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ) قِيلَ هَذَا مَجْهُولٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي كُتُبِ الرِّجَالِ، فَلَعَلَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ الْبَصْرِيُّ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ) اسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ،

أَوْ عَلِيُّ بْنُ دُؤَادٍ بِضَمِّ الدَّالِ بَعْدَهُ وَاوٌ بِهَمْزَةٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً) أَيْ: لَيْلَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَقَرَأَ آيَةً وَاحِدَةً اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى أَصْبَحَ بِهَا يَقُومُ، وَبِهَا يَرْكَعُ وَبِهَا يَسْجُدُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: لِأَبِي ذَرٍّ أَيَّةَ آيَةٍ هِيَ فَقَالَ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَوْلُهُ بِآيَةٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَامَ أَيْ: أَحَيَى بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا، وَالْمُرَادُ قِرَاءَتُهَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِهَا يَقُومُ وَبِهَا يَرْكَعُ، وَبِهَا يَسْجُدُ ; فَإِنْ قُلْتَ لَا يُلَائِمُهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، وَكَذَا مَا وَرَدَ فِيهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِلَّا أَنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أُجِيبَ بِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ تَنْزِيهِيٌّ، أَوْ لَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى كَانَ يَرْكَعُ، وَيَسْجُدُ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْآيَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَبْنَاهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْنَاهَا بِأَنْ يَقُولَ فِيهِمَا سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَا تُعَذِّبْنَا، وَارْحَمْ أُمَّتِي، وَلَا تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَاغْفِرْ لَهُمْ ; فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِهَذَا الْحَدِيثِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ احْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُهَا فِي قِيَامِ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا اخْتَلَفَ فِي جَوَازِهِ الْعُلَمَاءُ، وَكَذَا احْتِمَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ بَلْ قَرَأَهَا خَارِجَهَا فَاسْتَمَرَّ يُكَرِّرُهَا إِلَى الْفَجْرِ، وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَامَ مِنْ قَامَ بِالْأَمْرِ أَخَذَهُ بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ ; فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَبَعْضَهَا خَارِجُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا دَاوَمَ عَلَى تَكْرِيرِ مَبَانِيهَا، وَالتَّفْكِيرِ فِي كَثْرَةِ مَعَانِيهَا لِمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَشِيَتْهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، وَحَالَةِ تِلَاوَتِهَا مِنْ هَيْبَةِ مَا ابْتُدِئَتْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ مَا أَوْجَبَ اشْتِعَالَ نَارِ خَوْفِ الْحِجَابِ، وَمِنْ حَلَاوَةِ مَا اخْتُتِمَتْ بِهِ مِنَ الْغُفْرَانِ مَا اقْتَضَى الطَّرَبَ وَالسُّرُورَ فِي الْجِنَانِ رَجَاءً لِغُرُفَاتِ الْجِنَانِ، وَلَذَّةِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِسْرَارِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعُقُوبَةَ عَلَّلَهَا بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى عِظَمِ تَجَلِّيهِ بِوَصْفِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْعَدْلِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ تَجَلِّيهِ إِذْ لَمْ يَتَصَرَّفْ إِلَّا فِي مُلْكِهِ، وَلَمْ يَحْكُمْ إِلَّا فِي مُلْكِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ رَتَّبَ عَلَيْهَا صِفَةَ الْعِزَّةِ، وَالْحِكْمَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ بَاهِرَ تَجَلِّيهِ بِوَصْفِ التَّفَضُّلِ وَالْإِنْعَامِ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، الْمُقْتَرِنِ بِالْعِزَّةِ الدَّامِغَةِ وَالْحِكْمَةِ السَّابِغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ (قَالَ: صَلَّيْتُ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ) بِالْإِضَافَةِ وَرُوِيَ بِقَطْعِهَا عَلَى الصِّفَةِ،

وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ، وَرُوِيَ بِضَمِّهَا فَقِيلَ إِلَّا أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ غَلَبَتْ فِي أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا مَا يُرَادُ ذَمُّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَّا الْمَضْمُومَةُ فَجَارٍ مَجْرَى الشَّرِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْخَيْرِ وَقَدْ قُرِئَ قِرَاءَةً مُتَوَاتِرَةً بِالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ بِإِضَافَةِ أَمْرٍ إِلَى سَوْءٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ، وَجَوَّزَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ بِالصِّفَةِ، ثُمَّ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ فَالْمَعْنَى قَصَدْتُ أَمْرًا سَيِّئًا (قِيلَ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ) أَيْ: مُصَلِّيًا (وَأَدَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَتْرُكَهُ يُصَلِّي قَائِمًا أَوْ مَعْنَى «أَقْعُدُ» أَنْ لَا أُصَلِيَ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفْعَ، وَأَتْرُكُهُ يُصَلِّي، وَكِلَاهُمَا أَمْرُ سُوءٍ فِي الْجُمْلَةِ لِظُهُورِ صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ. وَأَمَّا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ أَرْبَابِ الْوَهْمِ أَنَّ مُرَادَهُ إِبْطَالَ الصَّلَاةِ لِلْإِطَالَةِ، وَقُعُودَهُ لِلْمَلَالَةِ، فَبَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ وَلِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ عُلَمَائِنَا مِنْ أَنَّ النَّفْلَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ فِعْلِ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ عَلَى مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ مِنْ وُصُولِ مَرَامِهِ. قَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: الْقُعُودُ جَائِزٌ فِي النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فَمَا مَعْنَى السُّوءِ. قُلْتُ: سُوءٌ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْأَدَبِ، وَصُورَةِ الْمُخَالَفَةِ قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ. أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ هَمَّ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا لَا تَرْكِ الْقِيَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «وَأَدَعَ النَّبِيَّ» وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَهُوَ أَمْرٌ قَبِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ نَحْوَهُ) أَيْ: إِسْنَادًا وَحَدِيثًا. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ) أَيْ: مِنْ مَقْرُوئِهِ (قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ) أَيْ: مِقْدَارُ ثَلَاثِينَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُهُ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ أَكْثَرَ ; لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ تُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الْأَقَلِّ (أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا ذَكَرَتْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْمِينِ تَحَرُّزًا عَنِ الْكَذِبِ أَوْ إِشَارَةً إِلَى التَّنْوِيعِ ; بِأَنْ يَكُونَ تَارَةً إِذَا بَقِيَ ثَلَاثُونَ، وَتَارَةً إِذَا بَقِيَ أَرْبَعُونَ (قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْقِيَامِ، فَالْقِيَامُ مُقَدَّمٌ فِي الْحُدُوثِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَمُقَارِنٌ لَهَا فِي الْبَقَاءِ (ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) قَالَ مِيرَكُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنِ اشْتَرَطَ عَلَى مَنِ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ قَاعِدًا أَنْ يَرْكَعَ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا أَنْ يَرْكَعَ قَائِمًا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَشْهَبَ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَحُجَّتُهُمْ فِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ

رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ; بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ النَّشَاطِ، وَعَدَمِهِ وَقَدْ أَنْكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ هُوَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا أَخْرَجَهُ بْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهَا ثُمَّ قَالَ: لَا مُخَالَفَةَ عِنْدِي بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ ; لِأَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَرَأَ بَعْضَهَا جَالِسًا، وَبَعْضَهَا قَائِمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ) بِالتَّصْغِيرِ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (خَالِدٌ الْحَذَّاءُ) بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَطَوُّعِهِ) أَيْ: كَيْفِيَّتِهِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ حِينَئِذٍ ; فَإِنَّ التَّطَوُّعَ تَنَفُّلٌ مِنَ الطَّاعَةِ وَهُوَ الْتِزَامُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّعًا مِنَ النَّفْسِ (فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا) أَيْ: يُصَلِّي فِي لَيْلَةٍ صَلَاةً طَوِيلَةً حَالَ كَوْنِهِ (قَائِمًا) فَطَوِيلًا صِفَةُ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ، وَلَمَّا حَذَفَ الْمَوْصُوفَ حَذَفَ تَاءَ التَّأْنِيثِ عَنِ الصِّفَةِ (وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا) ثُمَّ مَنْ عُدِمَ الْفَهْمَ نَسَبَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى الْوَهْمِ، وَمَنْ جَعَلَ الطَّوِيلَ صِفَةَ اللَّيْلِ، وَأَرَادَ بَعْضَهُ أَيْ: زَمَنًا طَوِيلًا مِنَ اللَّيْلِ فَقَدْ أَبْعَدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا يُصَلِّيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ بَعْضُهُ أَطْوَلُ، وَبَعْضُهُ طَوِيلٌ وَبَعْدَهُ قَصِيرٌ، فَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ أَصْلًا (فَإِذَا قَرَأَ) الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ (وَهُوَ قَائِمٌ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ فِي حَالِ الْقِيَامِ (رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ) أَيْ: مُنْتَقِلٌ إِلَيْهِمَا فِي حَالِ الْقِيَامِ (وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ جَالِسٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ جَالِسٌ) مَبْنَاهُ وَمَعْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّنَفُّلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، لَكِنَّ الْقَاعِدَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ إِلَّا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخُصُوصِيَّةِ بِهِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أَيِ: الزُّهْرِيِّ (عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْمُطَّلِبِ

بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ (السَّهْمِيِّ، عَنْ حَفْصَةَ) أَيْ: بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ عَنْهَا (زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهَا أَيْضًا (قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ) بِضَمِّ سِينٍ، وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: فِي نَافِلَتِهِ (قَاعِدًا) وَسُمِّيَتِ النَّافِلَةُ سُبْحَةً لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّسْبِيحِ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ النَّافِلَةُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي فِي الْفَرِيضَةِ نَافِلَةٌ فَقِيلَ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ سُبْحَةٌ ; لِأَنَّهَا كَالتَّسْبِيحِ فِي الْفَرِيضَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي أَوَّلِهِ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سُبْحَتِهِ جَالِسًا حَتَّى إِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ فَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ جَالِسًا الْحَدِيثَ (وَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ) أَيِ: الْقَصِيرَةِ كَالْأَنْفَالِ مَثَلًا (وَيُرَتِّلُهَا) أَيْ: بِتَبْيِينِ حُرُوفِهَا، وَحَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا، وَتَمْيِيزِ مَخَارِجِهَا وَصِفَاتِهَا وَبِالتَّأَنِّي فِي مَبَانِيهَا، وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهَا، وَقِيلَ التَّرْتِيلُ أَدَاءُ الْحُرُوفِ، وَمُحَافَظَةُ الْوُقُوفِ (حَتَّى تَكُونَ) أَيْ: تَصِيرَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّرْتِيلِ (أَطْوَلَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ طَوِيلَةٍ خَالِيَةٍ عَنِ التَّرْتِيلِ كَالْأَعْرَافِ مَثَلًا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ حَتَّى تَكُونَ أَيِ: السُّورَةُ الَّتِي يُرَتِّلُهَا أَطْوَلَ مِنْ سُورَةٍ هِيَ أَطْوَلُ مِنْ تِلْكَ السُّورَةِ الْمُرَتَّلَةِ حَالَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُرَتَّلَةٍ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْأُولَى (قَالَ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ) أَيْ: عُثْمَانَ (أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ) أَيْ: أَبَا سَلَمَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ) بِالرَّفْعِ، وَالْمُرَادُ بِصَلَاتِهِ نَافِلَتُهُ (وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (جَالِسٌ) فَكَانَ تَامَّةٌ. وَقَالَ مِيرَكُ وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ: كَانَ تَامَّةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ خَبَرُهَا مَحْذُوفٌ مِثْلَ كَانَ ضَرْبِي زَيْدًا قَائِمًا، أَوِ الْوَاوُ زَائِدَةٌ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي خَبَرِ كَانَ وَجُمْلَةُ: «وَهُوَ جَالِسٌ» خَبَرُهَا، وَالرَّابِطَةُ مَحْذُوفَةٌ انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ

لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ) الْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ هُنَا التَّبَعِيَّةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَلَّاهُمَا لَا التَّجْمِيعُ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ) يُحْتَمَلُ رُجُوعُهُ لِلثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ وَلِسُنَّةِ الْمَغْرِبِ فَقَطْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَدْ أَغْرَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: لَا تُجْزِئُ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ، وَاسْتَحْسَنَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا فِي الْمَسْجِدِ، قُلْتُ: وَيُسَاعِدُهُ قَوْلُهُ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ) حَيْثُ فَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ. «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . اعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا لَكِنْ بِزِيَادَةٍ، وَلَفْظُهُ: كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَأَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْأَذَانِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبَدَا لَهُ الصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ» . (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ) قِيلَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: حَدَّثَنِي غَيْرُ حَفْصَةٍ، وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حِينَ يَطْلُعُ) بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: يَظْهَرُ (الْفَجْرُ) أَيِ: الصُّبْحُ (وَيُنَادِي الْمُنَادِي) أَيْ: يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا سُنَّتُهُ (قَالَ أَيُّوبُ أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَظُنُّهُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِنَافِعٍ ; لِأَنَّ أَيُّوبَ رَاوٍ عَنْهُ (قَالَ) أَيْ: نَافِعٌ بَعْدَ قَوْلِهِ رَكْعَتَيْنِ (خَفِيفَتَيْنِ) وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَيُسَنُّ تَخْفِيفُهُمَا وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي تَطْوِيلِهِمَا مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ عَلَى أَنَّ فِيهِ رَاوِيًا لَمْ يُسَمَّ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ: يُنْدَبُ تَطْوِيلُهُمَا وَلَوْ لِمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ قِرَاءَتِهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَرُبَّمَا يُقَالُ أَنَّهُ جَمْعٌ حَسَنٌ لِيَحْصُلَ تَدَارُكُ مَا فَاتَ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي الْأُولَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا آيَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا أَيِ: اسْعَوْا إِلَيَّ مُسْلِمُونَ) آيَةَ آلِ عِمْرَانَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أَوْ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِيهِمَا سُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ وَصَحَّ: «نِعْمَ السُّورَتَانِ تَقْرَأُ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَنَا أَنَّ قِرَاءَةَ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ أَفْضَلُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْمَلَ بِكُلِّ حَدِيثٍ، وَلَوْ مَرَّةً فَيُؤْتَى بِكُلِّ مَا وَرَدَ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي رَكْعَتَيْهِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلنَّوَوِيِّ فِي اسْتِحْبَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ

ظُلْمًا كَثِيرًا، وَظُلْمًا كَبِيرًا، فَهُوَ ظَاهِرُ الدَّفْعِ إِذَا الْوَارِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ لَا كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً، وَقَدْ رَوَى الْمُصَنِّفُ وَالنَّسَائِيُّ رِوَايَةً عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «رَمَقْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهْرًا كَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا - أَيْ: بِسُورَتِيِ الْإِخْلَاصِ - فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» ، وَمِنْ ثَمَّةَ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ بِقِرَاءَتِهِ بَعْضَ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُسِرُّ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَيُوَافِقُهُ قِيَاسُ الْإِخْفَاءِ فِي سَائِرِ السُّنَنِ النَّهَارِيَّةِ، وَاللَّيْلِيَّةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهِمَا فَيُنَافِي رِوَايَةَ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ يُصَلِّيهِمَا انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ أَنْ تُحَدِّثَهُ حَفْصَةُ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ رَمَقْتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا. وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ: «لَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» . وَلِمُسْلِمٍ: «لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا» . وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا وَاجَبَتَانِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الرَّوَاتِبِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرَهُمَا رَوَوْا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَتُسَنُّ هَذِهِ الضَّجْعَةُ بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَفَرْضِهِ لِذَلِكَ وَلِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي نَدْبِهَا لِمَنْ بِالْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ نَدْبَهَا بِالْبَيْتِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ وَجْهُ التَّخْصِيصِ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِعْلُهُ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهَا بِدْعَةٌ، وَقَوْلُ النَّخَعِيُّ: أَنَّهَا ضَجْعَةُ الشَّيْطَانِ، وَإِنْكَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهَا فَهُوَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ، قُلْتُ هَذَا مَحْمَلٌ بَعِيدٌ إِذْ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ صَاحِبُ السَّجَّادَةِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ مَعَ شِدَّةِ مُبَالَغَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِمُتَابَعَتِهِ يُسْتَبْعَدُ عَدَمُ وُصُولِ فِعْلِهِ الْمُسْتَمِرِّ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْإِنْكَارُ وَعَدُّ الْبِدْعَةِ وَالضَّجْعَةُ الْمَذْمُومَةُ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَوْ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُتَهَجِّدِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ عَائِشَةَ. لَمْ يَضْطَجِعْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُنَّةٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَدْأَبُ لَيْلَتَهُ فَيَسْتَرِيحُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ مَجْهُولًا. فَمَدْفُوعٌ ; لِأَنَّهُ وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا لَا مَعْلُومًا يَكُونُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ مَقْبُولًا، وَيُقَرِّبُهُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوِ الْوَتْرِ كَانَ يَضْطَجِعُ، وَيُنَاسِبُهُ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حِكْمَتِهَا أَنَّهَا لِلرَّاحَةِ، وَالنَّشَاطِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَدْ أَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فِي وُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ مَيْمُونِ) بِالصَّرْفِ (بْنِ مِهْرَانَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِي رَكَعَاتٍ) أَيْ: مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ (رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُمَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ) وَيُنْدَبُ الْوَصْلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْفَرْضِ لِخَبَرِ رَزِينٍ. «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ رُفِعَتْ صَلَاتُهُ فِي عِلِّيِّينَ» ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُمَا فِي الْمَسْجِدِ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِرَكْعَتَيِ الْغَدْوَةِ) أَيِ: الْفَجْرِ (وَلَمْ أَكُنْ أَرَاهُمَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَمْ أُبْصِرْهُمَا (مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهِمَا (إِلَّا فِي الْبَيْتِ) وَقَدْ يُصَلِّي غَيْرَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْبَيْتِ حِينَ أَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي النَّهَارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: وَكَانَتْ سَاعَةً لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ

الْمُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ (قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ ثِنْتَيْنِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ رَكْعَتَيْنِ (وَبَعْدَ الْعَشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ ثِنْتَيْنِ) أَيْ: رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ ضَمْرَةَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (يَقُولُ سَأَلْنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النَّهَارِ) أَيْ: عَنْ كَيْفِيَّةِ نَوَافِلِهِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا فِيهِ، وَلَمَّا فَهِمَ أَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنْهَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا لَا لِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهَا (قَالَ) أَيْ: عَاصِمٌ (فَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (إِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ ذَلِكَ) أَيْ: بِحَسْبِ الْكَيْفِيَّةِ وَالْحَالَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الدَّوَامِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَإِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْغِيبِ السَّائِلِينَ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِلْمِ هُوَ الْعَمَلُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ وَالْحَافِظُ عَنِ الْكَسَلِ. قَالَ أَيْ: عَاصِمٌ (قُلْنَا مَنْ أَطَاقَ مِنَّا ذَلِكَ صَلَّى) أَيْ: وَمَنْ لَمْ يُطِقْ مِنَّا عَلِمَ ذَلِكَ (فَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (كَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا) إِشَارَةٌ إِلَى جَانِبِ الشَّرْقِ (كَهَيْئَتِهَا مِنْ هَاهُنَا) إِشَارَةٌ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ (عِنْدَ الْعَصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) وَهَذَا هُوَ صَلَاةُ الضُّحَى فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ (وَإِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا كَهَيْئَتِهَا مِنْ هَاهُنَا عِنْدَ الظُّهْرِ صَلَّى أَرْبَعًا) قَالَ مِيرَكُ: وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَبْلَ الزَّوَالِ قَرِيبًا مِنْهُ وَتُسَمَّى صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حَيْثُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا (وَيُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ) وَكُلٌّ مِنَ الْقَبْلِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ مُؤَكَّدَةٌ لِمَا صَحَّ فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، رَوَى الشَّيْخَانِ: كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، فَلَا يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ فِيمَا إِذَا صَلَّى فِي الْبَيْتِ، وَالثَّانِي فِيمَا إِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا سُنَّةَ الظُّهْرِ فِي الْبَيْتِ وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَظُنَّ أَنَّهُ سُنَّةُ الظُّهْرِ وَهَذَا أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ يِصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُجُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: الْأَرْبَعُ كَانَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَالرَّكْعَتَانِ فِي قَلِيلِهَا قَالَ مِيرَكُ: وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا اخْتُلِفَ عَنْ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ فَقَوْلُهَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا أَيْ: فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَالَ الدَّاوُدِيُّ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَرْبَعًا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصَفَ مَا رَأَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَسِيَ ابْنُ عُمَرَ الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِ، قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالَيْنِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَرَأَى ابْنُ عُمَرَ مَا فِي الْمَسْجِدِ دُونَ مَا فِي بَيْتِهِ، وَاطَّلَعَتْ عَائِشَةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا لَفْظَةُ «كَانَ» فَيَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهِيَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ لَكِنَّ الَّذِي صَحَّحَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهَا لَا تَقْضِيهِ لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ عُرْفًا (

(باب صلاة الضحى)

وَقَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا) أَيِ: اسْتِحْبَابًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَرْبَعَ فِي نَوَافِلِ النَّهَارِ أَفْضَلُ، وَلِذَا حُمِلَ خَبَرُ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» . عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ خَبَرُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَارَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَتَارَةً يُصَلِّي اثْنَتَيْنِ، وَوَرَدَ (رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا) (يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالنَّبِيِّينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُسْلِمِينَ) أَيْ: بِالتَّشَهُّدِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى قَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ; فَإِنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ، وَذَلِكَ فِي التَّشَهُّدِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ تَعَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ لَفْظُ الْحَدِيثِ يَأْبَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالتَّسْلِيمِ فِيهِ التَّحَلُّلُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَيُسَنُّ لِلْمُسْلِمِ مِنْهَا أَنْ يَنْوِيَ بِقَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَخَلْفَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ سَلَامَ التَّحْلِيلِ إِنَّمَا يَكُونُ مَخْصُوصًا لِمَنْ حَضَرَ الْمُصَلَّى مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ أَعَمُّ مِنْهُ حَيْثُ ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَالنَّبِيِّينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَلَعَلَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مَعَ أَنَّ مَوْصُوفَهُمَا وَاحِدٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى انْقِيَادِهِمُ الْبَاطِنِيِّ وَالظَّاهِرِيِّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ النِّسْبَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْمُبَاشَرَةِ الْعَمَلِيَّةِ. (بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى) أَيْ: صَلَاةُ وَقْتِ الضُّحَى، وَهُوَ صَدْرُ النَّهَارِ حِينَ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الضُّحَى عِنْدَ مُضِيِّ رُبُعِ النَّهَارِ إِلَى الزَّوَالِ كَذَا قِيلَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الضُّحَى إِذَا خَرَجَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَآخِرُهُ قُبَيْلَ الزَّوَالِ، وَإِنَّ مَا وَقَعَ فِي أَوَائِلِهِ يُسَمَّى صَلَاةَ الْإِشْرَاقِ أَيْضًا، وَمَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِهِ يُسَمَّى صَلَاةَ الزَّوَالِ أَيْضًا، وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْتَصُّ بِصَلَاةِ الضُّحَى ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ إِضَافَةَ الصَّلَاةِ إِلَى الضُّحَى بِمَعْنَى: «فِي» كَصَلَاةِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ النَّهَارِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وَقِيلَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمُسَبِّبِ إِلَى السَّبَبِ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقِيلَ هِيَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرُ لُغَةٌ، فُوَيْقَ الضَّحِيَّةِ كَعَشِيَّةٍ، وَالضَّحْوَةُ كَطَلْحَةٍ الَّتِي هِيَ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ صَلَاةُ الضُّحَى، فَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَقِيلَ الضُّحَى مُشْتَقٌّ مِنَ الضَّحْوَةِ، وَضَحْوَةُ النَّهَارِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَعْدَهُ الضُّحَى، وَهُوَ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ الصِّحَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الضَّحِيَّةُ كَعَشِيَّةٍ: ارْتِفَاعُ النَّهَارِ، فَالْمُرَادُ بِالضُّحَى وَقْتُ الضُّحَى، وَهُوَ صَدْرُ النَّهَارِ حِينَ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ، وَتُلْقِي شُعَاعَهَا، وَقَالَ مِيرَكُ: الضُّحَى يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ فَمَنْ أَنَّثَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ جَمْعُ ضَحْوَةٍ، وَمَنْ ذَكَّرَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ عَلَى فِعْلٍ، وَهُوَ ظَرْفٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِثْلُ سَحَرٍ، يُقَالُ: لَقِيتُهُ ضُحًى، إِذَا أَرَدْتَ بِهِ ضُحَى يَوْمِكَ، وَهُوَ بِالضَّمِّ، وَالْقَصْرِ شُرُوقُهُ، وَبِهِ سُمِّيَ صَلَاةُ الضُّحَى، وَأَمَّا الضَّحَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ فَهُوَ إِذَا عَلَتِ الشَّمْسُ إِلَى رُبُعِ النَّهَارِ، فَمَا بَعْدَهُ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ)

بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى مَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ فَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ ضَمِّ الرَّاءِ لُغْزَةُ قَلَمٍ، أَوْ زَلَّةُ قَدَمٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الرِّشْكُ بِالْكَسْرِ: الْكَبِيرُ اللِّحْيَةِ، وَلَقَبُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ، أَحْسَبُ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: الرِّشْكُ بِالْفَارِسِيَّةِ: الْكَبِيرُ اللِّحْيَةِ وَلُقِّبَ بِهِ لِكِبَرِ لِحْيَتِهِ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الصَّوْمِ أَنَّ الرِّشْكَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ هُوَ الْقَسَّامُ فَقِيلَ هُوَ الَّذِي يُقَسِّمُ الدُّورَ، وَكَانَ يُقَسِّمُهَا بِمَكَّةَ قُبَيْلَ الْمَوْسِمِ بِالْمِسَاحَةِ لِيَتَصَرَّفَ الْمُلَّاكُ فِي أَمْلَاكِهِمْ فِي الْمَوْسِمِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ: دَخَلَ عَقْرَبٌ لِحْيَتَهُ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ لِكِبَرِ لِحْيَتِهِ، وَاسْتَشْكَلَ كَوْنُ مَعْرِفَتِهَا ثَلَاثًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَانًا كَثِيرَ الْعَقَارِبِ ثُمَّ رَآهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَبِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدًا رَآهَا حِينَ دَخَلَتْ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَعْلَمَ هَلْ يُحِسُّ بِهَا أَوْ لَا، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْعَقْرَبِ قَدْ يَقَعُ لِخَفِيفِ اللِّحْيَةِ، فَلَا وَجْهَ لِتَسْمِيَتِهِ لِلرِّشْكِ بِذَلِكَ لِكِبَرِ لِحْيَتِهِ، فَمُكَابَرَةٌ فَإِنَّ الْوُجُودَ قَاضٍ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ لِكَبِيرِ اللِّحْيَةِ جِدًّا عَلَى أَنَّ مُحَقَّقَ الْوُقُوعِ مُقَدَّمٌ عَلَى مُمْكِنِ الْوُقُوعِ مَعَ أَنَّ فِي وَجْهِ التَّسْمِيَةِ لَا يَلْزَمُ نَفْيُ مَا عَدَاهُ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الرِّشْكَ بِالْفَارِسِيَّةِ الْعَقْرَبُ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ أَصْلًا هَذَا، وَقَالَ شَارِحٌ: يَزِيدُ الرِّشْكُ ثِقَةٌ مُتَعَبِّدٌ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (قَالَ) أَيِ: الرِّشْكُ (سَمِعْتُ مُعَاذَةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيَّةَ (قَالَتْ قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) أَيْ: يُصَلِّي أَرْبَعًا غَالِبًا (وَيَزِيدُ) عَطْفٌ عَلَى يُصَلِّي مُقَدَّرًا بَعْدَ نَعَمْ أَيْ: وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا (مَا شَاءَ اللَّهُ) أَيْ: مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَلَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَكْعَةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَبِهِ يَنْدَفِعُ» قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ قَضِيَّةَ قَوْلِهَا: «وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ» أَنَّ لَا حَصْرَ لِلزِّيَادَةِ لَكِنْ بِاسْتِقْرَاءِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَالضَّعِيفَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى الثَّمَانِ، وَلَمْ يَرْغَبْ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَائِشَةَ تُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى، وَتَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إِلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» فَمَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعَ هُوَ الْأَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ مُوَاظَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا، وَبِهِ يَضْعُفُ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الثَّمَانِ أَفْضَلُ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ الْفَتْحِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ قَطْعًا وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَى فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ أَنْ يُصَلَّى الضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَكَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي ذَرٍّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. «ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوَّلَ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الضُّحَى، وَأَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ جَوَابَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ السُّؤَالِ وَقَعَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّهُ جَوَابٌ مَعَ زِيَادَةِ إِفَادَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى جَوَابِ سُؤَالٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمْ صَلَّى؟ عَلَى أَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا إِلَى كَمَالِ حِفْظِهَا فِي الْقَضِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى أَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . (حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنِي (مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الزِّيَادِيُّ) بِكَسْرِ الزَّايِ قَبْلَ التَّحِيَّةِ (حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ)

بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ الرَّبِيعِ الزِّيَادِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَخْلُو إِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهَا عَنْ مَقَالٍ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى سِتَّ رَكَعَاتٍ) أَيْ: بَعْضَ الْأَوْقَاتِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَوَاهُ عَنْهَا أَيْضًا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ الضُّحَى، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ قَوْلِهِ «أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ» ، وَمِنْ قَوْلِهِ: «لَقَدْ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا أَحَدٌ يُسَبِّحُهَا» ، «وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهَا» ، فَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْأَحَادِيثُ، وَبِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا أَوْ بِأَنَّ التَّجَمُّعَ لَهَا فِي نَحْوِ الْمَسْجِدِ هُوَ الْبِدْعَةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْيَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّتِهَا ; لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ لِتَضَمُّنِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى النَّافِي مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ، أَوْ أَرَادَ نَفْيَ رُؤْيَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ: «قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَا إِخَالُهُ أَيْ: لَا أَظُنُّهُ وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْيَ أَصْلِهَا ; لِأَنَّ أَحَادِيثَهَا تَكَادُ أَنْ تَكُونَ مُتَوَاتِرَةً، كَيْفَ وَقَدْ رَوَاهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا كُلُّهُمْ شَهِدُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّيهَا كَمَا بَيَّنَهُ الْحَاكِمُ، وَغَيْرُهُ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو زُرْعَةَ: وَرَدَ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: أَنَّهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنْ تُفْعَلَ فِي الْمَسْجِدِ لِحَدِيثٍ بِذَلِكَ، فَتَكُونُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي النَّوَافِلِ أَنْ تُفْعَلَ بِالْبَيْتِ، وَلَوْ فِي الْكَعْبَةِ. فَمَدْفُوعٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فِي الْمَسْجِدِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لَا يُفِيدُ كَوْنَهَا أَفْضَلَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. » أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ «. ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ بَلْ هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَكْثَرُهَا ثِنْتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً لِمَا تَقَدَّمَ وَلِخَبَرِ:» مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ «. قَالَ الْمُصَنِّفُ هُوَ غَرِيبٌ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الصِّحَّةَ، وَالْحُسْنَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ: ضَعِيفٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ لَهُ طُرُقًا تُقَوِّيهِ وَتُرَقِّيهِ إِلَى دَرَجَةِ الْحُسْنِ، وَقِيلَ: أَفْضَلُهَا ثَمَانٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرْبَعٌ ; لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِقْدَارِ مُوَاظَبَتِهِ، وَقَدْ يُفَضَّلُ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَزِيدِ فَضْلِ اتِّبَاعٍ عَلَى الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ الضُّحَى مَا يُخَالِفُ حَدِيثَ الْبَابِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُصَلِّيهَا إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، فَفِي الْأَوَّلِ أَعْنِي مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ الْإِثْبَاتُ مُطْلَقًا، وَفِي الثَّانِيَةِ نَفْيُ رُؤْيَتِهَا لِذَلِكَ مُطْلَقًا، وَفِي الثَّالِثِ تَقْيِيدُ النَّفْيِ بِغَيْرِ الْمَجِيءِ مِنْ مَغِيبِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَجَمَاعَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَدَمَ رُؤْيَتِهَا لِذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُقُوعِ، فَيُقَدَّمُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ الْإِثْبَاتُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَحَادِيثِهَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا:» مَا رَأَيْتُهُ سَبَّحَهَا «أَيْ مَا دَامَ عَلَيْهَا. وَقَوْلِهَا:» وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا «أَيْ أُدَاوِمُ عَلَيْهَا. قَالَ وَفِي قَوْلِهَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: وَأَنَّهُ كَانَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَهُ النَّاسُ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمْ» إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ، وَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ حَدِيثِ مُعَاذَةَ عَنْهَا، وَبَيْنَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْهَا يَعْنِي الْمَذْكُورِينَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُخَرَّجِينَ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا بِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مَحْمُولٌ عَلَى صَلَاتِهِ إِيَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَحَدِيثُ مُعَاذَةَ مَحْمُولٌ عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْبَيْتِ، قَالَ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُهَا الثَّالِثُ يَعْنِي حَدِيثَ: «مَا رَأَيْتُهُ سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى» الْمُخَرَّجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَأُخِذَ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ، وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفَتْ صَلَاةَ الضُّحَى الْمَعْهُودَةَ حِينَئِذٍ مِنْ هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِعَدَدٍ مَحْصُورٍ فِي وَقْتٍ مَحْصُورٍ، وَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ لَا بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ لَا يُغَيَّرُ كَمَا قَالَتْ: يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَيْ: مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَلَكِنْ لَا يَزِيدُ عَلَى اثْنَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا رُوِيَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْهَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ عَائِشَةَ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مَا رُوِيَ أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَّهَا لِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ، وَقَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْحَاوِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهَا بَعْدَ

الْفَتْحِ إِلَى أَنْ مَاتَ، يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، لَا يُقَالُ نَفْيُ أُمِّ هَانِئٍ لِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعَدَمُ، لِأَنَّا نَقُولُ يَحْتَاجُ مَنْ أَثْبَتَهُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَوْ وُجِدَ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْمُوَاظَبَةَ مَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) اسْمُهُ، وَقِيلَ: بِلَالٌ، وَقِيلَ: دَاوُدُ بْنُ بِلَالٍ (قَالَ: مَا أَخْبَرَنِي أَحَدٌ) أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى إِلَّا أُمُّ هَانِئٍ) بِالرَّفْعِ؛ فَإِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ أَحَدٌ قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ، وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ، فَلَمْ يُخْبِرْنِي أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الضُّحَى إِلَّا أُمُّ هَانِئٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ وَحَرَصْتُ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يُخْبِرُنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، فَلَمْ يُخْبِرْنِي أَحَدٌ غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَتْنِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ هَذَا هُوَ ابْنُ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهِ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَ ابْنُ مَاجَهْ فِي رِوَايَتِهِ وَقْتَ سُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: سَأَلْتُ، فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ أَنَّ أَحَدًا يُخْبِرُنِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ أُمِّ هَانِئٍ (فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ) وَفِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى عِلْمَهُ، فَلَا يُنَافِي مَا حَفِظَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي إِخْبَارُ أُمِّ هَانِئٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ) ، وَرَوَاهُ عَنْهَا كَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ، وَذَلِكَ ضُحًّى لَكِنَّهُ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ رِوَايَةَ الشَّيْخَيْنِ عَنْهَا قَالَتْ: «ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ» الْحَدِيثَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ وَيُقَالَ: فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ فِي بَيْتِي، أَوْ يُقَالُ كَانَ لَهَا بَيْتَانِ أَحَدُهُمَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَنُهُ فِيهِ وَالْآخَرُ سُكْنَاهَا، فَالْإِضَافَةُ بِاعْتِبَارِ مَالِكِيَّتِهَا أَوْ يُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، فَمَرَّةً كَانَ فِي بَيْتِهَا، وَأُخْرَى ذَهَبَتْ إِلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتِهَا فِي نَاحِيَةٍ عَنْهَا وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ فَذَهَبَتْ إِلَيْهِ وَكَانَ ذَهَابُهَا إِلَيْهِ لِشَكْوَى أَخِيهَا عَلِيٍّ إِذْ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ أَجَارَتْهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الِاغْتِسَالَ وَقَعَ فِي بَيْتِهَا. وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُرَّةَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ذَلِكَ تَكْرَارٌ مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَتَرَهُ لَمَّا اغْتَسَلَ، وَإِنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُرَّةَ عَنْهَا أَنَّ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ سَتَرَتْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِي بَيْتِهَا بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ هِيَ فِي بَيْتٍ آخَرَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ فَيَصِحُّ الْقَوْلَانِ، وَأَمَّا السَّتْرُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَتَرَهُ فِي ابْتِدَاءِ الْغُسْلِ، وَالْآخَرُ فِي أَثْنَائِهِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَسْقَلَانِيُّ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخَذَ مِنْهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَوَّلَ يَوْمٍ لِصَلَاةِ الضُّحَى اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ نُدِبَ لِعَدَمِ تَكَرُّرِ فِعْلِهِ، وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَسَبَّحَ) أَيْ: صَلَّى، مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْبَعْضِ لِاشْتِمَالِ الصَّلَاةِ عَلَى التَّسْبِيحِ، وَقَدْ يُطْلَقُ التَّسْبِيحُ عَلَى صَلَاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ: فَصَلَّى (ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ) وَلِمُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي بَيْتِهَا عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ ذَهَبَتْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَتْ فَقَالَ مَنْ هَذَا قُلْتُ أُمُّ هَانِئٍ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَالثَّمَانِي فِي الْأَصْلِ مَنْسُوبٌ إِلَى الثُّمُنِ لِأَنَّهُ الْجُزْءُ الَّذِي صَيَّرَ السَّبْعَةَ

ثَمَانِيَةً فَهُوَ ثُمُنُهَا، ثُمَّ فَتَحُوا أَوَّلَهُ لِأَنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ فِي النَّسَبِ، وَحَذَفُوا مِنْهَا إِحْدَى يَائَيِ النِّسْبَةِ، وَعَوَّضُوا مِنْهَا الْأَلِفَ، وَقَدْ يُحْذَفُ مِنْهُ الْيَاءُ، وَيُكْتَفَى بِكَسْرِ النُّونِ أَوْ يُفْتَحُ تَخْفِيفًا كَذَا حَقَّقَهُ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ، وَزَادَ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ فَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، فَسَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى مِنْ صَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ أُمَّ هَانِئٍ رَأَتْ بَقِيَّةَ الثَّمَانِ، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ صَلَّاهَا مَفْصُولَةً كَذَا إِفَادَةُ الْحَافِظِ الْعَسْقَلَانِيِّ، وَقَالَ مِيرَكُ: كَوْنُهُ مُقَوِّيًا لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَأَى الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ تَأَمَّلْ. قُلْتُ: كَلَامُ الْعَسْقَلَانِيِّ هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِلَّا فَيُنَافِي رِوَايَتَهُ عَنْهَا، فَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، تَدَبَّرْ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَلِمُسْلِمٍ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يَبْطُلُ قَوْلُ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ: حَدِيثُهَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي قَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةَ الضُّحَى، قُلْتُ بَلِ الصَّوَابُ قَوْلُ عِيَاضٍ وَمَنْ تَبِعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رِوَايَةِ الرَّاوِي أَنَّهُ - صَلَّى سُبْحَةَ الضُّحَى لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اقْتِرَانُ وَقْتِ الضُّحَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَدَ صَلَاةَ الضُّحَى وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُهُ أَيْضًا، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا تُفْعَلُ صَلَاةُ الضُّحَى إِلَّا لِسَبَبٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا صَلَّاهَا يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَجْلِ الْفَتْحِ، فَيُبْطِلُهُ مَا مَرَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ انْتَهَى. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَتْحَ لَيْسَ سَبَبًا لِهَذِهِ الصَّلَاةِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِنْشَائِهَا ثُمَّ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى سَبَبٍ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ فَضَائِلِهَا لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهَا قَالَتْ: لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: «صَلَاةُ الضُّحَى» ، وَلِمَا صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ» ، وَذَكَرَ مِنْهُنَّ الضُّحَى، وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ دَرْسَ الْحَدِيثِ بِاللَّيْلِ عَلَى الصَّلَاةِ فَأَمَرَ بِالضُّحَى بَدَلًا عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَلِهَذَا أَمَرَهُ دُونَ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ أَنْ لَا يَنَامَ إِلَّا عَلَى وَتْرٍ فَمَعَ كَمَالِ بُعْدِهِ يَرُدُّهُ أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ خَاصَّةٍ بِهِ بَلْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (مَا رَأَيْتُهُ) أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (صَلَّى صَلَاةً) أَيْ: فَرِيضَةً وَلَا نَافِلَةً (قَطُّ) أَيْ: أَبَدًا (أَخَفَّ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ) نُصِبَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِشَأْنِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَفَّفَ سَائِرَ الْأَرْكَانِ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّشَهُّدِ، وَلَمْ يُخَفِّفْ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّخْفِيفُ فِي حُصُولِ أَصْلِ طُمَأْنِينَتِهِمَا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِدَفْعِ تَوَهُّمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهَا: مَا رَأَيْتُهُ إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ، وَالسُّجُودَ فَالتَّخْصِيصُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّسَاهُلُ فِيهِمَا ثُمَّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نَدْبُ التَّخْفِيفِ فِي صَلَاةِ الضُّحَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَلِ الثَّابِتُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى الضُّحَى فَطَوَّلَ فِيهَا وَإِنَّمَا خَفَّفَ يَوْمَ الْفَتْحِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَصَدَ التَّفَرُّغَ لِمُهِمَّاتِ الْفَتْحِ لِكَثْرَةِ شُغْلِهِ بِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِثْبَاتِ سُنَّةِ الضُّحَى وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ أَقْوَامٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ قَالُوا: وَإِنَّمَا هِيَ صَلَاةُ الْفَتْحِ وَقَدْ صَلَّى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي بَعْضِ فُتُوحِهِ لِذَلِكَ، وَقِيلَ أَنَّهَا كَانَتْ قَضَاءً عَمَّا شُغِلَ عَنْهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ حِزْبِهِ فِيهَا لَكِنْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ صَلَّى سِتًّا كُفِيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمَنْ صَلَّى ثَمَانِيًا كُتِبَ مِنَ الْعَابِدِينَ، وَمَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا قُلْتُ لَكِنْ يَتَقَوَّى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ اتِّفَاقًا وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي الْبَابِ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ، وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي الرَّوْضَةِ أَفْضَلُهَا ثَمَانٍ، وَأَكْثَرُهَا عَشْرَةً، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَبِهِ جَزَمَ الْحَلِيمِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا، فَرُوِيَ عَنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ كَمْ أُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: مَا شِئْتَ وَيُؤَيِّدُهُ. مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ غَيْبَتِهِ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ ثُمَّ هَاءِ الضَّمِيرِ أَيْ: يَقْدِمُ

مِنْ غَيْبَتِهِ بِسَفَرٍ، وَسُمِّيَ السَّفَرُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْغَيْبَةَ عَنِ الْأَهْلِ، وَالْوَطَنِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: «عَنْ مَغِيبِهِ» بِكَلِمَةِ «عَنْ» بَدَلِ «مِنْ» ، فَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حَالِ غَيْبَتِهِ، وَزَمَانِ غُرْبَتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ سَفَرٍ، وَأَمَّا قَوْلُ شَارِحٍ أَنَّ قَوْلَهُ: «مَغِيبَةٍ» بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ الَّذِي فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، فَفِيهِ تَقْيِيدُ صَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلضُّحَى بِحَالِ الْمَجِيءِ مِنَ السَّفَرِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِمَّا يُحْتَاجُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. أَنَّهُ وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَقْدِمُ مِنْ سَفَرِهِ إِلَّا نَهَارًا مِنَ الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ أَوَّلَ قُدُومِهِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ، فَالْأَوْلَى فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ أَنَّ نَفْيَهَا مَحْمُولٌ عَلَى صَلَاتِهِ لِلضُّحَى فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ، فَمَا رُوِيَ عَنْهَا مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا صَلَّى سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْهَا مُقَيَّدٌ نَفْيُهَا بِالْمَسْجِدِ، فَيَنْدَفِعُ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ لِسُنِّيَّةِ صَلَاةِ الضُّحَى فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ لِلْمُسَافِرِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَقْتَ مَجِيئِهِ مِنْ سَفَرٍ، وَقُدُومِهِ فِي حَضَرٍ وَيُلَايِمُهُ أَيْضًا حَدِيثُ الْفَتْحِ حِينَئِذٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: «أُمِرْتُ بِصَلَاةِ الضُّحَى، وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِهَا» فَضَعِيفٌ. (حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ الْبَغْدَادِيُّ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَوْ بِالْمُعْجَمَةِ ثَانِيًا هُوَ الْأَفْصَحُ مِنَ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ الْمُحْتَمَلَةِ فِيهِ الْمُجَوَّزَةِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَغَيْرِهِ (حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى) أَيْ: أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِحَالِ السَّفَرِ، وَيُمْكِنُ تَقْيِيدُهَا بِهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْحَضَرِ إِنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ، فَلَا يَتَرَتَّبُ قَوْلُهُ (حَتَّى نَقُولَ) أَيْ: فِي أَنْفُسِنَا أَوْ يَقُولَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ (لَا يَدَعُهَا) أَيْ لَا يَتْرُكُهَا أَبَدًا بَعْدَ هَذِهِ الْمُوَاظَبَةِ (وَيَدَعُهَا) أَيْ: يَتْرُكُهَا أَحْيَانًا (حَتَّى نَقُولَ لَا يُصَلِّيهَا) أَيْ: لَا يَعُودُ إِلَى صَلَاتِهَا أَبَدًا لِنَسْخِهَا أَوْ لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتْرُكُهَا خَشْيَةَ تَوَهُّمِ فَرْضِيَّتِهَا أَوْ دَلَالَةِ وُجُوبِهَا أَوْ تَأْكِيدِ سُنِّيَّتِهَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ فَوَائِدِ صَلَاةِ الضُّحَى أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي تُصْبِحُ عَلَى مَفَاصِلِ الْإِنْسَانِ الثَّلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَفْصِلًا، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ: «وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى» ، وَرَوَى الْحَاكِمُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُصَلِّيَ الضُّحَى بِسُوَرٍ مِنْهَا وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالضُّحَى» ، وَمُنَاسَبَتُهَا ظَاهِرَةٌ كَالشَّمْسِ، وَالْأَنْسَبُ إِذَا صَلَّاهَا أَرْبَعًا أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِالشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَالضُّحَى، وَأَلَمْ نَشْرَحْ، وَقَدْ حَكَى الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ أَنَّهُ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعَوَامِّ أَنَّ مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثُمَّ قَطَعَهَا يَعْمَى، فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتْرُكُهَا أَصْلًا لِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِمَا قَالُوهُ أَصْلٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لِيَحْرِمَهُمُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، لَا سِيَّمَا إِجْزَاؤُهَا عَنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ، قُلْتُ: وَكَذَا اشْتُهِرَ هَذَا الْقَوْلُ بَيْنَ النِّسَاءِ فَتَوَهَّمْنَ أَنَّ تَرْكَهَا حَالَةَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مِمَّا يَقْطَعُهَا فَتَرَكْنَ مِنْ أَصْلِهَا، وَقُلْنَ: إِنَّمَا يُصَلِّي الضُّحَى الْمَرْأَةُ الْمُنْقَطِعَةُ. . (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ) بِفَتْحِ مِيمٍ فَكَسْرِ نُونٍ (عَنْ هُشَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا، وَفِي أُخْرَى حَدَّثَنَا (عُبَيْدَةُ) بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ ابْنُ مُعَتِّبٍ الضَّبِّيُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ)

أَيِ: النَّخَعِيِّ (عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنْجَابٍ) بِكَسْرِ مِيمٍ، فَسُكُونِ نُونٍ فَجِيمٍ فَأَلِفٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ (عَنْ قَرْثَعٍ) بِفَتْحِ قَافٍ وَسُكُونِ رَاءٍ فَمُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ (الضَّبِّيِّ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَمُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ (أَوْ عَنْ قَزَعَةَ) بِفَتْحِ قَافٍ وَزَاءٍ، وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ (عَنْ قَرْثَعٍ) قَالَ مِيرَكْ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالشَّكِ، وَسَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: عَنْ قَزَعَةَ عَنِ الْقَرْثَعِ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُدْمِنُ) مِنَ الْإِدْمَانِ بِمَعْنَى الْمُدَاوَمَةِ أَيْ: يُلَازِمُ (أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ) أَيْ: عِنْدَ تَحَقُّقِهِ وَبَعْدَ وُقُوعِهِ لِلنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاسْتِوَاءِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ بَعْدَ زَوَالِهَا لِيُفِيدَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلُ وَقْتِ زَوَالِهَا بِلَا تَرَاخٍ، كَأَنَّهُ عِنْدَ زَوَالِهَا، وَلِذَا تُسَمَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ صَلَاةَ الزَّوَالِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ حَيْثُ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَا سُنَّةُ الظُّهْرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ السُّنَنَ الْقَبْلِيَّةَ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي أَوَائِلِ أَوْقَاتِهَا عَلَى خِلَافٍ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَالْمُخْتَارُ التَّفْصِيلُ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحِلِّهِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا حَرَّرْنَاهُ فِيمَا قَرَّرْنَاهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ السَّائِبِ، وَكَذَا حَدِيثِ الْبَزَّارِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ تَسْتَحِبُّ الصَّلَاةَ هَذِهِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: «يُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ بِالرَّحْمَةِ، وَهِيَ صَلَاةٌ كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا آدَمُ، وَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ» ، انْتَهَى. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدْمِنُ أَيْ: تُوَاظِبُ (هَذِهِ الْأَرْبَعَ الرَّكَعَاتِ) وَفِي نُسْخَةٍ تُكْثِرُ مِنْ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ (عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَلَا) بِالْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ وَلَا (تُرْتَجُ) بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ أَيْ: لَا تُغْلَقُ (حَتَّى تُصَلَّى الظُّهْرُ) أَيْ: صَلَاةُ الظُّهْرِ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَنَّ الظُّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ فَاعِلِهِ (فَأُحِبُّ) بِالْفَاءِ دَخَلَتْ عَلَى الْمُسَبِّبِ لِأَنَّ فَتْحَ أَبْوَابِ السَّمَاءِ سَبَبٌ لِأَنْ يُحِبَّ صُعُودَ الْعَمَلِ فِيهَا فَالْمَعْنَى: أَوَدُّ وَأَتَمَنَّى (أَنْ يَصْعَدَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ أَيْ: يَطْلُعَ وَيُرْفَعَ (لِي فِي تِلْكَ السَّاعَةِ خَيْرٌ) أَيْ: عَمَلُ خَيْرٍ مِنَ النَّوَافِلِ زِيَادَةً عَلَى مَا كُتِبَ عَلَيَّ؛ لِيَدُلَّ عَلَى كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَنِهَايَةِ الرَّغْبَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِشَارِحٍ قَبْلَهُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ كَمَا ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ آخَرَ انْتَهَى. وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْ أَنَّ خَيْرًا هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى أَخْيَرَ بَلْ وَاحِدُ الْخُيُورِ (قُلْتُ أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ؟) أَيْ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وُجُوبًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا مِنْ ضَمِّ سُورَةٍ أَوْ قَدْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ (قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: هَلْ فِيهِنَّ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُنَّ مِنَ الشَّفْعَيْنِ (تَسْلِيمٌ فَاصِلٌ) أَيْ: لِلْخُرُوجِ عَنِ الصَّلَاةِ احْتِرَازًا مِنَ السَّلَامِ الَّذِي فِي التَّشَهُّدِ (قَالَ: لَا) ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعَ أَفْضَلُ فِي النَّهَارِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّتُنَا الثَّلَاثَةُ، وَإِنْ خَالَفَ الْإِمَامُ صَاحِبَاهُ فِي اللَّيْلِ. ثُمَّ فِي قَوْلِهِ لَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى سُنِّيَّةِ الْوَصْلِ فِي سُنَّةِ الزَّوَالِ، وَكَذَا سُنَّةِ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ مَعَ جَوَازِ الْفَصْلِ إِجْمَاعًا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازٍ نَحْوَ سُنَّةِ الزَّوَالِ، وَالظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةً، وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى لِتَصْرِيحِ جَوَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا الدَّالَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأُولَى ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ سُنِّيَّةِ أَرْبَعٍ مِنَ التَّرَاوِيحِ بِتَسْلِيمَةٍ ; لِأَنَّ تِلْكَ لِطَلَبِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ فَاقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى الْوَارِدِ فِيهَا بِخِلَافٍ

نَحْوَ سُنَّةِ الظُّهْرِ عَلَى أَنَّ الْوَارِدَ فِيهَا كَمَا عَلِمْتَ الْفَصْلَ، وَالْوَصْلَ. وَسَتَرَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْفَرْقِ قُلْتُ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي صَلَاةِ الزَّوَالِ عَلَى الْوَارِدِ فِيهَا الْمُؤَكِّدِ لِوَصْلِهَا بِالنَّهْيِ عَنْ فَصْلِهَا ثُمَّ يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ صَلَاةٍ نَافِلَةٍ نَهَارِيَّةٍ، وَيُحْمَلَ مَا وَرَدَ مِنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ إِنْ صَحَّ بِتَسْلِيمَتَيْنِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ قَالَ مِيرَكُ شَاهْ قَوْلُهُ قُلْتُ أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي أَيُّوبَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ قَرْثَعٍ سَأَلَ أَبَا أَيُّوبَ لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ يُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي قَدْ أَدَّيْتَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَخْ. وَفِي آخِرِهِ أَتَقْرَأُ فِيهِنَّ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: يُفْصَلُ فِيهِنَّ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ يُفْصَلُ فِيهِنَّ بِسَلَامٍ قَالَ: لَا، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يُسَمِّيَ سُنَّةَ الظُّهْرِ صَلَاةَ الضُّحَى كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَطَعَنَ طَعْنًا بَلِيغًا عَلَى قَائِلِهِ مَعَ أَنَّ عِبَارَتَهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالضُّحَى فِي عُنْوَانِ الْبَابِ أَعَمُّ مِنَ الْحَقِيقِيِّ، وَمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ. ثُمَّ مُنَاسِبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ لِعُنْوَانِ الْبَابِ الْمَوْضُوعِ لِصَلَاةِ الضُّحَى غَيْرُ ظَاهِرَةٍ بَلْ كَانَتْ مُلَائِمَةً لِلْبَابِ السَّابِقِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ أَنَّهَا لِقُرْبِهَا مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى أُدْرِجَتْ مَعَهَا، فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ جَرِّ الْجِوَارِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى تَمْتَدُّ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الصَّلَاةُ النَّافِلَةُ بَعْدَهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الظُّهْرِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ أَنَّ الضُّحَى فِي التَّرْجَمَةِ الْمُرَادُ بِهَا أَعَمُّ مِنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَجَازِ الْمُشَارَفَةِ بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ أَنْبَأَنَا) ، وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عُبَيْدَةُ) بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ: النَّخَعِيِّ (عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنْجَابٍ عَنْ قَزَعَةَ عَنِ الْقَرْثَعِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَهُ) أَيْ: مِثْلَهُ مَعْنًى لَا مَبْنًى. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ قُبَيْلَ الظُّهْرِ) أَيْ: قَبْلَ فَرْضِهِ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَرْبَعَ هِيَ سُنَّةُ الظُّهْرِ الَّتِي وَاظَبَ عَلَيْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَالِبًا وَقَدْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هِيَ سُنَّةُ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهُ (وَقَالَ أَنَّهَا) أَيْ: مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ (سَاعَةُ تُفْتَحُ) بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ مَجْهُولًا (فِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ السَّاعَةِ (أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أَيْ: لِنُزُولِ الرَّحْمَةِ، وَطُلُوعِ الطَّاعَةِ (فَأُحِبُّ) بِالْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَأُحِبُّ (أَنْ يَصْعَدَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَيُضَمُّ أَيْ: يُرْفَعَ (لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ) أَيْ: إِلَى اللَّهِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِهِ أَوْ إِلَى مَحَلِّ إِجَابَتِهِ مِنْ عِلِّيِّينَ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: فِي جَامِعِهِ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَفْظُهُ، أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَبَعْدَ الزَّوَالِ تُحْسَبُ بِمِثْلِهِنَّ فِي السَّحَرِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ تِلْكَ السَّاعَةِ ثُمَّ قَرَأَ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ أَيْ: خَاضِعُونَ صَاغِرُونَ. وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ وِرْدٌ مُسْتَقِلٌّ سَبَبُهُ انْتِصَافُ النَّهَارِ، وَزَوَالُ الشَّمْسِ ; لِأَنَّ انْتِصَافَهُ مُقَابِلٌ لِانْتِصَافِ اللَّيْلِ، وَبَعْدَ زَوَالِهَا يُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَهُوَ نَظِيرُ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقْتُ قُرْبٍ وَرَحْمَةٍ انْتَهَى. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى إِذْ لَا يُعْرَفُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُدَاوَمَةُ عَلَى سُنَّةٍ غَيْرِ سُنَّةِ الظُّهْرِ حِينَئِذٍ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِدْمَانَ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الْمُوَاظَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَعُدَّ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَلَاةَ سُنَّةِ الزَّوَالِ لَا مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَلَا مِنَ الْمُسْتَحَبَّةِ، نَعَمْ لَا مَنْعٌ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْعِبَادَةِ، لِمَنْ أَرَادَهَا مِنْ أَرْبَابِ الرِّيَاضَةِ فَمَنْ زَادَ زَادَ اللَّهُ فِي حَسَنَاتِهِ. (حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَاللَّامِ (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ) بِضَمِّ مِيمٍ، وَفَتْحِ قَافٍ وَتَشْدِيدٍ لِدَالٍ مَفْتُوحَةٍ (عَنْ مِسْعَرِ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (بْنِ كِدَامٍ) بِكَسْرٍ كَافٍ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ، فَسُكُونٍ (عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَذَكَرَ) أَيْ: عَلِيٌّ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّيهَا) أَيْ: تِلْكَ الصَّلَاةَ (عِنْدَ الزَّوَالِ)

(باب صلاة التطوع في البيت)

أَيْ: عَقِبَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا (وَيَمُدُّ فِيهَا) مِنَ الْمَدِّ بِمَعْنَى الْإِطَالَةِ أَيْ: وَيُطِيلُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ أَوْ يَزِيدُ الْقِرَاءَةَ فِيهَا يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ ; فَإِنَّهُ كَانَ يُخْفِيهَا، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ دَلِيلٌ لِاسْتِحْبَابِ طُولِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الضُّحَى اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُتَكَلَّفَ، وَيُرَادُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الزَّوَالِ صَلَاةُ الضُّحَى قَرِيبُ الزَّوَالِ فِي أَوَاخِرِ وَقْتِهَا حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ ; فَإِنَّهُ قِيلَ هُوَ أَفْضَلُ أَوْقَاتِهَا ; لِأَنَّهُ وَقْتُ غَفْلَةِ النَّاسِ وَالِاسْتِرَاحَةِ بِالْقَيْلُولَةِ وَنَحْوِهَا (بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ) الْمُرَادُ بِالتَّطَوُّعِ غَيْرُ الْفَرْضِ فَيَشْمَلُ السُّنَنَ الْمُؤَكَّدَةَ، وَالْمُسْتَحَبَّةَ وَغَيْرَهَا مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى، وَأَمْثَالِهَا. (حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) اسْمُ مَفْعُولٍ كَمَرْمِيٍّ (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُعَاوِيَةَ) وَهُوَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ ابْنِ حَكِيمِ بْنِ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَيُقَالُ الْعَنْسِيُّ بِالنُّونِ الدِّمَشْقِيُّ، وَهُوَ حَرَامُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ يَقُولُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَوَهِمَ مَنْ جَعَلَهُمَا اثْنَيْنِ وَهُوَ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْحَرَمِيُّ، وَقِيلَ الْقُرَيْشِيُّ الْأُمَوِيُّ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ) أَيِ: النَّافِلَةِ (فِي بَيْتِي وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: أَيُّهُمَا أَحَبُّ (قَالَ قَدْ تَرَى) الْخِطَابَ لِلسَّائِلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَامُّ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ (مَا أَقْرَبَ بَيْتِيَ مِنَ الْمَسْجِدِ) صِيغَةُ تَعَجُّبٍ أَتَى بِهَا فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ قَدْ تَرَى زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ وَالتَّأْكِيدِ لِفِعْلِ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلَأَنْ أُصَلِيَ) الْفَاءُ: فَصِيحَةٌ، وَأَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِصَلَاتِي (فِي بَيْتِي) أَيْ: مَعَ كَمَالِ قُرْبِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْبَعِيدِ عَنِ الْمَانِعِ (أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِيَ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: حَذَرًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعَجَبِ، وَتَحْقِيقًا لِتَصْدِيقِ الْإِيمَانِ، وَمُخَالَفَةً لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَصْدَ وَصُولِ الْبَرَكَةِ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَأَهْلِهِ وَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) أَيِ: الصَّلَاةُ (صَلَاةً مَكْتُوبَةً) أَيْ: فَرِيضَةً ; فَإِنَّ الْأَحَبَّ إِلَيَّ صَلَاتُهَا فِيهِ ; لِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصِّيَامِ جَهْرًا وَسِرًّا، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنَ الصَّحِيحِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا، وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ. اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا. وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ صَلَاةُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. مُتَّفَقٌ

(باب ما جاء في صوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

عَلَيْهِ، وَكَذَا صَلَاةُ الطَّوَافِ ; فَإِنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ إِجْمَاعًا سَوَاءً قِيلَ بِوُجُوبِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَوْ بِسُنِّيَّتِهَا كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَا سُنَّةُ التَّرَاوِيحِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ وَكَذَا قَوْلُهُ، وَبِهِ عُلِمَ أَفْضَلِيَّةُ الْبَيْتِ حَتَّى عَلَى جَوْفِ الْكَعْبَةِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي صَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) تَطَوُّعًا كَمَا قَالَ مِيرَكُ: نَظَرًا إِلَى أَكْثَرِ مَا وَرَدَ أَوْ إِلَى أَصَالَتِهِ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ أَوْ فَرْضًا، وَنَفْلًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ نَفْلًا أَوْ فَرْضًا ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ تَبَعًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَابُ مَا جَاءَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّوْمُ بِالْفَتْحِ وَالصِّيَامُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّ أَصْلَ الصِّيَامِ صِوَامٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا كَالْقِيَامِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بِتَحْتِيَّةٍ (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ (عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ كَانَ) أَيْ: أَحْيَانًا (يَصُومُ) أَيْ: صِيَامًا مُتَتَابِعًا فِي النَّفْلِ (حَتَّى نَقُولَ) أَيْ: نَحْنُ فِي أَنْفُسِنَا أَوِ الْقَوْلُ بِمَعْنَى الظَّنِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى سَائِرِ الْأَفْعَالِ أَيْ: حَتَّى نَظُنَّ (قَدْ صَامَ) أَيْ: جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَالْأَيَّامَ أَوْ دَاوَمَ عَلَى الصِّيَامِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَدْ صَامَ قَالَ مِيرَكُ: وَالرِّوَايَةُ بِالنُّونِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقِ أَيْ: تَقُولُ أَيُّهَا السَّامِعُ لَوْ أَبْصَرْتَهُ، وَيَجُوزُ بِيَاءِ الْغَائِبِ أَيْ: يَقُولُ الْقَائِلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاللَّهِ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاللَّهِ لَا يَصُومُ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ) بِالرَّفْعِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ انْتَهَى مَا كَتَبَهُ فِي الْهَامِشِ. لَكِنْ قَالَ فِي شَرْحِهِ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْفَصِيحَةُ بِنَصْبِ يَقُولُ، وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَ الرَّفْعَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَتَّى لِلْغَايَةِ يَجُوزُ رَفْعُ مَدْخُولِهَا بِحَسْبِ الدِّرَايَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الرِّوَايَةِ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ (وَيُفْطِرُ) أَيْ: وَكَانَ أَحْيَانًا يُفْطِرُ إِفْطَارًا مُتَوَالِيًا (حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ) أَيْ: كُلَّ الْإِفْطَارِ، وَأَفْطَرَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَدْ أَفْطَرَ (قَالَتْ: وَمَا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهْرًا كَامِلًا) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَتَابُعَ صَوْمِهِ كَانَ دُونَ الشَّهْرِ (مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ) أَيْ: بَعْدَ الْهِجْرَةِ (إِلَّا رَمَضَانَ) أَيْ: ; فَإِنَّهُ صَامَهُ كَامِلًا لِكَوْنِهِ فَرْضًا لَازِمًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَخْلُوَ شَهْرٌ مِنْ صَوْمِ نَفْلٍ، وَأَنْ لَا يُكْثَرَ مِنْهُ حَتَّى لَا يَمَلَّ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّطِ وَالِاقْتِصَارِ، وَقُيِّدَتْ بِابْتِدَاءِ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمْضِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَضَعُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ أَنَّ الْوَاضِعَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَافَقَ أَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ شَدِيدُ الْحَرِّ، فَسَمَّوْهُ بِذَلِكَ كَمَا سُمِّيَ الرَّبِيعَانِ لِمُوَافَقَتِهِمَا زَمَنَ الرَّبِيعِ. قُلْتُ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ رَمَضَانَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْخَرِيفِ فَلَا يَكُونُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ وَقْتَ إِلْهَامِ ذَلِكَ الِاسْمِ طَابَقَ الْمُسَمَّى، وَلَا يُعَارِضُهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ وُجُوهِ التَّسْمِيَةِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُهُ لَا مِنْ رَمَضِ الذُّنُوبِ أَيْ: أَحْرَقَهَا ; لِأَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ قَبْلَ الشَّرْعِ انْتَهَى. مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَنَّ الصَّوْمَ مِنَ الْمَشْرُوعِ الْقَدِيمِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَقَدْ نَوَّعَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: وَسُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، فَوَافَقَ رَمَضَانُ زَمَنَ الْحَرِّ، وَالرَّمَضِ أَوْ مِنْ رَمِضَ الصَّائِمُ اشْتَدَّ جَوْفُهُ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْرِقُ الذُّنُوبَ، وَرَمَضَانُ إِنْ صَحَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَغَيْرُ مُشْتَقٍّ أَوْ رَجَعَ إِلَى مَعْنَى الْغَافِرِ أَيْ يَمْحُو الذُّنُوبَ، وَيَمْحَقُهَا، وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا فِيهِ دَلِيلٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَمَضَانُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الشَّهْرِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُقَالُ رَمَضَانُ بِانْفِرَادِهِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ رَمَضَانَ بِانْفِرَادِهِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِقَيْدٍ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إِلَى الشَّهْرِ، فَلَا كَرَاهَةَ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ فَيُقَالُ صُمْنَا رَمَضَانَ وَقُمْنَا رَمَضَانَ وَرَمَضَانُ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ جَاءَ رَمَضَانُ، وَدَخَلَ رَمَضَانُ قُلْتُ فِيهِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمَجِيءِ، وَالدُّخُولِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ. إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُمَثَّلَ بِقَوْلِهِ أُحِبُّ رَمَضَانَ، وَنَحْوَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ حَاءٍ فَسُكُونِ جِيمٍ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ أَيِ: الْمُلَقَّبُ بِالطَّوِيلِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كَانَ يَصُومُ) أَيْ: أَحْيَانًا (مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ: بَعْضَ أَيَّامِهِ مُتَّصِلَةً (حَتَّى نَرَى) بِنُونِ الْجَمْعِ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَيَجُوزُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: نَظُنُّ بِالنُّونِ، وَالْيَاءِ مُتَكَلِّمًا، وَغَائِبًا انْتَهَى. فَقَوْلُهُ غَائِبًا يَحْتَمِلُ الْمَعْلُومَ وَالْمَجْهُولَ بَلْ إِطْلَاقُهُ يُؤَيَّدُ الْأَوَّلَ فَتَأَمَّلْ، وَإِمَّا حِلُّ الْمَعْنَى فَعَلَى وَفْقِ مَا سَبَقَ فِي نَقُولُ كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ قَوْلُهُ (أَنْ لَا يُرِيدَ) بِالنَّصْبِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ (أَنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالرَّفْعُ مُتَعَيَّنٌ كَمَا أَنَّ النَّصْبَ لَازِمٌ فِي قَوْلِهِ (أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ شَيْئًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَتُهُ الْآتِيَةُ (وَيُفْطِرُ) أَيْ: مِنْهُ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَعْنَى وَكَانَ يُفْطِرُ أَحْيَانًا مِنَ الشَّهْرِ إِفْطَارًا مُتَتَابِعًا (حَتَّى نَرَى) بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ (أَنَّهُ) كَذَا فِي الْأَصْلِ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ أَنْ (لَا يُرِيدُ) وَيَعْلَمُ حَالَهُ مِمَّا سَبَقَ (أَنْ يَصُومَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ (شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الصِّيَامِ أَوِ الْأَيَّامَ (وَكُنْتَ) بِالْخِطَابِ الْعَامِّ (لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا أَنْ رَأَيْتَهُ) أَيْ: إِلَّا وَقْتَ أَنْ رَأَيْتَهُ (مُصَلِّيًا وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ) بِدُونِ أَنْ خِلَافَ مَا قَبْلَهُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفٍ مُنَافٍ أَيْ: إِلَّا زَمَانُ رُؤْيَتِكَ إِيَّاهُ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا كَمَا فِي مَا قَبْلَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَّا أَنْ رَأَيْتَهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَقْتُ مَشِيئَتِكَ أَبَدًا يَكُونُ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَالنَّوْمِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ السَّابِقَيْنِ (نَائِمًا) أَيْ: أَنَّ صَلَاتَهُ، وَنَوْمَهُ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاللَّيْلِ وَلَا يُرَتِّبُ وَقْتًا

مُعَيَّنًا بَلْ بِحَسْبِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ الْقِيَامُ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ، فَإِنَّ عَائِشَةَ تُخْبِرُ عَمَّا لَهَا عَلَيْهِ إِطْلَاعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ تَقَعُ مِنْهُ غَالِبًا فِي الْبَيْتِ فَخَبَرُ أَنَسٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ مِنْ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ يَعْنِي أَنَّ حَالَهُ فِي التَّطَوُّعِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ يَخْتَلِفُ، فَكَانَ تَارَةً يَقُومُ مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ، وَتَارَةً فِي وَسَطِهِ، وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ فَكَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ قَائِمًا، فَوَافَاهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَادِفَهُ قَامَ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ هَذَا مَعْنَى الْخَبَرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَوْعِبُ اللَّيْلَ قَائِمًا، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةَ دَاوَمَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مَا اتَّخَذَهُ وَاجِبًا لَا مُطْلَقَ النَّافِلَةِ، وَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَإِلَّا فَظَاهَرُهُمَا التَّعَارُضُ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَالَ مِيرَكُ: هُوَ لَا يَشْفِي الْعَلِيلَ كَمَا تَرَى قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ إِعْمَالُ الْعَمَلِ الْمُسَمَّى بِالتَّهَجُّدِ مَثَلًا تَارَةً يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَارَةً فِي آخِرِهِ لَا يُنَافِي مُدَاوَمَةَ الْعَمَلِ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ تَارَةً يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَتَارَةً فِي آخِرِهِ لَا يُنَافِي وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ، وَدَلِيلٌ بَاهِرٌ يُشْفَى بِهِ الْعَلِيلُ وَيَصِحُّ فِيهِ التَّعْلِيلُ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: لَا فِي لَا تَشَاءُ بِمَعْنَى لَيْسَ أَوْ بِمَعْنَى لَمْ أَيْ لَسْتَ تَشَاءُ أَوْ لَمْ تَكُنْ تَشَاءُ أَيْ لَا مِنْ زَمَانٍ تَشَاءُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَلَعَلَّ هَذَا التَّرْكِيبَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْبَدَلِ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَنْ يُقَالَ أَنْ تَشَاءَ رُؤْيَتَهُ مُتَهَجِّدًا، وَإِنْ تَشَاءَ رُؤْيَتَهُ نَائِمًا رَأَيْتَهُ نَائِمًا يَعْنِي كَانَ أَمْرُهُ قَصْدًا لَا إِسْرَافَ، وَلَا تَقْصِيرَ يَنَامُ أَوَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنَامَ فِيهِ كَأَوَّلِ اللَّيْلِ، وَيُصَلِّي أَوَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ كَآخِرِ اللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا حِكَايَةُ الصَّوْمِ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ عَلَى مَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَصُومُ النَّهَارَ أَبَدًا وَلَا أُفْطِرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، أَوْ كَمَا قَالَ ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَزَادَ أَنَسٌ عَلَى السُّؤَالِ زِيَادَةَ إِفَادِةِ حَالِ الصَّلَاةِ لِاسْتِيفَاءِ الْأَحْوَالِ وَلِلدِّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ اسْتِحْضَارِهِ فِي كُلِّ مِنْوَالٍ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ) بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ، وَسُكُونِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَاسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيِّ وَاسْمُهُ إِيَاسٌ (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ) أَيْ: مِنْهُ (حَتَّى نَقُولَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ حَتَّى يَقُولُوا (مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ وَيُفْطِرُ) أَيْ: مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ حَتَّى نَقُولُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ، وَمَا صَامَ، أَيْ: لَمْ يَصُمْ (شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ) ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورُ مَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ شَهْرًا تَامًّا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَيْرَ رَمَضَانَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ مَا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ

قِيلَ سُمِّيَ شَعْبَانُ لِتَشَعُّبِهِمْ فِي طَلَبِ الْمِيَاهِ، وَالْأَوْلَى مَا قِيلَ لِتَشَعُّبِهِمْ فِي الْغَارَاتِ بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ شَهْرُ رَجَبٍ الْحَرَامُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ مَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ. قُلْتُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ صَامَ أَكْثَرَهُ ; فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ، وَبَيَانُ أَنَّ قَوْلَهَا كُلَّهُ أَيْ: غَالِبَهُ فَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ هَاهُنَا شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْتَبِرِ الْإِفْطَارَ الْقَلِيلَ مِنْهُ، وَحَكَمَتْ عَلَيْهِ بِالتَّتَابُعِ لِقِلَّتِهِ، وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ يُقَالُ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ قَامَ فُلَانٌ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ، وَلَعَلَّهُ قَدْ تَعَشَّى، وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَكَانَ ابْنَ الْمُبَارَكَ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ مَجَازٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِذَا اسْتَبْعَدَهُ الطِّيبِيُّ مُعَلِّلًا بِقَوْلِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ تَأْكِيدُ إِرَادَةِ الشُّمُولِ وَدَفْعِ التَّجَوُّزِ، فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ قَالَ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ، وَيَصُومُ بَعْضَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ وَاجِبٌ كَرَمَضَانَ فَعَلَى هَذَا مُرَادُ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِمَا مَا صَامَ شَهْرًا مَا صَامَهُ عَلَى الدَّوَامِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمَا «كُلَّهُ» أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ وَلَا يَخُصُّ بَعْضَهُ بِصِيَامٍ دُونَ بَعْضٍ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَاطَّلَعَتْ عَلَيْهِ أَمُّ سَلَمَةَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، وَجَمَعَ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ قَدْ يَسْتَكْمِلَ صَوْمَ شَعْبَانَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ فِيمَا مَرَّ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ إِنَّمَا فُرِضَ فِي الْمَدِينَةِ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي مَكَّةَ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرْدُ صَوْمٍ لَا فِي شَعْبَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ. فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَلَامُهَا أَنَّهَا رَأَتْهُ يَصُومُ شَعْبَانَ مُتَتَابِعًا فِي مَكَّةَ أَوْ بَلَغَهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، فَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: يَجْمَعُ بِأَنَّ قَوْلَهَا الثَّانِيَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهَا الْأَوَّلِ فَأَوَّلُ أَمْرِهِ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ، وَآخِرُهُ كَانَ يَصُومُ كُلَّهُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ وَقَالَ ابْنُ حَجْرٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْجَمْعِ بِهَذَا الَّذِي هُوَ عَلَى عَكْسِ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ بِمَا يُوَافِقُ التَّرْتِيبَ اللَّفْظِيَّ أَوْجَهُ أَيْ: كَانَ أَوَّلَ أَمْرِهِ يَصُومُ كُلَّهُ فَلَمَّا أَسَنَّ وَضَعُفَ صَارَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ قُلْتُ لَعَلَّ الْحَامِلَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْأَوْلَى مَنْظَرًا إِلَى التَّرَقِّي إِلَى الْمَقَامِ الْأَعْلَى لَا سِيَّمَا وَقَدْ أُكِّدَ أَمْرُ الصَّوْمِ فِي الْأُخَرِ بِفَرْضِيَّةِ رَمَضَانَ فَقَابَلَهُ بِزِيَادَةِ الْإِحْسَانِ عَلَى الْإِحْسَانِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ رِوَايَةَ النَّفْيِ مُطْلَقَةٌ، وَرِوَايَةَ الْإِثْبَاتِ مُقَيَّدَةٌ بِالرُّؤْيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُتَأَخِّرَةٌ لِدَلَالَتِهَا عَلَى كَمَالِ قُرْبِهَا، وَقُوَّةِ حِفْظِهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ: المص (هَذَا) أَيْ: هَذَا الْإِسْنَادُ الْمَذْكُورُ سَابِقًا (إِسْنَادٌ صَحِيحٌ) أَيْ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (وَهَكَذَا قَالَ) أَيْ: رَوَى ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ جَمِيعًا) أَيْ: مَعًا وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ مِيرَكُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَارَةً وَوَافَقَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو النَّضْرِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي غِيَاثٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَخَالَفَهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسَالِمُ بْنُ الْجَعْدِ فَرَوَيَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَتَعَيَّنُ هَذَا الِاحْتِمَالُ لِتَصِحَّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَتَسْلَمَا مِنَ الِاضْطِرَابِ ; فَإِنَّ أَبَا

سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ يَرْوِي مِنْ كُلٍّ مِنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، وَحَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ فِي الشَّهْرِ) أَيْ: فِي شَهْرٍ مِنَ الْأَشْهُرِ (أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ) صِفَةُ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ أَيْ: صِيَامًا أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي شَعْبَانَ) مُتَعَلِّقٌ بِصِيَامِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُرَادَ هَنَا صِيَامُ التَّطَوُّعِ، فَلَا يُشْكَلُ بِرَمَضَانَ ثُمَّ جُمْلَةُ يَصُومُ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ لَمْ أَرَ إِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، وَإِلَّا بِأَنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَهِيَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَهَا وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فَأَكْثَرُ ثَانِي مَفْعُولَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ (كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا بَلْ كَانَ يَصُومُ كُلَّهُ) أَيْ: كَانَ يَصُومُ كُلَّهُ يَعْنِي أَنَّ مَا لَا يَصُومُهُ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْقِلَّةِ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّهُ صَامَ كُلَّهُ فَكَلِمَةُ بَلْ لِلتَّرَقِّي، وَلَا يُنَافِي حِينَئِذٍ قَوْلَهَا إِلَّا قَلِيلًا وَلَا مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ مَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ أَيْضًا كُلُّهُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ بِأَنْ كَانَ هَذَا قَبْلَ قُدُومِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَحِينَئِذٍ كَانَ بَلْ إِضْرَابًا عَنْ قَوْلِهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَحِكْمَةُ الْإِضْرَابِ أَنَّ قَوْلَهَا إِلَّا قَلِيلًا رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ يَكُونُ ثُلُثَ الشَّهْرِ، فَبَيَّنَتْ بِكُلِّهِ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلًا جِدًّا بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّهُ صَامَهُ كُلَّهُ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَإِنَّمَا لَمْ يُكْمِلْهُ لِئَلَّا يُظَنُّ وُجُوبُهُ فَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى هَذَا وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ. مَا رَأَيْتُهُ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهَا لَمْ يَكُنْ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ، وَفِي آخَرَ لِلنَّسَائِيِّ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ أَوْ عَامَّةَ شَعْبَانَ، وَفِي أُخْرَى لَهُ أَيْضًا كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ صَوْمَ شَعْبَانَ أَفْضَلُ مِنْ رَجَبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَشْهُرِ الْحُرُمِ لَكِنْ يُشْكِلُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ صَوْمِ الْمُحَرَّمِ إِلَّا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ أَوْ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ عُذْرٌ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ عَنْ إِكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ مِيرَكُ: كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ انْتَهَى. وَبِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَرُبَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ صَوْمُ السُّنَّةِ فَيَصُومَ شَعْبَانَ. وَبِأَنَّهُ كَانَ يَخُصُّ شَعْبَانَ بِالصِّيَامِ تَعْظِيمًا لِرَمَضَانَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي الصَّلَوَاتِ قَبْلَ الْمَكْتُوبَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرٌ غَرِيبٌ عِنْدَ المص، وَلَوْ فِي إِسْنَادِهِ صَدَقَةٌ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ قَالَ: شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ وَبِأَنَّ صَوْمَهُ كَالتَّمَرُّنِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّوْمِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ شَعْبَانَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَصِلْهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةً، وَلَا قَضَاءً، وَلَا نَذْرًا، وَيُضْعِفْهُ عَنْ أَدَاءِ رَمَضَانَ أَوْ يُكْسِلْهُ، فَيَصُومُ الْفَرْضَ بِلَا نَشَاطٍ. وَبِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ عَلَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ، وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي، وَأَنَا صَائِمٌ. وَنَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى لَكِنْ قَالَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ كُلَّ نَفْسٍ مَيِّتَةٍ تِلْكَ السَّنَةَ، فَأُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَنِي أَجَلِي، وَأَنَا صَائِمٌ. فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَصُومُونَ فِي رَجَبٍ كَثِيرًا

لِكَوْنِهِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْمُعَظَّمِ عِنْدَهُمْ، فَنَبَّهَهُمْ بِكَثْرَةِ صِيَامِهِ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مَعَ زِيَادَةِ إِفَادَةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُرْفَعُ فِيهِ، وَالْآجَالَ تُنْسَخُ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَى أَكْثَرَ صِيَامِكَ فِي شَعْبَانَ قَالَ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُكْتَبُ فِيهِ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مَنْ يَقْبِضُ ; فَأُحِبُّ أَنْ لَا يُنْسَخَ اسْمِي إِلَّا وَأَنَا صَائِمٌ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي وَجْهِ اخْتِصَاصِ شَعْبَانَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ. رَجَبُ شَهْرُ اللَّهِ، وَشَعْبَانُ شَهْرِي، وَرَمَضَانُ شَهْرُ أُمَّتِي. عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ فَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. فَمَحَلُّ بَحْثٍ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ إِذَا جَاءَ بِطْرِيقٍ آخَرَ مَرْفُوعٌ فَالْمُحَقِّقُونَ يُرَجِّحُونَ الرَّفْعَ مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. نَعَمْ يُعَارِضُهُ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَدَبَ إِلَى الصَّوْمِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَرَجَبٌ أَحَدُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَيَّدَ بِغَيْرِ رَجَبٍ. وَكَذَا يُنَافِيهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ فِي رَجَبٍ قَالَ نَعَمْ، وَيُشَرِّفُهُ قَالَهَا ثَلَاثًا. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا لِصَوْمِ رَجَبٍ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا يَقُولُهُ إِلَّا عَنْ بَلَاغٍ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَرْجِيحٍ بِتَصْحِيحِ أَحَدِهِمَا أَوْ إِلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا إِنْ عُرِفَ تَارِيخُهُمَا. (حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ دِينَارٍ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى وَطَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (عَنْ شَيْبَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ) بِكَسْرِ زَايٍ، وَتَشْدِيدِ رَاءٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْمِشْكَاةِ مَعَ أَنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، وَغَالِبِ الْفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ (قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ) بِضَمِّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَتَشْدِيدِ رَاءٍ أَيْ: أَوَّلِهِ وَالْمُرَادُ هُنَا أَوَائِلُهُ لِقَوْلِهِ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) وَهَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ) قِيلَ مَا: كَافَّةٌ، وَقِيلَ صِلَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقِلَّةِ وَقِيلَ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: قَلَّ كَوْنُهُ مُفْطِرًا (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ

حَيْثُ ذَهَبَا إِلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ حَسَنٌ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْفِقْهِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ، وَأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ إِفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ إِلَّا أَنْ يِوَافِقَ عَادَةً لَهُ مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رُسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ إِلَى مَا بَعْدَهُ أَوْ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْوِصَالِ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ لَا يَصُومُ أَحَدُكُمُ الْمَشْعَرِ بِتَخْصِيصِ الْأُمَّةِ رَحْمَةً عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْسِكُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ كَمَا رَوَى عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ انْتَهَى. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْتَحْسَنَ، وَأَطَالَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا لَكِنَّ السُّنَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَا رَوَاهُ، وَغَيْرُهُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. قُلْتُ: عَدَمُ بُلُوغِ الْحَدِيثِ مَالِكًا، وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي اسْتِحْسَانَهُ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ أَوِ اطَّلَعَ عَلَى تَارِيخٍ دَلَّ عَلَى نُسْخَةٍ أَوْ لَمَّا تَعَارَضَ حَدِيثُ الْفِعْلِ وَالنَّهْيِ وَتَسَاقَطَا بَقِيَ أَصْلُ الصَّوْمِ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ. فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يَصُومُ غَيْرَهُ أَبَدًا الْمُوهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمٍ غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالصِّيَامِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَسْقَلَانِيِّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ فِطْرَهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ يَصُومُهَا، وَلَا يُضَادُّ ذَلِكَ كَرَاهَةَ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ. فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ أَوِ النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الضَّعْفُ لَا بِمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْقُوَّةَ كَمَا ذَكَرُوا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَفِي النَّهْيِ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ ; فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَنْ يَضُرُّهُ، وَإِلَّا فَصَوْمُهُ أَحَبُّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا مِنَ الشَّهْرِ، فَلْيَصُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَلَا يَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ; فَإِنَّهُ يَوْمُ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَذِكْرٍ، فَكَأَنَّهُ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ فِيهِ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ; فَإِنَّ سَائِرَ الطَّاعَاتِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ فِيهِ إِذَا كَانَ يُعْجِزُهُ عَنْ وَظَائِفِ الْأَذْكَارِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ لِكَوْنِهِ يَوْمَ عِيدٍ وَالْعِيدُ لَا يُصَامُ، وَقِيَاسًا عَلَى أَيَّامِ مِنَى حَيْثُ وَرَدَ أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ السَّبْتَ، وَالْأَحَدَ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُمَا يَوْمُ عِيدِ الْمُشْرِكِينَ فَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ، وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إِلَّا أَنْ يُصَامَ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَجَابَ ابْنُ جَوْزِيٍّ، وَغَيْرُهُ بِأَنَّ شَبَهَهُ بِالْعِيدِ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِوَاءَهُ مَعَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَمَنْ صَامَ مَعَهُ غَيْرُهُ انْتَفَتْ عَنْهُ صُورَةُ التَّحَرِّي بِالصَّوْمِ قَالَ: وَهَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ، وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ انْتَهَى. وَقِيلَ سَبَبُ النَّهْيِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ كَمَا خَشِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِيَامِهِمُ اللَّيْلَ فِي التَّرَاوِيحِ لِذَلِكَ وَدَفَعَ بِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِإِجَازَةِ صَوْمِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَجَازَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ: وَهُوَ كَذَلِكَ لِجَوَازِهِ بَعَدِّهِ مُنْفَرِدًا عِنْدَنَا أَوْ مُنْضَمًّا اتِّفَاقًا مَعَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَنِينَ إِلَّا بِصَوْمِهِ وَحْدَهُ ظَنًّا لِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ فِيهِ، وَلِذَا قِيلَ سَبَبُ النَّهْيِ خَوْفُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ بِحَيْثُ يُفْتَتَنُ بِهِ كَمَا أَفْتُتِنَ قَوْمٌ بِالسَّبْتِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَتَعْلِيلِيٌّ لَائِحٌ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيُّ هَذَا ضَعِيفٌ مُنْتَقَضٌ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ وَظَائِفِ الْيَوْمِ. فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ عُمُومَ الصَّوْمِ الشَّامِلِ لِلرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ وَسُكَّانِ الْبَادِيَةِ، وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ مِنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ لَيْسَ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِشُرُوطٍ فِي وُجُوبِهَا، وَصِحَّةِ أَدَائِهَا مَعَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ صَلَاةِ الظُّهْرِ الْمُؤَدَّاةِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَالْفَصْلُ بَاهِرٌ. وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ بِقَوْلِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا أَنَّهُ يَوْمُ دُعَاءٍ، وَعِبَادَةٍ مِنَ الْغُسْلِ وَالتَّكْبِيرِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَإِكْثَارِ ذِكْرِ اللَّهِ بَعْدَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَاسْتَحَبَّ الْفِطْرَ فِيهِ لِيَكُونَ أَعْوَنَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْوَظَائِفِ،، وَأَدَائِهَا بِنَشَاطٍ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَاجِّ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَإِنَّ السُّنَّةَ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ. فَفِيهِ أَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ لِمَنْ يَضْعُفُ بِالصِّيَامِ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ أَوْ أَنَّ النَّهْيَ

لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْزِيهِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ مَعَ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا زَالَتِ الْكَرَاهَةُ بِصَوْمِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لِبَقَاءِ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِفَضْلِ الصَّوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مَا يَجْبُرُ مَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ فُتُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي وَظَائِفِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ صَوْمِهِ. فَمَعَ كَمَالِ بُعْدِهِ مَرْدُودٌ بِمَا قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ أَنَّ الْجُبْرَانَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الصَّوْمِ بَلْ يَحْصُلُ بِجَمْعِ الْأَفْعَالِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ إِفْرَادِهِ لِمَنْ عَمِلَ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا يَقُومُ مَقَامَ صِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مَثَلًا، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَقَدْ أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ وَصَوْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ قَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ، وَيَكْفِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ صَوْمُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ثُمَّ اسْتِقْبَالُ كُلِّ شَهْرٍ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِحُصُولِ الْبَرَكَةِ، وَوُصُولِ النِّعْمَةِ، وَلِتَقُومَ الثَّلَاثَةُ مَقَامَ الشَّهْرِ بِاعْتِبَارِ الْمُضَاعَفَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وَكَمَا وَرَدَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَارَعَةَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَالْمُبَادِرَةَ إِلَى الطَّاعَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ ; فَإِنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٍ، فَلَا يُنَافِي حَدِيثَ عَائِشَةَ كَانَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّهِ صَامَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا أَجَابَ عَنْهُ مِيرَكُ بِقَوْلِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَجَدَ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ بِحَسْبِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ حَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَائِشَةُ اطَّلَعَتْ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ أَنَّ الْأَوْجَهَ فِي الْجَمْعِ أَنْ يُقَالَ تَارَةً كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَأُخْرَى مِنْ وَسَطِهِ وَأُخْرَى مِنْ آخِرِهِ أَوْ يُخَالِفُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بَيْنَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ لِيَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ الْأَيَّامِ وَلِلْأَيَّامِ جَمِيعًا بَرَكَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَالِاثْنَيْنَ مِنْ جُمُعَةٍ، وَالثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ مِنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى. مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِغُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ظُهُورُهُ وَطُلُوعُهُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَوْنِ صِيَامِهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ الْغُرَّةَ مِنَ الْهِلَالِ طَلْعَتُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كُلُّ مَنْ رَآهُ فَعَلَ نَوْعًا ذَكَرَهُ، وَعَائِشَةُ رَأَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَتْ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ صَامَ. (حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ) بِضَمِّ جِيمٍ، وَفَتْحِ رَاءٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى) مِنَ التَّحَرِّي هُوَ طَلَبُ الْحَرَى أَوِ الْأَحْرَى بِحَسْبِ الظَّنِّ الْغَالِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا أَيْ: كَانَ يَقْصِدُ (صَوْمَ الِاثْنَيْنِ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ أَيْ: صَوْمَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ (وَالْخَمِيسِ) وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَتُصُحِّفَ الصَّوْمُ بِالْيَوْمِ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ فَقَالَ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ، وَفِيهِ أَنَّ إِضَافَةَ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ، وَأَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنْهُمَا الِاسْمُ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ الِاثْنَيْنِ عَلَيْهِ تَارَةً مَجَازٌ ثُمَّ قَالَ أَيْ: صَوْمُهُمَا فَقُدِّرَ الْمُضَافُ بِنَاءً عَلَى وَهْمِهِ فِي رِوَايَتِهِ، وَعَلَّلَ بِقَوْلِهِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ فِيهِمَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي قَرِيبًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيِ: الْمُقَاطِعِينَ لِمَنْ يَحْرُمُ مُقَاطَعَتُهُ انْتَهَى. وَلَفْظُ الْحَدِيثِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَالَ إِنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ يَقُولُ دَعْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ فَتَخْصِيصُ الْيَوْمَيْنِ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ لِحِيَازَةِ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَضِيلَتُهُمَا مِنَ بَيْنِ الْأَيَّامِ لَا تَخْفَى عَلَى عَامَّةِ الْأَنَامِ فَيَنْبَغِي فِيهِمَا إِكْثَارُ سَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَخُصُوصُ الصِّيَامِ بِتَحَرِّيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْتَشْكَلَ اسْتِعْمَالُ الِاثْنَيْنِ بِالْيَاءِ مَعَ قَوْلِهِمَا إِنَّ الْمُثَنَّى وَمَا أُلْحِقَ بِهِ إِذَا جُعِلَ عَلَمًا وَأُعْرِبَ بِالْحَرَكَةِ يَلْزَمُهُ الْأَلِفُ كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ إِذَا جُعِلَ كَذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْوَاوُ إِلَّا مَا شَذَّ، وَاسْتَثْنَوْا مِنَ الْأَوَّلِ الْبَحْرَيْنِ ; فَإِنَّ الْأَكْثَرَ فِيهِ الْيَاءُ انْتَهَى. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاثْنَيْنِ كَالْبَحْرَيْنِ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، فَيُسْتَدَلُّ بِنُطْقِهَا بِهِ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ فِيهِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ لَفْظَ الِاثْنَيْنِ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعْرَبًا بِالْحَرَكَةِ وَالْحَرْفِ ; فَإِنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ النُّونِ أَوْ بِوُجُودِ الْيَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ لَيْسَ عَلَمًا بِانْفِرَادِهِ فَلَيْسَ كَالْبَحْرَيْنِ عَلَى مَا تُوُهِّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا، وَالْمَبْحَثُ فِي مَحِلِّهِ الْأَلْيَقِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) وَفِي نُسْخَةٍ أَبُو الْعَاصِمِ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رِفَاعَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولَ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ) أَيْ: عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ

النَّسَائِيِّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي) أَيْ: فِيهِمَا (وَأَنَا صَائِمٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ فَاعِلِ فَأُحِبُّ وَالْفَاءُ لِسَبَبِيَّةِ السَّابِقِ لِلَّاحِقِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لِصِيَامِهِ فِيهِمَا سَبَبٌ آخَرُ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ أَيْ: أَوَّلُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يُعَارِضُهُ عَرْضُهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ نُزُولِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِرَفْعِ ذَلِكَ، وَعَرْضُهُ وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ; لِأَنَّ هَذَا عَرْضٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَذَاكَ عَرْضٌ إِجْمَالِيٌّ، وَيُعْرَضُ أَيْضًا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَرْضًا تَفْصِيلِيًا، وَذَاكَ عَرْضٌ إِجْمَالِيٌّ أَيْضًا لَكِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَرْضُ أَعْمَالِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ لِأَعْمَالِ الْأُسْبُوعِ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَعْمَالِ اللَّيْلِيَّةِ أَوِ الْأَعْمَالِ النَّهَارِيَّةِ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: إِنَّ مَلَائِكَةَ الْأَعْمَالِ يَتَنَاوَبُونَ فَيُقِيمُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْخَمِيسِ فَيَعْرُجُونَ، وَفَرِيقٌ مِنَ الْخَمِيسِ إِلَى الِاثْنَيْنِ، فَيَعْرُجُونَ وَكُلَّمَا عَرَجَ فَرِيقٌ قَرَأَ مَا كُتِبَ فِي مَوْقِفِهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَرْضًا فِي الصُّورَةِ، فَلِذَا يَحْسَبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهً لِلْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَغَنِيٌّ عَنْ عَرْضِهِمْ، وَنَسْخِهِمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِاكْتِسَابِ عِبَادِهِ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَيْثَمَةَ) بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ: مِنْ أَيَّامِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِي الشَّهْرِ أَيْ: فِي شَهْرٍ مِنَ الْأَشْهُرِ (السَّبْتَ) ، وَسُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّ السَّبْتَ الْقَطْعُ وَذَلِكَ الْيَوْمُ انْقَطَعَ فِيهِ الْخَلْقُ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ابْتَدَأَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَتَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْعَالَمِ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْعِلْمِ الْمُتَأَخِّرَةُ فِي الْوُجُودِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَرَاحَ فِيهِ فَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ وَمِنْ ثَمَّةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا أَبْلَدَ مِنَ الْيَهُودِ وَكَذَا مَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُجَسِّمَةِ (وَالْأَحَدُ) ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا بَدَأَ الْخَلْقَ فِيهِ أَوْ أَوَّلُ الْأُسْبُوعِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ (وَالِاثْنَيْنِ) بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى أَنَّ إِعْرَابَهُ بِالْحَرْفِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَبَرَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ إِعْرَابَهُ بِالْحَرَكَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ أَوْ عَلَى جَعْلِ اللَّفْظِ الْمُثَنَّى عَلَمًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَأُعْرِبَ بِالْحَرَكَةِ لَا بِالْحَرْفِ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْجَمْعِ الْعَلَمِ، وَمَرَّ فِيهِ إِشْكَالٌ وَجَوَابُهُ، وَقَدْ قَالَ: الْأَشْرَفُ الْبِقَاعِيُّ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلُهَا الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، الْقِيَاسُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ الِاثْنَانِ بِالْأَلِفِ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُهَا لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جُعِلَ اللَّفْظُ الْمُثَنَّى عَلَمًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَأُعْرِبَ بِالْحَرَكَةِ (وَمِنَ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثَّلَثَاءِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ الْأَوْلَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا، وَحَذْفِ الْأَلِفِ الْأُولَى فَيَكُونُ عَلَى زِنَةِ الْعُلَمَاءِ (وَالْأَرْبِعَاءِ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِتَثْلِيثِ الْبَاءِ، وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ (وَالْخَمِيسَ) بِالنَّصْبِ فِيهِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ فِيهِ لِ «يَصُومُ» ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ: أَمَّا أَعْلَامُ الْأُسْبُوعِ كَالْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ فَمِنَ الْغَوَالِبِ فَيَلْزَمُهَا اللَّامُ وَقَدْ يُجَرَّدُ الِاثْنَيْنِ مِنَ اللَّامِ دُونَ أَخَوَاتِهِ، وَفَعَالَا إِمَّا مَصْدَرٌ كَالْبَرَاكَا بِمَعْنَى الثَّبَاتِ فِي الْحَرْبِ، وَإِمَّا اسْمٌ كَالثَّلَاثَا وَإِمَّا صِفَةٌ كَالطِّبَاقَا، وَحَكَى عَنْ بَعْضِ بَنِي أَسَدٍ فَتْحُ الْبَاءِ فِيهِ، وَالْجَمْعُ أَرْبَعَاوَاتِ وَأَفْعَلَاءِ إِمَّا مُفْرَدٌ كَأَرْبِعَاءَ، وَإِمَّا جَمْعٌ كَأَنْبِيَاءَ، وَأَفْعُلَاءُ بِضَمِّ الْعَيْنِ كَأَرْبِعَاءَ وَقَدْ يُفْتَحُ الْبَاءُ فَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ انْتَهَى. وَفِي الْمُفَضَّلِ وَقَدْ يُضَمُّ الْهَمْزَةُ، وَالْبَاءُ مَعًا، وَهُوَ غَرِيبٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ هَذَا، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ سُنِّيَّةَ صَوْمِ جَمِيعِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، فَصَامَ مِنْ شَهْرٍ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَمِنْ شَهْرٍ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصُمْ جَمِيعَ هَذِهِ

السُّنَّةِ مُتَوَالِيَةً لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ قَبْلَ هَذَا أَيْ: فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ قَلَّمَا يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا أَوْ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَسُمِّيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ تَمَّ خَلْقُ الْعَالَمِ بِخَلْقِ آدَمَ فَاجْتَمَعَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي الْوُجُودِ بِحَسْبِ الْعَالَمِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. (حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (الْمَدِينِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ الْمَدَنِيُّ وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا (عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ) أَيْ: نَفْلًا (فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ) وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صِيَامُ التَّطَوُّعِ حَتَّى لَا يُشْكَلَ بِصِيَامِ رَمَضَانَ، انْتَهَى. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ خِلَافُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى. (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) أَيِ: ابْنُ غَيْلَانَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَقَدْ مَرَّ قَرِيبًا (قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْهَا (قَالَتْ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ كَانَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَالَتْ: نَعَمْ قُلْتُ مِنْ أَيِّهِ) أَيْ: مِنْ أَيِّ شَهْرٍ يَعْنِي مِنْ أَيَّامِهِ (كَانَ يَصُومُ قَالَتْ: كَانَ لَا يُبَالِي) أَيْ: يَسْتَوِي عِنْدَهُ أَوْ كَانَ يُخَيَّرُ (مِنْ أَيِّهِ صَامَ) أَيْ: مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ أَوْ مِنْ أَيْ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ فِي أَثْنَائِهِ صَامَ، وَيُوَضِّحُهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ لَهَا مِنْ أَيِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَيِّهِ أَيِّ أَيَّامِهِ ; لِأَنَّ أَيَّ إِذَا أُضِيفَ إِلَى جَمْعٍ مَعْرُوفٍ يَكُونُ السُّؤَالُ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَأَيِّ الرِّجَالِ جَاءَ أَيْ: أَزَيْدٌ أَمْ خَالِدٌ فَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ شَارِحٍ مُضَافًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الضَّمِيرِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوَاظِبْ عَلَى ثَلَاثَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِئَلَّا يُظَنَّ تَعْيِينُهَا وُجُوبًا فَإِنَّ أَصْلَ السُّنَّةِ تَحْصُلُ بِصَوْمِ أَيِّ ثَلَاثَةٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَالْأَفْضَلُ صَوْمُ أَيَّامِ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَتَالِيَيْهِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسَنُّ صَوْمُ الثَّانِي عَشَرَ احْتِيَاطًا وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةً مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرِ، وَكَذَا ثَلَاثَةً مِنْ آخِرِهِ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ، وَتَالِيَيْهِ وَمِمَّنِ اخْتَارَ صَوْمَ أَيَّامِ الْبِيضِ كَثِيرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ فِي حَضَرٍ، وَلَا سَفَرٍ قَالَ الْقَاضِي: اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَفَسَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِأَيَّامِ الْبِيضِ، وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاخْتَارَ النَّخَعِيُّ، وَآخَرُونَ ثَلَاثَةً فِي أَوَّلِهِ مِنْهُمِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاخْتَارَتْ عَائِشَةُ وَآخَرُونَ صِيَامَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرٍ ثُمَّ الثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ مِنْ آخَرَ، وَفِي حَدِيثٍ رَفَعَهُ ابْنُ عُمَرَ أَوَّلُ اثْنَيْنِ فِي الشَّهْرِ، وَخَمِيسَانِ بَعْدَهُ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَوَّلُ خَمِيسٍ، وَالِاثْنَيْنِ بَعْدَهُ ثُمَّ الِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَالْعَاشِرُ وَالْعِشْرُونُ، وَقِيلَ أَنَّهُ صَامَ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ صَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ، وَلَعَلَّهُ مَخَافَةَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا اقْتَضَى أَصْلُهُ، وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ الْمَالِكِيُّ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَالْحَادِي وَالْعِشْرُونَ وَعِنْدِي أَنَّهُ يُعْمَلُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِقَوْلٍ، وَالْبَاقِي بِقَوْلٍ الْأَكْثَرِ الْأَشْهَرِ، وَهُوَ أَيَّامُ الْبِيضِ وَإِنْ قُدِرَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْكُلِّ فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَهُوَ أَكْمَلُ، وَأَفْضَلُ (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ: المص (يَزِيدُ الرِّشْكُ هُوَ يَزِيدُ الضُّبَعِيُّ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَبُو الْأَزْهَرِ الْبَصْرِيُّ يُعْرَفُ بِالرِّشْكِ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الشِّينِ ثِقَةٌ عَابِدٌ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ فِي صِحَاحِهِمُ (الْبَصْرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِكَسْرٍ (وَهُوَ ثِقَةٌ وَرَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ) أَيْ: مَعَ جَلَالَتِهِ (وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ: كَثِيرُونَ (مِنَ الْأَئِمَّةِ) أَيْ: أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَنُقَّادِهِمْ، وَحُذَّاقِهِمْ، فَغَرَضُ التِّرْمِذِيِّ هُنَا بَيَانُ تَوْثِيقِ يَزِيدَ لَكِنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الضُّحَى، فَكَانَ الْأَنْسَبُ إِيرَادُ مَا يَتَعَلَّقُ تَوْضِيحُهُ هُنَا لِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ، وَقَصَدَ التِّرْمِذِيُّ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيِّنُ الْحَدِيثِ،

وَذَكَرَ هَذَا هُنَا دُونَ مَا مَرَّ ; لِأَنَّ مَا رَوَاهُ هُنَا يُعَارِضُهُ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ الْغُرَّةَ وَالِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَأَيَّامَ الْبِيضِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَنَّهُ أَتَى بِتَنْصِيصِ أَيَّامِهِ، وَعَيَّنَهَا لِصَوْمِهِ، وَرُبَّمَا طَعَنَ طَاعِنٌ فِي يَزِيدَ بِهَذَا فَرَدَّهُ بِتَوْثِيقِهِ مَعَ الْإِرْشَادِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ لَا يُبَالِي بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ يَتْرُكُ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ، وَيَصُومُ غَيْرَهَا مِنْ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ فَلَمْ يَكُنْ يُلَازِمُ أَيَّامًا بِعَيْنِهَا لَا يَنْفَكَّ عَنْهَا نَظِيرُ مَا مَرَّ قَرِيبًا فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ بِالنِّسْبَةِ لِقِيَامِهِ، وَمَنَامِهِ (وَهُوَ يَزِيدُ الْقَاسِمُ) أَيِ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُ عِلْمَ الْقِسْمَةِ أَوْ كَانَ يُبَاشِرُهَا مِنْ جِهَةِ السَّلْطَنَةِ (وَيُقَالُ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (الْقَسَّامُ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ مُبَالَغَةُ الْقَاسِمِ (وَالرِّشْكُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ هُوَ الْقَسَّامُ) قَالَ مِيرَكُ: اخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَلْقِيبِ يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ بِالرِّشْكِ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ الرِّشْكَ الْقَسَّامُ بِلُغَةِ الْبَصْرَةِ يَعْنِي بِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مَاهِرًا فِي فِي قِسْمَةِ الْأَرَاضِي وَحِرَفِهَا، وَقِيلَ الرِّشْكُ: اللِّحْيَةُ الْكَثِيفَةُ لُقِّبَ بِهِ لِكَثْرَةِ لِحْيَتِهِ، وَكَثَافَتِهَا، وَقِيلَ الرِّشْكُ الْعَقْرَبُ وَلُقِّبَ بِهِ ; لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ عَقْرَبًا دَخَلَ لِحْيَتَهُ وَمَكَثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَدْرِي بِهِ لِكَثَافَةِ لِحْيَتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لُقِّبَ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ غَيُورًا فَكَانَ عَيْنَ الْغَيْرَةِ وَالرِّشْكِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. قُلْتُ: الرَّشْكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَارِسِيٌّ بِمَعْنَى الْغَيْرَةِ، وَلَعَلَّهُ عُرِّبَ وَغُيِّرَ أَوَّلُهُ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ الصِّحَاحِ هَذِهِ الْمَادَّةَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الرِّشْكُ بِالْكَسْرِ: الْكَبِيرُ اللِّحْيَةِ، وَالَّذِي يَعُدُّ عَلَى الرُّمَاةِ فِي السَّبْقِ، وَأَصْلُهُ الْقَافُ، وَلَقَبُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ أَحْسَبِ أَهْلِ زَمَانِهِ. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) وَكَذَا رَوَى عَنْهَا الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مَعَ بَعْضِ تَخَالُفٍ فِي الْمَبْنَى لَا يَحْصُلُ بِهِ تَغَيُّرٌ فِي الْمَعْنَى (قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ) بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ هُوَ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ فَاعُولَاءُ بِالْمَدِّ غَيْرُهُ، وَقَدْ أُلْحِقَ بِهِ تَاسُوعَاءُ فِي تَاسِعِ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ التَّاسِعُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِشْرِ بِالْكَسْرِ فِي أَوْرَادِ الْإِبِلِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَاشُورَاءُ مَعْدُولٌ عَنِ الْعَاشِرَةِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ ; لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْعِقْدِ، وَالْيَوْمُ مُضَافٌ إِلَيْهَا، فَإِذَا قِيلَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا بِهِ عَنِ الصِّفَةِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةِ فَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَوْصُوفِ فَخَفُّوا اللَّيْلَةَ فَسَاغَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَاشُورَاءُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الَّتِي لَمْ يُرْوَ لَهَا فِعْلٌ، وَالتَّقْدِيرُ يَوْمٌ مُدَّتُهُ عَاشُورَاءُ وَصِفَتُهُ عَاشُورَاءُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ (يَوْمًا يَصُومُهُ قُرَيْشٌ) وَهُمْ أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَقِيلَ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْرِفَةِ بِنَعْتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِذَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَيْضًا بِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَذْنَبَتْ قُرَيْشٌ ذَنْبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَظُمَ فِي صُدُورِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ صُومُوا عَاشُورَاءَ يُكَفَّرُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَعَلَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ فِي صَوْمِهِ إِلَى شَرْعِ مَنْ مَضَى كَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ فِصَامَهُ نُوحٌ شُكْرًا (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافَقَةً لَهُمْ كَمَا فِي الْحَجِّ أَوْ مُصَادَفَةً لَهُمْ بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا فِعْلُ خَيْرٍ أَوْ مُطَابَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ نَدْبًا أَوْ فَرْضًا (فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) أَيْ: فَصَارَ فَرْضًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَتْبَاعُهُ ; فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ اتِّفَاقًا. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ، فَلْيَصُمْ وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ إِلَى اللَّيْلِ. وَهَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لِحُرْمَةِ الْيَوْمِ مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ إِنَّمَا تُنَاسِبُ الْوُجُوبَ، وَقَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. اسْتُشْكِلَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ أَوْ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ ثُمَّ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْأَمْرِ بِصِيَامِهِ بَلْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَغَايَةُ مَا فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُودِ جَدِيدُ حُكْمٍ ; وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةُ حَالٍ وَجَوَابُ سُؤَالٍ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَهُ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ تَوَارُدِ الْفَرِيقَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ كَمَا اسْتَأْلَفَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِمْ، وَبِالسَّبْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِمْ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُحِبُّ فِيهِ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةَ، وَشُهِرَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ أَحَبَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ فَوَافَقَهُمْ أَوَّلًا، وَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ مِنْكُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا أَحَبَّ مُخَالَفَتَهُمْ قَالَ: فِي آخِرِ حَيَاتِهِ لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ نَقْلَ الْعَاشِرَ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَيُشْعِرُ بِهِ بَعْضُ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ، وَصُومُوا يَوْمًا بَعْدَهُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ أَدْنَاهَا أَنْ يُصَامَ وَحْدَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ مَعَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُعِلَ صَوْمُهُ فَرْضًا (كَانَ رَمَضَانُ هُوَ الْفَرِيضَةَ) يَعْنِي صَارَتِ الْفَرِيضَةُ مُنْحَصِرَةً فِي رَمَضَانَ ; فَإِنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ مَعَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ (وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نُسِخَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ بِصِيَامِهِ (فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ) أَيْ: نَدْبًا (وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ) ; فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَهُ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا شَكَّ أَنَّ قُدُومَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ، وَفُرِضَ رَمَضَانُ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعِ الْأَمْرُ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ إِلَّا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ فُوِّضَ الْأَمْرُ فِي صَوْمِهِ إِلَى رَأْيِ الْمُتَطَوِّعِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ فُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ صِيَامٌ قَبْلَ رَمَضَانَ أَوَّلًا فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الثَّانِي، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا فُرِضَ عَاشُورَاءُ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ نُسِخَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَقَالَ صَاحِبُ السِّيَرِ فُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلًا صَوْمُ عَاشُورَاءَ ثُمَّ نُسِخَ فَرِيضَتُهُ بِصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِفْطَارِ بِالْأَعْذَارِ ثُمَّ يُحَتَّمُ

عَلَيْهِمْ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَلَّ الْإِفْطَارُ إِلَى الْعِشَاءِ ثُمَّ حَلَّ إِلَى الصُّبْحِ. وَفِي الْوَسِيطِ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَاجِبًا، وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَصَامُوا لِذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ بِرَمَضَانَ وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: يَؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِصَوْمِهِ ثُمَّ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ بِالنِّدَاءِ الْعَامِّ ثُمَّ زِيَادَتُهُ بِأَمْرِ مَنْ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ ثُمَّ زِيَادَتُهُ بِأَمْرِ الْأُمَّهَاتِ أَنْ لَا يُرْضِعْنَ فِيهِ الْأَطْفَالَ، وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ عَاشُورَاءُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَا تُرِكَ اسْتِحْبَابُهُ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى أَنَّ الْمَتْرُوكَ وُجُوبُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَيْ: مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْمَتْرُوكَ تَأْكِيدُ اسْتِحْبَابِهِ، وَالْبَاقِي مُطْلَقُ اسْتِحْبَابِهِ، فَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ بَلْ تَأْكِيدُ اسْتِحْبَابِهِ بَاقٍ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ اسْتِحْبَابِ الِاتِّصَافِ بِهِ حَتَّى عَامِ وَفَاتِهِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي صَوْمِهِ وَأَنَّهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْآتِيَةَ فَأَيُّ تَأْكِيدٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ مَقْرُونٌ بِغَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَالتَّدْقِيقِ، وَنِهَايَةِ الِاتِّصَافِ بِالْإِنْصَافِ مَعَ التَّوْفِيقِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ بِمَا تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ، وَتَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ، وَلِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَصَرَفْتُ الْخَاطِرَ عَنْ فِكْرِهَا هَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِسَائِلِهِ عَنْ صَوْمِهِ إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا، فَقَالَ لَهُ هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ، وَقَالَ: نَعَمْ وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ تَاسِعُ الْمُحَرَّمِ أَخْذًا مِنْ إِطْمَاءِ الْإِبِلِ ; فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْيَوْمَ الْخَامِسَ مِنْ يَوْمِ الْوُرُودِ رَابِعًا، وَهَكَذَا فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ صَائِمًا بِكَوْنِهِ مُرِيدًا لِلصَّوْمِ لِيُطَابِقَ مَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ مِنْ تَاسِعِهِ فَأَصْبِحْ صَائِمًا إِذْ لَا يُصْبِحُ صَائِمًا بَعْدَ مَا أَصْبَحَ تَاسِعُهُ إِلَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصُومُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَهُ لِيُوَافِقَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَامَ عَاشُورَاءَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ جَاءَ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ قِيلَ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ لِمُوسَى وَعَرَفَةُ مَنْسُوبٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ وَرَدَ مَنْ وَسَعَّ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ السَّنَةَ كُلَّهَا، وَلَهُ طُرُقٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَسَانِيدُهَا كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَكِنْ إِذَا انْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَفَادَ قُوَّةً، وَصَحَّحَ الْحَافِظُ ابْنُ نَاصِرٍ بَعْضَهَا، وَأَقَرَّهُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ قَالَ: وَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَهِيَ أَصَحُّ طُرُقِهِ، فَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ فِي الْفَضَائِلِ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا مَا وَرَاءَ الصَّوْمِ وَالتَّوْسِيعِ فِي الْأُمُورِ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُورَةِ مَوْضُوعٌ، وَمُفْتَرَى وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الِاكْتِحَالَ فِيهِ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا قَتَلَةُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَكِنْ ذَكَرَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ مَنِ اكْتَحَلَ بِالْإِثْمِدِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ أَبَدًا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ) وَفِي رِوَايَةٍ هَلْ كَانَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخُصُّ) وَفِي رِوَايَةٍ يَخْتَصُّ (مِنَ الْأَيَّامِ شَيْئًا) أَيْ: بِعَمَلِ نَافِلَةٍ كَصَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ (قَالَتْ: كَانَ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: لَا كَانَ (عَمَلُهُ دِيمَةً) بِكَسْرِ الدَّالِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ، فَانْقَلَبَتْ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا ; وَإِنَّمَا جُعِلَتْ عَلَى صِيغَةِ النَّوْعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ نَوْعُ دَوَامٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنَّ الدِّيمَةَ فِي الْأَصْلِ الْمَطَرُ الَّذِي لَا رَعْدَ فِيهِ، وَلَا بَرْقَ، وَفِيهِ سُكُونٌ، وَأَقَلُّهُ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثُ النَّهَارِ، وَأَكْثَرُهُ مَا بَلَغَ مِنَ الْعُدَّةِ ثُمَّ شُبِّهَ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّا لَهُ دَوَامٌ، وَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الِاقْتِصَادِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ عَمَلُهُ دَائِمًا، وَوُقُوعُهُ فِي مَحَلِّهِ لَازِمًا قَالَ ابْنُ التِّينِ: اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ تَحَرِّي صِيَامِ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ وَأَجَابَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنَيِّرِ بِأَنَّ السَّائِلَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ; إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا أَيَّامًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ تَخْصِيصِهِ مِنَ الْأَيَّامِ بِالصِّيَامِ ; فَإِنَّمَا خُصِّصَ لِأَمْرٍ لَا يُشَارِكُهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ كَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ، وَالْأَيَّامِ الْبِيضِ، وَجَمِيعِ مَا عُيِّنَ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمٍ لِكَوْنِهِ مَثَلًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ صَوْمُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِمَا أَحَادِيثُ، وَكَأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، فَلِهَذَا أَبْقَى التَّرْجَمَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ ; فَإِنْ ثَبَتَ فِيهِمَا مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصًا اسْتُثْنِيَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ لَا قُلْتُ وَرَدَ فِي صِيَامِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْجُرَشِيِّ عَنْهَا، وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

كَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَحَدِيثُ أُسَامَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، فَعَلَى هَذَا فَالْجَوَابُ عَلَى الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ الْمُرَادَ الْأَيَّامُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَكَانَ لِمَا سُمِعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَغِبَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ أَيَّامَ الْبِيضِ سَأَلَ عَائِشَةَ هَلْ كَانَ يَخُصُّهُ بِالْبِيضِ فَقَالَتْ: لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً يَعْنِي لَوْ جَعَلَهَا الْبِيضَ لَتَعَيَّنَتْ، وَدَاوَمَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ دَائِمًا لَكِنْ أَرَادَ التَّوْسِعَةَ لِعَدَمِ تَعْيِينِهَا فَكَانَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِ الشَّهْرِ صَامَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا كَانَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَا يُبَالِي مِنْ أَيِ الشَّهْرِ صَامَ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ الْبَابِ وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي صِيَامِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَحَدِيثَ كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَيْنَهَا تَعَارُضًا، وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ بِفَضْلِهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ شَارِحٌ: فَإِنْ قِيلَ الْجَوَابُ فِي مُقَابَلَةِ السَّائِلِ إِمَّا نَعَمْ أَوْ لَا قُلْنَا هَذَا جَوَابٌ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَعَنْ سُؤَالٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ لِأَنَّ دَوَامَ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ الْبِيضِ، وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمِ الْخَمِيسِ بِالصَّوْمِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِصَاصَهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِالصَّوْمِ مَعَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ (وَأَيُّكُمْ) جَزَمَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلشَّارِحِ أَنَّ الْخِطَابَ لِلصَّحَابَةِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ يُفْهَمُ بِالْأَوْلَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ السَّائِلَ مِنْ جُمْلَةِ التَّابِعِينَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى وَأَيُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِكُمْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ أَوِ الْأَئِمَّةُ (يُطِيقُ مَا) أَيِ: الْعَمَلَ الَّذِي (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطِيقُ) أَيْ: يُطِيقُهُ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا أَوْ نَحْوَهُمَا، أَوْ أَيُّكُمْ يُطِيقُ فِي الْعِبَادَةِ كَمِّيَّةً أَوْ كَيْفِيَّةً مِنْ خُشُوعٍ وَخُضُوعٍ وَإِخْلَاصٍ وَحُضُورٍ مَا كَانَ يُطِيقُهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ، وَالْمُوَاظَبَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ إِدَامَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِبَادَةَ وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَى وَظَائِفِهَا وَيُعَارِضُهُ مَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا مِمَّا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُدَاوَمَةِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ جَمِيعًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ قَوْلَهَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً مَعْنَاهُ أَنَّ اخْتِلَافَ حَالِهِ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّوْمِ ثُمَّ مِنَ الْفِطْرِ كَانَ مُسْتَمِرًّا مُسْتَدَامًا أَوْ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَظِّفُ عَلَى نَفْسِهِ الْعِبَادَةَ فَرُبَّمَا يَشْغَلُهُ عَنْ بَعْضِهَا شَاغِلٌ، فَيَقْضِيهَا عَلَى التَّوَالِي فَيَشْتَبِهُ الْحَالَ عَلَى مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَقَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً مُنَزَّلٌ عَلَى التَّوْظِيفِ، وَقَوْلُهَا كُنْتَ لَا تَشَاءُ تَرَاهُ صَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ صَائِمًا مُنَزَّلٌ عَلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْصِدُ ابْتِدَاءً إِلَى يَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَيَصُومَهُ بَلْ إِذَا صَامَ يَوْمًا بِعَيْنِهِ كَالْخَمِيسِ مَثَلًا دَاوَمَ عَلَى صَوْمِهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالدَّوَامِ الْغَالِبُ لَا التَّمَامُ أَوْ كَانَ يُدَاوِمُ إِذَا لَمْ يَخَفِ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْأُمَّةِ بِالْمُتَابَعَةِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْوُجُوبِ أَوْ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ أَوْ لَمْ يَحْدُثْ أَمْرٌ أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ إِلَى آخِرِهِ ; لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الشَّرِيعَةِ صَعْبَةٌ جِدًّا، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يُنْكَرُ تَرْكُ الْأَوْرَادِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا يُنْكَرُ الْفَرَائِضُ، وَلِذَا قِيلَ تَارِكُ الْوِرْدِ مَلْعُونٌ انْتَهَى، وَاسْتِغْرَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ لَا يَخْفَى. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ

عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدِي امْرَأَةٌ) زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامٍ حَسَنَةُ الْهَيْئَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ أَنَّهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا الْحَوْلَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، وَهُوَ اسْمُهَا بَنَتُ تُوَيْتٍ بِمُثَنَّاتَيْنِ مُصَغَّرًا ابْنِ حَبِيبٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ابْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ رَهْطِ خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ قُلْتُ: فُلَانَةُ) كِنَايَةٌ عَنْ كُلِّ عَلَمٍ مُؤَنَّثٍ فَهِيَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَقَالَ الرَّضِيُّ: يُكَنَّى بِفُلَانٍ وَفُلَانَةَ عَنْ أَعْلَامِ الْأَنَاسِيِّ خَاصَّةً، فَيُجْرَيَانِ مَجْرَى الْمُكَنَّى عَنْهُ فَيَكُونَانِ كَالْعَلَمِ فَلَا يَدْخُلُهُمَا اللَّامُ، وَيَمْتَنِعُ صَرْفُ فُلَانَةَ وَلَا يَجُوزُ تَنْكِيرُ فُلَانٍ فَلَا يُقَالُ جَاءَنِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ آخَرُ (لَا تَنَامُ اللَّيْلَ) أَيْ: تَسْهَرُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صَلَاةٍ وَذِكْرٍ وَتِلَاوَةٍ وَنَحْوِهَا قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الْحَوْلَاءَ مَرَّتْ بِهِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا دَخَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا قَامَتْ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ وَلَفْظُهُ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَلَمَّا قَامَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ هَذِهِ يَا عَائِشَةُ فَقُلْتُ هَذِهِ فُلَانَةُ، وَهِيَ أَعْبَدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا قَامَتْ لِتَخْرُجَ فَمَرَّتْ بِهِ فِي حَالِ ذَهَابِهَا فَسَأَلَ عَنْهَا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهَا مَدَحَتْهَا فِي وَجْهِهَا، وَفِي مُسْنَدِ الْحَسَنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَمَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ، فَيُحْمَلُ رِوَايَةُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْكُمْ) أَيِ: الْزَمُوا، عَبَّرَ بِقَوْلِهِ عَلَيْكُمْ مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلنِّسَاءِ إِيمَاءٌ لِتَعْمِيمِ الْحُكْمِ بِتَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَالْمَعْنَى اشْتَغِلُوا (مِنَ الْأَعْمَالِ) أَيْ: مِنَ النَّوَافِلِ (مَا تُطِيقُونَ) أَيِ: الْعَمَلَ الَّذِي تُطِيقُونَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَفِي نُسْخَةٍ مِمَّا تُطِيقُونَهُ فَمُتَطَوِّقُهُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالِاقْتِصَادِ وَالِاخْتِصَارِ عَلَى مَا يُطَاقُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَلِذَا قِيلَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ كُلِّهِ وَقَدْ أَخَذَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا: يُكْرَهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ كُلِّهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَاصًّا بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: سَبَبُ وُرُودِهِ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ، وَلَكِنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ قَالَ مِيرَكُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ وَالَّذِي بَعْدَهُ بِعُنْوَانِ الْبَابِ انْتَهَى، وَسَيَأْتِي لَهُ تَحْقِيقٌ آخَرُ. (فَوَاللَّهِ) فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ (لَا يَمَلُّ) وَفِي أُخْرَى لَا يَمَلُّ اللَّهُ (حَتَّى تَمَلُّوا) بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَسْأَمُ حَتَّى تَسْأَمُوا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لَا يَقْطَعُ عَنْكُمْ فَضْلَهُ حَتَّى تَمَلُّوا عَنْ سُؤَالِهِ، فَتَزْهَدُوا فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِسْنَادُ الْمَلَالِ إِلَى ذِي الْجَلَالِ عَلَى تَزْيِينِ الْمُشَاكَلَةِ وَتَحْسِينِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِلَّا فَالْمَلَالُ اسْتِثْقَالُ الشَّيْءِ، وَنُفُورُ النَّفْسِ عَنْهُ بَعْدَ مَحَبَّتِهِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مُحَالٌ، وَقَدْ صَرَّحَ التُّورِبِشْتِيُّ بِأَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَمَّنْ قُطِعَ عَنِ الْعَمَلِ مَلَالًا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَلَالِ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ، وَهَذَا أَثْبَتُ الْأَقْوَالِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمَلَالُ فُتُورٌ يَلْحَقُ بِالنَّفْسِ مِنْ كَثْرَةِ مُزَاوَلَةِ الشَّيْءِ فَيُوجِبُ الْكَلَالَ فِي الْفِعْلِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ ; وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ مَنْ يَتَغَيَّرُ، فَالْمُرَادُ هُنَا بِالْمَلَالِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْرِضُ عَنْكُمْ إِعْرَاضَ الْمَلُولِ، وَلَا يَنْقُصُ ثَوَابَ أَعْمَالِكُمْ مَا بَقِيَ فِيكُمْ نَشَاطٌ وَأَرْيَحِيَّتُهُ فَإِذَا فَتَرْتُمْ فَاقْعُدُوا فَإِنَّكُمْ إِذَا أَتَيْتُمْ بِالْعِبَادَةِ عَلَى

وَجْهِ الْفُتُورِ وَالْمَلَالِ كَانَ مُعَامَلَةُ اللَّهِ فِيكُمْ مُعَامَلَةَ الْمَلُولِ عَنْكُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَمَلُّ اللَّهُ وَتَمَلُّونَ، فَحَتَّى بِمَعْنَى الْوَاوِ فَنَفَى عَنْهُ الْمَلَلَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ وُجُودَهُ وَتَحَقُّقَهُ، وَتَوْضِيحَهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى هَاهُنَا لَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا بَلْ مَعْنَاهُ لَا يَمَلُّ اللَّهُ أَبَدًا، وَإِنْ مَلِلْتُمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيغِ لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى لَا تَنْقَطِعَ خُصُومُهُ أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ انْقِطَاعِ خُصُومِهِ بَلْ يَكُونُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ حِينَ يَنْقَطِعُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ، وَقِيلَ حَتَّى بِمَعْنَى حِينَ أَيْ: لَا يَمَلُّ إِذَا مَلِلْتُمْ ; لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَلَلِ، وَلَيْسَ كَمَا فَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَوَهِمَ بِقَوْلِهِ إِذْ لَوْ مَلَّ حِينَ مَلُّوا لَمْ يُمَكِّنْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ، وَفَضْلٌ ثُمَّ قَالَ: وَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ اللَّفْظَ أَصْلًا، وَالْمَزِيَّةُ وَالْفَضْلُ عَلَيْهِمْ وَاضِحَانِ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ لَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَفْظُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. (وَكَانَ أَحَبُّ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) رُوِيَ أَحَبُّ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَكَذَا بِالنُّسَخِ بِالْوَجْهَيْنِ لَكِنْ فِي الْأَصْلِ الْأَصِيلِ بِالنَّصْبِ فَقَطْ فَمَحَلُّ قَوْلِهِ (الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ) مَرْفُوعٌ أَوْ مَنْصُوبٌ، وَالْمَعْنَى مَا يُوَاظِبُ عَلَيْهِ مُوَاظَبَةً عُرْفِيَّةً، وَإِلَّا فَالْمُدَاوَمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ مَقْدِرَةٌ. قَالَ شَارِحٌ: وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ، وَرَأْفَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمَّتِهِ ; لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُهُمُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّةٍ وَضَرَرٍ، وَتَكُونُ النَّفْسُ أَنْشَطَ وَالْقَلْبُ أَشْرَحَ فَتُثْمِرُ الْعِبَادَةُ بِخِلَافِ مَنْ تَعَاطَى مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَشُقُّ ; فَإِنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَتْرُكَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ يَفْعَلَهُ بِكُلْفَةٍ أَوْ بِغَيْرِ انْشِرَاحِ الْقَلْبِ، فَيَفُوتُهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اعْتَادَ عِبَادَةً ثُمَّ فَرَّطَ بِقَوْلِهِ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. (حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ شُكْرًا وَفِي نُسْخَةٍ الْفُضَيْلُ مُعَرَّفًا (عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ وَنَصْبِ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ سُئِلَتْ عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ لِلْغَائِبَةِ وَرُفِعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى النِّيَابَةِ (أَيُّ الْعَمَلِ) أَيْ: أَيُّ أَنْوَاعِهِ (كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتَا مَا دِيمَ عَلَيْهِ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: مَا وُوظِبَ وَدُووِمَ عَلَيْهِ (وَإِنْ قَلَّ) أَيْ: وَلَوْ قَلَّ الْعَمَلُ ; فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يَنْقَطِعُ إِذْ بِدَوَامِ الْقَلِيلِ يَدُومُ الذِّكْرُ وَالطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمُرَاقَبَةُ، وَهَذِهِ ثَمَرَاتٌ تَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، قَالَ الْمُظْهِرُ: لِهَذَا الْحَدِيثِ يُنْكِرُ أَهْلُ التَّصَوُّفِ تَرْكَ الْأَوْرَادِ كَمَا يُنْكِرُونَ تَرْكَ الْفَرَائِضِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ بَحْثٌ ثُمَّ قِيلَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرُ حَدِيثِ الْمَرْأَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَمَا قَبْلَهُ، وَمَا بَعْدَهُ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ إِذْ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِصَوْمٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوْمِ فِيهِ مُنَاسِبَةٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ كَثِيرًا يُدَاوِمُونَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ فِيهِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ مُوجَبِ الْمَلَالِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَاصِمَ بْنَ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً) أَيْ: لَيْلَةً عَظِيمَةً كَأَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (فَاسْتَاكَ) أَيِ: اسْتَعْمَلَ السِّوَاكَ (ثُمَّ تَوَضَّأَ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَاكُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْوُضُوءِ، وَقِيلَ يَسْتَاكُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمَضْمَضَةِ (

(باب ما جاء في قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) أَيْ: مُرِيدًا لِلصَّلَاةِ أَوْ نَاوِيًا لَهَا (فَقُمْتُ مَعَهُ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاقْتِدَاءِ فِي النَّفْلِ (فَبَدَأَ) أَيْ: شَرَعَ فِيهَا بِالنِّيَّةِ أَوْ بِتَكْبِيرِ التَّحْرِيمَةِ (فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ) أَيْ: بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوِ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْبَقَرَةِ عَنْهَا ; لِأَنَّهَا فَاتِحَتُهَا (فَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ) أَيْ: عَنِ الْقِرَاءَةِ (فَسَأَلَ) أَيِ: الرَّحْمَةَ (وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْقَارِئِ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ تَنْزِيهٍ نَحْوِ «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» سَبَّحَ، وَفِي نَحْوِ قَوْلِهِ «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ» قَالَ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَوْ بِنَحْوِ «وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَعَلَّ هَذَا وَقَعَ فِي أَوَائِلِ الْحَالِ أَوْ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ كُلٌّ مِنَ النُّسَخِ وَالْخَصَائِصِ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا بَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ جَوَازِ مِثْلِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا وَرَدَ مِنَ النَّوَافِلِ إِذْ مِثْلُهُ مَا صَدَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ (ثُمَّ رَكَعَ) عَطْفٌ عَلَى اسْتَفْتَحَ لَكِنْ لِطُولِ قِرَاءَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَرَاخِي الرُّكُوعِ عَنْ أَوَّلِهَا قَالَ ثُمَّ رَكَعَ (فَمَكَثَ) هَكَذَا فِي الْأَصْلِ بِفَتْحِ الْكَافِ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَمِّهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَيَجُوزُ الضَّمُّ هُنَا أَيْضًا، وَالْمَعْنَى فَلَبِثَ (رَاكِعًا) أَيْ: مَكْثًا طَوِيلًا (بِقَدْرِ قِيَامِهِ) بِطُولِ قِرَاءَتِهِ الْبَقَرَةَ (وَيَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ) أَيِ: الْمَلِكِ الظَّاهِرِ فِيهِ الْقَهْرُ (وَالْمَلَكُوتِ) أَيِ: الْمَلِكِ الظَّاهِرِ فِيهِ اللُّطْفُ، وَالْمَعْنَى بِهِمَا مُتَصَرَّفُ أَحْوَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ (وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ) أَيْ: صَاحِبُهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا قَصَمْتُهُ أَيْ: أَهْلَكْتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِبْرِيَاءَ إِشَارَةٌ إِلَى الذَّاتِ الْمَنْعُوتِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْعَظَمَةِ إِلَى الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ (ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ رُكُوعِهِ، وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ) قِيلَ فَعَلُوتُ مِنَ الْجَبْرِ وَالْمُلْكِ لِلْمُبَالَغَةِ (وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ) أَيْ: بَعْدَ تَمَامِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالْقِيَامِ لِلثَّانِيَةِ (ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ ثُمَّ سُورَةً سُورَةً) أَيْ: ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً فِي الثَّالِثَةِ، وَأُخْرَى فِي الرَّابِعَةِ فَفِيهِ حَذْفُ حَرْفِ الْعَطْفِ بِقَرِينَةِ مَا مَرَّ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مِنْ أَنَّهُ قَرَأَ النِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ فَزَعَمَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ عُدُولٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ثُمَّ قَرَأَ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً سُورَةً أَيْ: قِيَامُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ فَصَاعِدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهِ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَوْفَقُ بِظَاهِرِ هَذَا السِّيَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْ أَدَائِهَا سُورَةً فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَفِي إِطَالَةِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَدْعِيَةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ شَفْعَيْنِ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِعُنْوَانِ هَذَا الْبَابِ، وَحَكَى أَنَّهُ وَقَعَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَقِبَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَأَظُنُّ أَنَّ إِيرَادَهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَعَ مِنْ تَصَرُّفِ النُّسَّاخِ وَالْكُتَّابِ، وَقِيلَ لَمْ يَكُنْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ لَفْظُ بَابِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَلَا بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَلَا بَابِ الصَّوْمِ بَلْ وَقَعَ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ فِي ذَيْلِ بَابِ الْعِبَادَةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا إِشْكَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي نُسْخَةٍ بَابُ صِفَةِ قِرَاءَةِ، وَفِي أُخْرَى بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ

وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا كَافٍ (أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ) أَيْ: أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ (عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا) الْفَاءُ لِلْعَطْفِ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ مُفِيدَةٌ بِإِجَابَتِهَا لِذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ مُبَيَّنَةٌ بِأَنَّهَا فِي كَمَالِ ضَبْطِهَا (هِيَ) أَيْ: أُمُّ سَلَمَةَ (تَنْعَتُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: تَصِفُ (قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً) بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: مُبَيَّنَةً مَشْرُوحَةً وَاضِحَةً مَفْصُولَةَ الْحُرُوفِ مِنَ الْفَسْرِ، وَهُوَ الْبَيَانُ وَمِنْهُ التَّفْسِيرُ (حَرْفًا حَرْفًا) أَيْ: كَلِمَةً كَلِمَةً يَعْنِي مُرَتَّلَةً مُحَقَّقَةً مُبَيَّنَةً كَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: هَذَا التَّبْيِينُ أَوْ حَالٌ أَيْ: مَفْصُولًا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ (مُفَسَّرَةً) ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَقُولَ قِرَاءَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَثَانِيهِمَا أَنْ تُقْرَأَ مُرَتَّلَةً مُبَيَّنَةً لِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ وَجْهُهَا تَصِفُ الْجَمَالَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ وَظَاهِرُ السِّيَاقِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي فَكَأَنَّهَا عَلِمَتْ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ مَا هُوَ مُرَادُ السَّائِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوْ أَظْهَرَتْ كَيْفِيَّةَ مَا سَمِعَتْ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ مَعَ أَنَّهُ يُفِيدُ الرِّوَايَةَ وَالدِّرَايَةَ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهَا أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أُبَيٌّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَيْفَ كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَتْ (قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَدًّا) أَيْ: بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ أَيْ: ذَاتَ مَدٍّ وَالْمُرَادُ بِهِ تَطْوِيلُ النَّفَسِ فِي حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَفِي الْفُصُولِ وَالْغَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ كَانَ يَمُدُّ مَدًّا، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ مَدًّا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ قِرَاءَةُ مَدَّاءَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءَ أَيْ: كَانَتْ قِرَاءَتُهُ مَدَّاءَ وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ رِوَايَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوْلٌ عَلَى التَّخْمِينِ، وَفِيهِ وَهْنٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْمَدِّ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي التَّصْحِيحِ مَدًّا مَصْدَرٌ أَيْ: ذَاتُ مَدٍّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا مَدَّاءُ عَلَى وَزْنِ فَعَلَاءَ تَأْنِيثُ الْأَمَدِّ الَّذِي هُوَ نَعْتُ الْمُذَكَّرِ خَطَّاءٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُمَكِّنُ الْحُرُوفَ، وَيُعْطِيهَا أَكْمَلَ حَقِّهَا مِنَ الْإِشْبَاعِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْوَقْفِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ السَّاكِنَانِ فَيَجِبُ الْمَدُّ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدِّ بِغَيْرِ مُوجِبٍ. وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ الْمُرَادُ مَدُّ الزَّمَانِ يَعْنِي أَنَّهُ يُجَوِّدُ وَيُرَتِّلُ وَيُشَدِّدُ وَيُمَكِّنُ، وَيُتِمُّ الْحَرَكَاتِ فَيَكُونُ قَدْ مَدَّ الزَّمَانَ انْتَهَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ كَانَتْ مَدًّا يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَحَلِّ الْمَدِّ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَدَّ الْأَصْلِيَّ وَالذَّاتِيَّ وَالطَّبِيعِيَّ، وَوَقْفًا تَوَسَّطَ أَيْضًا فَيَمُدُّ قَدْرَ أَلِفَيْنِ أَوْ يُطَوِّلُ قَدْرَ ثَلَاثٍ لَا غَيْرَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَدِّ الْعَارِضِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ، وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْمَدِّ مَحِلُّهُ كُتُبُ الْقِرَاءَةِ. وَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ قُرَّاءُ زَمَانِنَا حَتَّى أَئِمَّةُ صَلَاتِنَا أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ إِلَى أَنْ يَصِلَ قَدْرَ أَلِفَانِ وَأَكْثَرَ، وَرُبَّمَا يُقَصِّرُونَ الْمَدَّ الْوَاجِبَ، فَلَا مَدَّ اللَّهُ فِي عُمْرِهِمْ، وَلَا أَمَدَّ فِي أَمْرِهِمْ. ثُمَّ مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ بَعْدَ قَوْلِهِ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ أَنَّهُ يَمُدُّ بِالْحَاءِ مِنَ الرَّحِيمِ، فَهُوَ مَا صَادَفَ مَحَلَّهُ ; لِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ كَانَ يَمُدُّ الْيَاءَ بَعْدَ الْحَاءِ ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فَمَرَّ بِهَذَا الْحَرْفِ «لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ» فَمَدَّ نَضِيدٌ أَيْ: زِيَادَةٌ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاصِلِ حَتَّى بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثَ أَلِفَاتٍ، فَكَأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي غَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ أَلِفَيْنِ أَوْ أَلِفٍ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ شَاهِدٌ جَيِّدٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ قُطْبَةَ قَالَ مِيرَكُ: وَتَبِعَهُ شَارِحٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَدَّ عِنْدَ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَصْلِيٌّ، وَهُوَ إِشْبَاعُ الْحُرُوفِ الَّتِي بَعْدَهَا أَلِفٌ، أَوْ وَاوٌ أَوْ يَاءٌ قُلْتُ هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ إِشْبَاعُ نَفْسِ الْحُرُوفِ الْمَدِّيَةِ لَا الْحُرُوفِ الْكَائِنَةِ بَعْدَهَا أَوْ قَبْلَهَا ثُمَّ قَالَ: وَغَيْرُ أَصْلِيٍّ، وَهُوَ مَا إِذَا أَعْقَبَ الْحَرْفَ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ هَمْزٌ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ، فَالْمُتَّصِلُ مَا كَانَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَالْمُنْفَصِلُ مَا كَانَ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى فَالْأَوَّلُ يُؤْتَى فِيهِ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ مُمَكَّنَاتٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَالثَّانِي يُزَادُ فِي تَمْكِينِ الْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ

زِيَادَةً عَلَى الْمَدِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ النُّطْقُ بِهَا إِلَّا بِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَعْدَلُ أَنْ يَمُدَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا ضِعْفَيْ مَا كَانَ يَمُدُّهُ أَوَّلًا، وَقَدْ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا وَمَا زَادَ، فَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ فِي الْمَدِّ الْمُتَّصِلِ، وَكَذَا الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ مَنْ يَمُدُّهُ مِنْ أَقَلِّ مَقَادِيرِهِ قَدْرَ ثَلَاثِ أَلِفَاتٍ، وَقُرِئَ لِوَرْشٍ، وَحَمْزَةَ قَدْرَ خَمْسِ أَلِفَاتٍ فَمَسَائِلُ الْعُلُومِ تُؤْخَذُ مِنْ أَرْبَابِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ) بِضَمِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ مِيمٍ نِسْبَةً (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ) أَيْ: بِالتَّوَقُّفِ مِنَ التَّقْطِيعِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ قِطْعَةً قِطْعَةً (يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بِرَفْعِ الدَّالِ عَلَى الْحِكَايَةِ (ثُمَّ يَقِفُ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي بَاقِي السُّورَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ التَّقْطِيعِ فِي الْفِقْرَاتِ مِنْ رُءُوسِ الْآيَاتِ (ثُمَّ يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقِفُ) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ: تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وَلَوْ فِيهِ قَطْعُ الصِّفَةِ عَنِ الْمَوْصُوفِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَلِيمِيُّ، وَغَيْرُهُمَا يُسَنُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ: وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا لِلِاتِّبَاعِ فَقَدَحَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ مَحَلَّ الْوَقْفِ يَوْمِ الدِّينِ غَفْلَةً عَنِ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كُتُبِ الْقُرَّاءِ إِذْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْفَوَاصِلِ وَقْفٌ حَسَنٌ، وَلَوْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ هَلِ الْوَصْلُ أَوِ الْوَقْفُ فَالْجُمْهُورُ كَالسَّجَاوَنْدِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْجَزَرِيِّ عَلَى الثَّانِي، وَكَذَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ آيَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْقُرَّاءِ الْوَقْفُ عَلَى مَا يَنْفَصِلُ فِيهِ الْكَلَامُ أَوْلَى غَفْلَةً عَنِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْأَوْلَى انْتَهَى، وَالْأَعْدَلُ عَدَمُ الْعُدُولِ عَمَّا وَرَدَ فِي خُصُوصِ الْوَقْفِ مُتَابَعَةً ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ حَجَرٍ وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَا تَأْيِيدَ فِيهِ، فِيهِ مُصَادَرَةٌ بَلْ مُكَابَرَةٌ. ثُمَّ قَوْلُهُ وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةً فَعَمِلْنَا بِالصَّرِيحِ وَتَرَكْنَا الْمُحْتَمَلَ. مَدْفُوعٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَمْنَعُ التَّأْيِيدَ فِي الْقَوْلِ السَّدِيدِ مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: يُسَنُّ وَصْلُ الْبَسْمَلَةِ بِالْحَمْدَلَةِ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْقُرَّاءِ بَلْ وَرَدَ فِي أَفْضَلِيَّتِهِ بِخُصُوصِهِ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقِفُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ فَغَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَأْبَى عَنْ هَذَا (وَكَانَ يَقْرَأُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أَيْ: أَحْيَانًا، وَإِلَّا فَالْجُمْهُورُ عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَوُجِدَ بِخَطِّ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ أَنَّ صَوَابَهُ مَلِكِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ المص فِي الْجَامِعِ، وَمِنْ شَرْحِ الشَّاطِبِيَّةِ لِلْمَوْلَى ظَهِيرِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ فَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ سَهْوٌ مِنَ الْكُتَّابِ لَا مِنْ مُصَنِّفِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: فِي جَامِعِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ لِأَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: نَقْلًا عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَلُّ مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ، وَأُخْتُهَا أَسْمَاءُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ وَالْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ لَكِنْ أَدْرَكَ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمْ، وَلَمْ يَسْمَعْ كَعَلِيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ انْتَهَى. وَإِذَا ثَبَتَ سَمَاعُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عَنْهَا بَلْ نَقُولُ رِوَايَةُ اللَّيْثِ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَلَوْ قَدَحَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ انْقِطَاعًا لَأَصَابَ مَعَ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا إِذَا وَرَدَ عَنْ ثِقَةٍ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَلِذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: عَلَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ لِأَنَّ اللَّيْثَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

بْنِ أَبِي قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بِاللَّيْلِ، قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا أَوْرَدَ المص فِي هَذَا الْكِتَابِ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ لَكِنْ أَوْرَدَهُ فِي جَامِعِهِ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي اللَّيْلِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ بِلَفْظِ سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّيْلِ (كَانَ) وَزَادَ فِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَكَانَ (يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ) أَيْ: يُخْفِيهَا (أَمْ يَجْهَرُ) قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: أَسَّرَ الْحَدِيثَ أَخْفَاهُ، وَقَوْلُهُ يُسِرُّهُمَا يَعْنِي الْإِعَادَةَ، وَالتَّسْمِيَةَ وَأَمَّا يُسِرُ بِهِمَا بِزِيَادَةِ الْبَاءِ، فَهُوَ سَهْوٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَكَأَنَّ زِيَادَةَ الْبَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَقَعَتْ سَهْوًا مِنَ النُّسَّاخِ أَوْ يُقَالُ قَائِلُهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْحَفَاوَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: فَعَلَى هَذَا يُشْكَلُ الْكَلَامُ، قَالَ الْعِصَامُ: وَلَا يُشْكَلُ ; فَإِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى فِي أَيِ: الصَّوْتُ فِي وَقْتِ الْقِرَاءَةِ، انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَدَّرُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ النِّظَامِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُضَمَّنَ مَعْنَى الْمُخَافَتَةِ ; فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى بِالْبَاءِ ثُمَّ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاءَةِ مَا عَدَا التَّعَوُّذَ، وَالتَّسْمِيَةَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى إِخْفَاءِ الْأَوَّلِ، وَلِتَرْكِ الثَّانِي عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِخْفَائِهِ عِنْدَنَا حَتَّى يُلَائِمَ حِينَئِذٍ (قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يُفْعَلُ) الرِّوَايَةُ الْمُؤَيَّدَةُ بِالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ عَلَى الرَّفْعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ النَّصْبُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تُتْرَكُ بِمِثْلِ أَمْرٍ تَحْسِينِيٍّ لَا غَيْرَ، انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّ الْقَائِلَ مَا أَرَادَ رَدَّ الرِّوَايَةِ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ النَّصْبُ لَكَانَ أَظْهَرَ أَوْ أَشَارَ إِلَى تَجْوِيزِهِ أَيْضًا. (رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ) أَيْ: فِي لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِوَاءِ، وَإِشْعَارٌ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَ قَبْلَهُ فَيَجُوزُ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْوَى هُوَ الْجَهْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِشْغَالِ النَّفْسِ وَاسْتِكْمَالِ السَّمَاعِ وَالنَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ، وَإِيقَاظِ بَعْضِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَرَجَّحَ كُلًّا طَائِفَةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَا كَانَ أَوْفَقَ لِلْخُشُوعِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ هُوَ الْأَفْضَلُ. (قُلْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْتُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً) بِفَتْحِ السِّينِ أَيِ: اتِّسَاعًا فَفِي الْقَامُوسِ وَسِعَهُ سَعَةً كَدَعَةٍ وِدِيَةٍ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ قَدْ تَنْشَطُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَلَوْ ضُيِّقَ عَلَيْهَا بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، فَرُبَّمَا لَمْ تَنْشَطْ وَتُتْرَكُ فَتُحْرَمُ هَذَا الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أَيْ: سَبِيلًا وَسَطًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، فَإِنَّ الِاقْتِصَادَ مَطْلُوبٌ وَفِي جَمِيعِ الْأُمُورِ مَحْبُوبٌ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْفِتُ وَيَقُولُ أُنَاجِي رَبِّي قَدْ عَلِمَ حَاجَتِي، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَجْهَرُ، وَيَقُولُ: أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ فَلَمَّا نَزَلَتْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَرْفَعَ قَلِيلًا وَعُمَرَ أَنْ يُخْفِضَ قَلِيلًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ كُلِّهَا، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا بِأَسْرِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا بِالْإِخْفَاءِ تَارَةً وَبِالْجَهْرِ أُخْرَى. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) بِكَسْرِ مِيمٍ، وَفَتْحِ عَيْنٍ (عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ الْعَبْدِيِّ) بِفَتْحِ عَيْنٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ الْغَنَوِيُّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَالنُّونِ وَكَسْرِ الْوَاوِ (عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ) بِهَمْزٍ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ أُخْتُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّيْلِ وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي) وَهُوَ مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَمَا يُهَيَّأُ لِلْكَرَمِ لِيَرْتَفِعَ عَلَيْهِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ،

وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: أَمُّ هَانِئٍ كُنْتُ أَسْمَعُ صَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْرَأُ وَأَنَا نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِي يُرَجِّعُ الْقُرْآنَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّرِيرُ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوْفِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا (يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَاقَتِهِ) أَيْ: رَاكِبًا (يَوْمَ الْفَتْحِ) أَيْ: يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (وَهُوَ يَقْرَأُ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) وَهُوَ لَا يُنَافِي نُزُولَهَا عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ ; لِأَنَّ صُلْحَهَا كَانَ مُقَدِّمَةً، وَتَوْطِئَةً لِفَتْحِ مَكَّةَ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أَيِ: التَّقْصِيرَاتِ السَّابِقَةِ، وَاللَّاحِقَةِ (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مُغَفَّلٍ (فَقَرَأَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَرَأَهُ، أَيِ: الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ كَمَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ قَرَأَ سُورَةَ الْفَتْحِ يَوْمَ الْفَتْحِ (وَرَجَّعَ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنَ التَّرْجِيعِ بِمَعْنَى التَّحْسِينِ، وَإِشْبَاعَ الْمَدِّ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» أَيْ: أَظْهِرُوا زِينَتَهُ وَحُسْنَهُ بِتَحْسِينِ آدَائِكُمْ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: لِكُلِّ شَيْءٍ حِلْيَةٌ وَحِلْيَةُ الْقُرْآنِ حُسْنُ الصَّوْتِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي حَدِيثَ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ أَيْ: بِقِرَاءَتِهِ فَإِنَّ زِينَةَ الصَّوْتِ تَزِيدُ بِزِينَةِ الْمَقْرُوءِ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ لَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْعَارِ وَالْغَنَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِالْقَلْبِ فِي الْكَلَامِ، وَوَرَدَ «مَا أَذِنَ اللَّهُ - أَيْ مَا اسْتَمَعَ لِشَيْءٍ - كَأَذَنِهِ بِالتَّحْرِيكِ - أَيْ: كَاسْتِمَاعِهِ - لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَمِعَ أَبَا مُوسَى يَقْرَأُ قَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ أَيْ: دَاوُدَ نَفْسِهِ. وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» عَلَى أَحَدِ مَعَانِيهِ، وَالْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ وَتَحْزِينِ الْقَلْبِ، وَتَنْشِيطِ الرُّوحِ، وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا تَهْدِيدًا أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا تَأْكِيدًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِغَنَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِغِنَائِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ وَظَنَّ أَنَّهُ أُعْطِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُ فَقَدْ حَقَّرَ عَظِيمًا، وَعَظَّمَ حَقِيرًا. هَذَا وَقَدْ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: التَّرْجِيعُ تَرْدِيدُ الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُ تَرْجِيعُ الْأَذَانِ وَقِيلَ هُوَ تَقَارُبُ ضُرُوبِ الْحَرَكَاتِ فِي الصَّوْتِ، وَقَدْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ بِتَرْجِيعِهِ بِمَدِّ الصَّوْتِ فِي الْقِرَاءَةِ نَحْوَ آاآ وَهَذَا إِنَّمَا حَصَلَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ يَوْمَ الْفَتْحِ ; لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فَجَعَلَتِ النَّاقَةُ تَحَرِّكُهُ، وَتَهْتَزُّ بِهِ فَحَدَثَ التَّرْجِيعُ فِي صَوْتِهِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُرَجِّعُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ رَاكِبًا، فَلَمْ يَحْدُثْ فِي قِرَاءَتِهِ التَّرْجِيعُ انْتَهَى. أَوْ كَانَ لَا يُرَجِّعُ قَصْدًا وَإِنَّمَا كَانَ يَحْصُلُ التَّرْجِيعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ قَصْدًا، وَتَرَكَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ رَدًّا عَلَى ابْنِ الْأَثِيرِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَزِّ النَّاقَةِ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِيهِ وَيَفْعَلُهُ اخْتِيَارًا لِيَتَأَسَّى بِهِ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ حِكَايَتُهُ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَفِعْلِهِ اخْتِيَارًا لَيْسَ لِلتَّأَسِّي بَلْ لِلْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهِ ثُمَّ قَوْلُهُ آاآ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ أُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا ثَلَاثُ أَلِفَاتٍ مَمْدُودَاتٍ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَدَثَ بِهَزِّ النَّاقَةِ عَلَى مَا سَبَقَ أَوْ بِإِشْبَاعِ الْمَدِّ فِي مَوَاضِعِهِ، وَهُوَ بِسِيَاقِ الْحَدِيثِ أَوْفَقُ وَلِحَمْلِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ أَحَقُّ (قَالَ) أَيْ: شُعْبَةُ (وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيَّ) أَيْ: لَوْلَا مَخَافَةُ الِاجْتِمَاعِ لَدَيَّ وَخَشْيَةُ إِنْكَارِ بَعْضِهِمْ عَلَيَّ (لَأَخَذْتُ) أَيْ: لَشَرَعْتُ (لَكُمْ فِي ذَلِكَ الصَّوْتِ) أَيْ: وَقَرَأْتُ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ، قَالَ شَارِحٌ: مِنْ عُلَمَائِنَا: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ارْتِكَابَ

أَمْرٍ يُوجِبُ اجْتِمَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، نَعَمْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِأَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي تَرْكُهُ مَا يُخْشَى أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ اجْتِمَاعًا يُؤَدِّي إِلَى فِتْنَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَهُنَا كَذَلِكَ إِذْ رُبَّمَا يَتَزَاحَمُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ، وَرُبَّمَا يَقْتَدُونَ بِهِ بَعْضُ السُّفَهَاءِ أَوْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ، فَيَقَعُونَ فِي الْمَعْصِيَةِ. (أَوْ قَالَ) أَيْ: مُعَاوِيَةُ وَأَوْ لِلشَّكِ (اللَّحْنِ) بِالْجَرِّ أَيْ: بَدَلًا عَنِ الصَّوْتِ فَقِيلَ اللَّحْنُ بِمَعْنَى الصَّوْتِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى النَّغَمِ، وَيُقَالُ لَحَنَ فِي قِرَاءَتِهِ إِذَا طَرِبَ، وَعَرَّبَ أَيْ: أَتَى بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ، وَقِيلَ اللُّحُونُ وَالْأَلْحَانُ جَمْعُ لَحْنٍ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ، وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ وَالشِّعْرِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: مَعْنَى التَّرْجِيعِ تَحْسِينُ التِّلَاوَةِ لَا تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ يُنَافِي الْخُشُوعَ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التِّلَاوَةِ فَكَانَ الْمَنْفِيُّ مِنَ التَّرْجِيعِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَمَعَ لِقِرَاءَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْمَعُهُ لَحَبَّرْتُهُ تَحْبِيرًا، أَيْ: زِدْتُ فِي تَحْسِينِهِ بِصَوْتِي تَزْيِينًا، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ السَّلَفِ عَلِمَ أَنَّهُمْ بَرِيئُونَ مِنَ التَّصَنُّعِ فِي الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ الْمُخْتَرَعَةِ دُونَ التَّطْرِيبِ، وَالتَّحْسِينِ الطَّبِيعِيِّ، فَالْحَقُّ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ طَبِيعَةً، وَسَجِيَّةً كَانَ مَحْمُودًا، وَإِنْ أَعَانَتْهُ طَبِيعَتُهُ عَلَى زِيَادَةِ تَحْسِينٍ وَتَزْيِينٍ لَتَأَثَّرَ التَّالِي وَالسَّامِعُ بِهِ، وَأَمَّا مَا فِيهِ تَكَلُّفٌ وَتَصَنُّعٌ بِتَعَلُّمِ أَصْوَاتِ الْغِنَاءِ، وَأَلْحَانٍ مَخْصُوصَةٍ فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي كَرِهَهَا السَّلَفُ وَالْأَتْقِيَاءُ مِنَ الْخَلَفِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ الْحُدَّانِيُّ) نِسْبَةٌ إِلَى حُدَّانَ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَتَشْدِيدِ دَالٍ مُهْمَلَتَيْنِ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَزْدِ (عَنْ حُسَامِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بْنِ مِصَكٍّ) بِكَسْرِ مِيمٍ فَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ كَافٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، فَفِي الْمِيزَانِ قَالَ أَحْمَدُ: مَطْرُوحٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَمِنْ مَنَاكِيرِهِ حَدِيثُ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الصَّوْتِ. (عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَكَانَ نَبِيُّكُمْ) زَادَ فِي نُسْخَةٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْمُصَنِّفِ، وَكَانَ نَبِيُّكُمْ أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُمْ صَوْتًا أَيْ: أَمْلَحَهُمْ وَأَفْصَحَهُمْ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حَدِيثَ الْبَيْهَقِيِّ، وَغَيْرَهُ فِي الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ أَحْسَنُ مَا خَلْقَ اللَّهُ وَقَدْ فَضَلَ النَّاسَ بِالْحُسْنِ كَالْقَمَرِ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ مَا خَلَقَ اللَّهُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ هُنَا قَوْلًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ، وَحَمَلَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ الَّذِي أُوتِيهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَكَانَ) أَيْ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا يُرَجِّعُ) أَيْ: بِتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ أَوْ عَنْ قَصْدٍ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا، وَفِي أُخْرَى حَدَّثَنَا (يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ فِي الْأَصْلِ، وَمُنْصَرِفٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُسْنِ فَوَزْنُهُ فَعَّالٌ أَوْ مِنَ الْحَسَنِ فَوَزَنَهُ فَعْلَانُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ زَايٍ فَنُونٍ (عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَتْ (قِرَاءَةُ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُبَّمَا يَسْمَعُهَا) وَفِي نُسْخَةٍ يَسْمَعُهُ، وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ مَا قَرَأَ (مَنْ فِي الْحُجْرَةِ) أَيْ: صَاحِبُ الْبَيْتِ (وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي الْبَيْتِ)

(باب ما جاء في بكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ هُوَ الْحُجْرَةُ نَفْسُهَا أَيْ: يُسْمِعُ مَنْ فِي الْحُجْرَةِ، وَهُوَ فِيهَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْحُجْرَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَيْتِ انْتَهَى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قِرَاءَتَهُ كَانَتْ مُتَوَسِّطَةً لَا فِي نِهَايَةِ الْجَهْرِ، وَلَا فِي غَايَةِ الْإِخْفَاءِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورًا خُرُوجُ الدَّمْعِ مَعَ الْحُزْنِ، وَمَمْدُودًا خُرُوجُهُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ بَيْنِ الشُّرَّاحِ، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: بَكَى يَبْكِي بُكَاءً وَبُكًا (حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ) وَفِي نُسْخَةٍ ابْنُ النَّصْرِ (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ مُطَرِّفٍ) بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) بِكَسْرِ الشِّينِ، وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ (عَنْ أَبِيهِ) وَهُوَ صَحَابِيٌّ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ (قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيَّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ) بِالزَّائَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ أَيْ: غَلَيَانٌ، وَقِيلَ صَوْتٌ وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: خَنِينٌ مِنَ الْخَوْفِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ صَوْتُ الْبُكَاءِ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَجِيشَ جَوْفُهُ، وَيَغْلِيَ بِالْبُكَاءِ (كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْجِيمِ الْقِدْرُ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوِ الْقِدْرُ مُطْلَقًا كَمَا اخْتَارَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (مِنَ الْبُكَاءِ) أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ خَوْفِهِ، وَخَشْيَتِهِ وَخُضُوعِهِ فِي عُبُودِيَّتِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً، رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ: وَالَّذِي نَفْسِ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ. فَجَمَعَ لَهُ تَعَالَى بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ، وَعَيْنِ الْيَقِينِ بَلْ جَمَعَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ حَقَّ الْيَقِينِ. وَالْخَشْيَةُ أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ إِذْ هِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِتَعْظِيمِ شَيْءٍ عَنْ مَعْرِفَةٍ كَامِلَةٍ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ إِنَّمَا يُعَظِّمُ اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَرِيقِ التَّجْرِيدِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ

عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ) بِفَتْحِ عَيْنٍ فَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: قَالَ) أَيْ: لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْرَأْ عَلَيَّ) أَيْ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ لَكِنْ قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ الظَّفَرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَهُوَ فِي بَنِي ظَفَرٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُمْ فِي بَنِي ظَفَرٍ، وَمَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَمَرَ قَارِئًا فَقَرَأَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا فَبَكَى حَتَّى ضَرَبَ لَحْيَاهُ، وَوَجْنَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ هَذَا شَهِدْتُ عَلَى مَنْ يَأْتِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْ فَكَيْفَ لِمَنْ لَمْ أَرَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَلِذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، فَفِي هَذَا الْمُرْسَلِ مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ الَّذِي تَضَمَّنَ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَارِئَ فِي بَنِي ظَفَرٍ أَيْضًا هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِكَوْنِهِ مَوْجُودًا فِيهِمْ لَكِنَّهُ خِلَافَ الْمُتَبَادَرِ مِنَ التَّنْكِيرِ فِي قَوْلِهِ فَأَمَرَ قَارِئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ) أَيْ: وَأَقْرَأُ (عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ) أَيِ: الْقُرْآنُ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ كَرِيمٍ (قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) أَيْ: كَمَا أُحِبُّ أَنْ أُسْمِعَهُ غَيْرِي، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِهِ لِيَكُونَ عَرْضُ الْقُرْآنِ سُنَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَيْ يَتَدَبَّرَهُ، وَيَفْهَمَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ أَقْوَى عَلَى التَّدَبُّرِ، وَأَنْشَطُ عَلَى التَّفَكُّرِ مِنَ الْقَارِئِ لِذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْقُرْآنِ (فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ) أَيْ: أَنَا وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَيْ: عَلَى أُمَّتِكَ أَوْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ شَهِيدًا أَيْ: مُزَكِّيًا أَوْ مُثْنِيًا أَوْ شَاهِدًا وَحَاضِرًا (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَرَأَيْتُ عَيْنَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَهْمِلَانِ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ

الْمِيمِ وَضَمِّهَا أَيْ: تَسِيلَانِ دُمُوعًا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَتَّى أَتَيْتُ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا قَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. وَذَرَفَتِ الْعَيْنُ سَالَ دَمْعُهَا مِنْ حَدِّ ضَرَبَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: مَعْنَى الْآيَةِ كَيْفَ حَالُ النَّاسِ فِي يَوْمٍ تَحْضُرُ أُمَّةُ كُلِّ نَبِيٍّ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ شَهِيدًا بِمَا فَعَلُوا مِنْ قَبُولِهِمُ النَّبِيَّ أَوْ رَدِّهِمْ إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِكَ وَبِأُمَّتِكَ انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ عِنْدَ ذَوِي النُّهَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا بَكَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مَثَّلَ لِنَفْسِهِ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَشِدَّةِ الْحَالِ الدَّاعِيَةِ إِلَى شَهَادَتِهِ لِأُمَّتِهِ بِالتَّصْدِيقِ، وَسُؤَالِهِ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحِقُّ لَهُ طُولُ الْبُكَاءِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَكَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ بِعَمَلِهِمْ، وَعَمَلُهُمْ قَدْ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَعْذِيبِهِمْ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَظْهَرُ مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ مِنْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بُكَاؤُهُ لِلسُّرُورِ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنَّكَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ فَكَلَامٌ مَرْدُودٌ لَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ السَّلِيمُ عَلَى مَا قَالَهُ مِيرَكُ شَاهْ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْحَنَفِيِّ يُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الْقِرَاءَةِ فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ وَالْوَاعِظِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَحِلُّ اسْتِمَاعِ الْعَالِي لِقِرَاءَةِ السَّافِلِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَثْنَاءِ الْوَعْظِ، وَالنَّصِيحَةِ لِلصَّحَابَةِ، وَمُجَرَّدُ الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعْظِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى كَمَا أَفَادَهُ مِيرَكُ شَاهْ، نَعَمْ فِيهِ جَوَازُ أَمْرِ السَّامِعِ لِلْقَارِئِ بِقَطْعِ الْقِرَاءَةِ إِذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ (قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: ذَهَبَ نُورُ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، يُقَالُ كَسَفَتْ بِفَتْحِ الْكَافِ وَانْكَسَفَتْ بِمَعْنَى وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ انْكَسَفَ، وَكَذَا الْجَوْهَرِيُّ حَيْثُ نَسَبَهُ إِلَى الْعَامَّةِ، وَالْحَدِيثُ يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَحَكَى كُسِفَتْ بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ نَادِرٌ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُقَالُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، وَانْكَسَفَا وَخَسَفَا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا وَانْخَسَفَا، وَالْكُلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ بِالْكَافِ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ بِالْخَاءِ ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا يَكُونَانِ لِذَهَابِ ضَوْئِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَهَابِ بَعْضِهِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخُسُوفُ فِي الْجَمْعِ، وَالْكُسُوفُ فِي الْبَعْضِ وَقِيلَ الْخُسُوفُ ذَهَابُ اللَّوْنِ، وَالْكُسُوفُ التَّغَيُّرُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمَشْهُورُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكُسُوفَ لِلشَّمْسِ وَالْخُسُوفَ لِلْقَمَرِ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّهُ أَفْصَحُ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ عَكْسَهُ، وَغُلِّطَ لِثُبُوتِهِ بِالْخَاءِ لِلْقَمَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِهِ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ، وَقِيلَ بِالْكَافِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَبِالْخَاءِ فِي الِانْتِهَاءِ (يَوْمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حَتَّى لَمْ يَكَدْ) أَيْ: لَمْ يَقْرُبْ (يَرْكَعُ) بِلَا لَفْظَةِ (أَنْ) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ ; فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَرَأَ قَدْرَ الْبَقَرَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى (ثُمَّ رَكَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) كَذَلِكَ بِدُونِ أَنْ بِخِلَافِ الْبَاقِي مِمَّا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ سَجَدَ) ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ سَجَدَ (فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَسْجُدَ) وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَالثَّوْرِيُّ سُمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى تَطْوِيلِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ إِلَّا فِي هَذَا، وَقَدْ نَقَلَ الْغَزَّالِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَرْكِ إِطَالَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الِاتِّفَاقَ الْمَذْهَبِيَّ فَلَا كَلَامَ، وَإِلَّا فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ

فَجَعَلَ يَنْفُخُ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ فَمِهِ حَرْفَانِ (وَيَبْكِي) قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ: وَجَعَلَ يَنْفُخُ فِي الْأَرْضِ وَيَبْكِي وَهُوَ سَاجِدٌ وَذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (وَيَقُولُ رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ) أَيْ: بِقَوْلِكَ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الْآيَةَ (رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أَيْ: بِقَوْلِكَ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَوْعُودِينَ مَعَ زِيَادَةٍ وَهِيَ اسْتِغْفَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْكُسُوفَ رُبَّمَا دَلَّ عَلَى وُقُوعِ عَذَابٍ فَخَشِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُقُوعِهِ وَعُمُومِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ رَوَى الْبُخَارِيُّ فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ مِنْ ذِكْرِ وَعْدِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَقَامِ طَلَبِ دَفْعِ الْبَلَاءِ، وَكَأَنَّ فَائِدَةَ الدُّعَاءِ بِعَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ مَعَ الْوَعْدِ بِهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ تَجْوِيزُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ مَنُوطٌ بِشَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ اخْتَلَّ (فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ) أَيِ: انْكَشَفَتْ وَرَوَى النَّسَائِيُّ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلُّونَ وَرَوَى المص كَمَا تَرَى أَنَّهُ رَكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعًا. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ صِلَاتِكُمْ. وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَا قَالَ جَمْعٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَتَأْوِيلُ صَلَّى بِأَمْرٍ بَاطِلٍ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً فَيَرُدُّهُ قَوْلُ ابْنُ حِبَّانَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّهُ خُسِفَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ فَصَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَكَانَتْ أَوَّلَ صَلَاةِ كُسُوفٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَجَزَمَ بِهِ مُغَلْطَايُ: وَالزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إِنَّ مُرَادَ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ نَقْلًا صَحِيحًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ فِي سِيرَتِهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ رَكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضِهَا أَرْبَعًا، وَفِي بَعْضِهَا سِتًّا فَحَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ جَائِزٌ، وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ أَنَّ صِحَّةَ تَعَدُّدِ الْكُسُوفِ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ ثَابِتٍ لَا بِمُجَرَّدِ جَمْعِ الرِّوَايَاتِ يُقَالُ بِالتَّعَدُّدِ خُصُوصًا أَنَّهُ نَقَلَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّهَا بِالْمَدِينَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الزِّيَادَةَ عَلَى الرُّكُوعَيْنِ غَلَطًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ طُرُقِ الْحَدِيثِ يُمْكِنُ رَدُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَجْمَعُهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، وَإِذَا اتَّحَدَتِ الْقَضِيَّةُ بَطَلَتْ دَعْوَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ رِوَايَةِ الثَّلَاثِ وَمَا فَوْقَهَا لَا تَخْلُو عَنْ عِلَّةٍ. وَأَمَّا تَعَيُّنِ الْأَخْذِ بِالرَّاجِحِ، وَهُوَ رُكُوعَانِ عَلَى مَا ذَكَرُهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَمَحَلُّ بَحْثٍ ; فَإِنَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالرُّكُوعَيْنِ يَنْبَغِي الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ صِلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الزِّيَادَةَ سَاقِطَةٌ لِاعْتِبَارِهَا مَحْمُولَةً عَلَى وَهْمِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا: إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَطَالَ الرُّكُوعَ رَفَعَ بَعْضُ الصُّفُوفِ رُءُوسَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَرَفَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعًا رَكَعُوا فَرَكَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ فَمَنْ كَانَ خَلْفَ خَلْفِهِمْ ظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَكْثَرَ مِنْ رُكُوعٍ فَرَوَى عَلَى حَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الِاشْتِبَاهِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّهَا بِالْمَدِينَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَرْبَابِ السِّيَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي تَعْيِينِ سَنَةِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ السِّيرَةِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ فَقِيلَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلَمْ يَصِحَّ الْأَخِيرُ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ شُهِدَ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ. (فَقَامَ) أَيْ: فِي مَحَلِّهِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ (فَحَمِدَ اللَّهَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا مِنْ تَعْيِينِ لَفْظِ ح م د فِي الْخُطْبَةِ انْتَهَى وَفِي اسْتِدْلَالِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوِ الْمَعْنَى شَكَرَهُ عَلَى إِنْعَامَاتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى ذَاتِهِ

وَصِفَاتِهِ وَزَادَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ، وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أَيِ: الدَّالَّانِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ الْآيَةَ أَيْ: عَلَامَتَيْنِ تَدُلَّانِ عَلَى الْقَادِرِ الْحَكِيمِ بِتَعَاقُبِهِمَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ مَعَ إِمْكَانِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى تَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْ بَأْسِهِ، وَسَطْوَتِهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا وَزَادَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخَرِ الْمُخْرَجَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ زِيَادَةٌ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ (لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ) وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَيْضًا بَيَانُ سَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ وَلَفْظُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ مَاتَ فَقِيلَ إِنَّمَا كَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى حَتَّى انْجَلَتْ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ. (فَإِنِ انْكَسَفَا) فِيهِ تَغْلِيبُ الْقَمَرِ فِي التَّذْكِيرِ، وَتَغْلِيبُ الشَّمْسِ فِي الْفِعْلِ عَلَى الشَّهِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَإِذَا انْكَسَفَا (فَافْزَعُوا) بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ: خَافُوا وَتَضَرَّعُوا، وَالْتَجِئُوا وَبَادِرُوا، وَتَوَجَّهُوا (إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا وَادْعُوا فَسُمِّيَتِ الصَّلَاةُ ذِكْرًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ، وَمَدَارِهَا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَاتُ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا وَتَذَكَّرُوا الْخَوْفَ. وَفِي أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّلَاةِ فَقَطْ دُونَ الْخُطْبَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً، وَلَوْ كَانَتْ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا أَبْحَاثًا مِنْهَا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامًا وَاحِدًا خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ. قُلْتُ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْكَارُهُ مُكَابَرَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، قُلْتُ: قَدْ رَدَّهُ ابْنُ الْهُمَامِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّا نُجَوِّزُ قِيَامًا وَقِيَامَيْنِ، فَلَمْ نُخَالِفِ السُّنَّةَ بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ تَعَدُّدَ الْقِيَامِ ; فَإِنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ الصَّرِيحَةَ بِلَا مُسْتَنَدٍ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ لَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ، قُلْتُ: قَدْ بَلَغَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مَعَ تَأْوِيلِهِ، وَأَجَابُوا بِالْمُعَارَضَةِ، وَمُسْتَنَدُهُمُ الرِّوَايَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهُ كَانَ قِيَامًا وَاحِدًا مَعَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْقِيَامِ وَالْقِيَامَيْنِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ صَحَّ تَعَدُّدُ الْوَاقِعَةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْهَيْئَةِ زَعَمُوا أَنَّ الْكُسُوفَ أَمْرٌ عَادِيٌّ لَا يَتَقَدَّمُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ وَرُدَّ قَوْلُهُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالْحِسَابِ لَمْ يَقَعْ فَزَعٌ، وَلَا أُمِرْنَا بِنَحْوِ الْعِتْقِ، وَالصَّلَاةِ كَمَا فِي خَبَرِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَفِعُ بِهِ مَا يُخْشَى مِنْ أَثَرِ الْكُسُوفِ الْمُوجِبِ

لِلْفَزَعِ، وَبِمَا صَحَّ مِنْ خَبَرِ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ. فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ سَبَبَ الْكُسُوفِ خُشُوعُهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ الْحِسِّيِّ، فَإِذَا تَجَلَّتْ صِفَةُ الْجَلَالِ انْطَمَسَتِ الْأَنْوَارُ لِهَيْبَتِهِ، وَظُهُورِ عَظَمَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ طَاوُسٌ: لَمَّا نَظَرَ لِلشَّمْسِ، وَهِيَ كَاسِفَةٌ فَبَكَى حَتَّى كَادَ أَنْ يَمُوتَ، وَقَالَ هِيَ أَخْوَفُ لِلَّهِ مِنَّا. وَبِمَا تَقَرَّرَ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَظُهُورِ مَعْنَاهُ انْدَفَعَ قَوْلُ الْغَزَّالِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَيَجِبُ تَكْذِيبُ نَاقِلِهِ، وَلَوْ صَحَّ كَانَ تَأْوِيلُهُ سَهُلَ مِنْ مُكَابَرَةِ أُمُورٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تُصَادَمُ مِنْ أَصْلِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ انْتَهَى. لَكِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ مَا قَالُوا: فَإِنَّ لِلَّهِ أَفْعَالًا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ وَاقِعَةٌ لَا خَارِجَةٌ عَنْهَا وَقُدْرَتُهُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ يَقْطَعُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ لِقُوَّةِ اعْتِقَادِهِمْ فِي عُمُومِ قُدْرَتِهِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ غَرِيبٌ حَدَثَ عِنْدَهُمُ الْخَوْفُ لِقُوَّةِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنَّ ثَمَّةَ أَسْبَابًا تَجْرِي عَلَيْهَا بِالْعَادَةِ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ خَرْقَهَا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنْ كَانَ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُنَافِي كَوْنُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لِعِبَادِهِ، هَذَا وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِبْطَالُ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكُسُوفَ يُوجِبُ حُدُوثَ تَغَيُّرٍ فِي الْأَرْضِ مَوْتًا أَوْ ضَرَرًا فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لِلَّهِ لَيْسَ لَهُمَا سُلْطَانٌ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا. وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَشَدَّةِ الْخَوْفِ مِنْ رَبِّهِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَةً لَهُ تَقْضِي) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ أَيْ: تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ مِنَ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ أَصْلُ قَضَى مَاتَ فَاسْتِعْمَالُهُ هُنَا لِلْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ مَجَازٌ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَضَاءُ مَرْجِعُهُ إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ (فَاحْتَضَنَهَا) أَيْ: جَعَلَهَا فِي حِضْنِهِ بِالْكَسْرِ أَيْ: جَنْبِهِ، وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْحَاضِنَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُرَبِّي الطِّفْلَ، لِأَنَّ الْمُرَبِّيَ وَالْكَافِلَ يَضُمُّ الطِّفْلَ إِلَى حِضْنِهِ، وَالْحَضَانَةُ بِالْفَتْحِ فِعْلُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَوَضَعَهَا) أَيْ: بَعْدَ سَاعَةٍ (بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَاتَتْ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَاحَتْ) مِنَ الصَّيْحَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَاحَتْ (أُمُّ أَيْمَنَ) وَهِيَ حَاضِنَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَوْلَاتُهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ وَأَعْتَقَهَا حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ، وَزَوَّجَهَا لِزَيْدٍ مَوْلَاهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ عُمَرَ بِعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَدْ شَهِدَتْ أُحُدًا وَكَانَتْ تَسْقِي الْمَاءَ، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَشَهِدَتْ خَيْبَرَ وَتَفْصِيلُ تَرْجَمَتِهَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ بُكَاؤُهَا بِصِيَاحِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ مَعَ إِشْعَارِهِ بِالْجَزَعِ حَرَامًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنْكَرَ عَلَيْهَا (فَقَالَ: يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنَ التَّابِعِيِّ، وَالضَّمِيرُ فِي يَعْنِي رَاجِعٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (أَتَبْكِينَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَعَدَلَ إِلَيْهِ عَنْ عِنْدِي ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ (فَقَالَتْ) أَيْ: أُمُّ أَيْمَنَ ظَنًّا بِأَنَّ مُطْلَقَ الْبُكَاءِ جَائِزٌ (أَلَسْتُ أَرَاكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: أُبْصِرُكَ وَأُشَاهِدُكَ (تَبْكِي) حَالٌ (قَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي) أَيْ: بُكَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَزَعِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنِّي مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْوَيْلِ، وَالثُّبُورِ وَالصِّيَاحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (إِنَّمَا هِيَ) أَيِ: الْبُكَاءُ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الدَّمْعَةِ أَوْ قَطْرَةِ الدَّمْعِ أَوِ الْخَبَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (رَحْمَةً) أَيْ: أَثَرُهَا وَزَادَ فِي الصَّحِيحَيْنِ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ

الرُّحَمَاءِ. وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَ عَائِشَةَ مَا بَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَيِّتٍ قَطُّ، وَإِنَّمَا غَايَةُ حُزْنِهِ أَنْ يُمْسِكَ لِحْيَتَهُ لِأَنَّ مُرَادَهَا مَا بَكَى عَلَى مَيِّتٍ أَسَفًا عَلَيْهِ بَلْ رَحْمَةً لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا عَلَى فِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ (إِنَّ الْمُؤْمِنَ) أَيِ: الْكَامِلَ (بِكُلِّ خَيْرٍ) الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ (عَلَى كُلِّ حَالٍ) ; لِأَنَّهُ يَشْهَدُ الْمِحْنَةَ عَيْنَ الْمِحْنَةِ، فَيَحْمَدُ عَلَى الْمِنَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ (إِنَّ نَفْسَهُ) أَيْ: رُوحَهُ (تُنْزَعُ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: تُقْبَضُ (مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى) ; فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ حِينَئِذٍ بِالْحَقِّ، وَعِبَادَتِهِ بِالرِّضَاءِ عَلَى قَضَائِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَامِلُ مُلَابِسًا بِكُلِّ خَيْرٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ حَتَّى إِنَّهُ فِي نَزْعِ رُوحِهِ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَرَاهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَحْمَةً لَهُ، وَكَرَامَةً وَخَيْرًا لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ وَهَدِيَّةُ الْمُوقِنِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمَّا حُضِرَتْ بِنْتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَغِيرَةٌ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَمَّهَا إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَقُبِضَتْ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَكَتْ أُمُّ أَيْمَنَ، الْحَدِيثَ. قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْلُو عَنْ إِشْكَالٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ ابْنَةٌ لَهُ، وَبِنْتٌ لَهُ صَغِيرَةٌ إِمَّا بِنْتُهُ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ أَرْبَابَ السِّيَرِ، وَالْحَدِيثِ وَالتَّوَارِيخِ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ بَنَاتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُنَّ مُتْنَ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ إِحْدَى بَنَاتِهِ، وَيَكُونُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ مَجَازِيَّةً، فَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ ابْنَةَ إِحْدَى بَنَاتِهِ مَاتَتْ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ فِي النَّزْعِ لَكِنَّهُ أُشْكِلَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُمَامَةَ عَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَعْدَ وَفَاةِ فَاطِمَةَ ثُمَّ عَاشَتْ عِنْدَ عَلِيٍّ حَتَّى قُتِلَ عَنْهَا، وَلِذَا حَمَلُوا رِوَايَةَ أَحْمَدَ أَنَّهَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ ثُمَّ عَافَاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ وَقَعَ وَهْمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِمَّا فِي قَوْلِهِ تَقْضِي وَقَوْلِهِ، وَهُوَ يَمُوتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالصَّوَابُ ابْنُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدُ بَنِيهِ إِمَّا الْقَاسِمُ، وَإِمَّا عَبْدُ اللَّهِ وَإِمَّا إِبْرَاهِيمُ ; فَإِنَّهُمْ مَاتُوا صِغَارًا فِي حَيَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ابْنَ بَعْضِ بَنَاتِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَفِي الْأَسْبَابِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ مِنْ رُقَيَّةَ بِنْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، وَقَالَ: إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ. وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَقُلَ ابْنٌ لِفَاطِمَةَ فَبُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي الْبُكَاءِ، وَالِابْنُ الْمَذْكُورُ هُوَ مُحْسِنُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهُ مَاتَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا غَايَةُ التَّحَقُّقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، وَهُوَ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ (عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: وَجْهَهُ أَوْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (وَهُوَ مَيِّتٌ) وَهُوَ أَخُوهُ رَضَاعًا قُرَشِيٌّ أَسْلَمَ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ

بَدْرًا، وَكَانَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ نِعْمَ السَّلَفُ هُوَ لَنَا وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ كَانَ عَابِدًا مُجْتَهِدًا مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ (وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَبْكِي) أَيْ: حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ عُثْمَانَ عَلَى مَا فِي الْمُشْكَلَةِ قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَهُوَ مَيِّتٌ قَالَتْ: فَرَأَيْتُ دُمُوعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسِيلُ عَلَى خَدِّ عُثْمَانَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: لَمَّا مُرَّ بِجِنَازَةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلْبَسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ يَعْنِي مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذَا مُرْسَلٌ لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ كَشَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ بَكَى طَوِيلًا فَلَمَّا رُفِعَ عَنِ السَّرِيرِ قَالَ: طُوبَى لَكَ يَا عُثْمَانُ لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا، وَلَمْ تَلْبَسْهَا (أَوْ قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي كَمَا قَالَهُ الْكَاشَانِيُّ وَهُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ (عَيْنَاهُ) وَفِي نُسْخَةٍ، وَعَيْنَاهُ (تُهْرَاقَانِ) بِضَمِّ التَّاءِ، وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَسُكُونِهَا أَيْضًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ الْأَلِفِ تَصُبَّانِ الدَّمْعَ أَوْ تَصُبَّانِ دُمُوعَهُمَا قَالَ الْعِصَامُ: فِيهِ لُغَتَانِ فَتْحُ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الْهَمْزَةِ، وَحِينَئِذٍ مَاضِيهِ هَرَاقَ، وَسُكُونُ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهَا زِيدَتْ، وَالْمَاضِي أَهْرَاقَ رِوَايَةُ الْكِتَابِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ جَرَى النَّهْرُ انْتَهَى. وَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ الْإِرَاقَةُ صَبُّ الْمَائِعِ، وَالْمَاضِي أَرَاقَ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى هَرَاقَ الْمَاءَ يُهَرِيقُهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ هِرَاقَةً، وَالشَّيْءُ مُهَرَاقٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَالْهَاءُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ بَدَلٌ عَنِ الْهَمْزَةِ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ أَهْرَقَ الْمَاءَ يَهْرَقُ إِهْرَاقًا عَلَى أَفْعَلَ يَفْعَلُ إِفْعَالًا لُغَةٌ وَلُغَةٌ أُخْرَى أَهْرَاقَ يُهْرِيقُ إِهْرَاقَةً فَهُوَ مُهْرِيقٌ وَمِهْرَاقٌ، وَالْهَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ زِيدَتْ عِوَضًا مِنْ ذَهَابِ الْحَرَكَةِ مِنْ نَفْسِ الْعَيْنِ لَا مِنْ ذَهَابِهَا أَصْلًا، لِأَنَّ أَصْلَ أَرَاقَ أَرْوَقَ أَوْ أُرِيقَ فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا الْحَرَكَةَ مِنَ الْعَيْنِ فَحَرَّكُوا بِهَا الْفَاءَ السَّاكِنَةَ، وَقَلَبُوا الْعَيْنَ أَلِفًا، فَلَحِقَ الْكَلِمَةَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّغْيِيرِ جَعَلُوا هَذِهِ الْهَاءَ عِوَضًا مِنَ الْوَهَنِ الَّذِي لَحِقَهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي اسْطَاعَ لُغَةٌ فِي أَطَاعَ يُطِيعُ فَاعْرِفْهُ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْهَاءُ فِي هَرَاقَ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةِ أَرَاقَ، وَيُقَالُ أَهْرَاقُهُ إِهْرَاقًا فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْمُبْدَلِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ) بِضَمِّ فَاءٍ، وَفَتْحِ لَامٍ، وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَمُهْمَلَةٍ (وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: شَهِدْنَا) أَيْ: حَضَرْنَا (ابْنَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ زَوْجَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَمَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ كُلْثُومٍ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا رُقَيَّةُ ; لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ) أَيْ: عَلَى طَرَفِهِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ (فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ) أَيْ: يَسِيلُ دَمْعُهُمَا (فَقَالَ: أَفِيكُمُ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ) أَيِ: الْبَارِحَةَ. فِي جَامِعِ الْأُصُولِ لَمْ يُقَارِفْ أَيْ: لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْجِمَاعُ فَكَنَّى عَنْهُ، وَقِيلَ هُوَ الْمَعْنِيُّ فِي الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ قَارَفَ الذَّنْبَ إِذَا دَانَاهُ، وَقَارَفَ امْرَأَتَهُ إِذَا جَاءَهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي دَفْنِ أُمِّ كُلْثُومٍ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَمْ يُقَارِفْ أَهْلَهُ اللَّيْلَةَ فَلْيَدْخُلْ قَبْرَهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يُقَارِفْ بِالْقَافِ وَالرَّاءِ وَالْفَاءِ مِنَ الْمُقَارَفَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ هُنَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ الذَّنْبُ أَوِ امْرَأُتُهُ، وَأَهْلُهُ، وَقَدْ زَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ فُلَيْحٍ أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَحَكَى عَنِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُقَارِفْ تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ لَمْ يُقَاوِلْ أَيْ: لَمْ يُنَازِعْ غَيْرَهُ فِي الْكَلَامِ ;

(باب ما جاء في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا) أَيِ: الَّذِي لَمْ يُجَامِعِ امْرَأَتَهُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَا الَّذِي لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا، وَلَوْ مُقَيَّدًا بِاللَّيْلَةِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَبِيرَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّ مِعْنَاهُ لَمْ يُجَامِعْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَبَجَّحَ أَبُو طَلْحَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، قَالَ مِيرَكُ وَيُقَوِّيِهِ أَنَّ رِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ لَا يَدْخُلُ الْقَبْرَ أَحَدٌ قَارَفَ أَهْلَهُ الْبَارِحَةَ فَتَنَحَّى عُثْمَانُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ: (انْزِلْ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا) وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، وَقَتَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ، وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ لِوَلِىِّ امْرَأَةٍ مَاتَتْ أَنْ يَأْمُرَ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ يَنْزِلَ فِي قَبْرِهَا، وَفِيهِ إِدْخَالُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ قَبْرَهَا لِكَوْنِهِمْ أَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ، وَالتَّوَسُّلِ بِالصَّالِحِينَ فِي أَمْثَالِهِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ إِذَا فَسَّرَ الْمُقَارَفَةَ بِالْمُجَامَعَةِ قُلْتُ لَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ، وَأَنْ يَكُونَ النَّازِلُ فِيهِ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِمُخَالَطَةِ النِّسَاءِ لِتَكُونَ نَفْسُهُ مُطَمْئِنَةً سَاكِنَةً كَالنَّاسِيَةِ لِلشَّهْوَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بَاشَرَ جَارِيَةً، فَعَلِمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُعْجِبْهُ حَيْثُ شُغِلَ عَنِ الْمَرِيضَةِ الْمُحْتَضِرَةِ بِهَا، فَأَرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ فِي قَبْرِهَا مُعَاتَبَةً عَلَيْهِ، فَكَنَّى بِهِ أَوْ حِكْمَةٌ أُخْرَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَقَالَ صَاحِبُ الِاسْتِيعَابِ: فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ كُلْثُومٍ اسْتَأْذَنَ أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْزِلَ فِي قَبْرِهَا، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهَا بِنْتٌ لَهُ صَغِيرَةٌ غَيْرُ رُقَيَّةَ، وَأُمِّ كُلْثُومٍ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ مِنْ نُزُولِ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ وَالزَّوْجِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَةٌ طِفْلَةٌ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ وَقِيلَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ لِيُقْبِرَهَا بَلْ لِيُعِينَ غَيْرَهُ، وَفِيهِ أَنَّ الَّذِينَ أَعَانَهُمْ لَيْسُوا مِنْ مَحَارِمِهَا، فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ ; لِأَنَّ رِوَايَةَ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ قَبْرَهَا عَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ وَأُسَامَةُ ; فَإِنْ صَحَّتْ، فَلَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَخْرَجَ الدُّولَابِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عُزِّيَ بِرُقَيَّةَ بِنْتِهِ امْرَأَةِ عُثْمَانَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ ثُمَّ زَوَّجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُثْمَانَ أُمَّ كُلْثُومٍ، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مِائَةَ بِنْتٍ يَمُتْنَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ زَوَّجْتُكَ أُخْرَى هَذَا جِبْرِيلُ أَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُنِي أَنْ أُزَوِّجَكَهَا رَوَاهُ الْفَضَائِلِيُّ، وَبَقِيَ مِنْ بَنَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبُ، وَهِيَ أَكْبَرُهُنَّ بِلَا خِلَافٍ مَاتَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ تَحْتَ ابْنِ خَالَتِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَاطِمَةُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ أَفْضَلُ بَنَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ كَانَتْ فَاطِمَةُ أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ إِلَّا مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَقِبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ انْتَشَرَ مِنْ عَلِيٍّ، وَأُخْتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَيْ زَيْنَبَ بِنْتِ الزَّهْرَاءِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَهُمْ شَرَفًا لَكِنَّهُ دُونَ شَرَفِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ، وَأَمَّا أَوْلَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذُّكُورُ فَفِي عِدَّتِهِمْ خِلَافٌ طَوِيلٌ، وَالْمُتَحَصَّلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ ثَمَانِيَةُ ذُكُورٍ اثْنَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا الْقَاسِمُ، وَإِبْرَاهِيمُ وَسِتَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ مَنَافٍ وَالطَّيِّبُ وَالْمُطَيَّبُ وَالطَّاهِرُ وَالْمُطَهَّرُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الذُّكُورَ ثَلَاثَةٌ، وَكُلُّهُمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا مِنْ خَدِيجَةَ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ الْقِبْطِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَوَلَدَتْ لَهُ إِبْرَاهِيمَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمَاتَ، وَلَهُ سَبْعُونَ يَوْمًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ وَوَرَدَ مِنْ طَرِيقِ ثَلَاثَةٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ لَكَانَ نَبِيًّا، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ، وَلَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ الْهُجُومُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ، وَأَمَّا إِنْكَارُ النَّوَوِيُّ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لِذَلِكَ، فَلِعَدَمِ ظُهُورِ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (بَابُ مَا جَاءَ فِي فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) الْفِرَاشُ بِكَسْرِ الْفَاءِ مَا يَبْسُطُ الرَّجُلُ تَحْتَهُ، وَيُجْمَعُ عَلَى فُرُشٍ بِضَمَّتَيْنِ، فَهُوَ فَعَّالٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولُ كَاللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ شَائِعٌ (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) بِضَمِّ مِيمٍ، وَكَسْرِ هَاءٍ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ

عَنْ عَائِشَةَ) وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْهَا الشَّيْخَانِ (قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ) أَيْ: فِي بَيْتِهَا أَوْ مُطْلَقًا، وَلَمَّا كَانَ الْفِرَاشُ لِلْجُلُوسِ أَيْضًا قَيَّدَتْ بِمَا يَنَامُ عَلَيْهِ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَهُمَا وَقَوْلُهُ (مِنْ أَدَمٍ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ أَدِيمٍ، وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ أَوِ الْأَحْمَرُ أَوْ مُطْلَقُ الْجِلْدِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَدَمًا بِالنَّصْبِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَدَمٌ بِالرَّفْعِ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَوَجْهُهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَوَجَّهَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ أَدَمٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفِرَاشِ، وَكَانَ تَامَّةٌ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ فِرَاشُهُ أَدَمٌ بَيَانٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَدَمٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ وَقَوْلُهُ (حَشْوُهُ) أَيْ: مَحْشُوُّهُ وَالضَّمِيرُ لِلْفِرَاشِ (لِيفٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: مِنْ لِيفِ النَّخْلِ ; لِأَنَّهُ الْكَثِيرُ بَلِ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الضَّمِيرُ لِلْأَدَمِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ جَمْعًا، فَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْأَدَمِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهَا حَالِيَّةً مِنْ فِرَاشٍ انْتَهَى. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ أَرَادَ ذِكْرَ خُشُونَةِ فِرَاشِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ هَذَا الْفِرَاشَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا نَامَ فِيهِ رِعَايَةً لِزَوْجَتِهِ، وَإِلَّا فَالْغَالِبُ أَنْ يَنَامَ عَلَى التُّرَابِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَلِيًّا نَامَ عَلَى التُّرَابِ مَدَحَهُ بِأَنْ كَنَّاهُ بِأَبِي تُرَابٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْتِصَاقِ التُّرَابِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ تَقْتَضِي التَّرْبِيَةَ، فَسَمَّاهُ بِعَمَلِهِ، وَنَادَاهُ بِأَبِي التُّرَابِ يَعْنِي أَنَّ الْأَرْضَ فِي حِيطَةِ تَرْبِيَةِ وُجُودِكَ إِيَّاهُ بِرِيَاضَةٍ اخْتَرْتَهَا، وَقَبُولٍ حَصَلَ لَكَ مِنْ رَبِّكَ انْتَهَى. بِلَفْظَةِ وَأَنْتَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْمُعَقَّدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الْحَقِيقِ بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ نُخَالَةٌ لَا دَقِيقَ مِنْ وَرَاءِ التَّأَمُّلِ كَيْفَ، وَقَوْلُهُ: الْغَالِبُ أَنْ يَنَامَ عَلَى التُّرَابِ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا وَارِدَ يُعَضِّدُهُ بَلِ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَنَمْ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ حَصِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ، وَيَشْهَدُ إِلَخْ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ إِذْ لَا شَاهِدَ فِي تَكْنِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ بِأَبِي تُرَابٍ عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنَامُ عَلَى التُّرَابِ، وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَخْ مَمْنُوعٌ بَلْ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ عَلَى التَّكْنِيَةِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ لَهُ قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ فَمَا كَنَّاهُ بِذَلِكَ إِلَّا حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا نَامَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاطِمَةَ شَيْءٌ فَذَهَبَ غَضْبَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَنَامَ عَلَى تُرَابِهِ فَجَاءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَأَخْبَرَتْهُ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، وَقَدْ أَعْلَاهُ الْغُبَارُ فَصَارَ، يَنْفُضُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ، وَيَكْفِي مُسَوِّغًا لِكُنْيَتِهِ هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي رَآهُ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ فَسَمَّاهُ بِعَمَلِهِ إِلَخْ كَلَامٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لَا يَرْضَى بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ إِلَّا عَدِيمُ التَّمْيِيزِ فَكَيْفَ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ بَلَغَ رُتْبَةً عَلِيَّةً مِنَ الْعِلْمِ لَمْ يَبْلُغْهَا غَيْرُهُ نَعَمْ بَلَغَهَا فِي الْفَلْسَفَةِ وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ الَّتِي لَا تُزِيدُ إِلَّا ضَلَالًا وَبَوَارًا. انْتَهَى كَلَامُهُ وَظَهَرَ مَرَامُهُ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْقِيلِ، وَهُوَ الْعِصَامُ الْجَلِيلُ بِمَا صَدَرَ عَنْهُ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ ضَلَالَةً، وَلَا يَسْتَوْجِبُ جَهَالَةً مَعَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ الْأَدَبِيَّةِ، وَكَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّقَائِقِ التَّفْسِيرِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ مِمَّا كَانَ يُعْجِزُ عَنْ فَهْمِ كَلَامِهِ الْمُعْتَرِضِ فِي بَيَانِ مَرَامِهِ، وَالَّذِي لَاحَ لِي فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَصَدَهُ فِي مَبْنَاهُ أَنَّ مُرَادَ الْعِصَامِ لَيْسَ إِثْبَاتُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنَامُ عَلَى التُّرَابِ بَلْ غَرَضُهُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَخْتَارُ الْفِرَاشَ رِعَايَةً لِحَظِّ نَفْسِهِ بَلْ مُرَاعَاةً لِلْغَيْرِ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ النَّومَ عَلَى الثَّرَى مُخَالَفَةً لِلْهَوَى، وَزُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَتَوَاضُعًا لِلْمَوْلَى، وَتَذَكُّرًا لِمَقَامِ الْبِلَى، وَلِذَا أَعْجَبَهُ صُنْعَ الْمُرْتَضِي، وَكَنَّاهُ بِهِ مَدْحًا لِحَالِهِ، وَحُسْنِ فَعَالِهِ، وَلِذَا كَانَ يُعْجِبُ عَلِيًّا هَذِهِ التَّكْنِيَةُ أَحْسَنَ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ ثُمَّ قَوْلُ الْعِصَامِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَخْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ سَبَبُ التَّكْنِيَةِ مُجَرَّدَ إِلْصَاقِ التُّرَابِ بِبَدَنِهِ الْمُبَارَكِ بَلِ

الْمُوجِبُ لَهَا إِذْلَالُ النَّفْسِ عَنْ إِعْجَابِهَا، وَغُرُورِهَا وَحِجَابِهَا وَرَدِّهَا إِلَى أَصْلِهَا حَيَاةً وَفَضْلِهَا مَمَاتًا، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، فَلِذَا رَفَعَهُ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ وَنَفَّضَ عَنْهُ التُّرَابَ، وَلَقَّبَهُ وَكَنَّاهُ بِهِ تَذْكِرَةً لِلْحَالَةِ الْحَسَنَةِ وَالْخَصْلَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ التَّدْقِيقِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ دُونَ الْمُتَعَسِّفِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَقَامَ، وَيَزِيدُ الْوُضُوحَ فِي الْمَرَامِ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ. مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ كَانَ ضِجَاعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَمًا حَشْوُهُ لِيفٌ، وَالضِّجَاعُ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَا يُرْقَدُ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَدَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مُرَقَّعَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَاءَةً مَثْنِيَّةً فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوُهُ صُوفٌ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ فَقَالَ: رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَجْرَى اللَّهُ مَعِي جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبَاءَةً مَثْنِيَّةً فَانْطَلَقَتْ، وَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ فِيهِ صُوفٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا هَذَا قُلْتُ أَنَّ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ دَخَلَتْ عَلَيَّ فَرَأَتْ فِرَاشَكَ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِهَذَا، فَقَالَ: رُدِّيهِ فَأَبَيْتُ فَلَمْ أَرُدَّهُ وَأَعْجَبَنِي أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِي قَالَتْ: حَتَّى قَالَ لِي ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ، فَوَاللَّهِ لَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللَّهُ لِي جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالَتْ: فَرَدَدْتُهُ. وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ اضْطَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقِيلَ لَهُ أَلَا نَأْتِيَكَ بِشَيْءٍ يَقِيكَ مِنْهُ فَقَالَ: مَا لِي وَالدُّنْيَا إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ لَفْظَهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُؤْذِنُنَا نَبْسُطُ تَحْتَكَ أَلْيَنَ مِنْهُ فَقَالَ مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا وَمِنْهَا مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَشْرُبَةٍ أَيْ: غُرْفَةٍ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا أَيْ مَا يُدْبَغُ وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ أَيْ: جُلُودٌ فَبَكَيْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أُولَئِكَ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ، وَهِيَ وَسِيلَةُ الِانْقِطَاعِ، وَإِنَّا قَوْمٌ أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي آخِرَتِنَا، وَفِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَأَنَّهُ كَانَ مُضَطِّجِعًا عَلَى خَصَفَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَهُ لَعَلَى التُّرَابِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا غَيْرُ خَصَفَةٍ، وَوِسَادَةٍ مِنْ لِيفٍ، وَنَحْوَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غُرْفَةٍ كَأَنَّهَا بَيْتُ حَمَامٍ، وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى حَصِيرٍ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَبَكَى، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ يَنَامُونَ عَلَى الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَأَنْتَ نَائِمٌ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِكَ، فَقَالَ: لَا تَبْكِ، فَإِنَّ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دَخَلَا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ مُزَمَّلٍ بِالْبَرْدِيِّ، وَهُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ أَسْوَدُ حَشْوُهُ بِالْبَرْدِيِّ فَلَمَّا رَآهُمَا اسْتَوَى جَالِسًا فَنَظَرَاهُ فَإِذَا أَثَرُ السَّرِيرِ فِي جَنْبِهِ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُؤْذِيكَ خُشُونَةُ مَا نَرَى فِي فِرَاشِكَ وَسَرِيرِكَ، وَهَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ عَلَى فِرَاشِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولَا هَذَا، فَإِنَّ فِرَاشَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِي النَّارِ، وَإِنَّ فِرَاشِيَ، وَسَرِيرِيَ هَذَا عَاقِبَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعُرْيَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَنَامُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، الْحَدِيثَ، فَهَذَا أَصْلٌ أَصِيلٌ لِلْعِصَامِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ (حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونَ قَالَ: أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ: الصَّادِقُ ابْنُ الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) قَالَ مِيرَكُ: فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ انْقِطَاعٌ لِأَنَّ الْبَاقِرَ لَمْ يَلْقَ عَائِشَةَ، وَلَا حَفْصَةَ فَإِنَّ وِلَادَتَهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمَاتَتْ عَائِشَةُ

فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَمَاتَتْ حَفْصَةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ انْتَهَى. وَقَدْ حَقَّقَ ابْنُ الْهُمَامِ أَنَّ الِانْقِطَاعَ مِنْ طَرِيقِ الثَّبَاتِ لَا يَضُرُّ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَأَلَ سَائِلٌ عَائِشَةَ (مَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِكِ) وَلَعَلَّ وَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّ بَيْتَهَا كَانَ أَعَزَّ الْبُيُوتِ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَعْدَهَا حَفْصَةُ لِمَكَانِ أَبَوَيْهِمَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ بَقِيَّةِ كِمَالَاتِهِمَا (قَالَتْ: مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ) وَفِي نُسْخَةٍ أَدَمٌ بِالرَّفْعِ بِدُونِ كَلِمَةِ مِنْ ثُمَّ قِيلَ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ لَا لِأَدَمٍ ; لِأَنَّهُ جَمْعٌ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صِفَةٌ لِأَدَمٍ لَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْفِرَاشُ مَصْنُوعًا مِنْ أَدَمٍ حَشْوُ ذَلِكَ الْأَدَمِ لِيفٌ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَدَمِ قَبْلَ الصُّنْعِ حَشْوٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَمَا صُنِعَ فِرَاشًا انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنُ الْمَبْنَى، وَمُسْتَحْسَنُ الْمَعْنَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: فِيهِ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ; لِأَنَّهُ جَمْعٌ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ لَاقْتَضَى إِلَى آخِرِهِ فِي هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الَّتِي زَعَمَهَا نَظَرٌ بَلْ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الْفِرَاشَ اسْمٌ لِمَا يُفْرَشُ، وَهُوَ يَكُونُ تَارَةً أَدَمًا، وَتَارَةً غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ أَدَمًا فَتَارَةً يَكُونُ مَحْشُوًّا، وَتَارَةً يَكُونُ بِلَا حَشْوٍ فَبَيَّنَتْ بِقَوْلِهَا حَشْوُهُ لِيفٌ أَنَّهُ أَدَمٌ مَحْشُوٌّ لَا خَالٍ عَنِ الْحَشْوِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُهُ، وَظَاهِرُ إِلَى آخِرِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى كَوْنِهِ صِفَةً لِأَدَمٍ مَحْذُورٌ أَصْلًا انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُلَازَمَةَ عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ بَلْ بَدِيهِيَّةٌ، فَإِنْكَارُهُ حَشْوٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُصَادَرَةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُكَابَرَةِ، وَالْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ سَابِقًا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْأَدَمُ اسْمَ جَمْعٍ، وَحَيْثُ أَنَّهُ جَمْعٌ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَالْمَرْجِعِ لَا لَفْظًا، وَلَا مَعْنَى (وَسُئِلَتْ حَفْصَةُ) يَعْنِي أَيْضًا (مَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِكَ قَالَتْ: مِسْحًا) أَيْ: كَانَ مِسْحًا، وَهُوَ بِكَسْرِ مِيمٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ أَيْ: فِرَاشًا خَشِنًا مِنْ صُوفٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْبِلَاسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِسْحٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ هُوَ هُوَ أَوْ فِرَاشُهُ مِسْحٌ (ثَنَيْتُهُ) رُوِيَ مِنَ الثَّنْيِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ يُقَالُ ثَنَاهُ عَطَفَهُ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَوْلُهُ (ثِنْيَتَيْنِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: طَاقَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى نَعْطِفُهُ عَطْفَ ثِنْيَيْنِ أَيْ عَطْفًا يَحْصُلُ مِنْهُ طَاقَانِ فَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ لَا لِلتَّأْنِيثِ وَيُؤَيْدِهِ مَا فِي نُسْخَةِ ثِنْتَيْنِ بِدُونِ تَاءِ الْوَحْدَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ كَذَا حَقَّقَهُ الْعِصَامُ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَرُوِيَ مِنَ التَّثْنِيَةِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى لِقَوْلِهِ ثِنْتَيْنِ، وَلِأَنَّ التَّثْنِيَةَ عَلَى مَا فِي التَّاجِ جَعْلُ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَهُوَ لَا يُلَائِمُ هَذَا الْمَقَامَ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِجَعْلِ الشَّيْءِ ثَانِيًا أَنْ يَقَعَ الْقَطْعُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ثِنْتَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ صِفَةَ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، وَعَلَى الْأَوَّلِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (فَيَنَامُ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ ذَاتُ لَيْلَةٍ) بِالرَّفْعِ أَيْ: تَحَقُّقُ لَيْلَةٍ فَكَلِمَةُ كَانَ تَامَّةٌ، وَقَدْ يُرْوَى بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ ضَمِيرُ كَانَ رَاجِعٌ إِلَى الْوَقْتِ، وَالزَّمَانِ، وَذَاتُ مُقْحَمَةٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَوِ الْمُرَادُ بِهَا سَاعَاتُ لَيْلَةٍ (قُلْتُ) أَيْ: فِي نَفْسِي أَوْ لِبَعْضِ خَدَمِي (لَوْ ثَنَيْتُهُ) أَيْ: عَطَفْتُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحِدِ مِنَ الثَّنْيِ عَلَى حَدِّ ضَرْبِ (أَرْبَعُ ثِنْيَاتٍ) بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: طَاقَاتٌ لَا طَفَقَاتٍ، وَإِنِ اقْتَضَاهُ كَوْنُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِ ثِنْيَاتٍ، وَلَعَلَّ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ: أَوْ ثَنَيْتُهُ ثَنْيًا مُلَابِسًا بِأَرْبَعِ ثِنْيَاتٍ مِنْ قَبِيلِ مُلَابَسَةِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ فِي ضِمْنِهِ (كَانَ) أَيْ: لَكَانَ فِرَاشُهُ حِينَئِذٍ (أَوْطَأَ لَهُ) أَيْ: أَلْيَنَ مِنْ وَطِئَ يُوطِئُ إِذَا لَانَ مِنْ بَابِ حَسِنَ يُحْسِنُ، وَيُقَالُ وَطَّأَ الْمَوْضِعَ يُوطَأُ وَطْأَةً أَيْ:

(باب ما جاء في تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

صَارَ وَطْئًا أَيْ: لَيِّنًا وَكَأَنَّهُ وَطِئَ حَتَّى لَانَ (فَثَنَيْنَاهُ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَقَدْ رُوِيَ هُنَا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّنْيِ، وَبِالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّثْنِيَةِ (بِأَرْبَعِ ثِنْيَاتٍ) بِالْيَاءِ لَا غَيْرَ هُنَا، وَفِيمَا سَيَأْتِي (فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: مَا فَرَشْتُمْ لِيَ اللَّيْلَةَ) أَيِ: الْبَارِحَةَ أَيْ: أَيُّ فِرَاشٍ فَرَشْتُمْ لِي، وَصِيغَةُ الْمُذَكَّرِ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِتَغْلِيبِ بَعْضِ الْخَدَمِ، وَلَعَلَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ نُعُومَتَهُ وَلِينَتَهُ ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُ فِرَاشِهِ الْمَعْهُودِ أَوْ نَزَلَهُ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ (قَالَتْ: قُلْنَا هُوَ فِرَاشُكَ) أَيِ: الْمَعْهُودُ بِعَيْنِهِ (إِلَّا أَنَّا ثَنَيْنَاهُ بِأَرْبَعِ ثِنْيَاتٍ قُلْنَا) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ مُتَضَمِّنٍ لِتَعْلِيلٍ وَبُرْهَانٍ (هُوَ) أَيْ: كَوْنُهُ مَثْنِيًّا بِأَرْبَعِ طَيَّاتٍ (أَوْطَأُ لَكَ) أَيْ: أَوْفَقُ لَكَ، وَأَرْفَقُ لِبَدَنِكَ (قَالَ: رُدُّوهُ) أَيْ: فِرَاشِيَ (لِحَالِهِ الْأُولَى) أَيْ: مِنَ الثِّنْيَيْنِ (; فَإِنَّهُ) أَيْ: بِاعْتِبَارِ حَالَتِهِ الثَّانِيَةِ (مَنَعَتْنِي) وَفِي نُسْخَةٍ مَنَعَنِي (وَطْأَتُهُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَهَمْزٍ أَيْ: لِينَتُهُ (صَلَاتِي اللَّيْلَةَ) أَيِ: التَّهَجُّدُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّوْمَ عَلَى الْفِرَاشِ الْمَحْشُوِّ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَدَمٍ أَوْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ عَيْنَ الْأَدَمِ، وَاللِّيفِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَتْ شَرْطًا بَلْ ; لِأَنَّهَا الْمَأْلُوفَةُ عِنْدَهُمْ فَلَحِقَ بِهَا كُلُّ مَأْلُوفٍ عِنْدَهُمْ نَعَمِ الْأَوْلَى لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ، وَمَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى الدَّعَةِ، وَالتَّرَفَةِ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي حَشْوِ الْفِرَاشِ، وَلِينِهِ ; لِأَنَّهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي كَثْرَةِ النَّوْمِ، وَالْغَفْلَةِ وَالتَّثَاقُلِ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِرَاشٌ لِلْمَرْأَةِ وَفِرَاشٌ لِلضَّيْفِ، وَفَرَّاشٌ لِلشَّيْطَانِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا أَضَافَهُ لِلشَّيْطَانِ ; لِأَنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهِ كُلُّ مَذْمُومٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ، فَهُوَ مَشْئُومٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُتَّخَذُ لِلْخُيَلَاءِ وَالْمُبَاهَاتِ، وَقِيلَ أُضِيفَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ مَبِيتُهُ، وَمَقِيلُهُ ثُمَّ تَعْدَادُ الْفِرَاشِ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لَا يُنَافِي أَنَّ السُّنَّةَ بَيَاتُهُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُمَا قَدْ يَحْتَاجَانِ إِلَى ذَلِكَ بِمَرَضٍ، وَنَحْوِهِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) التَّوَاضُعُ هُوَ التَّذَلُّلُ، وَيُقَالُ وَضُعَ الرَّجُلُ يُوضَعُ صَارَ وَضِيعًا وَوَضَعَ مِنْهُ فُلَانٌ أَيْ: حَطَّ مِنْ دَرَجَتِهِ وَضَعْضَعَهُ الدَّهْرُ فَتَضَعْضَعَ أَيْ: خَضَعَ وَذَلَّ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: التَّوَاضُعُ بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الضِّعَةِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهِيَ الْهَوَانُ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّوَاضُعِ إِظْهَارُ النُّزُلُ عَنِ الْمَرْتَبَةِ يُرَادُ تَعْظِيمُهُ، وَقِيلَ هُوَ تَعْظِيمُ مَنْ فَوْقَهُ لِفَضْلِهِ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَبْلُغُ حَقِيقَةَ التَّوَاضُعِ وَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالتَّخَشُّعُ إِلَّا إِذَا دَامَ تَجَلِّي نُورِ الشُّهُودِ فِي قَلْبِهِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُذِيبُ النَّفْسَ، وَيَصِفُهَا عَنْ غِشِّ الْكِبْرِ وَالْعَجَبِ فَتَلِينُ، وَتَطْمَئِنُّ لِلْحَقِّ وَالْخُلُقِ بِمَحْوِ آثَارِهَا وَسُكُونِ وَهَجِهَا، وَنِسْيَانِ حَقِّهَا، وَالذُّهُولِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى قَدْرِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْ ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَوَاضُعًا، وَحَسْبُكَ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَيَّرَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلَكَا أَوْ يَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا، وَمَنْ مِثْلُهُ لَمْ يَأْكُلْ مُتَّكِئًا بَعْدُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَقَالَ: أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَلَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ خَادِمُهُ أَنَسٌ أُفٍّ قَطُّ، وَمَا ضَرَبَ أَحَدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ الطَّوْرُ الْبَشَرِيُّ لَوْلَا التَّأْيِيدُ الْإِلَهِيُّ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ كَيْفَ كَانَ إِذَا خَلَا فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: أَلْيَنُ النَّاسِ بَسَّامًا ضَحَّاكًا لَمْ يُرَ قَطُّ مَادًّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَعَنْهَا مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْهُ مَا دَعَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا قَالَ: لَبَّيْكَ، وَكَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ صَحِبَهُ رَاكِبًا حِمَارَ أَبِيهِ فَقَالَ: لَهُ ارْكَبْ فَأَبَى فَقَالَ لَهُ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ارْكَبْ أَمَامِي فَصَاحِبُ الدَّابَّةِ أَوْلَى بِمُقَدَّمِهَا، وَفِي مُخْتَصَرِ السِّيرَةِ لِلْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبَ حِمَارًا عُرْيًا إِلَى قُبَاءٍ، وَمَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَحْمِلُكَ فَقَالَ: مَا شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: ارْكَبْ فَوَثَبَ لِيَرْكَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ فَاسْتَمْسَكَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَقَعَا

جَمِيعًا ثُمَّ رَكِبَ، وَقَالَ: لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَ فَوَقَعَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكِبَ، وَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا رَمَيْتُكَ ثَالِثًا، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإِصْلَاحِ شَاةٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ عَلَيَّ ذَبْحُهَا، وَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ سَلْخُهَا، وَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ طَبْخُهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكْفِيكَ الْعَمَلَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ تَكْفُونِي، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أَتَمَيَّزَ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرَاهُ مُتَمَيِّزًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ انْتَهَى. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ الْقِصَّةَ الْأَخِيرَةَ مُخْتَصَرَةً، وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي الطَّوَافِ فَانْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: نَاوِلْنِي أُصْلِحُهُ فَقَالَ: هَذِهِ أَثَرَةٌ، وَلَا أَحَبَّ الْأَثَرَةُ. وَهِيَ بِفَتْحِهِمَا الِاسْتِئْثَارُ، وَالِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ، وَفِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَدَمَ وَفْدَ النَّجَاشِيِّ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ نَكْفِيكَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِنَا مُكَافِئِينَ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُكْرِمَهُمْ (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ: كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِي (قَالُوا: أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا تُطْرُونِي) مِنَ الْإِطْرَاءِ بِمَعْنَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْمَدْحِ بِالْكَذِبِ (كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَفْرَطُوا فِي مَدْحِهِ، وَجَاوَزُوا فِي حَدِّهِ إِلَى أَنْ جَعَلُوهُ وَلَدًا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَنَعَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصِفُوهُ بِالْبَاطِلِ، وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْمَسِيحِ إِلَى ابْنِ مَرْيَمَ تَبْعِيدٌ عَنِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي الْمَدْحِ بِالْكَذِبِ حَتَّى جَعَلُوا مَنْ حَصَّلَ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ الطَّوَامِثِ إِلَهًا، وَابْنَ إِلَهٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ وُقُوعُهُ ; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَى فِي نَبِيِّنَا مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى، وَإِنَّمَا سَبَبُ النَّهْيِ فِيمَا يَظْهَرُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَ فِي السُّجُودِ لَهُ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ، وَإِرَادَةِ التَّكْرِيمِ، فَامْتَنَعَ وَنَهَاهُ، وَكَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُبَالِغَ غَيْرُهُ بِأَخْوَفَ مِنْ ذَلِكَ فَبَادَرَ إِلَى النَّهْيِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ فَالْمَعْنَى لَا تَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي مَدْحِي بِغَيْرِ الْوَاقِعِ فَيَجُرُّكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا جَرَّ النَّصَارَى إِلَيْهِ لَمَّا تَعَدَّوْا عَنِ الْحَدِّ فِي مَدْحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَيْرِ الْوَاقِعِ، وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا كَمَا حَرَّفُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْإِنْجِيلِ عِيسَى نَبِيٌّ، وَأَنَا وَلَدْتُهُ فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ بِتَقْدِيمِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَخَفَّفُوا اللَّامَ فِي الثَّانِي فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ، وَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَفِي أُخْرَى عَبْدٌ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ فَإِرْدَافُهُ النَّهْيَ بِهَذَا الْقَوْلِ لِإِرَادَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِي صِفَةٌ غَيْرَ الْعُبُودِيَّةِ، وَالرِّسَالَةِ، وَهَذَا غَايَةُ الْكَمَالِ فِي مَرْتَبَةِ الْمَخْلُوقِ، فَلَا تَقُولُوا فِي حَقِّي شَيْئًا يُنَافِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَلَا تَعْتَقِدُوا فِي شَأْنِي وَصْفًا غَيْرَهُمَا (فَقُولُوا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ)

وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا عَدَا نَعْتَ الْأُلُوهِيَّةِ، وَوَصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَى هَذِهِ الزُّبْدَةِ أَشَارَ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ بِقَوْلِهِ: (دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي نَبِيِّهِمُ ... وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمُ) هَذَا وَقَوْلُهُ إِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ لِقَصْرِ الْقَلْبِ أَيْ: لَسْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَتِ النَّصَارَى أَوِ الْقَصْرُ فِيهِ إِضَافِيٌّ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ لَهُ أَوْصَافًا مِنَ الْكَمَالِ غَيْرُ الْعُبُودِيَّةِ، وَالرِّسَالَةُ مِنْهَا أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ ابْنِ الْفَارِضِ (أَرَى كُلَّ مَدْحٍ فِي النَّبِيِّ مُقَصِّرًا ... وَإِنْ بَالَغَ الْمُثْنِي عَلَيْهِ وَأَكْثَرَا) (إِذَا اللَّهُ أَثْنَى بِالَّذِي هُوَ أَهْلُهُ ... عَلَيْهِ فَمَا مِقْدَارُ مَا يَمْدَحُ الْوَرَى) وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: (مَا إِنْ مَدَحْتُ مُحَمَّدًا بِمَدِيحَتِي ... بَلْ إِنْ مَدَحْتُ مَدِيحَتِي بِمُحَمَّدٍ) أَقُولُ وَيَكْفِي فِي مَدْحِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِجْمَالًا أَنَّهُ مُحَمَّدٌ يَحْمَدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَأَنَّهُ أَحْمَدُ مَنْ حَمِدَ، وَأَحْمَدُ مَنْ حُمِدَ وَلَهُ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ وَاللِّوَاءُ الْمَمْدُودُ وَالْحَوْضُ الْمَوْرُودُ، وَالشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ. آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ ... فَلَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ حَمْدِهِ وَثَنَائِهِ ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ تَوَاضُعِهِ حَيْثُ اقْتَصَرَ أَمْرُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الرِّسَالَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ نَظَرًا إِلَى كَمَالِ نُعُوتِ رَبِّهِ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّنَزُّلِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ بَلْ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِ مَنْ فَوْقَهُ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (سُوِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً) أَيْ: كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا (جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً) أَيْ: أُرِيدُ أَنْ أُخْفِيَهَا عَنْ غَيْرِكَ (فَقَالَ: اجْلِسِي فِي أَيِّ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ) أَيْ: فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقِهَا نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أَوْ بِمَعْنَى أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ أَرَدْتِ (أَجْلِسْ) مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ: أَقْعُدْ أَنَا فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ مُتَوَجِّهًا (إِلَيْكِ) أَوْ مَعَكِ حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ انْظُرِي أَيِّ السِّكَكِ شِئْتِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ لِحَاجَةٍ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُؤْذِي أَوْ يَتَأَذَّى بِجُلُوسِهِ فِيهَا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: نَقْلًا عَنِ الْمُهَلَّبِ لَمْ يُرِدْ أَنَسٌ أَنَّهُ خَلَا بِهَا بِحَيْثُ غَابَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا خَلَا بِهَا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ شَكْوَاهَا مَنْ حَضَرَ مَعَهَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ مِيرَكُ: رَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ مَنْ كَتَبَ الْحَوَاشِيَ عَلَى كِتَابِ الشِّفَاءِ أَنَّ اسْمَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي طَرِيقِ مُسْلِمٍ أُمُّ زُفَرَ مَاشِطَةُ خَدِيجَةَ، وَأَظُنُّهُ سَهْوًا فَإِنَّ أُمَّ زُفَرَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرِوَايَاتُ الْبُخَارِيِّ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ حَتَّى وَرَدَ فِي رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ:

وَاللَّهِ أَوْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ زَادَ بِهَذِهِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمَرْأَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ غَيْرُ الْمَذْكُورَةِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَكِنَّ الظَّاهِرَ اتِّحَادُ الْقِصَّةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الرِّوَايَاتِ هَذَا وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ أَمَةٌ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَنْطَلِقَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ إِنْ كَانَتِ الْوَلِيدَةُ مِنْ وَلَائِدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَجِئُ فَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ لَازِمُهُ وَهُوَ الرِّفْقُ وَالِانْقِيَادُ وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَاضُعِ لِذِكْرِ الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، وَالْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ وَحَيْثُ عَمَّ بِلَفْظِ الْإِمَاءِ أَيْ: أَيَّ أَمَةٍ كَانَتْ، وَبِقَوْلِهِ حَيْثُ شَاءَتْ أَيْ: مِنَ الْأَمْكِنَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَخْذِ بِالْيَدِ إِشَارَةٌ إِلَى غَايَةِ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَاجَتُهَا خَارِجَ الْمَدِينَةِ، وَالْتَمَسَتْ مِنْهُ مُسَاعَدَتَهَا فِي تِلْكَ الْحَاجَةِ لَسَاعَدَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَزِيدِ تَوَاضُعِهِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا صَبْرُهُ عَلَى الْمَشَقَّةِ فِي نَفْسِهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِجَابَتُهُ مَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً، وَبُرُوزُهُ لِلنَّاسِ وَقُرْبُهُ مِنْهُمْ لِيَصِلَ إِلَيْهِ ذَوُو الْحُقُوقِ إِلَى حُقُوقِهِمْ، وَيَسْتَرْشِدَ النَّاسُ بِأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ تَنْبِيهًا مِنْهُ لِحُكَّامِ أُمَّتِهِ، وَنَحْوِهِمْ عَلَى أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ فِي ذَلِكَ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنْبَأَنَا) ، وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مُخَفَّفًا (عَنْ مُسْلِمٍ الْأَعْوَرِ) أَيِ: الْمَشْهُورُ بِهِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُ الْمَرِيضَ) أَيْ: أَيَّ مَرِيضٍ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا حَتَّى لَقَدْ عَادَ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَخْدِمُهُ، وَعَادَ عَمَّهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ الْأَوَّلُ، وَقِصَّتُهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْنُو مِنَ الْمَرِيضِ، وَيَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ، وَيَقُولُ كَيْفَ تَجِدُكَ أَوْ كَيْفَ أَصْبَحْتَ أَوْ كَيْفَ أَمْسَيْتَ أَوْ كَيْفَ هُوَ وَيَقُولُ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ كَفَارَّةٌ وَطَهُورٌ وَقَدْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَأْلَمُ ثُمَّ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُؤْذِيكَ اللَّهُ يَشْفِيكَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ مَرِضْتُ فَأَتَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي، وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَنَفَخَ فِي وَجْهِي فَأَفَقْتُ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا جَابِرُ لَا أَرَاكَ مَيِّتًا مِنْ وَجَعِكَ هَذَا وَصَحَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ يَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ وَذَكَرَ مِنْهَا عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: بِسُنِّيَّتِهِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَصَحَّ أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَصَحَّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي، وَأَمَّا حَدِيثُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ فِيهَا عِيَادَةٌ الرَّمَدُ، وَالدُّمَّلُ وَالضِّرْسُ فَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعُودُ مَرِيضًا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ ضَعِيفٌ بَلْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: بَاطِلٌ ثُمَّ تَرْكُ الْعِيَادَةِ يَوْمَ السَّبْتِ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا يَهُودِيٌّ أَلْزَمَهُ مَلِكٌ مَرِضَ بِمُلَازَمَتِهِ فَأَرَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الذَّهَابَ لِسَبْتِهِ فَمَنَعَهُ فَخَافَ اسْتِحْلَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَرِيضَ لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَرَكَهُ الْمَلِكُ ثُمَّ أُشِيعَ ذَلِكَ، وَصَارَ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ أَصْلًا وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ أَصْلًا، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ تَرَكُوا الْعِيَادَةَ فِيهِ، وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، وَالْجُمُعَةِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَسَّرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّهُ لِزِيَارَةِ الْمَوْتَى فَلَا وَجْهَ لَهُ بَلْ أَقُولُ الْمَرْضَى فِي حُكْمِ الْمَوْتَى فَالْقِيَاسُ فِعْلُهُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الْفُرَاوِيِّ أَنَّهَا تُنْدَبُ شِتَاءً لَيْلًا وَصَيْفًا نَهَارًا وَحِكْمَتُهُ تَضَرُّرُ الْمَرِيضِ بِطُولِ اللَّيْلِ شِتَاءً وَالنَّهَارِ صَيْفًا فَيَحْصُلُ لَهُ بِالْعِيَادَةِ مِنَ الِاسْتِرْوَاحِ مَا يُزِيلُ عَنْهُ تِلْكَ الْمَشَاقَّ الْكَثِيرَةَ، وَلِذَا قِيلَ لِقَاءُ الْخَلِيلِ شِفَاءُ الْعَلِيلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي فَضِيلَةِ الْعِيَادَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَقِيلَ أَنَّ الْعِيَادَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَفِيهِ تَعْمِيَةٌ لَطِيفَةٌ خَطِّيَّةٌ وَحِسَابِيَّةٌ، وَعِيَادَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ كَوْنِهَا عِبَادَةَ تَوَاضُعٍ ; لِأَنَّ التَّوَاضُعَ خُرُوجُ الْإِنْسَانِ عَنْ مُقْتَضَى جَاهِهِ، وَتَنَزُّلُهُ عَنْ مَرْتَبَةِ أَمْثَالِهِ (وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ، وَالدَّفْنِ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَيْضًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سُنَّةٌ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَوَاضُعِهِ أَيْضًا وَكَانَ إِذَا شَيَّعَ جِنَازَةً عَلَا كَرْبُهُ، وَأَقَلَّ الْكَلَامَ، وَأَكْثَرَ حَدِيثَ نَفْسِهِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ) أَيْ: مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى النَّاقَةِ، وَالْفَرَسِ وَالْجَمَلِ وَرُبَّمَا كَانَ يُرْدِفُ أَحَدًا مَعَهُ (وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ) وَفِي

رِوَايَةٍ الْمَمْلُوكِ أَيْ: إِلَى أَيِّ حَاجَةٍ دَعَاهُ إِلَيْهَا قَرُبَ مَحَلُّهَا أَوْ بَعُدَ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِجَابَةَ دَعْوَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَوْ سُمِّيَ عَبْدًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْتُوقُ أَوْ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ إِجَابَتِهِ لِعَدَمِ مَأْتَى سَيِّدِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكَابِرِ الزَّمَانِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْعُدُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ أَيْ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَيَقُولُ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ، وَكَانَ يَعْتَقِلُ شَاتَهُ (وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ) بِالتَّصْغِيرِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ، وَكَانَ مَحْضَرًا عَظِيمًا (عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ) أَيْ ذَا خِطَامٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الزِّمَامُ (بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ) وَهُوَ الْخِطَامُ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ فِي طَرَفِهِ حَلْقَةً وَيَسْلُكَ فِيهَا طَرَفَهُ الْآخَرَ حَتَّى يَصِيرَ كَالْحَلْقَةِ ثُمَّ يُقَادُ بِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْحِمَارِ (إِكَافٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّرْجِ لِلْفَرَسِ وَالرَّحْلِ لِلْبَعِيرِ (مِنْ لِيفٍ) وَفِي نُسْخَةٍ إِكَافُ لِيفٍ بِالْإِضَافَةِ. (حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْإِهَالَةِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَدْهَانِ مِمَّا يُؤْتَدَمُ، وَقِيلَ مَا أُذِيبَ مِنَ الْأَلْيَةِ وَالشَّحْمِ، وَقِيلَ الدَّسَمُ الْجَامِدُ وَقَوْلُهُ (السَّنِخَةِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ النُّونِ فَالْخَاءُ الْمُعْجَمَةُ أَيِ الْمُتَغَيِّرَةِ الرِّيحِ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ (فَيُجِيبُهُ وَلَقَدْ كَانَتْ لَهُ دِرْعٌ) زَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيدٍ أَيْ مَرْهُونَةٌ فِي ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَخَذَهُ لِأَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ المص فِي الْجَامِعِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَّتِهِ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَخَذَ أَوَّلًا عِشْرِينَ ثُمَّ عَشَرَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ لَعَلَّهُ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِينَ فَجُبِرَ إِلَى الْكَسْرِ تَارَةً وَأُوفِيَ أُخْرَى، وَوَقَعَ لِابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قِيمَةَ الطَّعَامِ كَانَتْ دِينَارًا، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْهَا أَنَّ الْأَجَلَ سَنَةٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَانَ بِدُونِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ دِرْعَ الْحَدِيدِ مُؤَنَّثٌ وَدِرْعَ الْمَرْأَةِ مُذَكَّرٌ، كَذَا حَرَّرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُؤَنَّثُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ تَأَخَّرَ لَا سِيَّمَا مَعَ الْفَصْلِ جَازَ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ كَمَا قُرِئَ بِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَأَمَّا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي اللُّغَةِ أَنَّ دِرْعَ الْحَدِيدِ بِمَعْنَى اللَّأْمَةِ بِالْهَمْزَةِ، وَدِرْعَ الْمَرْأَةِ بِمَعْنَى الْقَمِيصِ، مَعَ أَنَّ دِرْعَ الْحَدِيدِ قَدْ يُذَكَّرُ كَمَا

ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ (عِنْدَ يَهُودِيٍّ) هُوَ أَبُو الشَّحْمِ بْنُ الْأَرْسِ، وَاسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقَرْضَ مِنَ الْأَبَاعِدِ أَوْلَى (فَمَا وَجَدَ مَا يَفُكُّهَا) بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ شَيْئًا يُخَلِّصُ الدِّرْعَ، (حَتَّى مَاتَ) أَيْ مِسْكِينًا كَمَا طَلَبَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، قِيلَ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِإِتْمَامِ الْحَدِيثِ لَا لِبَيَانِ التَّوَاضُعِ وُرَدَّ بِأَنَّ فِيهَا غَايَةَ التَّوَاضُعِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ سَأَلَ مَيَاسِيرَ أَصْحَابِهِ فِي رَهْنِ دِرْعِهِ لَرَهَنُوهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْعَطَاءِ فِي مَرْضَاتِهِ مَا لَا يُحْصَى، فَإِذَا تَرَكَ سُؤَالَهُمْ وَسَأَلَ يَهُودِيًّا لَمْ يُبَالِ بِأَنَّ مَنْصِبَهُ الشَّرِيفَ يَأْبَى أَنْ يَسْأَلَ مِثْلَ يَهُودِيٍّ فِي ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى غَايَةِ تَوَاضُعِهِ وَعَدَمِ نَظَرِهِ لِفَوْتِ مَرْتَبَتِهِ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ، حَيْثُ إِنَّهُ اخْتَارَ الْعُقْبَى وَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا مَعَ عَرْضِ الْجِبَالِ ذَهَبًا لَهُ مِنْ عِنْدِ الْمَوْلَى، وَرَدًّا عَلَى مَقَالِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا حَيْثُ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَمَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِبَرَاءَتِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَطَلَبِ الْأَجْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَنَزَّهَ عَنِ الْقَرْضِ الَّذِي أَدَاؤُهُ مِنَ الْفَرْضِ، وَلِذَا تَبِعَهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ حَيْثُ لَمْ يَقِفْ فِي ظِلِّ جِدَارِ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ تَنَزُّهًا مِنْ كُلِّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا، هَذَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْوَفَاءُ فَانْدَفَعَ بِهِ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُرْتَهَنَةٌ أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهِ الْكَرِيمِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى أَنَّ مَحَلَّهُ فِي مَنِ اسْتَدَانَ لِمَعْصِيَةٍ وَإِلَّا لَمْ يُطَالَبْ قِيلَ إِجْمَاعًا انْتَهَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالٍ مِنْ غَيْرِ إِبْرَازِ اسْتِدْلَالٍ، إِذِ الْأَصْلُ عُمُومُ الْحُكْمِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَمَحَلُّ بَحْثٍ، وَكَذَا مَنِ اسْتَدَانَ لِمَعْصِيَةٍ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: ذُكِرَ فِي الْأَقْضِيَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ افْتَكَّهَا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَضَى دُيُونَهُ، وَرَوَى إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ افْتَكَّ الدِّرْعَ وَسَلَّمَهَا إِلَى عَلِيٍّ وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَكَّهَا قَبْلَ مَوْتِهِ فَمُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ فِيمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ تَحْرِيمُ عَيْنِ الْمُتَعَامَلِ فِيهِ، وَعَدَمُ الِاعْتِبَارِ بِفَسَادِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ جَوَازُ مُعَامَلَةِ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ يَعْنِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ السِّلَاحِ وَرَهْنِهِ وَإِجَارَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِ مَا لَمْ يَكُنْ حَرْبِيًّا، وَفِيهِ ثُبُوتُ الْمَالِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَيْدِيهِمْ وَجَوَازُ الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّوَاضُعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ فِيهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَالْكَرَمِ الَّذِي أَفْضَى إِلَى عَدَمِ الِادِّخَارِ حَتَّى رَهَنَ دِرْعَهُ، وَالصَّبْرِ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ وَفَضِيلَتِهِ لِآلِهِ وَأَزْوَاجِهِ حَيْثُ يَصْبِرُونَ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي عُدُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُعَامَلَةِ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ إِلَى مُعَامَلَةِ الْيَهُودِ إِمَّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِمْ، أَوْ خَشِيَ أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ ثَمَنًا، أَوْ عِوَضًا فَلَمْ يُرِدِ التَّضْيِيقَ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ يَقْدِرُ، أَوِ أَطْلَعَ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ نِسْبَةً إِلَى مَوْضِعٍ بِالْكُوفَةِ (عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانٍ) بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَحْلٍ) أَيْ رَاكِبًا عَلَى قَتَبِ جَمَلٍ (رَثٍّ) بِفَتْحِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ خَلِقٍ بَالٍ (وَعَلَيْهِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ عَلَى الرَّحْلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَوَهَّمَهُ الْحَنَفِيُّ وَجَوَّزَهُمَا، وَقَدَّمَ الثَّانِيَ كَمَا اقْتَصَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى الْأَخِيرِ (قَطِيفَةٌ) أَيْ كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ وَهُوَ هُدْبُ الْقَطِيفَةِ، أَيِ الْخُيُوطُ بِطَرَفِهِ الْمُرْسَلَةُ مِنَ السَّدَى عَنْ غَيْرِ لُحْمَةٍ عَلَيْهَا (لَا تُسَاوِي) أَيْ لَا يَبْلُغُ مِقْدَارُ ثَمَنِهَا (أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ) أَيْ حَجِّيَ (حَجًّا لَا رِيَاءَ فِيهِ) بِالْهَمْزَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَاءِ وَهُوَ مِمَّا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ لِثِقَلِ الْهَمْزَتَيْنِ فَخُفِّفَتِ الْأُولَى لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَبِهِ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الْعَشَرَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ مِنَ السَّبْعَةِ، وَمَا نَقَلَهُ الْحَنَفِيُّ مِنَ الْمُغْرِبِ: وَرِيَاءٌ بِالْيَاءِ خَطًّا خَطَأٌ مَعَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ: يُقَالُ رَاءَى فُلَانٌ النَّاسَ يُرَائِيهِمْ مُرَاءَةً وَرَايَاهُمْ مُرَايَاةً عَلَى الْقَلْبِ بِمَعْنًى انْتَهَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرِّيَاءَ عَلَى الْقَلْبِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَاءِ فَقَطْ وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ، أَيْ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِكَيْ يَرَاهُ النَّاسُ شَهَّرَ اللَّهُ رِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَلَا سُمْعَةَ) بِضَمِّ سِينٍ فَسُكُونِ مِيمٍ، يُقَالُ: فَعَلَ ذَلِكَ سُمْعَةً أَيْ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ وَيَمْدَحُوهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، أَيْ مَنْ فَعَلَهُ سُمْعَةً شَهَّرَهُ تَسْمِيعًا وَفِي النِّهَايَةِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ إِنَّمَا فَعَلَهُ سُمْعَةً وَرِيَاءً أَيْ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ وَيَرُدَّهُ. انْتَهَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ اللُّغَةِ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِقَاقُ، وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ تَغْلِيبًا، حَيْثُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا مِنْ عِظَمِ تَوَاضُعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَا يَتَطَرَّقُ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ إِلَّا لِمَنْ حَجَّ عَلَى الْمَرَاكِبِ الْبَهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ السَّنِيَّةِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعْفٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا قَالَ مِيرَكُ شَاهْ وَضَعَّفَهُ لِأَجْلِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ لَهُ مَنَاكِيرُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبَانٍ أَيْضًا مَتْرُوكٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَبِهِ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكَمٍ الْكِنَانِيِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مَوَالِيهِمْ، عَنْ بِشْرِ بْنِ قُدَامَةَ الضَّبَابِيِّ قَالَ: أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ كَانَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ قَصْوَاءَ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ بَوْلَانِيَّةٌ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا حَجَّةً غَيْرَ رِيَاءٍ وَلَا هَبَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ مَجْهُولٌ انْتَهَى، وَيُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ ضَمِيرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، رَاجِعٌ إِلَى الرَّحْلِ لَا إِلَى الرَّسُولِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا سَيَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ: حَجَّ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى رَحْلٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: عَلَى الثَّالِثَةُ بَدَلٌ مِنَ الثَّانِيَةِ وَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِكَافَ عَلَى الْحِمَارِ، وَالْقَطِيفَةَ فَوْقَ الْإِكَافِ، وَالرَّاكِبَ فَوْقَ الْقَطِيفَةِ انْتَهَى. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا عَفَّانُ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ) أَيِ ابْنِ مَالِكٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ) أَيْ أَكْثَرَ مَحْبُوبِيَّةً (إِلَيْهِمْ) أَيْ إِلَى الصَّحَابَةِ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيْ أَنَسٌ (وَكَانُوا) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَعَ تِلْكَ الْأَحَبِّيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَزِيدِ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ بِالْمَزِيَّةِ، وَمِنْهُ الْقِيَامُ عَلَى الْعَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ، كَانُوا (إِذَا رَأَوْهُ) أَيْ مُقْبِلًا (لَمْ يَقُومُوا) أَيْ لَهُ (لِمَا يَعْلَمُونَ) مَا مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي تَجْوِيزِهِ الْمَصْدَرِيَّةَ، أَيْ: لِأَجْلِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ عِنْدَهُمْ (مِنْ كَرَاهِيَتِهِ) بَيَانٌ لِمَا، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ كَرَاهَتِهِ وَهُوَ مَصْدَرُ كَرِهَ كَعَلِمَ (لِذَلِكَ) أَيْ لِلْقِيَامِ تَوَاضُعًا لَهُمْ، وَرَحْمَةً عَلَيْهِمْ فَاخْتَارُوا إِرَادَتَهُ عَلَى إِرَادَتِهِمْ؛ لِعِلْمِهِمْ بِكَمَالِ تَوَاضُعِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ، قِيلَ فِي قَوْلِهِ (أَحَبَّ) هَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْأَحَبِّيَّةَ لَا تَقْتَضِي الْقِيَامَ لِأَنَّ الْوَلَدَ أَحَبُّ إِلَى الْوَالِدِ، وَلَا يَقُومُ لَهُ، وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ حَيْثُ كَانَ لَهُ فَضِيلَةٌ تَقْتَضِي الْقِيَامَ لَهُ سُنَّ لِلْأَبِ الْقِيَامُ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَلَامُ أَئِمَّةِ هَذَا الْقَائِلِ فَبَطَلَ إِشْكَالُهُ الْمَبْنِيُّ عَلَى وَهْمٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَحَبِّيَّةَ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ تَقْتَضِي الْقِيَامَ انْتَهَى؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إِشْكَالَهُ وَارِدٌ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ

الرَّدِّ لَا أَنَّ الْإِشْكَالَ مُنْدَفِعٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ الْفَضِيلَةِ تَقْتَضِي الْقِيَامَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَامَةِ لَا الْمَحَبَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى السَّجِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحِبُّ فَرَسَهُ أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إِيرَادِ أَنَسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِرَادَةُ أَنَّ الْقِيَامَ الْمُتَعَارَفَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ، وَإِنِ اسْتَحَبَّهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَلَا يَقُومُونَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُتَوَهَّمُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ أَيْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَيِّدِ الْأَوْسِ لَمَّا جَاءَ عَلَى حِمَارٍ لِإِصَابَةِ أَكْحَلِهِ بِسَهْمٍ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ كَانَ مِنْهُ مَوْتُهُ بَعْدُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ فَأَعْطَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ وَأَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ بِخِلَافِ قِيَامِهِمْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ حَقٌّ لِنَفْسِهِ وَتَرَكَهُ تَوَاضُعًا انْتَهَى، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ،؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَعَلَى التَّنَزُّلِ، فَلَوْ أَرَادَ قِيَامَ التَّعْظِيمِ لَمَا خَصَّ قَوْمَهُ بِهِ، بَلْ كَانَ يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ هُوَ إِعَانَتُهُ حَتَّى يَنْزِلَ مِنْ حِمَارِهِ لِكَوْنِهِ مَجْرُوحًا مَرِيضًا، وَلَا يَدْفَعُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَعَدَّى بِـ (إِلَى) لِأَنَّ اللَّامَ تَأْتِي كَثِيرًا لِلْعِلَّةِ، فَالتَّقْدِيرُ: قُومُوا لِأَجْلِ مُعَاوَنَةِ سَيِّدِكُمْ، مَعَ أَنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّوْقِيرُ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا مَنْ نَدَبَ الْقِيَامَ لِكُلِّ قَادِمٍ بِهِ فَضِيلَةٌ، نَحْوَ نَسَبٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ صَلَاحٍ، أَوْ صَدَاقَةِ حَدِيثٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَلِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَضَعْفُهُمَا لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا هُنَا خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ اتِّفَاقًا بَلْ إِجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فَمَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِثْبَاتِ الْخَصْلَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَادِمَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ فَهُوَ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ بِطَرِيقِ الضَّعْفِ عَنْ عَدِيٍّ (مَا دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا قَامَ لِي أَوْ تَحَرَّكَ) وَالْمَشْهُورُ إِلَّا أَوْسَعَ لِي، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْوَجْهُ فِيهِ: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّرْخِيصِ حَيْثُ يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَقَدْ كَانَ عَدِيٌّ سَيِّدَ بَنِي طَيٍّ عَلَى حَسَبِهِ فَرَأَى تَأْلِيفَهُ بِذَلِكَ. عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا عَرَفَ مِنْ جَانِبِهِ مَيْلًا إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الرِّيَاسَةُ وَلَا يَبْعُدُ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قِيَامِ الْقُدُومِ، وَقَدْ قَامَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقِيَامِ الْمُتَعَارَفِ فِيمَا بَيْنَ الْأَنَامِ، مَعَ أَنَّ الْقِيَامَ إِنَّمَا اسْتَحَبَّهُ الْعُلَمَاءُ الْكِرَامُ لِمُجَرَّدِ الْإِكْرَامِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، لَكِنَّهُ صَارَ مِنَ الْبَلْوَى الْعَامَّةِ، بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ عَالِمٌ لِظَالِمٍ اخْتَلَّ عَلَيْهِ النِّظَامُ، ثُمَّ قَالَ: وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُرْمَةٍ نَحْوَ الرُّكُوعِ لِلْغَيْرِ إِعْظَامًا بِأَنَّ صُورَةَ نَحْوِ الرُّكُوعِ لَمْ تُعْهَدْ إِلَّا عِبَادَةً بِخِلَافِ صُورَةِ الْقِيَامِ انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ بِطَرِيقِ التَّمَثُّلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكَابِرِ الزَّمَانِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِكَرَاهَةِ قِيَامِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضِهِمْ، لَكِنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِمُ الْفِتْنَةَ إِذَا أَفْرَطُوا فِي تَعْظِيمِهِ فَكَرِهَ قِيَامَهُمْ لَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: (لَا تُطْرُونِي) ، وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَقُولُ: هَذَا التَّقْرِيرُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ فِيهِ تَحْرِيرٌ وَلَا يَتِمُّ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ هُوَ لِبَعْضِهِمْ أَيْضًا مِثْلَ عِكْرِمَةَ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَامَ الْمُغِيرَةُ بِحَضْرَتِهِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ بَلْ أَقَرَّهُ وَأَمَرَ بِهِ، قُلْتُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْقِيَامَ كَانَ لِلْقَادِمِ وَلَيْسَ فِيهِ الْكَلَامُ، قَالَ: وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْوُدِّ وَالصَّفَاءِ لَا يَحْتَمِلُ زِيَادَةَ الْإِكْرَامِ بِالْقِيَامِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِيَامِ مَقْصُودٌ، وَإِنْ فُرِضَ الْإِنْسَانُ صَارَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْقِيَامِ، أَقُولُ: مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْقِيَامِ، لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ الْقِيَامُ لِمَزِيدِ الْإِكْرَامِ، وَمَنْ أَرَادَ الْقِيَامَ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِحَالِ الْكِرَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ لَهُ الْقِيَامُ. ثُمَّ الْأَصْحَابُ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيمَا بَيْنَهُمْ كَانَ لَهُمْ غَايَةُ الصَّفَا وَنِهَايَةُ الضِّيَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَعَ مَا كَانُوا يَقُومُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ قِيَامَ الْمُتَعَارَفِ، وَقَالَ مِيرَكُ: لَكِنْ يُشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنَّ قِيَامَهُمْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْفَرَاغِ لِيَتَوَجَّهُوا إِلَى أَشْغَالِهِمْ وَلَيْسَ لِلتَّعْظِيمِ، وَلِأَنَّ بَيْتَهُ كَانَ بَابُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ لَمْ يَكُنْ وَاسِعًا إِذْ ذَاكَ، فَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يَسْتَوُوا قِيَامًا إِلَّا وَهُوَ قَدْ دَخَلَ،

قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ سَبَبَ تَأْخِيرِهِمْ حَتَّى دَخَلَ أَنْ يَحْتَمِلَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ يَحْدُثُ لَهُ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِذَا تَفَرَّقُوا أَنْ يَتَكَلَّفَ اسْتِدْعَاءَهُمْ، ثُمَّ رَاجَعْتُ سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ فَوَجَدْتُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَهُوَ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَبَذَ رِدَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا رَجُلًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ عَلَى بَعِيرِهِ تَمْرًا وَشَعِيرًا، وَفِي آخِرِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: انْصَرِفُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ انْتَهَى، وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: الْقِيَامُ مَكْرُوهٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ، وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ عِلْمٍ وَإِصْلَاحٍ، أَوْ شَرَفٍ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ وَقَدْ جَمَعْتُ كُلَّ ذَلِكَ مَعَ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ وَأَجَبْتُ فِيهِ عَمَّا تُوُهِّمَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِنَّمَا ذَاكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ وَيَمْكُثُونَ قِيَامًا طُولَ جُلُوسِهِ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا جُمَيْعٌ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ عُمَرَ) صَوَابُهُ عُمَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِجْلِيُّ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ (حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَيَجُوزُ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ أَيْ مِنْ أَوْلَادِ أَبِي هَالَةَ (زَوْجِ خَدِيجَةَ) بَدَلٌ مِنْ أَبِي هَالَةَ (يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ فَتْحُ كَافِهِ وَتَشْدِيدُ نُونِهِ مِنْ كَنَّى سَتَرَ، سَمَّى الْكُنْيَةَ بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْكِنَايَةِ، (عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ) قِيلَ فِيهِ انْقِطَاعٌ لِابْنِ أَبِي هَالَةَ مِنْ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا مِنَ الطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ، وَأَهْلُهَا لَمْ يُدْرِكُوا أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) رَوَى عَنْ جَدِّهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَأَخُوهُ الْحُسَيْنُ رَوَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيَةَ أَحَادِيثَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: (قَالَ) أَيِ الْحَسَنُ (سَأَلْتُ خَالِيَ) أَيْ أَخَا أُمِّهِ مِنْ أُمِّهَا (هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ وَكَانَ) أَيْ هِنْدٌ (وَصَّافًا) أَيْ كَثِيرَ الْوَصْفِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْوَصَّافُ الْعَارِفُ بِالْوَصْفِ انْتَهَى، (عَنْ حِلْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ وَصْفًا صَادِرًا عَنْهَا وَالتَّقْدِيرُ وَصَّافًا بَحَّاثًا عَنْهَا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَجُمْلَةِ (وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا) إِمَّا مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِبَيَانِ كَمَالِ الْوُثُوقِ وَالضَّبْطِ لِمَا يَرْوِيهِ حَتَّى يُتَلَقَّى عَنْهُ بِالْقَبُولِ، أَوْ حَالِيَّتَانِ مُتَرَادِفَتَانِ، أَوْ مُتَدَاخِلَتَانِ عَنِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَوِ الْأُولَى عَنِ الْمَفْعُولِ وَالثَّانِيَةُ عَنِ الْفَاعِلِ، وَفِي هَذَا خَفَاءٌ وَتَكَلُّفٌ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى (فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخْمًا) بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا، أَيْ عَظِيمًا فِي ذَاتِهِ، (مُفَخَّمًا) أَيْ مُعَظَّمًا فِي صِفَاتِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ عَظِيمًا مُعَظَّمًا فِي الصُّدُورِ وَالْعُيُونِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خِلْقَتُهُ فِي جِسْمِهِ الضَّخَامَةَ (يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ) أَيْ يَظْهَرُ لَمَعَانُ نُورِهِ وَيَلْمَعُ كَاللُّؤْلُؤِ (تَلَأْلُأَ الْقَمَرِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيْ: لَمَعَانَ نُورِ الْقَمَرِ (لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أَيْ: وَقْتَ نِهَايَةِ نُورِهِ وَغَايَةِ ظُهُورِهِ (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) أَيْ: كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ بَابٍ (قَالَ الْحَسَنُ: فَكَتَمْتُهَا) أَيْ: هَذِهِ الْحِلْيَةَ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ (الْحُسَيْنَ) أَيْ: عَنْهُ فَنَصَبَهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَإِيصَالِ الْفِعْلِ عَلَى حَدِّ: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) وَلَوْ ثَبَتَ تَشْدِيدُ (كَتَمْتُهَا) فَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي (زَمَانًا) أَيْ: مُدَّةً مَدِيدَةً أَوْ قَلِيلَةً عَدِيدَةً، قِيلَ: الْإِخْبَارُ اجْتِهَادُهُ وَجِدُّهُ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِحِلْيَةِ جَدِّهِ (ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى السُّؤَالِ عَنْهَا مِنْ عِنْدِ خَالِهِ، (فَسَأَلَهُ) أَيِ: الْحُسَيْنُ (عَمَّا سَأَلْتُهُ) أَيْ: عَنْهُ (وَوَجَدْتُهُ) أَيِ: الْحُسَيْنَ زَائِدًا عَلَيَّ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَعْنَى (قَدْ سَأَلَ أَبَاهُ) أَيْ: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أَبِي قَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا مِنْ قَبِيلِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ فِيهِ رَاوٍ عَنِ الْحُسَيْنِ انْتَهَى، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَمْ يُكْمِلْ سَنَةً (عِنْدَ مَدْخَلِهِ) أَيْ: طَرِيقِ سُلُوكِهِ حَالَ كَوْنِهِ دَاخِلَ بَيْتِهِ (وَعَنْ مَخْرَجِهِ) أَيْ: عَنْ أَطْوَارٍ خَارِجَ بَيْتِهِ (وَشَكْلِهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فِي

النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ أَيْ: وَعَنْ طَرِيقَتِهِ الْمَسْلُوكَةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي مَجْلِسِهِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَخْرَجِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: حُسْنِ طَرِيقَتِهِ وَهَيْئَتِهِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُ، وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: الْمِثْلُ وَالْمَذْهَبُ انْتَهَى. وَلَا مَعْنَى لِلْمِثْلِ وَالْمَذْهَبِ هُنَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْمَذْهَبِ الْمَقْصِدُ كَمَا فَسَّرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: شَكْلُهُ مَعْنَاهُ عَمَّا يُشَاكِلُ أَفْعَالَهُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ كِلَيْهِمَا، وَفِي النِّهَايَةِ الشِّكْلُ بِالْكَسْرِ الدَّلُّ، وَبِالْفَتْحِ الْمِثْلُ وَالْمَذْهَبُ وَفِيهِ مَا سَبَقَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الشَّكْلُ الشَّبَهُ وَالْمِثْلُ وَيُكْسَرُ وَمَا يُوَافِقُكَ وَمَا يَصْلُحُ لَكَ، يُقَالُ: هَذَا مِنْ هَوَايَ وَمِنْ شَكْلِي، وَوَاحِدُ الْأَشْكَالِ لِلْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَشَكِّلَةِ، وَصُورَةُ الشَّيْءِ الْمَحْسُوسَةُ وَالْمُتَوَهَّمَةُ وَالشَّاكِلَةُ وَالشَّكْلُ وَالنَّاحِيَةُ وَالطَّرِيقَةُ وَالْمَذْهَبُ قَالَ مِيرَكُ: وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ صِفَةِ شَكْلِهِ مَعَ قَوْلِهِ (فَلَمْ يَدَعْ) أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مِنْهُ) أَيْ: مِمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ (شَيْئًا) أَوْ فَلَمْ يَدَعِ الْحُسَيْنُ مِنْهُ، أَيْ: مِنَ السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِهِ شَيْئًا، وَالْعَجَبُ مِنْ شَارِحٍ؛ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ جَعْلُ ضَمِيرِ مِنْهُ لِعَلِيٍّ (قَالَ الْحُسَيْنُ: فَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهَذَا بَيَانٌ لِمَدْخَلِهِ (فَقَالَ: كَانَ إِذَا آوَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ مَدُّهُ أَيْ: إِذَا رَاجَعَ (إِلَى مَنْزِلِهِ) وَدَخَلَهُ (جَزَّأَ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْهَمْزِ أَيْ: قَسَّمَ وَوَزَّعَ (دُخُولَهُ) أَيْ: زَمَانَ دُخُولِهِ (ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ جُزْأً) أَيْ: حِصَّةً (لِلَّهِ) أَيْ: لِعِبَادَتِهِ مِنْ طَهَارَةٍ وَصَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ إِنْ كَانَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِبْدَالِ، وَكُلٌّ مِنْ كُلٍّ إِنْ كَانَ قَبْلَهُ (وَجُزْأً لِأَهْلِهِ) أَيْ: لِلِالْتِفَاتِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَرُؤْيَةِ أَفْعَالِهِمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْمُكَالَمَةِ وَالْمُلَايَمَةِ وَالْمُدَاعَبَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ لِعَائِشَةَ بَنَاتِ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا وَأَنَّهَا إِذَا شَرِبَتْ مِنْ إِنَاءٍ أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ عَلَى مَوْضِعِ فَمِهَا فَشَرِبَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْلَ صَفِيَّةَ أَهْدَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَاءً مِنْ طَعَامٍ فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ كَسَرْتُهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَتُهُ؟ قَالَ: إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَخَذْتُهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَضَرَبْتُهَا وَكَسَرْتُهَا فَقَامَ يَلْتَقِطُ اللَّحْمَ وَالطَّعَامَ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ، وَهَذَا مِنْ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ، وَحِلْمِهِ الْكَرِيمِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْغَيْرَى لَا تُؤَاخَذُ لِحَجْبِ عَقْلِهَا بِمَا يَثُورُ عَنِ الْغَيْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ الْغَيْرَى لَا تُبْصِرُ أَسْفَلَ الْوَادِي مِنْ أَعْلَاهُ (وَجُزْأً لِنَفْسِهِ) أَيْ: وَيَفْعَلُ فِيهِ مَا يَعُودُ عَلَيْهَا بِالتَّكْمِيلِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَفَصَلَهُ عَنِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لِمَحْضِ الشُّهُودِ بِجَمَالِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَصَاحِبِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ فِي مَرْتَبَةِ جَمْعِ الْجَمْعِ، وَالْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مُخْتَصًّا بِحَالِ الْفَنَاءِ الْمُنَاسِبِ لِمَقَامِ التَّضَرُّعِ وَالثَّنَاءِ، وَالْجُزْءُ الثَّانِي مُخْتَصًّا بِبَقَاءِ الْحَظِّ النَّفْسَانِيِّ، وَالْجُزْءُ الثَّالِثُ هُوَ مَقَامُ الْجَمْعِ الْأَكْمَلِ، وَهُوَ حَالُ الْأَصْفِيَاءِ الْكُمَّلِ الَّذِينَ رُتْبَتُهُمُ التَّكْمِيلُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ (ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ) أَيِ: الْمُخْتَصَّ بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْمُنِيفَةِ الْمُحِيطَةِ بِالطَّرَفَيْنِ مِنَ الْحَالَيْنِ (وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ) أَيْ: عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنَ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ الْمُلْتَجِئِينَ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَرَدَّ) وَفِي نُسْخَةٍ فَيَرُدُّ أَيْ فَيَصْرِفُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذَلِكَ) أَيِ: الْجُزْءَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ (بِالْخَاصَّةِ) أَيْ: بِسَبَبِهِمْ (عَلَى الْعَامَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (رَدَّ) قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَاصَّةَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ الْعَامَّةِ فَتَسْتَفِيدُ ثُمَّ تُخْبِرُ الْعَامَّةَ بِمَا سَمِعَتْ مِنَ الْعُلُومِ فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوصِلُ الْفَوَائِدَ إِلَى الْعَامَّةِ بِوَاسِطَةِ الْخَاصَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ (يَدْخُلُونَ رُوَّادًا وَيَخَرُجُونَ أَدِلَّةً) . وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى مِنْ أَيْ: يَرُدُّ عَلَى

الْعَامَّةِ مِنْ جُزْءِ الْخَاصَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَ الْعَامَّةَ مَكَانَ الْخَاصَّةِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بَدَلًا مِنَ الْخَاصَّةِ. كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْتَقَى وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَصَيَّرَهُ جُزْأَيْنِ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ لَمَّا عَادَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ هُوَ نَفْسُهُ الشَّرِيفَةُ كَانَا بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَاتَّضَحَ قَوْلُهُ (ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ) فَغَيْرُ مَضْبُوطٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْبُوطٍ (وَلَا يَدَّخِرُ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَإِنْ جُوِّزَ فِي اللُّغَةِ إِعْجَامُ الذَّالِ فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هُوَ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ أَوْ مُهْمَلَةٍ إِذْ أَصْلُهُ يَذْتَخِرُ فَقُلِبَتِ التَّاءُ ذَالًا مُعْجَمَةً ثُمَّ هِيَ مُهْمَلَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ أَوْ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ هِيَ مُعْجَمَةٌ، وَأُدْغِمَتْ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ مَعَ أَنَّ قَلْبَ التَّاءِ ذَالًا مُعْجَمَةً غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِعْلَالِ: إِنَّ أَصْلَهُ لَا يَذْتَخِرُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى أَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الذَّخِيرَةِ فَقُلِبَتْ تَاؤُهُ دَالًا لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي عِلْمِ الصَّرْفِ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْمُعْجَمَةُ مُهْمَلَةً لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ، ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْأُخْرَى لِلْمُمَاثَلَةِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْلِبَ الدَّالَ الْمُهْمَلَةَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ التَّاءِ ذَالًا مُعْجَمَةً فَتُدْغَمُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُخْفِي (عَنْهُمْ) أَيْ: عَنِ الْعَامَّةِ أَوْ عَنِ الْخَاصَّةِ ثُمَّ تَصِلُ إِلَى الْعَامَّةِ أَوْ عَنْهُمَا أَوْ عَنِ النَّاسِ (شَيْئًا) أَيْ: مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَفِيهِ نَفْعٌ لِخُصُوصِهِمْ أَوْ عُمُومِهِمْ (وَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ) أَيْ: مِنْ (طَرِيقَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ) أَيْ: فِي حِصَّتِهِمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ عَلَيْهِ وَالْوَاصِلِينَ إِلَيْهِ. (إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ) أَيِ: اخْتِيَارُ أَهْلِ الْفَضْلَةِ الزَّائِدَةِ حَسَبًا أَوْ نَسَبًا أَوْ سَبْقًا أَوْ صَلَاحًا فَيُقَدِّمُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الدُّخُولِ وَالتَّوَجُّهِ وَالْإِقْبَالِ وَالْإِفَادَةِ وَإِبْلَاغِ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ (بِإِذْنِهِ) أَيْ: بِإِذْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ، وَالْإِضَافَةَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ أَوَّلَيْهِ وَأَصْلُهُ صِغَارُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَنَحْوِهِمَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَخُصُّ أَهْلَ الْفَضْلِ بِأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَيُقَسِّمُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ (وَقَسْمُهُ) أَيْ: فِيهِمْ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَسَمَهُ، وَرَفَعَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: مَا عِنْدَهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجُزْءِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ (فَضْلِهِمْ) فِي الدِّينِ احْتِرَازًا عَنْ فَضْلِهِمْ فِي أَحْسَابِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ كَمَا وَرَدَ (خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا) (فَمِنْهُمْ) الْفَاءُ لِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ أَوَّلًا أَيْ: فَبَعْضُ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوِ الْأَصْحَابِ وَالنَّاسِ (ذُو الْحَاجَةِ) أَيِ: الْوَاحِدَةِ (وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ) وَالْحَاجَاتُ أَعَمُّ مِنَ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ) أَيْ: يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَشْغُولَةً بِذِي الْحَاجَةِ وَمَنْ بَعْدَهُ أَوْ فَيُشْغَلُ بِهِمْ وَيُشْغَلُونَ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ (بِهِمْ) وَإِنْ كَانَ الْمُتَبَادِرُ هُوَ الثَّانِي لِلتَّفَاعُلِ (وَيُشْغِلُهُمْ) مِنِ الْإِشْغَالِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْغَيْنِ مِنَ الشَّغْلِ أَيْ: يَجْعَلُهُمْ مَشْغُولِينَ (فِيمَا يُصْلِحُهُمْ) قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيُشْغِلُهُمْ مِنَ الْإِشْغَالِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي التَّاجِ: الْإِشْغَالُ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ فِي الشَّغْلِ انْتَهَى. وَقَالَ مِيرَكُ: فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُصَحَّحَةِ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِشْغَالِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَدْ شَغَلَتْ فُلَانًا شَاغِلٌ وَلَا تَقُلْ أَشْغَلَتْ؛ لِأَنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْرَأَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ الْمُجَرَّدِ وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالضَّمِّ فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ الرَّدَاءَةِ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: أَشْغَلَهُ لُغَةٌ جَيِّدَةٌ أَوْ قَلِيلَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ، قُلْتُ: لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ لَكَفَرَ مَنْ قَالَ بِالرَّدِيئَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْعَلُ الدَّاخِلِينَ عَلَيْهِ مَشْغُولِينَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَفِي نُسْخَةٍ: أَصْلَحَهُمْ وَفِي أُخْرَى بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ: يَشْغَلُهُمْ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصْلِحُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ ثُمَّ قَوْلُهُ (وَالْأُمَّةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُصْلِحُهُمْ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُمَّةُ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ وَالْإِجَابَةِ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُمَا (مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْهُ) قَالَ الْحَنَفِيُّ: مِنْ بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ مَا يُصْلِحُهُمْ يَعْنِي أَنَّ مَا يُصْلِحُهُمْ وَالْأُمَّةَ هُوَ مَسْأَلَتُهُمْ عَنْهُ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْهُمْ بَدَلَ عَنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الْأَصْوَبَ أَنَّ «مِنْ» تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنْهُ أَيْ: عَنْ مَا يُصْلِحُهُمْ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُمْ أَيْ:

عَنْ أَحْوَالِهِمُ انْتَهَى، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ (الْوَفَاءِ) لِابْنِ الْجَوْزِيِّ فَيَشْغَلُهُمْ فِيمَا أَصْلَحَهُمْ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمُ انْتَهَى (وَإِخْبَارِهِمْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَجْرُورًا عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ، وَالْإِضَافَةُ إِمَّا إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: إِخْبَارِهِمْ إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ) فَحِينَئِذٍ هَذَا مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ التَّفْسِيرِ، أَوِ الْمَعْنَى: إِخْبَارُهُمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَيْ: لِمَنْ هُوَ لَيْسَ بِحَاضِرٍ بَلْ هُوَ غَائِبٌ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ (وَيَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ الْإِفَادَةِ لَهُمْ (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ) كَالْمُبَيِّنِ لَهُ أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ يَعْنِي إِخْبَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ فَيَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ مَسْأَلَتِهِمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَفَيْدُ، كَذَا أَفَادَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِخْبَارُهُمْ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ وَفَاعِلُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: وَمِنْ أَجْلِ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ وَزَعْمُ عَطْفِهِ عَلَى مَا يُصْلِحُهُمْ تَكَلُّفٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَفِي نُسْخَةٍ بِإِخْبَارِهِمْ عَطْفٌ عَلَى بِهِمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ بَلْ لَوْ حُمِلَ عَلَيْهِ النُّسْخَةُ الْأُولَى لَكَانَ أَوْضَحَ انْتَهَى، وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى. ثُمَّ قَوْلُهُ (لِيُبَلِّغْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا مِنَ الْإِبْلَاغِ وَيُسَاعِدُهُ قَوْلُهُ (وَأَبْلِغُونِي) أَيْ: يَقُولُ لَهُمْ أَيْضًا أَوْصِلُوا إِلَيَّ (حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا) أَيْ: مِنَ الضُّعَفَاءِ كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا) أَوْ وَالِيًا أَوْ قَادِرًا (حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا) أَيْ: دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً (ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: عَلَى الصِّرَاطِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرَّكَهُمَا فِي إِبْلَاغِ حَاجَةِ هَذَا الضَّعِيفِ وَمَشَى بِهِمَا فِي مُسَاعَدَةِ الضَّعِيفِ جُوزِيَ بِعَوْدِ صِفَةٍ كَامِلَةٍ تَامَّةٍ لَهُمَا وَهِيَ ثَبَاتُهُمَا عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ جَزَاءً وِفَاقًا (وَلَا يُذْكَرُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَا يُحْكَى (عِنْدَهُ إِلَّا ذَلِكَ) أَيْ: مَا يُذْكَرُ مِنَ النَّاسِ وَالْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: أَيْ مَا يُصْلِحُهُمْ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا ثُمَّ الْحَصْرُ غَالِبِيٌّ أَوْ إِضَافِيٌّ، وَالْمَعْنَى لَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا مَا يُفِيدُهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ دُونَ مَا لَا يَنْفَعُ فِيهِمَا كَالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ لَا تُذْكَرُ عِنْدَهُ غَالِبًا؛ لِأَنَّهُ وَإِيَّاهُمْ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ (وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ) أَيْ: مِنْ كَلَامِ أَحَدٍ شَيْئًا (غَيْرَهُ) أَيْ: غَيْرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَاجَةِ أَحَدٍ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْمُؤَكَّدَةِ بِمَا قَبْلَهَا (يَدْخُلُونَ) أَيِ: النَّاسُ عَلَيْهِ (رُوَّادًا) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ: جَمْعُ رَائِدٍ بِمَعْنَى طَالِبٍ أَوْ طَالِبِينَ لِلْمَنَافِعِ وَالْحِكَمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى النِّعَمِ مُلْتَمِسِينَ لِلْحَاجَاتِ الدَّافِعَةِ عَنِ النِّقَمِ، وَالرَّائِدُ فِي الْأَصْلِ مَنْ يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ لِيَنْظُرَ لَهُمُ الْكَلَاءَ وَمَسَاقِطَ الْغَيْثِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِتَقَدُّمِ أَفَاضِلِ أَصْحَابِهِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ لِيَسْتَفِيدُوا أَوْ يُفِيدُوا سَائِرَ الْأُمَّةِ وَيَكُونَ سَبَبًا لِوِقَايَتِهِمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ وَمَوَاقِعِ الظُّلْمَةِ (وَلَا يَفْتَرِقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَّاقٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فَعَّالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الذَّوْقِ وَيَقَعُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالِاسْمِ أَيْ: عَنْ مَطْعُومٍ حِسِّيٍّ عَلَى مَا هُوَ الْأَغْلَبُ أَوْ مَعْنَوِيٍّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ فَإِنَّهُ يَقُومُ لِأَرْوَاحِهِمْ مَقَامَ الطَّعَامِ

لِأَجْسَادِهِمْ وَعَنْ بِمَعْنَى بَعْدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ وَقَالَ مِيرَكُ: الْأَصْلُ فِي الذَّوَّاقِ الطَّعَامُ إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ كُلَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ قَدْ يُسْتَعَارُ كَمَا فِي الْقُرْآنِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أَيْ: لَا يَقُومُونَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَّا وَقَدِ اسْتَفَادُوا عِلْمًا جَزِيلًا وَخَيْرًا كَثِيرًا وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ (وَيَخْرُجُونَ) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ (أَدِلَّةً) جَمْعُ دَلِيلٍ أَيْ هُدَاةً لِلنَّاسِ كَمَا وَرَدَ (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَسْمُوعَةُ الْمُصَحَّحَةُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ فَيَدُلُّونَ النَّاسَ وَيُنْبِئُونَهُمْ بِهِ، وَهُوَ جَمْعُ دَلِيلٍ مِثْلُ شَحِيحٍ وَأَشِحَّةٍ وَسَرِيرٍ وَأَسِرَّةٍ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى لِلْعَلَّامَةِ سَعْدِ الدِّينِ الْكَازَرُونِيِّ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَخْرُجُونَ مُتَّعِظِينَ بِمَا وُعِظُوا مُتَوَاضِعِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ حَسَنٌ إِنْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ انْتَهَى. وَأَقُولُ: فَعَلَى هَذَا لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ (يَعْنِي عَلَى الْخَيْرِ) إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى: كَائِنِينَ عَلَى الْخَيْرِ، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَوْ إِرَادَةُ الْخَيْرِ فَيَقْصِدُهُ لِأَهْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُهُمْ زِيَادَةُ الْعِلْمِ إِلَّا تَوَاضُعًا وَاسْتِصْغَارًا لَا عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا كَمَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مَرْفُوعًا (مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا زُهْدًا لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا) (قَالَ) أَيِ: الْحُسَيْنُ (فَسَأَلْتُهُ) أَيْ: أَبِي (عَنْ مَخْرَجِهِ) أَيْ: عَنْ أَطْوَارِ زَمَانِ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ، قَالَ:) أَيْ: عَلِيٌّ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْزُنُ) بِضَمِّ الزَّايِ وَكَسْرِهَا أَيْ: يَحْفَظُ (لِسَانَهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: يَهُمُّهُ وَيَنْفَعُهُ (وَيُؤَلِّفُهُمْ) عَطْفٌ عَلَى يَعْنِيهِ أَوْ عَلَى يَخْزُنُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَاوًا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الْأُلْفَةِ أَيْ: يَجْعَلُهُمْ رُحَمَاءَ وَيَجْمَعُهُمْ كَأَنَّهُمْ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مِنْ أَلَّفْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَأْلِيفًا وَيُقَالُ أَيْضًا: أَلَّفَ مُؤَالَفَةً أَيْ: مُكَمَّلَةً أَيْ: وَيُكَمِّلُهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْأُلْفَةِ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ أَيْ: يُعْطِيهِمُ الْوَفَاءَ مَعَ عَدَمِ مُلَائَمَتِهِ لِقَوْلِهِ (وَلَا يُنَفِّرُهُمْ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: لَا يُلْقِيهِمْ فِي فِعْلِهِ، وَقَوْلُهُ بِمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى النُّفُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وَقَدْ وَرَدَ بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي قَوْلِهِ، وَالْمَعْنَى لَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَسَبِ مَعَ أَنَّهُ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ (وَيُكْرِمُ) مِنَ الْإِكْرَامِ أَيْ: يُعَظِّمُ (كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ) أَيْ: بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا (إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ، وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ دِينًا وَنَسَبًا وَحَسَبًا) فَالْمَعْنَى كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: يَجْعَلُهُمْ أَلِفِينَ مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِمْ أَوْ يُؤَلِّفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُمْ تَبَاغُضٌ بِوَجْهِهِ وَمِنْ ثَمَّةَ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وَمَا قِيلَ أَنَّ مَعْنَى يُؤَلِّفُهُمْ يُعْطِيهِمُ الْوَفَاءَ فَهُوَ لَا يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَلَا الْمُرَادَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا كَانَ يَتَأَلَّفُ بِالْمَالِ جُفَاةَ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ تَمَكُّنَهُ فِي غَيْرِهِمْ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. (وَيُوَلِّيهِ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يَجْعَلُ كَرِيمَهُمْ وَالِيًا (عَلَيْهِمْ) وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حُسْنِ نَظَرِهِ وَعَظِيمِ تَدْبِيرِهِ فَإِنَّ الْقَوْمَ طَوْعٌ لِكَبِيرِهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَرَمِ الْمُقْتَضِي لِأَنْ يَتَقَدَّمَ (وَيَحْذَرُ النَّاسَ) بِفَتْحِ الذَّالِ مِنَ الْحَذَرِ بِمَعْنَى الِاحْتِرَاسِ وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي جَعْلِهِ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ التَّحْذِيرِ أَيْ: يُخَوِّفُهُمْ قَالَ مِيرَكُ: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَلَى فَتْحِ الْيَاءِ وَالذَّالِ وَتَخْفِيفِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ) أَيْ: يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ أَذَاهُمْ أَوْ مِنْ نُفُورِهِمْ وَإِنْ رُوِيَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ وَكَسْرِهَا فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِمَفْعُولَيْنِ، وَالْمَرْجُوُّ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ كُلِّ لَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ كَانَ أَوْلَى فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحَذِّرُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْحَزْمِ وَيَحْذَرُ هُوَ أَيْضًا مِنْهُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ فَيَكُونُ التَّحْذِيرُ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَيُحَذِّرُ النَّاسَ

