جماليات المفردة القرآنية

أحمد ياسوف

شكر واهداء

شكر واهداء أشكر الله عز وجل أن قدّر لي العمل في خدمة القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما أشكر جميع أساتذتي في كلية الآداب الذين دأبوا في تشجيعي على البحث العلمي وأرجو أن أكون عند حسن ظن أساتذتي، وأن يتقبل الله عني هذا العمل. وأهدي هذا البحث إلى أستاذي الفاضل الدكتور نور الدين عتر الذي سدّد خطاي وأضاء لي سبيل العلم، وزرع في أعماقي حب البحث العلمي والتفاني فيه، وأرجو من الله تعالى أن يجزيه الخير الكثير.

التقريظ بقلم الأستاذ الدكتور نور الدين عتر

التقريظ بقلم الأستاذ الدكتور نور الدين عتر بسم الله الرّحمن الرّحيم رئيس قسم علوم القرآن والسنة في جامعة دمشق الأستاذ في كليات الشريعة والآداب بجامعتي دمشق وحلب الحمد لله الذي أنزل القرآن، معجزة باقية على مدى الزمان، وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد بأعظم الدلائل والبينات وعلى آله وصحبه والتابعين لهم باحسان. أما بعد: فإن القرآن الكريم قد اختص بأنه معجزة بالغة تتحدى كل إنسان في كل زمان ومكان، أيا كانت ثقافته وأدبه، وقد أفادتنا الدراسات المتعددة التي قام بها أئمة البيان على مر العصور أن إعجاز القرآن لا يقتصر على مقياس فني معين في عصر من العصور، وأن أي عصر مهما تقدم في الدراسة الأدبية لا يحيط بإعجاز القرآن، بل إن القرآن معجز وفق أي مقياس فني أدبي صحيح وذوق جمالي سليم في كل عصر وزمان. ومن هنا يزداد إدراك القارئ لأهمية هذه الرسالة «جماليات المفردة القرآنية» التي أعدّها تلميذنا النبيه الأستاذ أحمد ياسوف معيدنا في كلية الآداب بجامعة حلب، لما أنه وفّى دراسة بحثه في ضوء الدراسات القديمة، كما وفى بسدّ حاجة القارئ وثقافة العصر من دراسات الأدب المعاصر. وقد استكمل الباحث دراسته، وأحاط بالموضوع في ضوء خطة شاملة جوانب الدراسة، فتناول فيها دراسة الجوانب الجمالية للمفردة القرآنية بصورة

عامة، ثم درس إسهام المفردة القرآنية في الجمال البصري، ثم أتبعه بجمال المفردة السمعي، ثم أكمل الجوانب ببحث الظلال التي تضفيها المفردة على المعنى .. إلى آخر ما هناك من دراسات فنية جمعت بين القديم والحديث، بالإضافة إلى فنون البلاغة واللغة والإعراب، وغير ذلك مما يحتاج إلى مزيد من الصبر والثبات لتقديم دراسة مبتكرة تفيد من دراسات القدامى ومن نظريات المحدثين. وهذا مسرد مراجع الرسالة يضع أمامنا ذخيرة من المصادر الواسعة والمتنوعة قديمة وحديثة: في التفسير، والحديث، وعلوم القرآن، واللغة، والبلاغة، وفقه اللغة، والإعراب، والتجويد، ودراسات القرآن، وعلم الجمال، والتنظير الفني والأدبي، والنقد الأدبي، وعلم النفس، وعلم التربية، بالإضافة إلى التاريخ، وتاريخ الأدب، وأصوله، أي ما يزيد على خمسة عشر علما وفنا رجع إليها الباحث، وأعمل ذهنه في أدواتها واستخدامها، لكي يقدم لنا هذا الكتاب، مما يدل ولا شك على تمكن وعلى مقدرة عالية في الدراسة والبحث. وقد خرج الكتاب بنتائج هامة في الدراسات القرآنية، في مقدمتها قضية على غاية الخطورة والأهمية، وهي أن المفردة لها مكانتها في إعجاز القرآن، ولها جوانبها المتعددة الثرية، وأن إعجاز القرآن ليس قاصرا على مفهوم عصر معين للجمال أو مقياس عصر ما في سمو الأدب، بل هو معجز وفق أي ذوق سليم وأي مقياس فني جمالي صحيح، يتجدد عبر العصور، فهو معجزة بيانية لا تنتهي على مدى الأعوام ولا على مدى الأزمان، تدعو الناس إلى تأمل جمالها المعجز، لتسير بهم من طريقه إلى الإيمان.

المقدمة

المقدمة بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد فإن دراسة جمال المفردة القرآنية تعدّ عناية فائقة بجزئيات النصوص القرآنية وتدبّرها وتأملها واستنباط المنهج الفني الذي يسري في نسقها، وجوانب الجمال الذي تتسم به. وقد وجدت للدارسين- قدامى ومعاصرين- جهدا مبذولا في جمال المفردة القرآنية، وذلك في كتب الإعجاز والتفسير البياني، ولم يفرد الباحثون كتابا يجمع هذه النظرات الفنية ويناقشها، ويوضّح سمات هذا الجمال وعناصره، ولهذا أردت أن أجمع هذه النظرات من فصول كتبهم وتفسيرهم، وأبين ميزات هذا الجمال وأسسه، والمعيار الذي اعتمده الدارسون، وأوازن بين جهود القدامى وجهود المعاصرين، وقد وجدت أن المعاصرين يقتبسون غالبا من القديم، ولم يدرسوا نظرة الباحث القديم في جمال المفردة، كما أنهم خصّصوا الفصل أو الفقرة الصغيرة لجمال المفردة، وربّما يشمل الفصل الصغير كل جوانب جمالها في القرآن. ولقد حاولت أن أستقصي جمالية المفردة القرآنية في كتب البلاغة القرآنية والتفسير البياني خاصة، في العصور القديمة والعصر الحاضر، وقد تمخّض عن هذا الاستقصاء وجود صعوبات كبيرة، وذلك لأن مادة البحث لا تقتصر على كتب التفسير- على ضخامتها-، بل تشمل كتب الإعجاز، وهذا ما تطلب البحث في جزئيات فصول البلاغة القرآنية، فلا يوجد عنوان محدد نلجأ إليه، ونقتبس مادة البحث منه، ولم ندرس المادة في فصول جمال المفردة، بل سعينا إلى توضيح شأن المفردة في الصورة والنغم، فأوضحنا إسهامها في جميع فنون البلاغة القرآنية، كالتشبيه والكناية والاستعارة والإيجاز وغير هذا.

كما أننا تلمّسنا هذا الجمال في كتب اختصت بالبلاغة العربية، وبحثنا فيها عن لمحات الدارسين لدى الاستشهاد بالقرآن الكريم، ويضاف إلى هذا شمول البحث لجهود الدارسين منذ العصور الإسلامية الأولى، وهذا ما جعلنا نرجع إلى معظم المصادر في الشاهد الواحد، لإجراء موازنة في كثير من الأحيان، ولتوضيح إضافات اللاحقين على السابقين، واختلاف منحى كلّ دارس عن غيره. وتمثّلت الصعوبة كذلك في الرجوع إلى كتب ذات اختصاصات مختلفة، كان لها إشارات جيدة إلى بلاغة القرآن، وكتب الجاحظ خير مثال على هذا، وقد ألمّ العلماء المسلمون بفنون البلاغة على الرغم من اختلاف اختصاصاتهم، إذ كان القرآن الكريم الركيزة الثابتة في تكوين ثقافتهم، فلا يخلو واحدهم من الإلمام بفن القرآن الكريم، وإن كان دارسا للتوحيد، أو العلوم الطبيعية أو غير هذا. وموضوع هذا البحث ليس تقليدا مطروقا، بل فيه تجديد وابتكار، لأنه يقدّم دراسة فنية لنظرات الباحثين، ويقيمها وفق مبادئ الفن، ويحدد المعايير التي اعتمدها الباحثون من خلال مفهوم الجمال الفني. وبما أنني اتبعت المنهج التاريخي في دراسة كل جانب من جمال المفردة القرآنية، فكان لا بد من رصد هذه الجمالية في أوائل كتب الإعجاز مثل رسالة «البيان في إعجاز القرآن» للخطّابي، ورسالة «النّكت في إعجاز القرآن» للرّمّاني، إضافة إلى نظرات الجاحظ في كتابيه: «البيان والتبيين» و «الحيوان»، وكذلك اعتمدت على الباقلّاني صاحب «إعجاز القرآن»، وابن سنان في «سرّ الفصاحة»، وضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر»، وسرت وفق هذا السرد التاريخي، لأتبين معالم جمالية المفردة في «بديع القرآن» لابن أبي الاصبع، و «الطراز» ليحيى العلوي، ووقعت على تأملات رفيعة في كتب تتحدث عن علوم القرآن مثل «البرهان» للزركشي و «الإتقان» للسيوطي. أما كتب التفسير، فقد اقتصرت على التفاسير التي عنيت بالجوانب البلاغية في القرآن، فكان «الكشاف» للزمخشري أهمّ مصدر لي، وكذلك تفسير النّسفي

«مدارك التنزيل وحقائق التأويل»، ثم تفسير العلّامة أبي السّعود المسمّى «إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم». أما المصادر الحديثة، فقد كان كتاب أحمد بدوي «من بلاغة القرآن» في مقدمة الكتب في معرفة نظرات المعاصرين، وكذلك سيّد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن»، وكتابيه: «التصوير الفني في القرآن» و «مشاهد القيامة»، وهناك كوكبة من المعاصرين أفدت من كتبهم، مثل «إعجاز القرآن» للرافعي، خصوصا في مجال موسيقا القرآن، و «إعجاز القرآن» لعبد الكريم الخطيب، و «بيّنات المعجزة» لحسن ضياء الدين عتر، وكتاب «من روائع القرآن» لمحمد سعيد رمضان البوطي وغيرهم. واستعنت لتقييم نظرات الدارسين ببعض المراجع في النقد الأدبي، وعلم الجمال، وبعض المباحث اللغوية، خصوصا في مجال فقه اللغة، وقدّمت لي هذه المراجع مادة وفيرة تواكب نظرة الدارسين، ولا سيما القدامى منهم، وسمو تذوقهم للبيان القرآني. وإن هذا البحث يمثّل محاولة لرصد تأملات الدارسين في مفردات القرآن، وأرجو أن يكون هذا الرصد شاملا لتأملات كل الدارسين، وأن يكون عادلا، بحيث لا يجحف بكلّ من القدامى والمعاصرين. وقد وقع البحث في أربعة فصول، مهّد لها بمدخل حول مفهوم الجميل ووسائل تذوقه عند المسلمين، وذلك لنثبت أنّ للمسلمين نظرات واقعيّة في الجميل، وما يقترن به من مفاهيم جمالية، فعرضنا لرأي كلّ من الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والغزالي، فقد أكّد هؤلاء أن وسائل تذوق الجميل هي السمع والبصر، وأنهما منفذان إلى القلب، والحق أن القرآن الكريم كثيرا ما يربط بين القلب أو الفؤاد أو العقل والسمع والبصر كقوله عز وجل: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «1». وبيّنت في هذا التمهيد ارتباط الجميل الموضوعي بالنافع في منظور المسلمين. تناول الفصل الأول مفهوم المفردة في الأدب، والجوانب الجمالية فيها،

_ (1) سورة الإسراء، الآية: 36.

وعرضت لآراء بعض النقاد المعاصرين، لتكون هذه الآراء كشفا فنيا لوجهة نظر البحث والدارسين، وهنا لا تقدّم تعاريف جافة صارمة، بل يسعى البحث إلى توضيح وظيفة المفردة في النص الأدبي وفق لبوسها الجديد، وعرضت المسألة تجاوزها لحياد المعجم، وخصوصية دلالتها في القرآن، ثم عرضت لعلاقة المفردة بالنظم، وما يتوهم من تناقض بينهما، وأكدت أهمية الطرفين: المفردة والنظم في بنية الآية، وبيّنت الحجج التي ردّ بها على غلوّ الجرجاني إذ نبذ هذا الغلوّ بآراء جديدة تسعفها تطبيقات من القرآن، وكان لا بد أيضا من نفي الترادف في القرآن، لتأكيد تمكّن المفردة القرآنية من المقام عن غيرها، وقد بدأت الفقرة بتوضيح مصطلح الترادف، واقتبست بعضا من أقوال من يؤيد الترادف مثل ابن السّكّيت، وأقوال من يؤيد الفروق مثل أبي هلال العسكري وأبي منصور الثعالبي، وكانت هناك إضاءات للتنظير بالعودة إلى النص القرآني للبرهنة على دقة الفروق، وتوصلت إلى إمكانية وجود الترادف في اللغة، ونفيه من السياق القرآني. وختم الفصل بفقرة حول الأثر الموسيقى للقرآن، فعرضت للآيات التي تدعو إلى تذوق موسيقا حروفه ونسقه، وشفع هذا بما ورد في السّنّة النبوية الشريفة، ثم بينت مظاهر تعلق الرعيل الأول بالنسق الموسيقى، ثم بيّنت مسألة تشبيه القرآن بالشعر ومعارضة القرآن، وخصوصية الفن القرآني. وتناول الفصل الثاني إسهام المفردة القرآنية في الصورة البصرية، فقد أكدت أهميتها في الصورة، ودرست في الفقرة الأولى إسهام المفردة القرآنية في تجسيم المجردات والمعنويات عن طريق مصطلح الاستعارة أو التشبيه، وبدأت الفقرة بتعريف التجسيم لغة واصطلاحا، ثم عرضت لجهود القدامى والمعاصرين، وتبين لي أن القدامى أدركوا هذه الجمالية، وأهمية المفردة على أنّها العامل الأساسي الذي يضفي على المعاني صفات محسوسة تتجلّى للبصر، وفي الفقرة الثانية عرضت لمفردات الطبيعة التي ساعدت على جمال التصوير، وبدئت الفقرة بتوضيح مفهوم الطبيعة في القرآن، والانسجام بينها وبين الإنسان، على أنها مخلوق مسخّر له، وانقسمت الطبيعة إلى جمادات كالشجر والحجر، وإلى طبيعة متحركة حيوانية كالجراد والعنكبوت، وبينت مدى تفهم

الدارسين لملاءمة هذه المفردات لإخراج الصورة الفنية، ومدى تذوقهم للإشعاع النفسي المتوخّى في هذه المفردات، وقد أضفت شواهد متممة لنظرة الدارسين. وفي الفقرة الثالثة بحثت في إسهام المفردة القرآنية في تشخيص المعاني والمجرّدات، وقد تقدم الفكرة تعريف التشخيص لغة واصطلاحا، ووجدت أن القدامى قدّموا جهدا وفيرا لاهتمامهم الكبير بانتقال المفردة من مجال إلى آخر، وقد عرضوا تأملاتهم الفنية مؤكدين أهمية الكلمة المشخّصة وفق مصطلح الاستعارة أو المجاز، وأدركوا أن إضفاء الصفات الآدمية على الجمادات والمعنويات وبثّ الحركة فيها يعطي تأثيرا كبيرا في المتلقي، ودرست في الفقرة الرابعة تصوير المفردات للحركة، وهي حركة سريعة قوية كالزلزلة، وحركة بطيئة، وكانت هذه المفردات تعبّر عن مضمون الموقف، وقد وجدت أن الزمخشري خاصة تملى هذه الجمالية بذوق فريد، وأردفت الفقرة بلمحة عن تجسيم الحركة بوساطة التشكيل الصوتي للمفردة، وهذا ما دعي بالأونوماتوبيا التي تحدثت عنها بالتفصيل في الفصل الثالث. وتناول الفصل الثالث الجمال الموسيقى لمفردات القرآن، ودرست في الفقرة الأولى منه مسألة تلاؤم المخارج بدءا من الرماني، ثم عرضت نظرة ابن سنان وابن الأثير، ثم ذكرت رأي بعض المحدثين في هذا الشأن، وتوصلت إلى أن العبرة بطبيعة الصوت نفسه. ودرست في الفقرة الثانية جمالية المدود والحركات في المفردات، وحاولت أن أبين العلاقة الوشيجة بين شكل المفردة والموقف الشعوري، وفي الفقرة الثالثة درست طول المفردات وفق نظرة ابن سنان الذي قبّح طول المفردات، وفنّد هذا بمسلّمات الموسيقا اللغوية وطبيعة مفردات القرآن، وذكرت رأي ابن الأثير، ثم توضيح الرافعي، وانتهيت إلى أن جزئيات الكلمة في القرآن تنفي عيب الطول عنها، وفي الفقرة الرابعة بحثت مفهوم الرقة والمغالطة التي وقع فيها بعض الدارسين لتفسير الرّقة، وهنا استعين بطبيعة الأصوات اللغوية في فقه اللغة، وقورنت الرقة بالجزالة، ثم بينت أن الموضوع هو الذي يحدّد قوة الألفاظ وشدّتها أو رقتها، وربطت الصفة النّغمية للحرف بالموقف الشعوري، ودرست في الفقرة الخامسة مظاهر تجسيم الصوت للمعاني، أو ما يدعى «الأونوماتوبيا»، وقدمت لهذه الفقرة تنظيرا لغويا

بمنزلة تأصيل عربي لهذه الفكرة خصوصا في «الخصائص» لابن جني، وتوصلت إلى أن القدامى ربطوا النظرة بمعيار لغوي واضح، وأن بعض المحدثين اعتمد التوهم والمبالغة، وقد جنحت في بعض الأمكنة إلى تفسير محاكاة الصوت للمعنى والصور بمعطيات فقه اللغة وعلم التجويد لمعرفة صفات الحروف. وتناول الفصل الرابع الظلال النفسية التي توصّل إليها الدارسون في توضيح العلاقة بين المفردة والموضوع أو الفكرة، ودرست في الفقرة الأولى جهود الدارسين في دلائل صيغة المفردة، حيث ذكر البيان القرآني صيغا لمفردات تمتلك معاني لا تكون في صيغ أخرى، وهنا كانت للقدامى جولات رائعة لعلوّ فصاحتهم، وكثرة اهتماهم باللغويات، وهذا مهّد لهم لتبيين الجوانب الفنية في هذا المضمار، فقد أدركوا العلاقة بين التشكيل الداخلي ومعالم الموضوع، وفي الفقرة الثانية درست الجوانب التهذيبية السامية في اختيار مفردات القرآن، ودرست في القسم الأول من الفقرة التهذيب في اختيار مفردات تعبر عن المرأة وعلاقتها بالرجل، ثم درست في القسم الثاني التهذيب في الأمور العامة التي دل فيها القرآن على سمو خطابه، وهذا الإيماء الرفيع نجده في تأملات الدارسين تحت عنوان الكناية أو المجاز أو التلميح، وفي الفقرة الثالثة بينت وجه الإيجاز في المفردة، وأطلقت عليه اسم اختزان المفردة للمعاني الكثيرة، وبدأت الفقرة بإشارة الجاحظ، ثم وضحت الاختزان في صيغة المفردة، فالاختزان في جانب التهذيب، وختمت الفقرة بإضافة بعض الشواهد وتحليلها تأكيدا لنظرة الدارسين. وفي الفقرة الرابعة عرضت لجهود الدارسين في اختيار المفردة للموضوع، أي مناسبة المقام، وتضمنت الفقرة بعض الأفكار، مثل ملاءمة الغريب للموقف، والمنهج الذاتي والمنهج الموضوعي عند الدارسين، وفكرة مناسبة المقام من خلال الفروق اللغوية، وهنا يبرز جهد الخطيب الإسكافي الذي سار على نهجه الكثيرون، وكذلك قدّم لي الكشاف مادّة وفيرة، وختمت الفقرة بظلال الدلالة الخاصة لبعض المفردات القرآنية، إذ أضفى القرآن على بعض المفردات دلالة خاصة نتيجة صدورها عن الخالق عزّ وجلّ، وهذا مستفاد من إشارة للباقلاني. وفي الفقرة الخامسة بحثت في تمكن

الفاصلة، وهي الكلمة الأخيرة من الآية، وبدئت الفقرة بتعريفها لغة واصطلاحا، فتضمنت الفقرة فكرة ملاءمة الفاصلة لما قبلها من خلال مصطلحات القدامى، مثل الإيغال والتصدير والتوشيح، وفكرة استقلالها بمعنى جديد، وأهميته في الآية، وهنا يبرز جهد الخطيب الإسكافي، وابن أبي الاصبع خاصة، وانتهى البحث بخاتمة تلخص النتائج التي توصّل إليها. لقد كان الترتيب التاريخي عونا لي في توضيح تطور التذوق الفني لدى الدارسين، وقد عمدت في بعض الأحيان إلى إجراء موازنة بين علمين في شاهد قرآني واحد، لأبيّن تفاوت النظرات والمؤثرات في هذا التفاوت، وكذلك حرصت على أن تكون النماذج المقتبسة وافية، وألا يكون البحث انتقاصا من كلّ من القدامى والمعاصرين في مسلكهم، وأرجو أن أكون موفقا في جمع شتات جمال المفردة القرآنية، وتحديد المعيار، وتبيين عناصر هذا الجمال في كتب الإعجاز والتفسير، كما أرجو أن يكون هذا البحث جهدا مقبولا في خدمة القرآن الكريم والله من وراء القصد. أحمد ياسوف

مدخل في مفهوم الجميل عند العلماء المسلمين

مدخل في مفهوم الجميل عند العلماء المسلمين إن مسألة الجمال وإدراكه قضية فطرية، فطر الله الخلق عليها، وخلق صفة الجمال وصفة القبح، غير أن الفكر الإنساني تعرّض لهذه القضية بالدراسة، وكانت الفلسفة اليونانية قد عنيت بدراسة الجمال أو فن الجمال، وكان لهذه الدراسة اتجاهان: مثالي ومادي، ثم جاء المسلمون، وقدّموا أفكارا جديدة في هذا المضمار. ويجدر بنا هنا التوقف عند نظرات علماء مسلمين، لنبيّن وجهة نظرهم واهتمامهم بالمفاهيم الجمالية، لتكون هذه النظرات تمهيدا لفهم الجمال في المفردة القرآنية، فقد قدم المسلمون جهدا واضحا إلى الفكر الإنساني، ولم يكونوا بمعزل عن الحضارات بكل ما تتضمنه، كما أنهم أبدوا فاعلية كبرى في الفكر، يشهد لها التاريخ والنظرة العادلة. فالجاحظ «1» مثلا ارتبط مفهوم الجميل عنده بالنافع، فقد جاء في كتابه «الحيوان» عن حسن النار: «ولولا معرفتهم بقتلها وإتلافها، والألم والحرقة المولّدين عنها لتضاعف الحسن عندهم، وإنّهم ليرونها في الشتاء بغير العين التي يرونها بها في الصيف، ليس ذلك إلا ما حدث من الاستغناء عنها» «2». فالمنفعة تزيد من حسن الجميل في نظر الإنسان، والدّفء المولّد عن النار

_ (1) هو عمرو بن بحر، مولده ووفاته بالبصرة، معتزلي له مصنفات كثيرة في التوحيد وإثبات النبوة. وفضائل المعتزلة، توفي سنة 255 هـ أيام خلافة المهدي، من كتبه «الحيوان» و «البيان والتبيين» وله رسائل مطبوعة، انظر الأعلام: للزّركلي: 2/ 729. (2) الجاحظ، 1952، الحيوان، تح: عبد السلام هارون، ط/ 1، مكتبة الخانجي القاهرة، 4/ 96 - 97.

يزيدها حسنا، وهكذا نجد أنه يربط الجمال- أو الحسن على حدّ تعبيره- بالمنفعة خلافا للمدرسة الغربية المعاصرة، والجميل عنده موضوعي، ينبغ جماله من شكله، وتركيب أعضائه وجزئياته، إذ يقول: «وربّ شيء إنما الأعجوبة فيه إنما هي في صورته وصنعته وتركيب أعضائه وتأليف أجزائه، كالطاوس في تعاريج ريشه وتهاويل ألوانه، وكالزّرافة في عجيب تركيبها ومواضع أعضائها .. أو يكون العجب فيما أعطي في حنجرته من الأغاني العجيبة والأصوات الشّجية المطربة والمخارج الحسنة» «1». فقضية استيعاب الجميل تعتمد على الحسّ، لأن الجميل هنا موضوعي محسوس، فهو يدل على حاسّة البصر في جمال شكل الطاوس والزّرافة، وعلى حاسة السمع في جمال أصوات الطيور المغرّدة، وكذلك يدلّ على تناسق الشكل الذي ترتاح إليه العين، ولا تختلف مدارس علم الجمال في اختصاص هاتين الحاستين بإدراك الجمال. ولا يكتفي بالحواس الظاهرة، إنما يعدّها سبيلا إلى مكمن المشاعر أو القلب حسب تعبيره، إذ يقول: «وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنّي حدّق إليها الطّرف، وأصغى نحوها السمع، وألقى إليها القلب الملك، فاستبق السمع والبصر أيهما يؤدّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه» «2». ولا يقتصر الجمال عنده على المحسوس المرئي أو المسموع، فهناك جمال معنوي مجرّد يتملّاه العقل أو القلب، ونحن نلتمس هذا من خلال حديثه عن القبيح، إذ يقول عنه: «الضيق في الملوك، والغدر في ذوي الأحساب، والحاجة في العلماء، والكذب في القضاء، والشّح في الأغنياء» «3». وهذا الجمال المعنوي الأخلاقي لا يبتعد عن الشريعة الإسلامية، كالوفاء والعفّة والصدق والكرم والشجاعة، إلا أنه يريد شدة القبح في حالات معينة.

_ (1) الجاحظ، الحيوان: 5/ 150 - 151. (2) الجاحظ، 1964، رسائل الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة 2/ 170. (3) الجاحظ، البيان والتبيين، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا تاريخ: 3/ 233.

وإذا كان الجاحظ يكتفي بالحديث عن الجميل الموضوعي والمعنوي الأخلاقي فإن أبا حيّان التوحيدي «1» يركّز على الجمال المعنوي، ويضع العقل معيارا لفهمه، ويبسط القول على صفات الله قائلا: «وهي من الحسن في غاية لا يجوز أن يكون فيها وفي درجتها شيء من المستحسنات، لأنها هي سبب كل حسن، وهي التي تفيض بالحسن على غيرها «2». فالخالق عزّ وجلّ هو الجميل المطلق، وهو خالق الجمال النسبي في الكون، فصفات الله هي أصل الحسن في المخلوقات، وأبو حيان يتحدث عن الجميل المعنوي، ويربطه بالخير، ويجعل العقل وحده معيارا في تذوقه واستيعابه، يقول: «إن العقل لا يستحسن ولا يستقبح شيئا من الأشياء إلا بقرائن وشرائط، وهكذا الحال في الأشياء التي تعرف بالخير والشر، إن القصاص إذا وقع عليه هذا الاسم لما فيه من حياة الناس، وإذا وقع عليه اسم القتل بغير هذا الاعتبار صار قبيحا لما فيه من تلف الحيوان» «3». فالفعل لا يتّصف بالجمال أو القبح، حتى يتضح أثره وفائدته، أو ضرره في المجتمع، أو دلالة الشّرع، وهذا ما رامه بقوله: شرائط وقرائن، وبما أن الجميل هنا معنوي، فتناسب ربطه بالخير، على حين ربط الجاحظ الجميل الحسي بالمنفعة. ومعيار العقل مستمر في حكمه لا يتغير بتغير الأحوال، فهو يقول: «ما يستحسنه العقل، فهو أبدى الاستحسان له، وما يستقبحه، فهو أبدى الاستقباح له، ولا يتغير ذلك بتغير الأحوال» «4».

_ (1) هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي المتوفى سنة 400 هـ، فيلسوف متصوف معتزلي، أحرق كتبه في آخر حياته، ومن كتبه «المقابسات» و «الإمتاع والمؤانسة» و «الصداقة والصديق» و «الهوامل والشوامل» اتّهم في دينه، انظر الأعلام: 5/ 144. (2) التوحيدي، أبو حيان، 1952، الهوامل والشوامل، تح: أحمد أمين وأحمد صقر ط/ 1، لجنة التأليف والنشر والترجمة»، القاهرة، ص: 43. (3) المصدر السابق، ص: 147. (4) المصدر السابق، ص: 316.

ويفصل أبو حامد الغزالي «1» بين الجميل والنافع، بيد أنه لا يلغي لذّة النافع، إنما يقدّر له لذّته الخاصة به، فهو يقول: «كل جمال محبوب عند مدرك الجمال، وذلك لعين الجمال، لأن إدراك الجمال فيه عين اللذة، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها، ولا تظنّنّ أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة، فإنّ قضاء الشهوة لذّة أخرى قد تحبّ الصور الجميلة لأجلها، وإدراك نفس الجمال أيضا لذيذ، فيجوز أن يكون محبوبا لذاته، وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليشرب الماء، وتؤكل الخضرة، أو ينال منها حظ سوى نفس الرؤية» «2». يذكر الغزالي هذا في حديثه عن المحبة، وهنا يتحدث عن حبّ الأشياء المحسوسة، ويذكر حاسّة الرؤية، ويمكننا أن نعدّ كلامه تفسير لقوله عز وجل عن الإبل: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ «3». إذ ينص البيان القرآني على أن الأشياء ليست جميلة لذاتها بل لمنفعتها للإنسان في الوقت نفسه، وتمتع الإنسان بالصفات الجميلة يؤدي إلى تسبيح الخالق عز وجل. فالموقف الجمالي بحسب المنهج القرآني يقول بالغائية، إلا أنه يدعو إلى الترفع عن المنفعة المادية المباشرة، فلا يرتبط بالنافع مباشرة كما في فلسفة سقراط، كما نجد هذا في الحواريات التي نقلها عنه تلميذه أفلاطون. والإبل مفيدة بلحمها وركوبها، وهنالك هنيهات تأملية سامية يتجلّى للبصر حينها جمال شكل الإبل، وهذا يدعو إلى تسبيح الخالق، فالشعور بالجمال يتكون بعد إشباع الحاجة المادية، فالظمآن لا يشعر بجمال خرير النهر، كما أن الجائع لا يشعر بجمال الثمار، لأن الجميل يعني إثارة وجدانية

_ (1) هو محمد بن محمد حجّة الإسلام، فيلسوف متصوف له نحو مائتي مصنف، ولد في طوس بخراسان، ورحل إلى نيسابور، ثم بغداد فالحجاز، فبلاد الشام، وتوفي في طوس سنة 505 هـ، ونسبه إلى غزالة اسم قرية بخراسان، من كتبه «إحياء علوم الدين» و «تهافت الفلاسفة» و «المنقذ من الضلال» وله كتب بالفارسية. الأعلام: 3/ 972. (2) أبو حامد الغزالي، 1986، إحياء علوم الدين، ط/ 1، دار الكتب العلمية، بيروت: 4/ 316. (3) سورة النحل: الآية: 6.

لمشاعر راقية. وفي منظور الغزالي يتمتع الجمال الموضوعي بصفة الجمال عند ما تحضر فيه الصفات اللائقة به كما خلقها الله عز وجل، إذ يقول: «كلّ شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإذا كانت جميع كمالاته الممكنة حاضرة، فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر- ولكل شيء كمال يليق به، وقد يليق بغيره ضدّه، فحسن كل شيء في كماله الذي يليق به، فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس» «1». وهذا يذكّرنا بتأليف الأعضاء كما جاء عند الجاحظ، فالجمال متفاوت، لأن هناك نسبا مختلفة في حضور الصفات الجميلة، وهذا يصل بالغزالي إلى أن الكمال لله وحده، إذ يقول: «وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص، بل كونه عاجزا مخلوقا مسخّرا هو عين العيب والنقص فالكمال لله عز وجل وحده، وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله» «2». وهذا أيضا يذكّرنا بفيض الحسن من الخالق على المخلوقات، كما ورد عند أبي حيان التوحيدي. وبما أن المقصد من ذكر حب الجميل أخلاقي ديني عند الغزالي، فإنه لا ينسى أن يذكر الجمال المعنوي، إذ يقول: «إن الجمال والحسن موجود في غير المحسوسات، إذ يقال: هذا خلق حسن وهذا علم حسن، وهذه سيرة حسنة، وهذه أخلاق حسنة، وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة» «3». فالجميل عند الغزالي مطلق، وهو الخالق عزّ وجلّ، ومنه يفيض الجمال على الأشياء، وجمال موضوعي محسوس يعتمد على الحواس، وجميل معنوي يعتمد على البصيرة، كحبّ العلماء والعلم والطاعات والأخلاق

_ (1) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين: 4/ 316. (2) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين: 4/ 322. (3) المصدر نفسه: 4/ 316 - 317.

الحميدة. لقد تحدّث علماؤنا بوضوح عن المفاهيم الجمالية خلافا لتعقيد الفلاسفة الغربيين وتناقضهم أحيانا، كما نجد هذا في الجمال عند هيغل ومسألة المطلق والروح وأمثال هذه المصطلحات الغامضة، أو تعلق الجمال بالحدس كما هي الحال عند كروتشه. وقد ذكروا أمثلة من الواقع الملموس تثبت صحة نظرهم، ونخلص مما سلف إلى أن الجميل الموضوعي يعتمد على جزئيات هذا الجميل، وهذا يقترب من مفهوم الجميل في البحث، إذ يعتمد على حاستي البصر والسمع إضافة إلى القلب، وهذا ما تتفق فيه الدراسات الجمالية كلّها. ولا بدّ من الإشارة إلى أن اقتران الحب بالجمال في الفلسفة اليونانية لا يمتّ بصلة إلى ما جاء عند الغزالي، لأن الغاية عنده دينية، ليس فيها التجريد الفلسفي وما سمي بالمثل، كما أن حديث المسلمين عن الجمال البصري يتحدّد في الأشكال، وفي الصور المرئية، وليس فيه ترّهات الغرب، وتجسيد المثل أو الفكرة المطلقة، وما يتبع هذا من خطل وتعقيد، وكذلك لا نحب أن نربط بين ما ذكره التوحيديّ والغزالي عن فيض الجمال على المخلوقات بما جاء في نظرية الفيض عند أفلوطين، فنظرة علمائنا تتّسم بالأصالة، لأنها تنبع من أصول العقيدة الإسلامية. وإذا كانت المذوقات والمشمومات والملموسات أدخل في الالتذاذ الجسدي من المرئيات والسمعيات، فإن الجمال القرآني يثير هذه الأحاسيس أيضا، لأنه فن قولي يتمتّع بطابع زماني لاعتماده الكلمة والنسق الموسيقى، ومكاني بمشاهده المؤثرة في المشاعر، ولأجل الإيغال في التأثير الحسي يحرك كلّ الحواس، حتى إن سماع بعض الكلمات يشبه الإدراك المرئي، فيتخذ بعدا مكانيا. والجمال القرآني متكامل من حيث الانسجام بين الشكل والمضمون فيه، وهو لا يقدّم شكلا فارغا، بل إن ما فيه مسخّر في نهاية الأمر لرفع مستوى الوعي الجمالي، ومن ثمّ لتحقيق الهداية، ومن يقرأ آياته يدرك أن الشكل

يحتوي المضمون ويتّحد به، وبحيث لا ينفصمان، وما الإعجاز البياني إلا الشكل الراقي لدعوة البشر إلى الحق. ويمكننا أن نقول إن الجميل في القرآن هو كلّ ما ترتاح إليه النفس بعد مروره بالحواس، وذلك في الطبيعة والحياة الاجتماعية، وفق ما يقتضي الخير والشر من مظاهر وعلاقات إنسانية، وذلك بالإضافة إلى جمال الأفكار والمشاعر الذي ينسكب في الباطن، ويحدث لذة جمالية معنوية وفق طبيعة النفس الإنسانية كما فطرها الخالق عز وجل. والجميل في القرآن كل ما يخاطب المشاعر، وما يتصف بمعنى المؤثّر في أرقى أشكاله، إن في تصوير ما ترتاح إليه العين والأذن، أو في ما ينفّر عنه التصوير من خلال دقّة بارعة لتصوير القبيح، كما في رسم مشاهد الكفار، ولذلك نقول: إن الغائية الأخيرة في الجمال القرآني غائية دينية، هي هداية البشر بالترغيب والترهيب، وإن هذه الغائية تعتمد على فنون اللغة بغناها، وتبثّ فيها روح السموّ، فالقرآن معجزة بيانية. ولا بدّ هنا من توضيح المقصود من كلمة، «مفردة»، فهي ذلك الكائن الذي يساهم في الفن القولي في أسلوب القرآن، وهو موضوع البحث، ولا ترادف مصطلح الكلمة، لأن الكلمة قد تعني أحيانا كل العمل الأدبي، فهي أداته الفنية، كما أن النغمات أداة الموسيقا، وتعني بالتالي المادة التي ينسج منها النصّ، وهي تشتمل حسب تقسيم النحاة على الاسم والفعل والحرف، إلا أن الحروف تخرج عن نطاق هذا البحث، لأنها أعلق بمسألة النظم أي ما يربط بين المفردات، وقد أفاض الجرجاني في هذا. فالمفردة تعني الاسم، وتعني الفعل حين يرتبط الاسم بعامل زمني معيّن، ويدلنا المعجم على أن المفردة تلتقي مع الفرد والإفراد والمفرد والفرديّة والجوهرة الفريدة والانفراد، وتدل على العدد واحد، وهذا كله نقيض التثنية والجمع، يقول تعالى على لسان النبي زكريا عليه الصلاة والسلام: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ «1».