الْفِتَنَ فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ، قُلْتُ: بَلْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالتَّحْذِيرِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ شَاهْ أَنَّ التَّحْذِيرَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ مَعْنًى حَسَنٌ لَكِنْ لَا يُلَائِمُ الْمَقَامَ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ نَفْيِ الْمَرَامِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَحْتَرِسُ مِنْهُمُ احْتِرَاسًا (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ) بِكَسْرِ الْوَاوِ يَمْنَعُ (عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِي نُسْخَةٍ مِنْهُ أَيْ: مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِي أُخْرَى مِنْ أَحَدِهِمْ (بِشْرَهُ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: طَلَاقَةَ وَجْهِهِ وَبَشَاشَةَ بَشْرَتِهِ وَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ يَحْتَرِسُ وَلِذَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَا خُلُقَهُ) بِضَمَّتَيْنِ أَوْ ضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: وَلَا حُسْنَ خُلُقِهِ (وَيَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ) أَيْ: يَطْلُبُهُمْ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ حَالَ غَيْبَتِهِمْ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَرِيضًا يَعُودُهُ أَوْ مُسَافِرًا يَدْعُو لَهُ أَوْ مَيِّتًا فَيَسْتَغْفِرُ لَهُ (وَيَسْأَلُ النَّاسَ) أَيْ: عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا (عَمَّا فِي النَّاسِ) أَيْ: عَمَّا وَقَعَ فِيهِمْ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ الظَّاهِرَةِ لِيَدْفَعَ ظُلْمَ الظَّالِمِ عَنِ الْمَظْلُومِ أَوْ عَمَّا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَجَسَّسُ عَنْ عُيُوبِهِمْ وَيَتَفَحَّصُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ (وَيُحَسِّنُ الْحَسَنَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنَ التَّحْسِينِ أَيْ: يَحْكُمُ بِحُسْنِ الْحَسَنِ أَوْ يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ (وَيُقَوِّيهِ) مِنَ التَّقْوِيَةِ أَيْ: وَيُظْهِرُ تَقْوِيَتَهُ بِدَلِيلٍ مَنْقُولٍ أَوْ مَعْقُولٍ (وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِنَ التَّقْبِيحِ (وَيُوهِّيهِ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِهَا مِنَ التَّهْوِيَةِ وَالْإِيهَاءِ أَيْ: يُضْعِفُهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْوَجْهَيْنِ مِنَ الْوَهْنِ، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ وَقِيلَ الْمَعْنَى يَقْبَلُ الْحَسَنَ وَيُثْنِيهِ وَيَرُدُّ الْقَبِيحَ وَيَعِيبُهُ (مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّرٌ هُوَ، وَهُوَ قَوْلُهُ (غَيْرُ مُخْتَلِفٍ) عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِمَا بِالرَّفْعِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ نَصْبُهُ عَطْفًا عَلَى خَبَرِ كَانَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَاطِفِ وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ الْمُتَعَاطِفَةَ أُمُورٌ تَطْرَأُ عَلَيْهِ تَارَةً وَأَضْدَادُهَا أُخْرَى، كَكَوْنِهِ يَخْزُنُ لِسَانَهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُعْتَدِلَ الْأَمْرِ وَمَا بَعْدَهُ فَهِيَ أُمُورٌ لَازِمَةٌ لَهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا أَبَدًا فَتَعَيَّنَ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ قَطْعُهَا عَمَّا قَبْلَهَا وَذِكْرُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْبَدِيعِ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَكَانَ جُمْلَةُ (مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ) مُعْتَرِضَةً أَيْ: بِنَاءً عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَلَا يَغْفُلُ) بِالْعَطْفِ لَكِنَّ الَّذِي فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ حَذْفُ الْوَاوِ فَتَعَيَّنَ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ حَالٌ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِاعْتِدَالِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَحْفُوظَةٌ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهَا أُمُورٌ مُتَخَالِفَةُ الْمَحَامِلِ مُتَعَارِضَةُ الْأَوَاخِرِ وَالْأَوَائِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ خِفَّةِ الْعَقْلِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ وَالشَّمَائِلِ، وَأَمَّا مَنْ كَمُلَتْ لَهُ

الْمَحَاسِنُ فَجَمِيعُ أُمُورِهِ مُنْتَظِمَةٌ وَأَحْوَالُهُ مُلْتَئِمَةٌ وَمَآلُ اعْتِدَالِ الْأَمْرِ وَعَدَمِ اخْتِلَافِهِ وَاحِدٌ فَكَانَ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَغْفُلُ بِسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ هُوَ الْمَضْبُوطُ فِي الْأُصُولِ وَالْمَعْنَى لَا يَغْفُلُ عَنْ مَصَالِحِهِمْ مِنْ تَذْكِيرِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ وَإِمْدَادِهِمْ (مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا) أَيْ: عَنْهَا بِنَاءً عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُتَابَعَةِ، وَإِنَّ النَّاسَ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ وَإِنَّ الْمُرِيدِينَ عَلَى دَأْبِ شُيُوخِهِمْ وَالتَّلَامِيذَ عَلَى طَرِيقَةِ أُسْتَاذِيهِمْ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَغْفُلُوا عَنِ الِاسْتِفَادَةِ فَيَقَعُوا فِي عَدَمِ الِاسْتِقَامَةِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى وَزْنِ يَعْلَمُ وَمَخَافَةَ أَنْ يَفْعَلُوا كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَفْعَلُ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ مَخَافَةَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ (وَيَمَلُّوا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الْمَلَالَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) . وَفِي نُسْخَةٍ (أَوْ يَمَلُّوا) بِكَلِمَةِ «أَوْ» لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لِلشَّكِّ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِثُبُوتِ أَصْلِ الْفِعْلِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَفِي نُسْخَةٍ (أَوْ يَمِيلُوا) مِنَ الْمَيْلِ أَيْ: يَمِيلُوا إِلَى الدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُهُ نَفْيُ الْغَفْلَةِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَهُ أَصْلًا وَالْبَاقِيَ نَسْخًا (لِكُلِّ حَالٍ) أَيْ: مِنْ أَحْوَالِهِ وَغَيْرِهِ (عِنْدَهُ عَتَادٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْعُدَّةُ وَالتَّأَهُّبُ مِمَّا يَصْلُحُ لِكُلِّ مَا يَقَعُ يَعْنِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَشْكَالَهَا وَنَظَائِرَهَا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعَدَّ لِكُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَدَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُسْتَعِدًّا لِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ (لَا يُقَصِّرُ) مِنَ التَّقْصِيرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الصَّادِ مِنَ الْقُصُورِ، وَهُوَ الْعَجْزُ وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُ تَقْصِيرٌ عَمْدًا وَلَا قُصُورٌ خَطَأً (عَنِ الْحَقِّ) أَيْ: عَنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ لِصَاحِبِهِ إِنْ عَلِمَ مِنْهُ شُحًّا فِيهِ وَلَا يُعْطِي فِيهِ رُخْصَةً وَلَا تَهَاوُنًا وَزَعَمَ أَنْ لَا يُقَصِّرَ إِذَا كَانَ مُخَفَّفًا صِفَةَ (عَتَادٌ) لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنْهُ بِكُلِّ وَجْهِهِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ عِنْدَ أَهْلِهِ (وَلَا يُجَاوِزُهُ) أَيْ: لَا يُجَاوِزُ الْحَقَّ وَلَا يَتَعَدَّى عَنْهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ إِفْرَاطٌ وَلَا تَفْرِيطٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ لَا مَجَالَ هُنَا لِذِكْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا هُوَ حَدُّ الِاعْتِدَالِ وَعَدَمُ الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمَقَالِ، وَلِذَا يُعَاقَبُ اثْنَانِ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ زَادَ أَحَدُهُمَا وَاحِدًا مِنَ الْأَعْدَادِ وَالْآخَرُ نَقَصَ وَاحِدًا مِنْهَا عَنِ الْمُرَادِ وَيُعَاقَبُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ غَضَبَكَ وَحُكْمَكَ وَتَدْبِيرَكَ أَزْيَدُ مِنَّا وَالثَّانِي بِأَنَّ عِلْمَكَ وَحِلْمَكَ وَرَحْمَتَكَ أَكْثَرُ مِنَّا (الَّذِينَ يَلُونَهُ) مِنَ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ أَيِ الْمُقَرَّبُونَ لَهُ (مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ) أَيْ: خِيَارُ النَّاسِ، وَهُوَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ وَمِنْ بَيَانٌ لَهُ (أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعَمُّهُمْ نَصِيحَةً) أَيْ: لِلْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ (أَلَا إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ) وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا (وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً) أَيْ: مَرْتَبَةً (أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً) أَيْ: بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (وَمُوَازَرَةٌ) أَيْ: مُعَاوَنَةً فِي مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

وَالتَّقْوَى وَكِلَاهُمَا بِالْوَاوِ فَإِنَّ الْمُوَاسَلَةَ بِمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْأُمُورِ كَالْمَعَاشِ وَالرِّزْقِ يُقَالُ: آسَيْتُهُ بِمَالٍ مُوَاسَاةً أَيْ: جَعَلْتُهُ أُسْوَتِي فِيهِ فَأَصْلُهَا بِالْهَمْزِ فَقُلِبَتْ وَاوًا تَخْفِيفًا كَمَا قَرَأَ وَرْشٌ «لَا تُوَاخِذْنَا» بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مَهْمُوزَةٌ لَا غَيْرُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلِازْدِوَاجِ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ فِيهِ، وَأَمَّا الْمُوَازَرَةُ فَهُوَ مِنَ الْوَزِيرِ، وَهُوَ الَّذِي يُوَازِرُ الْأَمْرَ أَيْ: يُعَاوِنُهُ أَوْ يَحْمِلُ عَنْهُ وَزْرَهُ وَثِقَلَهُ بِمُسَاعَدَتِهِ لَهُ فِيمَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْيِ (قَالَ) أَيِ: الْحُسَيْنُ (فَسَأَلْتُهُ) أَيْ: عَلِيًّا (عَنْ مَجْلِسِهِ) أَيْ: عَنْ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتِ جُلُوسِهِ (فَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُومُ) أَيْ: مِنْ مَجْلِسِهِ (وَلَا يَجْلِسُ) أَيْ: فِي مَوْضِعِهِ (إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ) أَيْ: عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَفِي عَدَمِ ذِكْرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ ذِكْرِهِ وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِكِلَا الْفِعْلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ (وَإِذَا انْتَهَى) أَيْ: وَصَلَ (إِلَى قَوْمٍ) أَيْ: جَالِسِينَ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ أَيْ: إِذَا بَلَغَهُمْ يُقَالُ: أَنْهَيْتُ إِلَيْهِ الْخَبَرَ فَانْتَهَى، وَتَنَاهَى أَيْ: بَلَغَ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ انْتَهَى حِينَئِذٍ مُطَاوِعٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ (جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ) أَيِ: بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْجُلُوسِ (الْمَجْلِسُ) وَهُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ: مَوْضِعُ الْجُلُوسِ وَبِفَتْحِ اللَّامِ الْمَصْدَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ هُنَا بِالْكَسْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْلِسُ فِي الْمَكَانِ الْخَالِي، أَيَّ مَكَانٍ كَانَ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَكَانِ بِالْمَكِينِ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَطْلُبُ الصَّدَارَةَ بِنَاءً عَلَى التَّوَاضُعِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ) أَيِ: الْجُلُوسِ عِنْدَ مُنْتَهَى الْمَجْلِسِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ مَرْفُوعًا. إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَإِنْ وُسِّعَ لَهُ فَلْيَجْلِسْ وَإِلَّا فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَوْسَعِ مَكَانٍ يَرَاهُ فَلْيَجْلِسْ فِيهِ (يُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ) أَيْ: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مُجَالِسِيهِ (بِنَصِيبِهِ) أَيْ: بِحَظِّهِ، وَالْبَاءُ دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ أَعْطَيْتَ تَأْكِيدًا وَقِيلَ إِنَّهُ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَجُوِّزَ أَنَّ الْمَفْعُولَ مُقَدَّرٌ، وَقَوْلُهُ بِنَصِيبِهِ صِفَتُهُ أَيْ: شَيْئًا بِقَدْرِ نَصِيبِهِ وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ؛ لِأَنَّ (كُلَّ) إِذَا أُضِيفَ إِلَى جَمْعٍ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ، وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَالضَّمِيرُ فِي نَصِيبِهِ لَيْسَ لِلْكُلِّ وَلَا لِجُلَسَائِهِ بَلْ لِمَا يُفْهَمُ ضِمْنًا فَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمُ: التَّرْتِيبُ جَعْلُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَرْتَبَتِهِ وَاحْفَظْهُ فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ انْتَهَى، وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى (لَا يَحْسَبُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهِ وَبِهِمَا قُرِئَ فِي السَّبْعَةِ أَيْ: لَا يَظُنُّ (جَلِيسُهُ) أَيْ: مُجَالِسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِضَافَةُ لِلْجِنْسِ (أَنَّ أَحَدًا) أَيْ: مِنْ أَمْثَالِهِ (أَكْرَمُ عَلَيْهِ) عَلَيْهِ السَّلَامُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ نَفْسِهِ (مَنْ جَالَسَهُ) أَيْ: جَلَسَ مَعَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَمَنْ جَالَسَهُ بِالْفَاءِ (أَوْ فَاوَضَهُ) أَيْ: رَاجَعَهُ (فِي حَاجَةٍ) وَ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي تَجْوِيزِهَا لِلشَّكِّ (صَابَرَهُ) أَيْ: غَلَبَهُ فِي الصَّبْرِ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ لَمْ تَجِئْ لِلْغَلَبَةِ بَلْ مُجَرَّدَةً، نَعَمِ الْمُفَاعَلَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُغَالَبَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَالْمَعْنَى: بَالَغَ فِي الصَّبْرِ مَعَهُ وَعَلَى مَا يَصْدُرُ عَنْهُ حَيْثُ لَا يُبَادِرُ بِالْقِيَامِ وَلَا يَقْطَعُ لَهُ الْكَلَامَ بَلْ يَسْتَمِرُّ مَعَهُ (حَتَّى يَكُونَ هُوَ) أَيِ: الْمُجَالِسُ أَوِ الْمُفَاوِضُ (الْمُنْصَرِفَ) أَيْ: عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهُ وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ تَعْرِيفِ

الْمُسْنَدِ مَعَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِجَالِسِهِ، وَأَمَّا فَاوَضَهُ فَالْمُرَادُ بِمُصَابَرَتِهِ فِيهِ أَنَّهُ يَصْبِرُ لِمُفَاوَضَتِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ كَلَامُهُ أَقُولُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَمَالِ خُلُقِهِ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ يُصَابِرُهُ أَيْضًا حَتَّى يَنْصَرِفَ لِاحْتِمَالِ عُرُوضِ حَاجَةٍ أُخْرَى لَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَسَبَقَ تَخْفِيفُهَا أَيْ: لَمْ يَصْرِفْهُ (إِلَّا بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْحَاجَةِ عَيْنِهَا (أَوْ بِمَيْسُورٍ) أَيْ: حَسَنٍ لَا بِمَعْسُورٍ خَشِنٍ (مِنَ الْقَوْلِ) أَيْ: بِالْوَعْدِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ أَوْ بِالرَّهْبَةِ عَنِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي الْعُقْبَى، وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (قَدْ وَسِعَ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ: وَصَلَ (النَّاسَ) أَيْ: أَجْمَعِينَ حَتَّى الْمُنَافِقِينَ لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (بَسْطُهُ) أَيْ: جُودُهُ وَكَرَمُهُ أَوِ انْبِسَاطُهُ (وَخُلُقُهُ) أَيْ: وَحُسْنُ خُلُقِهِ، فَالْمُرَادُ: إِمْدَادَاتُهُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ (فَصَارَ لَهُمْ أَبًا) أَيْ: فِي الشَّفَقَةِ كَمَا قُرِئَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ (وَصَارُوا) أَيْ: أَصْحَابُهُ أَوْ أُمَّتُهُ (عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً) أَيْ: مُسْتَوِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأَبْنَاءِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ حَبَّذَا أَرْضُ الْكُوفَةِ سَوَاءً أَيْ: مُسْتَوِيَةً (مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ عِلْمٍ) وَفِي نُسْخَةٍ مَجْلِسُ حِلْمٍ (وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ) أَيْ: مِنْهُمْ عَلَى مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (لَا تُرْفَعُ فِيهِ) أَيْ: فِي مَجْلِسِهِ (الْأَصْوَاتُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الْآيَةَ (وَلَا تُؤْبَنُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَاوًا أَوْ فَتْحُ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الَأَبْنِ، وَهُوَ الْعَيْبُ أَوِ التُّهْمَةُ أَيْ: لَا تُقْذَفُ وَلَا تُعَابُ كَذَا فِي الْفَائِقِ وَقِيلَ أَيْ: لَا تُعْرَفُ وَلَا تُذْكَرُ بِقَبِيحٍ (فِيهِ) أَيْ: فِي مَجْلِسِهِ (الْحُرَمُ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، جَمْعُ الْحُرْمَةِ، وَهُوَ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْقَبَائِحُ وَرُوِيَ بِضَمَّتَيْنِ، فَالْمُرَادُ بِهِ النِّسَاءُ وَمَا يُحْمَى عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَجْلِسَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَانُ مِنْ رَفَثِ الْقَوْلِ وَفُحْشِ الْكَلَامِ وَمَا لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْكَرِيمِ، يُقَالُ: أَبَنْتُ الرَّجُلَ إِذَا رَمَيْتُهُ بِخَلَّةِ سُوءٍ، وَرَجُلٌ مَأْبُونٌ أَيْ: مَقْذُوفٌ بِهَا، وَفِي الْمُنْتَقَى: لَا تُوصَفُ بِشَرٍّ وَالْحُرَمُ النِّسَاءُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْقَامُوسِ أَبَنَهُ بِشَيْءٍ يَأْبُنُهُ وَيَأْبِنُهُ اتَّهَمَهُ فَهُوَ

مَأْبُونٌ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ فَإِنْ أَطْلَقْتَ فَقُلْتَ مَأْبُونٌ فَهُوَ لِلشَّرِّ وَآبَنَهُ عَابَهُ فِي وَجْهِهِ (وَلَا تُنْثَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ نُونٍ وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: لَا تُشَاعُ وَلَا تُذَاعُ (فَلَتَاتُهُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ أَيْ: ذَلَّاتُهُ وَمَعَائِبُهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ وُقُوعِهَا جَمْعُ فَلْتَةٍ، وَهِيَ مَا يَبْدُرُ مِنَ الرَّجُلِ مِنْ سَقْطَةٍ، وَفِي الْفَائِقِ الْفَلْتَةُ الْهَفْوَةُ أَيِ: الْقَوْلُ عَلَى غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَالضَّمِيرُ فِي فَلَتَاتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي تَقَدَّمَ السُّؤَالُ عَنْهُ أَيْ: إِنْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِ جُلَسَائِهِ سَقْطَةٌ سُتِرَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْفَلَتَاتِ الزَّلَّاتُ جَمْعُ فَلْتَةٍ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسِهِ زَلَّاتٌ فَتُحْفَظُ فَتُحْكَى انْتَهَى، فَالنَّفْيُ تَوَجَّهَ إِلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ جَمِيعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا فَكَأَنَّ الْحَنَفِيَّ مَا بَلَغَهُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَاعِدَةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ: هَذَا حَسَنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُحَافِظْ فِيهِ الْقَاعِدَةَ الْقَائِلَةَ بِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَيْدِ ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا قَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسِهِ فَلَتَاتٌ فَتُنْثَى فَالنَّفْيُ وَاقِعٌ عَلَى الْفَلَتَاتِ لَا عَلَى الذِّكْرِ وَإِذَا انْتَفَى الْمَوْصُوفُ انْتَفَتِ الصِّفَةُ كَذَا فِي الْعَجِيبِ، وَفِي الْقَامُوسِ نَثَا الْحَدِيثَ حَدَّثَ بِهِ وَأَشَاعَهُ وَالنِّثَاءُ مَا أَخْبَرْتَ بِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ حُسْنٍ أَوْ سُوءٍ وَنَثَيْتُ الْخَبَرَ نَثَوْتُهُ انْتَهَى، فَهِيَ وَاوِيَّةٌ أَوْ يَائِيَّةٌ، وَفِي النِّهَايَةِ نَثَوْتُ الْحَدِيثَ أَظْهَرْتُهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ نَثَا يَنْثُو إِذَا تَكَلَّمَ بِقَبِيحٍ فَلَمْ أَرَ لِنَقْلِهِ مُسَاعِدًا صَرِيحًا (مُتَعَادِلِينَ) أَيْ: مُتَوَافِقِينَ كَأَنَّهُ خَبَرٌ لِكَانَ الْمُقَدَّرِ أَيْ: كَانُوا مُتَعَادِلِينَ فِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالْمَعْنَى: حَالَ كَوْنِ أَهْلِ مَجْلِسِهِ مُتَعَادِلِينَ أَيْ: مُتَسَاوِينَ لَا يَتَكَبَّرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ (يَتَفَاضَلُونَ) أَيْ: يَفْضُلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (فِيهِ) أَيْ: فِي مَجْلِسِهِ (بِالتَّقْوَى) أَيْ: وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا، وَفِي نُسْخَةٍ: يَتَعَاطَفُونَ بَدَلَ يَتَفَاضَلُونَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمُلَائِمٌ لِقَوْلِهِ (مُتَوَاضِعِينَ) وَهُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ خَبَرٌ لِكَانُوا مُقَدَّرًا (يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ) أَيْ: عُمْرًا أَوْ قَدْرًا (وَيَرْحَمُونَ فِيهِ الصَّغِيرَ) بِنَاءً عَلَى مَا وَرَدَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا كَمَا رَوَاهُ المص عَنْ أَنَسٍ فِي جَامِعِهِ (وَيُؤْثِرُونَ) مِنَ الْإِيثَارِ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ مَهْمُوزٌ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ أَيْ: يَخْتَارُونَ (ذَا الْحَاجَةِ) أَيْ: عَلَى مَنْ لَيْسَ بِذِي حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ (وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ) أَيْ: يُرَاعُونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ مُوَاسَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْغَرِيبِ أَوْ يَعْتَنُونَ بِحِفْظِ الْغَرِيبِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَجْلِسِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ يَزِيعَ) بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَكَسْرِ زَاءٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أُهْدِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَوْ أُرْسِلَ هَدِيَّةٌ (إِلَيَّ كُرَاعٌ) بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ مَا دُونَ الرُّكْبَةِ مِنَ السَّاقِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَمَا دُونَ الْكَعْبِ مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ (لَقَبِلْتُ) أَيْ: نَظَرًا إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ وَتَوَاضُعًا فِي مَخْلُوقِ اللَّهِ بِنَاءً لِمَحَبَّتِهِ وَتَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا فَمِنَ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ قَبُولُ الْقَلِيلِ وَجَزَاءُ الْجَزِيلِ (وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ) أَيْ: إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (لَأَجَبْتُ) أَيِ: الدَّاعِيَ، وَلَمْ أَتَكَبَّرْ

لَا عَلَى دَاعٍ وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا وَلَا عَلَى مَدْعُوٍّ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مِيرَكُ: وَرُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعُرْيَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَنَامُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَقُولُ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ جُمْلَةَ (لَوْ دُعِيتُ) إِلَى آخِرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُرَاعِ الْمَكَانُ الْمَعْرُوفُ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُطْلَقُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ وَلَوْ بَعُدَ الْمَكَانُ لَكِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَ حَقَارَةِ الشَّيْءِ أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُرَاعِ هُنَا كَرَاعُ الشَّاةِ قَالَ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ فِي الشَّمَائِلِ وَيُؤَيِّدُهُ، قَالَ مِيرَكُ: قَدِ اخْتَلَفَ الرِّوَايَةُ عَنِ أَنَسٍ كَمَا تَرَى فَفِي التَّأْيِيدِ تَأَمُّلٌ، أَقُولُ تَأَمُّلٌ فَإِنَّ وَجْهَ التَّأْيِيدِ بِمَا فِي الشَّمَائِلِ ظَاهِرٌ غَايَةَ الظُّهُورِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: (لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُرَاعُ الْغَنَمِ لَا كُرَاعُ الْغَمِيمِ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ أَوْ إِلَيْهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ كُرَاعِ الْغَنَمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ نَصًّا فِي الْمَقْصُودِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِعِيَادَتِي (لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا بِرْذَوْنٍ) بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَفَتْحِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ الْفَرَسُ الْأَعْجَمِيُّ، وَهُوَ أَصْبَرُ مِنَ الْعَرَبِيِّ، وَمَجِيئُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُونِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِهِ وَإِرَادَةِ كَمَالِ أَجْرِهِ هَذَا. وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: الْبِرْذَوْنُ الدَّابَّةُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الْبِرْذَوْنُ التُّرْكِيُّ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْجَمْعُ: الْبَرَاذِينُ وَخِلَافُهَا الْعِرَابُ، وَالْأُنْثَى بِرْذَوْنَةٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَلَعَلَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرُّكُوبَ عَلَى الْبَغْلِ وَالْبِرْذَوْنِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، فَالْمَعْنَى مَا جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِرَاكِبِ دَابَّةٍ أَصْلًا، وَعَلَى الثَّانِي فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَاءَ رَاكِبًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا فَرَسٍ، أَقُولُ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مَاشِيًا طَالِبًا لِمَزِيدِ الثَّوَابِ وَتَوَاضُعًا لِرَبِّ الْأَرْبَابِ وَتَجَنُّبًا لِلْخَلُوبِ مِنَ الْأَصْحَابِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: مَرِضْتُ مَرَضًا فَأَتَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَوَجَدَانِي غُمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ قَالَ: فَأَفَقْتُ الْحَدِيثَ قَالَ مِيرَكُ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ لِعِيَادَتِهِ مَاشِيًا، وَفِيهَا إِبْطَالُ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُتَحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّهُ رَاكِبٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا بِرْذَوْنٍ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَأَنَّ خُصُوصِيَّةَ الْبَغْلِ وَالْبِرْذَوْنِ لَيْسَ بِمُرَادٍ انْتَهَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ رُكُوبَ غَيْرِهِمَا لَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ جَاءَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَوْ نَاقَةٍ مَثَلًا. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (أَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (يَحْيَى بْنُ أَبِي الْهَيْثَمِ الْعَطَّارُ قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِفَتْحِ سِينٍ وَتَخْفِيفِ لَامٍ فِي الْقَرِيبِ، يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ الْإِسْرَائِيلِيُّ الْمَدَنِيُّ أَبُو يَعْقُوبَ، صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْعِجْلِيُّ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ، قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ فَأَثْبَتَهَا الْبُخَارِيُّ وَنَفَاهَا أَبُو حَاتِمٍ (قَالَ) أَيْ: يُوسُفُ (سَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوسُفَ وَأَقْعَدَنِي فِي حِجْرِهِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ فَفِي الْمُغْرِبِ: حِجْرُ الْإِنْسَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ حِضْنُهُ، وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ، وَفِي الْقَامُوسِ

نَشَأَ فِي حِجْرِهِ، وَحِجْرُهُ أَيْ: حِفْظُهُ وَسِتْرُهُ، وَفِي النِّهَايَةِ الْحَجْرُ بِالْفَتْحِ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَالْيَتِيمَةُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِجْرِ الثَّوْبِ، وَهُوَ طَرَفُهُ الْمُقَدَّمُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُرَبِّي وَلَدَهُ فِي حِجْرِهِ، وَالْحَجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الثَّوْبُ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي نَقْلِهِ أَنَّ الْحِجْرَ بِالْكَسْرِ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ مِنْ بَدَنِكَ وَبِالْفَتْحِ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَحَكَى أَنَّهُ بِهِمَا الْحِضْنُ (. وَمَسَحَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى رَأْسِي) أَيْ: يَدُهُ لِشُمُولِ الْبَرَكَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ بِزِيَادَةِ (وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ) وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ تَوَاضُعِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (الرَّبِيعُ، وَهُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ عَلَى رَحْلٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: قَتَبٍ (رَثٍّ) بِفَتْحِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: خَلِقٍ عَتِيقٍ (وَقَطِيفَةٍ) أَيْ: وَعَلَى قَطِيفَةٍ فَيُفِيدُ أَنَّهَا كَانَتْ فَوْقَ الرَّحْلِ وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِبٌ فَوْقَهَا لَا أَنَّهُ لَابِسٌ لَهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهَا (كُنَّا نَرَى) بِضَمِّ نُونٍ وَفَتْحِ رَاءٍ أَيْ: نَظُنُّ (ثَمَنَهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ) ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: نَرَى مَجْهُولًا مَعْنَاهُ نَظُنُّ وَمَعْلُومًا مَعْنَاهُ نَعْلَمُ وَنَعْتَقِدُ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، قَالَ: وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمَنَهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَهَذَا لَا يُلَائِمُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ لَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَلَوْ كَانَتِ الْقِصَّةُ مُتَعَدِّدَةً لَا إِشْكَالَ، أَقُولُ الْقَضِيَّةُ مُتَّحِدَةٌ وَالرِّوَايَةُ غَيْرُ مُتَعَدِّدَةٍ فَإِثْبَاتُ الْمُسَاوَاةِ عَلَى التَّنَزُّلِ وَالْمُسَامَحَةِ وَنَفْيُهَا عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاسَكَةِ (فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: رَفَعَتْهُ مُسْتَوِيًا عَلَى ظَهْرِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ «بِهِ» حَالٌ أَيِ اسْتَوَتْ رَاحِلَتُهُ مُلْتَبِسَةً بِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ ثُمَّ الرَّاحِلَةُ مِنَ الْبَعِيرِ الْقَوِيِّ عَلَى الْأَسْفَارِ وَالْأَحْمَالِ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَدْ وَرَدَ (النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) . وَالْفَاءُ فِي فَلَمَّا لِلتَّفْصِيلِ وَجَوَابُهُ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَبَّيْكَ) أَيْ: إِقَامَةً عَلَى إِجَابَتِكَ بَعْدَ إِقَامَةٍ مِنْ أَلَبَ بِالْمَكَانِ إِذَا قَامَ وَالْأَصْلُ أَلْبَبْتُ عَلَى خِدْمَتِكَ إِلْبَابًا بَعْدَ إِلْبَابٍ (بِحَجَّةٍ لَا سُمْعَةَ فِيهَا وَلَا رِئَاءَ) بِالْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ، وَأَمَّا مَا ضَبَطَهُ فِي الْأَصْلِ بِالْيَاءِ فَلَا وَجْهَ لَهُ إِذْ صَرَّحَ فِي الْمُغْرِبِ بِأَنَّ الْيَاءَ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ غَيْرَ صَوَابٍ إِذْ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الْعَشَرَةِ بِالْيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) وَهُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ (وَعَاصِمٌ الْأَحْوَلُ) بِالْوَصْفِ بِمَا هُوَ الْمَشْهُورُ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قِيلَ هَذَا الْخَيَّاطُ مِنْ مَوَالِيهِ، وَقَدْ مَرَّ حَدِيثُهُ لَكِنَّهُ ذُكِرَ هُنَا؛ لِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى مَزِيدِ تَوَاضُعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَرَّبَ لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى جَانِبِهِ (ثَرِيدًا) أَيْ: خُبْزًا مَثْرُودًا بِلَحْمٍ أَوْ بِمَرَقَةٍ (عَلَيْهِ دُبَّاءٌ فَكَانَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ بَدَلَ الْفَاءِ (يَأْخُذُ الدُّبَّاءَ وَكَانَ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ قَالَ ثَابِتٌ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: فَمَا صُنِعَ لِي طَعَامٌ أَقْدِرُ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَمَا نَافِيَةٌ أَيْ: مَا طُبِخَ لِي طَعَامٌ مِنْ صِفَتِهِ أَنِّي أَسْتَطِيعُ (عَلَى أَنْ يُصْنَعَ فِيهِ دُبَّاءٌ إِلَّا صُنِعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِيهِمَا. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى الله عليه

باب ما جاء في خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وسلم - فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ) أَيْ: فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ يَعْمَلُ عَمَلَ أَمْثَالِهِ (يَفْلِي) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّفْلِيَةِ فَفِي الْقَامُوسِ: فَلَّى رَأْسَهُ بَحَثَهُ عَنِ الْقَمْلِ كَفَلَاهُ أَيْ: يُفَتِّشُ (ثَوْبَهُ) وَيُقَلِّبُهُ وَيَلْتَقِطُ الْقَمْلَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَمْلُ يُؤْذِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَر فِي قَوْلِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ التَّفْلِيَةَ مِنْ وَسَخٍ وَنَحْوِهِ (وَيَحْلُبُ شَاتَهُ) بِضَمِّ اللَّامِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا (وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ) بِضَمِّ الدَّالِ وَيُكْسَرُ فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَفُسِّرَ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا أَيْضًا (كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَيَرْفَعُ دَلْوَهُ، وَقَالَ شَارِحُ قَوْلِهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا رَأَتْ مِنِ اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ غَيْرُهُ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ وَجَعَلُوهُ كَالْمُلُوكِ فَإِنَّهُمْ يَتَرَفَّعُونَ عَنِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ الدَّنِيَّةِ تَكَبُّرًا كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ فَقَالَتْ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاحِدًا مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ شَرَّفَهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَكَرَّمَهُ بِالرِّسَالَةِ وَكَانَ يَعِيشُ مَعَ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ وَمَعَ الْحَقِّ بِالصِّدْقِ؛ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا وَيُعِينُهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ تَوَاضُعًا وَإِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَرَفَعَ التَّرَفُّعَ، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ بَابُ مَا جَاءَ فِي خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّهَايَةِ الْخُلُقُ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ، وَبِضَمَّتَيْنِ: السَّجِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالدِّينُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لِصُورَةِ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ، وَهِيَ نَفْسُهُ وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخُلُقِ لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا وَلَهُمَا أَوْصَافٌ حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلِهَذَا تَكَرَّرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي مَدْحِ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ انْتَهَى، وَعَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ حُسْنُ

الْخُلُقِ تَحْصِيلُ الْفَضَائِلِ وَتَرْكُ الرَّذَائِلِ وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَغْضَبُ بِغَضَبِهِ وَيَرْضَى بِرِضَاهُ. وَتَفْصِيلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَّصِفُ بِكُلِّ صِفَةٍ حَمِيدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِيهِ وَيَجْتَنِبُ عَنْ كُلِّ خَصْلَةٍ ذَمِيمَةٍ مَسْطُورَةٍ فِيهِ، كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي وَصْفِ الْقُرَّاءِ: أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى حُلَاهُمْ بِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ مُفَصَّلًا عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافَسًا وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلَى وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقِ الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالتَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِنْ جَانِبِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ الْإِخْلَاصِ الْمَقْرُونِ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كَمَالَ حُسْنِ الْخُلُقِ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى قَدْرِ سَعَةِ الْقَلْبِ وَشَرْحِ الصَّدْرِ وَمِنْ ثَمَّةَ وَرَدَ أَنَّ قَلْبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَعُ قَلْبٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى قَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ مُقَرَّبًا عِنْدَ اللَّهِ وَلَدَيْهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ حُسْنُ الْخُلُقِ غَرِيزِيَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ أَوْ مُكْتَسَبَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ فَقِيلَ بِالْأَوَّلِ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ أَرْزَاقَكُمْ. ، وَقِيلَ: بَعْضُهُ مُكْتَسَبٌ لِمَا صَحَّ فِي خَبَرِ الْأَشَجِّ (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَوْ حَدِيثًا، قَالَ: قَدِيمًا، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَتَرْدِيدُ السُّؤَالِ عَلَيْهِ وَتَقْرِيرُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ جِبِلِّيٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُكْتَسَبٌ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ جِبِلَّةٌ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ فَمَنْ غَلَبَهُ حُسْنُهُ فَهُوَ الْمَحْمُودُ وَإِلَّا أُمِرَ بِالْمُجَاهَدَةِ حَتَّى يَصِيرَ حَسَنًا وَبِالرِّيَاضَةِ حَتَّى يَزِيدَ حُسْنُهُ، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَخْلَاقَ كُلَّهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا جِبِلِّيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِالرِّيَاضَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِبَارَاتُ النَّبَوِيَّةُ وَالْإِشَارَاتُ الصُّوفِيَّةُ. مِنْهَا حَدِيثُ (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ (مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) . وَمِنْهَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ (وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ) . وَمِنْهَا مَا صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي. فَالْمُرَادُ: زِيَادَةُ تَحْسِينِ الْخُلُقِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ عَلَى طِبْقِ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا. وَمِنْهَا حَدِيثُ (حُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ) رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ. وَمِنْهَا (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَنَّ الْكَمَالَ فِي الْخُلُقِ هُوَ حَسْنُ الْخُلُقِ، وَهُوَ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ الصَّمَدَانِيَّةِ مَا عَدَا اسْمَ الْجَلَالَةِ، فَإِنَّهُ لِلتَّعَلُّقِ لَا لِلتَّخَلُّقِ، قَالَ الْعَارِفُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) : رَمْزٌ غَامِضٌ وَإِيمَاءٌ خَفِيٌّ إِلَى الْأَخْلَاقِ الرَّبَّانِيَّةِ فَاحْتَشَمَتِ الْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ أَنْ تَقُولَ: كَانَ مُتَخَلِّقًا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَبَّرَتْ عَنْ هَذَا بِأَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ اسْتِحْيَاءً مِنْ سَبَحَاتِ الْجَلَالِ وَسَتْرًا لِلْجَمَالِ بِلَطِيفِ الْمَقَالِ لِوُفُورِ عَقْلِهَا وَكَمَالِ أَدَبِهَا وَفَضْلِهَا انْتَهَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَوْصَافَ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ لَا تَتَنَاهَى كَمَا أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ لَا تَتَقَاضَى، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الِاتِّسَاعِ وَنِهَايَةٌ فِي الِابْتِدَاعِ لَا يُهْتَدَى لِانْتِهَائِهَا بَلْ كُلُّ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ انْتِهَاؤُهَا فَهُوَ مِنِ ابْتِدَائِهَا وَمِنْ ثَمَّةَ وَسِعَتْ أَخْلَاقُهُ أَخْلَاقَ أَفْرَادِ أَصْنَافِ بَنِي آدَمَ بَلْ أَنْوَاعَ أَجْنَاسِ مَخْلُوقَاتِ الْعَالَمِ، وَلِذَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَسَائِرِ الْأُمَمِ بَلْ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْجَمَادَاتِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي شَرْحِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (بُعِثْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً) . (حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِقْرَاءِ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ (حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ دَخَلَ نَفَرٌ) يَقَعُ عَلَى الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ (عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالُوا لَهُ: حَدِّثْنَا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَاذَا أُحَدِّثُكُمْ)

أَيَّ شَيْءٍ أُحَدِّثُكُمْ، وَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْإِحَاطَةَ بِأَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَنْكَرَ الْوُقُوفَ عَلَى مَا هُنَالِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ أَفَادَهُمْ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُشِيرُ إِلَى غَايَةِ ضَبْطِهِ وَيُشْعِرُ إِلَى نِهَايَةِ حِفْظِهِ حَيْثُ قَالَ: (كُنْتُ جَارَهُ) أَيْ: فَلِي خِبْرَةٌ بِهِ أَتَمُّ مِنْ غَيْرِي فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى قُرْبِهِ الصُّورِيِّ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ عَلَى دُنُوِّهِ الْمَعْنَوِيِّ فَقَوْلُهُ (فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بَعَثَ إِلَى) أَيْ: أَرْسَلَ أَحَدًا إِلَيَّ يَطْلُبُنِي لِكِتَابَةِ الْوَحْيِ غَالِبًا فَإِنَّهُ مِنْ أَجَلِّ الْكَتَبَةِ وَأَكْثَرِهِمْ فِي الْمُبَاشَرَةِ (فَكَتَبْتُهُ لَهُ) أَيِ: الْوَحْيَ (فَكُنَّا) أَيْ: مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ (إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا) أَيْ: ذَمًّا أَوْ مَدْحًا لِكَوْنِهَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ وَمَحَلَّ الِاعْتِبَارِ لِأَرْبَابِ الْمَعْرِفَةِ (ذَكَرَهَا مَعَنَا) وَالْمُرَادُ: بِذِكْرِ الدُّنْيَا ذِكْرُ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدُّنْيَا الْمُعِينَةِ عَلَى أَحْوَالِ الْعُقْبَى كَالْجِهَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ فِي أُمُورِهِ وَالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِهِ وَآلَاتِهِ وَسِلَاحِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ (وَإِذَا ذَكَرْنَا الْآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا) أَيْ: وَبَيَّنَ لَنَا تَفَاصِيلَ أَحْوَالِهَا أَوْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُرَغِّبَةِ وَالْمُرَهِّبَةِ وَغَيْرِهَا (وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ) أَيْ: ضَرَرَهُ وَنَفْعَهُ وَآدَابَ أَكْلِهِ وَبَيَانَ أَنْوَاعِهِ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْفَوَاكِهِ وَسَائِرِ الْمُسْتَلَذَّاتِ (ذَكَرَهُ مَعَنَا) وَأَفَادَ فِي كُلٍّ مِنَ الْحِكَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ وَمَا يَتَحَصَّلُ بِهِ مِنْ مَنْفَعَتِهِ وَمَضَرَّتِهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنَ الطِّبِّ النَّبَوِيِّ مِمَّا يَكَادُ يَعْجِزُ الْوَاحِدُ عَنْ بَيَانِ الْعِلْمِ الْمُصْطَفَوِيِّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا تَقَرَّرَ فِي الْبَابِ قَبْلَ هَذَا فِي أَحْوَالِهِ فِي مَجْلِسِهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الدُّنْيَا وَالطَّعَامِ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ فَوَائِدُ عِلْمِيَّةٌ وَأَدَبِيَّةٌ وَبِتَقْدِيرِ خُلُوِّهِ عَنْهُمَا فَفِيهِ بَيَانُ جَوَازِ تَحَدُّثِ الْكَبِيرِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَمِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَكُلُّ هَذَا أُحَدِّثُكُمْ) بِالرَّفْعِ عَلَى مَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الرِّوَايَةِ، وَالرَّابِطَةُ فِي خَبَرِهِ مَحْذُوفَةٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَالتَّقْدِيرُ أُحَدِّثُكُمْ إِيَّاهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ مَرْوِيِّهِ وَإِظْهَارٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ) نِسْبَةً إِلَى قُرَيْظَةَ مُصَغَّرًا قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ يَهُودِ الْمَدِينَةِ (عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بِلَا يَاءٍ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْجُمْهُورُ عَلَى كِتَابَتِهِ بِالْيَاءِ، وَحَذْفُهَا لُغَةٌ كَمَا قَرَأَ بِهِ السَّبْعُ فِي (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) انْتَهَى، وَالْمُرَادُ: بَعْضُ السَّبْعِ؛ لِأَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ يُثْبِتُ الْيَاءَ فِيهِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَهَذَا مِنْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَاصِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ الْأَجْوَفُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: وَالْأَعْيَاصُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْلَادُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأَكْبَرِ وَهُمُ الْعَاصُ وَأَبُو الْعَاصِ وَالْعِيصُ وَأَبُو الْعِيصِ (قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَى أَشَرِّ الْقَوْمِ) قَالَ مِيرَكُ: أَشَرُّ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ وَمِنْهُ «صُغْرَاهَا شُرَّاهَا» ، وَيُقَالُ: خَيْرٌ وَأَخْيَرُ وَشَرٌّ وَأَشَرُّ لَكِنَّ الَّذِي بِالْأَلِفِ أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا انْتَهَى، وَفِي الْقَامُوسِ أَشَرُّ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ أَوْ رَدِيَّةٌ، وَهِيَ شَرَّةٌ وَشُرَّى (يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ) أَيْ: بِمَا ذَكَرَ مِنَ

الْإِقْبَالِ وَالْكَلَامِ، وَالتَّأَلُّفُ هُوَ الْمُدَارَاةُ وَالْإِينَاسُ لِيَثْبُتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُبِينَةٌ وَلَيْسَ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَمَا تَوَهَّمَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالضَّمِيرُ فِي يَتَأَلَّفُهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَشَرِّ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ جُمِعَ مَعْنًى وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْقَوْمِ؛ لِأَنَّ التَّأَلُّفَ كَانَ عَامًّا لَكِنَّهُ يَزِيدُ فِي الْأَشْرَارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَتَأَلَّفُ الْقَوْمَ إِذْ أَرْبَابُ الْخَيْرِ مَائِلُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا تَأَلَّفَ الْأَشْرَارَ أَيْضًا تَأَلَّفَ الْقَوْمَ كُلَّهُمْ، وَهَذَا أَظْهَرُ لِئَلَّا يَحْصُلَ الضَّرَرُ بِالتَّنَافُرِ الطَّبِيعِيِّ وَإِنَّمَا كَانَ يَقِلُّ التَّأَلُّفُ مَعَ الْأَبْرَارِ وَيَكْثُرُ مَعَ الْأَشْرَارِ؛ لِأَنَّ الصُّلَحَاءَ مُسْتَقِيمُونَ عَلَى الْجَادَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ الْآيَةَ (فَكَانَ) الْفَاءُ تَعْلِيلِيَّةً أَوْ تَفْرِيعِيَّةً أَيْ: فَكَانَ كَثِيرًا مَا (يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَيَّ حَتَّى ظَنَنْتُ) أَيْ: مِنْ كَثْرَةِ الْتِفَاتِهِ إِلَيَّ (أَنِّي خَيْرُ الْقَوْمِ) وَسَبَبُهُ أَنَّهُ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَمِنْ رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ مِنَ الْأَنَامِ (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ وَتَرَدُّدِهِ فِي بَعْضِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ (أَنَا خَيْرٌ أَوْ أَبُو بَكْرٍ) وَفِي نُسْخَةٍ أَمْ أَبُو بَكْرٍ؟ كَمَا فِي الْبَقِيَّةِ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا خَيْرٌ أَمْ عُمَرُ؟ فَقَالَ عُمَرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا خَيْرٌ أَمْ عُثْمَانُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ فَلَمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَدَقَنِي) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: أَجَابَ سُؤَالِي بِجَوَابِ صِدْقٍ وَقَوْلِ حَقٍّ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ وَمُدَارَاةِ خَلْقٍ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ الْمَعْنَى أَجَابَنِي بِسُؤَالِي وَلَمْ يَمْنَعْنِي عَنِ السُّؤَالِ، وَفِي النُّسَخِ صَدَقَنِي بِدُونِ الْفَاءِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ إِتْيَانَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ لَمَّا غَيْرُ مَشْهُورٍ لَكِنَّهُ سَائِغٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ خِلَافَهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ، أَوِ الْجَوَابُ بَعْدَهَا مُقَدَّرٌ أَيْ: لَمَّا سَأَلْتُهُ فَصَدَقَنِي نَدِمْتُ حِينَئِذٍ أَوْ حَزِنْتُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فَلَوَدِدْتُ عَطْفًا عَلَى فَصَدَقَنِي عَلَى الْأَوَّلِ وَعَلَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ عَلَى الثَّانِي قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَصَدَّقَنِي بِالتَّشْدِيدِ قِيلَ وَوَجْهُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ انْتَهَى، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ خَيْرُ أَصْحَابِهِ لِجَهْلِهِ بِعَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِذَلِكَ لَمْ يُعِنْهُ فِي تَطَلُّعِهِ إِلَى أَفْضَلِيَّتِهِ حَتَّى عَلَى الشَّيْخَيْنِ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فَيُحْمَلُ التَّشْدِيدُ عَلَيْهِ، تَمَّ كَلَامُهُ وَلَا يَظْهَرُ مَرَامُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي ظَنِّهِ بَلْ كَذَّبَهُ وَخَطَّأَهُ فِي ظَنِّهِ بَلْ كَذَّبَهُ وَخَطَّأَهُ فِي وَهْمِهِ ثُمَّ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى كَثْرَةِ تَوَجُّهِهِ وَإِقْبَالِهِ غَفْلَةً عَنْ أَنَّ الْمَشَايِخَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْمُرِيدِ الْغَرِيبِ الْمُبْتَدِئِ أَكْثَرَ مِنَ الْقَرِيبِ الْمُنْتَهِي ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا عَلَى نُسْخَةِ صَدَقَنِي بِلَا فَاءٍ فَيَكُونُ جُمْلَةً حَالِيَّةً بِتَقْدِيرِ «قَدْ» سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُخَفَّفُ وَالْمُشَدَّدُ انْتَهَى، وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ إِذْ يَبْقَى الْكَلَامُ بِدُونِ الْجَوَابِ، وَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ صَلَاحِيَتِهِ جَوَابًا لَهُ كَيْفَ يَعْدِلُ عَنْهُ وَيَجْعَلُ حَالًا ثُمَّ يَجْعَلُ الْجَوَابَ مُقَدَّرًا أَوْ يَجُوزُ الْجَوَابُ مَعَ وُجُودِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ (فَلَوَدِدْتُ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: أَحْبَبْتُ وَتَمَنَّيْتُ (أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ) أَيْ: حَيَاءً لِظُهُورِ خَطَأِ ظَنِّهِ وَفَضِيحَةً مِنَ الشَّرِّ الْمُوجِبِ لِكَثْرَةِ إِقْبَالِهِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ) بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ (عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ تِسْعَ سِنِينَ، وَلَعَلَّهُ أَسَقَطَ السَّنَةَ الْمُبْتَدَأَةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ حِينَئِذٍ عَشْرَ سِنِينَ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ فَاءٍ

مُشَدَّدَةٍ وَكَسْرِهَا بِلَا تَنْوِينٍ وَبِهِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَقْرُوءٌ بِهَا فِي السَّبْعِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِيهَا عَشَرَةَ لُغَاتٍ: فَتْحُ الْفَاءِ وَضَمُّهَا وَكَسْرُهَا بِلَا تَنْوِينٍ وَبِالتَّنْوِينِ فَهَذِهِ سِتٌّ، وَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَأُفِّي وَأُفَّةٍ بِضَمِّ هَمْزَتِهِمَا. وَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَتَضَجَّرُ وَأَتَكَرَّهُ قَالَ مِيرَكُ: وَأَصْلُ الْأُفِّ وَسَخُ الظُّفْرِ وَالْأُذُنِ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا يُتَضَجَّرُ أَوْ يُسْتَثْقَلُ: أُفٍّ لَهُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكِرْمَانِيُّ فِيهَا تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ لُغَةً وَزَادَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَاحِدَةً فَأَكْمَلَهَا أَرْبَعِينَ عَلَى مَا بَيَّنَهُ مِيرَكُ فِي شَرْحِهِ (قَطُّ) بِفَتْحِ قَافٍ وَتَشْدِيدِ طَاءٍ مَضْمُومَةٍ كَذَا فِي الْأُصُولِ أَيْ: أَبَدًا أَوْ جَازَ فِيهِ ضَمُّ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ، وَضَمُّهُ وَفَتْحٌ فَسُكُونٌ أَوْ كَسْرٌ مَعَ التَّشْدِيدِ وَعَدَمِهِ، وَهِيَ لِتَوْكِيدِ نَفْيِ الْمَاضِي (وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ) أَيْ: مِمَّا لَا يَنْبَغِي صُنْعُهُ أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلِيقُ فِعْلُهُ (لِمَ صَنَعْتَهُ) أَيْ: لِأَيِّ شَيْءٍ صَنَعْتَهُ (وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ كَذَا وَأَلَّا صَنَعْتَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بِمَعْنَى هَلَّا، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ لِشَيْءٍ مِمَّ يَصْنَعُهُ الْخَادِمُ وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِمَّا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَلِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ مَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا كَذَا وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا كَذَا أَوْ هَذَا مِنْ كَمَالِ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفْوِيضِ أَمْرِهِ وَمُلَاحَظَةِ تَقْدِيرِ رَبِّهِ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْحَنَفِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مِنْ كَمَالِ أَدَبِ أَنَسٍ فَبَعِيدٌ جِدًّا مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَعُنْوَانِ الْبَابِ، وَلِعَدَمِ تَصَوُّرِ وَلَدٍ عُمْرُهُ عَشْرُ سِنِينَ يَخْدُمُ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَا يُوجِبُ تَأْفِيفَهُ وَلَا تَقْرِيعَهُ مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي مِدْحَتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا مَدْحَ نَفْسِهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ اعْتِرَاضِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ لِغَرَضٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِآدَابِ خِدْمَتِهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُقُوقِ مُلَازَمَتِهِ بِنَاءً عَلَى حِلْمِهِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُقُوقِ الرَّبَّانِيَّةِ وَلَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِحُقُوقِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا) قِيلَ: «مِنْ» زَائِدَةٌ وَلَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ غَيْرِهِ أَحْسَنَ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ مِنْ أَفْضَلِ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ كَوْنَهُ أَفْضَلَهُمْ إِذِ الْأَفْضَلُ الْمُعَدَّدُ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّ (كَانَ) لِلِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ فَإِذَا كَانَ دَائِمًا مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا انْتَهَى، وَكَانَ مُرَادُهُمْ أَنَّ سَائِرَ الْخَلْقِ وَلَوْ حَسُنَ خُلُقُهُمْ أَحْيَانًا سَاءَ خُلُقُهُمْ زَمَانًا بِخِلَافِ حُسْنِ خُلُقِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى الدَّوَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَبَطَلَ تَعَقُّبُ ابْنِ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ تَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ مَا فِيهِ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي ذَوْقٍ سَلِيمٍ. قَالَ قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْخَاءِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ لِلْمَقَامِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ، قُلْتُ: هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّابِقِ دُونَ نِسْبَتِهَا إِلَى اللَّاحِقِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَحْسَنِ النَّاسِ حُسْنَ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ تَابِعٌ لِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ الَّذِي يَتْبَعُهُ صَفَاءُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْحِكْمَةُ، نَعَمِ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِالضَّمِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ

الْوَجْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُوَ مُخَالَطَةُ النَّاسِ بِالْجَمِيلِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ اخْتِيَارُ الْفَضَائِلِ وَاجْتِنَابُ الرَّذَائِلِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْعُنْوَانِ مَا يَسْتَغْنِي عَنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ ثُمَّ هُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُهُ بِأُنْسٍ وَنَحْوِهِ (وَلَا مَسِسْتُ) بِكَسْرِ السِّينِ وَبِفَتْحٍ أَيْ مَا لَمَسْتُ (خَزًّا) بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ زَايٍ، قِيلَ: الْخَزُّ اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ سُمِّيَ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهَا فَيَكُونُ فَرْوًا نَاعِمًا عَلَى مَا فِي مِنْهَاجِ اللُّغَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْخَزُّ: ثِيَابٌ يُعْمَلُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْخَزُّ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مُبَاحٌ إِنْ لَمْ يَزِدِ الْحَرِيرُ وَزْنًا، وَلَا عِبْرَةَ بِزِيَادَةِ الظُّهُورِ فَقَطْ، انْتَهَى، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّدَى حَرِيرًا وَاللُّحْمَةُ غَيْرَهُ فَهُوَ مُبَاحٌ وَعَكْسُهُ حَرَامٌ إِلَّا فِي الْحَرْبِ (وَلَا حَرِيرًا) أَيْ: خَالِصًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا لَفْظُ قَطُّ، وَفِي بَعْضِهَا بَعْدُ خَزًّا (وَلَا شَيْئًا) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (كَانَ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ أَوْ شَيْءٍ (أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَمَمْتُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ كَذَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا انْتَهَى، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فَفِي الْقَامُوسِ: الشَّمُّ حُسْنُ الْأَنْفِ شَمِمْتُهُ بِالْكَسْرِ أَشَمُّهُ بِالْفَتْحِ وَشَمَمْتُهُ بِالْفَتْحِ أَشُمُّهُ بِالضَّمِّ (مِسْكًا) وَهُوَ طِيبٌ مَعْرُوفٌ (قَطُّ وَلَا عِطْرًا) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ: مُطْلَقُ الطِّيبِ فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَالْعَرَقُ بِفَتْحَتَيْنِ مَعْرُوفٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ عَيْنٍ وَسُكُونِ رَاءٍ فَفَاءٍ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ. وَكَانَ طِيبُ عَرَقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَتَّى كَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ يَأْخُذْنَهُ وَيَتَعَطَّرْنَ بِهِ وَكَانَ مِنْ أَطْيَبِ طِيبِهِنَّ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمَعَ كَوْنِ هَذِهِ الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ صِفَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَمَسَّ طِيبًا كَانَ يَسْتَعْمِلُ الطِّيبَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مُبَالَغَةً فِي طِيبِ رِيحِهِ لِمُلَاقَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَأَخْذِ الْوَحْيِ الْكَرِيمِ وَمُجَالَسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلِفَوَائِدَ أُخْرَى مِنَ الِاقْتِدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَ (حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ) . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ عَشْرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ (وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ) فَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَعَلَّ ابْتِدَاءَ خِدْمَةِ أَنَسٍ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ فَفِي رِوَايَةِ التِّسْعِ لَمْ يَجْبُرِ الْكَسْرَ وَاعْتَبَرَ السِّنِينَ الْكَوَامِلَ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَشْرِ جَبَرَهَا، وَاعْتَبَرَهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خِدْمَتِهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ قُدُومِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَبَعْدَ تَزْوِيجِ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ بِأَبِي طَلْحَةَ. فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَيَخْدُمُكَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَأَشَارَ بِالسَّفَرِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَغَازِي مِنَ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ مَنْ يَخْدُمُهُ فَأَحْضَرَ لَهُ أَنَسًا فَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ وَبَيْنَ خُرُوجِهِ إِلَى خَيْبَرَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ مَنْ يَكُونُ أَسَنَّ مِنْ أَنَسٍ وَأَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ فِي السَّفَرِ فَعَرَفَ أَبُو طَلْحَةَ مِنْ أَنَسٍ الْقُوَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَزَوَّجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ بِأَبِي طَلْحَةَ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا بَادَرَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَوَالِدُ أَنَسٍ حَيٌّ فَعَرَفَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُسْلِمْ، وَخَرَجَ فِي حَاجَتِهِ فَقَتَلَهُ عَدُوٌّ لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ قَدْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَطَبَهَا فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلِمَ فَأَسْلَمَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُدَّةُ خِدْمَةِ أَنَسٍ تِسْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ فَأَلْغَى الْكَسْرَ مَرَّةً وَجَبَرَهُ أُخْرَى كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَأَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ فَمَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ وَلَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً قَطُّ وَلَا عَبَسَ فِي وَجْهِي وَلَا أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَطُّ فَتَوَانَيْتُ فَعَاتَبَنِي عَلَيْهِ فَإِنْ عَاتَبَنِي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ قَالَ دَعُوهُ فَلَوْ قُدِّرَ شَيْءٌ كَانَ.

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ هُوَ الضَّبِّيُّ، وَالْمَعْنَى) أَيْ: مُؤَدَّى التَّحْدِيثَيْنِ (وَاحِدٌ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَلْمٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (الْعَلَوِيِّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (كَانَ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ النَّبِيِّ (- عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَجُلٌ بِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ) أَيْ: مِنْ طِيبٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: غَالِبًا مِنْ عَادَتِهِ (لَا يَكَادُ يُوَاجِهُ أَحَدًا) وَهَذَا لِتَضَمُّنِهِ نَفْيَ الْقُرْبِ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ أَبْلَغُ مِنْ «لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا» ، فَالْمَعْنَى: لَا يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يُقَابِلَ أَحَدًا (بِشَيْءٍ) أَيْ: بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ (يَكْرَهُهُ) أَيْ: يَكْرَهُ أَحَدٌ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَالْمُوَاجَهَةُ: الْمُقَابَلَةُ. وَقَيَّدْنَا بِغَالِبِ عَادَتِهِ؛ لِئَلَّا يُنَافِيَهُ مَا ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ: قُلْتُ أَغْسِلُهُمَا قَالَ بَلِ احْرِقْهُمَا، وَلَعَلَّ الْأَمْرَ بِالْحَرْقِ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُعَصْفَرِ (فَلَمَّا قَالَ لِلْقَوْمِ) أَيْ: لِأَصْحَابِهِ الْحَاضِرِينَ فِي الْمَجْلِسِ (لَوْ قُلْتُمْ لَهُ يَدَعُ) أَيْ: يَتْرُكُ (هَذِهِ الصُّفْرَةَ) وَلَوْ لِلتَّمَنِّي أَوْ لِلشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَكَانَ أَحْسَنَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا عَلَى الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ إِذْ وُجُودُ أَثَرِ صُفْرَةٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ مَكْرُوهٌ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَمْ يُؤَخِّرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَهُ بِتَرْكِهِ إِلَى مُفَارَقَتِهِ الْمَجْلِسَ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّمَا كَرِهَ الصُّفْرَةَ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ لِلْيَهُودِ وَمَخْصُوصَةٌ بِهِمْ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الصُّفْرَةِ عَلَامَةً لَهُمْ إِنَّمَا حَدَثَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ كَمِصْرَ مُنْذُ زَمَنٍ قَرِيبٍ فَفِي الْأَوَائِلِ لِجَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ: أَوَّلُ مَنْ أَمَرَ بِتَغَيُّرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ زِيَّهُمْ إِمَامُ الْمُتَوَكِّلِ. وَفِي السِّكِرْدَانِ لِابْنِ أَبِي حَجْلَةَ: لَبِسَ النَّصَارَى الْعَمَائِمَ الزُّرْقَ، وَالْيَهُودُ الْعَمَائِمَ الصُّفْرَ، وَالسَّامِرَةُ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ الْعَمَائِمَ الْحُمْرَ سَنَةَ سَبْعِمِائَةٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرِبِيًّا جَالِسًا بِبَابِ الْقَلْعَةِ عِنْدَ بِيبَرْسَ الْجَاشِنْكِيرِ فَحَضَرَ بَعْضُ كُتَّابِ النَّصَارَى بِعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ، فَقَامَ لَهُ الْمَغْرِبِيُّ وَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ فَدَخَلَ لِلسُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَفَاوَضَهُ فِي تَغْيِيرِ زِيِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِيَمْتَازَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ فَأَجَابَهُ لِذَلِكَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ جَدَالَةَ (وَاسْمُهُ عَبْدُ بْنُ عَبْدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحِشًا) أَيْ: ذَا فُحْشٍ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقَوْلِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْفِعْلِ وَالصِّفَةِ (وَلَا مُتَفَحِّشًا) أَيْ: وَلَا مُتَكَلِّفًا بِهِ أَيْ:

لَمْ يَكُنِ الْفُحْشُ لَهُ خُلُقِيًّا وَلَا كَسْبِيًّا، قَالَ الْقَاضِي: الْفَاحِشُ مَا جَاوَزَ الْحَدَّ، وَالْفَوَاحِشُ الْمَقَابِحُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الزِّنَا فَاحِشَةً، وَالْمُرَادُ: بِالْفَاحِشِ فِي الْحَدِيثِ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفِعْلِهِ، وَالْمُتَفَحِّشُ الَّذِي يَتَكَلَّفُ الْفُحْشَ وَيَتَعَمَّدُهُ فَنَفَتْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ بِهِ طَبْعًا وَتَكَلُّفًا ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: صَيَّاحًا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ سَخَّابًا بِالسِّينِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَعَّالٌ قَدْ يَكُونُ لِلنِّسْبَةِ كَتَمَّارٍ وَلَبَّانٍ وَبِهِ أُوِّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَقْصُودُ نَفْيُ الصَّخَبِ لَا نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَادَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فَنَفَتْهُ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ: نَفْيُهُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يُقَالُ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي حَقِّهِ لَكَانَ كَامِلًا كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ مُبَالَغَةُ النَّفْيِ لَا نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَقِيلَ فِي الْآيَةِ صَحَّ الْمُبَالَغَةُ بِاعْتِبَارِ الْمُقَابَلَةِ لِلْعَبِيدِ الْمَوْجُودِينَ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمُبَالَغَةِ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ أَصْلُ الْفِعْلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْأَسْوَاقِ أَيْ: لَيْسَ مِمَّنْ يُنَافِسُ فِي الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا حَتَّى يَحْضُرَ الْأَسْوَاقَ، لِذَلِكَ فَذِكْرُهَا إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ لِذَلِكَ لَا لِإِثْبَاتِ الصَّخَبِ فِي غَيْرِهَا أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى فِيهَا انْتَفَى فِي غَيْرِهَا انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ فَإِنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ فِي الْقِرَاءَةِ حَالَةَ الصَّلَاةِ وَيُبَالِغُ فِي إِعْلَانِهِ حَالَ الْخُطْبَةِ (وَلَا يَجْزِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ فَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ غَيْرِ هَمْزَةٍ مِنَ الْجَزَاءِ أَيْ: لَا يُكَافِئُ وَلَا يُجَازِي (بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ) وَالْبَاءُ لِلْمُبَادَلَةِ، وَإِطْلَاقُ السَّيِّئَةِ عَلَى الْأُولَى لِلْمُشَاكَلَةِ كَعَكْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَلِذَا قَالَتْ (وَلَكِنْ يَعْفُو) أَيْ: بِبَاطِنِهِ (وَيَصْفَحُ) أَيْ: يُعْرِضُ بِظَاهِرِهِ لِمَا سَبَقَ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَالصَّفْحُ فِي الْأَصْلِ الْإِعْرَاضُ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ، وَالْمُرَادُ: هُنَا عَدَمُ الْمُقَابَلَةِ بِذِكْرِهِ وَظُهُورِ أَثَرِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ مَا قَبْلَ لَكِنْ رُبَّمَا يُوهِمُ أَنَّهُ تَرَكَ الْجَزَاءَ عَجْزًا أَوْ مَعَ بَقَاءِ الْغَضَبِ فَاسْتَدْرَكَهُ بِذَلِكَ. وَمِنْ عَظِيمِ عَفْوِهِ حَتَّى عَنْ أَعْدَائِهِ الْمُحَارِبِينَ لَهُ حَتَّى كَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنْ بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي أَوِ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيِ اغْفِرْ لَهُمْ ذَنْبَ الْكَسْرَةِ وَالشَّجَّةِ لَا مُطْلَقًا وَإِلَّا لَأَسْلَمُوا كُلُّهُمْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ (شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ اللَّهُمَّ امْلَأْ بُطُونَهُمْ نَارًا) فَلِأَنَّهُ كَانَ حَقَّ اللَّهِ فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَمَا سَبَقَ مِنْ حَقِّهِ فَسَامَحَهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَجَلِّ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَبْقَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَمْ أَمْتَحِنْهُمَا: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ أَيْ: لَوْ تُصُوِّرَ مِنْهُ جَهْلٌ أَوْ مُرَادُهُ بِالْجَهْلِ الْغَضَبُ وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ؛ لِأَنْ أُخَالِطَهُ فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ وَجَهْلَهُ فَابْتَعْتُ مِنْهُ تَمْرًا إِلَى أَجَلٍ فَأَعْطَيْتُهُ الثَّمَنَ؛ فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ ثُمَّ قُلْتُ: أَلَا تَقْضِينِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مُطْلٌ، فَقَالَ عُمَرُ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَسْمَعُ فَوَاللَّهِ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ

قُرْبَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسُّمٍ ثُمَّ قَالَ: أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ يَا عُمَرُ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي اذْهَبْ بِهِ فَاقْضِهِ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مَكَانَ مُنَازَعَتِهِ فَقُلْتُ يَا عُمَرُ كُلُّ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ قَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَظَرْتُ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا فَقَدْ أُخْبِرْتُهُمَا؛ أُشْهِدُكَ أَنِّي رَضِيتُ بِاللَّهِ رِبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَذَبَهُ بِرِدَائِهِ حَتَّى أَثَّرَ فِي رَقَبَتِهِ الشَّرِيفَةِ لِخُشُونَتِهِ، وَهُوَ يَقُولُ احْمِلْنِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ أَيْ: حَمِّلْهُمَا لِي طَعَامًا فَإِنَّكَ لَا تُحَمِّلُنِي مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا أَحْمِلُكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِنْ جَذْبَتِكَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَهَا ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ لَهُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ تَمْرًا وَعَلَى الْآخَرِ شَعِيرًا) وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا جَبَذَهُ تِلْكَ الْجَبْذَةَ الشَّدِيدَةَ الْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ، وَفِي هَذَا عَظِيمُ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى الْأَذَى نَفْسًا وَمَالًا وَتَجَاوُزِهِ عَنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَالْوَحْشِ الشَّارِدِ وَالطَّبْعِ الْمُتَنَافِرِ وَالْمُتَبَاعِدِ وَالْحُمُرِ الْمُسْتَنْفِرَةِ الَّتِي فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ فَمَعَ ذَلِكَ سَاسَهُمْ وَاحْتَمَلَ جَفَاهُمْ وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ إِلَى أَنِ انْقَادُوا إِلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَقَاتَلُوا دُونَهُ أَهْلِيهِمْ وَآبَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَاخْتَارُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ فَظَهَرَ صِدْقُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَفِي قَوْلِهِ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ الْآيَةَ. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ شَيْئًا) أَيْ: آدَمِيًّا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُبَّمَا ضَرَبَ مَرْكُوبَهُ، وَقَدْ ضَرَبَ بَعِيرَ جَابِرٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ (قَطُّ) أَيْ: فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمَاضِيَةِ (إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ) وَفِي رِوَايَةٍ إِلَّا أَنْ يَضْرِبَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) حَتَّى إِنَّهُ قَتَلَ اللَّعِينَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِأُحُدٍ، وَقِيلَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادَ مَعَ الْكُفَّارِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْحُدُودُ وَالتَّعَازِيرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ (وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً) هَذَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ نَفْيِ الْعَامِّ لَكِنْ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمَا أَوْ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ضَرْبِ هَذَيْنِ فِي الْعَادَةِ، وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى ضَرْبِهِمَا تَأْدِيبًا، فَضَرْبُهُمَا وَإِنْ جَازَ بِشَرْطِهِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ قَالُوا بِخِلَافِ الْوَلَدِ فَالْأَوْلَى تَأْدِيبُهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ ضَرْبَهُ لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْدَبِ الْعَفْوُ بِخِلَافِ ضَرْبِهِمَا فَإِنَّهُ لِحَظِّ النَّفْسِ، فَنُدِبَ الْعَفْوُ عَنْهُمَا مُخَالَفَةً لِهَوَى النَّفْسِ وَكَظْمًا لِغَيْظِهَا. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ) أَيْ: مَا عَلِمْتُ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ مَا أَبْصَرْتُ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْتَصِرًا) أَيْ: مُنْتَقِمًا (مِنْ مَظْلِمَةٍ) وَهِيَ بِكَسْرِ اللَّامِ اسْمٌ لِمَا تَطْلُبُهُ عَنِ الظَّالِمِ، وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْكَ وَبِفَتْحِ اللَّامِ مَصْدَرُ ظَلَمَهُ يَظْلِمُهُ ظُلْمًا وَمَظْلَمَةً، وَقِيلَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ الظُّلْمُ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ أَيْ: مِنْ أَجْلِ مَا أُخِذَ وَنِيلَ مِنْ مَعْصُومٍ عُدْوَانًا، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْبَدَنِ أَمِ الْعِرْضِ أَمِ الْمَالِ أَمِ الِاخْتِصَاصِ (ظُلِمَهَا قَطُّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي ظُلِمَ رَاجِعٌ إِلَى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالظُّلْمُ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَلَا

يَظْهَرُ تَعَدِّي ظُلِمَ هَاهُنَا بِالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: ظُلِمَ بِهَا وَيُقَالُ إِنَّهُ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إِلَى الْمَظْلِمَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ كَذَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ مَصْدَرٌ وَبِكَسْرِ اللَّامِ أَوْ ضَمِّهَا اسْمٌ فَالْمَنْصُوبُ فِي ظُلِمَهَا عَلَى الْأَوَّلِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَعَلَى الثَّانِي مَفْعُولٌ بِهِ وَظُلِمَ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ قَصْرَهُ عَلَى وَاحِدٍ فَقُدِّرَ ظُلِمَ بِهَا، قُلْتُ: عِبَارَةُ الْقَامُوسِ ظَلَمَهُ حَقَّهُ وَالْمَظْلِمَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْمَصْدَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ ضَمِّهَا سَهْوٌ وَوَهْمٌ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا لَمْ يَنْتَقِمْ لِمَظْلِمَةٍ يَنْتَقِمُ مَعَ أَنَّ مُرْتَكِبَهَا قَدْ بَاءَ بِإِثْمٍ عَظِيمٍ لَا سِيَّمَا لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ الَّذِي سَحَرَهُ وَالْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي ذَكَرَتْهَا بِقَوْلِهَا (مَا لَمْ يُنْتَهَكْ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ شَيْءٌ) وَهِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: مَا لَمْ يُرْتَكَبْ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ قَالَ الْحَنَفِيُّ: الْمَحَارِمُ جَمْعُ الْمَحْرَمِ، وَهُوَ الْحَرَامُ وَالْحُرْمَةُ وَحَقِيقَتُهُ مَوْضِعُ الْحُرْمَةِ انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَمَا لَا يَخْفَى (فَإِذَا انْتُهِكَ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ غَضَبًا) وَقَدْ سَبَقَ أَنْ قَوْلَهُ مِنْ أَشَدِّهِمْ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ أَشَدَّهُمْ، لَكِنْ قِيلَ مِنْ هَاهُنَا زَائِدَةٌ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْكَلَامِ الْمُوجَبِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ثُمَّ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ الَّتِي يَنْتَقِمُ لَهَا وَلَا يَعْفُو عَنْهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ إِذَا صَمَّمَ فِي طَلَبِهِ وَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَنْتَهِكُونَ حُرُمَاتِ اللَّهِ أَوْ أَنَّ عَفْوَهُ مَحْمُولٌ عَلَى ذَنْبٍ لَمْ يَكْفُرْ بِهِ فَاعِلُهُ قِيلَ ظُلْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلْزِمُ انْتِهَاكَ شَيْءٍ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ ظُلْمَهُ إِيذَاؤُهُ وَإِيذَاؤُهُ إِيذَاءٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِيذَاءَ مُطْلَقًا لَيْسَ بِكُفْرٍ؛ لِأَنَّ إِيذَاءَهُ قَدْ يَصْدُرُ مِنْ مُؤْمِنٍ جَافٍ، وَهَذَا لَهُ نَوْعُ عُذْرٍ فَلَمْ يُكَفِّرْهُ وَعَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا تَجَاوُزُهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فَلِئَلَّا يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ وَلَمْ يَتَحَدَّثُوا عَنْهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ وَكَانَ يُسَامِحُ عَنْ كَافِرٍ مُعَاهِدٍ لِيَتَأَلَّفَهُ أَوْ عَنْ حَرْبِيٍّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِلْأَحْكَامِ، وَرَوَى الْحَاكِمُ (مَا لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْلِمًا بِذِكْرِهِ أَيْ: بِصَرِيحِ اسْمِهِ وَمَا ضَرَبَ بِيَدِهِ قَطُّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَضْرِبَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا سُئِلَ شَيْئًا قَطُّ فَمَنَعَهُ إِلَّا أَنْ يُسْأَلَ مَأْثَمًا وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونَ لِلَّهِ يَنْتَقِمُ) (وَمَا خُيِّرَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (

بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ) أَيِ: الْأَيْسَرُ (مَأْثَمًا) أَيْ: إِثْمًا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ مَوْضِعَ إِثْمٍ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: إِثْمًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهَا أَيْضًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ (مَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ سَخَطٌ فَالْإِثْمُ الْمَعْصِيَةُ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَشْمَلُ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْجَهْلِ بِكَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَبَعًا لِشَارِحِ التَّخْيِيرِ إِمَّا بِأَنْ يُخَيِّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا فِيهِ عُقُوبَتَانِ فَيَخْتَارُ الْأَخَفَّ أَوْ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ فَيَخْتَارُ أَخْذَهَا أَوْ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ فِي الْمُجَاهَدَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاقْتِصَادِ فَيَخْتَارُ الِاقْتِصَادَ، وَإِمَّا بِأَنْ يُخَيِّرَهُ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ فَعَلَى الْأَخِيرِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا وَعَلَى مَا سَبَقَ مُنْقَطِعًا إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَخْيِيرُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بَيْنَ جَائِزَيْنِ قُلْتُ بَقِيَ تَخْيِيرٌ آخَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ أُمَّتِهِ بَيْنَ وُجُوبِ الشَّيْءِ وَنَدْبِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ وَإِبَاحَتِهِ وَتَخْيِيرٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ فِي أَمْرَيْنِ فَيَخْتَارُ الْأَيْسَرَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهِمْ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عِنْدَهُ) قِيلَ: اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، وَقِيلَ هُوَ مَخْرَمَةُ وَلَا يَبْعُدُ تَعَدُّدُ الْقَضِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ ظَاهِرًا (فَقَالَ بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَخُو الْعَشِيرَةِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ أَوْ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَالْعَشِيرَةُ الْقَبِيلَةُ أَيْ: بِئْسَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ فَإِضَافَةُ الِابْنِ أَوِ الْأَخِ إِلَيْهَا كَإِضَافَةِ الْأَخِ لِلْعَرَبِ فِي يَا أَخَا الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وَأَوْ لِلشَّكِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ سُفْيَانَ فَإِنَّ جَمِيعَ أَصْحَابِ الْمُنْكَدِرِ رَوَوْهُ عَنْهُ بِدُونِ الشَّكِّ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فَقِيلَ الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ حَالِهِ لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ وَلَا يَغْتَرُّوا بِهِ فَلَا يَكُونُ غَيْبَةً، وَقِيلَ كَانَ مُجَاهِرًا بِسُوءٍ فَقَالَهُ وَلَا غِيبَةَ لِلْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ

وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِحَالِهِ (ثُمَّ أَذِنَ لَهُ) أَيْ: بِالدُّخُولِ (فَأَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ) أَيْ: بَعْدَ دُخُولِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تَطَلَّقَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ (فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ) أَيْ: فِي غَيْبَتِهِ (ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ) أَيْ: عِنْدَ مُعَايَنَتِهِ (فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ» (مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ) شَكٌّ مِنْ سُفْيَانَ وَالدَّالُ مُخَفَّفَةٌ كَمَا قُرِئَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ شَاذًّا فَلَا يُنَافِي قَوْلَ الصَّرْفِيِّينَ وَأَمَاتَ الْعَرَبُ مَاضِيَ يَدَعُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِمَاتَتِهِ نُدْرَتُهُ فَهُوَ شَاذٌّ اسْتِعْمَالًا صَحِيحٌ قِيَاسًا، وَقَوْلُهُ (اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) نُصِبَ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّنِي إِنَّمَا تَرَكْتُ الِانْقِبَاضَ فِي وَجْهِهِ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ) فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مُدَارَاةِ مَنْ يُتَّقَى فُحْشُهُ) ، وَلِذَا قِيلَ (وَدَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ) . ، وَفِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ، كَذَا فَسَّرَهُ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْغَنِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَسْتَأْذِنُ فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْتَهُ قَالَ: (بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ) الْحَدِيثَ وَإِنَّمَا تَطَلَّقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ تَأَلُّفًا لَهُ لِيُسْلِمَ قَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَئِيسَهُمْ، وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ عِلْمًا وَأَدَبًا وَلَيْسَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أُمَّتِهِ بِالْأُمُورِ الَّتِي يُسَمِّيهِمْ بِهَا وَيُضِيفُهَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ غَيْبَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَيُعَرِّفَ النَّاسَ أُمُورَهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ

النَّصِيحَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ وَلَكِنْ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَمِ وَأُعْطِيَهُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ أَظْهَرَ لَهُ الْبَشَاشَةَ وَلَمْ يُجِبْهُ بِالْمَكْرُوهِ وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ فِي اتِّقَاءِ شَرِّ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ، وَفِي مُدَارَتِهِ لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِ وَغَائِلَتِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي جَوَازِ غَيْبَةِ الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ وَالْفُحْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ جَوَازِ مُدَارَاتِهِمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِمْ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ فِي دِينِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَبَعًا لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ أَنَّ الْمُدَارَاةَ بَذْلُ الدُّنْيَا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ أَوْ هُمَا مَعًا، وَهِيَ مُبَاحَةٌ وَرُبَّمَا تَكُونُ مُسْتَحْسَنَةً، وَالْمُدَاهَنَةُ بَذْلُ الدِّينِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا بَذَلَ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ حُسْنَ عِشْرَتِهِ وَالرِّفْقَ فِي مُكَالَمَتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَمْدَحْهُ بِقَوْلِهِ فَلَمْ يُنَاقِضْ فِيهِ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِيهِ قَوْلُ حَقٍّ وَفِعْلَهُ مَعَهُ حُسْنُ مُعَاشَرَةٍ فَيَزُولُ مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ الْمُتَعَالِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَمْ يَكُنْ عُيَيْنَةُ حِينَئِذٍ أَسْلَمَ فَلَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ فِيهِ غَيْبَةً أَوْ كَانَ أَسْلَمَ وَلَمْ يَكُنْ إِسْلَامُهُ خَالِصًا فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَهُ، وَقَدْ كَانَتْ مِنْهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ أُمُورٌ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ فَيَكُونُ مَا وَصَفَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَفِي فَتْحِ الْبَارِئِ أَنَّ عُيَيْنَةَ ارْتَدَّ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحَارَبَ، ثُمَّ رَجَعَ وَأَسْلَمَ وَحَضَرَ بَعْضَ الْفُتُوحِ فِي عَصْرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مِيرَكُ: وَلَهُ مَعَ عُمَرَ قِصَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى جَفَائِهِ انْتَهَى، وَأَخْطَأَ الْحَنَفِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَزَلَّتْ قَدَمُ قَلَمِهِ فِي بَيَانِ الْمَرَامِ حَيْثُ قَالَ: الْمَعْنَى إِنَّمَا أَلَنْتُ لَهُ الْقَوْلَ لِأَنِّي لَوْ قُلْتُ لَهُ فِي حُضُورِهِ مَا قُلْتُهُ فِي غَيْبَتِهِ لَتَرَكَنِي اتِّقَاءَ فُحْشِي فَأَكُونُ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ انْتَهَى. وَقَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ غَيْبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ بَلْ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ الْمُجَاهِرَ بِالْفِسْقِ وَالشَّرِّ لَا يَكُونُ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَرَائِهِ مِنَ الْغَيْبَةِ الْمَذْمُومَةِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: تُبَاحُ الْغَيْبَةُ فِي كُلِّ غَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعًا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ طَرِيقٌ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِهَا كَالتَّظَلُّمِ وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَالِاسْتِفْتَاءِ وَالْمُحَاكَمَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّرِّ وَيَدْخُلُ فِيهِ تَجْرِيحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ، وَإِعْلَامُ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ بِسِيرَةِ مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، وَجَوَابُ الِاسْتِشَارَةِ فِي نِكَاحٍ أَوْ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ وَكَذَا مَنْ رَأَى فَقِيهًا تَرَدَّدَ إِلَى مُبْتَدِعٍ أَوْ فَاسِقٍ فَيَخَافُ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا جُمَيْعُ بْنُ عُمَرَ) صَوَابُهُ (عُمَيْرٌ) بِالتَّصْغِيرِ أَيْضًا (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِجْلِيِّ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ زَوْجِ خَدِيجَةَ) أَيْ: أَوَّلًا (يُكْنَى) بِالتَّخْفِيفِ وَجُوِّزَ التَّشْدِيدُ (أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سَأَلْتُ أَبِي عَنْ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: عَنْ طَرِيقَتِهِ (فِي جُلَسَائِهِ) أَيْ: فِي حَقِّ مُجَالِسِيهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَحْبَابِهِ (فَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمَ الْبِشْرِ) بِالْكَسْرِ، وَهُوَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَالْبَشَاشَةُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِكَانَ وَدَوَامِ الْبِشْرِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ حُسْنَ خُلُقِهِ كَانَ عَامًّا غَيْرَ خَاصٍّ بِجُلَسَائِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّهُ كَانَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (سَهْلَ الْخُلُقِ) بِالضَّمِّ، وَالسَّهْلُ ضِدُّ الصُّعُوبَةِ أَوِ الْخُشُونَةِ أَمَّا ضِدُّ صُعُوبَتِهِ فَمَعْنَاهَا أَنَّ خُلُقَهُ الْحَسَنُ يَنْقَادُ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَادَهُ، وَأَمَّا ضِدُّ خُشُونَتِهِ فَمَعْنَاهَا أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ مِنْ خُلُقِهِ مَا يَكُونُ سَبَبَ الْأَذَى بِغَيْرِ حَقِّهِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ تَوَاصُلِ أَحْزَانِهِ فَإِنَّ حُزْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِسَبَبِ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَكَيْفِيَّةِ نَجَاةِ الْأُمَّةِ لَا عَلَى فَوْتِ مَطْلُوبٍ أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، فَدَوَامُ بِشْرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مُلَاحَظَةِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأَخْلَاقِ النَّبَوِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْمُسْتَحْسَنَاتِ الدِّينِيَّةِ (لَيِّنَ الْجَانِبِ) بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: سَرِيعَ الْعَطْفِ كَثِيرَ اللُّطْفِ جَمِيلَ الصَّفْحِ، وَقِيلَ قَلِيلَ الْخِلَافِ، وَقِيلَ: كِنَايَةً عَنِ السُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ (لَيْسَ بِفَظٍّ) بِفَتْحِ فَاءٍ وَتَشْدِيدِ ظَاءٍ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ مِنَ الرِّجَالِ سَيِّئُ الْخُلُقِ قَالَهُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ

هُوَ الْغَلِيظُ وَلَكِنَّهُ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ (وَلَا غَلِيظٍ) اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى فَظَاظَةِ اللِّسَانِ وَالْآخَرُ عَلَى فَظَاظَةِ الْقَلْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أَيْ لَتَفَرَّقُوا مِنْ عِنْدِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُمَا فَانْدَفَعَ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ أَنَّ الْفَظَّ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ ذُكِرَ تَأْكِيدًا أَوْ مُبَالَغَةً فِي الْمَدْحِ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سَهْلِ الْخُلُقِ إِذْ هُوَ ضِدُّهُ؛ لِأَنَّهُ السَّيِّئُ الْخُلُقِ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي غَلِيظٍ إِذْ هُوَ الْجَافِي الطَّبْعِ الْقَاسِي الْقَلْبِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا أَرَادَ بِالْغَلِيظِ الضَّخْمَ الْكَبِيرَ الْخَلْقِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَمْرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ، أَوِ النَّفْيُ مَحْمُولٌ عَلَى طَبْعِهِ وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعَالَجَةِ قُلْتُ: وَفِيهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ كَانَتْ صِفَةُ الْجَمَالِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَاللِّينِ غَالِبَةً عَلَيْهِ حَتَّى احْتَاجَ بِمُعَالَجَةِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ (وَلَا صَخَّابٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ (وَلَا فَحَّاشٍ) سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَاحُشَ (وَلَا عَيَّابٍ) الرِّوَايَةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِنْ كَانَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْضًا مَسْلُوبًا عَنْهُ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تُوِهِّمَ مِنْ أَنَّ (غَيَّابٍ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مُبَالَغَةُ غَائِبٍ مِنْ غَابَ بِمَعْنَى اغْتَابَ وَلَا وَجْهَ لَهُ لُغَةً وَعُرْفًا، نَعَمِ الْمُبَالَغَةُ فِي الصِّيغَةِ بِالْمُهْمَلَةِ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى النَّفْيِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَا عَيْبٍ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِذِي تَعْيِيبٍ لِشَيْءٍ لَا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ عَيْبٍ فَهُوَ مُبَالَغَةُ عَائِبٍ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى ذِي عَيْبٍ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ فِي صَخَّابٍ نَعَمْ إِنْ أُرِيدَ بِالْعَيْبِ مَصْدَرُ عَابَهُ الْمُتَعَدِّي وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْفَاعِلِيَّ صَحَّ الْكَلَامُ وَتَمَّ النِّظَامُ لَكِنَّهُ مُوهِمٌ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ هَذَا، وَقَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُبَالِغًا فِي عَيْبِ أَحَدٍ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُبَالِغًا فِي مَدْحِ شَيْءٍ. نَعَمْ رَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَابَ ذَوَّاقًا قَطُّ وَلَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ إِنِ اشْتَهَى أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ مَا مَدَحَ طَعَامًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَدْحَهُ وَعَيْبَهُ يُشْعِرَانِ إِلَى حَظِّ النَّفْسِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا فِي الْمُبَاحِ، وَأَمَّا الْحَرَامُ فَكَانَ يَعِيبُهُ وَيَذُمُّهُ وَأَخَذَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّ مِنْ آدَابِ الطَّعَامِ أَنْ لَا يُعَابَ كَمَالِحٍ حَامِضٍ قَلِيلِ الْمِلْحِ غَيْرِ نَاضِجٍ وَمِنَ التَّمْثِيلِ بِذَلِكَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَيْبِهِ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَمِنْ جِهَةِ الصَّنْعَةِ وَلِلْفَرْقِ وَجْهٌ، وَهُوَ كَسْرُ قَلْبِ الصَّانِعِ اللَّهُمَّ إِنْ قَصَدَ تَأْدِيبَهُ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّمَا يُكْرَهُ ذَمُّهُ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّ صَنْعَةَ اللَّهِ لَا تُعَابُ وَصَنْعَةَ الْآدَمِيِّينَ تُعَابُ (وَلَا مُشَاحٍّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ مِنَ الشُّحِّ، وَهُوَ الْبُخْلُ، وَقِيلَ أَشَدُّهُ، وَقِيلَ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ، وَقِيلَ الْبُخْلُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَالشُّحُّ عَامٌّ، وَقِيلَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ وَالشُّحُّ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبُخْلَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مَنْفِيٌّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْكَرَمِ وَالْجُودِ بِتَوْفِيقِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَيْ: لَا مُجَادِلَ وَلَا مُنَاقِشَ يُقَالُ تَشَاحَّ عَلَيَّ فُلَانٌ أَيْ: تَضَيَّقَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْغَرِيبِ، قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بَدَلَهُ وَلَا مَدَّاحٍ أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُبَالِغًا فِي مَدْحِ شَيْءٍ، وَفِي أُخْرَى وَلَا مَزَّاحٍ، وَالْمُرَادُ: نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ لِوُقُوعِ أَصْلِهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَانًا (يَتَغَافَلُ عَمَّا يَشْتَهِي) التَّغَافُلُ إِرَادَةُ الْغَفْلَةِ مَعَ عَدَمِ الْغَفْلَةِ أَيْ: يَتَكَلَّفُ الْغَفْلَةَ وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا لَا يَسْتَحْسِنُهُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ (وَلَا يُؤْيِسُ مِنْهُ) بِضَمِّ يَاءٍ وَسُكُونِ هَمْزٍ فَيَاءٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ: لَا يَجْعَلُ غَيْرَهُ آيِسًا مِمَّا لَا يَشْتَهِي،

وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ فَسُكُونِ وَاوٍ فَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ: لَا يَجْعَلُ غَيْرَهُ يَائِسًا مِمَّا لَا يَشْتَهِيهِ فَهُوَ مِنَ الْإِيئَاسِ وَالْمَاضِي آيَسَ أَوِ أَيْأَسَ عَلَى مَا فِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَالْيَأْسُ انْقِطَاعُ الرَّجَاءِ، يُقَالُ: يَئِسَ مِنْهُ فَهُوَ يَائِسٌ وَذَلِكَ مَيْئُوسٌ مِنْهُ وَأَيْأَسْتُهُ أَنَا إِيئَاسًا جَعَلْتُهُ يَائِسًا، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى آيَسَ وَآيَسَهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ فَعَلَى يُويِسُ إِنْ كَانَ مِنْ إِيَاسَتِهِ فَهُوَ مُعْتَلُّ الْفَاءِ مَهْمُوزُ الْعَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ آيَسْتُهُ فَبِالْعَكْسِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَالضَّمِيرُ مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: لَا يَجْعَلُ رَاجِيَهُ آيِسًا مِنْ كَرَمِهِ وَجَعَلَ ابْنُ حَجَرٍ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةً حَيْثُ قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُؤْيِسُ مِنْهُ رَاجِيَهُ أَيْ: لَا يُصَيِّرَهُ آيِسًا مِنْ بِرِّهِ وَخَيْرِهِ انْتَهَى. وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (وَلَا يُجِيبُ فِيهِ) بِالْجِيمِ مِنَ الْإِجَابَةِ وَضَمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا لَا يَشْتَهِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُجِيبُ أَحَدًا فِيمَا لَا يَشْتَهِي بَلْ يَسْكُتُ عَنْهُ عَفْوًا وَتَكَرُّمًا، وَفِي نُسْخَةٍ وَلَا يُخَيِّبُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: وَلَا يَجْعَلُهُ مَحْرُومًا بِالْكُلِّيَّةِ فَقِيلَ ضَمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: لَا يُخَيِّبُ مَنْ رَجَاهُ كُلَّ مَا ارْتَجَاهُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ أَيْضًا إِلَى مَا لَا يَشْتَهِي كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَتَأَمَّلْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بِمَعْنَاهُ، وَفِي أُخْرَى عَلَى وَزْنِ يَبِيعُ مِنَ الْخَيْبَةِ بِمَعْنَى الْحِرْمَانِ، وَقَدْ ضُعِّفَتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ فَاعِلٌ أَيْ: لَا يَخِيبُ رَاجِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَنَّهَا تَرْجِعُ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَوَهْمٌ مِنْهُ فِي الْمَبْنَى وَسَهْوٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي النُّهَى، ثُمَّ رَأَيْتُ كَلَامَ مِيرَكَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ صُحِّحَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ الْمُجَرَّدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ؛ لِأَنَّ الْخَيْبَةَ لَازِمٌ وَلَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ (قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ) أَيْ: مَنَعَهَا فَامْتَنَعَ (مِنْ ثَلَاثٍ) أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَرَكَ يُضَمَّنُ مَعْنَى الْمَنْعِ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ بِزِيَادَةِ مِنْ فِي التَّمْيِيزِ أَيْ: تَرَكَ ثَلَاثَةَ نَفْسِهِ إِلَى آخِرِ مَا تُكُلِّفَ وَتُعُسِّفَ (الْمِرَاءِ) أَيِ: الْجِدَالِ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ (مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ، وَهُوَ مُحِقٌّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ) فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيِ: الْجِدَالَ الْبَاطِلَ مُخِلٌّ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْعُمُومُ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَدْحِ كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ لَا سِيَّمَا وَالْقَائِلُ مَذْهَبُهُ اعْتِبَارُ الْمَفْهُومِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَكَأَنَّهُ نَشَأَ مِنْ عَدَمِ فَهْمِ مَعْنَى الْآيَةِ فَتَفْسِيرُهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي: جَادِلْ مُعَانِدِيهِمْ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ مِنَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ وَإِيثَارِ الْوَجْهِ الْأَيْسَرِ وَالْمُقَدِّمَاتِ الْأَشْهَرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ فِي تَسْكِينِ لَهِيبِهِمْ وَتَلْيِينِ شَغْبِهِمْ، وَفِي تَفْسِيرِ السُّلَمِيِّ هِيَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حُظُوظُ النَّفْسِ هَذَا مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنُونَ وَإِلَّا فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ الْآتِي وَلَا يَذُمُّ أَحَدًا، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَدَلَهُ «الرِّيَاءِ» قُلْتُ وَلَمْ يَذْكُرْ مِيرَكُ وَلَا رَأَيْنَاهُ أَيْضًا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ فِي الْمَبْنَى لِعَدَمِ مُلَايَمَتِهِ فِي الْمَعْنَى (وَالْإِكْبَارِ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَمُوَحَّدَةٍ أَيْ: مِنِ اسْتِعْظَامِ نَفْسِهِ فِي الْجُلُوسِ وَالْمَشْيِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فِي مُعَاشَرَتِهِ مَعَ النَّاسِ مِنْ أَكْبَرَهُ إِذَا اسْتَعْظَمَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْإِكْبَارِ جَعْلُ الشَّيْءِ كَبِيرًا بِالْبَاطِلِ فَلَا يُنَافِيهِ (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) وَنَحْوُهُ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا إِلَّا تَحْدِيثًا بِنِعْمَةِ الْمَوْلَى لَا افْتِخَارًا وَاسْتِعْظَامًا بِمُقْتَضَى الْهَوَى، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ، وَالْمُرَادُ: إِكْبَارُ نَفْسِهِ أَوْ إِكْبَارُ غَيْرِهِ أَوْ إِكْبَارُهُمَا مَعًا فَفِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي خُصُوصِ نَفْسِهِ قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «الْإِكْثَارِ» بِالْمُثَلَّثَةِ وَكَذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ: فَجَعَلَهُ أَصْلًا وَالْمُوَحَّدَةَ فَرْعًا كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ خِلَافَ طَرِيقِ الْمُحْدَثِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِ: إِكْثَارُ الْكَلَامِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْمَرَامِ لَا طَلَبُ الْكَثِيرِ مِنْ مَالٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَلَا جَعَلَهُ كَثِيرًا كَمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ (وَمَا لَا يَعْنِيهِ) أَيْ: مَا لَا يَهُمُّهُ فِي دِينِهِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي دُنْيَاهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (وَتَرَكَ النَّاسَ) أَيْ: ذِكْرَهُمْ (مِنْ ثَلَاثٍ) فَالْقَصْدُ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ رِعَايَةُ أَحْوَالِهِمْ كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ بِالثَّلَاثِ الْأُوَلِ مُرَاعَاةُ حَالِهِ وَإِلَّا فَقَدَ يَنْدَرِجُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: يُمْكِنُ جَعْلُ هَذِهِ الثَّلَاثِ أَيْضًا مِمَّا تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْهُ، لَكِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ

هَيِّنٌ (كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا) أَيْ: مُوَاجَهَةً (وَلَا يَعِيبُهُ) أَيْ: فِي الْغَيْبَةِ أَوْ لَا يَذُمُّ فِي الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُبَاحَةِ، وَلَا يَعِيبُ فِي الْأَطْوَارِ الْخُلُقِيَّةِ الْجِبِلِّيَّةِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَأَمْثَالِهَا وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ «وَلَا يُعَيِّرُهُ» مِنَ التَّعْيِيرِ، وَهُوَ التَّوْبِيخُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ كَمَا هُوَ مُخْتَارُ أَهْلِ التَّأْيِيدِ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: لَا يَذُمُّ أَحَدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا يُلْحِقُ بِهِ عَيْبًا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ؛ إِذِ الذَّمُّ وَالْعَيْبُ مُتَرَادِفَانِ مَعَ أَنَّ تَفْسِيرَهُ تَبَعًا لِشَارِحٍ فِي قَوْلِهِ لَا يُسْنِدُ إِلَى أَحَدٍ الْعَيْبَ يُوهِمُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِضَمِّ الْيَاءِ فِي يُعِيبُهُ إِمَّا مِنَ الْإِفْعَالِ أَوِ التَّفْعِيلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَجَعَلَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبِيلِ مُجَرَّدِ تَحَكُّمٍ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُسَاعِدُهُ مَعَ أَنَّ مَا قَدَّرْنَاهُ مَعَ مَا قَرَّرْنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَقَامِ مَدْحِ مِثْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ نَفْيَ الذَّمِّ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي حَقِّهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْعَيْبُ خِلَافُ الْإِصْلَاحِ، وَظَاهِرٌ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ انْتَهَى. وَغَرَابَتُهُ لَا يَخْفَى، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنَ الْمَنْفِيَّيْنِ أَحَدُ الثَّلَاثِ وَالثَّانِي قَوْلُهُ (وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ) أَيْ: عَوْرَةَ أَحَدٍ، وَهِيَ مَا يُسْتَحَى مِنْهُ إِذَا ظَهَرَ، فَالْمَعْنَى لَا يُظْهِرُ مَا يُرِيدُ الشَّخْصُ سَتْرَهُ وَيُخْفِيهِ النَّاسُ عَنِ الْغَيْرِ، وَقَدْ أَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ فَسَّرَهُ بِعَدَمِ تَجَسُّسِ عَوْرَةِ أَحَدٍ، فَإِنَّ مَقَامَ الْمَدْحِ يَأْبَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ (وَلَا يَتَكَلَّمُ) وَالْعَاطِفَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي نُسْخَةٍ، وَلَا وَجْهَ لَهَا أَيْ: وَلَا يَتَعَلَّقُ (إِلَّا فِيمَا رَجَا) أَيْ: تَوَقَّعَ (ثَوَابَهُ) أَيْ: ثَوَابَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَعِبَارَةُ ابْنِ حَجَرٍ تُوهِمُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: آثَرَهُ عَلَى مَا يُثَابُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَلْيَقُ بِالْأَدَبِ؛ إِذْ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَى اللَّهِ إِنَابَةُ أَحَدٍ، وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ مِنَ الْعِظَمِ انْتَهَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَوْ قَالَ إِلَّا فِيمَا يُثَابُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحَتُّمِ الثَّوَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ) أَيْ: أَمَالُوا رُءُوسَهُمْ وَأَقْبَلُوا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى صُدُورِهِمْ وَسَكَتُوا وَسَكَنُوا (كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ) بِالرَّفْعِ لِكَوْنِ مَا كَافَّةً عَنْ عَمَلِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا لِإِجْلَالِهِمْ إِيَّاهُ لَا يَتَحَرَّكُونَ فَكَأَنَّ صِفَتَهُمْ صِفَةُ مَنْ عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِيدَهُ فَهُوَ يَخَافُ أَنْ يَتَحَرَّكَ فَيُوجِبُ طَيَرَانَ الطَّائِرِ وَذَهَابَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ، وَلَا يَتَحَرَّكُونَ حَتَّى يَصِيرُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الطَّائِرِ كَالْجُدْرَانِ وَالْأَبْنِيَةِ الَّتِي لَا يَخَافُ الطَّيْرُ حُلُولًا بِهَا، وَلَا وُقُوفًا عَلَيْهَا، وَفِي النِّهَايَةِ وَصَفَهُمْ بِالسُّكُونِ وَالْوَقَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ طَيْشٌ، وَلَا خِفَّةٌ؛ لِأَنَّ الطَّائِرَ لَا تَكَادُ تَقَعُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ سَاكِنٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصْلُهُ أَنَّ الْغُرَابَ إِذَا وَقَعَ عَلَى رَأْسِ الْبَعِيرِ فَيَلْتَقِطُ مِنْهُ الْحَلَمَةَ وَالْحَنَّانَةَ يَعْنِي: صِغَارَ الْقُرَادِ فَلَا يُحَرِّكُ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ لِئَلَّا يَنْفِرَ عَنْهُ الْغُرَابُ لِمَا يَجِدُ فِيهِ الرَّاحَةَ انْتَهَى. فَشَبَّهَ حَالَ جُلَسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ تَكَلُّمِهِ عَلَيْهِمْ وَتَبْلِيغِهِ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْمَوَاعِظَ الْحِكَمِيَّةَ إِلَيْهِمْ بِحَالِ ذَلِكَ الْبَعِيرِ لِكَمَالِ مَيْلِهِمْ وَتَلَذُّذِهِمْ بِاسْتِمَاعِ كَلَامِهِ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سُكُونَهُ

وَانْقِطَاعَ نُطْقِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَمَرَ الطَّيْرَ أَنْ تَظَلَّ عَلَى أَصْحَابِهِ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ، وَلَا يَتَكَلَّمُوا حَتَّى يَسْأَلَهُمْ مَهَابَةً مِنْهُ فَإِنَّ أَدَبَ الظَّاهِرِ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ فَقِيلَ لِلْقَوْمِ إِذَا سَكَتُوا مَهَابَةً كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَ جُلَسَائِهِ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتِيَارُ السُّكُوتِ وَالسُّكُونِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ (فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَبْتَدِئُونَ بِالْكَلَامِ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَدَبِ (لَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ) الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى لَا يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ أَوْ لَا يَخْتَصِمُونَ عِنْدَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَلِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ عَطْفَ تَفْسِيرٍ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا) أَيْ: سَكَتُوا وَاسْتَمَعُوا (لَهُ) أَيْ: لِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَهُ (حَتَّى يَفْرَغَ) أَيِ: الْمُتَكَلِّمُ مِنْ كَلَامِهِ أَوْ مِنْ مَقْصُودِهِ وَمَرَامِهِ (حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ) أَيْ: حَدِيثُ كُلِّهِمْ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ (عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ) أَيْ: كَحَدِيثِ أَوَّلِهِمْ فِي عَدَمِ الْمَلَالِ مِنْهُ أَوْ فِي الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ إِذِ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِالْمَلَالِ وَضِيقِ الْبَالِ إِذَا كَثُرَ الْمَقَالُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ السَّلَفِ وَيُؤَيِّدُهُ نُسْخَةُ «أَوَّلِهِمْ» بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ مَعْنًى، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَفْضَلِهِمْ فِي الدِّينِ أَوْ أَوَّلِهِمْ قُدُومًا انْتَهَى، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْقُدُومَ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَرِّسِينَ وَالْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُفْتِينَ وَيَحْتَمِلُ قُدُومًا فِي الْهِجْرَةِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُدَرِّسِينَ حَيْثُ إِنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ إِمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي عَمَلِهِ الَّذِي يَقْرَأُ فِيهِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ مِيرَكُ بِأَنَّ مَنْ أَوَّلَهُ بِأَنَّ أَفْضَلَهُمْ أَوَّلُهُمْ قُدُومًا فَقَدْ تَعَسَّفَ تَعَسُّفًا شَدِيدًا بَارِدًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ أَيْ: أَفْضَلِهِمْ إِذْ كَانَ لَا يَتَقَدَّمُ غَالِبًا بِالْكَلَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَّا أَكَابِرُ أَصْحَابِهِ فَكَانَ يُصْغِي لِحَدِيثِ كُلٍّ مِنْهُمْ كَمَا يُصْغِي لِحَدِيثِ أَوَّلِهِمُ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ الْتِئَامِهِ بَيْنَ أَوَّلِ تَقْرِيرِهِ وَآخِرِ كَلَامِهِ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: حَدِيثُ جَمِيعِهِمْ إِنَّمَا كَانَ حَدِيثَ أَفْضَلِهِمْ فَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتَفُونَ بِكَلَامِ أَوَّلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَبْنَى وَأَفْهَمُ بِالْمَعْنَى، ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُهُمْ إِذَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ قَبِلَهُ مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ مُوَافِقُوهُ عَلَيْهِ غَالِبًا لِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَأَلُّفِ قُلُوبِهِمْ وَكَمَالِ اتِّفَاقِهِمْ، قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ بِقَوْلِهِ «أَوَّلِهِمْ» أَسْبَقَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَا أَفْضَلَهُمْ فِي الْمَقَامِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُ الْمَرَامِ (يَضْحَكُ) أَيْ: يَبْتَسِمُ (مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ) أَيْ: بِالْمُشَارَكَةِ فِي اسْتِحْسَانِ الْأَحْوَالِ (وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ) أَيْ: مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: فِي اسْتِغْرَابِ الْأَفْعَالِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ هَذَا مَنْ قَالَ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ (وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ) أَيْ: لِمُرَاعَاةِ حَالِهِ (عَلَى الْجَفْوَةِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَدْ يُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ: عَلَى الْجَفَاءِ وَالْغِلْظَةِ وَسُوءِ الْأَدَبِ مِمَّا كَانَ يَصْدُرُ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ بَدَا جَفَا» (فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ) الضَّمِيرَانِ لِلْغَرِيبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ إِذَا جَفَاهُ فِي مَقَالِهِ وَسُؤَالِهِ (حَتَّى أَنْ)

مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ: إِلَى أَنْ (كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ) أَيْ: يَتَمَنَّوْنَ مَأْتَى الْغُرَبَاءِ إِلَى مَجْلِسِهِ الْأَقْدَسِ، وَمَقَامِهِ الْأَنْفَسِ؛ لِيَسْتَفِيدُوا بِسَبَبِ أَسْئِلَتِهِمْ مَا لَا يَسْتَفِيدُونَهُ فِي غَيْبَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَهَابُونَ بِسُؤَالِهِ، وَالْغُرَبَاءُ لَا يَهَابُونَ فَيَسْأَلُونَهُ عَمَّا بَدَا لَهُمْ لِيُجِيبَهُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَجِيئُونَ مَعَهُمْ بِالْغُرَبَاءِ فِي مَجْلِسِهِ مِنْ أَجْلِ احْتِمَالِهِ عَنْهُمْ وَصَبْرِهِ عَلَى مَا يَكُونُ فِي سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنْ سُؤَالِهِ ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ نَهْيُهُمْ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ كَمَا فِي الْأَرْبَعِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) . قَالَ مِيرَكُ: لَكِنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ الَّتِي فُهِمَتْ مِنْ حَتَّى لَا يُلَايِمُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِتَكَلُّفٍ انْتَهَى. وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَبْنَى، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ أَصْحَابَهُ يَسْتَجْلِبُونَ خَوَاطِرَ الْغُرَبَاءِ لِمَا رَأَوْا مِنْ صَبْرِهِ لَهُمْ وَكَثْرَةِ احْتِمَالِهِ عَنْهُمْ وَزِيَادَةِ مُلَاحَظَةِ حَالِهِمْ، قِيلَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِجْلَابِ جَذْبَهُمْ عَنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْعَهُمْ مِنَ الْجَفَاءِ وَتَرْكِ الْأَدَبِ قُلْتُ هَذَا بَعِيدٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً. وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِجْلَابِ جَلْبُ نَفْعِهِمْ أَوْ جَلْبُهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ الْمُقَدَّسِ أَوْ جَلْبُ قُلُوبِهِمْ قَالَ مِيرَكُ: وَأَمَّا مَا يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِجْلَابِ جَلْبُ نَفْعِهِمْ أَوْ جَلْبُهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ الْمُقَدَّسِ أَوْ جَلْبُ قُلُوبِهِمْ قَالَ مِيرَكُ: وَأَمَّا مَا يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِجْلَابِ جَلْبُ نَفْعِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى قُلْتُ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ نَفْعُ الْغُرَبَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ لِلصَّحَابَةِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: جَلْبُ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُعْرَفُ هَذَا مِنْ دَأْبِهِمْ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِجَلْبِهَا جَذْبُهَا بِالْإِمَالَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى مَا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى (وَيَقُولُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ حَاجَةٍ) أَيْ: دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ (يَطْلُبُهَا) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَأَرْفِدُوهُ) مَنِ الْإِرْفَادِ أَيْ: أَعِينُوهُ عَلَى طِلْبَتِهِ وَأَعِينُوهُ عَلَى بُغْيَتِهِ (وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ) أَيِ: الْمَدْحَ (إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ) بِالْهَمْزِ أَيْ: مُقَارِبٍ فِي مَدْحِهِ غَيْرِ مُجَاوِزٍ بِهِ عَنْ حَدِّ مِثْلِهِ، وَلَا مُقَصِّرٍ بِهِ عَمَّا رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ عُلُوِّ مَقَامِهِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ قَالَ (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَلَكِنْ قُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) . فَإِذَا قِيلَ هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ أَوْ رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ غَيْرُهُ فَهُوَ مَدْحٌ مُكَافِئٌ لَهُ يُقَالُ: هُوَ كُفْئُوهُ أَيْ: مِثْلُهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: فَالْمُرَادُ: مُكَافَأَةُ الْوَاقِعِ وَمُطَابَقَتُهُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ رَجُلٍ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ إِسْلَامِهِ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ طَابَقَ لِسَانُهُمْ جَنَانَهُمْ، وَلَا يَدْخُلُ عِنْدَهُ فِي جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْمُثْنَى عَلَيْهِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَكَانَ مُكَافِئًا مَا سَلَفَ مِنْ نِعْمَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ قَبِلَ ثَنَاءَهُ وَإِلَّا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ قَالَ مِيرَكُ: فَالْمُكَافِئُ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ لَهُ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى رَجُلٍ نِعْمَةً فَكَافَأَهُ قَبِلَ ثَنَاءَهُ، أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْ، فَالْمُمَاثِلُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْمُجَازِي قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَخُطِّئَ قَائِلُهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِأَنَّ أَحَدًا لَا يَنْفَكُّ مِنْ نِعْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمِنَّةِ الصُّورِيَّةِ لَا فِي النِّعْمَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَالْمُرَادُ: بِهِ أَنَّ الْمُثْنِيَ إِذَا قَالَ مَثَلًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ وَلَيْسَ مِثْلُهُ مَوْجُودًا فِي الْوُجُودِ فَإِنْ سَبَقَ لَهُ إِحْسَانٌ إِلَيْهِ وَإِنْعَامٌ عَلَيْهِ قَبِلَ مِنْهُ هَذَا الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ، وَإِلَّا فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَمًّا لِقَوْمٍ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا هَذَا، وَفِي النِّهَايَةِ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْقُتَبِيِّ وَتَغْلِيطَهُ إِلَى ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ (وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ) أَيْ: حَدِيثَ أَحَدٍ لَا حَدِيثَ نَفْسِهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْحَنَفِيُّ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (حَتَّى يَجُوزَ) هُوَ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ أَيْ: يَتَجَاوَزُ عَنِ الْحَدِّ أَوْ يَتَعَدَّى عَنِ الْحَقِّ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مِنَ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي نُسْخَةٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ أَيْ: يَجْمَعُ مَا أَرَادَهُ الْمُتَكَلِّمُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِقَوْلِهِ (فَيَقْطَعَهُ) هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى مَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ أَيْ: فَيَقْطَعُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَئِذٍ حَدِيثَ ذَلِكَ الْأَحَدِ (بِنَهْيٍ) أَيْ: لَهُ عَنِ الْحَدِيثِ (أَوْ قِيَامٍ) أَيْ: عَنِ الْمَجْلِسِ هَذَا، وَقَالَهُ مِيرَكُ،

قَوْلُهُ (حَتَّى يَجُوزَ) كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ السَّمَاعِ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ وَصَحَّحَ فِي الْوَفَاءِ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَصَحَّحَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْوَفَاءِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الزَّايَ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا فَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مَا طُلِبَ (شَيْئًا) أَيْ: مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا (قَطُّ فَقَالَ لَا) أَيْ: بَلْ إِمَّا أَعْطَاهُ أَوْ وَعَدَهُ إِيَّاهُ أَوْ فِي حَقِّهِ دَعَا اللَّهَ حَتَّى أَغْنَاهُ عَمَّا سِوَاهُ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِالرَّدِّ بَلْ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَعْطَاهُ وَإِلَّا يَسْكُتُ كَمَا فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَلَفْظُهُ إِذَا سُئِلَ فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ قَالَ نَعَمْ وَإِذَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَفْعَلَ سَكَتَ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْتِمَاسِ الْفِعْلِ وَالْأَوَّلُ مَخْصُوصٌ بِسُؤَالِ الْعَطَاءِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يَسْكُتُ عَنْ صَرِيحِ الرَّدِّ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالْوَعْدِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا مِثْلَ أَغْنَاكُمُ اللَّهُ رَزَقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَكَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي زَمَانِنَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ وَيُبَيِّنُهُ حَدِيثُ السَّابِقِ (مَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى نَفْيِ لَا فَقَطْ بِنَاءً عَلَى الْغَلَبَةِ فِي الْعَطَاءِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِمُجَرَّدِ الدُّعَاءِ، وَقَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَمْ يَقُلْ لَا مَنْعًا لِلْعَطَاءِ بَلِ اعْتِذَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا، وَلَا أَحْمِلُكُمُ انْتَهَى. وَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَشْعَرِيِّينَ لَمَّا طَلَبُوهُ الْحُمْلَانَ وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا وَقَعَ كَالتَّأْدِيبِ لَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» وَمِنْ ثَمَّةَ حَلَفَ قَطْعًا لِطَمَعِهِمْ فِي تَكَلُّفِهِ التَّحْصِيلَ بِنَحْوِ قَرْضٍ أَوِ اسْتِيهَابٍ مَعَ عَدَمِ الِاضْطِرَارِ، وَهَذَا مُجْمَلُ كَلَامِ الْعَسْقَلَانِيِّ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ ... لَوْلَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاؤهُ نَعَمُ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُرَشِيُّ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أَيِ: الزُّهْرِيِّ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ هُوَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا لَكِنْ مَعَ تَخَالُفٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَأَحْمَدُ بِزِيَادَةٍ، وَلَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ (قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي حَدِّ ذَاتِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اخْتِلَافِ أَوْقَاتِهِ أَوْ حَالَاتِهِ (أَجْوَدَ النَّاسِ) أَيْ: أَسْخَاهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ (بِالْخَيْرِ) أَيْ: مَآلًا وَحَالًا فَالْخَيْرُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ حَالًا وَمَآلًا مِنْ بَذْلِ الْعِلْمِ وَالْخُلُقِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ إِفْضَالًا وَإِكْمَالًا فَكَانَ يَسْمَحُ بِالْمَوْجُودِ لِكَوْنِهِ مَطْبُوعًا عَلَى الْجُودِ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْفَانِيَاتِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ مُقْبِلًا عَلَى مَوْلَاهُ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ فَكَانَ إِذَا وَجَدَ جَادَ وَإِذَا أَحْسَنَ أَعَادَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَعَدَ وَلَمْ يُخْلِفْ بِالْمِيعَادِ وَكَانَ يَجُودُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَسُدُّ خُلَّتَهُ وَيَشْفِي غُلَّتَهُ فَأَجْوَدُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْجُودِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَنْبَغِي وَلَمَّا كَانَ نَفْسُهُ الْأَنْفَسُ أَشْرَفَ النُّفُوسِ الْأَقْدَسَ فَيَكُونُ أَخْلَاقُهُ أَفْضَلَ أَخْلَاقِ الْخَلَائِقِ فَيَكُونُ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ النَّاسِ بِالْخُصُوصِ لِكَوْنِهِ فَرْدًا مِنْهُمْ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ (وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) الرَّفْعُ فِي " أَجْوَدُ " أَجْوَدُ عَلَى مَا رُوِيَ

فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَسْقَلَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ حَذْفًا وَاجِبًا إِذْ هُوَ نَحْوُ " أَخْطَبُ مَا يَكُونُ الْأَمِيرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَمَعْنَاهُ أَجْوَدُ أَكْوَانِهِ، وَفِي رَمَضَانَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ حَاصِلٌ فَمَعْنَاهُ أَجْوَدُ أَكْوَانِهِ حَاصِلًا فِي رَمَضَانَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا " إِنَّ اللَّهَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ ". وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَاسْمُهُ ضَمِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَّةَ كَوْنِهِ فِي رَمَضَانَ أَجْوَدَ مِنْ نَفْسِهِ فِي غَيْرِهِ، وَقِيلَ كَانَ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَأَجُودُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَخَبَرُهُ فِي رَمَضَانَ وَالْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّصْبَ أَظْهَرُ وَالرَّفْعَ أَشْهَرُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الرَّفْعُ أَشْهَرُ وَالنَّصْبُ جَائِزٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ مَالِكٍ عَنْهُ فَخَرَّجَ الرَّفْعَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَالنَّصْبَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ لِلرَّفْعِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ فَتَوَارَدَ مَعَ ابْنِ مَالِكٍ فِي وَجْهَيْنِ وَزَادَ ثَلَاثَةً وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى النَّصْبِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُرَجِّحُ الرَّفْعَ وُرُودُهُ بِدُونِ كَانَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَفَضَائِلِ الْقُرْآنِ قُلْتُ: إِذَا كَانَ مِنْ نَوَاسِخِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فَالتَّرْجِيحُ بِوُجُودِ الرَّفْعِ عِنْدَ عَدَمِهَا لَا يَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ، وَقِيلَ الْوَقْتُ مُقَدَّرٌ أَيْ: كَانَ أَجْوَدُ أَوْقَاتِهِ وَقْتَ كَوْنِهِ فِي رَمَضَانَ وَإِسْنَادُ الْجُودِ إِلَى أَوْقَاتِهِ كَإِسْنَادِ الصَّوْمِ إِلَى النَّهَارِ وَالْقِيَامِ إِلَى اللَّيْلِ فِي قَوْلِكَ: نَهَارُهُ صَائِمٌ وَلَيْلُهُ قَائِمٌ لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ وَجَمْعِ الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ (حَتَّى يَنْسَلِخَ) أَيْ: يَتِمَّ رَمَضَانُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ زِيَادَةَ جُودِهِ مِنْ أَثَرِ وُجُودِهِ كَانَتْ تَسْتَمِرُّ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ رَمَضَانَ إِلَى أَنْ يَنْسَلِخَ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الْجُودِ الزَّائِدِ عَلَى جُودِ النَّاسِ جَمِيعًا وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ أَيْ: كَمَالِ جُودِهِ كَانَ فِي تَمَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّمَامِ الْجَمِيعُ وَذَلِكَ مِنَ الْبَدِيعِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ مِنْهُ بَعْدَ تَفْسِيرِ " يَنْسَلِخَ " بِـ " يَتِمَّ " فَتَأْوِيلُهُ لَا يَتِمُّ، وَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثَارُ الْجُودِ فِي رَمَضَانَ أَكْثَرَ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْسِمُ الْخَيْرَاتِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ عَلَى عِبَادِهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ مَا لَا يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَخَلِّقًا بِأَخْلَاقِ رَبِّهِ، فَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِأَجْوَدَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى أَسْرَعَ أَوْ لِكَوْنِ الْمُرْسَلَةِ يَنْشَأُ عَنْهَا جُودٌ كَثِيرٌ (فَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ) أَيْ: أَحْيَانًا فِي رَمَضَانَ، فَالْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ لَا كَمَا قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْمَقَامِ فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ زِيَادَةَ جُودِهِ إِنَّمَا كَانَتْ لِمُلَاقَاةِ جِبْرِيلَ، وَالظَّاهِرُ وُجُودُ زِيَادَةِ الْجُودِ فِي رَمَضَانَ مُطْلَقًا عَلَى سَائِرِ الزَّمَانِ، نَعَمْ يَزِيدُ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ وَمُدَارَسَتِهِ الْقُرْآنَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَفِي أُخْرَى لَهُ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ يَلْقَاهُ، وَإِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِيهِ بَيَانُ سَبَبِ الْأَجْوَدِيَّةِ، وَهِيَ أَبْيَنُ مِنْ رِوَايَةِ حِينَ يَلْقَاهُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَجْوَدِيَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ الرَّمَضَانِيَّةِ (فَيَعْرِضُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (عَلَيْهِ) أَيِ: النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (الْقُرْآنَ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ كَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ قِرَاءَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ تَارَةً كَذَا وَتَارَةً كَذَا بِحَسَبِ الْمَقَامِ وَالْمَرَامِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْمُعْتَادَ قِرَاءَةُ جِبْرِيلَ وَسَمَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا قِرَاءَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَاعُ أَصْحَابِهِ وَهَكَذَا طَرِيقَةُ الْمُحَدِّثِينَ مِنَ السَّلَفِ، وَأَمَّا الْخَلَفُ فَاخْتَارُوا أَنَّ التِّلْمِيذَ يَقْرَأُ وَالشَّيْخَ يَسْمَعُهُ لِعَدَمِ الْقَابِلِيَّةِ الْكَامِلَةِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ مِيرَكُ: وَفَاعِلُ يَعْرِضُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ وَضَمِيرُ عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ وَيَحْتَمِلُ الْعَكْسَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ هَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ تَرْجَمَ بِلَفْظِ " كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: هَذَا عَكْسُ مَا وَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْرِضُ عَلَى جِبْرِيلَ وَكَانَ الْبُخَارِيُّ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ بِلَفْظِ " كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ - صلّى الله

عليه وسلم - الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ " فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَعْرِضُ عَلَى الْآخَرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا بِلَفْظِ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ قَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ إِذِ الْمُدَارَسَةُ وَالْمُعَارَضَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَأَفَادَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَارَةً يَقْرَأُ وَيَسْمَعُ الْآخَرُ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ أَيْ رَمَضَانُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ يَلْقَاهُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ مُنْذُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِرَمَضَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَإِنْ كَانَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّمَا هُوَ فُرِضَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ صِيَامُهُ قُلْتُ: وَلَعَلَّ مُدَارَسَةَ الْقُرْآنِ كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ صِيَامِهِ وَاسْتِحْبَابِ قِيَامِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِهِ وَعَلَى مُعْظَمِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ رَمَضَانَ مِنْ بَعْدِ السَّنَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بَعْضُهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ نَزَلَتِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالنَّبِيُّ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ لَيْلَ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ نَهَارِهِ لَا سِيَّمَا لِلْقِرَاءَةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التِّلَاوَةِ الْحُضُورُ وَالْفَهْمُ، وَاللَّيْلُ مَظِنَّةُ ذَلِكَ لِمَا فِي النَّهَارِ مِنَ الشَّوَاغِلِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَوَارِضِ الدُّنْيَوِيَّةِ قُلْتُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَوَمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ السَّنَةِ قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ مَا أُنْزِلَ فَيُحْكِمُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ قَالَ: وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِذَا قُلْنَا لَا نَافِيَةٌ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أَقْرَأَهُ لَا يَنْسَى مَا قَرَأَهُ وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِقْرَاءِ مُدَارَسَةُ جِبْرِيلَ أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ بِقَوْلِهِ " فَلَا تَنْسَى " النِّسْيَانُ الَّذِي لَا ذِكْرَ بَعْدَهُ لَا النِّسْيَانُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الذِّكْرُ فِي الْحَالِ، قُلْتُ لِهَذَا وَرَدَ فِي دُعَاءِ خَتْمِ الْقُرْآنِ: اللَّهُمَّ ذَكِّرْنِي مِنْهُ مَا نَسِيتُ وَعَلِّمْنِي مِنْهُ مَا جَهِلْتُ. قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ هَلْ كَانَتْ بِجَمِيعِ الْأَحْرُفِ الْمَأْذُونِ فِي قِرَاءَتِهَا أَوْ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَعَلَى الثَّانِي فَهَلْ هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ النَّاسَ أَوْ غَيْرُهُ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ بْنِ عُمَرَ وَالسَّلْمَانِيِّ أَنَّ الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ النَّاسَ يُوَافِقُ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ كَانَ جِبْرِيلُ يُعَارِضُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ فِي آخِرِهِ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَيَرَوْنَ أَنَّ قِرَاءَتَنَا أَحْدَثُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ نَحْوٌ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ هُوَ. وَلَفْظُهُ عُرِضَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَضَاتٍ وَيَقُولُونَ إِنَّ قِرَاءَتَنَا هَذِهِ هِيَ الْعَرْضَةُ الْأَخِيرَةُ وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيَّ الْقِرَاءَتَيْنِ تَرَوْنَ آخِرَ الْقِرَاءَةِ قَالُوا: قِرَاءَةَ زَيْدٍ أَيْ: ابْنِ ثَابِتٍ قَالَ لَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فَكَانَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرَهَا، وَهَذَا يُغَايِرُ حَدِيثَ سَمُرَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَرْضَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ وَقَعَتَا بِالْحَرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ

فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ الْأَخِيرِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا قُلْتُ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ بَلْ إِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ هِيَ مَحَلُّ الِاتِّفَاقِ (فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ) لَا سِيَّمَا عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّنْزِيلِ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ) أَيْ: أَسْخَى بِبَذْلِ الْخَيْرِ (مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) حَيْثُ لَا الْتِفَاتَ لَهَا إِلَى أَشْيَاءَ تَمُرُّ عَلَيْهَا، وَالْمُرْسَلَةُ بِفَتْحِ السِّينِ بِمَعْنَى الْمُطْلَقَةِ فَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِأَجْوَدَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى أَسْرَعَ أَوْ لِكَوْنِ الْمُرْسَلَةِ يَنْشَأُ عَنْهَا جُودٌ كَثِيرٌ قِيلَ يَعْنِي أَجْوَدَ مِنْهَا فِي عُمُومِ النَّفْعِ وَالْإِسْرَاعِ فِيهِ، وَقِيلَ هِيَ الَّتِي أُرْسِلَتْ بِالْبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ لِشُمُولِ رَوْحِهَا وَعُمُومِ نَفْعِهَا فَاللَّامُ فِي الرِّيحِ عَلَى الْأَوَّلِ لِلْجِنْسِ وَعَلَى الثَّانِي لِلْعَهْدِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ شِبْهُ نَشْرِ جُودِهِ بِالْخَيْرِ فِي الْعِبَادِ بِنَشْرِ الرِّيحِ الْقَطْرَ فِي الْبِلَادِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْأَثَرَيْنِ فَأَحَدُهُمَا يُحْيِي الْقَلْبَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْآخَرُ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَمَا أَفَادَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّانِيَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ مُسَخَّرٌ لَهُ فَلِذَا قَالَ أَجْوَدَ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ أَنَّهُ وَقَعَ تَخْصِيصٌ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ فَضَّلَ أَوَّلًا جُودَهُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَثَانِيًا جُودَهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى جُودِهِ فِي سَائِرِ الزَّمَانِ وَثَالِثًا عِنْدَ لِقَاءِ جِبْرِيلَ وَمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ أَجْوَدَ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِإِتْيَانِ أَفْضَلِ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَنِ إِلَى أَفْضَلِ سَامِعٍ بِأَفْضَلِ كَلَامٍ مِنْ أَفْضَلِ مُتَكَلِّمٍ فِي أَفْضَلِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَفِيهِ تِبْيَانٌ إِلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الزَّمَانِ وَمُلَاقَاةَ صُلَحَاءِ الْإِخْوَانِ لَهُمَا مَزِيَّةٌ لِلْعِبَادَةِ وَالْإِحْسَانِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ وَالْإِتْقَانِ وَالْإِتْيَانِ، هَذَا، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ كَانَ أَعْقَلَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ يَعْنِي وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَقِيلَ اقْتِصَارُهُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَإِنَّهَا أُمَّهَاتُ الْأَخْلَاقِ إِذْ لَا يَخْلُو كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ ثَلَاثِ قُوًى: الْعَقْلِيَّةِ، وَكَمَالُهَا النُّطْقُ بِالْحِكْمَةِ، وَالْغَضَبِيَّةِ وَكَمَالُهَا الشَّجَاعَةُ، وَالشَّهَوِيَّةِ وَكَمَالُهَا الْجُودُ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ إِلَى آخِرِهِ وَبِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ أَيْضًا كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا. وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ (أَنَا أَجْوَدُ بَنِي آدَمَ وَأَجْوَدُهُمْ بَعْدِي رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَنَشَرَ عِلْمَهُ وَرَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ، ثُمَّ كَانَ مِنْ جُودِهِ أَنَّهُ كَانَ يَبْذُلُ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ إِعْلَاءً لِدِينِهِ وَيُؤْثِرُ الْفُقَرَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ فَيُعْطِي عَطَاءً يَعْجِزُ عَنْهُ الْمُلُوكُ وَالْأَغْنِيَاءُ وَيَعِيشُ فِي نَفْسِهِ عَيْشَ الْفُقَرَاءِ فَرُبَّمَا كَانَ يَمُرُّ الشَّهْرَانِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوقَدْ فِي بَيْتِهِ نَارٌ وَرُبَّمَا رَبَطَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ الشَّرِيفِ مِنَ الْجُوعِ وَمَعَ هَذَا كَانَ لَهُ قُوَّةٌ إِلَهِيَّةٌ فِي الْجِمَاعِ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَبَصِّرًا فِي أَمْرِهِ مَعَ كَثْرَةِ نِسَائِهِ وَكَذَا فِي الشَّجَاعَةِ حَتَّى صَرَعَ جَمْعًا، مِنْهُمُ ابْنُ الْأَسْوَدِ الْجُمَحِيِّ وَكَانَ يَقِفُ عَلَى جِلْدِ الْبَقَرِ وَيُجَاذِبُ أَطْرَافَهُ عَشَرَةٌ لِيَنْزِعُوهُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ فَيَتَفَرَّى الْجِلْدُ وَلَمْ يَتَزَحْزَحْ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ رُكَانَةُ حَيْثُ صَرَعَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ صُرِعَ أَسْلَمَ، وَقَدْ أَتَاهُ سَبْيٌ فَشَكَتْ إِلَيْهِ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا تَلْقَاهُ مِنَ الرَّحَى وَالْخِدْمَةِ وَطَلَبَتْ مِنْهُ خَادِمًا يَكْفِهَا الْمُؤْنَةَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَسْتَعِينَ عِنْدَ نَوْمِهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ مِنْ كُلٍّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ إِلَّا فِي الْأَخِيرِ فَتَزِيدُ وَاحِدًا تَكْمِلَةً لِلْمِائَةِ، وَقَالَ لَا أُعْطِيكِ وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوِي بُطُونُهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَكَسَتْهُ امْرَأَةٌ بُرْدَةً فَلَبِسَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَسَأَلَهُ فِيهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَحِمَ اللَّهُ صَاحِبَ الْبُرْدَةِ حَيْثُ عَبَّرَ عَنْ جُودِهِ بِالزُّبْدَةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ

الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا ... وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ. تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي شَرْحَيِ الْعُمْدَةِ، هَذَا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سُئِلَ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَعْطَاهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ. ، وَرَوَى الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ حُمِلَ إِلَيْهِ تِسْعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَوُضِعَتْ عَلَى حَصِيرٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَسَّمَهَا فَمَا رَدَّ سَائِلًا حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَنْشَدَتْهُ شِعْرًا تُذَكِّرُهُ بِهِ أَيَّامَ رَضَاعَتِهِ فِي هَوَازِنَ فَرَدَّ عَلَيْهَا مَا قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ: وَهَذَا نِهَايَةُ الرَّدِّ الَّذِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ فِي الْوُجُودِ مِنْ غَايَةِ الْجُودِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أُتِيَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَأَمَرَ بِصَبِّهِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِذْ جَاءَ الْعَبَّاسُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ خُذْ فَحَثَى فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعُهُ إِلَيَّ فَقَالَ لَا فَقَالَ ارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ فَقَالَ لَا فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ كَالْأَوَّلِ فَقَالَ لَا، ثُمَّ نَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَتْبَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَصَرَهُ عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ فَمَا قَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهَا دِرْهَمٌ. وَفِي خَبَرٍ مُرْسَلٍ أَنَّهُ كَانَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ) أَيْ: لَا يَجْعَلُ شَيْئًا ذَخِيرَةً لِأَجْلِ غَدٍ لَكِنْ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لِتَمَامِ تَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَقَدْ يَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ لِضَعْفِ تَوَكُّلِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِيَكُونَ سُنَّةً لِلْمُعِيلِينَ مِنْ أُمَّتِّهِ وَلِلْمُجَرَّدِينَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ. وَفِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ فَقِيلَ الِادِّخَارُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ خَيْبَرَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَلَى مَا نَقَلَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فَقِيلَ عَدَمُ الِادِّخَارِ كَانَ غَالِبَ أَحْوَالِهِ أَوْ فِي أَوَائِلِ أَمْرِهِ إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَقُولُ مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ بُرٍّ، وَلَا صَاعُ حَبٍّ وَإِنَّ عِنْدَهُ تِسْعَ نِسْوَةٍ وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْمَعَ بِأَنَّهُ كَانَ يَدَّخِرُ لَهُمْ قُوتَ سَنَتِهِمْ، ثُمَّ مِنْ جُودِهِ وَكَرَمِهِ عَلَى الْوَافِدِينَ وَالْمُحْتَاجِينَ كَانَ يَفْرَغُ زَادُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ، ثُمَّ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الْحَدِيثِ بَابُ أَنَّ الْكَرَمَ وَالْجُودَ وَالتَّوَكُّلَ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ دُونَ الْخَلْقِ مِنْ كَمَالِ الْخُلُقِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ الصُّوفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الِادِّخَارَ زِيَادَةً عَلَى السَّنَةِ خَارِجٌ عَنْ طَرِيقِ التَّوَكُّلِ أَوِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ مَا قَالَ الطَّبَرِيُّ حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الِادِّخَارِ مُطْلَقًا، وَقَدْ أَبْعَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ حَيْثُ قَالَ التَّقْيِيدُ بِالسَّنَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوَاقِعِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا يُدَّخَرُ كَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي سَنَتَيْنِ لَاقْتَضَى الْحَالُ جَوَازَ الِادِّخَارِ لِأَجْلِ ذَلِكَ قُلْتُ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّنَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَجَدُّدِ الْأَرْزَاقِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَشْهُرِ فِي أَثْنَائِهَا. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ الْمُدِينِيُّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الدَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بَدَلَهُ الْفَرْوِيُّ بِفَتْحِ فَاءٍ وَسُكُونِ رَاءٍ نِسْبَةً إِلَى فَرْوٍ، وَاسْمُ جَدِّهِ كَمَا ذَكَرَهُ عَفِيفُ الدِّينِ (حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ) أَيْ: شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عِنْدِي شَيْءٌ) أَيْ: لَيْسَ فِي مِلْكِي شَيْءٌ مَوْجُودٌ (وَلَكِنِ ابْتَعْ) أَمْرٌ مِنَ الِابْتِيَاعِ أَيِ اشْتَرِ مَا تَبْغِي بِثَمَنٍ يَكُونُ دَيْنًا (عَلَيَّ) أَدَاؤُهُ (فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ) أَيْ: مِنْ بَابِ اللَّهِ (قَضَيْتُهُ

فَقَالَ عُمَرُ) لَا شَكَّ أَنَّ الرَّاوِيَ هُوَ عُمَرُ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: فَقُلْتُ فَكَأَنَّهُ نَقَلَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَسْلَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَعْطَيْتَهُ) أَيِ: السَّائِلَ مَا عَلَيْكَ، وَهُوَ الْمَيْسُورُ مِنَ الْقَوْلِ (فَمَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ) أَيْ: مِنْ أَمْرِهِ بِالشِّرَاءِ وَوَعْدِهِ بِالْقَضَاءِ، وَالْفَاءُ لِتَعْلِيلِ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْعَطَاءِ، وَقِيلَ أَيْ: وَقَدْ أَعْطَيْتَهُ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ، وَلَا مِرْيَةَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ قَالَ كِلَا هَذَيْنِ بَعِيدٌ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَعْطَيْتَهُ سُؤَالَهُ وَجَعَلْتَ لَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِكَ فَلَا تَفْعَلْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْكَ بِذَلِكَ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَمِنْ طَرِيقَةِ الْمَعْنَى (فَكَرِهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ عُمَرَ) ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى كَمَالِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ ابْتَعْ عَلَيَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَيْسُورِ وَالْعَطَاءِ الْمَوْعُودِ، وَأَمَّا كَلَامُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْتِزَامُهُ قُنُوطَ السَّائِلِ وَحِرْمَانُهُ لَا لِمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَمُسَلَّمٌ مِنْ حَيْثِيَّةِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فِي الْجُمْلَةِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْمَيْسُورِ مِنَ الْقَوْلِ أَوْ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي اقْتِضَاءِ الْكَرَمِ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثِيَّةِ الْتِزَامِهِ قُنُوطَ السَّائِلِ وَحِرْمَانِهِ فَمَمْنُوعٌ وَعَنْ حَيِّزِ التَّصَوُّرِ مَدْفُوعٌ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ مِمَّا لَمْ يَنْفَعْ فَاحْذَرْهُ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيهَامِ مِمَّا لَا يُرْتَضَى (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ: مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفِقْ) أَيْ: بِلَالًا (وَلَا تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا) أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْفَقْرِ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَلَّ الشَّيْءُ يَقِلُّ وَأَقَلَّهُ غَيْرُهُ وَزَادَ فِي التَّاجِ أَنَّ مَعْنَاهُ الِافْتِقَارُ وَالِاحْتِيَاجُ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهُوَ قَيْدٌ لِلْمَنْفِيِّ وَالنَّفْيِ تَأَمَّلْ، وَقِيلَ مَا أَحْسَنَ مَوْضِعَ ذِي الْعَرْشِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَيْ: لَا تَخْشَ أَنْ يُضَيِّعَ مِثْلَكَ مَنْ هُوَ مُدَبِّرُ الْأَمْرِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ كَلَامُ الطِّيبِيِّ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ لَكِنَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْشَى مِنَ الْفَقْرِ بَلْ مَا سَبَقَ صَرِيحٌ فِي كَمَالِ اعْتِمَادِهِ عَلَى رَبِّهِ، فَالْمَعْنَى اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْخَشْيَةِ، وَلَا تُبَالِ بِمَا ذَكَرَ عُمَرُ مِنَ النَّصِيحَةِ (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ) بِالْكَسْرِ أَيْ: ظَهَرَ عَلَى وَجْهِهِ الْبَشَاشَةُ وَعُرِفَ عَلَى بَشْرَتِهِ أَثَرُ الِانْبِسَاطِ، وَفِي نُسْخَةٍ وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَالْمُؤَدَّى وَاحِدٌ (لِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ عُرِفَ (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (بِهَذَا أُمِرْتُ)

(باب ما جاء في حياء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

أَيْ بِالْإِنْفَاقِ وَعَدَمِ الْخَوْفِ أَوْ بِالْعَطَاءِ فِي الْمَوْجُودِ وَبِالْقَوْلِ الْمَيْسُورِ فِي الْمَفْقُودِ لَا بِمَا قَالَهُ عُمَرُ كَمَا أَفَادَهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ أَيْ: قَصْرِ الْقَلْبِ رَدًّا لِاعْتِقَادِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الرُّبَيِّعِ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ مَكْسُورَةٍ (بِنْتِ مُعَوِّذٍ) بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ (ابْنِ عَفْرَاءَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَمْدُودَةً (قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِنَاعٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: بِطَبَقٍ (مِنْ رُطَبٍ) وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لَا جَمْعٌ، فَفِي الصِّحَاحِ: الْوَاحِدَةُ رُطَبَةٌ (وَأَجْرٍ) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ فَسُكُونِ جِيمٍ فَرَاءٍ أَيْ: قِثَّاءٍ صِغَارٍ (زُغْبٍ) بِضَمِّ زَايٍ فَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ جَمْعُ أَزْغَبَ مِنَ الزَّغَبِ بِالْفَتْحِ، صِغَارُ الرِّيشِ أَوَّلَ مَا طَلَعَ شُبِّهَ بِهِ مَا عَلَى الْقِثَّاءِ مِنَ الزَّغَبِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَأَعْطَانِي) أَيْ: بَدَلَ هَدِيَّتِي أَوْ لِحُضُورِي حَالَ قِسْمَتِهِ (مِلْءَ كَفِّهِ حُلِيًّا) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مَا يُصَاغُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيُلْبَسُ لِلزِّينَةِ (وَذَهَبًا) أَيْ: وَذَهَبًا مِنْ غَيْرِ الْحِلْيَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ «أَوْ ذَهَبًا» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ صِفَةِ الْفَاكِهَةِ وَسِيقَ هُنَا لِمَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ وَلَطَافَةِ مُعَاشَرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَاسْتِحْسَانِ آدَابِهِ (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ: وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِي (قَالُوا: حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةِ الْأَصْلِ أَنْبَأَنَا (عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا) أَيْ: يُجَازِي بِأَزْيَدَ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ بِمِثْلِهَا مِمَّا يُسَاوِيهَا، لَكِنْ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْإِثَابَةَ هِيَ الْمُجَازَاةُ فِي الْخَيْرِ أَكْثَرَ مِنْهُ قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ لَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْصُولًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُرْسَلٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ: لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ وَمُحَاضِرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَشَارَ بِهَذَا أَنَّ عِيسَى بْنَ يُونُسَ تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: رِوَايَةُ وَكِيعٍ وَصَلَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ «وَيُثِيبُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا» وَرِوَايَةُ مُحَاضِرٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا بَعْدُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَيُسَنُّ التَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ لَكِنَّ مَحَلَّ نَدْبِ الْقَبُولِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ، وَنَدْبِ الْإِثَابَةِ حَيْثُ لَمْ يَظُنَّ الْمُهْدَى إِلَيْهِ أَنَّ الْمُهْدِي إِنَّمَا أَهْدَى إِلَيْهِ لِغَيْرِ حَيَاءٍ لَا فِي مُقَابِلِ شَيْءٍ، أَمَّا إِذَا ظَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْإِهْدَاءِ إِنَّمَا هُوَ الْحَيَاءُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: كَمَنْ يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ وَيُفَرِّقُ هَدَايَاهُ خَوْفًا مِنَ الْعَارِ فَلَا يَجُوزُ الْقَبُولُ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَالْكُرْهُ فِي الْبَاطِنِ، فَهُوَ كَالْمُكْرَهِ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا إِذَا ظَنَّ أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ الْإِثَابَةُ فَلَا يَجُوزُ الْقَبُولُ إِلَّا إِنْ أَثَابَهُ بِقَدْرِ مَا فِي ظَنِّهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَرَائِنُ حَالِهِ، وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَسْتَهْتِرُونَ فِيهِ فَيَقْبَلُونَ الْهَدِيَّةَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُهُ قُلْتُ الْبَحْثُ لَا يَجِبُ فَإِنَّكَ إِذَا فَتَّشْتَ عَنْ ضِيَافَاتِ الْعَامَّةِ وَهَدَايَاهُمْ وَعَطَايَاهُمْ رَأَيْتَ كُلَّهَا مُلَطَّخَةً بِالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ أَوْ نَاشِئَةً عَنِ الْحَيَاءِ نَعَمْ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ الْإِهْدَاءِ لَيْسَ إِلَّا الْحَيَاءَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ، وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ لَكِنْ يُثِيبُ بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ خَاطِرَهُ يَطِيبُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَى مُكْرَهًا فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ رَاضِيًا فَيَنْقَلِبُ الْحَرَامُ حَلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَمَا صَوَّرْنَاهُ تِجَارَةٌ صَادِرَةٌ عَنْ تَرَاضٍ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَلِهَذَا عَدَّ عُلَمَاؤُنَا الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْإِثَابَةِ بَيْعًا وَلَوْ كَانَ عَطَاؤُهُ حَيَاءً لَمْ يَحْصُلْ لَهُ جَزَاءٌ، ثُمَّ طَابَ خَاطِرُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى بَرَاءَةٌ وَإِحْلَالٌ لَهُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِثَابَةَ بِقَدْرِ الْهِبَةِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا، فَمَحَلُّ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقَبُولِ إِذَا لَمْ يُجَازِهِ مُطْلَقًا، ثُمَّ الْعُودُ فِي الْهِبَةِ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَطَبْعًا، وَيَجُوزُ عِنْدَ فُقَهَائِنَا بِشُرُوطٍ لَيْسَ هَذَا مَقَامُ ذِكْرِهَا (بَابُ مَا جَاءَ فِي حَيَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)

الْحَيَاءُ هُنَا بِالْمَدِّ، وَأَمَّا بِالْقَصْرِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَطَرِ، وَكِلَاهُمَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَيَاةِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا حَيَاةُ الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ، وَفِي الشَّرْعِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى اجْتِنَابِ الْقَبِيحِ وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذَوِي الْحَقِّ. ثُمَّ الْحَيَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْخُلُقِ الْحَسَنِ فَإِفْرَادُهُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ مِلَاكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ فِي حُسْنِ مُعَامَلَةِ الْحَقِّ وَمُعَاشَرَةِ الْخَلْقِ (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (يُحَدِّثُ) أَيْ: يَرْوِي (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ أَيْ: كَانَ حَيَاؤُهُ أَبْلَغَ مِنْ حَيَاءِ الْبِنْتِ الْبِكْرِ (فِي خِدْرِهَا) بِكَسْرِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ سِتْرٌ يُجْعَلُ لِلْبِكْرِ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، وَالْعُذْرَةُ بِالضَّمِّ الْبَكَارَةُ، وَقِيلَ إِنَّهَا جِلْدَتُهَا، وَيُقَالُ لِلْبِكْرِ: الْعَذْرَاءُ؛ لِأَنَّ جِلْدَتَهَا بَاقِيَةٌ، وَالظَّرْفُ حَالٌ مِنَ الْعَذْرَاءِ أَوْ صِفَةٌ لَهَا، وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِلْفَائِدَةِ؛ فَإِنَّ الْعَذْرَاءَ إِذَا كَانَتْ مُتَرَبِّيَةً فِي سِتْرِهَا تَكُونُ أَشَدَّ حَيَاءً لِتَسَتُّرِهَا حَتَّى عَنِ النِّسَاءِ بِخِلَافِهَا إِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا لِاخْتِلَاطِهَا مَعَ غَيْرِهَا أَوْ كَانَتْ دَاخِلَةً خَارِجَةً فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْحَيَاءِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ تَبَعًا لِمِيرَكَ إِذِ الْخَلْوَةُ مَظِنَّةُ وُقُوعِ الْفِعْلِ بِهَا فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَالَةُ الَّتِي تَعْتَرِيهَا عِنْدَ دُخُولِ أَحَدٍ عَلَيْهَا فِيهِ لَا الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا حَالَةَ انْفِرَادِهَا أَوِ اجْتِمَاعِهَا بِمِثْلِهَا فِيهِ انْتَهَى. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا الْمَعْنَى لَقِيلَ: أَشَدُّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ وَقْتَ زِفَافِهَا (وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا) وَفِي نُسْخَةٍ الشَّيْءَ (عَرَفْنَاهُ) أَيِ: الشَّيْءَ الْمَكْرُوهَ أَوْ كَرَاهَتَهُ (فِي وَجْهِهِ) لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَكْرَهُهُ حَيَاءً بَلْ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ فَيُفْهَمُ كَرَاهَتُهُ لَهُ وَكَذَا الْبِنْتُ الْمُخَدَّرَةُ غَالِبًا لَمْ تَتَكَلَّمْ فِي حُضُورِ النَّاسِ بَلْ يُرَى أَثَرُ رِضَاهَا وَكَرَاهَتُهَا فِي وَجْهِهَا وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَيَائِهِ لَا يُثَبِّتُ بَصَرَهُ فِي وَجْهِ أَحَدٍ، هَذَا وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ وَزَادَهُ فِي آخِرِهِ " وَكَانَ يَقُولُ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ نِسْبَةً إِلَى خَطْمٍ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ (عَنْ مَوْلًى لِعَائِشَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا نَظَرْتُ) أَيْ: حَيَاءً مِنْهَا بِنَاءً عَلَى حَيَاءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحْيِيَ يُسْتَحْيَى مِنْهُ (إِلَى فَرْجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَتْ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (مَا رَأَيْتُ) أَيْ: حَيَاءً مِنْهُ مُوجِبًا لِحَيَائِهَا مِنْهُ (فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ الْحَنَفِيُّ: فَإِنَّ حَيَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَانِعًا مِنْهُ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْوَقَارِ وَالْحَيَاءِ فِي مَرْتَبَةٍ لَمْ يَكُنِ النَّظَرُ مِنْهَا إِلَى فَرْجِهِ أَوْ رُؤْيَتِهِ انْتَهَى. وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا أَيْضًا (مَا رَأَيْتُ مِنْهُ، وَلَا رَأَى مِنِّي) يَعْنِي الْفَرْجَ (قَطُّ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ،

(باب ما جاء في حجامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

فَالْمَشْكُوكُ فِيهِ لَفْظُ وَنَظَرْتُ وَرَأَيْتُ فَقَطْ لَا لَفْظُ قَطُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْهَا مَا نَظَرْتُ إِلَى فَرْجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ، أَوْ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ عَوْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ، أَوْ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ. ثُمَّ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلْبَابِ ظَاهِرَةٌ غَايَةَ الظُّهُورِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ خِلَافَهُ وَوَقَعَ فِي بِئْرِ الْغُرُورِ. هَذَا وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ أَحَبَّ وَأَبْسَطَ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَنَفْيُ رُؤْيَتِهَا مُفِيدٌ لِنَفْيِ رُؤْيَةِ غَيْرِهَا بِالْأَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْتَسِلُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ وَمَا رَأَى أَحَدٌ عَوْرَتَهُ قَطُّ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ إِلَّا مُقَنَّعًا يُرْخِي الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا رَأَى مِنِّي، أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ نَقْلًا عَنِ الْخُطَبِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) الْحِجَامَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنَ الْحَجْمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحَجْمُ الْمَصُّ، يَحْجِمُ وَيَحْجُمُ، وَالْمِحْجَمُ وَالْمِحْجَمَةُ بِكَسْرِهِمَا مَا يُحْجَمُ بِهِ وَحِرْفَتُهُ الْحِجَامَةُ كَكِتَابَةٍ انْتَهَى. وَلَعَلَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَالْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَتَأَمَّلْ، وَقَدِ احْتَجَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُفْطِرُ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ. لِخَبَرِ (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ تَعَرَّضَا لِلْإِفْطَارِ بِالْمَصِّ لِلْحَاجِمِ وَالضَّعْفِ لِلْمَحْجُومِ أَوْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلًا، ثُمَّ نُسِخَ كَمَا وَرَدَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ) أَيْ: طَيِّبٌ أَمْ خَبِيثٌ؟ (فَقَالَ أَنَسٌ) أَيْ: كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْهُ أَيْضًا لَكِنَّ فِيهِ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا (احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: كَثِيرًا أَوْ مَرَّةً (حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ وَاسْمُهُ نَافِعٌ عَلَى الصَّحِيحِ. فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ السَّكَنِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ حَجَّامٌ يُقَالُ لَهُ نَافِعٌ أَبُو طَيْبَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ - عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُهُ عَنْ خَرَاجِهِ) الْحَدِيثَ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي اسْمِ أَبِي طَيْبَةَ أَنَّهُ دِينَارٌ وَوَهَّمُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دِينَارًا الْحَجَّامَ تَابِعِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي طَيْبَةَ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَكَذَلِكَ جَزَمَ أَبُو أَحْمَدَ وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى أَنَّ دِينَارًا الْحَجَّامَ يَرْوِي عَنْ أَبِي طَيْبَةَ لَا أَنَّهُ أَبُو طَيْبَةَ نَفْسُهُ وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَنَّ اسْمَ أَبِي طَيْبَةَ مَيْسَرَةُ قَالَ مِيرَكُ: وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَاسْمِ أَبِي جَمِيلَةَ الرَّاوِي حَدِيثَ الْحِجَامَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا الْعَسْكَرِيُّ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ وَذَكَرَ ابْنُ الْحَدَّادِ فِي رِجَالِ الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ، وَهُوَ وَهْمٌ أَيْضًا بَلْ هُوَ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ مَوْلَاهُ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِكَوْنِهِ قِنًّا لِبَنِي بَيَاضَةَ، صَرَّحَ

النَّوَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَاعْتَرَضَ (فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ) مُثَنَّى صَاعٍ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ اتِّفَاقًا مِكْيَالٌ يَسَعُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ، وَلَكِنَّ الْمُدَّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَقِيلَ: رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَقِيلَ رِطْلَانِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مِعْيَارُهُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفِّ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلَا صَغِيرِهِمَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَكَانٍ يُوجَدُ فِيهِ صَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَجَرَّبْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ صَحِيحًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فَأَعْطَاهُ، وَلَا مُنَافَاةَ إِذِ الْآمِرُ بِالْإِعْطَاءِ يُسَمَّى مُعْطِيًا، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى فَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: أَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ أَوْ مُدَّيْنِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الشَّكُّ مِنْ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَشُكَّ، وَأَفَادَ تَعْيِينَ مَا فِي الصَّاعِ، قُلْتُ: فَقَوْلُهُ (مِنْ طَعَامٍ) يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِتَمْرٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَسْبُ الْحَجَّامِ حَرَامًا لَمَا أَمَرَ لَهُ بِالْإِعْطَاءِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (وَكَلَّمَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَهْلَهُ) أَيْ: مَوَالِيَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: «مَوَالِيهِ» بَنُو حَارِثَةَ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَوْلَاهُ مِنْهُمْ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْمَوَالِيَ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا رَجُلًا وَيَكُونُ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ وَاحِدًا، قُلْتُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ، وَالْمُرَادُ: مَوْلَاهُ وَأَتْبَاعُهُ، قَالَ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ فَهُوَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو هِنْدٍ (فَوَضَعُوا) أَيْ: مَوَالِيهِ عَنْهُ (مِنْ خَرَاجِهِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ مَا يُوَظَّفُ عَلَى الْمَمْلُوكِ كُلَّ يَوْمٍ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مِقْدَارِهِ (وَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ أَوْ إِنَّ مِنْ أَمْثَلِ دَوَائِكُمْ) أَيْ: مِنْ أَفْضَلِ مَا تَتَدَاوَوْنَ بِهِ (الْحِجَامَةُ) وَفِي الْعِبَارَةِ الْأُولَى مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي الثَّانِيَةِ، قَالَ مِيرَكُ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَأَظُنُّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ (إِنَّ مِنْ أَمْثَلِ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ: عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ (خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ) . وَمِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ: عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ أَفْضَلَ أَيْ: مِنْ غَيْرِ شَكٍّ قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: الْخِطَابُ بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ؛ لِأَنَّ دِمَاءَهُمْ رَقِيقَةٌ وَتَمِيلُ إِلَى ظَاهِرِ الْأَبْدَانِ بِجَذْبِ الْحَرَارَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا إِلَى سَطْحِ الْبَدَنِ. وَفَصَّلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هُنَا تَفْصِيلًا حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّمَا وَاظَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الِاحْتِجَامِ وَأَمَرَ بِهِ وَبَيَّنَ فَضْلَهُ، وَلَمْ يَفْتَصِدْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْفَصْدَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَرَدِّ الصِّحَّةِ الْمَفْقُودَةِ؛ لِأَنَّ مِزَاجَ بَلَدِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْبِلَادَ الْحَارَّةَ تُغَيِّرُ الْأَمْزِجَةَ تَغَيُّرًا عَجِيبًا كَبِلَادِ الزِّنْجِ وَالْحَبَشَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ فَلِهَذَا تُسَخِّنُ الْمِزَاجَ وَتُجَفِّفُهُ وَتَحْرِقُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ تَجْعَلُ أَلْوَانَ أَهْلِهَا سُودًا وَشُعُورَهُمْ إِلَى الْجُعُودَةِ، وَتُدَقِّقُ أَسَافِلَ أَبْدَانِهِمْ وَتُطِيلُ وُجُوهَهُمْ وَتُكَبِّرُ آنَافَهُمْ وَتُجْحِظُ أَعْيُنَهُمْ، جُحُوظُ الْعَيْنِ: خُرُوجُ الْمُقْلَةِ أَوْ عِظَمُهَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ مِزَاجُ أَدْمِغَتِهِمْ عَنِ الِاعْتِدَالِ فَيَظْهَرُ أَفْعَالُ النَّفْسِ النَّاطِفَةِ فِيهِمْ مِنَ الْفَرَحِ وَالطَّرَبِ وَصَفَاءِ الْأَصْوَاتِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الْبَلَادَةُ لِفَسَادِ أَدْمِغَتِهِمْ، وَفِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ فِي الْمِزَاجِ بِلَادُ التُّرْكِ فَإِنَّهَا بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ تُبَرِّدُ الْمِزَاجَ وَتُرَطِّبُهُ وَتَجْعَلُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ حَارًّا شَدِيدَ الِالْتِهَابِ؛ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ تَمِيلُ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ إِلَى الْبَاطِنِ هَرَبًا مِنْ ضِدِّهَا الَّتِي هِيَ بُرُودَةُ الْهَوَاءِ كَالْحَالِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ، فَإِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ تَمِيلُ إِلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ لِبُرُودَةِ الْهَوَاءِ فَيَجُودُ بِذَلِكَ الْهَضْمُ وَيَقِلُّ الْأَمْرَاضُ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَالَ بُقْرَاطُ: إِنَّ الْأَجْوَافَ فِي الشِّتَاءِ أَسْخَنُ مَا يَكُونُ بِالطَّبْعِ، وَالنَّوْمُ أَطْوَلُ مَا يَكُونُ، وَقَالَ أَيْضًا أَسْهَلُ مَا يَكُونُ إِحْمَالُ الطَّعَامِ عَلَى الْأَبْدَانِ فِي الشِّتَاءِ فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَ الطَّعَامُ الْغَلِيظُ يَسْهُلُ انْهِضَامُهُ كَالْهَرَايِسِ

وَاللُّحُومِ الْغِلَاظِ وَالْخُبْزِ الْفَطِيرِ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا فِي الصَّيْفِ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَتْ فِي الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَارَّ الْغَرِيزِيَّ الْمُصَحِّحَ لِلْغِذَاءِ مَائِلٌ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالْمُجَانَسَةِ إِلَى الْجِنْسِ، فَلِذَلِكَ يَفْسُدُ الْهَضْمُ وَيَكْثُرُ الْأَمْرَاضُ وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِطْنَابِ أَنَّ بِلَادَ الْحِجَازِ لَمَّا كَانَتْ حَارَّةً يَابِسَةً، فَالْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ بِالضَّرُورَةِ تَمِيلُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَ مِزَاجِهَا وَمِزَاجِ الْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِالْأَبْدَانِ فَيَبْرُدُ بَوَاطِنُ الْأَبْدَانِ وَبِهَذَا السَّبَبِ يُدْمِنُونَ أَكْلَ الْعَسَلِ وَالتَّمْرِ وَاللُّحُومِ فِي حَرَارَةِ الْقَيْظِ، وَلَا يَضُرُّهُمْ لِبَرْدِ أَجْوَافِهِمْ وَكَثْرَةِ التَّحَلُّلِ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَرَارَةُ مَائِلَةً مِنْ بَاطِنِ الْبَدَنِ إِلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَحْتَمِلِ الْبَدَنُ الْفَصْدَ؛ لِأَنَّ الْفَصْدَ إِنَّمَا يَجْذِبُ الدَّمَ مِنْ أَعْمَاقِ الْعُرُوقِ وَبَوَاطِنِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنَّمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى الِاحْتِجَامِ؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ تَجْتَذِبُ الدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ فَحَسْبُ، فَافْهَمْ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ الَّتِي أَشْرَفَ عَلَيْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: الْحِجَامَةُ تُنَقِّي سَطْحَ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنَ الْفَصْدِ، وَالْفَصْدُ لِأَعْمَاقِ الْبَدَنِ، وَالْحِجَامَةُ لِلصِّبْيَانِ وَالْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَوْلَى مِنَ الْفَصْدِ وَآمَنُ غَائِلَةً، وَقَدْ تُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَلِهَذَا وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذِكْرِهَا دُونَ الْفَصْدِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبًا مَا كَانَتْ تَعْرِفُ إِلَّا الْحِجَامَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهُدَى: التَّحْقِيقُ فِي أَمْرِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمِزَاجِ، وَالْحِجَامَةُ فِي الْأَزْمَانِ الْحَارَّةِ وَالْأَمَاكِنِ الْحَارَّةِ وَالْأَبْدَانِ الْحَارَّةِ الَّتِي دَمُ أَصْحَابِهَا فِي غَايَةِ النُّضْجِ أَنْفَعُ وَالْفَصْدُ بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْحِجَامَةُ أَنْفَعَ لِلصِّبْيَانِ وَلِمَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْفَصْدِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَيْضًا أَنَّ الْخِطَابَ لِغَيْرِ الشُّيُوخِ لِقِلَّةِ الْحَرَارَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَحْتَجِمْ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ فِي انْتِقَاصٍ مِنْ عُمُرِهِ وَانْحِلَالٍ مِنْ قُوَى جَسَدِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَهُ وَهْنًا بِإِخْرَاجِ الدَّمِ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْتَقِرْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ سِينَا فِي أُرْجُوزَتِهِ: (وَمَنْ تَكُنْ عَادَتُهُ الْفَصَادَهْ فَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الْعَادَهْ) ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُقَلِّلُ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ) بِالْجِيمِ وَاسْمُهُ مَيْسَرَةُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَنَّهُ رَوَى عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ اتِّفَاقًا (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَأَمَرَنِي) أَيْ: بِإِعْطَاءِ أُجْرَتِهِ (فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ أَجْرَهُ) وَهُوَ الصَّاعَانِ السَّابِقَانِ فَأَفَادَ الْحَدِيثُ تَعْيِينَ مَنْ بَاشَرَ وَجَمَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَبَيْنَ إِعْطَاءِ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ بِأَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ مَا إِذَا كَانَ الْأُجْرَةُ عَلَى مَعْلُومٍ وَمَحَلُّ الزَّجْرِ إِذَا كَانَتْ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَكَرِهَ لِلْحُرِّ الِاحْتِرَافَ بِهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا وَجَوَّزَ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ، وَأَبَاحَ لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا، وَعُمْدَتُهُ حَدِيثُ مُحَيِّصَةَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَسْبِ الْحِجَامَةِ فَنَهَاهُ، وَذَكَرَ لَهُ الْحَاجَةَ فَقَالَ: اعْلِفْ نَوَاضِحَكَ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ أَجْرَ الْحَجَّامِ إِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إِعَانَتُهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ مَنْسُوبٌ إِلَى شَعْبٍ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ قَالَ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرَ يَقُولُونَ: عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهُوَ يُحَدِّثُ بِالْمَغَازِي فَقَالَ شَهِدْتُ الْقَوْمَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لِأَبِي بَكْرٍ الْهَمْدَانِيِّ: الْزَمِ الشَّعْبِيَّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُسْتَفْتَى وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ بِالْكُوفَةِ وَالْحَسَنُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْمَدِينَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَالْحَسَنُ بِالْبَصْرَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ فِي الْأَخْدَعَيْنِ) وَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَانِبَيِ الْعُنُقِ (وَبَيْنَ الْكَتِفَيْنِ) وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَقَالَ مِيرَكُ: هُوَ

مُقَدَّمُ الظَّهْرِ مِمَّا يَلِي الْعُنُقَ، وَهُوَ الْكَتَدُ، وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا فِي الْمَتْنِ حَسَّنَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ - وَسَلَّمَ - لَمَّا سُمَّ بِخَيْبَرَ احْتَجَمَ ثَلَاثَةً عَلَى كَاهِلِهِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الِاسْتِفْرَاغَ يَنْفَعُ السُّمَّ وَأَنْفَعُهُ الْحِجَامَةُ لَا سِيَّمَا فِي بَلَدٍ أَوْ زَمَنٍ حَارٍّ فَإِنَّ السُّمَّ يَسْرِي فِي الدَّمِ فَتَتْبَعُهُ فِي الْعُرُوقِ وَالْمَجَارِي حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْقَلْبِ، وَبِخُرُوجِهِ يَخْرُجُ مَا خَالَطَهُ مِنَ السُّمِّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ اسْتِفْرَاغًا عَامًّا أَبْطَلَهُ وَإِلَّا أَضْعَفَهُ فَتَقْوَى الطَّبِيعَةُ عَلَيْهِ وَتَقْهَرُهُ، وَإِنَّمَا احْتَجَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْكَاهِلِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْقَلْبِ لَكِنْ لَمْ تَخْرُجِ الْمَادَّةُ كُلُّهَا بِهِ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي وَدَّهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْتَجِمُ بَيْنَ الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِجَامَةِ الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ فِي وَرِكِهِ مِنْ وَنًى كَانَ بِهِ. وَرُوِيَ فِي الْحِجَامَةِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي إِذَا اسْتَلْقَى الْإِنْسَانُ أَصَابَتْهُ الْأَرْضُ مِنْ رَأْسِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّهَا شِفَاءٌ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دَاءً. قَالَ ابْنُ سِينَا: إِنَّ الْحِجَامَةَ فِيهَا تُورِثُ النِّسْيَانَ حَقًّا، وَنَقَلَهُ حَدِيثًا وَلَفْظُهُ مُؤَخَّرُ الدِّمَاغِ مَوْضِعُ الْحِفْظِ وَيُضْعِفُهُ الْحِجَامَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهِيَ إِنَّمَا تُضْعِفُهُ إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لَهَا كَغَلَبَةِ الدَّمِ فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ طِبًّا وَشَرْعًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ احْتَجَمَ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْ قَفَاهُ وَغَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا دَعَتْ ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجِمُ ثَلَاثًا: وَاحِدَةً عَلَى كَاهِلِهِ وَاثْنَتَيْنِ عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجِمُ ثِنْتَيْنِ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَوَاحِدَةً فِي الْكَاهِلِ وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْوَتْرِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ فَصْدُ الْبَاسَلِيقِ يَنْفَعُ حَرَارَةَ الْكَبِدِ وَالطُّحَالِ وَالرِّئَةِ وَمِنَ الشَّوْصَةِ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَسَائِرِ الْأَمْرَاضِ الدَّمَوِيَّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ أَسْفَلِ الرُّكْبَةِ إِلَى الْوَرِكِ، وَفَصْدُ الْأَكْحَلِ يَنْفَعُ الِامْتِلَاءَ الْعَارِضَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ إِذَا كَانَ دَمَوِيًّا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فَسَدَ، وَفَصْدُ الْقِيقَانِ يَنْفَعُ مِنْ عِلَلِ الرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ إِذَا كَثُرَ الدَّمُ أَوْ فَسَدَ وَفَصْدُ الْوَدَجَيْنِ لِلطُّحَالِ وَالرَّبْوِ وَوَجِعِ الْجَنْبَيْنِ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْكَاهِلِ يَنْفَعُ مِنْ وَجِعِ الْمَنْكِبِ وَالْحَلْقِ وَيَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الْبَاسَلِيقِ وَالْحِجَامَةُ تَحْتَ الذَّقَنِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ وَالْوَجْهِ وَالْحُلْقُومِ وَتَنْفِي الرَّأْسَ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ تَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الصَّافِنِ، وَهُوَ عِرْقٌ عِنْدَ الْكَعْبِ وَتَنْفَعُ عَنْ قُرُوحِ الْفَخِذَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَانْقِطَاعِ الطَّمْثِ وَالْحُكَّةِ الْعَارِضَةِ لِلْأُنْثَيَيْنِ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى أَسْفَلِ الصَّدْرِ نَافِعَةٌ مِنْ دَمَامِيلِ الْفَخِذِ وَبُثُورِهِ مِنَ النِّقْرِسِ وَالْبَوَاسِيرِ وَدَاءِ الْفِيلِ وَحَكَّةِ الظَّهْرِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا كَانَ عَنْ دَمٍ هَائِجٍ وَصَادَفَ وَقْتَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْمِقْعَدِ يَنْفَعُ الْأَمْعَاءَ وَفَسَادَ الْحَيْضِ (وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَلَوْ كَانَ) أَيْ: أَجْرُهُ (حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ) وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ حَلَالٌ وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ، وَقَالُوا: هُوَ كَسْبٌ فِيهِ دَنَاءَةٌ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فَحَمَلُوا الزَّجْرَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَتَقَدَّمَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ وَأَنَّهُ كَانَ حَرَامًا، ثُمَّ أُبِيحَ وَجَنَحَ إِلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ قُلْتُ هَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الِاسْتِدْلَالِ فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمَا مَالُوا إِلَى هَذَا الْمَقَالِ. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا حَجَّامًا) وَهُوَ أَبُو طَيْبَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (فَحَجَمَهُ وَسَأَلَهُ) وَفِي نُسْخَةٍ فَسَأَلَهُ (كَمْ خَرَاجُكَ قَالَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَضَمِّ صَادٍ جَمْعُ صَاعٍ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لَيْسَ فِي الْقَامُوسِ، وَلَا فِي الصِّحَاحِ، وَإِنَّمَا

الَّذِي فِيهِ أَصْوُعٌ بِالْوَاوِ وَأَصْؤُعٌ بِالْهَمْزِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ «آصُعًا» مَقْلُوبُ أَصْوُعٍ فَصَارَ أَءْصُعًا بِهَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ قُلِبَتِ الثَّانِيَةُ أَلِفًا فَوَزْنُهُ أَعْفُلٌ وَنَظِيرُهُ آبَارٌ، وَآبَارٌ جَمْعُ بِئْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ صَاعَانِ (فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا وَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ) قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَبَ فِي الشَّكِّ الْمَاضِي وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَجْمَعُ الْخِلَافَ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي شَيْبَانَ أَنَّ خَرَاجَهُ كَانَ ثَلَاثَةَ آصُعٍ وَكَذَا لِأَبِي يَعْلَى عَنْ جَابِرٍ فَإِنْ صَحَّ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ صَاعَيْنِ وَزِيَادَةً فَمَنْ قَالَ صَاعَيْنِ أَلْغَى الْكَسْرَ وَمَنْ قَالَ ثَلَاثَةً جَبَرَهُ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ) بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدِ مِيمٍ (وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا لُغَةً، وَهِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ (وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ) أَيْ: تَارَةً وَتَارَةً قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ وَسَعِيدٌ وَثَّقَهُ الْأَكْثَرُونَ وَلَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ وَشَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَى الْمُصَنِّفُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (خَيْرُ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمَ سَابِعَ عَشَرَ وَتَاسِعَ عَشَرَ أَوْ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ لَا يَتَبَيَّغْ بِأَحَدِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَهُ) وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَّتِهِ (مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ) أَيْ: كُلِّ دَاءَ سَبَبُهُ غَلَبَةُ الدَّمِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَعْيِينِ الْأَيَّامِ لِلْحِجَامَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ رَفَعَهُ (الْحِجَامَةُ تَزِيدُ الْحَافِظَ حِفْظًا وَالْعَاقِلَ عَقْلًا فَاحْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَالْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَالْأَحَدِ) أَخْرَجَهُ مِنْ ضَعِيفَيْنِ وَلَهُ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْإِفْرَادِ وَأَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَنَقَلَ الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ الْحِجَامَةَ فِي الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا. وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَأَصَابَهُ مَرَضٌ لِكَوْنِهِ تَهَاوَنَ بِالْحَدِيثِ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْحِجَامَةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدَّمُ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْكَرَاهَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِ الِاخْتِيَارِ وَنَفْيَهَا عَلَى وَقْتِ الِاضْطِرَارِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ فِي أَيِّ وَقْتٍ هَاجَ بِهِ الدَّمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ فِي الرُّبْعِ الثَّالِثِ مِنْ أَرْبَاعِهِ أَنْفَعُ مِنَ الْحِجَامَةِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ. قَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الْأَخْلَاطَ أَوَّلَ الشَّهْرِ تَهِيجُ، وَفِي آخِرِهِ تَسْكُنُ فَأَوْلَى مَا يَكُونُ الِاسْتِفْرَاغُ فِي أَثْنَائِهِ وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَيْضًا: أَنَّ أَنْفَعَ الْحِجَامَةِ مَا يَقَعُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ مِنَ النَّهَارِ وَأَنْ لَا يَقَعَ عَقِيبَ اسْتِفْرَاغٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ جِمَاعٍ، وَلَا عَقِيبَ شِبَعٍ، وَلَا جُوعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ دَوَاءٌ وَعَلَى الشِّبَعِ دَاءٌ، وَفِي سَبْعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ شِفَاءٌ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ صِحَّةٌ لِلْبَدَنِ وَلَقَدْ أَوْصَانِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ بِالْحِجَامَةِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَا مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِمَلَأٍ إِلَّا قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَيْكَ بِالْحِجَامَةِ يَا مُحَمَّدُ. وَالْأَمْرُ فِيهَا لِلنَّدْبِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرُّزِ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَتَبَيَّغْ بِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَكُمْ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ نِعْمَ الْعَبْدُ الْحَجَّامُ يُذْهِبُ الدَّمَ وَيُحَفِّفُ الصُّلْبَ وَيَجْلُو الْبَصَرَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِي سَمَّتْهَا الْيَهُودِيَّةُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ أُخْتُ الْمِرْحَبِ الْيَهُودِيِّ بِخَيْبَرَ احْتَجَمَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِهِ.