_ (1) سورة الأنبياء، الآية: 89 وانظر المعجم الوسيط، 2/ 686.

ويمكن القول إن المفردة هي المجموعة الصوتية التي تدلّ على معنى، وهذه المجموعة هي وحدة كلامية تقوم مقام الجزء من الكل في الجملة، وهي الجزء الأوّلي في بناء النظم والوحدة المكوّنة له، فلا يغني أحدهما عن الآخر، كما سيتّضح في طيّات البحث، وهي ليست كائنا معجميا، إذ يتبين لقارئ القرآن أنها تمتاز بدلالة جديدة يضفيها الموضوع على حياد المعجم. أما المراد ب «جمالية المفردة»، فنقصد به الجمال الموضوعي الذي ينشأ من أجزاء الموضوع الجميل وتركيبه، وهو موضوعي لأنه يستند إلى فن الأدب وطبيعة النفس البشرية، فجمال المفردة في هذا البحث موضوعي لأنه واضح الأسباب ويعتمد على جزئيات المفردات. أي أن المراد القيمة الفنية للمفردة في سياق البلاغة القرآنية، واستقلالها بأهمية كبيرة في مجال التأثير الوجداني. فهو جمال حسي بصري يبين أثر الكلمة المفردة في توصيل الصورة الفنية إلى الذهن، ويشمل تجسيم المعنويات وتشخيص الأشياء، وبثّ الحركة والحيوية في الصورة. وهو جمال حسي سمعي يبيّن جوانب موسيقية في المفردة، من حيث وقع حروفها وصفات هذه الحروف، وملاءمتها للمقام، وما تمتعت به المفردة من مدود وحركات. كما أنه جمال نفسي للقلب فيه النصيب الأكبر في تلقّيه، وهذا الجمال ينشأ من علاقة المفردة بالموضوع أي علاقة الدال بالمدلول، وتفردها بالموضوع واستيعابها له، واتسامها بالغاية القصوى في التأثير من خلال صيغتها، وظلالها الخاصة في القرآن، وإيجازها للمعاني الكثيرة، ورفعتها في مخاطبة الإنسان، وهكذا نجد أن جمال المفردة القرآنية تصويري وصوتي وفكري معنوي. ويعني «الجماليّ» في دراسات علم الجمال الظواهر الجميلة والقبيحة، وما يتفرّع عنهما من قيم إنسانية، إن في الحياة، أو في الفن، وقد درجت دراسات فنية على استعمال صيغة «جمالية» التي تجمع على جماليات، فقالوا:

جمالية الفن العربي وجمالية الأسلوب وغير هذا، وهم يريدون الصّفات الجميلة فقط. أما ما نعنيه في هذا البحث بالجماليات فهي سمات جمال المفردة القرآنية، ولذلك قلنا جماليات لوجود التعدّد، وهو مصطلح يشتمل على الجميل وعلى القبيح من خلال تصوير القرآن له، كأشكال الكافرين وأعمالهم ومظاهر تعذيبهم. وقد عمدنا إلى استخدام مصطلح- المفردة، ولم تذكر اللفظة، لكي نؤكّد من خلال الاشتقاق انفراد الكلمة الواحدة بالجمال الفني، ولا نرى مانعا من ذكر الألفاظ إلا هذا السبب، وقد استخدم مصطلح «المفردة» في الأدب واللغة وكتب الإعجاز إلى جانب مصطلح الألفاظ. وقصدنا بكتب التفسير التفسير البياني، أي ما عني بالجوانب البلاغية، وتتبّعنا هذا في التفاسير الكاملة، وفي بعض الكتب المفسرة لبعض السور أو بعض الآيات فكلّ هذا نعدّه كتب تفسير بياني.

الفصل الأول الجوانب الجمالية في المفردة القرآنية

الفصل الأول الجوانب الجمالية في المفردة القرآنية

1 - جمال المفردة في الأدب

1 - جمال المفردة في الأدب ما من إنتاج فكري إلّا احتاج إلى الكلمة مسموعة أو مكتوبة، حتى إنهم يعدّون التفكير كلاما صامتا، والكلمة تميّز وعي البشر، وسموّهم على مخلوقات الله، لأنها نتاج فكر. والأدب هو الحقل الفكري الذي تغرس فيه الكلمات طمعا في ثمرة التأثير الوجداني، وهو يتخذ من الكلمة الوسيلة الجمالية، لأن غايته لا تقتصر على الإفهام والتعبير المباشر، بل تتعدّى هذا إلى مستوى فاعلية في المتلقي، إذ يوجد تعامل خاص مع الكلمات يختلف عن المجالات الأخرى. وفي دراستنا للقرآن في هذا البحث ننطلق من كونه نصا أدبيا انكبّ على تأمل جماله اللغوي مجموعة من الدارسين مخلصين له النية، وكانت لهم نظرات شتى، وسبل مختلفة، فالقرآن كتاب هداية، ولكنّ الجانب الديني ليس المعنيّ هنا إلا في قدرة اللغة على توصيله في أرقى صور التعبير. وقد أشرنا سابقا إلى تعريف المفردة في المعجم، وهاهنا نقدم نبذة يسيرة حول مفهومها في النقد الحديث، وهو تنظير تؤيده استشهادات دارسي الإعجاز، فتكون هذه الآراء عونا لنا في مناقشتهم للبيان القرآني، وليست غايتنا إلحاق الكلم الربانية بقوانين بشرية مختلفة المناهج، بل هي مفاتيح نلجأ إليها، لتفسر لنا البيان القرآني، فلا ضير في أن نسوق بعض الآراء التي سنجد لها تطبيقا في جهود الدارسين قديما وحديثا، وجلّ هذا الكتاب أن يحصر في قوالب نقد قد تولّد نتيجة معايشة عميقة لنتاج الفن الأدبي البشري. - تجاوز المرحلة المعجمية: من المسلّم به أن المفردة الأدبية كائن جديد متميز من المفردة المعجمية، فهي في الأدب تلبس لبوسا فريدا مع شحنة روحية، مما يجعلها تتجاوز كونها أصوات مادة معجمية، وهي ترسم وتشخّص وتجسّم حالة شعورية، فتتسع دلالتها الإشارية الضيقة، وتحمل دلالة أخرى في حالة الاتساع.

لا تقف المفردة الأدبية في حياد المعجم، فإن غزت موضوعها واستوعبته تملّكته، فكانت آية في الجمال، وإن خسرت معركتها اقتربت من الفوضى والهذيان، وصارت إلى زوال وابتذال، يقول بختين في هذا الصّدد: «الكلمة في الفكر الأسلوبي التقليدي لا تعرف إلا ذاتها أي سياقها هي، وموضوعها هي، وتعبيريتها المباشرة ولغتها الواحدة الوحيدة، أما الكلمة الأخرى الموجودة خارج سياقها، فلا تعرفها إلا بوصفها كلمة محايدة من كلمات اللغة، إلا كلمة لا تخصّ أحدا، إلا مجرد إمكانية كلامية» «1». ولعل هذه المعجمية هي التي نفّرت الدارسين- ولا سيّما القدامى منهم- من استقلال المفردة بالجمال، وحقّها بالمقام الرفيع، لأنها في نظر بعضهم موجودة في الصفات نفسها قبل أن يشملها التشكيل اللغوي، وترعاها الفنون من هنا وهناك، وفي هذا تقصير، لأن المفردة أثبتت جدارتها في حاجة التشكيل إلى مادة بعينها، وليس إلى غيرها من ذلك الرّصيد الواسع في نطاق المعجم، ليكمل التشكيل بناءه الجمالي. وهذا هو الفرق بين الكتابة العلمية والكتابة الأدبية، فالأولى لا تهتمّ بالانتقاء، لأنها لا تعنى بالاعتبارات الوجدانية، فتقلع عن جمال النحو بعلائقه المؤثرة، كما تقلع عن جمال الصرف الذي يعطي الصيغة الفاعلية الجمالية، وتتجاهل الفروق الدقيقة بين المفردات، كل ذلك لأنها كتابة مباشرة لا تخاطب الشعور، والمفردة في مضمارها إن هي إلا وسيلة لمخاطبة العقل مباشرة. أما الكتابة الأدبية فهي بناء لغوي جميل، والأديب يرى أن المفردة كائن حي ودلالة حيوية، تقوم بوظيفة نقل المشاعر في صيغ مغايرة للاستعمال المعهود، ولا تنتهي غايته عند صياغة الفكرة فقط، بل عند بثّ الروح في حنايا الكلمات، فتغدو بدائل عنه، وهذه المعايشة بين المفردة والمبدع تحتاج إلى وقفة ذوقية لأجل عملية الانتقاء، لأن الكلمة سترسم صاحبها بملامح جسدية، وملامح ذهنية في سجلّ خيالي، وهذا ما يحوجه إلى التأمل في المفردة قبل

_ (1) بختين، ميخائيل، 1988، الكلمة في الرواية، ط/ 1، تر: يوسف حلاق، وزارة الثقافة، دمشق، ص 29.

وصولها إلى النص، فيغربل المفردات، لأنه يخشى زللها. يقول برتيليمي مشيدا برفعة الكتابة الأدبية: «في الوقت الذي يهتم فيه الفيلسوف بالحقائق والأفكار فحسب، ويقف فيما وراء الألفاظ، يقف الشاعر فيما قبلها، لأنها ليست بالنسبة إليه علامات فحسب، بل هي كذلك- وقبل كل شيء- كائنات ينظر إليها، ويفحصها ويتأمل فيها، ويعجب بها، كما يعجب الإنسان بحصاة أو بحشرة أو بطير ما» «1». فالكلمة تترك ساحة دلالتها اللغوية عند ما تكون في الأدب، وإذا كنا نحن إزاء دراستها في القرآن، فهل يطبّق هذا الرأي عليها؟. هنا تتجلى ميزة القرآن، فهو كتاب هداية وعلم، وليس يقصد الفن الأدبي وحده فيه، فهو موجود ليتمم الفكرة الدينية، ويوصلها في أجمل وأبهى صورة، وهو كتاب علم وعقيدة وتشريع سماوي، ومواعظ وأخبار، وعلى الرغم من هذا لم تؤثر فيه علميته في أن يبقى منها بلاغيا، ونصا أدبيا راقيا. ومن يطوّف في رحاب التفاسير اللغوية البلاغية يجد وقفات طويلة في مفردات السور المدنية التي كان طابعها التشريع، لأن التشريع قد عني أيضا بنفسية المؤمن، ومن خلال رسم السلوك البشري السّوي، وإلقاء الأوامر الإلهية، إذ برزت للدارسين جماليات في مناسبة المقام بمفردات تختزن طاقة وجدانية كبرى. ولا شكّ في أن المفردة تكتسب هذه الميزة الجديدة من الظلال الروحية التي تحيط بها داخل النص، فتتخذ لها معاني ثانوية يجود بها الموضوع المرتجى، وهذا ما أسماه أحمد الشائب بالصفات الهامشيّة، إذ قال عن كلمة «الربيع»: «حين تقتصر على المعنى المعجمي المحايد، فهي تعني هذا الفصل من العام، وما فيه من اعتدال الجو، وكثرة الخضرة، وهذا ما يدعى بالدّلالات المركزية، وهي تليق بعلماء الطبيعة .. ولكن الربيع لدى الأديب حين يستغل عاطفته، ويشحن دلالته بصفات هامشية، يكون الربيع مبعث حزن أو فرح

_ (1) برتيليمي، جون، 1970 - بحث في علم الجمال، ط/ 1، تر: د. أنور عبد العزيز، مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، القاهرة- نيويورك، ص/ 286.

وينبوع رجاء» «1». ولا ريب في أن اختلاف المواقف يتأتّى منه اختلاف الصفات الهامشية، فالكلمة رهينة تلك الحالة الشعورية، وقد كسرت قيود الدلالة اللغوية المركزية، وهذه مقولة يتفق عليها كل النقاد، فهي في عداد النواميس الأدبية. وقد ذكر لاسل آبر كرمبي ما يشبه كلام الشائب، فجعل المركزية نواة، والمعاني الأدبية تطوف حولها، وذلك يتحدد في قدرتها على ملائمة قرائنها في الموضوع «2»، ومخزونها التأثيري في المتلقّي بهذه الطائفة من المعاني الثانوية، ولكنّ التفاوت يعود في رأيه إلى تخصيص المكان المناسب للمفردة، وهذا من صلب نظرية النظم للجرجاني «3» الذي أطنب في شرحها. بيد أن الخطوة الأولى التي تسبق ذلك التركيب الإبداعي تتعيّن في اختيار المفردة، وسوف نعود إلى توفيق الدارسين بين المفردة والنظم وعدم الإجحاف بطرف منهما في مكان لاحق، وفي هذا يقول الزيات: «وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق، لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها موضعها الطبيعي من الجملة، دبّت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة» «4». يسعى الأديب إلى اختيار أسلوب فريد لمادته الكلامية، وذلك حفاظا على منحى الإبداع، وعدم الدّوران في فلك الآخرين، والاتكاء على تعابيرهم، فيبثّ إيحاءه الشخصي، ليجتاز إيحاءات غيره، وفي هذا يقول بختين: «إن

_ (1) الشائب، أحمد، 1973، أصول النقد الأدبي، ط/ 8 مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ص/ 62. (2) كرمبي، لاسل آبر، 1936، قواعد النقد الأدبي، ط/ 1، تر: د. محمد عوض محمد. سلسلة المعارف العامة، القاهرة، ص/ 40. (3) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، واضع أصول البلاغة، كان من أئمة اللغة، وله شعر رقيق. من كتبه «أسرار البلاغة» و «دلائل الإعجاز» و «الجمل» في النحو و «العمدة» في التصريف، توفي سنة 471 هـ، انظر الأعلام: 4/ 174. (4) الزيّات، أحمد حسن، 1945، دفاع عن البلاغة، ط/ 1، مطبعة الرسالة، القاهرة، ص/ 82.

- خصوصية المفردة القرآنية:

الوعي اللغوي النشيط أدبيا كان يجد في كل زمان ومكان «لغات» وليس لغة، كان يجد نفسه أمام ضرورة اختيار اللغة» «1». واختيار اللغة هاهنا يبدأ من اختيار المادة ثم الصّيغة، وهذا مبدأ كل من ابن سنان وابن الأثير «2»، إذ يبدأ جمال اللغة في كتابيهما: «سرّ الفصاحة» و «المثل السائر» بباب طويل السّرد والشرح عن جمال المفردة، يليه باب جمال النظم، وباب جمال الحروف، وتبعهما رجال البلاغة في هذا الترتيب. ولا مندوحة لنا من أن نضيف إلى كلام «بختين» أن المبدع يجتاز حياد المعجم، ويجتاز نشاطات الغير إن وقفوا على مادة نصه نفسها، أو خطرت على قلوبهم التجربة الشعورية نفسها، وهذا لا يعني أن تفقد المفردة حدّ المعقول، فيجنح الشاعر إلى موقف هزلي بين المادة والموضوع، فيصاب أدبه بداء الإغراب، لأنه لا يطالب ببديل عن الواقع، إنما يطالب بتلوينه بعيدا عن الخطل قدر المستطاع، بحيث لا يخفق في استدامة العلاقة بينه وبين المتلقي، مما يعود بالمفردة جثّة هامدة لا تمتّ بصلة إلى الوضع الاجتماعي. - خصوصية المفردة القرآنية: لقد أثبت البيان القرآني جدارته بصفة الربط بين المتلقّى والنص بوشائج متينة، وهذا الاستحقاق يكمن في ديمومة ربط المرء بالواقع: الواقع النفسي في القدرة على إثارته على مرّ العصور، فتنبش مكوّنات أساسية في السلوك

_ (1) بختين، الكلمة في الرواية، تر: يوسف حلاق، ص: 54. (2) عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، شاعر، أخذ الأدب عن أبي العلاء المعري وغيره، وكانت له ولاية بقلعة «عزاز» من أعمال حلب، وعصي بها، فاحتيل عليه ومات مسموما سنة 466 هـ، له ديوان شعر مطبوع وكتاب «سر الفصاحة». انظر الأعلام: 4/ 266. - ضياء الدين نصر الله بن محمد الجزري، وزير من العلماء الكتاب، ولد في الموصل، وكان وزير الملك الأفضل بن صلاح الدين، مات ببغداد سنة 637 هـ له «المعاني المخترعة» في صناعة الإنشاء و «الوشي المرقوم في حل المنظوم» و «المثل السائر» و «الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور» و «ديوان رسائل» الأعلام: 3/ 110.

البشري، وهاهنا مخاطبة الخالق لما خلق، وكذلك الواقع المحسوس في تصوير جزئياته في الطبيعة الصامتة والمتحركة، والمشاهد المألوفة، وتقريب ما هو ليس بمألوف بإثارة الحواسّ والبصيرة، واستدامة صورته الفنية هي نتيجة ثبات الحواسّ وتأكيده على ربط الصورة بالحواسّ، وهكذا لم يرفض الواقع، بل نهض به ولوّنه. ولغة القرآن الكريم عربية، ولا نحبّ أن نثبت له الصّفة الدينية فقط، أو الجهة العلوية، لنقرنه بالسّموّ، فهذا لا يدحض كلام جاحد، ولا يدفع هجوم منكر، والصحيح أن هذا الكتاب العظيم استخدام المفردات العربية أحيانا في غير مجالها المعهود، ففي مجال المضمون قلّص دلالات كثيرة، وبثّ فيها المعاني المغايرة بصبغتها الدينية، والشواهد كثيرة على هذا كالمصطلحات الدينية في العقيدة والتشريع «صلاة، نفاق، صراط .. ». وإذا كان جمال مفرداته من مصدر إلهي، فهذا يعني بالضبط سموّ الفن القرآني في مضمار الفن الأدبي، وحجّته الأولى هي اللسان العربي الفصيح، وطبيعة الفن، وليس الدافع الديني، فنحن نلمس السرّ الإلهي في الكلام المبين من خلال الآثار الجليّة التي تدلّ على وجوب الاعتراف بالبيان لمن علّم البيان، يقول عبد الكريم الخطيب: «أفاض الله سبحانه عليها- الكلمات- هذا الفيض، ونفخ فيها من روحه، كما نفخ في عصا موسى، لكنه مع ذلك أبقى على تلك الكلمات طبيعتها التي يعرفها الناس منها، كما أبقى على عصا موسى طبيعتها كذلك» «1». وهذا السر الإلهي ليس خفيّا على متذوق للعربية وفنّ الكلام، وهذه الخاصية للمفردة القرآنية تسري في الآيات في تلاؤم تام، ولا يمكن أن نعدّها تفضّلا أو ترفا ذهنيا، كما هي الحال في كثير من الأدب، وهي- المفردة- سامية بنسبتها إلى منزلها في إطار من البيان الذي يعيه العرب خاصة، فعلى قدر ما تكون الجهة المبدعة قوية، تخرج الكلمات قوية مؤثرة، وقريب من هذا ما يقوله لا سل آبر كرمبي: «إن المهارة في الأدب لا تتناول سوى الألفاظ التي

_ (1) الخطيب، عبد الكريم، 1964 - إعجاز القرآن، ط/ 1، دار الفكر العربي بمصر، 2/ 295.

- الشكل والمضمون:

يستخدمها الكاتب، بينما مهارة الحديث تتناول أيضا ما للمحدّث من شخصية قد يكون أثرها أكبر وأعمق من أثر الألفاظ» «1». والقرآن كلام الله عز وجل، وهو أقرب من حبل الوريد، فلا عجب في أن يضاف إلى حيّز الأدب سموّ المحدّث تبارك وتعالى، وهذا سيتّضح في دلالات خاصة للمفردات في فقرة لا حقة، قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ «2». - الشكل والمضمون: تتمتع الكلمة في المضمار الأدبي بثنائية الشكل والمضمون، وفي الأدب الراقي يتضح أن الشكل ليس زخرفة بالية، بل يساند المضمون الفكريّ، ومؤيدات هذا التلاحم، وهذا التلاؤم المنسجم بين الطرفين تنبع من النص نفسه، وتنطلق الأحكام من خلال جوّ المفردة في خضمّ المفردات، وهي تصافح حاسة السمع قبل أن تطرق باب المشاعر، أي ترجمتها في سجلّ الوعي، ذلك لأنها صوت أولا، ومعنى في الدرجة الثانية. لقد جنح الشعر الحديث إلى الموسيقا الداخلية المتوخّاة في طيّات الكلمات، إذ استعاض بها عن الوزن والقافية، والأديب البارع من يوظّف القيمة الصوتية في رسم المعاني، ويشخصها للمتلقي، لأنّ الإيقاع يجب أن يمثّل الحالة الشعورية، ولن يبلغ الشّعر شأو القرآن. والاهتمام بجمال صوت الكلمة- أي صورتها الأولى- قديم قدم الأدب العربي، ولطالما جنح النقاد ودارسو الإعجاز القرآني إلى استحباب ألفاظ لمجرّد حلاوة نغمها، وذلك دونما توهم يربط بين الصوت والمعنى، كما سنجد في كثير من تعليقات الدارسين. والحق أن «رقة اللفظ، وحلاوة الحروف، والسّلاسة والسّهولة والعذوبة، إشارات مصيبة، ووعي سابق على عصرنا، وهي تدلّ على تذوق أسلافنا

_ (1) كرمبي، لاسل آبر، قواعد النقد الأدبي، تر: محمد عوض محمد، ص: 40. (2) سورة الطور، الآية: 34.

للجمال السمعي. ولا ريب في أن كلا الطرفين: الصوت والمعنى في تلازم دائم، وأن التعلّق بالصوت مرحلة أوّلية يجب أن تجتاز، وفي هذا يقول جيروم ستولينتز: «إن الكلمة ليست مجرد شكل على الورق، أو صوتا نسمعه إذا كانت منطوقة، وإنما هي لا تكون كذلك إلا بالنسبة إلى الطفل الصغير، أو شخص لا يعرف اللغة، ... ولكن على الرغم من ذلك يظلّ التمييز قائما بين اللون والصوت الذي لا يقدّم للوعي إلا ذاته، وبين الكلمة التي يكون معناها أكثر من مجرد المظهر الذي تتخذه للإحساس» «1». وقد يكون من هذا الباب كره ابن سنان وابن الأثير لطوال الكلمات في الشعر واستحبابها في القرآن، والقضية لم تكن في الطول بقدر ما تكون في التشكيل الصوتي ومادّته ونغمته. أما أن الصوت لا يقدّم للوعي إلا ذاته، كما يقول ستولينتز، فهذا لا ينطبق على كلمات القرآن، فهي وعاء للمعنى في البعد الأول، حسب الوضع الاجتماعي، وهو يواكب المعنى في تصوير المطلوب من الأشياء في عملية محاكاة للحدث، فله أحيانا وظيفتان. ولا بأس أن نستشهد بآية قرآنية، وندع ما قاله الدارسون إلى مكانه من البحث، إذ يقول تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً «2»، ففي كلمة «رخاء» جزئيات الحركة المعنيّة، وتصوير للحدث، وذلك بعيدا عن المعنى، فالصوت هو الذي يوحي الآن، ويرسم الحركة في عملية نطق تحاكي الحدث، فإنّ الضمة على الراء تعني انضمام الشفتين على حرف ليس من حروف اللّين، واستدارة الشفتين تتطلب جهدا، وفي هذا قوّة الريح، ثم يأتي الانتقال من الضمّ إلى الفتح على حرف حلقي ليدعو إلى تصوّر بدء سهولة، وتكثر السهولة في مدّ الألف، فليس هناك انقباض ولا انكماش، بل تدرّج من الصّعب إلى السهل، مما يمثّل طواعية الريح للنبي

_ (1) ستولينتز، جيروم، 1974 - النقد الفني: دراسة جمالية وفلسفية، ط/ 2، تر: د. فؤاد زكريا، مطبعة جامعة عين شمس، ص/ 84. (2) سورة ص، الآية: 36.

بأمر الخالق ولا يكون هذا في كلمة سوى «رخاء». بسط المحدثون القول في هذه الناحية مضيفين إلى إشارات القدامى نظرات عميقة، وتحليلا مقنعا أحيانا، مثل الرافعي، وبدوي، وحفني شرف، وغيرهم، وقد طرق القدامى هذه المسألة، وعلى وجه الخصوص قدامى علماء اللغة، كابن جني «1» في «الخصائص» وهي تدعى ب «الأونوماتوبيا» أي محاكاة الوضع اللغوي لمظاهر الطبيعة، وفي العربية الكثير من المفردات المحاكية، وقد استخدم القرآن مثل هذه المفردات عند ما بثّ الحركة فيها، وجسّم معانيه، وخاطب الحواسّ عند تقديم الذهنيات. وأخيرا نستنتج أن الاهتمام بالشكل الذي يطمس المعنى، هو تعلّق زائف لا يجدي نفعا، كما في مذهب الرمزية المغرقة في الشعر، والكلمات أصوات ومعان، ولا يمكن التفريق بينهما إلا على سبيل الافتراض عند الدراسة النقدية، والصوت والمعنى وجهان لورقة واحدة في الأدب، ولا تظهر للعيان الارتباطات الموسيقية في الكلمة إلا وهي داخل النص. ولا تتكشف هذه المساندة لأي قارئ، فالأمر يتطلّب تمحيصا، وسلامة ذوق، وتدبرا عميقا. ونحن لا ندّعي مساندة الشكل للمضمون في مفردات القرآن إلى درجة المحاكاة التي لم تحظ برضى الكثير من اللغويين، بل نرى في القرآن مناسبة تامة بين الشكل والمضمون، فلا أقلّ من العودة إلى القرآن الذي قدّم الحالة النفسية، وتصوير أجواء المواقف في المدود والغنّات والتنكير والسّكنات والحركات، فالمواقف مختلفة، والتشكيل الصوتي تبعا لها مختلف، وكأنّ الحرف يمثّل ويرسم، والحركات تضيف الأطر اللازمة للصورة، فالهمس في مواقف اللّين والهوادة، والإطباق والشّدّة في مواقف التهديد والوعيد، ومثل

_ (1) هو عثمان بن جني الموصليّ، أبو الفتح، من أئمة الأدب والنحو، وله شعر، ولد بالموصل، وتوفي ببغداد سنة 392 هـ، كان أبوه مملوكا روميا، من كتبه «الخصائص» و «المبهج» في اشتقاق أسماء رجال الحماسة، و «التصريف المملوكي» و «المقتضب من كلام العرب» وقد شرح ديوان المتنبي، وكان معتزليا غير مغال في رأيه، انظر الأعلام: 4/ 364.

هذا منثور في الآيات الكريمة، وسيتضح في دراسات الإعجاز البياني في الفصول الآتية. وفي نهاية المطاف نؤكد أن المفردة القرآنية تجاوزت حدودها المعجمية، وقد تجاوزت أحيانا إيحاءاتها المعهودة، واعتمدت التأثير الحسي، وحافظت على تلازم الشكل والمضمون، وهي قد أنبأت باسمى التنظير الفني في عصرنا.

2 - المفردة والنظم في كتب الإعجاز

2 - المفردة والنظم في كتب الإعجاز - مناهج الاهتمام بالمفردة القرآنية: الكلمة هي اللّبنة المستخدمة في البناء اللغوي، ذلك البناء الفكري الذي يعدّ مظهرا من مظاهر وعي الإنسان، وسموّه على المخلوقات الأخرى، وقد كرّمه المولى بها، لأنها وسيلة تعايش وتآنس، وهي أداته التعبيرية في توصيل المعنى، في القول العادي، وهي الوسيلة الجمالية في صياغة النتاج الأدبي، كما كانت الألوان وسيلة الرسم، والنغمات وسيلة الموسيقا، والحجر وسيلة النحت. وهي في مجال الأدب شحنة روحية، وليست مجرّد أصوات، لأنها ستتغير وتكتسب دلائل جديدة، وتوظّف الحروف للتأثير الوجداني. لقد عني القدامى بالمفردة القرآنية وفق منهجين من الدراسة: - المنهج الأول: تقريب المجاز إلى الحقيقة، وهو مناط التفسير بالمأثور، كما هي الحال في تفسير الطبري «1» المشهور، وفي دراسة خاصة لأبي عبيدة «2» في كتابه «مجازات القرآن»، وقد أردفه الشريف الرضي «3» بكتاب له العنوان نفسه «تلخيص البيان في مجازات القرآن» مضيفا نظرات جمالية، إذ

_ (1) هو محمد بن جرير ولد في طبرستان سنة 224 هـ، وهو مؤرخ ومفسر سكن ببغداد وتوفي فيها سنة 310 هـ من كتبه «جامع البيان في تفسير القرآن» المعروف بتفسير الطبري، و «أخبار الرسل والملوك» المعروف بتاريخ الطبري. انظر الأعلام للزركلي: 6/ 292. (2) هو معمر بن المثنّى، اشتغل بالتفسير والرواية وأيام العرب واللغة، وضع في التفسير كتابه «مجاز القرآن»، وقيل إنه خارجي أو قدري توفي سنة 209 هـ. انظر طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص 192. (3) هو محمد بن الحسين، الشريف الرضي الحسيني الموسوي، أشعر الطالبيّين ولد في بغداد وتوفي فيها سنة 564 هـ، انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده، من كتبه «ديوان شعر»، «المجازات النبوية» و «مجاز القرآن» و «مختار شعر الصابئ». انظر الأعلام: 3/ 889.

كان همّ الأول ردّ المعنى إلى ساحته الأولى، لكي يتوضح، ولا يعني هذا أن التفسير بالمأثور يغفل الجانب الجمالي أو لا يفهمه فما من مفسر أثبت إسناد الجناح للرحمة أو للذل حقيقة كما في قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ «1»، لكن النكت البلاغية والاهتمام بالشئون الفنية مما يندر في هذا التفسير. ومن هذا النهج الكتب التي ألّفت في غريب القرآن، وأشهرها في هذا المضمار: «الغريب في مفردات القرآن» في القرن الخامس الهجري لصاحبه الراغب الأصفهاني «2»، وهو يبحث في الأصل المادي للمفردة القرآنية في دراسة مفهرسة وافية تفيد في بيان دقة الانتقاء القرآني نتيجة معرفة أصل الوضع للمفردة. أما ابن قتيبة «3»، فقد عني بالمفردة في كتاب بعنوان «تفسير غريب القرآن»، وفي كتابه المشهور «تأويل مشكل القرآن»، بحث في المعاني المختلفة للفظ الواحد، وقد درس فيه بعناية ما يشبه انتقال المفردة من الحقيقة إلى المجاز، وفي فصل سماه «باب اللفظ الواحد للمعاني المختلفة» أورد فيه في خمسين صفحة أربعا وأربعين مفردة فيما يمكن تسميته بالمشترك اللفظي، مثل: الدين والخلق والأمة والقنوت والهدى. وقد تبع ابن قتيبة كثير من الدارسين، فقدّموا جهدا لغويا حول علاقة اللفظ بالمعنى، ومن هذا الجهد عدّة فصول في «الاتقان» للسيوطي «4» وكذلك في

_ (1) سورة الإسراء، الآية: 24. وانظر تفسير الطبري: 17/ 215 وتفسير ابن كثير: 4/ 298. (2) هو الحسين بن محمد بن المفضل، أديب من أهل أصبهان، سكن ببغداد، وقرن بالغزالي لشهرته توفي سنة 502 هـ، من كتبه «جامع التفاسير» و «حل متشابهات القرآن». انظر الأعلام: 1/ 255. (3) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، من أئمة الأدب ولد ببغداد سنة 213 هـ، ولي القضاء في الدينور فنسب إليها، من كتبه: «تأويل مشكل الحديث» و «تفسير غريب القرآن»، «الرد على الشعوبية»، «الإمامة والسياسة» «أدب الكاتب» توفي ببغداد سنة 276 هـ، الأعلام: 4/ 280. (4) هو جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، له نحو 600 مصنف، نشأ

كتابه «معترك الأقران في إعجاز القرآن» مثل فصل ما وقع فيه بغير لغة الحجاز وفصل «الوجوه والنظائر» وكذلك سبقه إلى هذه العناوين الزركشي «1» في الجزء الأول من «البرهان في علوم القرآن». وربما انبثقت عناية الأسلاف بلغوية المفردات القرآنية من سؤالات نافع بن الأزرق «2» للصّحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما، مع أن القرآن يبقى دائما موضوعا للتساؤل. فقد كان يسأل عن ذكر العرب للمفردة، فيردّ عليه ابن عباس ببيت شعري موثّقا عربية المفردة القرآنية، ومثل هذا قول ابن الأزرق: أخبرني عن قوله تعالى: وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا «3»، قال رحمة من عندنا، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت طرفة بن العبد يقول: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض وقد أورد السيوطي هذه السؤالات في خمس وعشرين صفحة «4». - المنهج الثاني: الدراسات الجمالية التي ركّزت على فنية الكلمة، وهذه مبثوثة في أولى دراسات القرآن لدى أبي عبيدة على قلّة، ثم كثرت هذه الإشارات أو اللمحات الفنية في كتب الإعجاز والتفسير بالرأي، وذلك بطرائق

_ في القاهرة، وعاش زاهدا إلى أن توفي فيها، من كتبه «الأشباه والنظائر» و «همع الهوامع» في النحو و «المزهر» في اللغة، و «معترك الأقران في إعجاز القرآن» و «الخصائص والمعجزات النبوية» و «شرح شواهد المغني» و «تنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك» توفي سنة 911 هـ انظر الأعلام 4/ 71. (1) الزركشي: هو محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، فقيه شافعي، تركي الأصل، مصري المولد والوفاة، توفي سنة 794 هـ، له تصانيف كثيرة في عدة فنون منها «الديباج في توضيح المنهاج» في الفقه و «المنثور» في الفقه ويعرف بقواعد الزركشي، انظر الأعلام: 3/ 933. (2) نافع بن الأزرق الحنفي، من بني حنيفة، أحد الشجعان الأبطال في العصر الأموي، كان أمير قومه وفقيههم، وإليه تنسب فرقة الأزارقة التي لقي المهلب بن أبي صفرة الأهوال في حربها، قتل يوم دولاب على مقربة من الأهواز سنة 65 هـ انظر الأعلام: 3/ 1094. (3) سورة مريم، الآية: 13. (4) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، 1987 - الإتقان في علوم القرآن، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1/ 257.