(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ الْحِجَامَةَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَطْعَ شَعْرٍ فَهِيَ حَرَامٌ لِقَطْعِ الشَّعْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ بِأَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا شَعْرَ فِيهِ أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ شَعْرٌ وَلَمْ يُقْطَعْ جَازَتْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا فِدْيَةَ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَعَنِ الْحَسَنِ فِيهَا الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا، وَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ جَازَ قَطْعُ الشَّعْرِ وَيَجِبُ الْفِدْيَةُ وَخَصَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْفِدْيَةَ بِشَعْرِ الرَّأْسِ انْتَهَى. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الْفَصْدِ وَرَبْطِ الْجُرْحِ وَالدُّمَّلِ وَقَطْعِ الْعِرْقِ وَقَلْعِ الضِّرْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّدَاوِي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ الْمُحْرِمُ عَنْهُ مِنْ تَنَاوُلِ الطِّيبِ وَقَطْعِ الشَّعْرِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُهُ (بِمَلَلٍ) ظَرْفٌ لِاحْتَجَمَ وَالْجُمْلَةُ مَا بَيْنَهُمَا حَالِيَّةٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ الْأُولَى مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ (عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ حَكَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ فَأَرْسَلَهُ وَسَعِيدٌ أَحْفَظُ مِنْ مَعْمَرٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ قَالَ مِيرَكُ: وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ، وَلَفْظُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ أَيْضًا احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَأْسِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ (لَحْيُ جَمَلٍ) وَلَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ، فَظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ فِي مَكَانِ الِاحْتِجَامِ وَمَحَلُّهُ أَيْضًا مِنَ الْبَدَنِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ وَجَزَمَ الْحَازِمِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحِجَامَةَ وَقَعَتْ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ وَقَعَتْ فِيهَا أَيْضًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي إِحْدَى عُمْرَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ مِيرَكُ: وَقَوْلُهُ (لَحْيُ جَمَلٍ) وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْإِفْرَادِ وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَالْمُهْمَلَةُ سَاكِنَةٌ، وَجَمَلٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ مَوْضِعٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ فِي اسْمِ الْعَقِيقِ، وَقَالَ هِيَ بِئْرُ جَمَلٍ الَّتِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ فِي التَّيَمُّمِ، وَقَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُ هِيَ بُقْعَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ عَقِبَ الْجُحْفَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ السُّقْيَا وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِلَحْيِ الْجَمَلِ الْآلَةُ الَّتِي احْتَجَمَ بِهَا أَيِ احْتَجَمَ بِعَظْمِ جَمَلٍ، وَهُوَ وَهْمٌ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ لِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ حَيْثُ قَالَ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ لَحْيُ جَمَلٍ، وَقَوْلُهُ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا أَيْ: مُتَوَسَّطُهُ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْيَافُوخِ فِيمَا بَيْنَ أَعْلَى الْقَرْنَيْنِ، قَالَ اللَّيْثُ: كَانَتْ هَذِهِ الْحِجَامَةُ فِي فَأْسِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا الَّتِي فِي أَعْلَاهُ فَلَا؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا أَعْمَتْ، وَقَوْلُهُ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ، قَالَ الشَّيْخُ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَقَافَيْنِ عَلَى وَزْنِ عَظِيمَةٍ وَجَعٌ بِأَحَدِ جَانِبَيِ الرَّأْسِ وَفِي مُقَدَّمِهِ، وَذَكَرَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ أَبْخِرَةً مُرْتَفِعَةً أَوْ أَخْلَاطًا حَارَّةً أَوْ بَارِدَةً تَرْتَفِعُ إِلَى الدِّمَاغِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْفَذًا أَحْدَثَتِ الصُّدَاعَ فَإِنْ مَالَتْ إِلَى أَحَدِ شِقَّيِ الرَّأْسِ أَحْدَثَتِ الشَّقِيقَةَ، وَإِنْ مَالَتْ إِلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ أَحْدَثَتْ دَاءَ الْبَيْضَةِ قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ فَمَكَثَتْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ قَالَ وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا مِنْ شَاةٍ سَمَّتْهَا امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ فَلَمْ يَزَلْ شَاكِيًا. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْمَكَانِ النَّاتِئِ مِنَ الرَّأْسِ فَوْقَ الْيَافُوخِ فَقَالَ هَذَا مَوْضِعُ مِحْجَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عُقَيْلٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَمِّيهَا الْمُغِيثَةَ أَمَرَنِي جِبْرِيلُ حِينَ أَكَلْتُ طَعَامَ الْيَهُودِيَّةِ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَأْسِهِ حِينَ طُبَّ يَعْنِي سُحِرَ قَالَ وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ (الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ تَنْفَعُ مِنْ سَبْعٍ: مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالنُّعَاسِ وَالصُّدَاعِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ وَالْعَيْنِ) وَعَمْرٌو مَتْرُوكٌ رَمَاهُ الْفَلَّاسُ وَغَيْرُهُ بِالْكَذِبِ قَالَ مِيرَكُ: وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ

(باب ما جاء في أسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم -)

اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الْحَجَّامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبُكَيْرِيِّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَمَحْدُوَةِ فَقَالَ يَا ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ لِمَ احْتَجَمْتَ وَسَطَ رَأْسِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا ابْنَ حَابِسٍ إِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ وَجَعِ الرَّأْسِ وَالْأَضْرَاسِ وَالنُّعَاسِ وَالْبَرَصِ) وَأَشُكُّ فِي الْجُنُونِ، لَيْثٌ شَكَّ، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا لَكِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَالَ الْأَطِبَّاءُ إِنَّ الْحِجَامَةَ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ نَافِعَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ هُنَا أَلْفَاظٌ تُطْلَقُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَمًا أَوْ وَصْفًا، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ الْأَحْوَذِيِّ فِي شَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَلْفَ اسْمٍ وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْفَ اسْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ بِضْعًا وَسِتِّينَ وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ مِنْهَا تِسْعَةً، وَقَدْ أَفْرَدَ السُّيُوطِيُّ رِسَالَةً فِي الْأَسْمَاءِ النَّبَوِيَّةِ سَمَّاهَا بِالْبَهْجَةِ السَّنِيَّةِ، وَقَدْ قَارَبَتِ الْخَمْسَمِائَةٍ وَلَخَّصْتُ مِنْهَا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا عَلَى طِبْقِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَذَكَرْتُهَا فِي ذَيْلِ شَرْحِ الصَّلَوَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالصَّلَاةِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ: وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا (قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: جُبَيْرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ لِي أَسْمَاءً) هَذَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ أَيْ: أَخْتَصُّ بِهَا لَمْ يُسَمَّ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي إِذْ هِيَ مُعْظَمُهَا أَوْ هِيَ مَشْهُورُهَا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَالْحَصْرُ الَّذِي أَفَادَهُ تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ إِضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ لِوُرُودِ الرِّوَايَاتِ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا مَا يَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتَّةً وَزَادَ الْحَاتِمُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِي: فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَيس وَطه وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي بِالْمَعْنَى قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ لِتَصْرِيحِهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ (إِنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ قُلْتُ: لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُصَادَرَةِ (أَنَا مُحَمَّدٌ) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّحْمِيدِ مُبَالَغَةً نُقِلَ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ يُسَمَّى بِهِ لِكَثْرَةِ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ أَوْ لِأَنَّهُ حُمِدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَمِدَهُ حَمْدًا كَثِيرًا بَالِغًا غَايَةَ الْكَمَالِ وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ أَوْ تَفَاؤُلًا؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ حَمْدُهُ كَمَا وَقَعَ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْمَدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَهُمْ تَحْتَ لِوَاءِ حَمْدِهِ فَأَلْهَمَ اللَّهُ أَهْلَهُ أَنْ يُسَمُّوهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَمِيدِ صِفَاتِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَنْزِيلٌ مِنَ السَّمَاءِ (وَأَنَا أَحْمَدُ) أَيْ: أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ أَوْ أَحْمَدُ الْمَحْمُودِينَ فَهُوَ أَفْعَلُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَـ «أَعْلَمُ» أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَـ «أَشْهَرُ» ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَكْثَرُهُ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْسَبُ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الشِّفَاءِ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ

أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: يَفْتَحُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَحَامِدَ لَمْ يَفْتَحْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ قَبْلِهِ فَيَحْمَدُ رَبَّهُ بِهَا وَلِذَلِكَ يُعْقَدُ لَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَيُخَصُّ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ كَمَا اخْتُصَّ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمَدَ حَامِدٍ رَبَّهُ فَنَبَّأَهُ وَشَرَّفَهُ وَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ مُوسَى اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ وَقَوْلِ عِيسَى (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ؛ لِأَنَّ حَمْدَهُ لِرَبِّهِ كَانَ قَبْلَ حَمْدِ النَّاسِ لَهُ فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ مُحَمَّدًا ذُكِرَ بِالْفِعْلِ فَبِأَحْمَدَ ذُكِرَ قَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ بِمُحَمَّدٍ وَلِذَلِكَ فِي الشَّفَاعَةِ يَحْمَدُ رَبَّهُ أَوَّلًا بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ الَّتِي لَمْ يَفْتَحْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ فَيَكُونُ أَحْمَدَ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ، ثُمَّ يُشَفَّعُ فَيَشْفَعُ فَيُحْمَدُ عَلَى شَفَاعَتِهِ فَيَكُونُ أَحْمَدَ الْمَحْمُودِينَ فَتَقَدَّمَ أَحْمَدُ ذِكْرًا وَوُجُودًا وَدُنْيَا وَأُخْرَى انْتَهَى. هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمَّادِ خِلَافًا لِمَا فَهِمَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فَإِنَّهُ مُبَالِغُ الْحَامِدِ فَأَيْنَ هُوَ مِنَ الْأَحْمَدِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعَالِ قَدْ تَأْتِي لِغَيْرِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا لَا يَخْفَى بَلْ مِنْ صِفَةِ أُمَّتِهِ الْحَمَّادُونَ عَلَى مَا وَرَدَ، وَلَعَلَّهُ قَدَّمَ مُحَمَّدًا فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ أَشْهَرَ مِنْ أَحْمَدَ وَأَظْهَرَ بَلْ وَرَدَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَ الْخَلْقِ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَوَرَدَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ اسْمَ مُحَمَّدٍ مَكْتُوبٌ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ، وَفِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَفِي قُصُورِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا وَعَلَى نُحُورِ الْحُورِ الْعِينِ وَعَلَى قَصَبِ آجَامِ الْجَنَّةِ وَوَرَقِ طُوبَى وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَعَلَى أَطْرَافِ الْحُجُبِ وَبَيْنَ أَعْيُنِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ مَزَايَاهُ مُوَافَقَتُهُ لِمَحْمُودٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى قَالَ حَسَّانُ (وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ) فَفِي الْجَنَّةِ لِلِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ مَزِيَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْبَغِي تَحَرِّي التَّسْمِيَةِ بِهَا فَفِي خَبَرِ أَبِي نُعَيْمٍ: قَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا عَذَّبْتُ أَحَدًا يُسَمَّى بِاسْمِكَ فِي النَّارِ. وَوَرَدَ: إِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَلَا مُحَمَّدٌ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: مَا مِنْ مَائِدَةٍ وُضِعَتْ فَحَضَرَ عَلَيْهَا مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ إِلَّا قَدَّسَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَنْزِلَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ صِيَانَةً لِهَذَا الِاسْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ زَمَانُهُ وَبَشَّرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقُرْبِهِ سَمَّى قَوْمٌ أَوْلَادَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ وَأَشْهَرُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ أَوْ سِتَّةٌ (وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ) إِمَّا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا وَعَدَ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ مُلْكُ أُمَّتِهِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: تَخْصِيصُ مَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ وَحَمْزَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ (يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ) انْتَهَى. وَغَرَابَتُهُ لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى الْعَهْدِ لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي الْوُجُودِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ أَوْ أَنَّهُ يُمْحَى بِهِ لَكِنْ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ فِي زَمَنِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كُفْرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مَوْجُودٌ حِينَئِذٍ وَيُجَابُ بِأَنَّهُ وُجِدَ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الِاسْتِمْرَارِ فَأَمْرٌ آخَرُ بَلْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْكَمَالِ تَعَقَّبَهُ الزَّوَالُ، وَلِذَا لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ (وَأَنَا الْمَاحِي) فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحُو بِهِ سَيِّئَاتِ مَنْ تَبِعَهُ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي قُلْتُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَالَ يَمْحُو بِهِ لَا يَمْحُو بِي إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ قَدْ يَكُونُ مُتَعَدِّدًا، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: الْمَاحِي وَنَحْوُهُ صِفَةٌ لَا اسْمٌ قُلْتُ يُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى الصِّفَةِ كَثِيرًا انْتَهَى. وَكَانَ الظَّاهِرُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَقُولَ الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ اعْتِبَارًا لِلْمَوْصُولِ إِلَّا أَنَّهُ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ لِلَفْظِ أَنَا كَقَوْلِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - ( أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي) حَيْثُ لَمْ يَقُلْ عَلَى قَدَمَيْهِ أَوْ عَلَى قَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ أَوِ الْإِفْرَادِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِكَسْرِ الْمِيمِ مُخَفَّفًا عَلَى الْإِفْرَادِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنَ الْمَاحِي وَالْحَاشِرِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِمَّا ذُكِرَ فِي صِفَتِهِمَا فَإِطْلَاقُهُمَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهُمَا، ثُمَّ قَوْلُهُ يُحْشَرُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْشَرُ قَبْلَ النَّاسِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ بَعْدِي أَوْ يَتْبَعُونِي، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ أَيْ: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى إِثْرِ زَمَانِ نُبُوَّتِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ. فَالْمُرَادُ: بِالْقَدَمِ الزَّمَانُ أَيْ: وَقْتَ قِيَامِي بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْحَشْرِ وَيُرَجِّحُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ أَنَا حَاشِرٌ بُعِثْتُ مَعَ السَّاعَةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي الْمَوَاهِبِ: الْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَلَى قَدَمِي بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَبِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ قَالَ

النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَى الرِّوَايَتَيْنِ يُحْشَرُونَ عَلَى أَثَرِي وَزَمَانِي وَرِسَالَتِي قُلْتُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ عَقِبِي بَدَلَ قَدَمِي عَلَى مَا نَقَلَهُ شَارِحٌ (وَأَنَا الْعَاقِبُ) وَهُوَ جَاءَ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الَّذِي يَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي الْخَيْرِ (وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ) قِيلَ هَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُدْرَجٌ وَقَعَ لَكِنَّهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْ: فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ (الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ) أَيِ: الْمُقْرِئُ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ عَاصِمٍ (عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ) وَاسْمُهُ شَقِيقُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ كَمَا قَالَهُ مِيرَكُ (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ لَقِيتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ) أَيْ: سِكَكِهَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُصَحَّحَةِ بِلَفْظِ طَرِيقٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ (فَقَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّ مَا بُعِثْتُ بِهِ سَبَبُ سَعَادَتِهِمْ وَمُوجِبٌ لِصَلَاحِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَقِيلَ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْكُفَّارِ أَمْنُهُمْ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ (وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ) قَالَ الْإِمَامُ: مَعَانِي الثَّلَاثَةِ مُتَقَارِبَةٌ إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ وَأَمَرَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ وَنَصَّ عَلَيْهِمَا وَأَنَّ أُمَّتَهُ تَوَّابُونَ رُحَمَاءُ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ التَّائِبُونَ وَبِقَوْلِهِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي أُمَّتِهِ تَكُونَانِ مَوْجُودَتَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَيَكْفِي هَذَا الْقَدْرُ فِي الِاخْتِصَاصِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ أَوْ لِأَنَّهُ قَبِلَ مِنْ أُمَّتِهِ التَّوْبَةَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ، زَادَ مِيرَكُ بِخِلَافِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّوْبَةُ النَّصُوحُ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ فَتَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَأَرْكَانُ التَّوْبَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ النَّدَمُ وَالْقَلْعُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَلَا أَحَدَ جَعَلَ الِاسْتِغْفَارَ اللِّسَانِيَّ شَرْطًا لِلتَّوْبَةِ نَعَمْ لِلتَّوْبَةِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِبَعْضِ حُقُوقِ اللَّهِ شُرُوطٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَفَّفَهُ اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ قَاتِلِ الْمِائَةِ وَتَوْبَتِهِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ نَعَمْ شَدَّدَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَجَعَلَ مِنْ شَرَائِطِ تَوْبَتِهِمْ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ (وَأَنَا الْمُقَفِّي) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: الَّذِي قَفَّى آثَارَ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَتَبِعَ أَطْوَارَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَصْفِيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ وَمَكَارِمِ

(باب ما جاء في عيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

الْأَخْلَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هُوَ الْمُوَلِّي الذَّاهِبُ، يَعْنِي أَنَّهُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَّبِعُ لَهُمْ فَإِذَا قَفَّى لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَفِي مَعْنَاهُ الْعَاقِبُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى وَرُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ: أَنَا الَّذِي قُفِّيَ بِي عَلَى آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ: أُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ بَعْدَهُمْ وَخُتِمَ بِي الرِّسَالَةُ يُقَالُ: قَفَوْتُ أَثَرَ فُلَانٍ أَيْ: تَبِعْتُهُ وَقَفَّيْتُ عَلَى أَثَرِهِ بِفُلَانٍ أَيْ: أَتْبَعْتُهُ إِيَّاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا فَحَذَفَ حَرْفَ الصِّلَةِ فِي الْحَدِيثِ تَخْفِيفًا (وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ الْمَلْحَمَةِ، وَهِيَ الْحَرْبُ ذَاتُ الْقِتَالِ الشَّدِيدِ وَسُمِّيَ بِهَا لِاشْتِبَاكِ النَّاسِ فِيهَا كَالسَّدَى وَاللُّحْمَةِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيلَ لِكَثْرَةِ لُحُومِ الْقَتْلَى فِيهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي أَيَّامِ دَوْلَتِهِ وَكَذَا بَعْدَهُ مُسْتَمِرٌّ فِي أُمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَقْتُلَ آخِرَهُمُ الدَّجَّالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ، وَفِي الْقَامُوسِ سُمِّيَ نَبِيَّ الْمَلَاحِمِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِالْتِيَامِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ، وَقَالَ شَارِحٌ: الْمَلْحَمَةُ الْوَقْعَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْفِتْنَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَمَعْلُومَةٌ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ (أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ زِرٍّ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ مَبْنَاهُ (بِمَعْنَاهُ) أَيْ: فِي مُؤَدَّاهُ (هَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ) (بَابُ مَا جَاءَ فِي عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ فِي كَيْفِيَّةِ مَعِيشَتِهِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ إِلَى وَقْتِ مَمَاتِهِ وَتَقَدَّمَ زِيَادَةُ بَسْطٍ فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ الْعَيْشِ فِي الْبَابِ السَّابِقِ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ أَوْ مِنَ النُّسَّاخِ وَالْكُتَّابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَّا فَالْأَظْهَرُ جَعْلُهُ بَابًا

عَلَى حِدَةٍ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْبَابُ الطَّوِيلُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَوْ فِي أَوَائِلِهِ قَبْلَ بَابِ مَا جَاءَ فِي خُفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَاتِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فِي بَابٍ لَا يُوجِبُ تَكْرَارَ الْعُنْوَانِ مِنْ كِتَابٍ، وَقَدْ تَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا لِتَوْجِيهِ التَّكْرَارِ مَا لَا يُجْدِي نَفْعًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْأَخْبَارِ، وَقَالَ شَارِحٌ: اعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ هَذَا الْبَابُ مُخْتَلِفًا فَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ مَذْكُورَةٌ فِيهِ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ وَقَعَ مُكَرَّرًا فَقِيلَ إِمَّا لِعَدَمِ التَّكَلُّفِ وَقَصْدَ الِاخْتِصَارِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ هَذَا الْبَابِ أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ) بِالْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) بِكَسْرِ السِّينِ (قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ) بِضَمِّ النُّونِ (ابْنَ بَشِيرٍ) عَلَى زِنَةِ نَذِيرٍ (يَقُولُ) حَالٌ (أَلَسْتُمْ) مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: (فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ) صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَلَسْتُمْ مُنَعَّمِينَ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مِقْدَارَ مَا شِئْتُمْ فِي التَّوْسِعَةِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَمَا مَوْصُولَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَالْكَلَامُ فِيهِ تَعْبِيرٌ وَتَوْبِيخٌ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَرَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى النَّظَرِ فَجُمْلَةُ قَوْلِهِ (وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: رَدَيِّ التَّمْرِ (مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ) يَكُونُ حَالًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْعَلَمِ يَكُونُ مَفْعُولًا، ثَانِيًا وَأَدْخَلَ الْوَاوَ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ عَلَى مَا أَفَادَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِضَافَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْقَوْمِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ تَرْغِيبًا لَهُمْ إِلَى الْقَنَاعَةِ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَرْهِيبًا عَنِ الْمُخَالَفَةِ لِحُصُولِ الْكَمَالِ فِي الْعُقْبَى، وَرَوَى مُسْلِمٌ (يَظَلُّ الْيَوْمَ مُلْتَوِيًا وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ) ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فَقْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ اخْتِيَارِيًّا لَا كُرْهًا وَاضْطِرَارِيًّا وَقَدِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ وَبِالصَّوَابِ مِنَ الْأَقْوَالِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا طَرِيقَ لِلِقَاءٍ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِمَا إِلَّا بِسَلَامَةِ الْبَدَنِ، وَلَا تَصْفُو سَلَامَتُهُ إِلَّا بِتَنَاوُلِ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ عَلَى تَكْرَارِ الْأَوْقَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ الْأَكْلُ مِنَ الدِّينِ وَعَلَيْهِ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا فَمَنْ أَكَلَ لِيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرْسِلَ فِيهِ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ فِي الْمَرْعَى فَإِنَّمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الدِّينِ، يَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ أَنْوَارُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَظْهَرُ إِلَّا إِنْ وَزَنَ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ شَهْوَةَ الطَّعَامِ إِقْدَامًا وَإِحْجَامًا وَالشِّبَعُ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ (مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ الْآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ غَلَبَتِ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ وَظَاهِرُ الْخَبَرِ تَسَاوِي الْأَثْلَاثِ وَيَحْتَمِلُ أَنِ الْمُرَادَ تَقَارُبُهَا، وَفِي حَدِيثٍ (مَنْ كَثُرَ تَفَكُّرُهُ قَلَّ مَطْعَمُهُ وَمَنْ كَثُرَ مَطْعَمُهُ قَلَّ تَفَكُّرُهُ وَقَسَا قَلَبُهُ، وَقَالُوا: لَا تَدْخُلُ الْحِكْمَةُ مَعِدَةً مُلِئَتْ طَعَامًا وَمَنْ قَلَّ أَكْلُهُ قَلَّ شُرْبُهُ فَخَفَّ نَوْمُهُ فَظَهَرَتْ بَرَكَةُ عُمُرِهِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: أَهْلُ الشِّبَعِ فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْجُوعِ فِي الْآخِرَةِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ: أَشْبَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَجْوَعُكُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: جَوِّعُوا أَنْفُسَكُمْ لِوَلِيمَةِ الْفِرْدَوْسِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يَشْبَعْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ وَمَا كَانَ يَسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ طَعَامًا، وَلَا يَتَشَهَّاهُ إِنْ أَطْعَمُوهُ أَكَلَ وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ وَمَا سَقَوْهُ شَرِبَ، وَالْمَذْمُومُ هُوَ الشِّبَعُ الْمُثْقِلُ الْمُوجِبُ لِلْكَسَلِ الْمَانِعُ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنَّا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِنْ كُنَّا بِزِيَادَةِ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ، وَالْمَعْنَى إِنْ كُنَّا (آلَ مُحَمَّدٍ) بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي،

وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ خَبَرُ كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ لَيْسَ كَوْنَهُمْ آلَ مُحَمَّدٍ بَلْ قَوْلَهَا (نَمْكُثُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لَنَمْكُثُ (شَهْرًا) نَقَلَ الرَّضِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى لُزُومِ اللَّامِ فِي الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي خَبَرِ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُجَابُ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْغَالِبِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ نُسْخَةَ نَمْكُثُ بِلَا لَامٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نُسْخَةِ كُنَّا بِلَا أَنِ الْمُخَفَّفَةِ، وَعَكْسُهَا عَلَى عَكْسِهَا، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ لِأَجْلِ التَّلْفِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ يُرْفَعُ (آلُ مُحَمَّدٍ) ، قَالَ مِيرَكُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ (مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ) أَيْ: مَا نُوقِدُ نَارًا لِطَبْخِ شَيْءٍ وَخَبْزِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ بَيَانٌ لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ، أَوْ صِفَةٌ لِـ (شَهْرًا) بِحَذْفِ الرَّابِطِ (إِنْ هُوَ) أَيْ: مَا الْمَطْعُومُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: الْمَأْكُولِ لِقَوْلِهِ (إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ) وَفِي نُسْخَةٍ إِلَّا الْمَاءُ وَالتَّمْرُ إِيمَاءً إِلَى قِلَّةِ حُصُولِ التَّمْرِ، وَفِي أُخْرَى إِلَّا الْأَسْوَدَانِ يَتَغَلَّبُ التَّمْرُ وَإِلَّا فَالْمَاءُ لَا لَوْنَ لَهُ أَوْ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتْبَعُ مَا فِي الْإِنَاءِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى التَّمْرِ أَسْوَدُ لِأَنَّهُ غَالِبُ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَا كَانَ الْغِذَاءُ، ثُمَّ (آلَ مُحَمَّدٍ) يَشْمَلُهُ أَيْضًا قِيَاسًا أَوْلَوِيًّا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا شَهْرًا فَهُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى لِتَعَذُّرِ شِبَعِهِ دُونَهُمْ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ عِنْدَ الضِّيقِ يُؤْثِرُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِعَدَمِ وُجُودِ مَأْكُولٍ مَعَ نَفْيِ إِيقَادِ النَّارِ خَبْزًا وَطَبْخًا فَالْحَدِيثُ مُنَاسِبٌ لِلْبَابِ قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَارٌ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهَا (ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ) يَجُوزُ فِيهِ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ، وَقَوْلُهَا فِي شَهْرَيْنِ هُوَ بِاعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَوَّلَ الشَّهْرِ، ثُمَّ رُؤْيَتِهِ ثَانِيًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي، ثُمَّ رُؤْيَتِهِ ثَالِثًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ، فَالْمُدَّةُ سِتُّونَ يَوْمًا وَالْمَرْئِيُّ ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَلِهَذِهِ الرِّوَايَةِ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَمُرُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِلَالٌ، ثُمَّ هِلَالٌ لَا يُوقَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ نَارٌ لَا لِخَبْزٍ، وَلَا لِطَبِيخٍ قُلْتُ: وَلِلْحَدِيثِ تَتِمَّةٌ، قَالَ عُرْوَةُ قُلْتُ يَا خَالَةُ فَمَا كَانَ يُقِيتُكُمْ؟ قَالَتِ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ مِيرَكُ: وَجِيرَانُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَأَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَالْمَنَائِحُ بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ جَمْعُ مِنْحَةٍ، وَهِيَ الْعَطِيَّةُ لَفْظًا وَمَعْنًى، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ عُرْوَةُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ وَكَذَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا بِلَفْظِ كَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ مَا تُرَى فِي بَيْتِهِ نَارٌ انْتَهَى. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَةَ عَشَرَ لَيْلَةً مَا نُوقِدُ فِيهَا بِنَارٍ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ لَيَمُرُّ بِنَا الشَّهْرُ وَنِصْفُ الشَّهْرِ مَا يُوقَدُ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَارٌ لِمِصْبَاحٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فَالْجَمْعُ بِأَنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ مُكَرَّرًا فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَقَلَتْ عَائِشَةُ كُلَّ ذَلِكَ لِعُرْوَةَ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا تَمْرٌ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَمْلَأْ بَطْنَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ طَعَامَيْنِ كَانَ إِذَا شَبِعَ مِنَ التَّمْرِ لَمْ يَشْبَعْ مِنَ الشَّعِيرِ وَإِذَا شَبِعَ

مِنَ الشَّعِيرِ لَمْ يَشْبَعْ مِنَ التَّمْرِ، وَرَوَى الدِّمْيَاطِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي آلِ مُحَمَّدٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ وَإِنَّهَا لِتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ وَاللَّهِ مَا قَالَهَا اسْتِقْلَالًا لِرِزْقِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِ أُمَّتُهُ، قُلْتُ وَلْيَعْرِفُوا أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ يُعْجِبُهُ مِنَ الدُّنْيَا الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَالطَّعَامُ فَأَصَابَ الْأَوَّلَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُوعَ وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ) ذَكَرَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الطِّيبِيِّ أَنَّ عَنِ الْأُولَى مُتَعَلِّقٌ بِرَفَعْنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْكَشْفِ وَالثَّانِيَةُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَشَفْنَا ثِيَابَنَا عَنْ بُطُونِنَا كَشْفًا صَادِرًا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ، فَالْمَعْنَى لَكَ مِنَّا حَجَرٌ وَاحِدٌ رُفِعَ عَنْهُ فَالتَّكْرِيرُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُخْبِرِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ التَّنْكِيرُ فِي حَجَرٍ عَلَى النَّوْعِ أَيْ: حَجَرٍ مَشْدُودٍ عَلَى بُطُونِنَا فَيَكُونُ بَدَلًا، وَعَادَةُ مَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ وَخَمَصَ بَطْنُهُ أَنْ يَشُدَّ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ لِيَتَقَوَّمَ بِهِ صُلْبُهُ، قِيلَ وَلِئَلَّا يَنْتَفِخَ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: عَنْ حَجَرٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ عَمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ عَنْ حُسْنٍ خَارِقٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَزُعِمَ أَنَّ هَاهُنَا حَرْفَ عَطْفٍ حُذِفَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ بَلْ رُبَّمَا يَفْسُدُ الْمَعْنَى لِإِنْهَائِهِ حِينَئِذٍ أَنْ لِكُلٍّ حَجَرَيْنِ، وَكَذَا زُعِمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: عَنْ حَجَرٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ حَجَرٍ آخَرَ، فَالْحَجَرُ الْأَخِيرُ صِفَةُ الْأَوَّلِ، ثُمَّ مَا قِيلَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَمِيرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلَا ضَمِيرَ هُنَا، فَلَا يَصِحُّ الْبَدَلُ مَدْفُوعٌ بِتَقْدِيرِ مَشْدُودٍ عَلَيْهَا فَإِنَّ الضَّمِيرَ هُنَا مُقَدَّرٌ وَمَا قِيلَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ تَعَلُّقَ حَرْفَيْ جَرٍّ مُتَّحِدَيِ الْمَعْنَى بِعَامِلٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ رُدَّ بِأَنَّ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي حُكْمِ حَرْفٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الْمَطْرُوحِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مَعَ مَعْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ وَمَبْنَاهُ (فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَطْنِهِ عَنْ حَجَرَيْنِ) قَالَ صَاحِبُ الْمُظْهِرِ: عَادَةُ أَصْحَابِ الرِّيَاضَةِ وَكَذَا الْعَرَبُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إِذَا اشْتَدَّ جُوعُهُمْ وَخَلِيَتْ بُطُونُهُمْ أَنْ يَرْبُطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ كَيْلَا يَسْتَرْخِيَ بَطْنُهُ وَلِئَلَّا يَنْزِلَ أَمْعَاؤُهُ فَيَشُقَّ عَلَيْهِ التَّحَرُّكُ فَإِذَا يَرْبُطُ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ يَشْتَدُّ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَمَنْ كَانَ جُوعُهُ أَشَدَّ يَرْبُطُ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرَيْنِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَهُمْ جُوعًا وَأَشَدَّهُمْ رِيَاضَةً، فَرَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرَيْنِ، وَرَبَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَرًا، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: فِي رَبْطِ الْحَجَرِ عَلَى الْبَطْنِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ يَخُصُّ أَحْجَارًا بِالْمَدِينَةِ تُسَمَّى الْمُشْبِعَةَ، كَانُوا إِذَا جَاعَ أَحَدُهُمْ يَرْبُطُ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ بُرُودَةً تُسَكِّنُ الْجُوعَ وَحَرَارَتَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُقَالُ: لِمَنْ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ: ارْبُطْ عَلَى قَلْبِكَ حَجَرًا فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ، وَأَمَرَ أُمَّتَهُ هُوَ بِالصَّبْرِ قَالًا وَحَالًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، لَكِنْ كِلَاهُمَا لَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَرَادَ بِرَفْعِ الثَّوْبِ عَنْ حَجَرَيْنِ إِلَّا الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ جُوعَهُ أَشَدُّ فَلَا يُنَاسِبُهُ التَّسْلِيَةُ بِتَسْكِينِ الْجُوعِ وَحَرَارَتِهِ بِبُرُودَةِ الْحَجَرِ مَعَ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ عَنِ الْعَادَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الْمَدِينَةِ حَجَرٌ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ مَجَازٌ مَعْنَوِيٌّ وَفِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَادِرٌ عَنْ حَجَرٍ حَقِيقِيٍّ، وَقِيلَ حِكْمَةُ رَبْطِ الْحَجَرِ أَنَّهُ يُسَكِّنُ بَعْضَ أَلَمِ الْجُوعِ؛ لِأَنَّ حَرَارَةَ الْمَعِدَةِ الْغَرِيزِيَّةِ مَا دَامَتْ مَشْغُولَةً بِالطَّعَامِ قَلَّتِ الْحَرَارَةُ بِهِ، فَإِذَا نَفَذَ اشْتَغَلَتْ بِرُطُوبَاتِ الْجِسْمِ وَجَوَاهِرِهِ فَيَحْصُلُ التَّأَلُّمُ حِينَئِذٍ وَيَزْدَادُ مَا لَمْ يُضَمُّ إِلَى الْمَعِدَةِ الْأَحْشَاءُ وَالْجِلْدُ، فَإِنَّ نَارَهَا حِينَئِذٍ تَخْمُدُ بَعْضَ الْخُمُودِ، فَيَقِلُّ الْأَلَمُ انْتَهَى. فَيُفِيدُ أَنَّ شَدَّ الْحَجَرِ عَلَى قَدْرِ أَلَمِ الْجُوعِ فَكُلَّمَا زِيدَ زِيدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ المص (هَذَا) أَيِ: الْحَدِيثُ السَّابِقُ (حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ) أَيْ: غَرَابَتُهُ نَاشِئَةٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي طَلْحَةَ لَا مِنْ سَائِرِ الطُّرُقِ (

لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ يَعْنِي فَلَا يَضُرُّهُ الْغَرَابَةُ فَإِنَّهَا لَا تُنَافِي الْحُسْنَ وَالصِّحَّةَ، فَإِنَّ الْغَرِيبَ مَا يَتَفَرَّدُ بِرِوَايَتِهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ مِنْ رِجَالِ النَّقْلِ فَإِنْ كَانَ التَّفَرُّدُ بِرِوَايَةِ مَتْنِهِ فَهُوَ غَرِيبٌ مَتْنًا، وَإِنْ كَانَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُ كَأَنْ يُعْرَفُ عَنْ صَحَابِيٍّ فَيَرْوِيهِ عَدْلٌ وَحْدَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ فَهُوَ غَرِيبٌ إِسْنَادًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا (وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ كَانَ أَحَدُهُمْ يَشُدُّ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنَ الْجُهْدِ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا فَقِيلَ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ الْمُبَالَغَةُ وَالْغَايَةُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ فِي الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فَأَمَّا الْمَشَقَّةُ وَالْغَايَةُ فَالْفَتْحُ لَا غَيْرُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، ثُمَّ مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ الْجُهْدِ (وَالضَّعْفِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ، وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ، وَلِذَا قَالَ (الَّذِي بِهِ مِنَ الْجُوعِ) بِإِفْرَادِ الْمَوْصُولِ وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ لِلْمَوْصُولِ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْجُهْدِ وَالضَّعْفِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ نَاشِئٌ مِنَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ، هَذَا وَاسْتُشْكِلَ الْحَدِيثُ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُوَاصِلُوا، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ فَقَالَ إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى، وَفِي رِوَايَةٍ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي، وَفِي رِوَايَةٍ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي وَبِهَذَا تَمَسَّكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي حُكْمِهِ بِبُطْلَانِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجُوعُ وَيَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ، قَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْحُجَزُ بِالزَّايِ، وَهُوَ طَرَفُ الْإِزَارِ إِذْ مَا يُغْنِي الْحَجَرُ مِنَ الْجُوعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْجُوعِ خَاصٌّ بِالْمُوَاصَلَةِ فَإِذَا وَاصَلَ يُعْطَى قُوَّةَ الطَّاعِمِ وَالشَّارِبِ أَوْ يُطْعَمُ وَيُسْقَى حَقِيقَةً، وَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْمُوَاصَلَةِ فَلَا يَرِدُ فِيهِ ذَلِكَ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ عَلَى جُوعِهِ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الْمُوَاصَلَةِ إِذْ تَحَقُّقُ الْجُوعِ وَرَبْطُ الْحَجَرِ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ. مِنْهَا مَا سَبَقَ مَعَ اتِّفَاقِ الرُّوَاةِ وَاجْتِمَاعِ الْأُصُولِ عَلَى ضَبْطِ الْحَجَرِ بِالرَّاءِ، وَمِنْهَا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابَهُ جُوعٌ يَوْمًا فَعَمَدَ إِلَى حَجَرٍ فَوَضَعَهُ عَلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا رُبَّ نَفْسٍ طَاعِمَةٍ نَاعِمَةٍ فِي الدُّنْيَا جَائِعَةٌ عَارِيَةٌ، أَلَا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ، أَلَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُكْرِمٌ، وَمِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ: كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ، وَهِيَ بِضَمِّ كَافٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ قِطْعَةٌ صُلْبَةٌ فَجَاءُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ، فَقَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَّاقًا فَأَخَذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِعْوَلَ فَضَرَبَهُ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ، وَهُوَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، زَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَهَا ضَرْبَةً فَنَشَرَ ثُلُثَهَا، فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لِأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ، فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ الْآنَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِيَ السَّاعَةَ، وَمِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَعَ تَأَلُّمِهِ بِالْجُوعِ لِيُضَاعِفَ لَهُ الْأَجْرَ حَفِظَ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَصَانَ نَضَارَةَ جِسْمِهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ رَآهُ لَا يَظُنُّ بِهِ جُوعًا بَلْ كَانَ جِسْمُهُ الشَّرِيفُ وَوَجْهُهُ اللَّطِيفُ أَشَدَّ رَوْنَقًا وَبَهَاءً مِنْ أَجْسَادِ الْمُتْرَفِينَ، ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْجُوعِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ (مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّا كُنَّا نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ فَقَدْ كَذَبَكُمْ، فَلَمَّا فُتِحَتْ قُرَيْظَةُ أَصَبْنَا شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ وَالْوَدَكِ، وَهُوَ مُحَرَّكَةٌ الدَّسَمُ، وَمِنْهَا مِمَّا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ (حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَاعَةٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا) أَيْ: فِي وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ، فَالْجُمْلَةُ صِفَةُ سَاعَةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَلَا يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ) أَيْ: بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ فِي حُجْرَتِهِ وَمُلَاقَاتِهِ بِاعْتِبَارِ عَادَتِهِ (فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ خُرُوجِهِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا جَاءَ بِكَ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ (يَا أَبَا بَكْرٍ) وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّ عَادَةَ الصِّدِّيقِ أَيْضًا كَانَتْ عَلَى وَفْقَ عَادَةِ النَّبِيِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ إِلَّا حِينَ يَخْرُجُ (فَقَالَ خَرَجْتُ أَلْقَى) أَيْ: لَعَلِّي أَلْقَى (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أُرِيدُ ذَلِكَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. (وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ)

بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ، قَالَ مِيرَكُ: بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، أَيْ: أَلْقَى وَأَنْظُرُ وَأُرِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، وَبِالْجَرِّ أَيْ: وَأَتَشَرَّفُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ عَطْفٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عَلِّي أَلْقَى أَيْ: لِلِقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ انْتَهَى، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّصْبَ بِـ «أُسَلِّمُ» أَوْ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى أَيْ: أُرِيدُ اللِّقَاءَ وَالنَّظَرَ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ نِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ يَتَعَدَّدُ بِقَدْرِهَا الثَّوَابُ وَيَرْتَفِعُ بِمِقْدَارِهَا الْحِجَابُ (فَلَمْ يَلْبَثْ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (أَنْ جَاءَ عُمَرُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ أَيْ: لَمْ يَمْكُثِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنًا يَسِيرًا إِلَّا وَعُمَرُ قَدْ جَاءَ إِلَيْهِمَا، وَجَعَلَ ضَمِيرَ يَلْبَثُ لِعُمَرَ أَيْ: مَجِيئُهُ بَعِيدٌ وَيُؤَيِّدُ عَوْدَ الضَّمِيرِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِأَبِي بَكْرٍ قَوْلُهُ الْآتِي: فَلَمْ يَلْبَثُوا كَذَا أَفَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَمْرِيَّةٍ فِيهِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ هُنَا أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ هُوَ الْفَاعِلُ لِيَلْبَثَ، أَيْ: فَلَمْ يَلْبَثْ مَجِيءُ عُمَرَ بَلْ جَاءَ عُمَرُ سَرِيعًا بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى قَدْرِ مَكَانِهِمَا فِي زَمَانِهِمَا، وَأَمَّا جَعْلُ ضَمِيرِ «يَلْبَثْ» لِمَجِيءِ عُمَرَ فَخَطَأٌ فَاحِشٌ إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ فَلَمْ يَلْبَثْ مَجِيءُ عُمَرَ أَنْ جَاءَ عُمَرُ، فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ قَالَ الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: جَاءَ بِي الْجُوعُ أَوِ الْجُوعُ جَاءَ بِي، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا أَرَادَهُ الصِّدِّيقُ مِنَ اللُّقِيِّ وَالنَّظَرِ وَالتَّسْلِيمِ فَكَأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ الْأَصْلِيُّ أَنَّهُ غَيْرُ وَقْتِ عَادَةِ خُرُوجِهِ أَيْضًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ) أَيِ: الْجُوعَ، وَفِي نُسْخَةٍ: ذَلِكَ بِغَيْرِ لَامٍ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَجَاذُبِ الْقُلُوبِ بِتَوْفِيقِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَتَوَافُقِ الْحَالِ بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا. فَقِيلَ هُمَا قَضِيَّتَانِ أَوْ لَمَّا جَاءَ عُمَرُ وَذَكَرَ الْجُوعَ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَيْضًا، وَبَعْضُ الزِّيَادَاتِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَحْذُوفَةٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ جَائِعًا فَلَمْ يَجِدْ فِي أَهْلِهِ شَيْئًا يَأْكُلُهُ وَأَصْبَحَ أَبُو بَكْرٍ جَائِعًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ: آتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلِّي أَجِدُ عِنْدَهُ شَيْئًا آكُلُهُ، فَأَتَاهُ فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَبَا بَكْرٍ أَصْبَحْتَ جَائِعًا فَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَأْكُلُهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ اقْعُدْ وَأَصْبَحَ عُمَرُ. . . الْحَدِيثَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: رُئِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْضِعٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْرَجَكَ؟ فَقَالَ الْجُوعُ، قَالَ وَأَنَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ أَخْرَجَنِي الْجُوعُ، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ. . . الْحَدِيثَ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ لِكَمَالِ الْإِيثَارِ، فَفَقْرُهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى طَرِيقِ الِاضْطِرَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ لَا يَا رَبِّ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ. رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ ذَلِكَ لِيَكُونَ مَقَامُهُ فِي دَرَجَةِ الْكَمَالِ وَحَالُهُ بَيْنَ تَرْبِيَتَيْ صِفَتَيِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ وَجِبْرِيلُ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا جِبْرِيلُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَمْسَى لِآلِ مُحَمَّدٍ سُفَّةٌ مِنْ دَقِيقٍ، وَلَا كَفٌّ مِنْ سَوِيقٍ فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ سَمِعَ هَدَّةً مِنَ السَّمَاءِ أَفْزَعَتْهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ اللَّهُ الْقِيَامَةَ أَنْ تَقُومَ؟ قَالَ لَا وَلَكِنَّ إِسْرَافِيلَ نَزَلَ إِلَيْكَ حِينَ سَمِعَ كَلَامَكَ، فَأَتَاهُ إِسْرَافِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَمِعَ مَا ذَكَرْتَ فَبَعَثَنِي إِلَيْكَ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ أُسَيِّرُ مَعَكَ جِبَالَ تِهَامَةَ زُمُرُّدًا وَيَاقُوتًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً فَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ نَبِيًّا عَبْدًا ثَلَاثًا فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، لَكِنْ قَالَ الْحَلِيمِيُّ كَمَا فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ تَعْظِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يُوصَفَ بِمَا هُوَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ أَوْصَافِ الضِّعَةِ، فَلَا يُقَالُ:

كَانَ فَقِيرًا: وَنَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنِ الشِّفَاءِ وَأَقَرَّهُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْأَنْدَلُسِ أَفْتَوْا بِقَتْلِ مَنِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّاهُ أَثْنَاءَ مُنَاظَرَتِهِ بِالْيَتِيمِ، وَزَعَمَ أَنَّ زُهْدَهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الطَّيِّبَاتِ لَأَكَلَهَا، وَأَمَّا خَبَرُ الْفَقْرِ فَخْرِيٌّ وَبِهِ افْتَخَرَ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحُفَّاظُ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْأَلَمِ وَنَحْوِهِ مِنْ حِكَايَةِ الْجُوعِ وَقِلَّةِ الْمَأْكُولِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّوَكُّلَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ شَكْوًى أَوْ جَزَعًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ فَتْحِ الْفُتُوحِ، وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ رَاوِيًا أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ الْقَضِيَّةَ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهَا، قُلْنَا هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا ضَرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، نَعَمْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَقَلَّبُ فِي الْيَسَارِ تَارَةً، وَفِي الْعَسَارِ أُخْرَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَتُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ فَكَانَ إِذَا أَيْسَرَ يَنْفَدُ مَا عِنْدَهُ لِإِخْرَاجِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَكَذَا كَانَ خُلُقُ صَاحِبَيْهِ، بَلْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ (فَانْطَلَقُوا) أَيْ: ذَهَبُوا وَتَوَجَّهُوا (إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ) وَاسْمُهُ مَالِكٌ (ابْنِ التِّيهَانِ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ، وَهُوَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقِيلَ عَتِيكُ بْنُ عَمْرٍو (الْأَنْصَارِيِّ) قِيلَ هُوَ قُضَاعِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، فَالْقَضِيَّةُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لَهُمَا، وَعَلَى كُلٍّ فَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِذْ أَهَّلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ وَجَعَلَهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ صَدِيقِكُمْ (وَكَانَ) أَيْ: أَبُو الْهَيْثَمِ (رَجُلًا كَثِيرَ النَّخْلِ) وَاحِدُهُ نَخْلَةٌ وَزِيدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ (وَالشَّاءِ) بِالْهَمْزِ جَمْعُ شَاةٍ بِالتَّاءِ فَفِي النِّهَايَةِ أَصْلُ الشَّاةِ شَاهَةٌ حُذِفَ لَامُهَا وَجَمْعُهَا شِيَاهٌ وَشَاءٌ وَتَصْغِيرُهَا شُوَيْهَةٌ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ) بِفَتْحَتَيْنِ، جَمْعُ خَادِمٍ، وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ الْجَمْعِ بَلِ الْإِفْرَادَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (فَلَمْ يَجِدُوهُ) أَيْ: فِي مَكَانِهِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى خُرُوجِهِ بِسَبَبِ خِدْمَةِ عِيَالِهِ، (فَقَالُوا لِامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟) وَهُوَ أَحْسَنُ عِبَارَةً مِنْ زَوْجِكِ (فَقَالَتِ: انْطَلَقَ) أَيْ: ذَهَبَ (يَسْتَعْذِبُ) أَيْ: لَنَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (الْمَاءَ) وَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْذَابَ طَلَبُ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَيُقَالُ: اسْتَعْذَبَ لِفُلَانٍ إِذَا اسْتَسْقَاهُ لَهُ، وَالِاسْتِسْقَاءُ نَزْحُ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الْعَذْبُ الْمَاءُ الطَّيِّبُ الَّذِي لَا مُلُوحَةَ فِيهِ، وَقَدْ عَذُبَ عُذُوبَةً وَاسْتَعْذَبَ الْقَوْمُ مَاءَهُمْ إِذَا اسْتَسْقَوْهُ عَذْبًا وَاسْتَعْذَبَهُ أَيْ: أَعَدَّهُ عَذْبًا، فَالْمَعْنَى يَجِيءُ لَنَا بِالْمَاءِ الْعَذْبِ وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْحُلْوِ الْبَارِدِ يُخْلِصُ الْحَمْدَ لِلَّهِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الْمَاءِ الْحُلْوِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّنَعُّمِ الْمُنْقِصِ لِمَقَامِ الْعُقْبَى، وَزَادَ مُسْلِمٌ: فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا (فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ) أَيْ: إِلَى أَنْ جَاءَ أَوْ لِأَنْ جَاءَ (أَبُو الْهَيْثَمِ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ انْتِظَارٌ كَثِيرٌ، بَلْ وَقَعَ لَهُمْ مُكْثٌ يَسِيرٌ لِقُرْبِ مَجِيئِهِ مِنْ مَجِيئِهِمْ إِلَى مَنْزِلِهِ فَجَاءَ (بِقِرْبَةٍ) أَيْ: أَتَى بِهَا، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (يَزْعَبُهَا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ

الْمُهْمَلَةِ مِنْ زَعَبَ الْقِرْبَةَ إِذَا مَلَأَهَا، وَقِيلَ حَمَلَهَا مُمْتَلِئَةً، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، أَيْ: يَتَدَافَعُ بِهَا وَيَحْتَمِلُهَا لِثِقَلِهَا، وَقِيلَ يَزْعَبُ بِحَمْلِهِ إِذَا اسْتَقَامَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: الزَّعْبُ الدَّفْعُ وَزَعَبْتُهُ عَنِّي دَفَعْتُهُ، وَأَزْعَبْتُ الشَّيْءَ إِذَا حَمَلْتُهُ، وَجَاءَنَا سَيْلٌ يَزْعَبُ زَعْبًا أَيْ: يَتَدَافَعُ فِي الْوَادِي (فَوَضَعَهَا) أَيِ: الْقِرْبَةَ (ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: يَعْتَنِقُهُ (وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرِ دَالٍ مُخَفَّفَةٍ فَفِي الْقَامُوسِ فَدَاهُ تَفْدِيَةً إِذَا قَالَ لَهُ جُعِلْتُ فَدَاكَ، فَالْمَعْنَى يَقُولُ: لَهُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَالرِّوَايَةُ هُنَا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَلَوْ قُرِئَ يَفْدِيهِ مُخَفَّفًا عَلَى وَزْنِ يَرْمِيهِ لَكَانَ صَحِيحًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ يَفْدِيهِ كَيَرْمِيهِ، وَفِي أُخْرَى يُفْدِيهِ مِنَ الْإِفْدَاءِ، وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ، قُلْتُ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِفَسَادِ الْمَعْنَى إِذِ الْمَعْنَى فَدَاهُ بِالتَّخْفِيفِ أَعْطَى شَيْئًا فَأَنْفَدَهُ كَفَادَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَتَفْدُوهُمْ بِالْقِرَاءَتَيْنِ، وَيُقَالُ: أَفَدَى الْأَسِيرَ إِذَا قَبِلَ مِنْهُ فِدْيَتَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقَامُوسِ، فَلَا شَكَّ فِي فَسَادِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَيُحْكَمُ عَلَى النُّسْخَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ، لَكِنْ نَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الصِّحَاحِ فَدَاهُ بِنَفْسِهِ وَفَدَاهُ تَفْدِيَةً إِذَا قَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَهُوَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، فَالتَّخْفِيفُ مِنَ الْمُجَرَّدِ لَهُ وَجْهٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِلِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ بِخِلَافِ التَّخْفِيفِ مِنَ الْمَزِيدِ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حِينَ جَاءَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَجِدُ الْيَوْمَ أَكْرَمَ ضَيْفًا مِنِّي (ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ) أَيْ: ذَهَبَ مَعَهُمْ، فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَلَا مَعْنَى لِتَرْدِيدِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهَا لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ لِعَدَمِ مُلَايَمَتِهِ لِمَقَامِ أَكْرَمِ الْكِرَامِ، وَالْحَدِيقَةُ هِيَ الرَّوْضَةُ ذَاتُ الشَّجَرِ، وَيُقَالُ: هِيَ كُلُّ بُسْتَانٍ لَهُ حَائِطٌ (فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، أَيْ: فَرَشَ لَهُمْ فِرَاشًا (ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ) أَيْ: مِنْ نَخِيلِهِ (فَجَاءَ بِقِنْوٍ) بِكَسْرِ قَافٍ وَسُكُونِ نُونٍ، أَيْ: بِغَدَقٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ الْغُصْنُ مِنَ النَّخْلِ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، وَقِيلَ الْقِنْوُ مِنَ التَّمْرِ بِمَنْزِلَةِ الْعُنْقُودِ مِنَ الْعِنَبِ (فَوَضَعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَلَا تَنَقَّيْتَ) مِنَ التَّنَقِّي، وَهُوَ التَّخْيِيرُ وَإِفْرَادُ الْجَيِّدِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٌ، أَيْ: أَسْرَعْتَ، أَفَلَا تَنَقَّيْتَ لَنَا (مِنْ رُطَبِهِ) أَيْ: وَتَرَكْتَ مَا فِيهِ مِنَ الْبُسْرِ حَتَّى يُرَطِّبَ فَيُنْتَفَعُ بِهِ (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا) أَيْ: أَنْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ (أَوْ تَخَيَّرُوا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ: تَتَخَيَّرُوا وَأَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ وَالتَّخْيِيرَ بِمَعْنَى التَّنْقِيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ أَنْ تَخَيَّرُوا بِإِعَادَةِ أَنْ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ تَخَيَّرُوا أَوْ تَخْتَارُوا بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ «أَوْ» لِلتَّنْوِيعِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَتَكَلَّفَ تَكَلُّفًا صَارَ تَعَسُّفًا، ثُمَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ (مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ) لِلِابْتِدَاءِ وَالْغَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَارَةً مِنْ رُطَبِهِ وَأُخْرَى مِنْ بُسْرِهِ بِحَسَبِ اشْتِهَاءِ الطَّبْعِ أَوْ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ فِي الْمَيْلِ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا وَأَمَّا تَرْجِيحُ التَّبْعِيضِ بِأَنَّهُ قَصَدَ إِبْقَاءَ بَعْضِهِ عِنْدَهُ لِيَتَبَرَّكَ بِهِ فَلَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِيهِ نَدْبُ إِحْضَارِ مَا حَضَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ وَاسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ؛ لِأَنَّهَا أَسْرَعُ هَضْمًا مِنْ غَيْرِهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (فَأَكَلُوا) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْغَدَقِ (وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا) أَيِ: الْمُقَدَّمُ لَنَا (

وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَيْ: بِقُدْرَتِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي يَدِهِ، وَلِأَجْلِ تَأْكِيدِ الْحُكْمِ وَسَّطَ الْقَسَمَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أَيِ: الَّذِي يُتَنَعَّمُ بِهِ، وَالْمُرَادُ: بِالسُّؤَالِ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ السُّؤَالَ هُنَا سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ، وَإِعْلَامِهِ بِالِامْتِنَانِ، وَإِظْهَارِ كَرَمِهِ بِإِسْبَاغِهَا، لَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَمُحَاسَبَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَلَمَّا شَبِعُوا وَرَوَوْا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ، وَفِيهِ جَوَازُ الشِّبَعِ، وَمَا وَرَدَ فِي ذَمِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى شِبَعٍ مُضِرٍّ، أَوْ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ؛ لِأَنَّهُ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُكْسِلُ الْبَدَنَ وَيُنْسِي الْإِخْوَانَ الْمُحْتَاجِينَ (ظِلٌّ بَارِدٌ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِلْمُبْتَدَأِ الْمَذْكُورِ، أَوْ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، وَالْجُمْلَةُ قَامَتْ مَقَامَ التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَرُطَبٌ طَيِّبٌ) تَذْكِيرُ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّطَبَ لَيْسَ بِجَمْعٍ بَلْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَلَعَلَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْبُسْرِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الرُّطَبِ عَلَيْهِ، أَوْ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ الْبُسْرِ، (وَمَاءٌ بَارِدٌ) أَيْ: وَحُلْوٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ قَوْلَهُ ظِلٌّ بَارِدٌ إِلَى آخِرِهِ بَدَلٌ مِنْ هَذَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ، وَكَانَ عَدَمُ ذِكْرِ الْبُسْرِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَخْتَارُوا مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ (فَانْطَلَقَ) أَيْ: فَأَرَادَ الِانْطِلَاقَ (أَبُو الْهَيْثَمِ لِيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا) أَيْ: مَطْبُوخًا مَصْنُوعًا عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ الطَّعَامُ عَلَى الْفَاكِهَةِ لُغَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: الطَّعَامُ الْبُرُّ وَمَا يُؤْكَلُ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ نَحْوَ الرُّطَبِ فَاكِهَةٌ لَا طَعَامٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ طَعَامًا مَصْنُوعًا لَا مُطْلَقًا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ (لِيَصْنَعَ) عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ طَعَامًا آخَرَ فَتَدَبَّرْ، وَأَجَابَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْهُ بِمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا، هَذَا مَعَ أَنَّهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الرُّطَبَ وَالرُّمَّانَ لَيْسَا بِفَاكِهَةٍ، بَلِ الرُّطَبُ غِذَاءٌ وَالرُّمَّانُ دَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْفَاكِهَةُ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ تَلَذُّذًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ، وَإِنِ احْتَمَلَ كَوْنَهُ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَذْبَحَنَّ لَنَا) قَالَ مِيرَكُ: لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِمَ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ لَهُمْ شَاةً فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَذْبَحَنَّ لَنَا (ذَاتَ دَرٍّ) بِفَتْحِ دَالٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ، أَيْ: لَبَنٍ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ تَكُونَ حَامِلًا، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَبْحِهَا شَفَقَةً عَلَى أَهْلِهَا بِانْتِفَاعِهِمْ بِاللَّبَنِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِهَا وَمِنْ ثَمَّةَ لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا هِيَ لَمْ يَتَوَجَّهْ هَذَا النَّهْيُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ نَهْيُ إِرْشَادٍ وَمُلَاطَفَةٍ، فَلَا كَرَاهَةَ فِي الْمُخَالَفَةِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَإِنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِصُدُورِ نَحْوِ ذَلِكَ النَّهْيِ مِنْهُ، ثُمَّ لَيْسَ هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ الْمَكْرُوهِ لِلسَّلَفِ احْتَاجَ إِلَى تَكَلُّفِ السَّلَفِ، أَوْ إِذَا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُضِيفِ وَكِلَاهُمَا مَفْقُودَانِ هُنَا مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَغَ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ الْأَضْيَافُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ نَظِيرٌ فِي الْعَالَمِ مَعَ نُدُورِ حُصُولِ هَذَا الْمُغْتَنَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقًا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ (أَوْ جَدْيًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ الذَّكَرُ

مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَنَةً (فَأَتَاهُمْ بِهَا فَأَكَلُوا) مِنْهَا أَيْ: بَعْضَهَا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لَكَ خَادِمٌ) أَيْ: غَائِبٌ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى سُؤَالِهِ رُؤْيَتُهُ لَهُ، وَهُوَ يَتَعَاطَى خِدْمَةَ بَيْتِهِ بِنَفْسِهِ (قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: مَسْبِيٌّ مِنَ الْأُسَارَى عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً (فَأْتِنَا) فَاحْضُرْنَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ كَرَمِهِ وَجُودِهِ حَيْثُ عَزَمَ عَلَى إِحْسَانِهِ وَمُكَافَأَتِهِ بِوَعْدِهِ (فَأُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: فَجِيءَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسَيْنِ) أَيْ: بِأَسِيرَيْنِ اثْنَيْنِ (لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ) تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ) أَيِ اتِّفَاقًا، أَوْ بِالْقَصْدِ بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَرْ مِنْهُمَا) أَيْ: وَاحِدًا (فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي) أَيْ: أَنْتَ فَإِنَّ اخْتِيَارَكَ لِي خَيْرٌ مِنِ اخْتِيَارِي لِنَفْسِي، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ عَقْلِهِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ وَفَضْلِهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا، فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ سَمُرَةَ، وَزَادَ إِنْ شَاءَ أَشَارَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشِرْ، وَفِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَزَادَ فَإِذَا اسْتُشِيرَ فَلْيُشِرْ بِمَا هُوَ صَانِعٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ الِاسْتِشَارَةُ اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ مِنْ قَوْلِهِمْ شُرْتُ الْعَسَلَ إِذَا أَخْرَجْتَهَا مِنْ خَلَايَاهَا، وَالِاسْمُ الْمَشُورَةُ وَالْمَشْوَرَةُ، وَهُمَا لُغَتَانِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنِ اسْتَشَارَ ذَا رَأْيٍ فِي أَمْرٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَجْهُ صَلَاحِهِ فَقَدِ ائْتَمَنَهُ وَاسْتَشْفَى بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ بِمَا يَرَاهُ النُّصْحَ فِيهِ، وَلَوْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَشَارَ أَمِينٌ فِيمَا يَسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ وَامْتِنَاعِ نَصِيحَتِهِ (خُذْ هَذَا) إِشَارَةً إِلَى أَحَدِ الرَّأْسَيْنِ (فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي) أَيْ: وَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِأَمْرِهِ وَدَلِيلٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ (وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا) أَمْرُ مُخَاطَبٍ عَطْفًا عَلَى خُذْ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتَوْصَى بِمَعْنَى أَوْصَى إِذَا أَمَرَ أَحَدًا بِشَيْءٍ وَيُعَدَّى بِالْبَاءِ، أَيْ: مُرْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَعِظْهُ مَعْرُوفًا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنِ اسْتَوْصَى إِذَا قَبِلَ وَصِيَّتَهُ أَحَدٌ، أَيْ: قَبِلَ وَصِيَّتِي فِي شَأْنِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقِيلَ أَيِ اطْلُبِ الْوَصِيَّةَ وَالنَّصِيحَةَ لَهُ عَنْ نَفْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ السِّينَ لِلطَّلَبِ مُبَالَغَةً وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقَالَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ. الْكَشَّافُ السِّينُ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: يَسْأَلُونَ أَنْفُسَهُمُ الْفَتْحَ عَلَيْهِمْ كَالسِّينِ فِي اسْتَعْجَبَ، أَقُولُ الْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَى يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ، أَيْ: يَطْلُبُونَ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا أَعْدَاءً لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَعَالِمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ ; أَيْ: تَجَرَّدْ بِهِ عَنْ نَفْسِكَ شَخْصًا وَاطْلُبْ مِنْهُ الْمَعْرُوفَ وَالْخَيْرَ بِهِ، ثُمَّ انْتِصَابُ مَعْرُوفًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: اسْتِيصَاءً مَعْرُوفًا، وَفِي نُسْخَةٍ وَاسْتَوْصَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي، أَيِ اسْتَوْصَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْعَبْدِ مَعْرُوفًا (فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ) أَيْ: فَذَهَبَ بِهِ (إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ) مَا أَنْتَ) أَيْ: لَوْ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ مِنَ الْمَعْرُوفِ بِهِ، مَا أَنْتَ (بِبَالِغٍ) أَيْ: بِوَاصِلٍ (مَا قَالَ فِيهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مِنَ الْمَعْرُوفِ (إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهُ) مِنَ الْعَتَاقِ، وَالْخِطَابُ لِأَبِي الْهَيْثَمِ (قَالَ فَهُوَ) أَيْ: فَإِذَا هُوَ (عَتِيقٌ) أَيْ: مَعْتُوقٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: فَبِسَبَبِ مَا قُلْتُهُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ هُوَ عَتِيقٌ فَرَّعَهُ عَلَى قَوْلِهَا إِعْلَامًا بِأَنَّ لَهَا تَسَبُّبًا عَظِيمًا فِي عِتْقِهِ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بَعْدَ مَا أُخْبِرَ بِالْقَضِيَّةِ، وَإِبْهَامُ الْمُخْبِرِ أَوْلَى مِمَّا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ تَعْيِينِ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا، وَلَا خَلِيفَةً) أَيْ: مِنَ الْخُلَفَاءِ أَوِ الْعُلَمَاءِ أَوِ الْأُمَرَاءِ (

إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، تَثْنِيَةُ بِطَانَةٍ، وَهِيَ الْمُحِبُّ الْخَالِصُ لِلرَّجُلِ، مُسْتَعَارٌ مِنْ بِطَانَةِ الثَّوْبِ، وَهِيَ خِلَافُ الظِّهَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ وَلِيجَتُهُ، وَهِيَ دَاخِلَةُ أَمْرِهِ وَصَاحِبُ سِرِّهِ الَّذِي يُشَاوِرُهُ فِي أَحْوَالِهِ، عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُوَ الَّذِي يُعَرِّفُهُ الرَّجُلُ أَسْرَارَهُ ثِقَةً بِهِ، شُبِّهَ بِبِطَانَةِ الثَّوْبِ كَمَا شُبِّهَ بِالشِّعَارِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَفِي الصِّحَاحِ يُقَالُ: بَطَنْتَ الرَّجُلَ إِذَا جَعَلْتَهُ مِنْ خَوَاصِّكَ (بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ) أَيْ: لَا تَمْنَعُهُ (خَبَالًا) أَيْ: فَسَادًا أَيْ: مِنْ فَسَادٍ يَفْعَلُهُ، أَوْ لَا تُقَصِّرُ فِي حَقِّهِ عَنْ إِدْخَالِ الْخَبَالِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا الْكَشَّافُ: يُقَالُ: أَلَا فِي الْأَمْرِ يَأْلُو إِذَا قَصَّرَ فِيهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ لَا آلُوكَ نُصْحًا، وَلَا آلُوكَ جُهْدًا، عَلَى التَّضْمِينِ، أَيْ: تَضْمِينِ مَعْنَى الْمَنْعِ أَوِ النَّقْصِ، وَالْمَعْنَى لَمْ أَمْنَعْكَ نُصْحًا، وَلَا أَنْقُصُكَ جُهْدًا (وَمَنْ يُوقَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ وَقَى يَقِي أَيْ: مَنْ يُحْفَظُ (بِطَانَةَ السَّوْءِ) بِفَتْحِ السِّينِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ فَفِيهِ لُغَتَانِ كَمَا فِي الْكُرْهِ وَالضَّعْفِ إِلَّا أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ غَلَبَتْ مَعَ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهَا مَا يُرَادُ ذَمُّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَّا السَّوْءُ فَجَارٍ مَجْرَى الشَّرِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْخَيْرِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ (فَقَدْ وُقِيَ) مَاضٍ مَجْهُولٌ أَيْ: حُفِظَ مِنَ الْفَسَادِ أَوْ جَمِيعِ الْأَسْوَاءِ وَالْمَكَارِهِ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ. (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ) بِضَمِّ مِيمٍ فَجِيمٍ، ثُمَّ كَسْرِ لَامٍ (ابْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنِي أَبِي) أَيْ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ (عَنْ بَيَانٍ) بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ، وَهُوَ ابْنُ بِشْرٍ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ، (حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ حَازِمٍ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ (قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَقِيلَ وُهَيْبٍ (يَقُولُ إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ) أَهَرَاقَ) بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِهَا، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُهَا، وَفِي أُخْرَى هَرَاقَ بِلَا هَمْزٍ أَيْ: أَرَاقَ وَصَبَّ (دَمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ شَجَّةٍ شَجَّهَا لِمُشْرِكٍ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِصَلَاتِهِمْ فِي الشِّعَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي نَفَرٍ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مُشْرِكُونَ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَعَابُوهُمْ وَاشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمْ فَضَرَبَ سَعْدٌ رَجُلًا مِنْهُمْ بَلَحَى بِعِيرٍ فَشَجَّهُ فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ أُرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ (وَإِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ) أَوْ مِنَ الْعَرَبِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ (رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ مِيرَكُ: ذَكَرَ أَكْثَرُ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي أَنَّ أَوَّلَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَبْوَاءُ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ يُرِيدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَرَوَى ابْنُ عَائِذٍ فِي مَغَازِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَلَغَ الْأَبْوَاءَ بَعَثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَيِ ابْنَ الْمُطَّلِبِ وَعَقَدَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلَ لِوَاءٍ، وَهُوَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ فِي سِتِّينَ رَجُلًا، أَيْ: مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَقُوا جَمْعًا أَيْ: كَثِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ قِيلَ أَمِيرُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ، فَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَخَالَفَهُ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: فَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَالْأَبْوَاءُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمَدِّ قَرْيَةٌ، كَذَا ذَكَرَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ مَوْضِعٌ، وَفِي النِّهَايَةِ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُ بَلَدٌ يُنْسَبُ

إِلَيْهِ انْتَهَى. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَلَا يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقِتَالِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يُنَافِي رَمْيَ وَاحِدٍ مِنْ جَانِبٍ (لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أَيْ: أَبْصَرْتُ نَفْسِي (أَغْزُ وَفِي الْعِصَابَةِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَكَذَا الْعُصْبَةُ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا (مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَأْكُلُ) أَيْ: شَيْئًا (الْأَوْرَاقَ الشَّجَرَ وَالْحُبْلَةَ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ ثَمَرَةُ السَّمُرَةِ يُشْبِهُ اللُّوبِيَا، وَقِيلَ ثَمَرَةُ الْعَضَاةِ، وَالْعَضَاةُ كُلُّ شَجَرٍ يَعْظُمُ وَلَهُ شَوْكٌ، وَالسَّمُرُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ مَجْرُورَةٌ (حَتَّى أَنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ وَالْبَعِيرُ) يُرِيدُ أَنَّ فَضَلَاتِنَا لِعَدَمِ الْغِذَاءِ الْمَعْرُوفِ وَالطَّعَامِ الْمَأْلُوفِ يُشْبِهُ أَرْوَاثَهُمَا لِيَبَسِهِمَا، وَهَذَا كَانَ فِي غَزْوَةِ الْخَبَطِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَأَمِيرُهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ، زَوَّدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِرَابَ تَمْرٍ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِيهِمْ حَفْنَةً حَفْنَةً، ثُمَّ قَلَّلَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ صَارَ يُعْطِيهِمْ تَمْرَةً تَمْرَةً، ثُمَّ أَكَلُوا الْخَبَطَ حَتَّى صَارَ أَشْدَاقُهُمْ كَأَشْدَاقِ الْإِبِلِ، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهِمُ الْبَحْرُ سَمَكَةً عَظِيمَةً جِدًّا فَأَكَلُوا مِنْهَا شَهْرًا أَوْ نِصْفَهُ، وَقَدْ وُضِعَ ضِلْعٌ مِنْهَا فَدَخَلَ تَحْتَهُ بَعِيرٌ بِرَاكِبِهِ، وَاسْمُهَا الْعَنْبَرُ، وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ، أَيْ: لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سَعْدٌ، فِي غَزَاةٍ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْحُبْلَةُ. . . الْحَدِيثَ، فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَعُنْوَانِ الْبَابِ ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ مَعَ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَيْضًا دَلَالَةٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّ ضِيقَ عَيْشِ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى ضِيقِ عَيْشِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوسِعًا لَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا اكْتَفَى بِجِرَابِ تَمْرٍ فِي زَادِ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَارِبِينَ، (وَأَصْبَحَتْ) أَيْ: صَارَتْ (بَنُو أَسَدٍ) وَهُمْ قَبِيلَةٌ (يُعَزِّرُونَنِي فِي الدِّينِ) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى الدِّينِ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ الْمَكْسُورَةِ مِنَ التَّعْزِيرِ بِمَعْنَى التَّأْدِيبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ نُونِ الرَّفْعِ، وَفِي أُخْرَى بِصِيغَةِ الْوَاحِدَةِ الْغَائِبَةِ بِنَاءً عَلَى تَأْنِيثِ الْقَبِيلَةِ، أَيْ: يُوَبِّخُونَنِي بِأَنِّي لَا أُحْسِنُ الصَّلَاةَ، وَيُعْلِمُونَنِي بِآدَابِهَا مَعَ سَبْقِي فِي الْإِسْلَامِ، وَدَوَامِ مُلَازَمَتِي لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَقَدْ خِبْتُ) بِكَسْرِ خَاءٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ، فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْخَيْبَةِ بِمَعْنَى الْخُسْرَانِ وَالْحِرْمَانِ، أَيْ: لَقَدْ حُرِمْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَخَسِرْتُ (إِذَا) أَيْ: إِنْ كُنْتُ مُحْتَاجًا لِتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ (وَضَلَّ) أَيْ: ضَاعَ وَبَطَلَ (عَمَلِي) وَفِي إِحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ وَضَلَّ سَعْيِي كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ وَضَلَّ عَمَلِي، وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، أَيْ: نَمَوْا وَشَكَوْا إِلَيْهِ عَنْهُ حِينَ كَانَ أَمِيرًا بِالْبَصْرَةِ، وَالْوِشَايَةُ السِّعَايَةُ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْإِسْلَامِ وَالدِّينِ إِيذَانًا بِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَبُو نَعَامَةَ) بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْأَصْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَفِي الْمُغْنِي: يَزِيدُ بْنُ نُعَامَةَ بِضَمِّ النُّونِ وَأَبُو نَعَامَةَ بِفَتْحِ النُّونِ اسْمُهُ عِيسَى بْنُ سَوَادَةَ ثِقَةٌ (الْعَدَوِيُّ) بِفَتْحَتَيْنِ (قَالَ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَشُوَيْسًا) بِمُعْجَمَةٍ، ثُمَّ مُهْمَلَةٍ (أَبَا الرُّقَادِ) بِضَمٍّ فَقَافٍ مُخَفَّفَةٍ (قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) أَيْ: فِي أَوَاخِرِ خِلَافَتِهِ (عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ زَايٍ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مُهَاجِرِيٌّ بَدْرِيٌّ (وَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ (انْطَلِقْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) أَيْ: مِنَ الْعَسْكَرِ (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ) أَيْ: أَبْعَدِهَا (وَأَدْنَى بِلَادِ أَرْضِ الْعَجَمِ) أَيْ: أَقْرَبِهَا إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا غَايَةُ سَيْرِكُمْ (فَأَقْبَلُوا) فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْإِقْبَالِ أَيْ: تَوَجَّهُوا (

حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمِرْبَدِ) بِكَسْرِ مِيمٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ مِنْ رَبَدَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ فِيهِ، وَرَبَدَهُ إِذَا حَبَسَهُ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُحْبَسُ فِيهِ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ، أَوْ يُجْمَعُ فِيهِ الرُّطَبُ حَتَّى تَجِفَّ، وَبِهِ سُمِّيَ مِرْبَدُ الْبَصْرَةِ (وَجَدُوا هَذَا الْكَذَّانَ) بِفَتْحِ كَافٍ وَتَشْدِيدِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ حِجَارَةٌ رَخْوَةٌ بِيضٌ كَأَنَّهَا مَدَرٌ وَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ أَوْ زَائِدَةٌ، وَالْبَصْرَةُ أَيْضًا حِجَارَةٌ رَخْوَةٌ مَائِلَةٌ إِلَى الْبَيَاضِ (فَقَالُوا) أَيْ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (مَا هَذِهِ) أَيْ: اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ (هَذِهِ الْبَصْرَةُ) أَيْ: قَالُوا كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةً، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، ثُمَّ الْبَصْرَةُ بَنَاهَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَنَةَ سَبْعَ عَشَرَ وَسَكَنَهَا النَّاسُ سَنَةَ ثَمَانِ عَشَرَ، قِيلَ وَلَمْ يُعْبَدْ بِأَرْضِهَا صَنَمٌ، وَيُقَالُ لَهَا قُبَّةُ الْإِسْلَامِ وَخِزَانَةُ الْعَرَبِ، وَالنِّسْبَةُ بَصْرِيٌّ عَلَى الْقِيَاسِ، وَأَكْثَرُ السَّمَاعِ بِالْكَسْرِ، وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ ضَمَّهَا، وَالْبَصْرَتَانِ الْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ (فَسَارُوا) أَيْ: فَتَعَدَّوْا عَنْهَا وَسَارُوا (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا أَحِيَالَ الْجِسْرِ الصَّغِيرِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَتَحْتِيَّةٌ أَيْ: تِلْقَاءَهُ، وَمُقَابِلَهُ وَالْجِسْرُ بِكَسْرِ الْجِيمِ مَا يُبْنَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَيُرَكَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْوَاحِ وَالْحَشْيَانِ لِيَعْبُرُوا عَلَيْهِ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (هَاهُنَا) أَيْ: فِي هَذَا الْمَكَانِ (أُمِرْتُمْ) أَيْ: بِالنُّزُولِ وَالْإِقَامَةِ حِفْظًا لَهُ عَنْ عَدٍّ وَيَجْرِي لِأَخْذِهِ (فَنَزَلُوا فَذَكَرُوا) الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَذَكَرَا بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى خَالِدٍ وَشُوَيْسٍ، وَفِي نُسْخَةٍ فَذَكَرَ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ الْمَعْلُومِ أَيْ: مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَوْ أَبُو نَعَامَةَ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، أَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ (الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) وَلَمْ يَسْتَكْمِلْهُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لِلْبَابِ هُوَ مَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ عُتْبَةَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضِيقِ عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ (قَالَ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ، وَهُوَ يُرَجِّحُ مِثْلَهُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْوِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَا، أَيْ: كِلَاهُمَا (فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أَيْ: أَبْصَرْتُ نَفْسِي (وَإِنِّي) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: وَالْحَالُ إِنِّي (لَسَابِعُ سَبْعَةٍ) أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ سِتَّةِ نَفَرٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَاحِدٌ مِنْ سَبْعَةٍ جَعَلَ نَفْسَهُ سَابِعًا؛ لِأَنَّهُ سَبَّعَ السِّتَّةَ، لَكِنَّ قَضِيَّةَ قَوْلِهِ الْآتِي بَيْنِي وَبَيْنَ سَبْعَةٍ أَنَّهُ ثَامِنٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ أُولَئِكَ السَّبْعَةُ بَدَلُ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُنَاكَ بَقِيَّةُ سَبْعَةٍ، قُلْتُ وَسَيَأْتِي أَنَّ رِوَايَةَ الْأَصْلِ بَيْنَ سَعْدٍ، وَأَنَّ فِي نُسْخَةٍ بَيْنَ سَبْعَةٍ، وَهِيَ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ فَالْمَدَارُ عَلَيْهِ ضَعِيفٌ (مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (حَتَّى تَقَرَّحَتْ) بِالْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ قَرِحَتْ عَلَى زِنَةِ فَرِحَتْ، وَفِي أُخْرَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: جُرِحَتْ (أَشْدَاقُنَا) جَمْعُ شِدْقٍ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ جَانِبُ الْفَمِ، أَيْ: صَارَتْ فِيهَا أَقْرَاحٌ وَجِرَاحٌ مِنْ خُشُونَةِ الْوَرَقِ الَّذِي نَأْكُلُهُ وَحَرَارَتِهِ (فَالْتَقَطْتُ) أَيْ: أَخَذْتُ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ (بُرْدَةً) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ شَمْلَةٌ مُخَطَّطَةٌ، وَقِيلَ كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ، فِيهِ خُطُوطٌ صُفْرٌ، يَلْبَسُهُ الْأَعْرَابُ، وَقَالَ مِيرَكُ: الِالْتِقَاطُ أَنْ يُعْثَرَ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَطَلَبٍ (فَقَسَمْتُهَا) بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا (بَيْنِي وَبَيْنَ سَبْعَةٍ) أَيْ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ سَبْعَةٍ بَدَلَ

سَعْدٍ، وَهُوَ سَهْوٌ لِمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَسَمْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا (فَمَا مِنَّا مِنْ أُولَئِكَ السَّبْعَةِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ) أَيْ: وَهَذَا جَزَاءُ الْأَبْرَارِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى فِي دَارِ الْقَرَارِ (وَسَتُجَرِّبُونَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَنَا) إِخْبَارٌ بِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ لَيْسُوا مِثْلَ الصَّحَابَةِ فِي الْعَدَالَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَهُوَ مِنَ الْكَرَامَاتِ بِالْخَبَرِ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ، وَأَشَارَ إِلَى الْفَرْقِ بِأَنَّهُمْ رَأَوْا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ سَبَبًا لِرِيَاضَتِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ وَتَقَلُّلِهِمْ فِي أَمْرِ مَعِيشَتِهِمْ، فَمَضَوْا بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُنَالِكَ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ، فَلَا يَكُونُونَ عَلَى قَضِيَّةِ طِبَاعِهِمُ الْمَجْبُولَةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ، فَلَا يَسْتَقِيمُوا مَعَ الْحَقِّ عَلَى الصِّدْقِ، وَلَا مَعَ الْخَلْقِ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ) بِفَتْحٍ وَسُكُونِ وَاوٍ، ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ (أَبُو حَاتِمٍ) بِكَسْرِ التَّاءِ (الْبَصْرِيُّ) بِالْفَتْحِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهُ (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ) مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنْ أَخَافَ بِمَعْنَى خُوِّفَ (وَمَا يُخَافُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَخَافُ (أَحَدٌ غَيْرِي) لِأَنِّي كُنْتُ وَحِيدًا فِي ابْتِدَاءِ إِظْهَارِ دِينِي، وَالْمَعْنَى وَمَا يُخَافُ مِثْلَ مَا أُخِفْتُ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ (وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ) أَيْ: فِي دِينِهِ (وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ) أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ يُوَافِقُنِي فِي تَحَمُّلِ أَذِيَّةِ الْكُفَّارِ حِينَئِذٍ (وَلَقَدْ أَتَتْ) أَيْ: مَرَّتْ وَمَضَتْ (عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْكِيدٌ لِلشُّمُولِ أَيْ: ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُتَوَالِيَاتٍ لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، قُلْتُ الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ تَمْيِيزٌ لِثَلَاثِينَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَدَدَ نِصْفُ شَهْرٍ لَا شَهْرٌ كَامِلٌ (مَا لِي) وَفِي نُسْخَةٍ وَمَا لِي بِالْوَاوِ، وَجَعَلَهُ الْعِصَامُ أَصْلًا، وَقَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ وَاوٍ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ وُجُودَ الْوَاوِ ظَهَرَ فِي إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَالِيَّةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ لِي (وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ (ذُو كَبِدٍ) أَيْ: حَيَوَانٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّتِهِ (إِلَّا شَيْءٌ) أَيْ: قَلِيلٌ جِدًّا (يُوَارِيهِ) أَيْ: يَسْتُرُهُ (إِبِطُ بِلَالٍ) فَكَنَّى بِالْوَارِدَةِ تَحْتَ الْإِبِطِ عَنِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَعَنْ عَدَمِ مَا يُجْعَلُ مِنْ ظَرْفٍ وَشَبَهِهِ مِنْ مِنْدِيلٍ وَنَحْوِهِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي وَكَانَ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ تَمُرُّ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِي طَعَامٌ وَكُسْوَةٌ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِلَالٌ رَفِيقِي، وَمَا لَنَا شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ قَلِيلٌ بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُهُ بِلَالٌ تَحْتَ إِبِطِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ظَرْفٌ نَضَعُ الطَّعَامَ فِيهِ، وَاعْلَمْ أَنِّي رَأَيْتُ بِخَطِّ مِيرَكَ عَنِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ قُدِّسَ سِرُّهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ سُكُونَ الْبَاءِ فِي إِبِطٍ، وَمَا سَمِعْنَا بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَيَقُولُونَ بِهَا أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ انْتَهَى، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ

فِي الرِّوَايَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ الْكَسْرُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِبِطُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِهَا مَا تَحْتَ الْجَنَاحِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ آبَاطٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِبِطُ بَاطِنُ الْمَنْكِبِ وَبِكَسْرِ الْبَاءِ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ هَذَا، وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا، وَقَالَ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَارِبًا مِنْ مَكَّةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، إِنَّمَا كَانَ مَعَ بِلَالٍ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَحْمِلُهُ تَحْتَ إِبِطِهِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عُثْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْتَمِعْ عِنْدَهُ غَدَاءٌ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ فَمُهْمَلَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْكَلُ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَيُسَمَّى السُّحُورُ غَدَاءً؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَدَاءِ الْمُفْطِرِ (وَلَا عَشَاءٌ) وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: مَا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْعَشَاءِ، وَأَرَادَ بِالْعَشَاءِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَشَاءِ مَا يُؤْكَلُ آخِرَ النَّهَارِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَكْلُهُمْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ سُمِّيَ الْعَشَاءَ وَقَيَّدَهُ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَإِلَّا فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ بِهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، إِذْ إِطْلَاقُ الْعِشَاءِ عَلَى الْمَغْرِبِ مَجَازٌ، وَقَوْلُهُمْ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ تَغْلِيبٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ (إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَالْعِشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ) فَيَعُمُّ الْحُكْمُ لَهُمَا، إِذِ الْغَرَضُ فَرَاغُ الْخَاطِرِ عَنْ تَوَجُّهِ النَّفْسِ إِلَى السِّوَى وَتَوْجِيهُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَوْلَى، وَلِذَا قِيلَ: طَعَامٌ مَخْلُوطٌ بِالصَّلَاةِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةٍ مَخْلُوطَةٍ بِالطَّعَامِ (مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ) أَيْ: لَا يَجْتَمِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي خُبْزٍ وَلَحْمٍ، وَالْمَعْنَى لَا يُوجَدَانِ اثْنَانِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، بَلْ إِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فُقِدَ الْآخَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ «مِنْ» زَائِدَةٌ أَوْ لَا يُوجَدُ مَزِيدٌ لِلْمُبَالَغَةِ (إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْأُولَى، أَيْ: عَلَى حَالٍ نَادِرٍ، وَهُوَ تَنَاوُلُهُ مَعَ ضَيْفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخِ التِّرْمِذِيِّ (قَالَ بَعْضُهُمْ) أَيْ: مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَاللُّغَوِيِّينَ (هُوَ) أَيِ: الضَّفَفُ (كَثْرَةُ الْأَيْدِي) وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ: الضَّفَفُ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ كَثْرَةُ الْعِيَالِ وَأَنْشَدَ. لَا ضَفَفَ يَشْغَلُهُ وَلَا ثِقَلُ. أَيْ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ حَجِّهِ وَنُسُكِهِ عِيَالٌ، وَلَا مَتَاعٌ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: سَأَلْتُ بَدَوِيًّا فَقَالَ: تَنَاوُلًا مَعَ النَّاسِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: كَثْرَةُ الْأَيْدِي مَعَ النَّاسِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي النِّهَايَةِ الضَّفَفُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، وَمِنْهُ مَا يَشْبَعُ مِنْهُمَا إِلَّا عَنْ ضِيقٍ وَقِلَّةٍ، وَقِيلَ هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ، أَيْ: لَمْ يَأْكُلْهُمَا وَحْدَهُ وَلَكِنْ مَعَ النَّاسِ، وَقِيلَ الضَّفَفُ أَنْ يَكُونَ الْأَكَلَةُ أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ الطَّعَامِ، وَالْحَفَفُ أَنْ يَكُونُوا بِمِقْدَارِهِ انْتَهَى، وَيُرْوَى (شَظَفٍ) بِشِينٍ وَظَاءٍ مُعْجَمَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الضَّفَفُ وَالْحَفَفُ وَالشَّظَفُ كُلُّهَا الْقِلَّةُ وَالضِّيقُ فِي الْعَيْشِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَاءَنَا عَلَى ضَفَفٍ وَحَفَفٍ أَيْ: عَلَى حَاجَةٍ، أَيْ: لَمْ يَشْبَعْ، وَهُوَ رَأْفَةُ الْحَالِ مُتَّسِعُ نِطَاقِ الْعَيْشِ، وَلَكِنْ غَالِبًا عَلَى عَيْشِهِ الضَّيِّقُ وَعَدَمُ الرَّفَاهِيَةِ، وَقِيلَ الضَّفَفُ اجْتِمَاعُ النَّاسِ أَيْ: لَمْ يَأْكُلْ وَحْدَهُ وَلَكِنْ مَعَ النَّاسِ كَذَا فِي الْفَائِقِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الضَّفَفُ مُحَرَّكَةٌ كَثْرَةُ الْأَيْدِي عَلَى الطَّعَامِ أَوِ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ أَوْ يَكُونُ الْأَكَلَةُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْحَاجَةِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) مُصَغَّرًا (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنَا (ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَبِفَتْحٍ (عَنْ نَوْفَلِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ (بْنِ إِيَاسٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزِ (الْهُذَلِيِّ) بِضَمِّ هَاءٍ وَفَتْحِ مُعْجَمَةٍ (قَالَ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (لَنَا جَلِيسًا) أَيْ: مُجَالِسًا (وَكَانَ نِعْمَ الْجَلِيسُ) أَيْ: هُوَ (وَإِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزِ (انْقَلَبَ) أَيْ: رَجَعَ (بِنَا) الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ، أَيِ انْقَلَبَ مَعَنَا أَوْ مُصَاحِبًا لَنَا مِنَ السُّوقِ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: رَدَّنَا مِنَ الطَّرِيقِ (ذَاتَ يَوْمٍ) أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ (حَتَّى إِذَا دَخَلْنَا بَيْتَهُ وَدَخَلَ) قَالَ شَارِحٌ: أَيْ بَيْتَهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ دَخَلَ مُغْتَسَلَهُ (فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ) قِيلَ حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْقِلَابَ مَعَهُ صَارَ سَبَبًا لِمُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ، (وَأَتَيْنَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِتْيَانِ (بِصَحْفَةٍ فِيهَا خَبْزٌ وَلَحْمٌ) وَهِيَ إِنَاءٌ كَالْقَصْعَةِ

(باب ما جاء في سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

الْمَبْسُوطَةِ وَنَحْوِهَا، وَجَمْعُهَا صِحَافٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (فَلَمَّا وُضِعَتْ) أَيِ: الصَّحْفَةُ (بَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا يُبْكِيكَ؟) مِنَ الْإِبْكَاءِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ بَاكِيًا؟ (قَالَ هَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مَاتَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ فِيهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ حَدِيثٍ، قُلْتُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا (وَلَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ) أَيْ: نِسَاؤُهُ أَوْ أَوْلَادُهُ وَأَقَارِبُهُ (مِنْ خُبْزِ الشَّعَيْرِ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، أَيْ: دَائِمًا، وَفِي بَيْتِهِ أَوْ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ كَمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ، فَلَا يُشْكِلُ بِمَا مَرَّ قَرِيبًا فِي قِصَّةِ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ضِيقَ عَيْشِهِ وَقِلَّةَ شِبَعِهِ كَانَ مُسْتَمِرًّا فِي حَالِ حَيَاتِهِ إِلَى حِينِ مَمَاتِهِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تَذَكَّرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا فِي الصَّحْفَةِ كَانَ مُشْبِعًا لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ (فَلَا أَرَانَا) بِضَمِّ الْهَمْزِ أَيْ: فَلَا أَظُنُّ إِيَّانَا (أُخِّرْنَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لِمَا خَيْرٌ لَنَا) يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلَ بَيْتِهِ، إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، وَنَحْنُ بَعْدَهُ فِي سَعَةِ تَنَعُّمٍ، فَلَا أَظُنُّ أَنَّا أَبْقَيْنَا لِلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَنَا، كَلَّا بَلْ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا مَا صِرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّعَةِ فَهُوَ مِمَّا يُخْشَى عَاقِبَتُهُ، وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَخَافُونَ أَنَّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ رُبَّمَا عُجِّلَتْ طَيِّبَاتُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، هَذَا وَقَدْ ضُبِطَ فِي الْأَصْلِ: فَلَا أُرَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُفْرَدِ وَأَنَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُهُ لِعَدَمِ سَبَبِ حَذْفِ لَامِ الْفِعْلِ مَعَ لَا النَّافِيَةِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي سِنِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ فِي قَدْرِ عُمُرِهِ وَمِقْدَارِ أَمْرِهِ (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا) بِالْقَصْرِ، وَيَجُوزُ مَدُّهُ (ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَكَثَ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا، أَيْ: لَبِثَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ) أَيْ: بَعْدَ الْبَعْثَةِ (ثَلَاثَ عَشْرَةَ) أَيْ: سَنَةً (يُوحَى إِلَيْهِ) أَيْ: بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِهَا،؛ لِأَنَّ مُدَّةَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَهِيَ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ الْمُوَافِقُ لِمَا رَوَاهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ، وَوَرَدَ عَشْرُ سِنِينَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ فِي سَبْعَةٍ مِنْهَا يَرَى نُورًا وَيَسْمَعُ صَوْتًا وَلَمْ يَرَ مَلَكًا، وَفِي ثَمَانِيَةٍ مِنْهَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ الْمَرْوِيَّتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَالَفَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَثَانِيهِمَا فِي زَمَنِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَةٌ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ مُطْلَقُ الْوَحْيِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَلَكُ مَرْئِيًّا أَوْ لَا، وَالْمُرَادُ: بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ في ثمانية هُوَ أَنْ

يَكُونَ الْمَلَكُ مَرْئِيًّا فِيهِ، فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى. وَزِيدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، أَيْ: عَشْرَ سِنِينَ (وَتُوُفِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّوَفِّي، أَيْ: وَمَاتَ (وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) أَيْ: سَنَةً، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ هَذَا أَكْثَرُ فِي الرِّوَايَةِ، وَرَجَّحَ أَحْمَدُ أَيْضًا هَذِهِ الرِّوَايَةَ، قَالَ مِيرَكُ: فِي قَدْرِ عُمُرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَالثَّانِيَةُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، وَالثَّالِثَةُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَهِيَ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ أَيْضًا، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ أَصَحَّهَا ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ وَتَأَوَّلُوا بَاقِيَ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهَا فَرِوَايَةُ سِتُّونَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى الْعُقُودِ وَتَرْكِ الْكُسُورِ، وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ مُتَأَوَّلَةٌ أَيْضًا بِإِدْخَالِ سَنَتَيِ الْوِلَادَةِ وَالْوَفَاةِ أَوْ حَصَلَ فِيهَا اشْتِبَاهٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ عُرْوَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَوْلَهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْغَلَطِ، وَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِمَكَّةَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قَدْرِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَيَكُونُ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي أَطْبَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ عَلَيْهِ، وَحَكَى الْقَاضِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رِوَايَةً شَاذَّةً أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَالصَّوَابُ أَرْبَعُونَ، قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَجْهُ الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ الْبَعْثِ وَالدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ مُجَاهَرَةً بَعْدَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) أَيْ: فَاجْهَرْ، وَظُهُورُ الدَّعْوَةِ حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ) أَيْ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ (أَنَّهُ) أَيْ: جَرِيرًا (سَمِعَهُ) أَيْ: مُعَاوِيَةُ (يَخْطُبُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ خَطِيبًا (قَالَ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَيْ: كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَاتَ وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَأَرَادَ بِهِ الْقَوْلَ الْأَصَحَّ فِي عُمَرَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَإِلَّا فَقِيلَ: ابْنُ تِسْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِقَوْلِهِ (وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) أَيْ: سَنَةً، كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَأَغْرَبَ شَارِحٌ بِقَوْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فَأَنَا مُتَوَقِّعٌ أَنْ أَمُوتَ فِي هَذَا السِّنِ مُوَافَقَةً لَهُمْ، قَالَ مِيرَكُ: لَكِنَّهُ لَمْ يَنَلْ مَطْلُوبَهُ وَمُتَوَقَّعَهُ، بَلْ مَاتَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِينَ، قُلْتُ لَكِنْ حَصَلَ مَطْلُوبُهُ مِنَ الثَّوَابِ لِأَمَلِهِ، فَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ كَانَ مُعَاوِيَةُ فِي زَمَانِ نَقْلِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا السَّنِّ وَلَمْ يَمُتْ فِيهِ بَلْ مَاتَ وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ، قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قُتِلَ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثِنْتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مَعَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ قُتِلَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَقِيلَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، وَقِيلَ سَبْعُونَ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ لِلِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا، أَوْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِعُمْرِهِ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ الرِّوَايَاتِ أَوْ لِكَوْنِهِ حَيًّا حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ عَلَى وَزْنِ مَرْمِيٍّ (الْبَصْرِيِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِالْجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا (عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً) فَهُوَ أَحْسَنُ مُدَّةَ الْعُمْرِ، وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَ عُمْرُ بَعْضِ الْعَارِفِينَ هَذَا السِّنَّ هَيَّأَ لَهُ بَعْضَ أَسْبَابِ مَمَاتِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ لَذَّةٌ فِي بَقِيَّةِ حَيَاتِهِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ لَامٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، وَهِيَ أُمُّهُ وَاسْمُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ يَكْرَهُ هَذِهِ النِّسْبَةَ لَكِنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّهْرَةِ (عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ

ذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَمْدُودًا (حَدَّثَنِي عُمَارَةُ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَتَخْفِيفِ مِيمٍ، وَفِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ عَمَّارٌ بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ، قَالَ مِيرَكُ: عُمَارَةُ بِالتَّاءِ كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ السَّمَاعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ وَقَعَ مِنْ قَلَمِ النُّسَّاخِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ مَنِ اسْمُهُ عُمَارَةُ، وَأَيْضًا لَيْسَ فِيمَنْ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيمَنْ رَوَى عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ مَنِ اسْمُهُ عُمَارَةُ، وَرَوَى الْمُؤَلِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي جَامِعِهِ فَقَالَ فِيهِ عَمَّارٌ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ انْتَهَى، وَقَالَ شَارِحٌ: وَفِي نُسْخَةٍ عَمَّارٌ بَدَلَ عُمَارَةَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلِذَا قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عُمَارَةُ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ بَلْ عَمَّارٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالتَّشْدِيدِ، فَفِي التَّقْرِيبِ عَمَّارُ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ صَدُوقٌ رُبَّمَا أَخْطَأَ وَجَعَلَهُ الذَّهَبِيُّ رَاوِيًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّهْذِيبِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُقَالُ: لَهُ الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ، دَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِكْمَةِ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى عَنْهُ عَمَّارٌ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ انْتَهَى، وَكَأَنَّ ابْنَ حَجَرٍ مَا اطَّلَعَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، حَيْثُ قَالَ: سَهْوٌ وَصَوَابُهُ عَمَّارٌ؛ إِذْ حَقُّهُ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، وَأَنَّ خِلَافَهُ سَهْوٌ مِنْ نُسَخِ الْكُتَّابِ (قَالَ) أَيْ: عَمَّارٌ (سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَصْرُوفًا، وَقَدْ لَا يَنْصَرِفُ (قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ (عَنْ دَغْفَلِ بْنِ حَنْظَلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ التِّرْمِذِيُّ (وَدَغْفَلٌ لَا نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مَوْجُودًا، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ (رَجُلًا) ، أَيْ: مُجَاوِزًا عَنْ مَرْتَبَةِ الصَّبِيِّ، وَلَعَلَّ المص ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَهُوَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ لِلْبُخَارِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ اللُّقِيِّ، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْمُعَاصَرَةِ، خِلَافًا لِمُسْلِمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي التَّقْرِيبِ أَنَّ دَغْفَلَ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنَ زَيْدٍ السَّدُوسِيَّ النَّسَّابَةَ مُخَضْرَمٌ، وَقِيلَ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يَصِحَّ، نَزَلَ الْبَصْرَةَ وَحُرِقَ بِفَارِسَ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ قَبْلَ سَنَةِ سِتِّينَ انْتَهَى، لَكِنْ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ الْأَنْدَلُسِيُّ قَالَ: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ فِي مُسْنَدِهِ أَنْ دَغْفَلًا لَهُ صُحْبَةٌ، وَرَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا وَاحِدًا. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (سَمِعَهُ) أَيْ: أَنَسًا (يَقُولُ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ هُوَ الْخَبَرُ السَّابِقُ أَوَّلَ الْكِتَابِ إِلَّا أَنَّ الْإِسْنَادَ مُخْتَلِفٌ فِي كُلِّ بَابٍ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ) أَيِ: الْمُفْرِطِ (وَلَا بِالْقَصِيرِ) أَيِ: الْمُتَرَدِّدِ (وَلَا بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ) أَيِ: الْأَبْرَصِ، وَالْمُرَادُ: نَفِيُ الْقَيْدِ (وَلَا بِالْآدَمِ) أَيْ: بِالْأَسْمَرِ (وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْأُولَى وَكَسْرِهَا (وَلَا بِالسَّبْطِ) بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا (بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى) الرِّوَايَةُ هُنَا بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَيْ: قَبَضَهُ (عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ السَّابِقِ بِعَيْنِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ فِي الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عُمْرَ كُلِّ نَبِيٍّ نِصْفُ عُمْرِ نَبِيٍّ كَانَ قَبْلَهُ، وَعُمْرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فَيَكُونُ عُمْرُهُ سَنَتَيْنِ وَنِصْفًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْقَوْلِ الْأَصَحِّ بِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ الَّذِي هُوَ النِّصْفُ لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(باب ما جاء في وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