- نظرية النظم:

مختلفة نتيجة الوجه المدروس للمفردة، وتميّز نظرة الباحث وثقافة عصره، وهذا النّمط هو الذي يخصّ بحثنا. - نظرية النظم: لم تكن نظرية النظم وليدة فكر الإمام عبد القاهر الجرجاني، فقد كانت صلب دراسة الإعجاز البياني عند الجاحظ وغيره، ولهذا فقد تداولوا معانيها وأسسها، وشرحوا شيئا من ماهيتها وأصولها إلى أن وصلت إليه، فلا يوجد دارس قبله قد نفى فكرة النظم. وغايتنا في هذه الفقرة البحث فيما إذا كانوا صارمين مغالين فيها، ومتجاهلين استقلال المفردة بجمالها، أم أنهم اعترفوا هنا وهناك بفصاحة المفردة ودورها في الأداء. ومما لا شك فيه أنه لم يكن هناك أشدّ مغالاة من الجرجاني الذي بيّن هذه الفكرة، ووضع قوانينها الواضحة في تحليله الوافي، وسوف نبحث في حجج تؤيد النظم، وحجج تؤيّد استقلال المفردة بالجمال في كتب الإعجاز. يتبيّن في جهود الأسلاف أنهم لم يبدوا الرأي المتشدّد الذي لا يتزحزح في تأكيد النظم، بل ترجّحوا بين المفردة والنظم، ولا يهمنا هنا سبق الجاحظ أو غيره إلى وضع هذا المصطلح البلاغي، على الرغم من أن له كتابا مفقودا بعنوان «نظم القرآن»، وقد تبعه آخرون في وضع كتب بالعنوان نفسه أمثال أبي بكر السجستاني وأبي زيد البلخي، وابن الإخشيد في القرن الرابع الهجري، كما يقول أحمد صقر، وشوقي ضيف الذي وجد أن الجاحظ هو من ابتكر هذا المصطلح «1»، وما يهمنا أن نبحث في جذور هذه الفكرة في كتب الإعجاز المطبوعة. إذا كان كتاب الجاحظ مفقودا- ويغلب أنه تضمن سائر وجوه البلاغة- فإن

_ (1) الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب، 1963 - إعجاز القرآن، ط/ 1، تح أحمد صقر، دار المعارف بمصر، المقدمة، ص/ 9. وانظر ضيف، شوقي، 1965، البلاغة تطور وتاريخ، ط/ 1، دار المعارف بمصر، ص/ 161.

ما في كتبه الموجودة يعد شذرات نفيسة حول النظم، إذ يقول في رسائله موضّحا غلط الناس في شأن جمال المفردة: «لأن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة، لتبيّن له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها ... وليس ذلك في الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين، ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله، وإنا لله، وعلى الله توكلنا، وربّنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا كلّه في القرآن» «1». ولا يريد من كلمة «لفظ» إلا الصياغة الفنية الكلية المتعينة في النظم، ومن المؤكّد أنه يريد بالنظام مفهوم النظم نفسه، ذلك النسق الذي يربط الكلمات فيما بينها، وهو أوّل من أولى النظم أهمية، وأوّل من فرّق بين الشكل والمضمون، ورأى روعة البيان في الصياغة، لأن المعنى في رأيه متوفر لكل شخص، على الرغم من أنه وقف على جماليات المفردة في مواضع كثيرة من كتابيه «الحيوان»، و «البيان والتبيين» كما سنرى. ولكن العلماء بعده قد تمسّكوا بالنظم، وجعلوه مناط الإعجاز البياني، لأن القرآن- في رأيهم- يتشكل من مفردات عربية متداولة، وجارية على الأفواه، وذلك تأسّيا- فيما يبدو- برأي الجاحظ. ويطالعنا الخطّابي «2» في القرن الرابع بنظرات في النظم القرآني، ويبدو أنه يؤكد فكرة النظم من غير المغالاة فيها، إلا أنه لا يقول برأي صريح في جمال المفردة إلا عرضا، وفي تعرّضه للفروق كما سنرى. وقسم الرماني «3» البلاغة إلى ثلاثة أنواع، وجعل المرتبة العليا للقرآن،

_ (1) الجاحظ، رسائل الجاحظ، ص/ 120. (2) الخطّابي: هو حمد بن محمد البستي من أهل بست من نسل زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب، فقيه محدّث، من كتبه «معالم السنن» و «إصلاح غلط المحدّثين» و «غريب الحديث» توفي سنة 388 هـ. انظر الأعلام: 1/ 273. (3) الرّمّاني: هو علي بن عيسى، باحث معتزلي ومفسر، ونحوي، أصله من سامرّاء، ومولده ببغداد سنة 296 هـ ووفاته بها سنة 384 هـ، له نحو 100 مصنف منها «الأسماء والصفات» و «التفسير» و «شرح سيبويه» و «النكت في إعجاز القرآن»،

وجعل بلاغة القرآن في عشرة أقسام، مثل: التشبيه والتلاؤم والإيجاز، وهو لا يذكر النظم صراحة مثل معاصره الخطّابي. وكذلك كان القاضي عبد الجبار صاحب «المغني في أبواب التوحيد» قد ذكر النظم في قالب فكري نتجاوزه لضيق البحث هنا «1». ولا نحبذ سرد آراء سائر دارسي الإعجاز، فقد لحظوا في انتقاء القرآن ما أدهشهم، ويكفينا اتخاذ نماذج حول هذه الثنائية: المفردة والنظم، لأن الكثير كانوا على شاكلة الخطابي، حيث يكون القول الأساسي بالنظم، ومن ثم نتلمس إمعانا جيدا في المفردة من غير أن ينكروا النظم، وهو المنهج الحق. ولا بأس أن نعرض للباقلاني «2» الذي يوحّد بين المفردة والنظم، وإن كان يبهم أحيانا، فهو يقول بالنظم متأثرا بالجاحظ في أن الكلمات عادية، وأن الإعجاز يكون في سباكة هذه الكلمات وصياغتها، وفي أواصرها، وذلك على اختلاف المصطلح بين ربط ونظام، وإذ جاء في كتابه عن اختيار الكلمة في النص القرآني: «هو أدق من السحر، وأهول من البحر، وأعجب من الشعر، وكيف لا يكون ذلك، وأنت تحسب أن وضع الصبح موضع «الفجر» يحسن في كل كلام، إلا أن يكون شعرا أو سجعا، وليس كذلك فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزلّ عن مكان لا تزلّ عنه اللفظة الأخرى، بل قد تتمكن فيه» «3». ولا يمكن أن نستشفّ منه رأيا في تأكيد أهمية المفردة، فهو لا يسير على وتيرة واحدة، إذ لا يقدم شواهد بشكل مباشر، وفي المكان نفسه، ويظل مفهوم المفردة مبهما عند ما نقرأ في كتابه إعجابه بقوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «4»،

_ انظر الأعلام: 2/ 684. (1) انظر القاضي عبد الجبار في الجزء السادس عشر من مؤلفه «المغني في أبواب التوحيد». (2) الباقلّاني: هو محمد بن الطّيّب قاض من كبار علماء الكلام، انتهت إليه الرّئاسة في مذهب الأشاعرة، ولد في البصرة، وتوفي في بغداد سنة 403 هـ، من كتبه «إعجاز القرآن» و «الإنصاف» و «تمهيد الدلائل» وغيرها. انظر الأعلام: 3/ 455. (3) الباقلاني، إعجاز القرآن، ص/ 184. (4) سورة الأنعام، الآية: 96.

إذ يقول: «انظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألّف بينها، واحتجّ بها على ظهور قدرته، أليس كل كلمة منها في نفسها غرّة وبمفردها درّة؟» «1». فالآية عنده أربع كلمات، والكلمة تساوي الفقرة أو الجملة، فقوله عز وجل: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً كلمة، والجمال يشمل إذا الصورة البيانية كلّها في هذه الاستعارة، أما اختيار «العليم» و «العزيز» من أسمائه الحسنى تبارك وتعالى، و «فالق» في الصيغة الاسمية لا «يفلق»، فلا شيء من هذا الذي يدل على تمكن الفاصلة، وهذا ما انتبه إليه الرماني عند ما أكد أن القافية يتبع المعنى فيها المبنى على عكس الفاصلة «2»، وقد تبعه آخرون في شرح هذه الفكرة، فذكروا الإيغال والتوشيح، وردّ العجز، والتمكين «3». والظاهر أن أبا بكر الباقلاني في تأمّله يؤكّد عدل الجاحظ في هذا الأمر، فجمال انتقاء المفردة متمم لأسلوب النظم، فهو يقول: «كل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية، وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامتها ذواتها، تجري في الحسن مجراها، وتأخذ معناها» «4». والمفيد في عبارته السابقة العودة إلى مصطلح الكلمة- المفردة،- وليس الكلمة- الجملة أو الفقرة أو حيّز الصورة الفنية. وقد سار على نهج الجاحظ في أن المفردة كائن معجمي لا جمال فيه ولا قبح ولا تصحّ نسبة الإعجاز إليها، طارحا العلاقة الوشيجة بين المفردة والفكرة كما سبق أن بيّن، فمن الطبيعي أن تكون في المعجم، وفي أقوال أخرى مشلولة حتى ينهض بها القرآن في أدق استخدام، مراعيا الفروق، ومفيضا عليها المعاني الجديدة والإيحاءات الخاصة التي لا تكون في العرف اللغوي، فقد جاء في أواخر كتابه: «والذي تحدّاهم به أن يأتوا بمثل هذه

_ (1) الباقلاني، أبو بكر، إعجاز القرآن، ص/ 188. (2) انظر الرماني، ثلاث رسائل في الإعجاز، ط/ 1، تح محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام، دار المعارف بمصر، ص/ 70. (3) انظر ابن أبي الاصبع، 1383 هـ تحرير التحبير، ط/ 1، تح حفني محمد شرف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ص/ 223 - 245. (4) الباقلاني، أبو بكر، إعجاز القرآن، ص/ 99.

الحروف التي هي نظم القرآن منظومة كنظمه، متتابعة كتتابعها، مطردة كاطّرادها، وما تحدّاهم إلى أن يأتوا بمثل هذا الكلام القديم الذي لا مثل له .. لأن التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام القديم، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف، وكذلك ما دون الآية كاللفظة، وليست بمفردها بمعجزة» «1». ففي هذا الكلام نحسّ بوضوح روح الجرجاني الذي صال وجال، ليثبت هذه الفكرة، وفنّد وسفّه، ليبعد كلّ شبهة عن نظرية النظم، وفي هذا إهمال لتتابع الحروف وتلاؤم المخارج، وسهولة النطق، ومناسبة النغمة للموقف في المفردة، وهي الوحدة المكوّنة، وهذا يناسب كلامه الطويل عن «العذب والرّقيق والفصاحة» ويصبح بمنزلة تفسير لإجمالها. لم يكتف الإمام عبد القاهر بنتف متفرقة لتعريف نظريته، وبسط شاهد عابر، فكل كتابه «دلائل الإعجاز» شرح لها، وذلك في مسيرة ذات حدين: إيجابي يقول بالنظم، وسلبي: ينفي فصاحة المفردة بتاتا، ففي صريح العناوين يذكر نفي الفصاحة في عشرة فصول، ويعود إلى هذا بعد كل تقديم لوجه من وجوه النظم تقريبا، كأن ينتهي من التنكير أو الإضافة، فيعود إلى تسفيه من يؤيّد فصاحة المفردة. ومنهجه عملي إذ يعتمد التأمّل العميق في الأسلوب القرآني، ويستشهد بالشعر من غير أن يهمل النص القرآني، بل يكون الشعر عونا في كشف جمال القرآن، فالشعر لتبيان وجه الصيغة وقانونها، وليس للمقارنة بين مضمون ومضمون، أو صيغة وصيغة، حتى إنه يلجأ إلى تأليف جمل تساعده في توضيح الفكرة، كما هي الجال في فصل التنكير والمبتدأ والخبر، وهو على الرغم من إطنابه يعود، ليقدم تعريفا لنظريته، وكأنما يخشى خللا في تفهم القارئ، ومما يحسب له، ويحمد عليه، نظرته الكلية إذ استطاع أن يقدم نظريته في وقت كانت فيه النظرات جزئية منثورة، وسطحية أحيانا.

_ (1) الباقلّاني، إعجاز القرآن، ص/ 260، ومراده بالكلام القديم: الكلام الذي لم يتشكل بصورة معينة، وهو الكلام النفسي، وهذا مصطلح كلامي والمعروف أن الباقلاني كان إماما من المتكلمين الأشاعرة، والكلام النفسي ينزل بلغات متعددة.

يرفض الجرجاني مصطلح الفصاحة المتعلق بالمفردات، ويعلقه بروابط الكلمات، وهذه الروابط مراعاة لقضايا النحو، وهو نحوي معروف، ولا بأس أن نذكر تعريفا مختزلا لنظريته الموضّحة تطبيقا وتحليلا في كتابه، وبعد هذا نعود إلى حجج مؤيدي جمال المفردة، ومن تصدّى لمغالاته، والنقاط التي تجاوزها ولعا بجديد، وخوفا من تصوّر تناقض فيه، فهو يعرّف النّظم قائلا: «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه .. ذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق وزيد ينطلق، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق، وزيد هو منطلق .. » «1». فقد استفاد من نحويته في كشف جماليات التركيب عند ما تملّى وجوه النظم بذوق سليم، مثل: التنكير والتعريف والاسمية والفعلية والاستفهام والتقديم والتأخير والوصل والفصل. فالجمال يتوقف على التركيب النحوي الذي يصل إلى النفس، وحتى الاستعارة ينظر إليها من وجهة نظر نحوية لما فيها من إسناد اسم إلى آخر، ومن الطبيعي أن يكون سابقوه قد تعرّضوا لهذه الأمور النحوية، إنما يعود الفضل إليه، عند ما فسّر المنهج وربطه بالجمال، واستوفى كل المسائل النحوية التي تبين الأسلوب البياني، وقد كان الأمر قبله مجرّد شذرات متفرقة في بطون الكتب وومضات عابرة في حاجة إلى توضيح الجرجاني وفق طابع تطبيقي مسهب. ومن الجدير بالذكر أنه يسلّم بأمر نكران التفاضل بين لفظتين، من خلال نكرانه للتفاضل بين دلالة كل لفظ على معناه، نراه يقول: «هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدّلالة حتى تكون هذه أدلّ على معناها الذي وضعت

_ (1) الجرجاني، عبد القاهر، 1978، دلائل الإعجاز، ط/ 2 دار المعرفة، بيروت، ص/ 64.

- حجج الدفاع عن المفردة:

له من صاحبتها على ما هي موسومة به، حتى يقال: إن «رجلا» أدلّ على معناه من «فرس» على ما سمي به» «1». ويربط تمكّن المفردة بعلاقتها بأخواتها، ونراه يفنّد تعبير «لفظ متمكن» بعيدا عن النظم إذ يقول: «تجوزوا فكنّوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ ثم بالألفاظ بحذف الترتيب، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض، وكشف عن المراد، كقولهم: «لفظ متمكن» يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئنّ فيه» «2». - حجج الدفاع عن المفردة: مما لا شك فيه أن الجاحظ وأقرانه نظروا إلى المفردة نظرتهم إلى هيئتها المعجمية، فرأوا الجمال في تكاتفها مع غيرها في النسق القرآني، ويبدو أن بعضهم تعثّر في رأيه هذا، ولم ينتبه إلى إضفاء كلمة واحدة معاني جليلة على النص، إضافة إلى استخدام المادة الصوتية في صيغ جديدة ما عهدها العرب، كالحاقّة والصاخّة والقارعة وغير هذا. وكذلك ينتقي القرآن كلمة «ربّ» في مكان احتياج الموقف إلى الرّبوبيّة، ولا يضع غيرها من أسمائه الحسنى عزّ وجل، فقد اطّرد ذكر هذه المفردة في حال الدّعاء حيث يكون المرء في ضعف، ومثل هذه المراعاة كثير، فالمفردة في نظرهم شيء معجمي، ولم يتدبّروا مواءمتها للموضوع، وما تختصّ به من دلالة خاصة فريدة، فتتملك موضوعها تملّكا نوعيا. وما يلفت الانتباه أن الجاحظ الذي أسس هذه النظرة والذي نحا الدارسون نحوه، هو أوّل من يبدي تأمّلا عميقا فاحصا في ملاءمة المفردة لموضوعها من خلال الفروق اللغوية، واحتواء المفردة لمخزون فكري خاص يعني أن الكلمات ليست متساوية في حجم المعنى وكيفيته، وهذا ما يفصّل القول فيه في موضع لا حق من البحث، ويهمنا أن نورد رأيه الذي ورد في «البيان والتبيين» إذ قال: «وقد يستخفّ الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحقّ بذلك منها، ألا

_ (1) الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص/ 35. (2) المصدر نفسه، ص/ 51.

ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلّا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السّغب، ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث» «1». وتوثيقا لرأيه نورد بعض الآيات التي سدّد النظر إليها، وجعل منها معياره، بنظرة تشمل دقة الانتقاء القرآنى وبموافقة للوضع اللغوي السليم، يقول تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ «2»، فالصيغة القرآنية اختصت المطر لا الغيث، لأنه أقوى، وأغزر تدفق مياه، فناسب عقوبة المجرمين، وقد ذكره القرآن على سبيل الاستعارة في قوله عز وجل: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «3». وفي كلامه على نعمته في الأرض، قال عز وجل يدل البشر على سنّته في الكون في ترعرع النبات: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ «4»، لأن النبات يريد رحمته التي تتجلّى في الماء الخفيف، فينتعش، ولذلك لم يذكر المطر الذي يغرقه. ومن هذا القبيل الفرق بين الجوع والسغب، يقول عزّ شأنه: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ «5»، فتطلّبت الإهانة والتهديد أقسى حاجة للطعام، فحقّ لهذه الكلمة أن تذكر في أصحاب النار، حيث يكون الجوع غاية الحاجة الفيزيولوجية للطعام، وفي أبشع طلب لهذه الحاجة. وليس كالسّغب الذي اختير في مكان الرحمة، وبعث همّة المؤمنين لمساعدة الآخرين المحتاجين خصوصا إذا كانوا يتامى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي

_ (1) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 12. (2) سورة الأعراف، الآية: 84. (3) سورة الأنفال، الآية: 32. (4) سورة الشّورى، الآية: 28. (5) سورة النّحل، الآية: 112.

مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ «1». ولا يبدو الجاحظ متناقضا، فهو يؤكّد طرفي الصياغة: المفردة والنظم، ويرى أن في المفردة محاسن تضاف إلى محاسن النظم، فهي الوحدة المشكّلة له. لقد نوّه الجاحظ بجمالية أخرى للمفردة، يقول عن شكلها: «وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميّا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا، إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا ... إلا أني أزعم أنّ سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني» «2». هذه النظرية الوسطية في شكل المفردة تخلّصها من الابتذال والتوعّر، وهذا ما أسهب فيه ابن الأثير وغيره من الدارسين، وهنا يقترب الجاحظ من مصطلح اللفظ- المفردة، وليس الصياغة كلها التي يترك لها مصطلح الكلام، ونظريته تنصبّ في انتقائية صوتية، معيارها الذوق السمعي. كذلك يطالعنا الخطابي في القرن الرابع بنظرات دقيقة في الفروق اللغوية عند ما دافع عن أسلوب القرآن، فقد أشار إلى فاعلية المفردة القرآنية من غير أن يدرجها في نطاق النظم، من استفهام وتقديم وتنكير وغيره، كما أراد بعده الجرجاني، وهو يختلف عن الجاحظ إذ قدم شواهد، وحلّلها عند ما نصّب نفسه للدفاع عن القرآن، وردّ تهمة اللّحن. وخلاصة جهده هذا نفيه للترادف والتطابق التام بين دلالتين، وقد استعان بأساس اللغة العربية وفنونها، وتذوقه الشخصي، وتبحّره في ظلال المفردات. وليست هذه الفروق التي يوردها مجرّد ملاحظات عابرة، فهو يحاول أن يقعّدها أحيانا بعبارة مطلقة، ومن ذلك قوله في تعليقه على الآية: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ «3»: «إن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعنى، يحسبها أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، كالعلم والمعرفة، والحمد

_ (1) سورة البلد، الآيتان: 14 - 15. (2) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 80 - 81. (3) سورة الحشر، الآية: 9.

والشكر» «1». وفي كلامه بعد نظر إلى ما أغفله الدارسون الذين تعاظموا مخالفة الجرجاني في مسألة النظم. وإذا كان في تعليقه السابق يبيّن خروج الناس عن الجادّة المستقيمة في استعمال القرآن، فإنه في مكان آخر يوغل في كشف العامل النفسي، والبعد الإنساني لتفضيل مفردة على أخرى، فهو يقول بصدد الآية الكريمة: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ «2»: «وقولهم: إن المستعمل في الزكاة المعروض لها من الألفاظ الأداء والإيتاء والإعطاء، ونحوها كقولك: أدّى فلان زكاة ماله، وآتاها، وأزكى ماله، ولا يقال: فعل فلان الزكاة، ولا يعرف ذلك في كلام أحد، فالجواب أن هذه العبارات لا تستوي في مراد هذه الآية، وإنما تفيد حصول الاسم فقط، ولا تزيد على أكثر من الإخبار عن أدائها فحسب، ومعنى الكلام ومؤدّاه المبالغة في أدائها، والمواظبة عليه حتى يكون ذلك صفة لازمة لهم، فيصير أداء الزكاة فعلا لهم مضافا إليهم، يعرفون به، فهم له فاعلون» «3». فالأمر ليس مطابقة الدال للمدلول بقدر ما هو تأثير نفسي للكلمات وإيحائها بمعان سامية، وليس المقصود هنا المبالغة كما رأى، بل المقصود توصيل الشريعة الغراء للإنسان إلى أسمى المراتب، حتى تصبح المثالية الإنسانية طبعا فيه. والمسألة ليست لغوية فحسب، وإنما هي وجود لما لم يكن موجودا، وبما أن «الفعل» عام، ومظهر لوجود المرء، وشكل لفاعليته في معاشه، فكأن الزكاة طبع في المسلم، وهو بذلك أرقى من غيره، والفعل يدلّ على الحركة، فيتجاوز الأقوال، ويدلّ على الحركة والعمل، ليكفي المرء نفسه، ويعمل على مساعدة الآخرين. ومثل هذه الوقفات على الدّلالة النفسية كثيرة في «كشاف»

_ (1) الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 26. (2) سورة المؤمنون، الآية: 4. (3) الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 41.

الزمخشري «1»، وهو الذي أدرك جودة التعبير والإيحاء الذي يخرج بالكلمة من مجال الاستعمال اللغوي المادي، كما سنرى في الفصل الرابع من البحث. لقد سبق أبو هلال العسكري «2» الجرجاني بزمن، ووضع كتابه «الفروق في اللغة» مما ينفي الترادف، وعلى الرغم من هذا لا يعترف الجرجاني بالفروق، فكأن التفاضل مرحلة أوّلية يجتازها إلى كلية النظم، ورعايته لما اختير، وهو يرى أن قوالب النحو أهمّ ممّا في القوالب. ومن منطلق الفروق اللغوية انصبّت الانتقادات عليه، فالتنكير مثلا حين يكون في اسم ما داخل صياغة ينمّ على غموض وكثرة وتهويل، ولكن التنكير نفسه إذا وقع في اسم مغاير، ربّما يعطي تأثيرا أكبر، وتمكينا للمعنى المراد. لقد حسب الدارسون أن الزمخشري طبّق ما جاء في كتابي الجرجاني «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» في تفسيره، يذكرون ذلك غير آبهين غالبا بانتباه الزمخشري إلى ما عاداه الجرجاني من جمالية المفردات وتراكيبها الداخلية، فلم يكن هناك دارس بمستوى غلوّه، كما تبين لنا من الجاحظ والخطابي، وإذا أنكروا إعجاز المفردة، فهم لم ينفوا عنها الفصاحة. وبعض الدارسين يتحرّى جمال المفردات، وهو أقرب إلى النظم منه إلى المفردة، وذلك من دون تفريق، كما نجد عند ابن الأثير، فما موقع المفردة في الجملة إلا جزء من الصّياغة الكلية، وهي دائرة الجرجاني، يقول ابن الأثير: «جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلة

_ (1) هو محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي، جار الله، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب، ولد في زمخشر من قرى خوارزم، وجاور مكة زمنا، فلقب بجار الله، وكان معتزلي المذهب مجاهرا، شديد الإنكار على المتصوفة، توفي في جرجانية سنة 538 هـ، من كتبه: «الكشاف» و «أساس البلاغة» و «المفصل» في النحو، و «الفائق في غريب الحديث»، انظر الأعلام: 3/ 1017. (2) هو الحسن بن عبد الله بن سهل، ولد في عسكر مكرم في الأهواز، عالم بالأدب واللغة، توفي ببغداد سنة 382 هـ، ومن تصانيفه: «جمهرة الأمثال» و «كتاب الصناعتين» و «النظم والنثر» و «ديوان المعاني» و «الفروق في اللغة» و «التفضيل بين بلاغتي العرب والعجم» وغيرها. انظر الأعلام: 1/ 229.

متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة، فأثر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين، فأما الآية فهي قوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ «1»، وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي: تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام وهذه اللفظة التي هي «تؤذي» إذا جاءت في الكلام، فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به» «2». وقد أتت الكلمة عند أبي الطيب عروضا للبيت، فهنالك وقفة، وقد تحدث ابن الأثير عن هذه الميزة في فصل جمال المفردة على الرغم من تعلق كلمة تؤذي بما بعدها، كما يقرّ هو. وقد اقتبس الشاهد مع موافقته في الرأي بعض المحدثين «3»، وهم ممن نقدوا الجرجاني. وقد وردت مآخذ كثيرة على الجرجاني، بل اقترح عليه محمد رجب البيومي اقتراحا أن يدخل جمال المقطع واللفظ مستعينا بشواهد الجرجاني نفسها أحيانا «4». وهذا يدلّ على شدة الهجوم على نظرية الجرجاني أو شدة تمسكه بمعاييرها التي تبعد جمال المفردة، إذ لا يليق أن يقترح معاصر على أديب قديم ما يراه بعد هذه الفترة الطويلة. ومنهم من نقده بطرح بدائل للكلمات، ومنهم من جعل عماد دراسته ردا ضمنيا عليه، كعائشة عبد الرحمن، ولم تقدم كلّ ما هو جديد، إنما اتسمت

_ (1) سورة الأحزاب، الآية: 53. (2) ابن الأثير، ضياء الدين نصر الله بن محمد، 1959، المثل السائر، ط/ 1 تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة مصطفى البابي، القاهرة: 1/ 145 - 146، وانظر المتنبي، أبو الطيب أحمد بن الحسين، العرف الطيب، ط/ 2، شرح ناصيف اليازجي، دار القلم، بيروت، ص/ 98. (3) انظر مثلا البيومي، د. محمد رجب، 1971، خطوات في التفسير، ط/ 1، دار النصر، القاهرة ص/ 240. (4) انظر البيومي، خطوات في التفسير، ص/ 225.

دراستها بمنهجية وإحاطة ويعدّ كل ما ذكره المحدثون من جمالية سمعية أو بصرية أو نفسية ردا ضمنيا على غلوّه. وسوف نقتصر هنا على من نقد الجرجاني صراحة، يقول حفني محمد شرف: «إنني آخذ عليه إهماله موسيقا الألفاظ وفصاحتها مفردة ومركبة، وألتمس له العذر في ذلك، لأنّ نظرية الألفاظ وبلاغتها قد أعلنت الحرب شعواء على المعاني وبلاغتها، لذلك نجده قد جنّد نفسه لنصرة المعاني وبيان قيمها في نظم الكلام» «1». ولم يقع بين أيدينا فيما يخصّ الإعجاز ما كتب في نصرة الألفاظ لا المعاني والنظم، بدءا من الجاحظ حتى الجرجاني وعصرنا الحديث، فقد كانوا إذا استحبوا ألفاظا مدحوها خفية إن صحّ التعبير، وفي تطبيق مختصر، ولربما أدخلوا حسنها في نطاق النظم الذي جعلوه مناط إعجاز القرآن، إنما كان إكسير النحوية الجليّ من عند الجرجاني، فتحمّس للنظم من غير وجود منكرين له. ومن هذه المآخذ ما ورد عند البيومي، إذ يقول: «ولكنه أغفل إغفالا تاما مكانة اللفظ، ومكان المقطع والفاصلة، مدّعيا أن شيئا من ذلك لا قيمة له، ما لم يراع النظام النحوي في تركيبه، وفي ذلك بعض الغلوّ الذي ندفعه بما نملك من رأي .. جعل مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ب «يا»، ثم بإضافة الكاف إلى الماء، ثم بنداء السماء وأمرها .. وعلى قياسه نستطيع أن نقول: وقيل يا أرض اشربي ماءك، ويا سماء امنعي، وأزيل الماء، ونفّذ الأمر، واستقرت على الجودي، وقيل هلاكا للقوم الظالمين، فيتحقق بذلك ما جعله الجرجاني مبدأ العظمة وحده، ويوازي القول بالقول دون نقص، ولكن مهلا، فإن اختيار لفظ البلع دون الشرب، وكلمة «أقلعي» دون امنعي، وفعل «قضي» المبني للمجهول دون نفذ المبني للمجهول أيضا، واستوت على الجودي، دون استقرت، كل ذلك مما يرتفع بالآية إلى الإعجاز، وهو في صميمه راجع فيما يرجع إليه إلى اللفظ دون الإسناد» «2».

_ (1) ابن أبي الاصبع، عبد العظيم بن عبد الواحد، تحرير التحبير، ط/ 1، تح: حفني محمد شرف، مكتبة نهضة مصر، المقدمة للمحقق، ص/ 54. (2) البيّومي، محمد رجب، خطوات في التفسير، ص/ 225.

لقد أهمل الجرجاني الجانب الموسيقى للمفردات ولمقاطع القرآن، واستبعد أن يكون فيهما الإعجاز، وفي هذا الصدد يقول درويش الجندي: «يصل عبد القاهر من ذلك إلى الحكم بالخطإ على قصر الفصاحة على كلمات من حيث هي ألفاظ منطوقة، وأصوات مسموعة، فادّعى أنه لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي، وتعديل مخارج الحروف، حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان» «1». فالجرجاني عرض لأبيات شعرية يثقل نطقها بسبب تقارب المخارج أو تكرار حروف بعينها، وعند ما تأخذه الحيرة في أن يرفض هذه المراعاة، أو يدعها منتصرا للنظم، يقبل بها على أنها لا تضر بمنهجه، ويسلّم بأنها مما يفاضل به كلام على كلام، وبأنها داخلة في أحكام النظم «2»، على الرغم من أنه لا علاقة للنحوية بهذا التلاؤم الموسيقى بين المخارج، إنما يدلّ هذا على عدله وذوقه، ويحسب له لا عليه. ومما يستدعي الانتباه أن يسخر من المتشدّقين والمطنبين من الخطباء قائلا: «وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية» «3»، فهو يقر بجمال المفردات المأنوسة لا الوحشية الوعرة. ولهذه السلبية التي يذكرها مقابل إيجابي في القرآن حريّ بالدراسة. وهذه العبارة رآها المجذوب دلالة على تناقض الجرجاني يقول: «يؤخذ على عبد القاهر أن في كلامه نوعا من التناقض من حيث أنه يسلّم بأن الكلمات منها الغريب الوحشيّ، ومنها الذي يكدّ اللسان، ثم ينفي مع هذا كلّه أن تكون الكلمات متفاضلة غير متساوية قبل أن يشملها النظم» «4». ونخلص مما سبق إلى أن الجرجاني- فيما يبدو لنا- لم ينف مراعاة السمع

_ (1) الجندي، د. درويش، 1960، نظرية عبد القاهر، ط/ 1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ص/ 83. (2) انظر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص/ 46 - 47. (3) الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص/ 5. (4) المجذوب، د. عبد الله الطيّب، 1955، المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها، ط/ 1، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة: 2/ 10.

كليا، بل جعل الأمر ثانويا، بالنسبة إلى ما أجهد نفسه في الدّفاع عنه، فقدّم حصيلة بيانية جيدة، ونحن نقرأ في رسالته الشافية، ما ينمّ على قانون ذوقي ذاتي لا يميل إلى الموضوعية كما في شرحه في النظم،- فقد قال: «واعلم أن لكل معنى نوعا من اللفظ هو أخصّ به وأولى، وضربا من العبارة، هو بتأديته أقوم، وهي فيه أجلى وما إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقول أخلق، وكان للسّمع أدعى، والنفس إليه أميل» «1». ونطرح جانبا مفهوم «اللفظ» الذي ربما نحا فيه نحو الجاحظ، فعنى به هنا الصّيغة الفنية كلّها، وما ندعوه في عصرنا بالشّكل، خصوصا أنه لم يقل: لفظة أو ألفاظ، ويبقى لنا من عبارته ما يكون «أدعى للسّمع»، ولعله يريد الصورة الأولى من حيث حلاوة النغم والبناء الداخلي للمفردات، أي ما يتعلّق بالسمع قبل ميل النفس إلى جليل المحتوى، ولا نتكئ على قول عابر لنعبّر عن تزحزحه عن مزايا النظم وطواعيته للنحو. لم يخرج المحدثون على نظرية عبد القاهر، ولم يحاولوا إبطالها، فقد أقرّوا بها، وبينوا الجوانب التي أغفلها، فلم يقدموا المفردة بديلا، بل أضافوا جمالها إلى السياق الكلي، ومعظمهم ينقده من الجانب الشكلي للمفردة، وهذا ما يتّضح لدى سردنا لجهود الدارسين في الجمال السمعي. ومن الذين طبّقوا فكرتهم على شواهد الجرجاني أحمد بدوي، إذ جاء في كتابه الذي يذكر فيه الآية: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي «2»: «وجاء بكلمة «بعدا» دون «هلاكا» مثلا، إشارة إلى أن هؤلاء القوم الظالمين، إنما قصد إبعادهم عن الفساد ... وأحسّ في كلمة «بعدا» دلالة على الراحة النفسية التي شعر بها من في الكون بعد أن تخلّصوا من هؤلاء القوم الظالمين» «3».

_ (1) الجرجاني، عبد القاهر، ثلاث رسائل في الإعجاز، «الرسالة الشافية»، ص/ 107. (2) سورة هود، الآية: 44. (3) بدوي، د. أحمد، 1950، من بلاغة القرآن، ط/ 3، مكتبة النهضة، القاهرة، ص/ 56.

فالجرجاني يقف على «بعدا» ويرى جمالها في التنكير فقط، لأنه يدل على الكثرة والتهويل والغموض، وهذا واضح، أما الدلالة التي أضافها بدوي فهي البعد النفسي في اختيارها هي لا الهلاك، فتصوّر الكلمة كرههم، وهم موتى كيفما كان هلاكهم، فهم في منطقة بعيدة، وهذا يريح النفس، ووجود «هلاكا» لا يخلّ بالنظم الذي رامه الجرجاني. ولا يعني هذا أن البعد النفسي قد غاب عن الجرجاني، ولكن هذه المفردة «بعدا» تعني تملّك المفردة لموقف خاص، ففيها إيحاء نفسي واضح، ولكن انتبه الجرجاني إلى كون المفردة المعبرة عنه في حالة التنكير، وهذا ينطبق على الفرق بين «جفّفي .. و .. ابلعي» كما جاء عند البوطي. ففي الآية نفسها يقول محمد سعيد رمضان: «أرأيت أنه لم يقل: «جفّفي ماءك» مثلا مع أنه هو التعبير المتفق مع طبيعة الأرض وشأنها، وإنما قال: «ابلعي ماءك» ليصور لك بأن الأرض لما اتجهت إليها إرادة العزيز الخبير انقلبت مسامّها وشقوقها إلى أفواه فاغرة تبتلع بها المياه ابتلاعا: فهي لم تنفّذ الأمر بالطبيعة المألوفة لها، وإنما بالانقياد لأمر خالقها جلّ جلاله» «1». ولا يجوز أن نعد كلام محمد سعيد رمضان البوطي ضربا من التأويل الخاص الذي يتخذ سمة دينية، لأن الحدث، كما يصوره المؤرخون الآن، ومنقبو الآثار، عظيم جدا، وقد كان خرقا للنواميس مصدره خالق هذه النواميس «2». وبهذا التأويل الجمالي تتحقق الغاية الدينية في صدق الصورة، وترسم الكلمة مشهد الطوفان الهائل، وما تبعه من ابتلاع، وليس التجفيف، الذي يدلّ على قلّة المياه، وهذا ما فات الجرجاني، لأن فعلي «جفّفي وابلعي» من جهة الإسناد متساويان فالمخاطب واحد، ولا إخلال بالنظرية المبنية على علم النحو.

_ (1) البوطي، د. محمد سعيد رمضان، 1970، من روائع القرآن، ط/ 2 دار الفارابي دمشق، ص/ 269. (2) انظر مثلا بوكاي، موريس، 1991، دراسة الكتب المقدسة، ط/ 1، دار دانية للطباعة والنشر، بيروت، ص 245.

ولربما يظن بعض ممن يقتبس من كتاب ابن الأثير حول المفردة، أن الرجل قد سفّه نظرية الجرجاني، فابن الأثير، رأى أنّ الخطوة الأولى في البلاغة انتقاء المفردات، فتحدّث عن محاسنها ومعايبها، ثم تحدث في مكان أوسع عن جمال التركيب مقتفيا أثر ابن سنان في «سرّ الفصاحة»، إنه يقول: «إن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ، أكثر مما يقع في مفرداتها، لأن التركيب أعسر وأشقّ، وبعد أن يستشهد لهذا التنظير بالآية السابقة من سورة هود التي تأمل فيها الجرجاني داعية النّظم، يقول: «يخيّل للسامع أن هذه الألفاظ ليست تلك التي كانت مفردة» «1». فالمفردة هي جزئيات النظم، وقد اعترف ابن الأثير بجمال الطرفين: المفردة والنظم، بمعياره الذوقي المتعلق بالجانب الموسيقى. وفي هذا الصدد يقول عز الدين إسماعيل: «وإذا كان ابن الأثير يشير إلى اختيار الألفاظ من حيث هو الخطوة الأولى للتأليف، فليس معنى هذا أنه تحوّل عن فهمه هذا» «2». لذلك نراه أولاها اهتماما بالغا، فمحّص في موسيقاها مستقلة من خلال مخارج الحروف، وعدد الحروف، واشتراكها مع غيرها في الإيقاع الكلي، ومكانها بين الكلمات، وذلك توسيعا لما نقله عن ابن سنان والرماني. لم يكن بعد الجرجاني من هو مغال غلوّه في النظم، فكلهم قال به، فكانوا متسامحين غير متشددين في النظم وحده، ويبدو أنهم استوعبوا ما قاله، وما قاله غيره أيضا، فنثروا تأملاتهم الرفيعة في بطون كتبهم مع أن القول الأساسي للنظم، يقول زغلول سلام: «ضياء الدين لم يتأثر بالقول بالنظم والتأليف عن طريق عبد القاهر ولا الخطّابي، بل عن طريق الجاحظ والرماني» «3».

_ (1) ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر، 1/ 147. (2) إسماعيل، د. عز الدين، 1968، الأسس الجمالية في النقد العربي، ط/ 2، دار النصر، القاهرة، ص/ 236. (3) سلام د. محمد زغلول، 1954، ضياء الدين بن الأثير، ط/ 1، مكتبة نهضة

ومثل هذا صحيح إلا في مساواة الخطابي بعبد القاهر، لأن الأول عني بدقّة اختيار القرآن لمفرداته في مواضع كثيرة من رسالته على ضآلة حجمها، مشيرا إلى الفروق والإيحاءات، وسوف نجد أمثال نظرات الخطّابي في الفصل الرابع. وقد عجب الباحث زغلول سلام من شمول نظرة ابن الأثير التي ترى المفردة والنظم كلّا متكاملا، وذلك عند ما رآه ينتقل من باب جمال المفردة إلى باب جمال التركيب، فيقول: «ومنه يتضح أن ضياء الدين لا يأخذ بالرأي القائل بفصاحة المفردة دون النظم، وهو مع ذلك لا يرده، ويبدو من قوله هنا، وفي مواضع اخرى، أنه متردّد مضطرب بين رأي ابن سنان، ورأي عبد القاهر الجرجاني» «1». لكننا نرى ابن الأثير عادلا، وليس مترددا، إنما هو تكامل يدلّ على رحابة صدر، فإذا أخذنا برأي زغلول سلّمنا بتردد من كان على شاكلة ابن الأثير كالزمخشري والسيوطي، بيد أنهم كانوا منصفين، وإذا كانت نسبة تأكيدهم على النظم أكبر من عنايتهم بالمفردة، فهذا لأن الوسائل متوفرة في دراسة النظم، لأن النحو يحيط بهم أكثر من فن نغم الكلمات، وأكثر من علم النفس الأدبي الذي يقدم الإيحاءات جلية. وهذا التكامل استمر حتى القرن العاشر الهجري، فالسيوطي في أسلوبه النّقلي يبسط آراء سابقيه، ويبيّن مفهومهم عن وجه الإعجاز المتمثل في النظم، ومن ثم يقول هو بنظم الحروف والكلمات محتذيا بمنهجهم، وعلى الرغم من هذا لا ينسى أن يدلي برأي عادل إذ يقول: «اعلم أن المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزأي الجملة، قد يخبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، واستحضار هذا متعذّر على البشر في أكثر الأحوال» «2».

_ مصر، القاهرة ص/ 38. (1) سلام، د. محمد زغلول، ضياء الدين بن الأثير، ص/ 81. (2) السيوطي، جلال الدين، الاتقان: 2/ 269.

والمقارنة بين الألفاظ- فيما يريد السيوطي- هي البحث في المادة الصوتية لألفاظ متقاربة المعاني، فيفضّل ما هو أفصح، وأحق بالموضوع، وأحلى نغما، وهذا متحقّق في القرآن الكريم بجانبيه: الشكل والمضمون، وسنقع على تأملات للسيوطي وغيره في تطبيقات نسردها في مكانها تعدّ بمنزلة إضافات جمالية إلى نظرية النظم. إن الجرجاني كان مدركا للجماليات التي تتضمنها المفردة، وقد تجاوزها على أنها مرحلة أولى تسبق النظم أو تتبعه، وصبّ عنايته على النّسق الكلي، وله عبارات تدلّ على اعترافه بقيمة الكلمة المفردة، لكنه يعبّر عن ذلك بقوله: «في مكانها» وهو يقترب قليلا مما نبتغي منه، يقول عن آية سورة هود: «إن شككت فتأمل! هل ترى لفظة منها، بحيث لو أخذت من بين أخواتها، وأفردت، لأدّت من الفصاحة ما تؤدّيه، وهي في مكانها من الآية؟ قل «ابلعي» واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها. وكذلك فاعتبر سائر ما يليها» «1». وعبد القاهر عند ما يقول إن الكلمة المفردة ليست بليغة فهو لا ينفي عنها فصاحتها وهذا يعني إدراكه لجمال شكلها، وهذه التفرقة لم ينتبه إليها المعاصرون، ولهذا وصمه بعضهم بالتناقض، فحاربوه في معركة لم يكن موجودا فيها، والكلمة وحدها لا تكون بليغة، ونحن معه في هذا الرأي، وجمال النظم يضيف إليها من المحاسن الكثير بعد الجمال في دقة الاختيار، فيجب ألا نتجنب السياق الذي يشتمل على المفردات.

_ (1) الجرجاني، عبد القاهر، دلائل الإعجاز، ص/ 37.

3 - الترادف والفروق

3 - الترادف والفروق - معنى الترادف: لعلّ من المفيد في مستهل هذه الفقرة أن نلجأ إلى المعجم العربي، لنبيّن الأصل اللغوي لمصطلح «الترادف»، وليتبدّى لنا ما في خصائصه الكامنة من صفات، تظلّ ثابتة في استعمال فقهاء اللغة. فالفعل «ردف» ردفا ركب خلفه، ويعني: تبعه أيضا، ومنه الفعل المزيد بالهمزة في أوله، فالفعل «أردف»، يعني توالى وتتابع، ومنه قوله تعالى عن العون السماوي في غزوة «بدر» المشرقة: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «1» أي متتابعين، يلحق بعضهم بعضا، وفي سورة النمل قال عز وجل: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ «2» أي قرب، وفي المعجم الوسيط: «أردف فلان فلانا ركب خلفه، ورادفت الدابّة: قبلت الرّديف، وقويت على حمله، فالرّديف: الراكب خلف الراكب» «3». وفي القرآن الكريم- وهو المنهل الأول لصحة الاستعمال اللغوي- إشارة إلى معنى المرادف، ففي الحديث عن طواعية الكون للخالق يوم القيامة يقول عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ «4»، وهي النفخة الثانية لدى جميع المفسّرين «5». فالرديف ليس الراكب الأصلي، والعذاب الذي ردف أي اقترب بعض من العذاب الكلي بعد الموت، والرّجفة الثانية- حتما- ليست الأولى، وكون

_ (1) سورة الأنفال، الآية: 9. (2) سورة النّمل، الآية: 72. (3) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، دار التراث العربي، بيروت، بلا تاريخ: 1/ 339. (4) سورة النازعات، الآية: 7. (5) انظر مثلا ابن كثير، إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، بلا تاريخ، 4/ 466.

الملائكة مردفين أي هناك تتابع، ويكون بعضهم قبل بعض، وإذا تميزت الرادفة بالحوادث نفسها. فهناك- على الأقلّ- فارق زمني بين الرّجفتين يميز الثانية من الأولى، لذلك نستشف في الأصل اللغوي أن المعجم يصرّح بكون المرادف لاحقا، وليس هو الشيء نفسه، بيد أننا سوف نسير مع الدارسين على أن الترادف تطابق، وليس حسب الأصل اللغوي تجاوزا. وفي القرآن الكريم دعوة إلى عدم استخدام لفظة مكان لفظة، مراعاة للمواقف بكل أطرافها، وهو الكتاب الذي يعدّ الكلمة شكلا حضاريا راقيا، وسوف يؤكد لنا التطبيق أن لا ترادف في القرآن. وهناك آيتان وردت فيهما الدعوة المنوّهة بالفروق وإن كانت غير مباشرة، لكنها كسب لهذه الفقرة، فالمقصد الأساسي فيها كان تهذيبا أخلاقيا ودينيا، إذ يقول تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «1»، فهناك فرق شاسع بين طواعية شكلية تدلّ على استسلام ظاهري، وبين الإيمان وهو التصديق الداخلي الراسخ، يقول أبو السعود «2» في أسباب نزول الآية: «نزلت في نفر من بني الأسد، قدموا المدينة في سنة جدب، فأظهروا الشهادتين .. فإن الإسلام انقياد ودخول في السّلم، وإظهار الشهادة، وترك المحاربة مشعر به» «3»، وكانوا محيطين بالمدينة. ويقول حفني محمد شرف حول هذه الآية: «كل لفظة من ألفاظ القرآن وضعت لتؤدي نصيبها من المعنى أقوى أداء، ولذلك لا نجد فيه ترادفا، بل كل كلمة تحمل إليك معنى جديدا» «4». والحق أن هذا الرأي في نفي الترادف في القرآن ينطبق على كل دارسي

_ (1) سورة الحجرات، الآية 14. (2) أبو السّعود محمد بن محمد العمادي: فقيه، مفسّر، تقلّب في مناصب القضاء واستقر مفتيا في قسطنطينية، توفي سنة 982 هـ، كتابه في التفسير: «إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم» تسعة أجزاء. انظر الأعلام: 1/ 368. (3) أبو السّعود العمادي محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بلا تاريخ، مج/ 4: 8/ 123. (4) شرف، د. حفني محمد، 1970، الإعجاز البياني بين النظرية والتطبيق، ط/ 1، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ص/ 222.

الإعجاز المحدثين إلا صبحي الصالح «1» الذي يقول بالترادف، أما القدامى فقد لفتت نظرهم هذه الفروق في دراستهم للبيان القرآني، فوصلتنا نظرات متفرقة وكتب وافية. ومن المحدثين من وقف على الآية الثانية التي نستدل بها على دعوة القرآن إلى عدم الترادف، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا، وَقُولُوا انْظُرْنا «2». فأدلى برأي الترادف وهو يحسب أن القرآن «كفى شر استعمال هذه المفردة عند ما انطلقت من ألسنة سفهاء اليهود، وأرشدهم إلى مرادف لها في «تمام الدلالة» لأنهم اقتربوا بها من معنى الرّعونة» «3». ولا شك أنه دلّهم على لفظة أخرى، ومعنى آخر، وفي هذا يقول أبو السّعود: «المراعاة المبالغة في الرعي، وهو حفظ الغير، وتدبير أموره، أي راقبنا وانتظرنا، وتأنّ بنا حتى نفهم كلامك ونحفظه، وكانت لليهود كلمة عبرانية أو سريانية يتسابّون بها فيما بينهم، وهي كلمة (راعينا)، قيل معناها اسمع لا سمعت، فلما سمعوا بقول المؤمنين ذلك افترصوه، واتخذوه ذريعة إلى انتقاص النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المسبّة، أو نسبته إلى الرّعن، وهو الحمق والهوج» «4». نستنتج أن الكلمة المرادفة، هي أقرب الكلمات من حيث اشتراك المعنى في بعض أجزائه، ولا تعني المطابقة تماما، واللغة لا تقدّم كلمة أخرى في المعنى نفسه إلا إذا حصل تغيّر، طفيفا كان أو كبيرا في المعنى المطلوب.

_ (1) الصالح د. صبحي، 1962، دراسات في فقه اللغة، ط/ 2 المكتبة الأهلية، بيروت ص/ 347 وما بعدها. (2) سورة البقرة، الآية: 104. (3) قطب، سيّد، 1982، في ظلال القرآن، ط/ 8 دار الشروق، بيروت، مج/ 1: 1/ 100. (4) أبو السعود، إرشاد العقل السليم، مج/ 1: 1/ 141، الرّعن: سوء المنطق، والهوج: اضطراب وطيش. وكلمة (روع): معناها في اللغة العبرية سيّئ، و (راعينا): سيّئنا، وليست سريانية.

- تأكيد الترادف:

- تأكيد الترادف: اصطلح فقهاء اللغة على أن الترادف يعني تعدّد الأسماء للمسمّى الواحد، بوقوع الألفاظ على المعنى الواحد، ونتيجة لهذا التطابق التام بين المترادفات يصحّ في نظر مؤيدي تبادل المترادفات فيما بينها في أيّ سياق. وحجّتهم في هذا هي تعايش اللغات بعد ظهور وضعين اثنين للمعنى الواحد، وقد ذكر السيوطي في كتابه «المزهر» أن الترادف «إنما يكون من واضعين، وهو الأكثر بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين، والأخرى الاسم الآخر للمسمّى الواحد، من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواضعان» «1». ولا بأس أن نعرض لبعض من يؤيّد الترادف من الأعلام العرب، وننتقل بعدئذ إلى بعض مؤيدي الفروق الذين أنكروا الترادف، إذ لا تكفي هذه العجالة لرصد كل الأعلام، ولمعرفة بداية فكرة الترادف. وقد كان ابن السّكّيت «2» وهو من لغويي القرن الثالث ممن أقرّ بوجود الترادف أي التطابق التام بين الدلالتين، بيد أنه لم يفرد بحثا لهذا الشأن، وقد نقل عنه السيوطي قوله: «العرب تقول: لأقيمنّ ميلك وجنفك ودرأك وصغاك وقذلك وضلعك، كلّه بمعنى واحد» «3». وقد أفرد ابن خالويه «4» وهو من أعلام القرن الرابع بحثين للكلمات

_ (1) السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر، 1325 هـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم ورفيقيه ط/ 1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة: 1/ 402. (2) ابن السّكّيت هو يعقوب بن إسحاق، إمام في اللغة والأدب، أصله من خوزستان تعلم ببغداد، واتصل بالمتوكل، فعهد إليه بتأديب أولاده، ثم قتله لسبب مجهول سنة 244 هـ، من كتبه «إصلاح المنطق» و «الأضداد» و «القلب والإبدال» و «تهذيب الألفاظ»، انظر الأعلام للزّركلي: 9/ 255. (3) السيوطي، جلال الدين، المزهر: 1/ 411. (4) ابن خالويه هو الحسين بن أحمد بن خالويه، لغوي من كبار النحاة أصله من همذان أقام عند بني حمدان، وعهد إليه سيف الدولة بتأديب أولاده، توفي سنة 370 هـ، من كتبه «إعراب ثلاثين سورة من القرآن» و «الشجر» و «الجمل» و «المقصور والممدود» انظر الأعلام: 2/ 248.

المترادفة، أحدها في أسماء الأسد، والآخر في أسماء الحية «1»، ولم يصلنا واحد منهما، ثم تبعه الرماني ببحث يقع في خمسين صفحة من القطع الصغير، يتسم بالجانب التطبيقي مباشرة، فهو لا يقدّم لنا أسباب وجود الترادف، أو مجرد الشكّ في تعميم هذه الفكرة، مما يمثل تنظيرا لغويا، وربّما ذهب هذا التنظير مع الزمن وضياع النسخ. والرماني يضع كلمة بمنزلة عنوان، ويكون شرحها مجموعة من المترادفات، فعن الفرح يقول: «السّرور والحبور والجذل والغبطة والبهج والارتياح والاغتباط والاستبشار» «2». فكلّ هذه المفردات بمعنى واحد، خصوصا أن بحثه الوجيز يحمل عنوان «الألفاظ المترادفة»، وهو أوّل بحث يحمل هذا العنوان، وكذلك يقول عن الغنى: «السّعة والجدة والثروة والميسرة واليسار، والزيد والرشاش والجدا والاقراب والوفر» «3». وتعرّض أبو الفتح بن جني أيضا لهذه الظاهرة اللغوية في سفره النفيس «الخصائص»، وتحت عنوان «باب تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني» نجد إقرارا بوجود الترادف نتيجة الأصل الحسي للمترادفات، فالطبيعة والغريزة والنّقيبة والنحيزة والنّحيتة والضّريبة بمعنى واحد، لأنه استنتج أن المشقّة موجودة في كنف أصولها الحسية، فالطبيعة من: طبعت الشيء، كما يطبع الدّرهم والدّينار، والنحيتة من نحتّ الشيء أي ملّسته وأقررته على ما أردت منه، والغريزة لتغريز الشيء بالآلة التي تثبت الصورة، والنقيبة من نقبت الشيء وهو نحو من الغريزة، والضريبة كذلك لأن الطّبع لا بدّ له من الضّرب، لتثبت الصورة المرادة «4».