(بَابُ مَا جَاءَ فِي وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) الْوَفَاةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ الْمَوْتُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ مِنْ وَفَى بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى تَمَّ، أَيْ: تَمَّ أَجَلُهُ، قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صُدَاعٍ عَرَضَ لَهُ، وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، ثُمَّ اشْتَدَّ بِهِ، وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ، وَكَانَتْ مُدَّةَ مَرَضِهِ اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضُحًى مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي السَّنَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، قِيلَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَقِيلَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ انْتَهَى، وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى لِوُرُودِ إِشْكَالٍ سَيَأْتِي عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ أَنْ يَكُونَ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ نَوَاقِصَ، وَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَبُعِثَ نَبِيًّا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ عَلَى إِشْكَالٍ مَسْطُورٍ، وَهُوَ أَنَّ جُمْهُورَ أَرْبَابِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ وَفَاتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ عَلَى أَنَّ عَرَفَةَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَيَكُونُ غُرَّةُ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَتِ الشُّهُورُ الثَّلَاثُ الْمَاضِيَةُ يَعْنِي ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، أَوْ بَعْضٌ مِنْهَا ثَلَاثِينَ وَبَعْضٌ آخَرُ مِنْهَا تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَحَلُّهُ أَنْ يُقَالَ يَحْتَمِلُ اخْتِلَافُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ بِوَاسِطَةِ مَانِعٍ مِنَ السَّحَابِ وَغَيْرِهِ، أَوْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، فَيَكُونُ غُرَّةُ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ وُقُوفُ عَرَفَةَ وَاقِعًا بِرُؤْيَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَمَّا رُجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ اعْتَبَرُوا التَّارِيخَ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ كَوَامِلَ، فَيَكُونُ أَوَّلُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْهُ، هَذَا وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ ثَانِي الشَّهْرِ أَمْ ثَامِنُهُ أَمْ عَاشِرُهُ بَعْدَ قُدُومِ الْفِيلِ بِشَهْرٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السِّيَرِ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تُوُفِّيَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَا فِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ مِنَ الشَّهْرِ، فَجَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ كَانَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ، وَالذَّهَبِيُّ فِي الْعِبَرِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مُسْتَهَلِّ الشَّهْرِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ زُبَيْرٍ فِي الْوَفَيَاتِ، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي تَارِيخِهِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّمِيمِيُّ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَرَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سُلَيْمَانَ التَّمِيمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرِضَ لِاثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ صَفَرَ، وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مَرِضَ فِيهِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ أَنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَحْيَى وَيُخَيَّرُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مَا مِنْ نَبِيٍّ يُقْبَضُ إِلَّا يَرَى الثَّوَابَ، ثُمَّ يُخَيَّرُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَالْخُلْدَ، ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَبْقَى حَتَّى أَرَى مَا يُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِي وَبَيْنَ التَّعْجِيلِ فَاخْتَرْتُ التَّعْجِيلَ، وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا تُقْبَضُ نَفْسُهُ، ثُمَّ يَرَى الثَّوَابَ، ثُمَّ تُرَدُّ إِلَيْهِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَلْحَقَ، فَكُنْتُ قَدْ حَفِظْتُ ذَلِكَ، وَإِنِّي لِمُسْنِدُهُ إِلَى صَدْرِي فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى مَالَتْ عُنُقُهُ، فَقُلْتُ: قَضَى، قَالَتْ: فَعَرَفْتُ الَّذِي قَالَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى ارْتَفَعَ وَنَظَرَ، فَقَلْتُ إِذًا وَاللَّهِ لَا يَخْتَارُنَا، فَقَالَ مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى فِي الْجَنَّةِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَوَّلَ مَا أُعْلِمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاقْتِرَابِ أَجَلِهِ، نُزُولُ سُورَةِ النَّصْرِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا: إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْبِلَادَ وَدَخَلَ فِي الدِّينِ أَفْوَاجٌ مِنَ الْعِبَادِ فَقَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُكَ وَانْتَهَى عَمَلُكَ فَتَهَيَّأْ لِلِقَاءٍ فِي دَارِ الْقَرَارِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِحُصُولِ مَا أُمِرْتُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَعَرَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ الْوَدَاعُ، وَلِلدَّارِمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ دَعَا فَاطِمَةَ، وَقَالَ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، فَبَكَتْ، قَالَ: لَا تَبْكِي ; فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لُحُوقًا بِي، فَضَحِكَتِ) . . . الْحَدِيثَ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ

بِأَشَدِّ مَا كَانَ قَطُّ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَرَضَ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ وَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ قَبْلُ يَعْرِضُ مَرَّةً وَيَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ فَقَطْ، هَذَا وَلَمَّا خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَلَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَطَفِقَ يُوَدِّعُ النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَجَمَعَ النَّاسَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا، بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ، بِالْجُحْفَةِ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، ثُمَّ حَضَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَوَصَّى بِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَمَّا وَصَلَ الْمَدِينَةَ مَكَثَ قَلِيلًا، وَفِي هَذَا الْمَرَضِ خَرَجَ كَمَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأْسِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ الرَّاوِي فَعَجِبْنَا، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ: يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا سُدَّتْ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، زَادَ مُسْلِمٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِ لَيَالٍ انْتَهَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى مَرْتَبَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِ خَلَّتِهِ، وَحَقِّيَّةِ خِلَافَتِهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاكَ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ، فَقَالَتْ: وَاثُكْلَيَاهُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تَحْتَ مَوْتِي، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَكَانَتِ الْحُمَّى تُصِيبُ مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا الْبَلَاءُ وَيُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ، وَفِي الْبُخَارِيِّ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ أَجَلْ ذَلِكَ لِذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْوَعْكُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَوْ فَتْحٍ: الْحُمَّى، وَقِيلَ أَشَدُّهَا، وَقِيلَ إِرْعَادُهَا، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ أَوْ فَتْحٍ أَيْ: فَتْحِ الْعَيْنِ سَهْوُ قَلَمٍ لِمُخَالَفَتِهِ كُتُبَ اللُّغَةِ، وَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَيْهِ سِقَاءٌ يَقْطُرُ مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ قَالَ: أَهْرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْعِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ، فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ. . . الْحَدِيثَ، وَلِهَذَا الْعَدَدِ خَاصِّيَّةٌ فِي دَفْعِ السِّحْرِ وَالسُّمِّ، وَفِي الْبُخَارِيِّ مَا زِلْتُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي، وَالْأَبْهَرُ: عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ بِالْقَلْبِ إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ يَرَوْنَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ شَهِيدًا مِنَ السُّمِّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ وَأَخْطَأَ مَنْ فَتَحَ إِذْ لَمْ يَأْكُلْ إِلَّا لُقْمَةً وَاحِدَةً، قُلْتُ: لَا وَجْهَ لِلتَّخْطِئَةِ فَإِنَّهَا أُورِدَتْ بِهَا الرِّوَايَةُ، وَهِيَ مُسْتَقِيمَةٌ بِحَسَبِ الدِّرَايَةِ إِذْ أَكْلُ اللُّقْمَةِ الْوَاحِدَةِ تُسَمَّى مَرَّةً مِنَ الْأَكْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) بِالتَّصْغِيرِ (وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَشَفَ السِّتَارَةَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهَا أَيْ: رَفَعَهَا (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ فَخَبَرُ الْآخَرِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ (كَشَفَ السِّتَارَةَ) فَهُوَ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ «آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى وَجْهِهِ حِينَ كَشَفَ السِّتَارَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ» عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِـ «آخِرُ» بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ زَمَانٍ فِي أَوَّلِ الْآخِرِ وَوَجْهُهُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنْ قَالَ مِيرَكُ: إِنَّهُ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ تَأَمَّلْ، وَلَا تَكْسَلْ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (نَظَرْتُهَا) لِلنَّظْرَةِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ أَظُنُّهُ مُنْطَلِقٌ بِرَفْعِ (مُنْطَلِقٌ) ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَا مَفْعُولٌ بِهِ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الظَّنِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَوْلُهُ كَشَفَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَعْلُومِ حَالٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَهُ مِيرَكُ بِتَقْدِيرِ «قَدْ» كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ بِدُونِهَا كَمَا جَوَّزَهُ آخَرُونَ فَانْدَفَعَ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ التَّحْرِيرِ مَا قَالَهُ ابْنُ

حَجَرٍ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ كَشَفَ وَقَعَ لَفْظًا خَبَرًا عَنْ «آخِرُ» مِنْ غَيْرِ رَابِطٍ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ بِمَا يُصَحِّحُهُ كَأَنْ يُقَالَ: أُرِيدَ بِكَشْفِهَا زَمَنُ كَشْفِهَا، وَعَجِبَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ حَالٌ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنَ الْإِشْكَالِ، وَلَا لِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ أَصْلًا انْتَهَى، وَوَجْهُ الدَّفْعِ لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ: وَالْقِيَاسُ نَصْبُ «آخِرُ» بِـ (نَظَرْتُهَا) ، وَنَظِيرُهُ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ قُلْتُ: وَفِي تَنْظِيرِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذْ ضَمِيرُ (نَظَرْتُهَا) لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إِلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الدِّرَايَةِ مَعَ أَنَّ الْأُصُولَ الْمُصَحَّحَةَ فِي الرِّوَايَةِ مُطْبِقَةٌ عَلَى رَفْعِ لَفْظِ الْآخِرِ فَتَعَيَّنَ رَفْعُ الْآخِرِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَأَمَّا زَعْمُ أَنَّ (نَظَرْتُهَا) خَبَرٌ آخَرُ فَهُوَ إِنَّمَا صَدَرَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ إِلْمَامٌ بِشَيْءٍ مِنَ النَّحْوِ (فَنَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ كَأَنَّهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَفِي الْقَامُوسِ الْمُصْحَفُ مُثَلَّثَةُ الْمِيمِ مِنْ أُصْحِفُ بِالضَّمِّ أَيْ: جَعَلْتُ فِيهِ الصُّحُفَ، وَقَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: الصَّحِيفَةُ الْكِتَابُ وَالْجَمْعُ صُحُفٌ وَصَحَائِفُ وَقَدِ اسْتَثْقَلَتِ الْعَرَبُ الضَّمَّةَ فِي حُرُوفٍ فَكَسَرُوا مِيمَهَا، مِنْ ذَلِكَ: مِصْحَفٌ وَمِخْدَعٌ وَمِطْرَفٌ وَنَحْوُهَا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُصْحَفُ فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ضَمُّ الْمِيمِ وَكَسْرُهَا وَفَتْحُهَا، وَالْأَوَّلَانِ مَشْهُورَانِ، كَذَا فِي التِّبْيَانِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْأَشْهَرُ ضَمُّهَا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَسْرُهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ بَلِ الْكَسْرُ شَاذٌّ كَالْفَتْحِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّوَوِيَّ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ كَسْرَهَا الْأَشْهَرُ بَلْ قَالَ إِنَّهُ مَشْهُورٌ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الصِّحَاحِ مَسْطُورٌ. ثُمَّ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ حُسْنُ الْبَشْرَةِ وَصَفَاءُ الْوَجْهِ وَاسْتِنَارَتُهُ وَبَهَاءُ النَّظَرِ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي قَوْلِهِ: الْوَجْهُ هُوَ الْإِهْدَاءُ وَالْهِدَايَةُ، وَلَا يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُتَعَلِّقًا بِظَاهِرِ الصُّورَةِ انْتَهَى، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى (وَالنَّاسُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ: فِي الصَّلَاةِ وَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوا الصَّلَاةَ مِنْ كَمَالِ الْفَرَحِ بِطَلْعَتِهِ الْمُشْعِرِ بِعَافِيَتِهِ وَأَرَادُوا أَنْ يُعْطُوهُ الطَّرِيقَ إِلَى الْمِحْرَابِ (فَأَشَارَ إِلَى النَّاسِ أَنِ اثْبُتُوا) بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا أَيْ: كُونُوا ثَابِتِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْقِيَامِ فِي الصَّفِّ (وَأَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّهُمْ) أَيْ: فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَشْعُرْ بِالْكَشْفِ إِذْ ثَبَتَ عَلَى حَالِهِ وَمَقَامِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَرْبَابِ التَّمْكِينِ فِي الدِّينِ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَرْتَبَتِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْيَقِينِ (وَأَلْقَى) أَيْ: أَرْخَى (السَّجْفَ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا كَذَا ضُبِطَ فِي الْأَصْلِ مَعًا وَاقْتَصَرَ الْحَنَفِيُّ عَلَى الْكَسْرِ فَفِي الْقَامُوسِ: السَّجْفُ وَيُكْسَرُ السَّتْرُ زَادَ فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ إِذَا كَانَ مَشْقُوقَ الْوَسَطِ (وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْ:

يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا يُنَافِي جَزْمَ أَهْلِ السِّيَرِ بِأَنَّهُ مَاتَ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى كَمَا سَبَقَ عَنْ جَامِعِ الْأُصُولِ بَلْ وَحُكِيَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْآخَرِ بِمَعْنَى ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ النَّهَارِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الزَّوَالِ وَاشْتِدَادِ الضُّحَى يَقَعُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيَسْتَمِرُّ فِيهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ زَوَالُ الشَّمْسِ، وَقَدْ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ وَكَذَا لِأَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْجَمْعَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ، قُلْتُ: وَأَيْضًا فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّ تَحَقُّقَ الزَّوَالِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْكَمَالِ كَمَا فِي آيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ إِشَارَةً إِلَيْهِ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ قَالَ مِيرَكُ: وَيُمْكِنُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى تَحَقُّقِ وَفَاتِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: يُجْمَعُ بِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْجَامِعِ بِاعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَمَا ذَكَرَهُ المص بِاعْتِبَارِ انْقِطَاعِ الْحَيَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ، قُلْتُ: هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا لِعَدَمِ ثُبُوتِ طُولِ نَزْعِهِ بَلْ صَحَّ وُجُودُ شُعُورِهِ إِلَى النَّفَسِ الْأَخِيرِ إِلَى أَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، هَذَا وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ لَكِنْ بِلَفْظِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَمَا هُمْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِهِمْ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ بِالصَّفِّ وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ أَنَسٌ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُفْتَنُوا فِي صَلَاتِهِمْ فَرَحًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَتُوُفِّيَ فِي يَوْمِهِ، وَفِي أُخْرَى لَهُ وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا ثَلَاثًا فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ فَرَفَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحِجَابَ فَلَمَّا وَضَحَ لَنَا وَجْهُهُ مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا قَطُّ كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْهُ حِينَ وَضَحَ فَأَوْمَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَأَرْخَى الْحِجَابَ. . . الْحَدِيثَ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى إِذَا كَانُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ كَشَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتْرَ الْحُجْرَةِ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ ضَاحِكًا. . . الْحَدِيثَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ حَتَّى جَلَسَ يَسَارَ أَبِي بَكْرٍ. . . الْحَدِيثَ، فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُعَارَضَةٌ بَيْنَ ابْنِ حَجَرٍ وَالْعِصَامِ أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهَا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْمَرَامِ. (حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ) وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعَدَةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ الْبَصْرِيُّ (حَدَّثَنِي سُلَيْمٌ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ أَخْضَرَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ مُسْنِدَةً النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِسْنَادِ (إِلَى صَدْرِي أَوْ قَالَتْ: إِلَى حِجْرِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَبِكَسْرٍ، وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ (فَدَعَا بِطَسْتٍ) أَيْ: فَطَلَبَهُ، وَهُوَ الطَّسُّ فِي الْأَصْلِ وَالتَّاءُ فِيهِ بَدَلُ السِّينِ، وَلِهَذَا يُجْمَعُ عَلَى طِسَاسٍ وَطُسُوسٍ وَيُصَغَّرُ عَلَى طُسَيْسٍ اعْتِبَارًا لِأَصْلِهِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الطَّسْتُ مُؤَنَّثَةٌ، وَهِيَ أَعْجَمِيَّةٌ وَالطَّسُّ تَعْرِيبُهَا، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهَا (لِيَبُولَ فِيهِ) بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ قُلْتُ: وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ أَمْرَ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ سَهْلٌ يَسِيرٌ بِأَنْ يُقَالَ التَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ مِنَ الظَّرْفِ الْكَبِيرِ أَوِ الصَّغِيرِ، أَوِ التَّقْدِيرُ لِيَبُولَ فِيمَا ذَكَرَ (ثُمَّ بَالَ) أَيْ: تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا قَالَ شَارِحٌ: وَفِي نُسْخَةٍ مَالَ أَيْ: بِالْمِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ (فَمَاتَ) أَيْ: وَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَوَصَلَ إِلَى لِقَاءِ الْمَوْلَى، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَاتَ فِي حِجْرِهَا وَيُوَافِقُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْهَا تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي فِي يَوْمِي بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَفِي رِوَايَةٍ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنتِي أَيْ: كَانَ رَأْسُهُ بَيْنَ

حَنَكِهَا وَصَدْرِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا لِلْحَاكِمِ وَابْنِ سَعْدٍ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ رَأْسَهُ الْمُكَرَّمَ كَانَ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ مِنْهَا لَا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ قُبَيْلَ الْوَفَاةِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ الْهَادِ) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ (عَنْ مُوسَى بْنِ سَرْجَسٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ مُنْصَرِفًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ غَيْرَ مَصْرُوفٍ (عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْمَوْتِ) أَيْ: مَشْغُولٌ أَوْ مُلْتَبِسٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ وَالْأَحْوَالُ بَعْدَهَا مُتَدَاخِلَةٌ (وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهُوَ يُدْخِلُ) مِنَ الْإِدْخَالِ أَيْ: يَغْمِسُ (يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ، ثُمَّ يُفِيقُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي فِعْلُ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يُفْعَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَخْفِيفًا مِنْ كُرَبِ الْحَرَارَةِ كَالتَّجْرِيعِ بَلْ يَجِبُ التَّجْرِيعُ إِذَا اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْمَرِيضِ إِلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ أُغْمَى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً فَظَنُّوا أَنَّ بِهِ ذَاتَ الْجَنْبِ فَلَدُّوهُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ اللَّدُودِ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ فِي جَانِبِ الْفَمِ مِنَ الدَّوَاءِ، وَأَمَّا مَا يُصَبُّ فِي الْحَلْقِ فَهُوَ الْوَجُورُ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَلُدُّوهُ فَحَمَلُوهُ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَنْ تَلُدُّونِي فَقَالُوا: حَسِبْنَا أَنَّهُ مِنْ كَرَاهَةِ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَكَانَ بِقِسْطٍ مُذَابٍ فِي زَيْتٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِتَرْكِهِمِ امْتِثَالَ نَهْيِهِ تَأْدِيبًا لَا انْتِقَامًا خِلَافًا لِمَنْ ظَنَّهُ وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْخَبَرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ سَبَبَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ عَدَمُ مُلَاءَمَةِ ذَلِكَ لِدَائِهِ، فَإِنَّهُمْ ظَنُّوهُ ذَاتَ الْجَنْبِ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ؛ لِخَبَرِ ابْنِ سَعْدٍ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَ لَهَا أَيْ: لِذَاتِ الْجَنْبِ عَلَيَّ سُلْطَانًا، وَالْخَبَرُ بِأَنَّهُ مَاتَ مِنْهَا ضَعِيفٌ عَلَى أَنَّهُ جُمِعَ بِأَنَّهَا يُطْلَقُ عَلَى وَرَمٍ حَارٍّ يَعْرِضُ فِي الْغِشَاءِ الْمُسْتَبْطِنِ، وَهُوَ الْمَنْفِيُّ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ رِوَايَةُ الْحَاكِمِ (ذَاتُ الْجَنْبِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَعَلَى رِيحٍ تَحْتَقِنُ بَيْنَ الْأَضْلَاعِ) ، وَهُوَ الْمُثْبَتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ) أَيْ: شَدَائِدِهِ، وَفِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ زِيَادَةُ رَفْعِ دَرَجَاتٍ لِلْأَصْفِيَاءِ وَكَفَّارَةُ سَيِّئَاتٍ لِأَهْلِ الِابْتِلَاءِ (أَوْ قَالَ عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ) وَهِيَ شَدَائِدُهُ أَوْ حَالَاتٌ تَعْرِضُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ مِنَ الْغَشَيَاتِ وَالْغَفَلَاتِ وَ «أَوْ» شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ (وَجَعَلَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ بِمُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ شَدَائِدُهُ وَمَكْرُوهَاتُهُ وَمَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنَ التَّغْطِيَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلْكَسْرِ، وَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْعِشْقِ نَظِيرُ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَعْنَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَالشَّكُّ إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ انْتَهَى، وَقَدْ أَتَى الْحَنَفِيُّ بِمُنْكَرٍ فِي هَذَا الْمَحَلِّ حَيْثُ قَالَ: الْمُنْكَرُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ وَكُلُّ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ وَحَرَّمَهُ وَكَرِهَهُ فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةُ لِلشَّرْعِ الْوَاقِعَةُ حَالَ شِدَّةِ الْمَوْتِ انْتَهَى، وَقَدْ تَوَلَّى الْمَرْحُومُ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ وَلِشَارِحٍ هُنَا مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ قَوْلُهُ لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا الْأُمُورُ الْمُخَالِفَةُ لِلشَّرْعِ حُرْمَةً أَوْ كَرَاهَةً الْوَاقِعَةُ حَالَ شِدَّةِ الْمَوْتِ انْتَهَى، فَقَوْلُهُ إِلَى آخِرِهِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِصْمَتِهِ لَا يَخْشَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ (حُرْمَةً أَوْ كِرْهَةً) غَلَطٌ صَرِيحٌ وَتَجَرُّؤٌ قَبِيحٌ انْتَهَى، لَكِنْ أَغْرَبَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْتَ الشَّيْطَانُ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ قُلْتُ تَغَلُّبُهُ عَلَيْهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَا يَقْتَضِي تَغَلُّبَهُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَالِ وَبِفَرْضِ وُقُوعِهِ هُوَ آمِنٌ مِنْهُ قَطْعًا انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَوْلَوِيَّةُ الِاقْتِصَادِ حَالَةَ الْمَرِيضِ لَكِنَّ كَوْنَ الشَّيْطَانِ سَبَبًا لِلنِّسْيَانِ فِي صَلَاتِهِ لَا يُسَمَّى تَغَلُّبًا لَهُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِنْسَائِهِ حُصُولُ التَّشْرِيعِ وَبَيَانُ الْحُكْمِ لِلْأُمَّةِ بِأَنْبَائِهِ نَعَمْ قَدْ يُقَالُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَاذَ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَحَقُّقُهُ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْكُفْرِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ: أَعِنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ يُرِيدُ الْإِعَانَةَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَالتَّثَبُّتَ بِعَدَمِ الْجَزَعِ وَالْفَزَعِ لِشِدَّتِهَا فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُفَسِّرُوا الْمُنْكَرَاتِ بِمَا تُنْكِرُهُ النَّفْسُ وَيَكْرَهُهُ الطَّبْعُ فَمَآلُهَا إِلَى السَّكَرَاتِ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، فَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ أَعِنِّي فِي الصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِهِ وَمَشَقَّاتِهِ وَسَكَرَاتِهِ وَغَلَبَاتِهِ حَتَّى لَا أَغْفُلَ لِلِاشْتِغَالِ بِالْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ عَنِ الْحَضْرَةِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْحَالَةِ الْأُنْسِيَّةِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي خَبَرٍ مُرْسَلٍ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَأْخُذُ الرُّوحَ مِنْ بَيْنِ الْعَصَبِ وَالْأَنَامِلِ فَأَعِنِّي عَلَيْهِ وَهَوِّنْهُ عَلَيَّ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُسْنِدَةٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَدْرِهَا وَمَعَهُ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَتْبَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَصَرَهُ

فَأَخَذْتُهُ وَقَضَمْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ فَاسْتَنَّ بِهِ، قَالَتْ: فَمَا رَأَيْتُهُ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ وَلِلْعُقَيْلِيِّ: ائْتِينِي بِسِوَاكٍ رَطْبٍ فَامْضُغِيهِ، ثُمَّ ائْتِينِي بِهِ أَمْضُغُهُ لِكَيْ يَخْتَلِطَ رِيقِي بِرِيقِكِ لِكَيْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ عِنْدَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَفِي الْمُسْنَدِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَنْهَا: إِنَّهُ لَيُهَوِّنُ عَلَيَّ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَيَاضَ كَفِّ عَائِشَةَ فِي الْجَنَّةِ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ (الصَّبَّاحِ) (الْبَزَّارُ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْحَسَنِ (حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَا أَغْبِطُ أَحَدًا (بِهَوْنِ مَوْتٍ) أَيْ: بِرِفْقِهِ فَفِي الصِّحَاحِ: الْهَوْنُ مَصْدَرُ هَانَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ أَيْ: خَفَّفَ وَهَوَّنَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْ: سَهَّلَهُ وَخَفَّفَهُ انْتَهَى، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَيْ: بِالْمَوْتِ السَّهْلِ الْهَيِّنِ (بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ) أَيْ: أَبْصَرْتُ (مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مِنْ بَيَانِ الْمَوْصُوفِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكَرَامَةُ بِتَهْوِينِ الْمَوْتِ لَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى وَأَحَقَّ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي وَقْتِ الْمَوْتِ شَيْءٌ مِنَ الشِّدَّةِ فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ سُهُولَةَ الْمَوْتِ لَيْسَتْ مِمَّا تُغْتَبَطُ بِهِ وَيُتَمَنَّى مِثْلُ حَالِ الْمَغْبُوطِ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ زَوَالِهَا عَنْهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَوْنِ شِدَّةِ الْمَوْتِ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ أَوْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، وَإِنَّمَا فُسِّرَتِ الْغِبْطَةُ بِالْحَسَدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا كَمَا فِي حَدِيثِ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ وَعَدَلْتُ عَنْ تَفْسِيرِ (لَا أَغْبِطُ) بِلَا أَتَمَنَّى كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى ، وَقَالَ شَارِحٌ: الْمَعْنَى فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ، وَلَا أَغْبِطُ أَحَدًا يَمُوتُ مِنْ غَيْرِ شِدَّةٍ فَإِنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ لَيْسَتْ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ، وَإِنَّ سُهُولَةَ الْمَمَاتِ لَيْسَتْ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَانْدَفَعَ قَوْلُ مَنْ قَالَ الْأَنْسَبُ أَنْ تَقُولَ أَغْبِطُ كُلَّ مَنْ مَاتَ بِشِدَّةٍ، ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثْرَةُ غَمَرَاتِهِ وَغَشَيَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ غَشَيَانٌ وَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ حَتَّى أَفَاقَ وَسَبَقَ بَيَانُ شِدَّةِ الْحُمَّى عَلَيْهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشِّدَّةَ إِنَّمَا كَانَتْ فِي مُقَدِّمَاتِ مَوْتِهِ لَا فِي نَفْسِ سَكَرَاتِهِ كَمَا يُتَوَهَّمُ، فَمُرَادُ عَائِشَةَ أَنِّي لَا أَتَمَنَّى الْمَوْتَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مَرَضٍ شَدِيدٍ كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَيَحْسَبُهُ الْعَوَامُّ أَنَّ اللَّهَ هَوَّنَ عَلَيْهِ إِكْرَامًا لَهُ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، هَذَا، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ غُشِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَصَحَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْعَدِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الرَّفِيقُ جَمَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَقِيلَ هُوَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ، وَقِيلَ حَظِيرَةُ الْقُدْسِ، وَفِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ حَدِيثٌ طَوِيلٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ مِنْ أَجَلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَ: أَجِدُنِي مَغْمُومًا مَكْرُوبًا، ثُمَّ جَاءَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَفِي الثَّالِثِ، وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَسْتَأْذِنُ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْ عَلَى آدَمِيٍّ قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ فَأَذِنَ لَهُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يُخَيِّرُهُ بَيْنَ قَبْضِ رُوحِهِ وَتَرْكِهِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى لِقَائِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَلَمَّا قَبَضَهُ وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ سَمِعُوا صَوْتًا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَذَكَرَ تَعْزِيَةً طَوِيلَةً وَأَنْكَرَ النَّوَوِيُّ وُجُودَ هَذِهِ التَّعْزِيَةِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ لَا تَصِحُّ وَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَلِكَ بِطُولِهِ فِيهِ انْقِطَاعٌ وَمُتَكَلَّمٌ فِيهِ وَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دُخُولِ مَلَكِ الْمَوْتِ رَوَى نَحْوَهُ الطَّبَرَانِيُّ، أَقُولُ: فَالْحَدِيثُ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ فَإِمَّا حَسَنٌ أَوْ ضَعِيفٌ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْفَضَائِلِ اتِّفَاقًا وَمَعْنَى اشْتِيَاقِ اللَّهِ لِلِقَائِهِ إِرَادَةُ لِقَائِهِ بِرَدِّهِ مِنْ دُنْيَاهُ إِلَى مَعَادِهِ زِيَادَةً فِي قُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ كَمَا وَرَدَ: مَنْ أَرَادَ لِقَاءَ اللَّهِ أَرَادَ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ تَحْصِيلِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِ سُبْحَانَهُ كَمَا وَرَدَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ: كَامِلُونَ

فِي الْإِسْلَامِ مُنْقَادُونَ لِلْأَحْكَامِ مُخْلِصُونَ فِي مَحَبَّةِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ (قَالَ أَبُو عِيسَى سَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ) وَهُوَ مِنْ أُكَابِرِ مَشَايِخِ التِّرْمِذِيِّ وَالْعُمْدَةُ فِي مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ (فَقُلْتُ لَهُ مَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَلَاءِ؟) مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ (هَذَا) أَيِ: الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ الْمَسْطُورِ، وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمَ عَنْهُ فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْعَلَاءِ مُتَعَدِّدٌ بَيْنَ الرُّوَاةِ (قَالَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ اللَّجْلَاجِ) بِجِيمَيْنِ وَجَرِّ الِابْنِ الثَّانِي وَيُقَالُ أَنَّهُ أَخُو خَالِدٍ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ. (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ) أَيْ: مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ ابْنُ الْمُلَيْكِيِّ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) مُصَغَّرًا (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ) أَيْ: فِيمَا هِيَ لِمَا سَيَأْتِي أَيُدْفَنُ، وَفِي أَيِّ مَكَانٍ دَفْنُهُ فَقِيلَ فِي مَسْجِدِهِ، وَقِيلَ عِنْدَ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِيلَ بِمَكَّةَ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) جَوَابًا عَنْ كُلٍّ مِنَ السُّؤَالَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ شَارِحٍ لَا فِي أَصْلِ الدَّفْنِ، وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْهُ (سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ) إِيمَاءً إِلَى كَمَالِ اسْتِحْضَارِهِ وَحِفْظِهِ (قَالَ مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ) أَيِ: اللَّهُ أَوِ النَّبِيُّ (أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (ادْفِنُوهُ) بِهَمْزِ وَصْلٍ وَكَسْرِ فَاءٍ (فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ) وَكَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَلَ الْمَوْضِعَ عَلَى أَخَصِّ مَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخَوَّلْ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ لِيَكُونَ شَرَفُ الْمَكَانِ بِالْمَكِينِ وَلِيَكُونَ مُسْتَقِلًّا فِي الرِّحْلَةِ إِلَيْهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّكِ بِمَا لَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقُبِرَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ إِلَى آبَائِهِ بَعْدُ بِفِلَسْطِينَ فَلَا يُنَافِيهِ الْحَدِيثُ أَوْ أَنَّ مَحَبَّةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدَفْنِهِ بِمِصْرَ كَانَتْ مُعَيَّاةً بِنَقْلِ مَنْ يَنْقُلُهُ إِلَى آبَائِهِ، وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَاءَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُدْفَنُ بِجَنْبِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْخَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ بَعْدَهُمَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْأَكْرَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَعَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بِوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي أَوْ جَبْهَتِهِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ (بَعْدَمَا مَاتَ) وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَيْضًا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَقْبِيلِهِ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَيْثُ قَبَّلَهُ، وَهُوَ مَيِّتٌ، وَهُوَ يَبْكِي حَتَّى سَالَ دُمُوعُهُ عَلَى وَجْهِ عُثْمَانَ. (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ حَدَّثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَطَّارُ) بِالرَّفْعِ (عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ نِسْبَةً إِلَى بَطْنٍ مِنَ الْأَزْدِ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ) بِمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، ثُمَّ نُونٌ مَضْمُومَةٌ، وَوَاوٌ سَاكِنَةٌ وَمُهْمَلَةٌ بَصْرِيٌّ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ فَوَضَعَ فَمَهُ) وَفِي نُسْخَةٍ فَاهُ بِأَلِفٍ

بَدَلَ الْمِيمِ (بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى سَاعِدَيْهِ، وَقَالَ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ انْزِعَاجٍ وَقَلَقٍ بَلْ بِخَفْضِ صَوْتٍ (وَانَبِيَّاهُ) بَهَاءٍ سَاكِنَةٍ لِلسَّكْتِ تُزَادُ وَقْفًا لِإِرَادَةِ ظُهُورِ الْأَلِفِ لِخَفَائِهَا وَتُحْذَفُ وَصْلًا، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ آخِرَهُ الْفَاءُ لِيَمْتَدَّ بِهِ الصَّوْتُ وَلِيَتَمَيَّزَ الْمَنْدُوبُ عَنِ الْمُنَادَى (وَاصَفِيَّاهُ وَاخَلِيلَاهُ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَحَدَرَ فَاهُ فَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَانَبِيَّاهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، وَقَالَ وَاخَلِيلَاهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَوَضَعَ فَمَهُ عَلَى جَبِينِهِ فَجَعَلَ يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي وَيَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَدِّ أَوْصَافِ الْمَيِّتِ بِصِيغَةِ الْمَنْدُوبِ لَكِنَّهُ بِلَا نَوْحٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْدُوبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ حِلُّ نَحْوِ ذَلِكَ بِلَا نَوْحٍ، وَلَا نَدْبٍ، ثُمَّ لَا يُنَافِي هَذَا مَا يَأْتِي مِنْ ثَبَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ مِنْ غَيْرِ انْزِعَاجٍ وَقَلَقٍ وَجَزَعٍ وَفَزَعٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرَانِيُّ. (حَدَّثَنَا بِشْرُ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (ابْنُ هِلَالٍ الصَّوَّافُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ أَضَاءَ) أَيِ اسْتَنَارَ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْمَدِينَةِ (كُلُّ شَيْءٍ) فَمِنْ بَيَانِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ أَيْ: تَنَوَّرَ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الْمَدِينَةِ نُورًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لِمَا فِي دُخُولِهِ مِنْ أَنْوَاعِ أَنْوَارِ الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ وَرَفْعِ أَصْنَافِ أَطْوَارِ الظُّلْمَةِ الطَّامَّةِ مَعَ الْإِشَارَةِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ كَأَنَّهُ اقْتَبَسَ النُّورَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوِ الْإِضَاءَةَ كِنَايَةً عَنِ الْفَرَحِ التَّامِّ لِسُكَّانِ الْمَدِينَةِ مَعَ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَهْلِ الْعَدَاوَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّجْرِيدِ كَقَوْلِكَ لَتَلْقَيَنَّ مِنْهُ الْأَسَدَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِضَاءَةَ كَانَتْ مَحْسُوسَةً كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَأَغْرَبَ شَارِحٌ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِضَاءَةَ كَانَتْ مَحْسُوسَةً (فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ) وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِضَاءَةِ وَالْإِظْلَامِ مَعْنَوِيَّانِ خِلَافًا لِابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مَحْسُوسَانِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُعْجِزَةَ لَا تَثْبُتُ بِمِثَالِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِرَاءَةَ الْحِسِّيَّةَ فَلَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهَا عَلَى الْإِرَاءَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا سِيَّمَا فِي أَلْسِنَةِ الْفُصَحَاءِ عِنْدَ مَوْتِ الْعُظَمَاءِ أَنَّهُ أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْهَنَاءِ أَضَاءَ الْعَالَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَمَا نَقَضْنَا أَيْدِيَنَا عَنِ التُّرَابِ) مَا نَافِيَةٌ وَنَفْضُ الشَّيْءِ تَحْرِيكُهُ لِانْتِفَاضِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى صَدْرِ الْكَلَامِ السَّابِقِ خِلَافًا لِابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ فَتَأَمَّلْ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَقَالِ، وَالْمَعْنَى وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا عَنْ تُرَابِ الْقَبْرِ (وَإِنَّا) بِالْكَسْرِ أَيْ: وَالْحَالُ إِنَّا (لَفِي دَفْنِهِ) أَيْ: لَفِي مُعَالَجَةِ دَفْنِهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنْكَرْنَا) أَيْ: نَحْنُ (قُلُوبَنَا) بِالنَّصْبِ أَيْ: تَغَيَّرَتْ حَالُهَا بِوَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَبْقَ عَلَى مَا كَانَتْ مِنَ الرِّقَّةِ وَالصَّفَا لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَبَرَكَةِ الصُّحْبَةِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَغْيِيرِ حَالِهِمْ وَعَدَمِ بَقَاءِ صَفَاءِ خَاطِرِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ حَتَّى قَيَّدَ لِنَفْيِ النَّفْضِ يُرِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّفَاءِ وَالرِّقَّةِ لِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْوَحْيِ وَفِقْدَانِ مَا كَانَ يَمُدُّهُمْ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّأْيِيدِ وَالتَّعْلِيمِ وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ انْتَهَى، وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ إِنْكَارُ الْقُلُوبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى نَفْضِ

التُّرَابِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا التُّرَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَادَ بَعْضُهُمْ وَأَخَذَتْ مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى عَيْنِهَا وَأَنْشَدَتْ (مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ ... أَنْ لَا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا) (صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ وَفَاطِمَةُ إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَ غَلَبَةِ الْحُزْنِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ أَذْهَلَهَا كَغَيْرِهَا، قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّدْمَةُ الْأُولَى فَهِيَ لِغَلَبَةِ الْحُزْنِ أَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِنَّا الْوَاوُ هُنَا لِلْحَالِ أَيْضًا فَهِيَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا مِنَ الْمُتَدَاخِلَةِ بَيْنَ بِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ الْإِظْلَامَ وَقَعَ عَقِيبَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ مُهْمَلَةٍ وَحَتَّى غَايَةٌ لِلْإِظْلَامِ يَعْنِي أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى قُلُوبُنَا فَمُنَاقِضٌ لِمَا اخْتَارَهُ مِنَ الْإِظْلَامِ الْحِسِّيِّ دُونَ الْمَعْنَوِيِّ وَمُعَارَضٌ لِمَا يُفِيدُهُ الْحَالُ الْأُولَى مِنَ التَّقْيِيدِ لِلْإِظْلَامِ بِحَالِ عَدَمِ النَّفْضِ إِذْ هُوَ يُنَافِي حُصُولَهُ عَقِيبَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيُّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) هَذَا مَعَ إِجْمَالِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَرْبَابِ النَّقْلِ وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُفَصَّلًا. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ الصَّادِقُ ابْنُ الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ) أَيِ: الْبَاقِرُ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَمَكَثَ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ: لَبِثَ (ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ) بِالْمَدِّ وَزِيدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَعْدَهُ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ (وَدُفِنَ مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ: بَعْضِ أَجْزَائِهِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ دُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ وَسَطَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، وَقِيلَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ انْتَهَى، (قَالَ سُفْيَانُ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ سُفْيَانُ (وَقَالَ غَيْرُهُ) أَيْ: غَيْرُ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ (يُسْمَعُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (صَوْتُ الْمَسَاحِي) الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي حَثْيِ التُّرَابِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ مِسْحَاةٍ، وَهِيَ كَالْمِجْرَفَةِ إِلَّا أَنَّهَا مِنْ حَدِيدٍ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْمِيمَ زَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنَ السَّحْوِ بِمَعْنَى الْكَشْفِ وَالْإِزَالَةِ (مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ) وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا فِي الْجَامِعِ مِنْ أَنَّهُ وَسَطَ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسَطِ الْجَوْفُ أَوْ كَانَ الِابْتِدَاءُ مِنَ الْوَسَطِ وَانْتَهَى، إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ فَفِي الْجُمْلَةِ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ رِوَايَةِ الْبَاقِرِ، ثُمَّ الْوَجْهُ فِي تَأْخِيرِ تَكْفِينِهِ وَتَدْفِينِهِ مَعَ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ تَعْجِيلَهُ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ فَجْأَةً فَيُتْرَكَ حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ بَيْتٍ أَخَّرُوا دَفْنَ مَيِّتِهِمْ، عَجِّلُوا دَفْنَ مَيِّتِكُمْ، وَلَا تُؤَخِّرُوهُ أَنَّهُ كَانَ النَّاسُ أُمِّيِّينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَهُ. كَمَا سَيَجِيءُ فِي حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ فَلَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى وَالْبَلِيَّةُ الْكُبْرَى وَقَعَ الِاضْطِرَابُ بَيْنَ الْأَصْحَابِ كَأَنَّهُمْ أَجْسَادٌ بِلَا أَرْوَاحٍ وَأَجْسَامٌ بِلَا عُقُولٍ حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ صَارَ عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ ضَعِيفًا نَحِيفًا وَبَعْضُهُمْ صَارَ مَدْهُوشًا وَشَكَّ بَعْضُهُمْ فِي مَوْتِهِ وَكَانَ مَحَلَّ الْخَوْفِ عَنْ هُجُومِ الْكُفَّارِ وَتَوَهُّمِ وُقُوعِ الْمُخَالَفَةِ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ بَيْنَ الْأَبْرَارِ فَاشْتَغَلُوا بِالْأَمْرِ الْأَهَمِّ، وَهُوَ الْبَيْعَةُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِهَا مِنَ الْفِتْنَةِ وَلِيَكُونَ لَهُمْ إِمَامٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِيمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْقَضِيَّةِ فَنَظَرُوا فِي الْأَمْرِ فَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ بَايَعُوهُ بِالْغَدِ بَيْعَةً أُخْرَى وَكَشَفَ اللَّهُ بِهِ الْكُرْبَةَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَسَّلُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ بِمُلَاحَظَةِ رَأْيِ الصِّدِّيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) بِفَتْحِ نُونٍ وَكَسْرِ مِيمٍ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) قِيلَ هَذَا سَهْوٌ مِنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ بِاعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ وَالثَّانِيَ بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ يَعْنِي الِابْتِدَاءَ بِتَجْهِيزِهِ فِي يَوْمِ

الثُّلَاثَاءِ وَفَرَاغِ الدَّفْنِ مِنْ آخِرِ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ (قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ: وَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى حَدَّثَنَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ سَلَمَةُ (ابْنُ نُبَيْطٍ) بِالتَّصْغِيرِ (أُخْبِرْنَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْ نُعَيْمِ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ الْأَشْجَعِيِّ الْكُوفِيِّ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ يُكْنَى أَبَا سَلَمَةَ، وَفِي التَّقْرِيبِ أَبَا فِرَاسٍ ثِقَةٌ يُقَالُ: اخْتَلَطَ مِنَ الْخَامِسَةِ قَالَ الْجَزَرِيُّ شَرِيطٌ بِفَتْحِ الشِّينِ صَحِيحٌ وَبِالضَّمِّ غَلَطٌ فَاحِشٌ زِيدَ فِي نُسْخَةٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِخَطِّ مِيرَكَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ قَالَ سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطٍ أَخْبَرَنَا بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ مِيرَكُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطٍ أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ أَبِي هِنْدٍ هَذَا، وَفِي التَّقْرِيبِ نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ النُّعْمَانُ بْنُ أَشَمَّ الْأَشْجَعِيُّ ثِقَةٌ رُمِيَ بِالنَّصْبِ مِنَ الرَّابِعَةِ مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ انْتَهَى، وَبِخَطِّ مِيرَكَ تَحْتَهُ الرَّجُلُ الْمَرْمِيُّ بِالنَّصْبِ لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَلَا كَرَامَةَ لَهُ بَلْ هُوَ مَلْعُونٌ كَذَّابٌ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قُلْتُ هَذَا لَيْسَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوا لَعْنَ أَحَدٍ بِالْخُصُوصِ لَا مِنَ النَّوَاصِبِ، وَلَا مِنَ الرَّوَافِضِ بَلْ وَلَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا مَنْ ثَبَتَ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ فَكَيْفَ يُلْعَنُ مَنِ اتُّهِمَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَهُمْ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَأَيْضًا لَيْسَ مَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ رَدَّ النَّوَاصِبِ وَالرَّوَافِضِ بِمُجَرَّدِ بِدْعَتِهِمْ وَرُبَّمَا يُصَرِّحُونَ فِي حَقِّ بَعْضٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِأَنَّهُ ثِقَةٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ خَارِجِيًّا أَوْ رَافِضِيًّا أَنْ يَكُونَ كَذَّابًا أَوْ فَاسِقًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ (عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَيْ: هُوَ صَحَابِيٌّ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: سَالِمُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيُّ صَحَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ (قَالَ أُغْمِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: غُشِيَ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَفِي النِّهَايَةِ أُغْمِيَ عَلَى الْمَرِيضِ إِذَا غُشِيَ عَلَيْهِ كَأَنَّ الْمَرَضَ سَتَرَ عَقْلَهُ وَغَطَّاهُ (فِي مَرَضِهِ) الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ (فَأَفَاقَ فِيهِ) أَيْ: فَرَجَعَ إِلَى مَا كَانَ قَدْ شُغِلَ عَنْهُ فَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوَاءِ وَأَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّهُ نَقْصٌ يُنَافِي مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَيَّدَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازَ الْإِغْمَاءِ بِغَيْرِ الطَّوِيلِ وَجَزَمَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ قَالَ السُّبْكِيُّ وَلَيْسَ إِغْمَاؤُهُمْ كَإِغْمَاءِ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَرِحُوا سَهْمَ الظَّاهِرَةِ دُونَ قُلُوبِهِمْ وَقُوَّتِهِمُ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا عُصِمَتْ مِنَ النَّوْمِ الْأَخَفِّ فَالْإِغْمَاءُ بِالْأَوْلَى، وَأَمَّا الْجُنُونُ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ قُلْتُ وَلِأَنَّهُ مِمَّا نَفَى اللَّهُ عَنْهُمْ مُطْلَقًا فِي مَوَاضِعَ وَأَلْحَقَ بِهِ السُّبْكِيُّ الْعَمَى، وَقَالَ لَمْ يَعْمَ نَبِيٌّ قَطُّ وَمَا ذُكِرَ عَنْ شُعَيْبٍ أَنَّهُ كَانَ ضَرِيرًا فَلَمْ يَثْبُتْ، وَأَمَّا يَعْقُوبُ فَحَصَلَتْ لَهُ غِشَاوَةٌ وَزَالَتْ وَحَكَى الرَّازِيُّ عَنْ جَمْعٍ فِي يَعْقُوبَ مَا يُوَافِقُهُ قُلْتُ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يُخَالِفُهُ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا (فَقَالَ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ؟) بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرِ كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْمَعْنَى أَحَضَرَ وَقْتُهَا؟ (فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: مُرُوا بِلَالًا) أَمْرٌ مُخَفَّفٌ مِنَ الْأَمْرِ نَحْوَ خُذُوا وَكُلُوا (فَلْيُؤَذِّنْ) بِتَشْدِيدِ الذَّالِ مِنَ التَّأْذِينِ أَيْ: فَلْيُنَادِ بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ وَأَنْسَبُ بِقَوْلِهِ (وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ) أَيْ: إِمَامًا لَهُمْ (أَوْ قَالَ بِالنَّاسِ) أَيْ: جَمَاعَةً أَوِ الْجَارُّ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، وَالتَّشْدِيدُ هُوَ الْمَضْبُوطُ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ وَخَالَفَ الذَّالَ، (فَلْيُعْلِمْهُ) وَبِفَتْحٍ وَتَشْدِيدٍ أَيْ: فَلْيَدْعُهُ انْتَهَى، وَلَيْسَ هُنَا مَرْجِعٌ لِلضَّمِيرِ وَالْمُقَدَّرُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ

النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْمُشَدَّدَ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ (ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ) قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ وَحِكْمَةُ مَا يَعْتَرِي الْأَنْبِيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ تَكْثِيرُ حَسَنَاتِهِمْ وَتَعْظِيمُ دَرَجَاتِهِمْ وَتَسْلِيَةُ النَّاسِ بِحَالَاتِهِمْ وَلِئَلَّا يَفْتَتِنَ النَّاسُ بِمَقَامَاتِهِمْ وَلِئَلَّا يَعْبُدُوهُمْ لِمَا ظَهَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْمُعْجِزَاتِ وَظَوَاهِرِ الْبَيِّنَاتِ (فَقَالَ مُرُوا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبِي رَجُلٌ أَسِيفٌ) فَعِيلٌ مِنَ الْأَسَفِ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَلِابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَاصِمٍ أَحَدِ رُوَاتِهِ: الْأَسِيفُ الرَّحِيمُ، وَفِي الصِّحَاحِ: الْأَسَفُ أَشَدُّ الْحُزْنِ وَالْأَسِيفُ وَالْأَسَوفُ السَّرِيعُ الْحُزْنِ الرَّقِيقُ الْقَلْبِ (إِذَا قَامَ ذَلِكَ الْمَقَامَ بَكَى) أَيْ: لِفَقْدِ خَلِيلِهِ الْإِمَامِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ لِتَدَبُّرِهِ الْقُرْآنَ، وَفِي نُسْخَةٍ يَبْكِي (فَلَا يَسْتَطِيعُ) أَيِ: الْإِمَامَةَ أَوِ الْقِرَاءَةَ (فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ) أَيْ: بِالْقِيَامِ لِهَذَا الْأَمْرِ لَكَانَ حَسَنًا فَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلشَّرْطِ بَلْ لِلتَّمَنِّي فَلَا يَطْلُبُ جَوَابًا. وَأَمَّا تَقْدِيرُ بَعْضِهِمْ «لَكَانَ أَحْسَنَ» فَلَيْسَ بِحَسَنٍ مِنْ حَيْثِيَّةٍ حُسْنِ الْأَدَبِ (قَالَ) أَيْ: سَالِمُ بْنُ عُبَيْدٍ (ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ) أَيْ: حَصَلَ لَهُ الِاسْتِغْرَاقُ (فَأَفَاقَ فَقَالَ مُرُوا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ) جَمْعُ صَاحِبَةٍ (أَوْ صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمْعُ صَوَاحِبَ فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ كُلٌّ مِنْهُمَا جَمْعُ صَاحِبَةٍ لَكِنَّ الثَّانِيَ قَلِيلٌ فَسَهْوٌ ظَاهِرٌ. ثُمَّ لَفْظُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ بَابِ الزِّيَادَاتِ الْمُلْحَقَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْكَلِمَاتِ الْمُدْرَجَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُنَّ مِثْلُ صَوَاحِبِ يُوسُفَ فِي إِظْهَارِ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَالْمُرَادُ بِهِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ عَائِشَةُ فَقَطْ كَمَا أَنَّ صَوَاحِبَ لَفْظُ جَمْعٍ، وَالْمُرَادُ: زُلَيْخَا فَقَطْ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ تَبَعًا لِشَارِحٍ: الْمَعْنَى إِنَّكُنَّ فِي التَّظَاهُرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى مَا تُرِدْنَهُ وَإِلْحَاحِكُنَّ عَلَى مَا تَمِلْنَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُهُ مَا ذَكَرَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ هِيَ عَائِشَةُ وَحْدَهَا. ثُمَّ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ عَائِشَةَ وَزُلَيْخَا أَنَّهَا اسْتَدْعَتِ النِّسْوَةَ وَأَظْهَرَتْ لَهُنَّ الْإِكْرَامَ بِالضِّيَافَةِ وَمُرَادُهَا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرْنَ إِلَى حُسْنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَعْذُرْنَهَا فِي مَحَبَّتِهَا لَهُ وَيَتْرُكْنَهَا عَنِ الْمَلَامِ وَأَنَّ عَائِشَةَ أَظْهَرَتْ أَنَّ سَبَبَ إِرَادَتِهَا صَرْفَ الْإِمَامَةِ عَنْ أَبِيهَا لِكَوْنِهِ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ تَعْنِي الْمَأْمُومِينَ الْقِرَاءَةَ لِبُكَائِهِ وَمُرَادُهَا زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَتْ: لَقَدْ رَاجَعْتُهُ وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا وَإِنِّي كُنْتُ أَرَى أَنْ لَا يَقُومَ مَقَامَهُ أَحَدٌ إِلَّا تَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَنْدَفِعُ إِشْكَالُ مَنْ قَالَ إِنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُنَّ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. أَقُولُ: وَلَا يَبْعُدُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ الْأَنْسَبُ مَبْنًى وَالْأَقْرَبُ مَعْنًى أَنَّ الْمُرَادَ بِصَوَاحِبَاتِ يُوسُفَ نِسَاءُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مَكْرًا؛ لِأَنَّهُنَّ قُلْنَ ذَلِكَ وَأَظْهَرْنَ الْمُعَايَبَةَ هُنَالِكَ تَوَسُّلًا إِلَى إِرَاءَتِهَا يُوسُفَ لَهُنَّ وَكَانَ يُوصَفُ حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ عِنْدَهُنَّ، ثُمَّ

قَدْ يُقَالُ: الْخِطَابُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَجُمِعَ إِمَّا تَعْظِيمًا لَهُمَا أَوْ تَغْلِيبًا لِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْحَاضِرَاتِ أَوِ الْحَاضِرِينَ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ. وَيُعَضِّدُهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْ: أُغْمِيَ إِلَى آخِرِهِ رَوَى الشَّيْخَانِ أَيْضًا بَعْضَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ وَأَنَّ عَائِشَةَ أَجَابَتْهُ، وَإِنْ كَرَّرَ ذَلِكَ فَكَرَّرَتِ الْجَوَابَ وَأَنَّهُ قَالَ (إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ أَوْ صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَتْ لَهَا حَفْصَةُ: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِصَوَاحِبِ يُوسُفَ مِثْلُهُنَّ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ الْوَارِدِ فِي حَقِّهِنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (قَالَ) أَيْ: سَالِمٌ (فَأُمِرَ بِلَالٌ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (فَأَذَّنَ وَأُمِرَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ) أَيْ: تِلْكَ الصَّلَاةَ وَمَجْمُوعُ مَا صَلَّى بِهِمْ سَبْعَ عَشْرَةَ صَلَاةً كَامِلَةً عَلَى مَا نَقَلَهُ الدِّمْيَاطِيُّ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَجَعَلَ قَوْلَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَفْعُولَ صَلَّى الْمَذْكُورِ فِي الْمَتْنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ قَوِيمٌ (ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ خِفَّةً فَقَالَ انْظُرُوا) أَيْ: لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: تَفَكَّرُوا وَتَدَبَّرُوا (مَنْ أَتَّكِئُ عَلَيْهِ) أَيْ: لِأَخْرُجَ لِلصَّلَاةِ (فَجَاءَتْ بَرِيرَةُ) هِيَ جَارِيَةٌ لِعَائِشَةَ كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِخُرُوجِهَا مَعَهُ مَعَ أَنَّهَا مَعْتُوقَةٌ لِعَائِشَةَ، وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تُوصِلَهُ إِلَى الْبَابِ، ثُمَّ الْأَصْحَابُ يُوصِلُونَهُ إِلَى الْمِحْرَابِ وَكَذَا لَا يُنَاسِبُهَا قَوْلُهَا (وَرَجُلٌ آخَرُ) قَالَ مِيرَكُ: وَاسْمُهُ نُوبَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ انْتَهَى، يَعْنِي لِقَوْلِهَا وَرَجُلٌ آخَرُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِبَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ بَرِيرَةَ وَنُوبَةَ وَضَبَطَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ أَمَةٌ، هَذَا وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ رَجُلَانِ عَبَّاسٌ وَعَلِيٌّ لَفْظُ الشَّيْخَيْنِ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآخَرَ بِعَلِيٍّ، وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ وَيَدُهُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَيَدُهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ وَجَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ «بَيْنَ رَجُلَيْنِ» أَحَدُهُمَا أُسَامَةُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْعَبَّاسُ وَوَلَدُهُ الْفَضْلُ، وَفِي أُخْرَى الْعَبَّاسُ وَأُسَامَةُ وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيُّ أُسَامَةُ وَالْفَضْلُ وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ الْفَضْلُ وَثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَجَمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ جَمِيعِهَا بِتَعَدُّدِ خُرُوجِهِ أَوْ بِأَنَّ الْعَبَّاسَ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَشَرَفِ شَأْنِهِ كَانَ مُلَازِمًا لِلْأَخْذِ بِيَدِهِ، وَلِذَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ وَالْبَاقُونَ تَنَاوَبُوا وَتَنَافَسُوا وَخُصُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ خَوَاصِّ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَمَّا لَمْ يُلَازِمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ أَبْهَمَتْ عَائِشَةُ الرَّجُلَ الَّذِي مَعَ الْعَبَّاسِ لَكِنَّ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْعَبَّاسِ فَلَا يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَفِي الْجُمْلَةِ (فَاتَّكَأَ عَلَيْهِمَا) أَيِ اعْتَمَدَ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَخَرَجَ مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ) أَيْ: شَرَعَ أَوْ قَصَدَ (لِيَنْكُصَ) بِضَمِّ الْكَافِ كَذَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُضْبَطَ بِكَسْرِ الْكَافِ طِبْقَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ (عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ) بِالْكَسْرِ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهُمْ نَعَمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ ضَمُّ الْكَافِ وَكَذَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ أَيْ: لِيَتَأَخَّرَ وَالنُّكُوصُ الرُّجُوعُ قَهْقَرَى (فَأَوْمَأَ) بِالْهَمْزِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَأَوْمَى، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ أَيْ: أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى أَبِي بَكْرٍ (أَنْ يَثْبُتَ مَكَانُهُ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَ كَمَا سَبَقَ خِلَافًا

لِابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَدَى بِهِ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا أَنَّ اقْتِدَاءَهُ بِهِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَامًا حِينَئِذٍ أَوْ مَأْمُومًا، وَفِيمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْمَسَائِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمِرْقَاةِ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ (حَتَّى قَضَى أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: أَتَمَّ (صَلَاتَهُ) غَايَةً لِقَوْلِهِ يَثْبُتُ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْإِمَامُ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ حَتَّى قَضَى مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ أَيْ: فَثَبَتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى فَرَغَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ انْتَهَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَثْبُتَ فَثَبَتَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى فَرَغَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ (ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ) أَيْ: وَأَبُو بَكْرٍ غَائِبٌ بِالْعَالِيَةِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ بِنْتِ خَارِجَةَ لِضَرُورَةِ حَاجَةٍ دَعَتْهُ إِلَى الْخُرُوجِ بَعْدَ إِذْنِهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ (فَقَالَ عُمَرُ) أَيْ: وَقَدْ سَلَّ سَيْفَهُ (وَاللَّهِ لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي هَذَا) أَيْ: ظَهْرًا أَوْ بَطْنًا وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا إِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أُرْسِلَ إِلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَبِثَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تُقَطَّعَ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلُهُمْ أَيْ: مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْمُرْتَدِّينَ أَوِ الْمُرِيدِينَ لِلْخِلَافَةِ قَبْلَ حُضُورِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ ظَنُّهُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْغَشَيَانِ الْمُعْتَادِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ذُهُولِ حِسِّهِ فَأَحَالَ الْمَوْتَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ) أَيْ: سَالِمٌ (وَكَانَ النَّاسُ) أَيِ: الْعَرَبُ (أُمِّيِّينَ) أَيْ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْأُمِّيُّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْأُمِّيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، وَقِيلَ إِلَى أُمِّ الْقُرَى، وَهِيَ مَكَّةُ وَعَلَى التَّقَادِيرِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدِّرَاسَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأُمُورِ الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ كَمَا هُوَ حَقُّهَا فَكَأَنَّهُ شُبِّهَ بِالطِّفْلِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَلَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا أَوْ بِسُكَّانِ أُمِّ الْقُرَى فَإِنَّهُمْ مَشْهُورُونَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَحِسَابٍ، وَلَا كِتَابَةٍ، وَلَا دِرَاسَةٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ لَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يَقْرَأْ أُمِّيٌّ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى أُمَّةِ الْعَرَبِ وَكَانُوا لَا يَكْتُبُونَ، وَلَا يَقْرَءُونَ وَيُقَالُ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُ أُمِّيٌّ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ قِرَاءَةً، وَلَا كِتَابَةً، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ كَانَتْ فِيهِمْ قَلِيلَةً نَادِرَةً فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّمُوا الْكُتُبَ وَلَمْ يَقْرَءُوهَا حَتَّى يَعْرِفُوا حَقَائِقَ الْأُمُورِ، وَلَا يُذْهِلَهُمْ عَظَائِمُ الْمِحَنِ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ فَلَا جَرَمَ تَحَيَّرُوا فِي أَمْرِ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ سَبَبُ الْعِلْمِ بِجَوَازِ مَوْتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَيْفِيَّةِ انْتِقَالِهِمْ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ إِنَّمَا هُوَ الْمُمَارَسَةُ بِالْمُدَارَسَةِ أَوِ الْمُشَاهَدَةِ، وَلِذَا قَالَ (لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَهُ فَأَمْسَكَ النَّاسُ) أَيْ:

أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ مَعَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْتِهِ فَوَضَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ يَدَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَالَتْ: تُوُفِّيَ رُفِعَ الْخَاتَمُ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ وَالْحِكْمَةُ فِي امْتِنَاعِهِمْ عَنْ إِظْهَارِ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظُهُورُ جَلَالَةِ الصِّدِّيقِ بِمَا أَظْهَرَ مِنَ الْجَلَادَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ وَالْقِيَامِ فِي الْقَضِيَّةِ بِوُسْعِ الطَّاقَةِ عِنْدَ تَحَيُّرِ أَكَابِرِ الْأُمَّةِ مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَظِيمِ الْغُمَّةِ (قَالُوا: يَا سَالِمُ، انْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادْعُهُ) وَفِي الْعُدُولِ عَنِ اسْمِهِ بِوَصْفِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهَذَا الْمَعْنَى خُصُوصِيَّةً زَائِدَةً مُسْتَفَادَةً مِنْ مُدَاوَمَةِ مُلَازَمَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وَكَأَنَّهُ اسْتَمَرَّ نَفْيُ الْحُزْنِ عَنْهُ عِنْدَ كُلِّ مِحَنٍ وَتَقَوَّى قَلْبُهُ عِنْدَ ظُهُورِ كُلِّ فِتَنٍ (فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ مَحِلَّتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَهُوَ بِالْعَوَالِي، الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ ضُحًى (فَأَتَيْتُهُ أَبْكِي دَهِشًا) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ حَالَ كَوْنِي بَاكِيًا مَدْهُوشًا مُتَحَيِّرًا (فَلَمَّا رَآنِي، وَقَالَ لِي أَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ -) كَذَا بِالْوَاوِ قَبْلَ «قَالَ» عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالظَّاهِرُ تَرْكُهَا لِيَكُونَ «قَالَ» جَوَابَ «لَمَّا» ، لَكِنْ قَالَ مِيرَكُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَجَوَابُ لَمَّا قَوْلُهُ (قُلْتُ إِنَّ عُمَرَ يَقُولُ لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي هَذَا فَقَالَ لِي اِنْطَلِقْ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرْسَلَ غُلَامَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَهُ الْغُلَامُ فَقَالَ الْغُلَامُ فَقَالَ سَمِعْتُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَاتَ مُحَمَّدٌ فَرَكِبَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَالَ وَامُحَمَّدَاهُ وَانْقِطَاعَ ظَهْرَاهُ وَبَكَى فِي الطَّرِيقِ حَتَّى أَتَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَجَاءَ هُوَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (وَالنَّاسُ قَدْ دَخَلُوا) وَفِي نُسْخَةٍ حَفُّوا بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ فَاءٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ: أَحْدَقُوا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ) وَفِي نُسْخَةٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ (أَفْرِجُوا إِلَيَّ) مِنَ الْإِفْرَاجِ أَيْ: أَعْطُوا الْفُرْجَةَ لِأَجْلِي (فَأَفْرَجُوا لَهُ) أَيِ: انْكَشَفُوا عَنْ طَرِيقِهِ (فَجَاءَ حَتَّى أَكَبَّ) أَيْ: أَقْبَلَ أَوْ سَقَطَ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَخَرَّ عَلَى سَاعِدِهِ وَمَسَّهُ) أَيْ: قَبَّلَهُ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ، وَهُوَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَوْضِعٌ بِعَوَالِي الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ أَيْ: كَلَامًا عُرْفِيًّا فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ أَفْرِجُوا لِي. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: فَلَمْ يُكَلِّمْ مَنْ بِالْمَسْجِدِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَتَيَمَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: قَصَدَهُ بِوَضْعِ وَجْهِهِ عَلَيْهِ وَالتَّمَسُّحِ بِهِ تَبَرُّكًا إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسَجًّى بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ: مُغَطًّى بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ كَعِنَبَةٍ نَوْعٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، وَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مِتَّهَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَنَفْيُهُ الْمَوْتَتَيْنِ إِمَّا حَقِيقَةً رَدًّا عَلَى عُمَرَ فِي قَوْلِهِ مَا مَرَّ إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ يَمُوتُ مَوْتَةً أُخْرَى، وَهُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَهُمَا عَلَيْهِ كَمَا جَمَعَهُمَا عَلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَكَذَا عَلَى الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، قُلْتُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عُزَيْرًا وَاخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ لَكِنْ كَانَ لَهُ هَذَا الْأَمْرُ تَقْرِيرًا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَوْتَةً أُخْرَى فِي الْقَبْرِ كَغَيْرِهِ قُلْتُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِي قَبْرِهِ ثَانِيًا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِلْمَوْتَى عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى غَشَيَانٌ كَالْأُولَى وَأَوَّلُ مَنْ يُفِيقُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْهِ بَيْنَ مَوْتِ نَفْسِهِ وَمَوْتِ شَرِيعَتِهِ، وَقِيلَ الْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ الْكَرْبُ أَيْ: لَا تَلْقَى بَعْدَ كَرْبِ هَذَا الْمَوْتِ كَرْبًا آخَرَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ لَمَّا قَالَتْ: وَاكَرْبَاهْ لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ (فَقَالَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْمَقَالِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَالَ بِمَعْنَى قَرَأَ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) يَعْنِي قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْكَ فِي كِتَابِهِ أَنَّكَ سَتَمُوتُ وَأَنَّ أَعْدَاءَكَ أَيْضًا سَيَمُوتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَقَوْلُهُ حَقٌّ وَوَعْدُهُ صِدْقٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ إِنَّ الْجَائِيَ هُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُصَدِّقَ أَبُو بَكْرٍ،

وَلِذَا سُمِّيَ بِالصَّدِّيقِ (ثُمَّ قَالُوا: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ - قَالَ نَعَمْ فَعَلِمُوا أَنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ: أَنَّهُ (قَدْ صَدَقَ) لِكَوْنِهِ قَطُّ فِي عُمُرِهِ مَا كَذَبَ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذِهِ الْمُصِيبَةِ وَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ مَهِيبَةٍ فَبَعْضُهُمْ خَبَلَ كَعُمَرَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَبَعْضُهُمْ أُقْعِدَ فَلَمْ يُطِقِ الْقِيَامَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ بَلْ أَضْنَى فَمَاتَ كَمَدًا وَبَعْضُهُمْ أُخْرِسَ فَلَمْ يُطِقِ الْكَلَامَ كَعُثْمَانَ وَكَانَ أَثْبَتَهُمْ أَبُو بَكْرٍ جَاءَ وَعَيْنَاهُ تُهْمِلَانِ وَزَفَرَاتُهُ تَتَصَاعَدُ مِنْ حَلْقِهِ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَانْقَطَعَ لِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَعَظُمْتَ عِنْدَ الصِّفَةِ وَجَلَلْتَ عَنِ الْبُكَاءِ وَلَوْ أَنَّ مَوْتَكَ كَانَ اخْتِيَارًا لَجُدْنَا لِمَوْتِكَ بِالنُّفُوسِ اذْكُرْنَا يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ رَبِّكَ وَلْنَكُنْ مِنْ بَالِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ أَصَابَهُ حُزْنٌ شَدِيدٌ فَمَا زَالَ يُحْرَى بَدَنُهُ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَيْ: يَذُوبُ وَيَنْقُصُ ذَكَرَهُ الدُّمَيْرِيُّ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَامَ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَهُ فَقَالَ بِأَبِي وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقَنَّكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: عَلَى مَهْلِكَ فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَقَالَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وَقَالَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الْآيَةَ قَالَ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ أَيْ: غُصُّوا بِالْبُكَاءِ مِنْ غَيْرِ انْتِحَابٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَمَّا مَاتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَجْزَعَ النَّاسِ كُلِّهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَفِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا جَاءَ كَشَفَ الْبُرْدَةَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ وَاسْتَنْشَقَ الرِّيحَ أَيْ: شَمَّ رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ سَجَّاهُ وَالْتَفَتَ إِلَيْنَا، ثُمَّ قَالَ مَا مَرَّ قَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ لَكَأَنِّي لَمْ أَتْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ قَطُّ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ سَجَّيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ عُمَرُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاسْتَأْذَنَا فَأَذِنْتُ لَهُمَا وَجَذَبْتُ الْحِجَابَ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيْهِ فَقَالَ وَاغَشْيَتَاهْ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ يَا عُمَرُ مَاتَ؟ فَقَالَ كَذَبْتَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا عُمَرُ فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا بَعْدُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ مِنْهُ كُلُّهُمْ فَمَا سُمِعَ بَشَرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا قَالَ مَا مَرَّ فِي الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الِاسْتِبْشَارَ وَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَمَّ إِلَى تِلْكَ الْآيَاتِ قَوْلَهُ تَعَالَى وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الْآيَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْوَائِلِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ أَيْ عُمَرَ حِينَ بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَدْ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَمْسِ مَقَالَةً أَيْ: لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَمَا قُلْتُ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُهَا فِي كِتَابٍ، وَلَا فِي عَهْدٍ عَهِدَهُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ حَتَّى يَكُونَ آخِرَنَا مَوْتًا فَاخْتَارَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِرَسُولِهِ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا لِمَا هَدَى اللَّهُ لَهُ رَسُولَهُ. أَقُولُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِقَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وُجُوهٌ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (قَالُوا: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُصَلَّى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: وَكَيْفَ؟) أَيْ: يُصَلَّى عَلَيْهِ (قَالَ يَدْخُلُ قَوْمٌ فَيُكَبِّرُونَ) أَيْ: أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وَهُنَّ الْأَرْكَانُ عِنْدَنَا وَالْبَوَاقِي مُسْتَحَبَّاتٌ (وَيَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ) أَيْ: عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ إِذِ الصَّلَاةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدُّعَاءِ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّسْبِيحَ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ وُقُوعِهِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الْمَخْصُوصَيْنِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ بِمَا بَعْدَ التَّكْبِيرَتَيْنِ مِنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى عَدَمِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَإِشْعَارٌ بِعَدَمِ فَرْضِيَّةِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ وُجُوبُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَتْ أَرْكَانًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَهُوَ أَرْبَعٌ، وَيَجُوزُ أَكْثَرُ لَا أَقَلُّ (ثُمَّ يَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَدْخُلُ قَوْمٌ فَيُكَبِّرُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِتَقْدِيمِ يَدْعُونَ (ثُمَّ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَدْخُلَ النَّاسُ) أَيْ وَهَكَذَا حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ النَّاسُ جَمِيعًا. وَرَوَى

ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُمْ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ جِهَازِهِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ أَرْسَالًا أَيْ: قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا فَرَغُوا دَخَلَتِ النِّسَاءُ حَتَّى إِذَا فَرَغْنَ دَخَلَ الصِّبْيَانُ وَلَمْ يَؤُمَّ النَّاسَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا يَؤُمَّ أَحَدُكُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَامُكُمْ حَالَ حَيَاتِهِ وَحَالَ مَمَاتِهِ. وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَى عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَلِذَا وَقَعَ التَّأْخِيرُ فِي دَفْنِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ كَذَا فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ لِلسَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ الْمُحَدِّثِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ أَفْوَاجًا، ثُمَّ أَهْلُ بَيْتِهِ، ثُمَّ النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، ثُمَّ نِسَاؤُهُ آخِرًا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ أَنَّ تَكْرِيرَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ لَا بَأْسَ بِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُصَلُّوا كُلُّهُمْ بِإِمَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى خَلِيفَةٍ تَكُونُ الْإِمَامَةُ لَهُ، قُلْتُ: هَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا سَبَقَ عَنْهُ أَنَّ سَبَبَ تَأْخِيرِ دَفْنِهِ هُوَ انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ مَعَ أَنَّ الْإِمَامَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً لِأَبِي بَكْرٍ عَلَى طَرِيقِ النِّيَابَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -، وَلَعَلَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ وَجْهُهُ. ثُمَّ الْعُذْرُ فِي التَّكْرِيرِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا دَفْنَهُ فِي مَحَلِّهِ فَلَمْ يُمْكِنْ خُرُوجُهُ إِلَى الْمُصَلَّى، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ الْحَيِّ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهَا بَلْ وَلَمْ تَرِدْ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَمْ تَسَعِ الْحُجْرَةُ جَمِيعَ النَّاسِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ اجْتِمَاعُهُمْ حَيْثُ لَمْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً وَالْكُلُّ يُرِيدُونَ الْبَرَكَةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْحَضْرَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالُوا: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُدْفَنُ رَسُولُ اللَّهِ) يَعْنِي أَوْ يُتْرَكُ كَذَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لِسَلَامَتِهِ مِنَ الْعُفُونَةِ وَالتَّغَيُّرِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ أَوْ لِانْتِظَارِ الرَّفْعَةِ إِلَى السَّمَاءِ (قَالَ نَعَمْ) أَيْ: يُدْفَنُ فِي الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وَلِأَنَّهُ مِنْ سُنَنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (قَالُوا: أَيْنَ) أَيْ: يُدْفَنُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ (قَالَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَبَضَ اللَّهُ فِيهِ رُوحَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ) أَيْ: رُوحَ حَبِيبِهِ (إِلَّا فِي مَكَانٍ طَيِّبٍ) أَيْ: يَطِيبُ لَهُ الْمَوْتُ بِهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ وَلِمَا وَرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَا هَلَكَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا يُدْفَنُ حَيْثُ يُقْبَضُ رُوحُهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَأَنَا أَيْضًا سَمِعْتُهُ (فَعَلِمُوا أَنَّ) أَيْ: أَنَّهُ كَانَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَدْ صَدَقَ) وَبِهَذَا تَبَيَّنَ كَمَالُ عَمَلِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُغَسِّلَهُ بَنُو أَبِيهِ) وَهُمْ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَابْنَاهُ فَضْلٌ وَقُثَمُ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَصَالِحٌ الْحَبَشِيُّ، فَالْمُرَادُ: بِبَنِي أَبِيهِ مُبَاشَرَتُهُمْ لِغَسْلِهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مُسَاعَدَةَ غَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي فِعْلِهِ فَأَيُّ عَصَبَةٍ مِنَ النَّسَبِ لَهُمُ الْحَقُّ فِي غُسْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ رَوَى الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ: يَا عَلِيُّ لَا يُغَسِّلُنِي إِلَّا أَنْتَ فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عَيْنَاهُ. وَلِذَا قِيلَ كَانَ الْعَبَّاسُ وَابْنُهُ الْفَضْلُ يُعِينَانِهِ وَقُثَمُ وَأُسَامَةُ وَشُقْرَانُ مَوْلَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْيُنُهُمْ مَعْصُوبَةٌ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ. وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ غَسَّلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَكَانَ طَيِّبًا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ وَسَطَعَتْ رِيحٌ طَيِّبَةٌ لَمْ يَجِدُوا مِثْلَهَا قَطُّ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ كَانَ الْمَاءُ يَسْتَنْقِعُ فِي جُفُونِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ عَلِيٌّ يَحْسُوهُ، قُلْتُ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَقُصَّ شَارِبَهُ فَيَكُونُ تَرْكُ الْقَصِّ سُنَّةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ تَرَكَ قَصَّ شَارِبِهِ مَعَ طُولِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ وُقُوعُهُ إِذْ لَا يَسُوغُ مُعَارَضَةُ السُّنَّةِ الْمَنْصُوصَةِ بِالْعِلَّةِ الْمُعَارَضَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مَا طَالَ شَارِبُهُ بَعْدَ شُرْبِ

ذَلِكَ الْمَاءِ صِيَانَةً لِقَطْعِهِ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ فَعَلَيْكَ بِتَرْكِ الِابْتِدَاعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا غَسَّلَهُ اقْتَلَصَ مَاءَ مَحَاجِرِ عَيْنَيْهِ فَشَرِبَهُ وَأَنَّهُ وَرِثَ بِذَلِكَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ عَجِيبِ مَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا غُسْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: لَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُهُ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَيْ: بِالِاكْتِفَاءِ بِالْإِزَارِ أَوْ بِمَا يَسْتُرُ الْغَلِيظَتَيْنِ أَمْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ أَيْ: مِنَ الْقَمِيصِ وَغَيْرِهِ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا ذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُتَكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ اغْسِلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَصَحَّ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاغْسِلُونِي بِسَبْعِ قِرَبٍ مِنْ بِئْرِي بِئْرِ غَرْسٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ فَسُكُونِ رَاءٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ بِئْرٌ مَشْهُورَةٌ بِالْمَدِينَةِ، هَذَا وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سَحُولِيَّةٍ بِيضٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ وَالسَّحُولِيَّةُ بِالْفَتْحِ عَلَى الْأَشْهَرِ الْأَكْثَرِ فِي الرِّوَايَاتِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّحُولِ، وَهُوَ الْقَصَّارُ؛ لِأَنَّهُ يَسْحَلُهَا أَيْ: يُقَصِّرُهَا أَوْ إِلَى سَحُولٍ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ وَبِالضَّمِّ جَمْعُ سَحْلٍ، وَهُوَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قُطْنٍ، وَفِيهِ شُذُوذٌ؛ لِأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى الْجَمْعِ، وَقِيلَ اسْمُ الْقَرْيَةِ بِالضَّمِّ أَيْضًا، وَأَمَّا الْكُرْسُفُ فَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ هُوَ الْقُطْنُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَرُوِيَ فِي كَفَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَصَحُّ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ تَوَاتُرَ الْأَخْبَارِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ فِي تَكْفِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ، وَلَا عِمَامَةٌ وَخَبَرُ أَحْمَدَ أَنَّهُ كُفِّنَ فِي سَبْعَةِ أَثْوَابٍ وَهْمٌ رِوَايَةً. أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ مُتَعَارَفٌ أَوْ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ مِنْ قَمِيصِهِ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهَا إِذِ الصَّوَابُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَمِيصَهُ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ نُزِعَ عَنْهُ عِنْدَ تَكْفِينِهِ فَإِنَّهُ لَوْ بَقِيَ مَعَ رُطُوبَتِهِ لَأَفْسَدَ الْأَكْفَانَ وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا سَبَقَ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ الْحُلَّةُ ثَوْبَانِ وَقَمِيصٌ. وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّلَاثَةِ قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ بَلْ كَانَا زَائِدَيْنِ عَلَيْهَا، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُمَا مَنْدُوبَانِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَمَّا مَذْهَبُنَا فَالْكَفَنُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إِزَارٌ وَقَمِيصٌ وَرِدَاءٌ وَاسْتَحَبَّ الْعِمَامَةَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لِلرِّجَالِ. نَعَمْ يُزَادُ لِلْمَرْأَةِ الْخِمَارُ وَخِرْقَةٌ يُرْبَطُ بِهَا ثَدْيُهَا وَتَفَاصِيلُ الْمَسَائِلِ وَأَدِلَّتُهَا مُحَرَّرَةٌ فِي كُتُبٍ الْفُرُوعِ الْمَبْسُوطَةِ الْمُدَوَّنَةِ وَحَفَرَ أَبُو طَلْحَةَ لَحْدَهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ حَيْثُ قُبِضَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يُلْحَدُ قَبْرُهُ أَوْ يُشَقُّ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يُرْسِلَ أَحَدٌ إِلَى مَنْ يُلْحِدُ وَآخَرُ إِلَى مَنْ يَشُقُّ وَكُلُّ مَنْ سَبَقَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ فَاتَّفَقَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ جَاءَ قَبْلَهُ وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِيمَنْ نَزَلَ فِي قَبْرِهِ أَنَّهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَابْنَاهُ الْفَضْلُ وَقُثَمُ وَكَانَ آخِرُ النَّاسِ بِهِ عَهْدًا قُثَمَ وَوَرَدَ أَنَّهُ بُنِيَ فِي قَبْرِهِ تِسْعُ لَبِنَاتٍ وَفُرِشَ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ بَحْرَانِيَّةٌ كَانَ يَتَغَطَّى بِهَا فَرَشَهَا شُقْرَانُ فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ وَاللَّهِ لَا يَلْبَسُهَا أَحَدٌ بَعْدَكَ وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِفَرْشِهَا لَكِنَّهُ شَاذٌّ وَالصَّوَابُ كَرَاهَتُهُ وَأَجَابُوا عَنْ فِعْلِ شُقْرَانَ بِأَنَّهُ شَيْءٌ انْفَرَدَ بِهِ وَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا عَمِلُوا بِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ إِنَّهَا أُخْرِجَتْ مِنَ الْقَبْرِ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ وَضْعِ اللَّبِنَاتِ التِّسْعِ قَالَ رَزِينٌ: وَرَشَّ قَبْرَهُ بِلَالٌ بِقِرْبَةٍ بَدَأَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ وَجَعَلَ عَلَيْهِ مِنْ حَصَا الْعَرْصَةِ حَمْرَاءَ بَيْضَاءَ وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَرِوَايَةُ الْفَتْحِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الضَّمِّ فَإِنَّهَا تُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ اجْتِهَادٌ مِنْهُمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَعْنَى لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ كُشِفَ وَلَمْ يُتَّخَذْ عَلَيْهِ حَائِلٌ قُلْتُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ دُفِنَ فِي الْبِرَازِ لَا فِي الْحُجْرَةِ قَبْلُ، وَإِنَّمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ قَبْلَ أَنْ يُوَسَّعَ الْمَسْجِدُ، وَلِهَذَا لَمَّا وُسِّعَ جُعِلَتْ حُجْرَتُهَا مُثَلَّثَةَ الشَّكْلِ حَتَّى لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ مَعَ اسْتِقْبَالِهِ الْقِبْلَةَ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِقْبَالَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ، ثُمَّ الْبُخَارِيُّ رَوَى عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسَنَّمًا أَيْ: مُرْتَفِعًا عَلَى هَيْئَةِ السَّنَامِ زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَقَبْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَالْمُزَنِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ بَلِ ادَّعَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ اتِّفَاقَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ وَأَغْرَبَ الْبَيْهَقِيُّ فِي رَدِّ قَوْلِ التَّمَّارِ حَيْثُ قَالَ

لَا حُجَّةَ فِيهِ لَاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ مُسَنَّمًا انْتَهَى، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى مُخَالَفَةِ فِعْلِ الصَّحَابَةِ نَعَمْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ بِأَنْ كَانَ مُسَنَّمًا أَوَّلًا، ثُمَّ صَارَ مُسَطَّحًا لَهُ وَجْهٌ بِحَسَبِ طُولِ الزَّمَانِ وَتَغَيُّرِ الْمَكَانِ، وَأَمَّا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّهْ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُشِفَ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ بَلْ مَبْطُوحَةٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ. فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّسْطِيحِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرْتَفِعَةً جِدًّا، وَلَا مُرْتَخِيَةً بَلْ بَيْنَهُمَا لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ الِارْتِفَاعُ قَدْرَ شِبْرٍ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمَبْطُوحَةِ أَنَّهَا مَفْرُوشَةٌ مَكْبُوبٌ عَلَيْهَا بِالْبَطْحَاءِ فَإِنَّ لَهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ التَّسْطِيحِ وَعَلَى عَدَمِ التَّسْنِيمِ هَذَا، وَقَدْ زَادَ الْحَاكِمُ عَنْهُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمًا وَأَبُو بَكْرٍ رَأْسُهُ بَيْنَ كَتِفَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ فِي صِفَاتِ الْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ لَكِنَّ حَدِيثَ الْقَاسِمِ أَصَحُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَمَا مَرَّ عَنِ الْقَاضِي مَرْدُودٌ بَلْ قُدَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ عَلَى أَنَّ التَّسْطِيحَ أَفْضَلُ لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرٍ فَسُوِّيَ، ثُمَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا قُلْتُ لَا يَرُدُّ قَوْلَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ هُوَ الْمَاضِي، وَكَأَنَّهُ مَا عَدَّ خِلَافَ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ مُعْتَبَرًا مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ فِي التَّسْطِيحِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِعَدَمِ إِفَادَةِ الْمَقْصُودِ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِ فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى صُورَةَ قَبْرٍ غَيْرَ مُتَسَاوِيَةٍ بِسَبَبِ تَفَرُّقِ أَحْجَارِهِ وَانْتِشَارِ تُرَابِهِ وَآثَارِهِ فَأَصْلَحَهُ، فَالْمُرَادُ: بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَيْضًا إِصْلَاحُ الْقُبُورِ وَإِبْقَاؤُهَا إِذْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا غَيَّرَ صُورَةَ الْقَبْرِ الْمُسَنَّمِ وَجَعَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسَطَّحِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ) أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (يَتَشَاوَرُونَ) أَيْ: فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ أَوِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْقَضِيَّةُ وَاقِعَةٌ قَبْلَ الدَّفْنِ كَذَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ صَاحِبُ الرِّيَاضِ النَّضِرَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ مِنْ وَاجِبَاتِ الْأَحْكَامِ بَلْ جَعَلُوهُ أَهَمَّ الْوَاجِبَاتِ حَيْثُ اشْتَغَلُوا بِهِ عَنْ دَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتِلَافُهُمْ فِي التَّعْيِينِ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ وَكَذَا مُخَالَفَةُ الْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ فِي الْوُجُوبِ مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ كَسَائِرِ الْمُبْتَدِعَةِ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ وَلِتِلْكَ الْأَهَمِّيَّةِ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ أَبُو بَكْرٍ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَلَا بُدَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ فَانْظُرُوا وَهَاتُوا رَأْيَكُمْ فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ وَرَضِيَ بِهِ الْبَاقُونَ (انْطَلِقْ بِنَا) وَالْخِطَابُ لِأَبِي بَكْرٍ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ (إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْأَنْصَارِ نُدْخِلْهُمْ) بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: نَحْنُ نُدْخِلُهُمْ (مَعَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ) أَيْ: أَمْرِ نَصْبِ الْخِلَافَةِ لَا فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ عُمَرُ حَيْثُ صَرَّحَ بِالْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ لَهُمْ مَعَنَا أَنْ يُحْدِثُوا بَعْدَنَا بَيْعَةً فَإِمَّا أَنْ نُبَايِعَهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى أَوْ نُخَالِفَهُمْ فَيَكُونَ فَسَادًا (فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ وَالتَّقْدِيرُ فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِمْ وَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ قَالَتِ الْأَنْصَارُ (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) وَلَعَلَّ الشَّيْخَيْنِ مَا طَلَبُوا الْأَنْصَارُ إِلَى مَجْلِسِهِمَا خَوْفًا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الْإِتْيَانِ إِلَيْهِمَا أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ لَهُمْ بَيْعَةٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ عِنْدَهُمَا فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِمْ بِحَدِيثِ الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرَدَ مِنْ طُرُقِ نَحْوِ أَرْبَعِينَ صَحَابِيًّا. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدٍ بِلَفْظِ الْخِلَافَةِ لِقُرَيْشٍ، وَكَأَنَّهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَغْنَى عَنْ رَدِّهِمْ عَنْ مَقَالَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ أَنُّ تَعَدُّدَ الْأَمِيرِ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ وَالتَّنَاقُضَ فِي الْحُكْمِ لَا سِيَّمَا بِاعْتِبَارِ مَا عَدَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَلَا يَتِمُّ نِظَامُ الْأَمْرِ فِي أُمُورِ الْأَمْصَارِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْأَنْصَارِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى قَوَاعِدِ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ حَيْثُ كَانَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ شَيْخٌ يَرْأَسُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ فِي أُمُورِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ وَبِهَذَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ مُسْتَمِرَّةً فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَعَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَأَبِي يَعْلَى وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا قَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَأَتَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ؟ فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ؟ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَا شَكَّ أَنْ هَذَا

الِاسْتِدْلَالَ أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَقَعَتِ الْعِبَارَةُ الْجَلِيَّةُ إِلَى أَوْلَوِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ بِالْإِمَامَةِ وَسَبَبُهُ كَوْنُهُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَسْبَقِيَّةِ وَالْأَكْبَرِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ بِالْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا ظَهَرَتْ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا يَتَقَدَّمُ مِمَّا تَحَيَّرَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ وَكَشَفَ الْأَمْرُ عَنِ النِّقَابِ مَعَ الْإِشَارَةِ الْخَفِيَّةِ عَلَى أَحَقِّيَّتِهِ بِالْخِلَافَةِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّبَهُ لِهَذَا الْأَمْرِ مُدَّةً مَدِيدَةً مَعَ وُجُودِ حُضُورِ الْبَقِيَّةِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاءِ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ عِنْدَ مُعَارَضَةِ صَوَاحِبَاتِ يُوسُفَ بِاسْتِمْرَارِ إِمَامَتِهِ وَكَذَا إِبَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ تَقَدُّمِ عُمَرَ مَرَّةً لِغَيْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلِهِ لَا لَا لَا يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ خُرُوجُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدَاءُ صَلَاتِهِ خَلْفَ الصِّدِّيقِ تَأْكِيدًا لِلْقَضِيَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأَدِلَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَالتَّقْرِيرِيَّةِ أَيْضًا كَمَا خَرَجَ مَرَّةً وَطَالَعَ فِي صَلَاةِ الْقَوْمِ مُسْتَبْشِرًا، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ حَتَّى عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - رَضِيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ صُورَةُ التَّخَالُفِ فِي مُدَّةٍ مِنَ التَّخَلُّفِ لِبَعْضِهِمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ وُقُوعَ الْبَيْعَةِ فِي غَيْبَتِهِمْ كَانَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ فِي مَرْتَبَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَيْنِ خَافَا مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِدُوا بَيْعَةً بِالْعَجَلَةِ تَكُونُ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ مَعَ ظَنٍّ مِنْهُمَا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَكْرَهْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ ; لِعِلْمِهِمْ بِمَقَامِهِ فِي عُلُوِّ الْأَمْرِ (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الثَّلَاثِ؟) اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَلَى الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَظُنُّ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ، وَالْمَعْنَى هَلْ رَجُلٌ وَرَدَ فِي شَأْنِهِ مِثْلُ هَذِهِ الْفَضَائِلِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لَهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سَائِرِ مَحَاسِنِ الشَّمَائِلِ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ وَثَانِيهِمَا قَوْلُهُ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ وَثَالِثُهُمَا لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ قَالَ الْحَنَفِيُّ: إِحْدَاهَا ثَانِيَ اثْنَيْنِ وَثَانِيهَا إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ وَثَالِثُهَا إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا انْتَهَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ (مَنْ هُمَا) أَيْ: مَنِ الِاثْنَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لَهُمَا وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّقْرِيرِ، وَقَدْ أَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى الْأَمِيرَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّحْقِيرِ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ قَالَ فَإِثْبَاتُ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ الْفَضَائِلَ الثَّلَاثَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَحَقِّيَّتِهِ بِالْخِلَافَةِ مِنْ غَيْرِهِ. أَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَبِيَدِهِ أَزِمَّةُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ سَابِقِهَا وَلَاحِقِهَا أَدِلَّةً أُخَرَ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْيِيرِ أَوْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ إِلَّا الصِّدِّيقَ فَإِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاصِرًا بِلَا شُبْهَةٍ، وَلَا مِرْيَةٍ. وَمِنْهَا أَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَضَمِّنٌ لِنُصْرَةِ الصِّدِّيقِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مَعَهُ فَهُوَ نَاصِرٌ وَمَنْصُورٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ السَّكِينَةِ وَنِهَايَةٍ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الصِّدِّيقُ فِي مَقَامِ الْحُزْنِ وَالِاضْطِرَابِ فَاخْتُصَّ بِهَذِهِ السَّكِينَةِ الرَّزِينَةِ مِنْ بَيْنِ الْأَصْحَابِ مَعَ مُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي السَّكِينَةِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَعَلَّ هَذَا مَنْشَأُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً وَلِأَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً، وَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ تَفْكِيكَ الضَّمِيرِ جَائِزٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَقَامِ الْأَمْنِ مِنَ اللَّبْسِ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ وَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ فِي سَكِينَتِهِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالسَّكِينَةُ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ سُكُونُ الْقَلْبِ فِيمَا يَبْدُو مِنْ حُكْمِ الرَّبِّ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ أَخْرَجَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْبَقَاءِ فَهُوَ وَصْفٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ أَحَدَ اثْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا وَاحِدٌ يَصْدُقُ عَلَى الصِّدِّيقِ أَيْضًا أَنَّهُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ أَيِ: الْمَعْهُودُ بِمَكَّةَ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ أَيْ: فِي مَحَلِّ الْقُرْبِ وَكَهْفِ الْأَنْوَارِ، وَقَدْ مَكَثَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي ذَلِكَ الْغَارِ وَلَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ فَانْظُرْ إِلَى خُصُوصِيَّتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذِهِ الْأَسْرَارِ مِنْ مُرَافَقَتِهِ فِي الْغَارِ وَمُرَافَقَتِهِ فِي الْأَسْفَارِ وَمُلَازَمَتِهِ فِي مَوَاضِعِ الْقَرَارِ حَيًّا وَمَيِّتًا وَخُرُوجًا مِنَ الْقَبْرِ وَدُخُولًا فِي الْجَنَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى جَمِيعِ الْأَبْرَارِ. وَفِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنَ الْإِشَارَةِ الْخَفِيَّةِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ هِجْرَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِهِجْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ هِجْرَةِ غَيْرِهِ مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا فَهُوَ الْقَائِمُ مَعَ الْقَلْبِ بِحُكْمِ الرَّبِّ. وَمِنَ

الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ الْأَبْرَارُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الْأَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَصْحَابِ كَمَا فَهِمَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. ثُمَّ الدَّلِيلُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِذْ يَقُولُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِهِ أَيْ: لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فَسَمَّاهُ اللَّهُ صَاحِبَهُ وَلَمْ يُشَرَّفْ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ بِتَنْصِيصِهِ عَلَى الصُّحْبَةِ. وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ قَالُوا: مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ الصِّدِّيقِ كَفَرَ لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا لِإِنْكَارِ الْآيَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ تَوَاتَرَتْ صُحْبَةُ بَعْضِهِمْ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خُصُوصِ تِلْكَ الصُّحْبَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَإِنَّهَا صُحْبَةٌ خَاصَّةٌ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ الْمُشَرَّفَةَ بِالْكِتَابِ صَارَتْ سَبَبًا لِصُحْبَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْعَرَصَاتِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَنَّاتِ وَالْوُصُولِ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَبِهَذِهِ الصُّحْبَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَاقَ الصِّدِّيقُ سَائِرَ الْأَصْحَابِ كَمَا شَهِدَ بِهِ الْكِتَابُ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ عَدَلَ عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ إِلَى هَذَا الْوَصْفِ الْمَلِيحِ خِلَافًا لِمَنْ وَقَعَ بَاسْمِ زَيْدٍ مِنَ التَّصْرِيحِ عَلَى أَنَّهُ مُمْتَازٌ بِذِكْرِهِ فِي الْكَلَامِ الْقَدِيمِ وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ وَفَصْلٌ جَسِيمٌ. ثُمَّ قَوْلُهُ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْحُزْنِ لَا عَلَى نَفْسِهِ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ سَبَقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَارِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنَ الْأَغْيَارِ أَوْ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الْحَشَرَاتِ مَعَ اهْتِمَامِهِ بِتَنْظِيفِ الْمَحَلِّ عَنِ الْأَوْسَاخِ وَالْقَاذُورَاتِ. وَقَدْ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَ رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا انْتَهَى. فَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ سَنِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فَوْقَهَا مَمْدَحَةٌ بَهِيَّةٌ مَعَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ مَعِيَّةٍ وَإِلَّا فَاللَّهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ كَمَا قَالَ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَفِي الْعُدُولِ عَنْ مَعِي إِلَى مَعَنَا دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الصِّدِّيقِ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَعِيَّةِ بِخِلَافِ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ وَقَدْ ذَكَرَتِ الصُّوفِيَّةُ هُنَا مِنَ النُّكْتَةِ الْعَلِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي مَقَامِ التَّفْرِقَةِ وَأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي حَالَةِ الْجَمْعِيَّةِ الْجَامِعَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِمَقَامِ جَمْعِ الْجَمْعِ فَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْجَمْعِيَّةِ مُخْتَصَّةٌ لِلصِّدِّيقِ دُونَ الْأَصْحَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (ثُمَّ بَسَطَ) أَيْ: مَدَّ عُمَرُ (يَدَهُ فَبَايَعَهُ) أَيْ: فَبَايَعَ أَبَا بَكْرٍ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ تَوَاضُعًا عَنْ طَلَبِ الْجَاهِ لَا تَبَرِّيًا ابْسُطْ يَدَكَ لِأُبَايِعَكَ قَالَ لَهُ عُمَرُ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ أَقْوَى مِنِّي ثَمَّ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ فَإِنَّ قُوَّتِي لَكَ مَعَ فَضْلِكَ أَيْ: قُوَّتِي تَابِعَةٌ لَكَ مَعَ زِيَادَةِ فَضْلِكَ إِيمَاءً بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْأَمِيرُ وَأَنَّ عُمَرَ هُوَ الْوَزِيرُ وَالْمُشِيرُ وَبِهِمَا يَتِمُّ نِظَامُ الْأَمْرِ (وَبَايَعَهُ النَّاسُ) أَيْ: جَمِيعُ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَوْ جُمْهُورُ النَّاسِ حِينَئِذٍ أَوْ جَمِيعُهُمْ بِاعْتِبَارِ آخِرِ الْأَمْرِ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ. (بَيْعَةً حَسَنَةً) لَا إِكْرَاهًا، وَلَا إِجْبَارًا، وَلَا تَرْغِيبًا، وَلَا تَرْهِيبًا (جَمِيلَةً) أَيْ: مَلِيحَةً قَالَ شَارِحٌ: جَمِيلَةً تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ حَسَنَةً، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ اللَّفْظِيَّ بِالْمُرَادَفَةِ لَمْ يُثْبِتْهُ النُّحَاةُ إِلَّا فِي نَحْوِ ضَرَبْتَ أَنْتَ وَبِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَوْنُهُ نَعْتًا لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَرُوهُ فِيمَا إِذَا فُهِمَ مِنْ مَتْبُوعِهِ تَضَمُّنًا أَوِ الْتِزَامًا. وَدُفِعَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْكِيدِ هُنَا تَقْوِيَةُ الْحُكْمِ لَا اللَّفْظُ وَتَقْوِيَتُهُ يَحْصُلُ بِالْمُرَادِفِ أَيْضًا. وَبِأَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُهُ هُنَا نَعْتًا قُصِدَ بِهِ التَّأْكِيدُ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُفْهَمُ مِنَ الْحُسْنِ تَضَمُّنًا وَالْتِزَامًا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي الثَّانِي مَحَلُّ نَظَرٍ نَعَمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يُجْعَلَ حُسْنُهَا دَفْعَهَا لِلْفِتْنَةِ وَتَوَافُقَهَا بِحَدِيثِ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. وَجَمَالُهَا مِنْ حَيْثُ رِضَى نُفُوسِهِمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهَا وَشُهُودِهِمْ لِجَمَالِ الْحَقِّ فِيهَا إِذَا رِضَاهُمْ بِهَا فَالْأُولَى بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا وَالثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، هَذَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي السَّقِيفَةِ جَلَسَ مِنَ الْغَدِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلَّمَ قَبْلَهُ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي الصِّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرْجِعَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ

إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللَّهَ فِي سِرٍّ، وَلَا عَلَانِيَةٍ وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، لَقَدْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ مِنْ طَاقَةٍ وَلَا يَدٍ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللَّهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ: مَا أَغْضَبَنَا إِلَّا أَنْ أُخِّرْنَا عَنِ الْمَشُورَةِ وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا وَإِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَخَيْرَهُ وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَهُوَ حَيٌّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَضِيَهُ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا. وَفِي هَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الدَّلَالَةِ كِفَايَةٌ لِأَرْبَابِ الْهِدَايَةِ دُونَ أَرْبَابِ الضَّلَالَةِ وَمَنْ يُضْلِلُ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) شَيْخٌ بَاهِلِيٌّ قَدِيمٌ بَصْرِيٌّ (حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَرْبِ الْمَوْتِ) أَيْ: حُزْنَهُ وَغَمَّهُ (مَا وَجَدَ) مَا مَوْصُولَةٌ وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ (قَالَتْ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَتْ (فَاطِمَةُ وَاكَرْبَاهْ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ فِي آخِرِهِ غَمٌّ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ) يَعْنِي أَنَّ الْكَرْبَ كَانَ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْأَلَمِ وَصُعُوبَةِ الْوَجَعِ وَبَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَرْبَ كَانَ بِسَبَبِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَبَعْدَ الْيَوْمِ تَنْقَطِعُ تِلْكَ الْعَوَائِقُ الْحِسِّيَّةُ لِلِانْتِقَالِ حِينَئِذٍ إِلَى الْحَضْرَةِ الْقُدُسِيَّةِ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا رَأَتْ شِدَّةَ كَرْبِهِ قَالَتْ: وَاكَرْبَاهْ مُسْنِدَةً إِلَى نَفْسِهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُلَاءَمَةِ الْبَاطِنَةِ فَسَلَّاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْقَوْلِ وَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ كَرْبَ أَبِيهَا سَرِيعُ الزَّوَالِ مُنْتَقِلٌ إِلَى حُسْنِ الْحَالِ فَأَنْتِ أَيْضًا لَا تَكْرَبِي فَإِنَّ مِحَنَ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ وَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمِنَحِ الْبَاقِيَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ أَيْضًا إِلَى هُنَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْكَرْبِ أَنَّ كَرْبَهُ كَانَ شَفَقَةً عَلَى أُمَّتِهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَنْقَطِعَ شَفَقَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِمَوْتِهِ وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ وَأَعْمَالُهُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَرْبِ مَا يَجِدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شِدَّةِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّا يُصِيبُ جَسَدَهُ مِنَ الْآلَامِ كَالْبَشَرِ لِيَتَضَاعَفَ لَهُ الْأَجْرُ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ سَبَبِ الْكَرْبِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا. (أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (قَدْ حَضَرَ) أَيْ: قَرُبَ مِنْ أَبِيكِ أَيْ: مِنْ أَمْرِهِ (مَا) أَيْ: أَمْرٌ عَظِيمٌ (لَيْسَ) أَيِ: اللَّهُ (بِتَارِكٍ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ (أَحَدًا) وَقَوْلُهُ (الْوَفَاةُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ الْمَمَاتُ ضِدُّ الْحَيَاةِ بَيَانٌ لِمَا، وَقَوْلُهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ كَلِمَةُ إِلَى وَجَوَّزَ أَنَّهُ يَكُونُ مَفْعُولًا فِيهِ وَيُرَادُ بِهِ يَوْمُ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّ يَوْمَ مَوْتِ كُلِّ أَحَدٍ يَوْمُ قِيَامَتِهِ كَمَا وَرَدَ (مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ) . وَالْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَا فِي ذِهْنِ الزَّهْرَاءِ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ الْمُوَافَاةُ بَدَلَ الْوَفَاةِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ وَالْمُلَاقَاةِ، وَفِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُوَافَاةَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْوَفَاةِ، قِيلَ: وَقَدْ يُفَسَّرُ الْمُوَافَاةُ هُنَا بِالْوَفَاةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَحْسَنُ يُقَالُ: مِنْ أَبِيكِ أَيْ: مِنْ جِسْمِهِ مَا أَيْ: شَيْءٌ عَظِيمٌ لَيْسَ اللَّهُ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا وَذَلِكَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ هُوَ الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيِ: الْحُضُورُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْمَوْتِ. وَقَالَ مِيرَكُ: مَا مَوْصُولَةٌ فَاعِلُ حَضَرَ، وَفِي لَيْسَ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَالْوَفَاةُ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ حَضَرَ وَبَيَانٌ لَهُ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ فَاعِلٌ بِتَارِكٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ اللَّهِ تَعَالَى وَضَمِيرُ مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ مَا،

(باب ما جاء في ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا إِلَّا يُصِيبُهُ الْمَوْتُ، وَعَلَى الثَّانِي أَنَّهُ حَضَرَ عَلَى أَبِيكِ مَا لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا لَا يُصِيبُهُ ذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ مِيرَكُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ مَكْسُورَةً وَيَكُونَ خَبَرٌ مُقَدَّرٌ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ يَتَعَلَّقُ بِلَيْسَ بِتَارِكٍ عَلَى إِرَادَةِ أَنَّ وُرُودَ الْمَوْتِ عَلَى الْكُلِّ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ إِتْيَانُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَوْمِ جَزَائِهِمْ. انْتَهَى، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ مَفْتُوحَةً وَحِينَئِذٍ تَكُونُ اللَّامُ الِابْتِدَائِيَّةُ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: حُكْمٌ مُقَرَّرٌ وَأَمْرٌ مُقَدَّرٌ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِمَّا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا هُوَ الْكَرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمَوْتِ لَا الْمَوْتُ. (حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ) بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ (زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا عَبْدُ رَبِّهِ) بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ (ابْنُ بَارِقٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ سَمِعْتُ جَدِّي أَبَا أُمِّي سِمَاكَ بْنَ الْوَلِيدِ) بِكَسْرِ السِّينِ (يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ (مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا الْجَنَّةَ) الْفَرَطُ وَالْفَارِطُ الْمُتَقَدِّمُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ فَيُهَيِّئُ لَهُمُ الْإِرْشَاءَ وَالدِّلَاءَ وَيَمْدُرُ الْحِيَاضَ وَيَسْقِي لَهُمْ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَتَبَعٍ بِمَعْنَى تَابِعٍ يُقَالُ: رَجُلٌ فَرَطٌ وَقَوْمٌ فَرَطٌ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ. أَيْ سَابِقُكُمْ لِأَرْتَادَ لَكُمُ الْمَاءَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا أَيْ: أَجْرًا مُتَقَدِّمًا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْفَرَطِ الْوَلَدُ الَّذِي مَاتَ قَبْلَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يُهَيِّئُ لَهُمَا نُزُلًا وَمَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَتَقَدَّمُ فَرَطُ الْقَافِلَةِ إِلَى الْمَنَازِلِ فَيُعِدُّ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ سَقْيِ الْمَاءِ وَضَرْبِ الْخَيْمَةِ وَنَحْوِهِمَا. (فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ) أَيْ: فَمَا حُكْمُهُ (قَالَ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ) أَيْ: كَذَلِكَ (يَا مُوَفَّقَةُ) أَيْ: لِتَعَلُّمِ شَرَائِعِ الدِّينِ أَوْ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْأَسْئِلَةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَهَا (قَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ قَالَ فَأَنَا فَرَطٌ لِأُمَّتِي) أَيْ: أُمَّةُ الْإِجَابَةِ فَإِنَّهُ قَائِمٌ لَهُمْ فِي مَقَامِ الشَّفَاعَةِ (لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي) أَيْ: بِمِثْلِ مُصِيبَتِي فَإِنِّي عِنْدَهُمْ أَحَبُّ مِنْ كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدٍ فَمُصِيبَتِي عَلَيْهِمْ أَشَدُّ مِنْ جَمِيعِ الْمَصَائِبِ فَأَكُونُ أَنَا فَرَطُهُمْ، وَهُوَ شَامِلٌ لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْبِيرُهُ بِأُمَّتِي بَلِ الْمُصِيبَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ أَعْظَمُ مِنْ وَجْهٍ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ لِقَوْلِهِ فَأَنَا فَرَطٌ لِأُمَّتِي، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، قُلْتُ: لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأُمَّةٍ خَيْرًا قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ فَأَهْلَكَهَا، وَهُوَ يَنْظُرُ فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْرَهُ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ عَظِيمَةٌ لِأُمَّتِهِ الْمَرْحُومَةِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَرَضِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَةٍ فِيَّ عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشُدُّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزَاءِ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ جَاءَ أَخُوهُ فَصَافَحَهُ وَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً. (بَابُ مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ فِي حُكْمِ مِيرَاثِهِ وَبَيَانِ وُرَّاثِهِ، وَالْمِيرَاثُ أَصْلُهُ مِوْرَاثٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا وَالتُّرَاثُ أَصْلُ التَّاءِ فِيهِ وَاوٌ يُقَالُ: وَرِثْتُ شَيْءَ أَبِي وَوَرِثْتُهُ مِنْ أَبِي أَرِثُهُ بِالْكَسْرِ وِرْثًا وَوِرَاثَةً بِالْكَسْرِ فِيهِمَا وَكَذَا إِرْثًا بِالْهَمْزَةِ الْمُنْقَلِبَةِ عَنِ الْوَاوِ وَرِثَةً بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْهَاءِ عِوَضًا عَنِ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ كَعِدَةٍ وَسَقَطَ الْوَاوُ أَيْضًا مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَكَسْرَةٍ لَازِمَةٍ فَإِنَّهُمَا مُتَجَانِسَتَانِ وَالْوَاوُ مُضَادَّتُهُمَا فَحُذِفَتْ لِاكْتِنَافِهِمَا إِيَّاهَا، ثُمَّ جُعِلَ حُكْمُهَا مَعَ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءِ وَالنُّونِ كَذَلِكَ لِلِاطِّرَادِ أَوْ لِأَنَّهُنَّ مُبْدَلَاتٌ مِنْهَا وَالْيَاءُ هِيَ الْأَصْلُ كَذَا ذَكَرُهُ

مِيرَكُ وَنَقَلَهُ الْحَنَفِيُّ عَنِ الْجَوْهَرِيِّ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِيرَاثِهِ هُنَا مَتْرُوكَاتُهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمِيرَاثُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَوْرُوثِ أَيِ: الْمُخَلَّفُ مِنَ الْمَالِ أَيْ: بَابُ مَا جَاءَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ زَعْمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْعُنْوَانِ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ نَحْوَ مَا جَاءَ فِي نَفْيِ مِيرَاثٍ، قُلْتُ: كَلَامُهُ صَحِيحٌ، وَلَا يَنْدَفِعُ بِمُقَدَّرٍ آخَرَ مَعَ أَنَّ مَآلَ التَّقْدِيرَيْنِ وَاحِدٌ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَشَذَّ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْمَوْرُوثِ هُنَا الْعِلْمُ وَالْمَالُ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ أَنَّ الْعِلْمَ يُورَثُ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَيَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَالْمَالُ لَا يُورَثُ وَيَلْزَمُهُ فِي نَحْوِ حَدِيثِ، نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ; أَيْ: فِي الْعِلْمِ وَالْمَالِ، وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ، قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُصَحِّحُ كَلَامَ هَذَا الْقَائِلِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا نُورَثُ فِي الْمَالِ بَلْ نُورَثُ فِي الْعِلْمِ لِمَا صَحَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمُرَادُهُ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مَوْضُوعٌ لِحُكْمِ مَوْرُوثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَإِنَّ إِرْثَ الْمَالِ مَنْفِيٌّ وَإِرْثَ الْعِلْمِ مُتَحَقِّقٌ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَخِي جُوَيْرِيَةَ) بِالتَّصْغِيرِ، وَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (لَهُ) أَيْ: لِعَمْرٍو (صُحْبَةٌ قَالَ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا سِلَاحَهُ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: مِمَّا كَانَ يَخْتَصُّ بِلُبْسِهِ مِنْ نَحْوِ سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَدِرْعٍ وَمِغْفَرٍ وَحَرْبَةٍ (وَبَغْلَتَهُ) أَيِ: الْبَيْضَاءَ الَّتِي يَخْتَصُّ بِرُكُوبِهَا (وَأَرْضًا) وَهِيَ نِصْفُ أَرْضِ فَدَكٍ وَثُلُثُ أَرْضِ وَادِي الْقُرَى وَسَهْمٌ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَحِصَّةٌ مِنْ أَرْضِ بَنِي النَّضِيرِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْكِرْمَانِيِّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَيْهِ كَالْأَوَّلَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِهِ دُونَهَا إِذْ نَفْعُهَا كَانَ عَامًّا لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ عِيَالِهِ وَفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ. (جَعَلَهَا صَدَقَةً) قِيلَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ جَعَلَهَا صَدَقَةً بَيْنَ كَوْنِهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ حَالَ حَيَاتِهِ لَا أَنَّهَا صَارَتْ صَدَقَةً بَعْدَ مَمَاتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخِي الْجُوَيْرِيَةِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ تَصَدَّقَ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَصَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْوَقْفِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً أَيْ: فِي الرِّقِّ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ رَقِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ الْأَخْبَارِ كَانَ إِمَّا مَاتَ وَإِمَّا أَعْتَقَهُ. قِيلَ: وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ وَحْدَهَا لَزِمَ كَوْنُ السِّلَاحِ وَالْبَغْلَةِ مِيرَاثًا وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا خَلَّفَهُ يَصِيرُ صَدَقَةً بِنَفْسِ الْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ، نَعَمْ ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ جَعْلُ الضَّمِيرِ لِلْكُلِّ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْكِرْمَانِيِّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الْأَرْضُ هِيَ فَدَكٌ سَبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ وَجَعَلَهَا صَدَقَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ. ثُمَّ الْحَصْرُ إِضَافِيٌّ أَوِ ادِّعَائِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِثْلَ الْأَثْوَابِ وَأَمْتِعَةِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا بَيَّنْتُ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَعَلَّ أَمْتِعَةَ الْبَيْتِ كَانَتْ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ابْتِدَاءً أَوْ بِالتَّمْلِيكِ انْتِهَاءً، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الثِّيَابِ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ وَالْقَلِيلُ مِنْهَا لَمْ يُذْكَرْ لِحَقَارَتِهَا أَوْ لِغَايَةِ وُضُوحِهَا إِذْ لَا يَخْلُو إِنْسَانٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا عُلِمَ حُكْمُ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ تَبِعَهَا غَيْرُهَا بِالْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى، لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ أَرْبَابِ السِّيَرِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَّفَ إِبِلًا كَثِيرَةً وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ عِشْرُونَ نَاقَةً يَرْعَوْنَهَا حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَأْتُونَ بِأَلْبَانِهَا إِلَيْهِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَكَانَ لَهُ سَبْعُ مَعْزٍ يَشْرَبُونَ لَبَنَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِبِلَ الْكَثِيرَةَ هِيَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَنَّ النَّاقَةَ وَالْمَعْزَ كَانَتْ مَنِ الْمَنَائِحِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّرَايِحُ، وَسَيَجِيءُ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ مَا تَرَكَ دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا فَيَتَعَيَّنُ التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ،

وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ ذَكَرَ مَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَسَكَتَ عَنْهُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَيْ: حِينَ بَلَغَهَا عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ (فَقَالَتْ) أَيْ: فَاطِمَةُ لِأَبِي بَكْرٍ (مَنْ يَرِثُكَ) أَيْ: بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَقَالَ: أَهْلِي) أَيْ: زَوْجَتِي (وَوَلَدِي) أَيْ: أَوْلَادِي مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (فَقَالَتْ: مَا لِي لَا أَرِثُ أَبِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا نُورَثُ) أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَفِي الْمُغْرِبِ كَسْرُ الرَّاءِ خَطَأُ رِوَايَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ رِوَايَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ دِرَايَةً إِذِ الْمَعْنَى لَا نَتْرُكُ مِيرَاثًا لِأَحَدٍ لِمَصِيرِهِ صَدَقَةً حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى فَفِي الصِّحَاحِ وَالْمُغْرِبِ، يُقَالُ: أَوْرَثَهُ مَالًا تَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: أَصْلُ الْمَجْهُولِ لَا يُورَثُ مِنَّا فَحُذِفَ مِنْ وَاسْتَتَرَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْفِعْلِ فَانْقَلَبَ الْفِعْلُ مِنَ الْغَائِبِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ أَيْ: تَرْتَعُ إِبِلُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَا أَبْرَحُ أَيْ: لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي عَلَى وَجْهٍ فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ انْقَلَبَ الْفِعْلُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَهُوَ وَجْهٌ لَطِيفٌ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا عَلَى مَا جَعَلَهُ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَلَا حَذْفَ، وَلَا تَحْوِيلَ، فَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ وَبِمِنْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَيُقَالُ: وَرَّثَ أَبَاهُ مَالًا فَالْأَبُ وَالْمَالُ كِلَاهُمَا مَوْرُوثٌ وَقَوْلُ فَاطِمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرِثُكَ وَمَا لِيَ لَا أَرِثُ أَبِي مُوَافِقٌ لَهُ وَكَذَا قَوْلُهُ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) وَلِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ. وَأَمَّا مَا حُكِيَ فِي تَفْسِيرِ يَرِثُنِي وَيَرِثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ يَرِثُ مَالِي. فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ لَا نُورَثُ خَاصٌّ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ لِقَوْلِهِ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، فَالْمُرَادُ بِالْإِرْثِ الثَّابِتِ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَبِالنَّفْيِ إِرْثُ الْمَالِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ يَرِثُنِي الْمَالُ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِأَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِ أَخْذُ الْمَالِ فِي الْحَيَاةِ كَمَا ارْتُكِبَ الْمَجَازُ فِي حَدِيثِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا يُوَرِّثُونَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْعِلْمِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالَاتِ، وَحَاصِلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّا لَا نُورَثُ وَأَنَّ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَامَّةٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْوَرَثَةِ (وَلَكِنِّي أَعُولُ) أَيْ: أُنْفِقُ (عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُولُهُ وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ عَلَيْهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ كَمَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ لِمَا فِي الصِّحَاحِ عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ يَعُولُهُمْ قَاتَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَخُصَّ قَوْلَهُ أَعُولُ بِأَهْلِ دَاخِلِ بَيْتِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لَفْظُ الْعِيَالِ وَيُرَادُ بِقَوْلِهِ أُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَيْتِهِ فَانْدَفَعَ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ أَرَادَ دُخُولَ فَاطِمَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ أَوْلَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحَبُّهُنَّ إِلَيْهِ انْتَهَى.، وَفِيهِ نَظَرٌ وَاضِحٌ إِذِ الْمَدَارُ هُنَا لَيْسَ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ بَلْ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ نَفَقَةَ فَاطِمَةَ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ بَلْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ الْإِرْثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ لَا يَتَمَنَّى بَعْضُ الْوَرَثَةِ مَوْتَهُ فَيَهْلِكَ وَأَنْ لَا يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ رَاغِبُونَ فِي

الدُّنْيَا وَيَجْمَعُونَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِمْ وَأَنْ لَا يَرْغَبَ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا كَذَلِكَ وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ فَقْرَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنِ اخْتِيَارِيًّا، وَأَمَّا مَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ فَضَعِيفٌ، هُوَ بِإِشَارَاتِ الْقَوْمِ أَشْبَهُ، وَلِذَا قِيلَ الصُّوفِيُّ لَا يَمْلِكُ، وَلَا يَمْلِكُ هَذَا وَكَأَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعْتَقَدَتْ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ لَا نُورَثُ وَرَأَتْ أَنَّ مَنَافِعَ مَا خَلَّفَهُ مِنْ أَرْضٍ وَغَيْرِهَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يُورَثَ عَنْهُ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِهَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بَلْ أَرَادَتْ أَنَّ حُكْمَ الْأَنْبِيَاءِ كَحُكْمِ غَيْرِهِمْ فِي عُمُومِ الْإِرْثِ لِإِطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَأَجَابَ الصِّدِّيقُ بِأَنَّ حُكْمَ الْأَنْبِيَاءِ خُصَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّدِّيقِ وَكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ فَهُوَ مَشْهُورٌ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْكِتَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَسَيَأْتِي أَنَّ جَمْعًا كَثِيرًا رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا مِنْ جُمْلَةِ الْآحَادِ الْمُفِيدَةِ لِلظَّنِّ وَأَيْضًا قَرَّرَ الصِّدِّيقُ رُجُوعَ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الْمُخَلَّفَاتِ إِلَى وَرَثَتِهِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ فَالِاسْتِدْرَاكُ لِدَفْعِ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ مِنَ النَّفْيِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نُورَثُ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَهَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُخَلَّفَاتِ أَمْ لَا، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ أَبُو غَسَّانَ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مُهْمَلَةٍ مَمْنُوعًا (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ (عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْمُغْنِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ عِمْرَانَ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ ابْنُ فَيْرُوزَ عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَنْسُوبٍ إِلَى الْبَحْتَرِ، وَهُوَ حُسْنُ الْمَشْيِ وَقَعَ سَهْوًا مَعَ أَنَّ ضَبْطَهُ مُنَاقِضٌ لِآخِرِ كَلَامِهِ فَإِنَّ الْبَخْتَرَةَ وَالتَّبَخْتُرَ بِالْمُعْجَمَةِ مِشْيَةٌ حَسَنَةٌ وَالْبَخْتَرِيُّ الْمُخْتَالُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (أَنَّ الْعَبَّاسَ وَعَلِيًّا جَاءَا إِلَى عُمَرَ) أَيْ: أَيَّامَ خِلَافَتِهِ (يَخْتَصِمَانِ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْتَ كَذَا أَنْتَ كَذَا) أَيْ: أَنْتَ لَا تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ أَوْ أَنَا أَوْلَى مِنْكَ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَخْطَأَ شَارِحٌ فِي حَمْلِ كَلَامِهِمَا عَلَى السَّبِّ وَالشَّتْمِ (فَقَالَ عُمَرُ لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدٍ) أَيْ: مِمَّنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ (نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ) يُقَالُ: نَشَدْتُ فُلَانًا أَنْشُدُهُ نَشْدًا إِذَا قُلْتَ لَهُ نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَيْ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ كَأَنَّكَ ذَكَّرْتَهُ إِيَّاهُ فَنَشَدَ أَيْ: تَذَكَّرَ - كَذَا فِي الصِّحَاحِ -، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: يُقَالُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ وَبِاللَّهِ أَيْ: سَأَلْتُكَ وَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ إِمَّا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ دَعَوْتُ كَمَا يُقَالُ: دَعَوْتُ زَيْدًا وَبِزَيْدٍ أَوْ لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ مَعْنَى ذَكَرْتُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى سَأَلْتُكُمْ بِاللَّهِ رَافِعًا نَشِيدَتِي أَيْ: صَوْتِي (أَسَمِعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كُلُّ مَالِ نَبِيٍّ صَدَقَةٌ) أَيْ: وَقْفٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَامَّةً (إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَوِ النَّبِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَيْ: أَنَا لِكَوْنِي الْمُتَصَرِّفَ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ (إِنَّا لَا نُورَثُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّعْلِيلِ، وَقَدْ أَفَادَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا أُطْعِمُهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الْمُضَارِعِ الْمُتَكَلِّمِ فَعَلَى هَذَا فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ وَالصَّوَابُ أَطْعَمَهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْعَيْنِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَيُبَيِّنُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ كُلُّ مَالِ نَبِيٍّ صَدَقَةٌ إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ أَهْلَهُ وَكَسَاهُمْ إِنَّا لَا نُورَثُ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَالَ كُلِّ نَبِيٍّ صَدَقَةٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَيْضًا إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ أَهْلَهُ وَكَسَاهُمْ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا مَا نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ كَعَامِلِهِ وَزَوْجَاتِهِ فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ وَفَاتِهِ (

وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ) أَيْ: طَوِيلَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا جَوَابُهُمْ لِعُمَرَ بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ حَدِيثًا مِنْ رَجُلٍ فَأَعْجَبَنِي فَقُلْتُ لَهُ: اكْتُبْ لِي، فَأَتَى بِهِ مَكْتُوبًا مُزَبَّرًا: دَخَلَ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ عَلَى عُمَرَ وَعِنْدَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَعْدٌ وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فَقَالَ عُمَرُ لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعْدٍ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُلُّ مَالِ نَبِيٍّ صَدَقَةٌ إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ أَهْلَهُ وَكَسَاهُمْ إِنَّا لَا نُورَثُ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِفَضْلِهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ فَكَانَ يَصْنَعُ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ. ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: كَانَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ عُمَرُ أَنْ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثُ صَفَايَا بَنُو النَّضِيرِ وَخَيْبَرُ وَفَدَكٌ، فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَتْ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكٌ فَكَانَتْ حَبْسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ جُزْأَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَجُزْءًا نَفَقَةً فَمَا فَضَلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَلَعَلَّ تَنْكِيرَ نَبِيٍّ أَشَارَ إِلَيْهِ وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: كُلُّ هُنَا إِنَّمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي أَفْرَادِ مَالِ النَّبِيِّ الْوَاحِدِ لَا فِي أَفْرَادِ الْأَنْبِيَاءِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةَ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ، يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُمُومُ فِي الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا نُورَثُ) أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ (مَا تَرَكْنَا) مَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: كُلُّ مَا تَرَكْنَاهُ (فَهُوَ صَدَقَةٌ) فَهُوَ خَبَرُ مَا وَالْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَا نُورَثُ فَقِيلَ مَا يُفْعَلُ بِتَرِكَتِكُمْ فَأُجِيبَ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَهُوَ صَدَقَةٌ خَبَرُ مَا، وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ فَهُوَ صَدَقَةٌ فَوَهْمٌ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ هِيَ الْجَوَابُ لَا مُجَرَّدُ الْخَبَرِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ لَكَ الصَّوَابُ. وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ مَا مِيرَاثُنَا إِلَّا وَاقِعٌ وَمُنْحَصِرٌ فِي صَرْفِ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ إِنَّمَا مِيرَاثُهُ فِي فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَانْتِقَالِ ذَاتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، قَالَ الْمَالِكِيُّ: مَا فِي تَرَكْنَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَتَرَكْنَا صِلَتُهُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ وَصَدَقَةٌ خَبَرٌ. قُلْتُ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى رَفْعِ صَدَقَةٍ اتِّفَاقًا وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَبَطَلَ قَوْلُ الشِّيعَةِ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ وَصَدَقَةً مَفْعُولُ تَرَكْنَا فَإِنَّهُ زُورٌ وَبُهْتَانٌ وَمُنَاقَضَةٌ لِصَدْرِ الْكَلَامِ عِيَانٌ، فَلَوْ صَحَّتْ رِوَايَةُ النَّصْبِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى مَعْنًى يُطَابِقُ الرِّوَايَاتِ الصَّرِيحَةَ وَيُوَافِقُ الْمَعَانِيَ الصَّحِيحَةَ بِأَنْ يُقَالَ هِيَ مَفْعُولٌ لِلْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ أَيِ: الَّذِي تَرَكْنَاهُ مَبْذُولٌ صَدَقَةً، وَنَظِيرُهُ مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) بِالنَّصْبِ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا يَقْسِمُ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَوْقِيَّةِ مَرْفُوعًا، وَفِي نُسْخَةٍ مَجْزُومًا ، وَفِي أُخْرَى لَا يَقْتَسِمُ مِنَ الِافْتِعَالِ بِالْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ وَمَآلُ الْكُلِّ إِلَى وَاحِدٍ وَالنَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ (وَرَثَتِي) أَيْ: مَنْ هُمُ الْوَرَثَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ بِالْقُوَّةِ لَكِنْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ (دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا) وَالتَّقْيِيدُ بِهِمَا بِنَاءً عَلَى الْأَغْلَبِ

مِنَ الْمُخَلَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ أَوْ لِأَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ فِي الْقِسْمَةِ إِلَيْهِمَا أَوِ الْمَعْنَى مَا يُسَاوِي قِيمَةَ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِمَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى فَإِنَّهُ يَبْقَى مَفْهُومُ مَا دُونَهُمَا، وَهُوَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ (مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ) وَالْمَئُونَةُ الثِّقَلُ فَعُولَةٌ مِنْ مَأَنْتُ الْقَوْمَ أَيِ احْتَمَلْتُ مَئُونَتَهُمْ، وَفِي الصِّحَاحِ الْمَئُونَةُ تُهْمَزُ، وَلَا تُهْمَزُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ مَفْعُلَةٌ مِنَ الْأَيْنِ، وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ، وَقِيلَ هِيَ مَفْعُلَةٌ مِنَ الْأَوْنِ، وَهِيَ الْخُرْجُ وَالْعِدْلُ؛ لِأَنَّهَا تَثْقُلُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي فَقَالَ الطِّيبِيُّ خَبَرٌ وَلَيْسَ بِنَهْيٍ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي بَعْدَ مَوْتِي دِينَارًا أَيْ: لَسْتُ أُخَلِّفُ بَعْدِي دِينَارًا أَمْلِكُهُ فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا دِينَارَ هُنَاكَ يُقْتَسَمُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ النَّهْيَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ وَإِرْثُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ وَمَعْنَاهُ لَا يَقْتَسِمُونَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لِي وَلَيْسَ مَعْنَى نَفَقَةِ نِسَائِي إِرْثَهُنَّ مِنْهُ بَلْ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَاتٍ عَنِ الْأَزْوَاجِ بِسَبَبِهِ فَهُنَّ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ مَا دَامَ حَيَاتَهُنَّ أَوْ لِعِظَمِ حُقُوقِهِنَّ وَقِدَمِ هِجْرَتِهِنَّ وَكَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ اخْتَصَصْنَ بِمَسَاكِنِهِنَّ وَلَمْ يَرِثْهَا وَرَثَتُهُنَّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا يَقْتَسِمْ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ عَلَى النَّهْيِ وَبِضَمِّهَا عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يُعَارِضَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتْرُكْ مَالًا يُورَثُ عَنْهُ وَتَوْجِيهُ رِوَايَةِ النَّهْيِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ لَا يُخَلِّفُ شَيْئًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا فَنَهَاهُمْ عَنْ قِسْمَةِ مَا يُخَلِّفُ إِنِ اتَّفَقَ انْتَهَى، وَقِيلَ لَا عِدَّةَ عَلَى أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ فِي قَبْرِهِ وَكَذَا سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَعْنَى الْمُعْتَدَّاتِ إِذْ كُنَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْكَحْنَ أَبَدًا فَجَرَتْ لَهُنَّ النَّفَقَةُ وَأَرَادَ بِالْعَامِلِ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ مِنَ الصَّفَايَا الَّتِي كَانَتْ لَهُ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَفَدَكٍ وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ كَذَلِكَ فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى عُثْمَانَ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِمَالِهِ فَأَقْطَعَهَا مَرْوَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَلَمْ تَزَلْ فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى رَدَّهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ عَامِلِي فَقِيلَ الْخِلَافَةُ بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقِيلَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَامِلَ عَلَى النَّخْلِ وَالْقَيِّمَ عَلَى الْأَرْضِ وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ حَافِرُ قَبْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي الْخَصَائِصِ: الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ خَادِمُهُ الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ الْعَامِلُ فِيهَا كَالْأَجِيرِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أُجْرَةِ الْقَسَّامِ انْتَهَى، وَقِيلَ كُلُّ عَامِلٍ لِلْمُسْلِمِينَ إِذْ هُوَ عَامِلٌ لَهُ وَنَائِبٌ فِي أُمَّتِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا بَلْ وَلَا يُتَصَوَّرُ فَتَدَبَّرْ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْأُولَى (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ) بِفَتْحَتَيْنِ (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَسَعْدٌ وَجَاءَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ يَخْتَصِمَانِ فَقَالَ لَهُمْ) أَيْ: لِلثَّلَاثَةِ (عُمَرُ أَنْشُدُكُمْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: أَسْأَلُكُمْ أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكُمْ (

بِالَّذِي بِإِذْنِهِ) أَيْ: بِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ (تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) أَيْ: تَثْبُتُ، وَلَا تَزُولُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: تَدُومُ (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَهُوَ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: نَعَمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ كَذَا، وَتَصْدِيرُهُ بِاللَّهُمَّ إِمَّا لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ أَوْ لِلِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرُّزِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْغَلَطِ وَالْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمِيمَ فِيهِ بَدَلٌ عَنْ حَرْفِ النِّدَاءِ أَوِ الْمَقْصُودُ مِنَ النِّدَاءِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ التَّضَرُّعُ وَالتَّذَلُّلُ لَا حَقِيقَةَ النِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ حَتَّى يُنَادَى، وَلَا بِغَائِبٍ حُضُورُهُ يُرْتَجَى بَلْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَبِيدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ) بَسَطَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ أَتَيْنَا بِبَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْمِرْقَاةِ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ) عَلَى زِنَةِ فَعْلَلَةَ وَعَاصِمٌ هُوَ الْإِمَامُ الْمُقْرِئُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَاوِيَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَحَفْصٌ (عَنْ زِرٍّ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (ابْنِ حُبَيْشٍ) تَصْغِيرُ حَبَشٍ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى

(باب ما جاء في رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام)

الله عليه وسلم - دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا) أَيْ: مَمْلُوكَيْنِ زَادَ مُسْلِمٌ، وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ عَلَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي أَوْ زِرٌّ الرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ بِهِ مِيرَكُ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِلُ مِنْ دُونِهِ (وَأَشُكُّ) وَفِي نُسْخَةٍ وَالشَّكُّ (فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ) أَيْ: فِي أَنَّ عَائِشَةَ هَلْ ذَكَرَتْهُمَا أَمْ لَا وَإِلَّا فَقَدَ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ جُوَيْرِيَةَ، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَمْلُوكَانِ إِذْ بَقِيَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرٌ مِنْ مَوَالِيهِ. (بَابُ مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ) وَفِي نُسْخَةٍ رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُرَادُ بِالْمَنَامِ النَّوْمُ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الرُّؤْيَةَ وَالرُّؤْيَا مُتَّحِدَتَانِ أَوْ مُخْتَلِفَتَانِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأُولَى أَعَمُّ، وَلِهَذَا قَيَّدَهَا بِالْمَنَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الرُّؤْيَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْمَنَامِ دُونَ الْيَقَظَةِ فَلَا جَرَمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ التَّأْنِيثِ كَمَا قِيلَ فِي الْقُرْبَى وَالْقُرْبَةِ وَجُعِلَ أَلِفُ التَّأْنِيثِ فِيهَا مَكَانَ تَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الرُّؤْيَا مَصْدَرٌ كَالْبُشْرَى وَالسُّقْيَا وَالشُّورَى إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا صَارَ اسْمًا لِهَذَا الْمُتَخَيَّلِ فِي الْمَنَامِ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الرُّؤْيَا مَقْصُورَةٌ مَهْمُوزَةٌ، وَيَجُوزُ تَرْكُ هَمْزِهَا تَخْفِيفًا. قُلْتُ: وَكَذَا الرُّؤْيَةُ وَالْقِرَاءَتَانِ فِي السَّبْعَةِ. ثُمَّ الرُّؤْيَا عَلَى مَا حَقَّقَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهَا انْطِبَاعُ الصُّورَةِ الْمُنْحَدِرَةِ مِنْ أُفُقِ الْمُتَخَيَّلَةِ إِلَى الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ، وَالصَّادِقَةُ مِنْهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّصَالِ النَّفْسِ بِالْمَلَكُوتِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ عِنْدَ فَرَاغِهَا عَنْ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ أَدْنَى فَرَاغٍ فَتَتَصَوَّرُ بِمَا فِيهَا مِمَّا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْمَعَانِي الْحَاصِلَةِ هُنَاكَ. ثُمَّ إِنَّ الْمُتَخَيَّلَةَ تُحَاكِيهِ بِصُورَةٍ تُنَاسِبُهُ فَتُرْسِلُهَا إِلَى الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ فَتَصِيرُ مُشَاهَدَةً، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ شَدِيدَةَ الْمُنَاسَبَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ التَّفَاوُتُ إِلَّا بِالْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ اسْتَغْنَتِ الرُّؤْيَا عَنِ التَّعْبِيرِ وَإِلَّا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ النَّائِمِ اعْتِقَادَاتٍ خَلَقَهَا فِي قَلْبِ الْيَقْظَانِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَمْنَعُهُ نَوْمٌ وَلَا يَقَظَةٌ، وَخَلْقُ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ فِي النَّائِمِ عَلَمٌ عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ يَلْحَقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ كَالْغَيْمِ عَلَمًا عَلَى الْمَطَرِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ مَا يُرِيهِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ عَلَى الرُّؤْيَا فَذَلِكَ حَقٌّ وَمَا يُرِيهِ وَيُمَثِّلُهُ الشَّيْطَانُ وَمَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، وَقَدْ وُكِّلَ بِالرُّؤْيَا مَلَكٌ يَضْرِبُ مِنَ الْحِكْمَةِ الْأَمْثَالَ وَقَدِ اطَّلَعَ عَلَى قِصَصِ بَنِي آدَمَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِذَا نَامَ يُمَثِّلُ لَهُ الْمَلَكُ الْأَشْيَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْحِكْمَةِ مَا يَكُونُ لَهُ بِشَارَةً وَنِذَارَةً وَمُعَاتَبَةً كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ أَمَّا الرُّؤْيَا فَخَيَالٌ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِفَقْدِ شَرَائِطِ الْإِدْرَاكِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْأَصْحَابِ إِذْ لَمْ يَشْتَرِطُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ قَالَ مِيرَكُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ خِلَافُ مَا فِي الْحَدِيثِ بَلْ وَمَا فِي الْقُرْآنِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ أَوْ كَرَامَةٌ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ أَوْ أَنَّ الرُّؤْيَا الْحِسِّيَّةَ خَيَالٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

قُلْتُ: وَقَدْ حَكَى الْمَازِرِيُّ عَنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَنَّ حَدِيثَ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَالْعَقْلُ لَا يُخَيِّلُهُ حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا أَنَّهُ قَدْ يُرَى عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ أَوْ فِي مَكَانَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي صِفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُخَيَّلُ لَهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَرَى الظَّانُّ بَعْضَ الْخَيَالَاتِ مَرْئِيًّا لِكَوْنِ مَا يَتَخَيَّلُ مُرْتَبِطًا بِمَا يَرَى فِي مَنَامِهِ فَيَكُونُ ذَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْئِيَّةً وَصِفَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَخَيَّلَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ وَالْإِدْرَاكُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الْأَبْصَارِ، وَلَا قُرْبُ الْمَسَافَةِ، وَلَا كَوْنُ الْمَرْئِيِّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ، وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ جِسْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي بَقَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ إِيرَادَ بَابِ الرُّؤْيَةِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ بَعْدَ إِتْمَامِ صِفَاتِهِ الظَّاهِرِيَّةِ وَأَخْلَاقِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَوَّلًا مُلَاحَظَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَوْصَافِهِ الشَّرِيفَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ لِيَسْهُلَ تَطْبِيقُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فِي الْمَنَامِ عَلَيْهَا. قُلْتُ أَوْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى طَلَائِعِ صِفَاتِهِ الصُّورِيَّةِ وَعَلَى بَدَائِعِ نُعُوتِهِ السَّرِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَتِهِ حَيًّا فِي الْيَقَظَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْجَلِيَّةِ بَيَّنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةِ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: حَقًّا أَوْ حَقِيقَةً أَوْ يَقَظَةً وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ كُلِّهِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ

عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظِ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَرَاءَى بِي. وَاسْتُشْكِلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ مُتَّحِدَانِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ . وَأُجِيبَ بِأَنَّ اتِّحَادَهُمَا دَالٌّ عَلَى التَّنَاهِي فِي الْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ: مَنْ أَدْرَكَ الضَّمَانَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْمَرْعَى أَيْ: أَدْرَكَ مَرْعًى مُتَنَاهِيًا فِي بَابِهِ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى حَقِيقَتِي عَلَى كَمَالِهَا لَا شُبْهَةَ وَلَا ارْتِيَابَ فِيمَا رَأَى، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَزَادَ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ وَالْحَقُّ هُنَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَةَ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَالتَّتْمِيمِ لِلْمَعْنَى وَالتَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ، وَالتَّمَثُّلُ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ خُلَاصَةَ الْجَوَابِ وَالتَّحْقِيقِ فِي تَقْرِيرِ الصَّوَابِ أَنَّ الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَزُولُ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى حَقِيقَةَ صُورَتِي الظَّاهِرَةِ وَسِيرَتِي الْبَاهِرَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَصَوَّرَ بِشَكْلِي الصُّورِيِّ وَإِلَّا فَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ التَّمَثُّلِ الْمَعْنَوِيِّ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا حَفِظَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ الْيَقَظَةِ مِنْ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُ وَإِيصَالِ الْوَسْوَسَةِ فَكَذَلِكَ حَفِظَهُ اللَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِصُورَتِهِ وَأَنْ يَتَخَيَّلَ لِلرَّائِي بِمَا لَيْسَ هُوَ فَرُؤْيَةُ الشَّخْصِ فِي الْمَنَامِ إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَتِهِ فِي الْيَقَظَةِ فِي أَنَّهُ رُؤْيَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا رُؤْيَةُ شَخْصٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِصُورَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَتَشَكَّلَ بِهَا، وَلَا أَنْ يَتَشَكَّلَ بِصُورَتِهِ وَيَتَخَيَّلَ إِلَى الرَّائِي أَنَّهَا صُورَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا احْتِيَاجَ لِمَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ بِأَيِّ صُورَةٍ كَانَتْ أَنْ يُعَبِّرَ هَذَا وَيَظُنَّ أَنَّهُ شَيْئٌ آخَرُ، وَإِنْ رَآهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا ذَكَرَ مِيرَكُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ قُلْنَا هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ تَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ حَالِ الرَّائِينَ لَا إِلَى الْمَرْئِيِّ كَمَا فِي الْمِرْآةِ فَمَنْ رَآهُ مُتَبَسِّمًا مَثَلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُؤْيَتُهُ غَضْبَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَمَنْ رَآهُ نَاقِصًا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِ سُنَّتِهِ فَإِنَّهُ يَرَى النَّاظِرُ الطَّائِرَ مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ الْأَخْضَرِ ذَا خُضْرَةٍ وَقِسْ عَلَى هَذَا انْتَهَى. وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةِ التَّدْقِيقِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَرْجِعُ إِلَى مَحَلِّ الْمَرْئِيِّ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُئِيَ فِي قِطْعَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ فَعَبَّرَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ بِأَنَّ دُخُولَ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السُّنَّةِ فَفُتِّشَ عَنْهَا فَوُجِدَتْ أَنَّهَا كَانَتْ مَغْصُوبَةً. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ حَصِينٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حَقًّا أَوْ فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ رَآنِي أَوْ فَقَدْ رَآنِي وَلَمْ يَرَ غَيْرِي (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَصَوَّرُ) أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَنْ يَظْهَرَ أَوْ يَظْهَرَ بِصُورَتِي (أَوْ قَالَ لَا يَتَشَبَّهُ بِي) وَالشَّكُّ فِي غَيْرِ الْجَارِّ وَالتَّصَوُّرُ وَالتَّشَبُّهُ وَالتَّمَثُّلُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْمَبْنَى هَذَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي فَسَيَرَانِي وَأَنَّهُ أَتَى بِالصِّيغَةِ الْمَاضَوِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِقَدِ التَّحْقِيقِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ تَحَقُّقِهِ مَعَ أَنَّ الشَّرْطَ يُحَوِّلُ الْمَاضِيَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ فَيُوَافِقُ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ. فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى بِشَارَةِ الرَّائِي لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحُصُولِ مَوْتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَوُصُولِهِ إِلَى رُؤْيَتِهِ فِي دَارِ الْمَقَامِ وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ فَقَدْ رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَقِيلَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ زَمَانِهِ - صلّى الله عليه

وسلم - أَيْ: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِرُؤْيَتِي فِي الْيَقَظَةِ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِعُمُومِ مَنْ فِي الْمَبْنَى عَلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى قُيُودٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَمِنْهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ وَمِنْهَا تَقْيِيدُ رُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ رُؤْيَتَهُ بِغَيْرِهِ كَلَا رُؤْيَةٍ، سَوَاءٌ فِيهِ الرُّؤْيَا وَالرُّؤْيَةُ، هَذَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ قَوْلُهُ سَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ يُرِيدُ تَصْدِيقَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ وَصِحَّتَهَا وَخُرُوجَهَا عَلَى الْحَقِّ لَا أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ إِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ أَوْ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ احْتَمَلَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِأَنَّ مَنْ رَآهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ نَوْمًا وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ سَيُهَاجِرُ إِلَيْهِ انْتَهَى، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ بُعْدِهِ. وَقَالَ عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنَّ رُؤْيَاهُ نَوْمًا بِصِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مُوجِبَةٌ لِتَكْرِمَةِ الرَّائِي بِرُؤْيَةٍ خَاصَّةٍ فِي الْآخِرَةِ إِمَّا بِقُرْبٍ أَوْ شَفَاعَةٍ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَاقَبَ بَعْضُ الْمُذْنِبِينَ بِالْحَجْبِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقِيَامَةِ مُدَّةً انْتَهَى. وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَسَيَرَانِي فِي الْمِرْآةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ كَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ نَوْمًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ مِرْآتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى صُورَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَرَ صُورَةَ نَفْسِهِ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ الْمَحَامِلِ أَقُولُ لَوْ صَحَّ فَهُوَ إِمَّا مُعْجِزَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَرَامَةً لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أَيْ: ابْنُ سَعِيدٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا خَلَفٌ) بِفَتْحَتَيْنِ (ابْنُ خَلِيفَةَ) أَيْ: ابْنُ صَاعِدٍ الْأَشْجَعِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو أَحْمَدَ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ وَاسِطٍ، ثُمَّ بَغْدَادَ صَدُوقٌ اخْتَلَطَ فِي الْآخِرِ وَادَّعَى أَنَّهُ رَأَى عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ الصَّحَابِيَّ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَحْمَدُ، مِنَ الثَّالِثَةِ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) قَالَ الْغَزَالِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَةَ الْجِسْمِ بَلْ رُؤْيَةُ الْمِثَالِ الَّذِي صَارَ آلَةً يَتَأَدَّى بِهَا الْمَعْنَى الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَا قَوْلُهُ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى جِسْمِي وَبَدَنِي قَالَ وَالْآلَةُ إِمَّا حَقِيقِيَّةٌ وَإِمَّا خَيَالِيَّةٌ وَالنَّفْسُ غَيْرُ الْمِثَالِ الْمُتَخَيَّلِ فَالشَّكْلُ الْمَرْئِيُّ لَيْسَ رُوحَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا شَخْصَهُ بَلْ مِثَالَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَكَذَا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى نَوْمًا فَإِنَّ ذَاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ وَلَكِنْ يَنْتَهِي تَعْرِيفَاتُهُ تَعَالَى إِلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ مِنْ نُورٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ آلَةٌ حَقًّا فِي كَوْنِهِ وَاسِطَةَ مِثَالٍ فِي التَّعْرِيفِ فَقَوْلُ الرَّائِي رَأَيْتُ اللَّهَ نَوْمًا لَا يَعْنِي أَنِّي رَأَيْتُ ذَاتَهُ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَقَالَ أَيْضًا مَنْ رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَوْمًا لَمْ يُرِدْ رُؤْيَةَ حَقِيقَةِ شَخْصِهِ الْمُودَعِ رَوْضَةَ الْمَدِينَةِ بَلْ مِثَالَهُ، وَهُوَ مِثَالُ رُوحِهِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي شَرْحِي الْمِرْقَاةَ لِلْمِشْكَاةِ بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ وَأَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ بِهِ الْقَائِلُ خِلَافًا لِبَعْضِ أَكَابِرِ عُلَمَائِنَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأُمُورِ الْجَلِيَّةِ وَالْخَفِيَّةِ (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ الْمُصَنِّفُ (وَأَبُو مَالِكٍ هَذَا) أَيِ: الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ (هُوَ سَعْدُ بْنُ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَطَارِقُ بْنُ أَشْيَمَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَقَدْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثَ) أَيْ: غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ فَثَبَتَ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً وَرِوَايَةً وَأَنَّ أَبَا مَالِكٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ بَيْنَ التِّرْمِذِيِّ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ فَكَأَنَّهُ تَبِعَ كَلَامَ الْحَنَفِيِّ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ حُجْرٍ يَقُولُ قَالَ خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا غُلَامٌ صَغِيرٌ) حَيْثُ قَالَ: فَعَلَى هَذَا كُلٌّ مِنْ قُتَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ تَبَعُ تَابِعِيٍّ وَهُمَا شَيْخَا الْمُصَنِّفِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَأَكْثَرَ مِنْهُمَا انْتَهَى، وَحَاصِلُهُ أَنَّ بَيْنَ الْمُصَنِّفِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةً، وَهُوَ نَتِيجَةُ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا قَوْلُ شَارِحٍ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ صَحَابِيٌّ عَلَى قَوْلِ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ فَخَطَأٌ إِذْ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ صَحَابِيًّا بَلِ الْخِلَافُ فِي رُؤْيَةِ خَلَفٍ إِيَّاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ

عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنِي أَبِي) أَيْ: كُلَيْبٌ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُنِي) هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعْدِيَةِ التَّمْثِيلِ بِنَفْسِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا يَتَمَثَّلُ بِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَكَوَّنُنِي أَيْ: لَا يَتَكَوَّنُ كَوْنِي فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَوُصِلَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَلَبَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَوُصِلَ الْمُضَافُ بِالْفِعْلِ، وَفِي أُخْرَى لَهُ لَا يَتَرَاءَى بِي بِوَزْنِ يَتَرَامَى أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِي؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ أَمْكَنَهُ فِي التَّصَوُّرِ بِأَيِّ صُورَةٍ أَرَادَ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ التَّصَوُّرِ بِصُورَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ جَمَاعَةٌ: وَمَحَلُّ هَذَا أَنَّ رَأْيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي قُبِضَ عَلَيْهَا حَتَّى عَدَدَ شَيْبِهِ الشَّرِيفِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ ابْنُ سِيرِينَ فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قُصَّتْ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ قَالَ لِلرَّائِي صِفْ لِي الَّذِي رَأَيْتَهُ فَإِنْ وَصَفَ لَهُ صِفَةً لَمْ يَعْرِفْهَا قَالَ لَمْ تَرَهُ. وَيُؤَيِّدُ هَؤُلَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ نَقْلًا عَنْ عَاصِمٍ (قَالَ أَبِي) أَيْ: كُلَيْبٌ (فَحَدَّثْتُ بِهِ) أَيْ: بِهَذَا الْحَدِيثِ (ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ قَدْ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَدْ (رَأَيْتَهُ) أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ (فَذَكَرْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ) أَيْ: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهُ يَقَظَةً (فَقُلْتُ شَبَّهْتُهُ) أَيِ: الْمَرْئِيَّ (بِهِ) أَيْ: بِالْحَسَنِ (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ) أَيِ: الْحَسَنُ (كَانَ يُشْبِهُهُ) أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ أَيْ شَبَهُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ فِي الْمَقَامِ انْتَهَى. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى عَلَى الْأَعْلَامِ فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ يَكُونُ أَقْوَى فِي الْكَلَامِ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ضَمِيرَ إِنَّهُ رَاجِعًا إِلَى الْمَرْئِيِّ الَّذِي رُئِيَ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ لَكِنْ يَرُدُّ هَذَا الْخَيَالَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ صَاحِبُ الْمَقَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَمِمَّا يُبْطِلُهُ أَيْضًا أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ أَيْضًا وَلَفْظُهُ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ صِفْهُ لِي قَالَ فَذَكَرْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَشَبَّهْتُهُ بِهِ فَقَالَ قَدْ رَأَيْتَهُ. وَقَدْ وَرَدَ مُشَابَهَةُ الْحَسَنِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحَادِيثَ فَيَكُونُ رُؤْيَا الرَّائِي صَحِيحَةً عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّ الْحَسَنَ أَشْبَهَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ وَالْحُسَيْنَ أَشْبَهَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِخَبَرِ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَإِنِّي أُرَى فِي كُلِّ صُورَةٍ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ مَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ يُوَفِّقُهُ عُمُومُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ، وَالتَّقْيِيدُ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْمَلُ عَلَى الْكَمَالِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رُئِيَ بِوَصْفِهِ الْمَعْرُوفِ فَقَدْ رَأَى رُؤْيَةً مُحِقَّةً لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا رَآهُ عَلَى خِلَافِ نَعْتِهِ مِنْ كَوْنِهِ صَغِيرًا أَوْ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا أَوْ أَسْوَدَ أَوْ أَخْضَرَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ بِصِفَتِهِ الْمَعْلُومَةِ إِدْرَاكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَبِغَيْرِهَا إِدْرَاكٌ لِلْمِثَالِ فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - لَا تُغَيِّرُهُمُ الْأَرْضُ فَإِدْرَاكُ الذَّاتِ الْكَرِيمَةِ حَقِيقَةٌ وَإِدْرَاكُ الصِّفَاتِ إِدْرَاكٌ لِلْمِثَالِ وَشَذَّ مَنْ قَالَ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ لَا حَقِيقَةَ لِلرُّؤْيَا أَصْلًا وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَسَيَرَانِي سَيَرَى تَفْسِيرَ مَا رَأَى؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَغَيْبٌ، وَقَوْلُهُ فَكَأَنَّمَا رَآنِي أَنَّهُ لَوْ رَآنِي يَقَظَةً لَطَابَقَ مَا رَآهُ نَوْمًا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ حَقًّا وَحَقِيقَةً وَالثَّانِي حَقًّا وَتَمْثِيلًا هَذَا كُلُّهُ إِنْ رَآهُ بِصِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَإِلَّا فَهِيَ أَمْثَالٌ فَإِنْ رَآهُ مُقْبِلًا عَلَيْهِ مَثَلًا فَهُوَ خَيْرٌ لِلرَّائِي وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ رُؤْيَاهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ حُسْنٌ فِي دِينِ الرَّائِي وَمَعَ شَيْنٍ أَوْ نَقْصٍ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ خَلَلٌ فِي دِينِ الرَّائِي؛ لِأَنَّهُ كَالْمِرْآةِ الصَّيْقَلَةِ يَنْطَبِعُ فِيهَا مَا قَابَلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتُهُ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ وَأَكْمَلِهِ وَهَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ الْكُبْرَى فِي رُؤْيَتِهِ إِذْ بِهَا يُعْرَفُ حَالُ الرَّائِي، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَحْوَالُ الرَّائِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مُخْتَلِفَةٌ إِذْ هِيَ رُؤْيَا بَصِيرَةٍ، وَهِيَ لَا تَسْتَدْعِي حَصْرَ الْمَرْئِيِّ بَلْ يَرَى شَرْقًا وَغَرْبًا وَأَرْضًا وَسَمَاءً كَمَا تَرَى الصُّورَةَ فِي مِرْآةٍ قَابَلْتَهَا، وَلَيْسَ جِرْمُهَا مُنْتَقِلًا لِجِرْمِ الْمِرْآةِ فَاخْتِلَافُ رُؤْيَتِهِ كَأَنْ يَرَاهُ إِنْسَانٌ شَيْخًا وَآخَرُ شَابًّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَاخْتِلَافُ الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي مَرَايَا مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْمَقَادِيرِ فَيَكْبُرُ وَيَصْغُرُ وَيَعْوَجُّ وَيَطُولُ فِي الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمُعْوَجَّةِ وَالطَّوِيلَةِ وَبِهَذَا عُلِمَ جَوَازُ رُؤْيَةِ جَمَاعَةٍ لَهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِنْ أَقْطَارٍ مُتَبَاعِدَةٍ وَبِأَوْصَافٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَجَابَ عَنْ هَذَا أَيْضًا الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِرَاجٌ وَنُورُ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِثَالُ نُورِهِ فِي الْعَوَالِمِ كُلِّهَا فَكَمَا أَنَّ الشَّمْسَ يَرَاهَا كُلٌّ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ

وَبِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَذَلِكَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الرُّؤْيَا بِعَيْنِ الرَّأْسِ وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنَّهَا مُدْرَكَةٌ بِعَيْنٍ فِي الْقَلْبِ وَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمَجَازِ فَبَاطِلٌ عَلَى خِلَافِ الْحَقِيقَةِ وَصَادِرٌ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْحَمَاقَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (وَكَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ) إِشَارَةً إِلَى بَرَكَةِ عِلْمِهِ وَثُبُوتِ حِلْمِهِ فَلِهَذَا رَأَى تِلْكَ الرُّؤْيَةَ الْعَظِيمَةَ (قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ زَمَنَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَيْ: فِي زَمَانِ وُجُودِهِ (فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِي فَمَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ) وَفِي نُسْخَةٍ فِي الْمَنَامِ (فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ كَأَنَّهُ رَآنِي يَقَظَةً (هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّوْمِ) النَّعْتُ وَصْفُ الشَّيْءِ بِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنٍ، وَلَا يُقَالُ فِي الْقَبِيحِ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ مُتَكَلِّفٌ فَيَقُولُ نَعْتُ سُوءٍ، وَالْوَصْفُ يُقَالُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (قَالَ) أَيِ: الرَّائِي (نَعَمْ أَنْعَتُ لَكَ رَجُلًا) وَفِي نُسْخَةٍ رَجُلٌ أَيْ: هُوَ رَجُلٌ (بَيْنَ رَجُلَيْنِ) أَيْ: كَثِيرُ اللَّحْمِ وَقَلِيلُهُ أَوِ الْبَائِنُ وَالْقَصِيرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّهُ مَائِلٌ إِلَى الطُّولِ وَالظَّرْفُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ (جِسْمُهُ وَلَحْمُهُ) أَوْ هُوَ فَاعِلُ الظَّرْفِ كَذَا حَرَّرَهُ مِيرَكُ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَرَّرَهُ وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ رَجُلًا وَكَذَا قَوْلُهُ (أَسْمَرَ إِلَى الْبَيَاضِ) أَيْ: مَائِلٌ إِلَيْهِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ كَمَا سَبَقَ أَنَّ بَيَاضَهُ مُشْرَبٌ بِهَا فَقَطْ وَضُبِطَ أَسْمَرُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ رَجُلٍ أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ تَابِعٌ لِرَجُلٍ أَوْ لِكَانَ مُقَدَّرًا وَكَذَا قَوْلُهُ (أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ) أَيْ: خِلْقَةً (حَسَنَ الضَّحِكِ) أَيْ: تَبَسُّمًا (جَمِيلَ دَوَائِرِ الْوَجْهِ) أَيِ: الْحَسَنُ أَطْرَافِهِ وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ دَائِرَةٌ مُبَالَغَةً (قَدْ مَلَأَتْ لِحْيَتُهُ مَا بَيْنَ هَذِهِ) أَيِ: الْأُذُنِ (إِلَى هَذِهِ) أَيِ: الْأُذُنِ الْأُخْرَى إِشَارَةً إِلَى عَرْضِهَا (قَدْ مَلَأَتْ) أَيْ: لِحْيَتُهُ (نَحْرَهُ) أَيْ: عُنُقَهُ إِشَارَةً إِلَى طُولِهَا (قَالَ عَوْفٌ) أَيَّ الرَّاوِي عَنِ الرَّائِي (وَلَا أَدْرِي مَا كَانَ) أَيِ: النَّعْتُ الَّذِي كَانَ (مَعَ هَذَا النَّعْتِ) أَيِ: النَّعْتِ الْمَذْكُورِ مِمَّا ذَكَرَهُ يَزِيدُ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ ذَكَرَ نُعُوتًا أُخَرَ وَأَنَّهُ نَسِيَهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ الْمُعَانِدِ وَالْمُكَابِرِ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَكَابِرِ، ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا صَرَّحَ بِهِ حَيْثُ قَالَ وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ بِأَنْ قَالَ الرَّاوِي شَيْئًا آخَرَ فَنَسِيَهُ عَوْفٌ فَقَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا أَدْرِي مَا كَانَ إِلَخْ لَكِنْ أَبْعَدَ بِنَقْلِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَا بِمَعْنَى مَنْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: لَا أَعْلَمُ الَّذِي وَجَدَ مِنْ صِفَاتِهِ فِي الْخَارِجِ مَعَ هَذَا النَّعْتِ هَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لَهُ أَوْ لَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ مَنْ أَبْدَى فِيهِ تَرْدِيدَاتٍ لِغَيْرِهِ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ بَلْ أَكْثَرُهَا تَهَافُتٌ انْتَهَى. وَهُوَ يَعْنِي بِهِ كَلَامَ الْعِصَامِ وَأَنَا مَا رَأَيْتُ شَرْحَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا رَأَيْتُ قَوْلَ مِيرَكَ فِي تَحْقِيقِ الْمَرَامِ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ النِّظَامِ حَيْثُ قَالَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَا النَّعْتِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولَةً أَيْ: لَا أَدْرِي الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا النَّعْتِ هَلْ هُوَ تَامٌّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى لَا أَسْمَعُ مِنْ يَزِيدَ مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى هَذَا النَّعْتِ انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ عَوْفًا هُوَ الرَّائِي، وَهُوَ وَهْمٌ فَإِنَّهُ الرَّاوِي (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ: لِلرَّائِي (لَوْ رَأَيْتَهُ فِي الْيَقَظَةِ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْعَتَهُ فَوْقَ هَذَا قَالَ أَبُو عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ) كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُلْحَقٌ (وَيَزِيدُ الْفَارِسِيُّ هُوَ يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ مَمْنُوعًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ بَعْضٌ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَالصَّحِيحُ

أَنَّهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ هُرْمُزَ مَدَنِيٌّ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ، وَيَزِيدَ الْفَارِسِيَّ بَصْرِيٌّ مَقْبُولٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ التَّقْرِيبِ وَتَهْذِيبِ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّقْرِيبِ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ هُرْمُزَ الْمَدَنِيَّ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ، وَهُوَ غَيْرُ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ الْبَصْرِيِّ ; فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (وَهُوَ) أَيْ: ابْنُ هُرْمُزَ (أَقْدَمُ مِنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ) بِتَخْفِيفِ الْقَافِ، ثُمَّ مُعْجَمَةٍ (وَرَوَى يَزِيدُ الْفَارِسِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَادِيثَ) أَيْ: عَدِيدَةً (وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ أَبَانٍ) بِالصَّرْفِ، وَيَجُوزُ مَنْعُهُ (الرَّقَاشِيُّ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ هُوَ أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ الْقَاصُّ بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، زَاهِدٌ ضَعِيفٌ مِنَ الْخَامِسَةِ، مَاتَ قَبْلَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، (وَهُوَ) أَيِ: الرَّقَاشِيُّ (يَرْوِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَيَزِيدُ الْفَارِسِيُّ، وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ كِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) أَيْ: فَمَنْ قَالَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ اسْمِهِمَا وَبَلَدِهِمَا فَقَدْ تَوَهَّمَ (وَعَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ) أَيِ: الرَّاوِي عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ (هُوَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ حَدَّثَنَا، وَهُوَ مُوهَمٌ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِعَوْفٍ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; فَلَوْ صَحَّ وُجُودُهُ فَالضَّمِيرُ إِلَى الْمُصَنِّفِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ كَوْنُ عَوْفٍ هُوَ الْأَعْرَابِيَّ (سُلَيْمَانُ) بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (ابْنُ مُسْلِمٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (الْبَلْخِيُّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ) أَيِ: النَّضْرُ (قَالَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ أَنَا أَكْبَرُ مِنْ قَتَادَةَ) أَيْ: سِنًّا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ عَوْفًا هُوَ الْأَعْرَابِيُّ بِدَلِيلِ تَعْبِيرِ النَّضْرِ عَنْهُ بِعَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِشَارِحٍ: عَرَفَهُ مِنْ أَنَّ قَتَادَةَ يَرْوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِذَا كَانَ رَاوِي يَزِيدَ الَّذِي هُوَ عَوْفٌ أَكْبَرَ مِنْ رَاوِي ابْنِ عَبَّاسٍ، لَزِمَ أَنَّ يَزِيدَ أَدْرَكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَصَحَّ مَا قَدَّمَهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ يَزِيدَ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَدْرَكَهُ، وَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ رُؤْيَتُهُ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِهِ لِذَلِكَ انْتَهَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَدْ جَزَمَ بِأَنَّ يَزِيدَ الْفَارِسِيَّ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَادِيثَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمِثَالِ هَذَا الْمَقَالِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالرِّوَايَةِ لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّ إِمْكَانَ رُؤْيَةِ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَتَهُ بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ ذَلِكَ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ) ابْنُ شِهَابٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَابْنُ أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ (عَنْ عَمِّهِ) أَيِ: الزُّهْرِيِّ (قَالَ) أَيْ: عَمُّهُ (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ رَآنِي يَعْنِي فِي النَّوْمِ) تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ (فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ) أَيِ: الرُّؤْيَةَ الْمُتَحَقِّقَةَ الصَّحِيحَةَ، أَيِ: الثَّابِتَةَ، لَا أَضْغَاثَ فِيهَا، وَلَا أَحْلَامَ، ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَقُّ هُنَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَةَ الْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ هَكَذَا فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ فَيَصِيرُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا تَقْدِيرُهُ فَقَدْ رَأَى الرُّؤْيَةَ الْحَقَّ، وَقَالَ مِيرَكُ: قِيلَ الْحَقُّ مَفْعُولٌ بِهِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، انْتَهَى. وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّأَمُّلِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ضِدَّ الْبَاطِلِ، فَلَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، نَعَمْ يَصِحُّ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: رَأَى مَظْهَرَ الْحَقِّ أَوْ مَظْهَرَهُ أَوْ مَنْ رَآنِي فَسَيَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ ; لِأَنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاهُ يَقَظَةً فِي دَارِ السَّلَامِ، فَلْيَزُمْ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَنْ رَآنِي

فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَى اللَّهَ فِي الْمَنَامِ; فَإِنَّ رُؤْيَتِي لَهُ مُقَدِّمَةٌ أَوْ مُبَشِّرَةٌ لِذَلِكَ الْمَرَامِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: الْحَقُّ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيِ: الْأَمْرُ الثَّابِتُ الَّذِي هُوَ أَنَا، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي، انْتَهَى. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ رَآهُ بِصُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي حَيَاتِهِ كَانَتْ رُؤْيَاهُ حَقًّا، وَمَنْ رَآهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَأَجَابَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ كَلَامَ الْقَاضِي لَا يُنَافِي ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً فِي الْحَالَيْنِ، لَكِنْ فِي الْأُولَى لَا يَحْتَاجُ تِلْكَ الرُّؤْيَا إِلَى تَعْبِيرٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كَالْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوا مَنْ قَالَ: مَحَلُّ هَذَا أَنَّ الرُّؤْيَا تُوجَدُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ رَآهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ يَكُونُ رُؤْيَاهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَرَى نَوْمًا عَلَى حَالَتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ مُخَالَفَةً لِحَالَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِنَ التَّمْثِيلِ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ لِعَارِضِ عُمُومِ قَوْلِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي عَلَى مَا سَبَقَ، فَالْأَوْلَى تَنْزِيهُ رُؤْيَاهُ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَوْفَقُ فِي الْحُرْمَةِ، وَأَلْيَقُ بِالْعِصْمَةِ كَمَا عُصِمَ مِنَ الشَّيْطَانِ فِي الْيَقَظَةِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي كُلِّ حَالٍ لَيْسَتْ بَاطِلَةً، وَلَا أَضْغَاثًا، بَلْ هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ رُؤِيَ بِغَيْرِ صِفَتِهِ ; إِذْ تَصْوِيرُ تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (مُعَلَّى) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَمُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ (ابْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: فِي حَقِيقَةِ الْمَرَامِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي) أَيْ: فَلَا تَكُونُ رُؤْيَايَ عَنْ أَضْغَاثِ أَحْلَامٍ، حُكِيَ أَنَّ أَبَا جَمْرَةَ وَالْمَازِرِيَّ وَالْيَافِعِيَّ وَغَيْرَهُمْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ رَأَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ جَمْعٍ أَنَّهُمْ حَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةَ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنَّهُمْ رَأَوْهُ نَوْمًا فَرَأَوْهُ يَقَظَةً بَعْدَ ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ عَنْ تَشْوِيشِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوُجُوهِ تَفْرِيجِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ بِلَا زِيَادَةٍ، وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا قَالَ: وَمُنْكِرُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا بَحْثَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ بِمَا أَثْبَتَتْهُ السُّنَّةُ، وَإِلَّا فَهَذِهِ مِنْهَا إِذْ يُكْشَفُ لَهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ عَنْ أَشْيَاءَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَحُكِيَتْ رُؤْيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ عَنِ الْأَمَاثِلِ كَالْإِمَامِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ، كَمَا هُوَ فِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ، وَالْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ التَّاجُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ، وَكَصَاحِبِهِ الْإِمَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ، وَالْإِمَامِ عَلِيٍّ الْوَفَائِيِّ، وَالْقُطْبِ الْقَسْطَلَانِيِّ، وَالسَّيِّدِ نُورِ الدِّينِ الْإِيجِيِّ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُنْقِذِ مِنَ الضَّلَالِ: وَهُمْ يَعْنِي أَرْبَابَ الْقُلُوبِ فِي يَقَظَتِهِمْ يُشَاهِدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَأَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَصْوَاتًا وَيَقْتَبِسُونَ مِنْهُمْ فَوَائِدَ انْتَهَى. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْأَهْدَلُ الْيَمَنِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْقَوْلُ بِذَلِكَ يُدْرَكُ فَسَادُهُ بِأَوَائِلِ الْعُقُولِ ; لِاسْتِلْزَامِهِ خُرُوجَهُ مِنْ قَبْرِهِ، وَمَشْيَهُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَمُخَاطَبَتَهُ لِلنَّاسِ، وَمُخَاطَبَتَهُمْ لَهُ، وَخُلُوَّ قَبْرِهِ عَنْ جَسَدِهِ الْمُقَدَّسِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِيهِ شَيْءٌ بِحَيْثُ يُزَارُ مُجَرَّدُ الْقَبْرِ، وَيُسَلَّمُ عَلَى غَائِبٍ، وَأَشَارَ كَذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِ بِأَنَّ الرَّائِيَ لَهُ فِي الْمَنَامِ رَأَى حَقِيقَةً، ثُمَّ يَرَاهُ كَذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ جَهَالَاتٌ، وَلَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَنْ لَهُ أَدْنَى مَسْكَةٍ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَمُلْتَزِمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُخْبِلٌ مَخْبُولٌ. انْتَهَى. وَهَذِهِ الْإِلْزَامَاتُ كُلُّهَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِلَازِمٍ لِذَلِكَ، وَدَعْوَى اسْتِلْزَامِهِ لِذَلِكَ عَيْنُ الْجَهْلِ أَوِ الْعِنَادِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً لَا تَسْتَلْزِمُ خُرُوجَهُ مِنْ قَبْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا مَرَّ أَنَّ اللَّهَ يَخْرِقُ لَهُمُ الْحُجُبَ فَلَا مَانِعَ عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عَادَةً أَنَّ الْوَلِيَّ وَهُوَ بِأَقْصَى الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ يُكْرِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ لَا يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذَّاتِ الشَّرِيفَةِ، وَهِيَ فِي مَحَلِّهَا مِنَ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ سَاتِرًا وَلَا حَاجِبًا بِأَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الْحُجُبَ كَالزُّجَاجِ الَّذِي يَحْكِي مَا وَرَاءَهُ وَحِينَئِذٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ يَقَعُ نَظَرُهُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ فِي قَبْرِهِ يُصَلِّي، وَإِذَا أُكْرِمَ إِنْسَانٌ بِوُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَيْهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُكَرَّمَ بِمُحَادَثَتِهِ وَمُكَالَمَتِهِ وَسُؤَالِهِ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَأَنَّهُ يُجِيبُهُ عَنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مُنْكَرٍ شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا، وَإِذَا كَانَتِ الْمُقَدِّمَاتُ وَالنَّتِيجَاتُ غَيْرَ مُنْكَرَيْنِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، فَإِنْكَارُهُمَا أَوْ إِنْكَارُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ، وَلَا مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ غَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا، كَيْفَ، وَقَدْ مَرَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا صَاحِبُ فَتْحِ الْبَارِي فَقَالَ بَعْدَ مَا مَرَّ عَنِ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ، وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ صَحَابَةً، وَلَأَمْكَنَ بَقَاءُ الصُّحْبَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،

وَيُرَدُّ بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّحَابِيِّ أَنْ يَكُونَ رَآهُ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي مَنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ دَفْنِهِ هَلْ يُسَمَّى صَحَابِيًّا أَمْ لَا؟ عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَالْأُمُورُ الَّتِي كَذَلِكَ لَا يُغَيَّرُ لِأَجْلِهَا الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ، وَنُوزِعُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِأَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ حُزْنُهَا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ كَمَدًا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَيْتُهَا مُجَاوِرٌ لِضَرِيحِهِ الشَّرِيفِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهَا رُؤْيَتُهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ انْتَهَى. وَيُرَدُّ أَيْضًا بِأَنَّ عَدَمَ نَقْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، بَلْ، وَلَا عَدَمَ وُقُوعِهِ عَلَى جَوَازِ تَحَقُّقِهِ فَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَأْوِيلُ الْأَهْدَلِ وَغَيْرِهِ مَا وَقَعَ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَيَظُنُّونَهَا يَقَظَةً، فِيهِ إِسَاءَةُ ظَنٍّ بِهِمْ، حَيْثُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ رُؤْيَةُ الْغَيْبَةِ بِرُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ، وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِأَدْوَنِ الْعُقَلَاءِ، فَكَيْفَ بِأَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ. قُلْتُ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ إِسَاءَةِ الظَّنِّ، بَلْ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ الْحَسَنِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمُشَاهَدِ وَالْمَعْقُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكَانَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا سَمِعُوا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا كَمَا لَا يَجُوزُ بِمَا وَقَعَ فِي حَالِ الْمَنَامِ، وَلَوْ كَانَ الرَّائِي مِنْ أَكَابِرِ الْأَنَامِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَازِرِيُّ بِأَنَّ مَنْ رَآهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُ كَانَ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَحْمِلَ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ أَيْضًا عَلَى رُؤْيَةِ عَالَمِ الْمِثَالِ أَوْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ عَنِ الْإِمَامِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ حَمْلِنَا عَلَى عَالَمِ الْمِثَالِ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا مَعَ ضِيقِهَا، قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ أَبْدَانٌ مُكْتَسَبَةٌ وَأَجْسَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، تَتَعَلَّقُ حَقِيقَةُ أَرْوَاحِهِمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبْدَانِ، فَيَظْهَرُ كُلٌّ فِي خِلَافِ آخَرَ مِنَ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ، وَحِينَئِذٍ لَا نَقُولُ بِأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ بِكَوْنِهِ مَحْصُورًا فِي قَبْرِهِ، بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يَجُولُ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَإِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ مَعَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا كَانَتْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى قِنْدِيلٍ مُعَلَّقَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَفِي مَحَلِّهِ مُحَرَّرٌ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ قُبُورَهُمْ خَالِيَةٌ عَنْ أَجْسَادِهِمْ، وَأَرْوَاحَهُمْ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَجْسَامِهِمْ ; لِئَلَّا يَسْمَعُوا سَلَامَ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا وَرَدَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُلَبُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَاتِ، وَأُمَّتُهُ مُكْرَمَةٌ بِحُصُولِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ الْأَهْدَلِ وَغَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ. وَمِنْ جُمْلَةِ تَأْوِيلَاتِهِ فَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ الْعَارِفِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ لَوْ حُجِبَ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا عَدَدْتُ نَفْسِي مُسْلِمًا بِأَنَّ هَذَا فِيهِ تَجَوُّزٌ، أَيْ: لَوْ حُجِبَ عَنِّي حِجَابَ غَفْلَةٍ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يُحْجَبُ عَنِ الرُّوحِ الشَّخْصِيَّةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ أَيْ: عُرْفًا وَعَادَةً، إِذْ لَا يُعْرَفُ اسْتِمْرَارُ خَارِقِ الْعَادَةِ أَصْلًا لَا شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ أَصْلًا (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَقَالَ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِغْنَاءً عَنِ التَّصْرِيحِ بِمُقْتَضَى التَّوْضِيحِ (وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ (جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) وَالْمُرَادُ: غَالِبُ رُؤْيَا الصَّالِحِينَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَرَى الصَّالِحُ الْأَضْغَاثَ نَادِرًا لِقِلَّةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَرَى غَيْرُ الصَّالِحِ أَيْضًا الرُّؤْيَةَ الْحَسَنَةَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْأَصْلِ مَوْقُوفٌ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعٌ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ السُّيُوطِيَّ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، وَهُمْ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَفْظُهُ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَرَوَاهُ الْحَكِيمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ، وَلَفْظُهُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ بِلَفْظِ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْدَادِ إِنَّمَا هُوَ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ بِالْأَجْزَاءِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الرَّائِي أَوِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ، وَالظَّاهِرُ رَفْعُ الْعَبْدِ، وَلَا يَبْعُدُ نَصْبُهُ، بَلْ هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَقَامِ الْمَرَامِ، ثُمَّ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ، وَعَمَلُهَا بَاقٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ ; الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُبَشِّرَاتِ لِلْغَالِبِ وَإِلَّا فَمِنَ الرُّؤْيَا مَا يَكُونُ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ أَيْ: مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لَا أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنْهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ، أَيْ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ خَصْلَةً، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّوْجِيهَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَوْلُهُ مِنَ الرَّجُلِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَا مَفْهُومَ لَهُ اتِّفَاقًا، فَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ، فَقِيلَ كَانَ زَمَانُ نُزُولِ الْوَحْيِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ مُؤَيَّدًا بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الصَّادِقَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَحِينَئِذٍ كَانَتِ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ زَيَّفَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: مَا حَصَرَ سِنِيِ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُعْتَدُّ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ زَمَانِ الرُّؤْيَا فِيهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَشَيْءٌ قَدَّرَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ النَّقْلُ قَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: وَأَرَى الذَّاهِبِينَ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَدْ هَالَهُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ، وَلَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ فِي الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ جُزْءَ النُّبُوَّةِ لَا يَكُونُ نُبُوَّةً كَمَا أَنَّ جُزْءًا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الِانْفِرَادِ، لَا يَكُونُ صَلَاةً، وَكَذَلِكَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا وَجْهُ تَحْدِيدِ الْأَجْزَاءِ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ، فَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنْ يُجْتَنَبَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَيُتَلَقَّى بِالتَّسْلِيمِ ; لِكَوْنِهِ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّةِ الَّتِي لَا تُقَابَلُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجَسٍ فِي السَّمْتِ الْحَسَنِ وَالتُّؤَدَةِ وَالِاقْتِصَادِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَلَّمَا يُصِيبُ مُئَوِّلٌ فِي حَصْرِ الْأَجْزَاءِ، وَلَئِنْ قُيِّضَ لَهُ الْإِصَابَةُ فِي بَعْضِهَا لِمَا يَشْهَدُ بِهِ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْهَا لَمْ يُسَلَّمْ لَكَ فِي الْبَقِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ لَمَّا سُئِلَ أَيُعَبِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ أَبِالنُّبُوَّةِ تَلْعَبُ، ثُمَّ قَالَ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهَا نُبُوَّةٌ بَاقِيَةٌ، بَلْ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتْهَا مِنْ جِهَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ الْغُيُوبِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَلِذَلِكَ الشَّبَهِ سُمِّيَتْ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْجُزْءِ لِشَيْءٍ إِثْبَاتُ الْكُلِّ لَهُ، كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا ابْتُلِيتَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْخِطَابُ عَامٌّ أَيِ امْتُحِنْتَ (بِالْقَضَاءِ) أَوْ تَعَيَّنْتَ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحُكُومَةَ وَالْقَضَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَلِهَذَا اجْتَنَبَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْأَتْقِيَاءِ (فَعَلَيْكَ بِالْأَثَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: بِاتِّبَاعِ أَثَرِهِ، وَاقْتِفَاءِ أَخْبَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا بِاقْتِدَاءِ الْأَخْبَارِ مِنَ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَعَلَيْكَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمْهُ وَيُزَادُ الْبَاءُ فِي مَعْمُولِهِ كَثِيرًا لِضَعْفِهِ فِي الْعَمَلِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَثَرُ بِالتَّحْرِيكِ مِنْ رَسْمِ الشَّيْءِ، وَسُنَنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثَارُهُ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ الْقَضَاءُ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ نَاسَبَ وَصِيَّةَ الْقَاضِي بِاتِّبَاعِ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ إِيرَادَ هَذَا الْأَثَرِ، وَمَا فِي أَثَرِهِ مِنَ الْخَبَرِ الْآتِي فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِعُنْوَانِ الْبَابِ لِلِاهْتِمَامِ لِشَأْنِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْذِ مِنَ الثِّقَاتِ فِي بَابِ الرِّوَايَاتِ، وَلِلنَّصِيحَةِ فِي التَّوْصِيَةِ كَابْتِدَاءِ أَكْثَرِ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِخَبَرِ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِلْحَدِيثِ الْآتِي مُنَاسَبَةٌ خَفِيَّةٌ لِلرُّؤْيَةِ ; وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أَعْتَبِرُ الْحَدِيثَ، وَمُرَادُهُ كَمَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا عَلَى الْحَدِيثِ وَيَجْعَلُ لَهُ اعْتِبَارًا كَمَا يُعْتَبَرُ الْقُرْآنُ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا مِثْلَ أَنْ يُعَبِّرَ الْغُرَابَ بِالرَّجُلِ الْفَاسِقِ وَالضِّلْعَ بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْغُرَابَ فَاسِقًا، وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالضِّلْعِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ) وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِمَا سَبَقَ (قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ) أَيْ: هَذَا التَّحْدِيثُ، أَوْ عِلْمُ الْحَدِيثِ، أَوْ جِنْسُ الْحَدِيثِ (دِينٌ) أَيْ: مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُتَدَيَّنَ بِهِ، وَيُعْتَقَدَ، أَوْ يُعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ (فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ

إِلَخْ. كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، قُلْتُ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ الْعِلْمُ دِينٌ وَالصَّلَاةُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ هَذَا الْعِلْمَ، وَكَيْفَ تُصَلُّونَ هَذِهِ الصَّلَاةَ، فَإِنَّكُمْ تُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَعْلِيمِ الْخَلْقِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا أُصُولُ الدِّينِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْعُدُولُ الثِّقَاتُ الْمُتْقِنُونَ، وَعَنْ صِلَةٍ تَأْخُذُونَ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى تَرْوُونَ، وَدُخُولُ الْجَارِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ كَدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ وَتَقْدِيرُهُ تَأْخُذُونَ عَمَّنْ، وَضُمِّنَ انْظُرُوا مَعْنَى الْعِلْمِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ تَعْلِيقًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ تَحْقِيقًا، وَبِعَوْنِهِ يُوجِدُ الْعِلْمَ لِغَيْرِهِ تَوْفِيقًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَقَدْ فَرَغَ مُؤَلِّفُهُ عَنْ تَسْوِيدِهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ الْمُعَظَّمِ فِي الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ الْمُكَرَّمِ، عَامَ ثَمَانٍ بَعْدَ الْأَلْفِ الْمُفَخَّمِ، وَأَنَا أَفْقَرُ عِبَادِ اللَّهِ الْغَنِيِّ، خَادِمُ الْكِتَابِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، عَلِيُّ بْنُ سُلْطَانٍ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، عَامَلَهُمَا اللَّهُ بِلُطْفِهِ الْخَفِيِّ، وَكَرَمِهِ الْوَفِيِّ آمِينَ.

§1/1