_ (1) انظر السيوطي، جلال الدين، المزهر: 1/ 407. (2) الرمّاني، علي بن عيسى، 1321 هـ، الألفاظ المترادفة، تح: محمود الشنقيطي ط/ 1، مطبعة الموسوعات، القاهرة، ص/ 9. (3) الرمّاني، علي بن عيسى، الألفاظ المترادفة، ص/ 11. (4) انظر ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، 1982، الخصائص، تح: د. محمد علي النجار، ط/ 1، دار الهدى، بيروت، 2/ 114.

وقد أفاض ابن جني في هذه النظرية أي ترادف كلمات المعاني المجردة، لتلاقي الأصول الحسية، وقدّم شواهد وافية، لسنا بصدد ذكرها، لكنه لم يذكر كلمة «الترادف»، ولكن يبدو أنه يقرّ به، وإن خطرت ببالنا هذه الفروق الدقيقة في المرحلة الحسية بين الضّرب والنّحت والطّبع. ويقول أيضا، «ومن ذلك ما جاء عنهم في الرجل الحافظ للمال الحسن الرّعية له والقيام عليه، يقال: هو خال مال، وخائل مال، وصدى مال وسرسور مال، وسؤبان مال، ومحجن مال، وبلو مال، وعسل مال، وزرّ مال، وجميع ذلك راجع إلى الحفظ له والمعرفة به» «1». ويذكر السيوطي أن الفيروزآبادي «2» أيضا صاحب القاموس المحيط الشهير وضع بحثين في الكلمات المترادفة، ولم يصلنا واحد منهما، ويحمل الأول اسم «الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف»، ومن الطبيعي أن نجد فيه أسماء الخمر والسيف والإبل، وغير هذا، مما يردّده فقهاء اللغة، وخصّص البحث الثاني لأسماء العسل، وسماه «ترقيق الأسل لتصفيق العسل» ذكر فيه ثمانين اسما للعسل، ثم استدرك عليه السيوطي اسمين آخرين، إلا أن السيوطي يقرّر أن هناك أسماء للذات كالسيف «3»، وأسماء للصّفات كالمهنّد أو الخمر والصّهباء، وهذا ما تمسّك به من سلك مسلك الإنكار للترادف كما سنجد. فمن أسماء العسل كما ذكر السيوطي: «الضّرب والضربة والضريب والورس والذوب واللومة والنّسيل والشّهد والمحران والطّرم والغرب والأسّ والصّبيب» «4».

_ (1) ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، الخصائص: 2/ 127. (2) الفيروزآبادي هو مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي الشافعي، من أئمة اللغة والأدب والتفسير والحديث، توفي سنة 817 هـ، من كتبه «القاموس المحيط» المعجم الشهير، و «سفر السعادة في الحديث والسيرة» و «تحبير الموشين فيما يقال بالسين والشين»، انظر الأعلام: 8/ 17. (3) انظر السيوطي، جلال الدين، المزهر: 1/ 407، والمسلوف: المهيأ للزراعة من سلف يسلف والأسل: اسم نبات وكل ما يحدّ من سيف أو سكين أو سنان. (4) السيوطي، جلال الدين، المزهر: 1/ 410.

وكأنما يضيف السيوطي هنا سببا آخر لوجود الترادف، يضاف إلى سبب تعايش اللغات، وهو حرية التصرف بصوتيات الكلمة، مثل: التصرف في الضّرب والضّريب، ويتضح هذا بشكل جلي في مثاله الآتي: «يقال: أخذه بحذافيره وجذاميره وجزاميره وجراميزه» «1». والجدير بالذكر هنا أن الرماني الذي وضع بحثا في المترادفات هو نفسه صاحب الرسالة النفيسة «النّكت في إعجاز القرآن» التي ذكر فيها أن المعنى هو المقدّم في وجود الفاصلة القرآنية «2»، كما أن السيوطي هو نفسه صاحب «معترك الأقران في إعجاز القرآن «ذلك السّفر الجليل الذي ذكر فيه الفرق بين الفعل والعمل، وبين الخشية والخوف في سياق القرآن كما سنجد في الفصل الرابع» «3». وهذا يدلّ على أنهما اعترافا بالترادف ظاهرة لغوية واقعية، ونفياها من القرآن، لأنّ السياق القرآني أفضل جانب تطبيقي يبين ظلال الفروق الدقيقة بين هذه المفردات المترادفة. أما علماء اللغة المعاصرون، فيجمع أكثرهم على إنكار التطابق التام بين المترادفات، وهنالك قلّة منهم يؤيدون الترادف، ومن هؤلاء علي عبد الواحد وافي، فقد وجد أن اللغة العربية كثيرة المفردات والمترادفات، لعراقتها وكثرة احتفاظها بمفردات اللغة السامية الأم، يقول: «ومن أهم ما تمتاز به العربية أنها أوسع أخواتها الساميات ثروة في أصول الكلمات، فهي تشتمل على جميع الأصول التي تشتمل عليها أخواتها السامية .. وتزيد عليها بأصول كثيرة احتفظت بها من اللسان السامي الأول، ولا يوجد لها نظير في أية أخت من أخواتها، هذا إلى أنه قد تجمّع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة اسمها وفعلها وحرفها، ومن المترادفات في الأسماء والصفات والأفعال ما لم

_ (1) السيوطي، المزهر: 1/ 410. (2) انظر الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 98. (3) انظر السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، بلا تا، معترك الأقران في إعجاز القرآن، تح: علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، القاهرة: 2/ 150.

يجتمع للغة سامية أخرى» «1». وهكذا تتسع الدائرة من مجال اللغات العربية كما عهدنا عن القدامى لتشمل اللغات السامية ولم يكن من داع لهذا الاتساع، إلا أن الباحث لم يتطرّق لمفردات القرآن. ووضع صبحي الصالح كتابا بعنوان «مباحث في علوم القرآن»، وتعرّض فيه للإعجاز البياني، وفي كتابه «دراسات في فقه اللغة» يؤكد فكرة الترادف في سياق الآيات القرآنية، وكأنما لم يتمكن له النظر إلى سياق القرآن الذي تفردت فيه كل كلمة بمعناها الخاص. وهو يعزو سبب الترادف إلى اختلاف لهجات العرب أو لغاتهم على الأصحّ ثم تعايش هذه اللغات، مما يدعو إلى استعمال كلا المفردتين، والقرآن في رأيه يؤكّد هذا، فقد جاء في كتابه: «إن خفاء الواضعين حين لم يمنع اشتهار الوضعين قد زاد من ثروة اللغة المثالية حتما ... وعلى هذا الأساس نقرّ بوجود الترادف في القرآن الكريم، لأنه نزل بلغة قريش المثالية، يجري على أساليبها وطرق تعبيرها، وقد أتاح لهذه اللغة طول احتكاكها باللهجات العربية الأخرى باقتباس مفردات تمتلك أحيانا نظائرها» «2». وسائر دارسي الإعجاز على خلاف منه، وقد قدم شواهد قرآنية تدعم رأيه، ومن هذه الشواهد استعمال القرآن للفعلين: أقسم وحلف، فهو يرى أنهما لغتان عربيتان مدلولهما واحد. وندفع هذه المقولة بالرجوع إلى السياق الخاص للقرآن، يقول عزّ وجلّ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ «3»، وقد ذكر الحلف مختصا بالكذب والمنافقين، أما القسم فقد خصّ بالصدق والمؤمنين، يقول تعالى:

_ (1) الوافي، د. علي عبد الواحد، 1956، فقه اللغة، ط/ 4، لجنة البيان العربي، القاهرة، ص/ 162. (2) الصالح، د. صبحي، 1962، دراسات في فقه اللغة، ط/ 2، المكتبة الأهلية، بيروت، ص/ 347. (3) سورة التّوبة، الآية: 74.

فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ «1». فهناك فرق في الاستعمال. وقد اهتمت عائشة عبد الرحمن بهذا الشأن، واتسم أسلوبها بالاستقراء الشامل للمفردات التي تتعرض لها، فهي بعد أن تذكر ما ورد في الشعر القديم مما يؤكد الترادف، وعدم التفريق بين هاتين الدّلالتين في الاستعمال تقول: «العرب تقول: حلفة فاجر وأحلوفة فاجر، ولم يسمع حلفة برّ، وأحلوفة صادقة إلا أن تأتي في بيت شعر» «2». فالشعراء لم يكونوا يفرقون بينهما، ولا بأس أن نتخذ من تمحيصها ردّا على صبحي الصالح، إذ ترى أن فعل حلف يسند إلى المنافقين في القرآن، وأسند مرة واحدة إلى المؤمنين في قوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ «3» فوجبت عليهم الكفّارة لخطئهم. وتبرّر ذكر القسم أيضا على لسان الكفار قائلة: «يسند القسم إلى الضالين حين يكون قسمهم عن اقتناع منهم بالصدق قبل أن ينكشف لهم أنهم على ضلال» «4». ويصبح القسم حسب تعبيرها هنا بمنزلة الحلف كما في قوله عز وجل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها، قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «5»، وهذه الآية هي شاهد صبحي الصالح، الذي لم ينتبه إلى خصوصية الاستعمال القرآني الذي لا تبديل لكلماته. ونرى أن ذكر القسم هنا يدلّ على إصرارهم على المعجزات المادية، وعلوّ عنجهيّتهم وسخريتهم، والشّدّة في طلبهم، ويرافق هذا الإصرار كذبهم، فهم

_ (1) سورة المعارج، الآية: 40. (2) عبد الرحمن، د. عائشة، 1971، الإعجاز البياني للقرآن، ط/ 1 دار المعارف بمصر، ص/ 206. (3) سورة المائدة، الآية: 89. (4) عبد الرحمن، د. عائشة، الإعجاز البياني للقرآن، ص/ 206. (5) سورة الأنعام، الآية: 109.

لن يؤمنوا، وإن جاءت المعجزات المادية، والله عليم بقلوبهم، ولهذا لم يحقّق لهم ما أرادوه. ولا تدلّ ظاهرة الترادف في لغتنا على نقيصة، بل تدل على سعة الفكر العربي وابتكاره، وتمثل طبيعة الظروف المعيشة، حيث استقلال القبائل وتلاقيها، ولهذا نستنتج أن من أسباب الترادف أخذ الرواة للكلمات من قبائل مختلفة، وهنا تبرز أهمية اللهجات أو اللغات المتعايشة مما أدّى إلى تعدد الكلمات الدالّة على مدلول واحد. وكذلك كان أصل كثير من الكلمات المرادفة صفات للاسم، ثم صارت مع الزمن اسما مثل السّيف والصارم، وبعض هذه المرادفات كان مجازا في الأصل مثل كلمة الوغى التي كانت تعني اختلاط أصوات المعركة، ثم صارت تعني المعركة ذاتها بعد أن كانت تعني جزءا منها. وكذلك أدّت حرية التصرف بأصوات الكلمات إلى وجود مرادفات مثل كلمة كمح الدابة وكبحها، ورأيت هذا عن كثب وعن كثم، وفلح الأرض وفلعها، وهذه في الأصل من باب الإبدال، وإن أدخلها بعضهم في باب الترادف «1». ويرى عاطف مدكور أن أكثر علماء اللغة اليوم لا يأخذون بالتطابق التام بين المترادفات، ويقول في الموضع نفسه: «وفي رأينا أن الترادف موجود ولكن في حالات فردية نادرة يحدّدها السياق، ولكنه ظاهرة نادرة الحدوث، ولا تجود بها اللغة بسهولة، وأكثر ما نراه فيما يسمى «الكلمات المعتمة» التي لا شفافية فيها مثل «أمام وقدّام، خلف ووراء، شمال ويسار، تحت وأسفل» «2». وهي معتمة من جهة عدم وضوح الفرق بين الدّلالتين، ولا تقصد هنا عتمة معنى الكلمة ذاتها. ولم يكن استخلاصنا للأصل الحسي لاصطلاح الترادف في أول هذه الفقرة

_ (1) انظر مدكور، د. عاطف، 1987، علم اللغة بين القديم والحديث، ط/ 1، جامعة حلب، ص/ 221 - 224. (2) المصدر السابق، ص/ 227.

- تأكيد الفروق:

دافعا إلى نفي هذه الظاهرة اللغوية، ولكنا رأينا أن كون الرّديف غير الراكب الأساسي يدلنا على أن المترادفات مشتركة في المعنى الواحد اشتراكا فقط، ولا يوجد تطابق تام، بحيث يمكننا التبديل من غير أن نمسّ المعنى المبتغى. والترادف على أية حال ظاهرة لغوية ملموسة، ولكن الاستعمال القرآني واقع أدبي خاص يتنزّه عن إمكان تبديل كلماته من غير أن يتغيّر معنى المقام المطلوب. وإذا كان المدلول واحدا، والدلالة متعددة، فلا أقلّ من انتقاء صوتي يجعلنا نفضّل ما ترتاح إليه الآذان، وتميل إليه النّفس، فننتقي كلمة كبش، ونستبعد الشّقحطب ونقول: لمع البرق دون جثجث، ونقول: رأس الورك دون الحرككة، ونقول دهان ألواح السفينة دون جلفاطها، يقول جارييت: «إن المترادفات المختلفة للشيء الواحد قد تتفاوت من حيث الجرس واللفظ» «1». فهنالك بواعث جمالية تدفعنا إلى تفضيل مفردة على أخرى في حال التطابق التام المفترض بين معنى الدّلالتين، والقرآن يبيّن لمتدبره أنه لم يكتف بانتقاء المفردة الخاصة بالمعنى المحدّد المطلوب، بل جمع بين عذوبة الصوت وبين المعنى الخاص. - تأكيد الفروق: لقد سلك اللغويون مسلكين ففريق أيّد الترادف، وقد بيّنا منذ قليل بعض آرائهم، وفريق أنكر الترادف، ومن هؤلاء المبرّد «2»، وقد نسبت إليه عائشة عبد الرحمن هذا خطأ لتأليفه كتاب «ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد» «3»، لأن العنوان يدلّنا على أنه عني في كتابه بالمشترك اللفظي أي

_ (1) جارييت، فلسفة الجمال، تر: عبد الحميد يونس، دار الفكر العربي، بيروت، بلا تا، ص/ 120. (2) هو أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي، أحد أئمة الأدب واللغة توفي سنة 286 هـ في بغداد، من كتبه «الكامل» و «المقتضب» و «إعراب القرآن» انظر الأعلام: 3/ 1002. (3) انظر عبد الرحمن، د. عائشة، الإعجاز البياني للقرآن، ص/ 9.

تعدّد المعاني للمفردة الواحدة وفق السياق الخاص للآية، مثل كلمة الهدى التي رصدوا لها سبعة عشر معنى، فهي مثلا بمعنى البيان في قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «1» وبمعنى التوراة في قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى «2» وبمعنى المعرفة في قوله تعالى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ «3». وقد ذكر هذا السيوطي تحت عنوان «الوجوه والنّظائر» «4». وقد كتب في هذا العلم مقاتل بن سليمان صاحب «الوجوه والنظائر»، ورأى أن الصلاة مثلا تكون من الإنسان دعاء، ومن الخالق رحمة، فهذا مشترك لفظي في منظوره، وقد ردّ عليه الحكيم الترمذي المحدث الصوفي الكبير في «تحصيل نظائر القرآن» ورأى أن الجامع بين الصلاتين هو العطف، وعلى هذا يجب أن نسميه مشتركا معنويا لا لفظيا، وهذا أيضا رأي النحوي المعروف ابن هشام. وقد نقل أبو هلال العسكري رأي المبرّد في كتابه «الفروق في اللغة» وصنّف في هذا المجال أبو منصور الثعالبي «5» كتابه «فقه اللغة وسرّ العربية»، إذ تحدّث في القسم الأول منه عن الفروق، ولأحمد بن فارس «6» كتاب «الصاحبي في فقه اللغة». يرى المبرّد أن جواز العطف يعني تفرّد كل اسم بمعنى خاص مستشهدا بالآية: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «7»، يقول: «عطف شرعة على

_ (1) سورة البقرة، الآية: 5. (2) سورة غافر، الآية: 53. (3) سورة النّحل، الآية: 16. (4) انظر السيوطي، جلال الدين، الإتقان: 1/ 299. (5) هو عبد الملك بن محمد أبو منصور الثعالبي من أهل نيسابور، وكان فرّاء يخيط جلود الثعالب، توفي سنة 429 هـ، من كتبه: «يتيمة الدهر» من تراجم شعراء عصره، و «فقه اللغة وسر العربية» و «سحر البلاغة» و «الكناية والتعريض» و «الإعجاز والإيجاز»، انظر الأعلام: 4/ 311. (6) هو أحمد بن فارس القزويني، ولد في الري، لغوي، وله شعر حسن توفي سنة 395 هـ. من كتبه: «معجم مقاييس اللغة» و «المجمل» و «الصاحبي في فقه اللغة» و «جامع التأويل» في التفسير وغيرها. انظر الأعلام: 1/ 58. (7) سورة المائدة، الآية: 48.

منهاج، لأن الشّرعة لأوّل الشيء والمنهاج لمعظمه ومتّسعه، ويعطف الشيء على الشيء، وإن كانا يرجعان إلى شيء واحد إذا كان في أحدهما خلاف للآخر» «1». وينقل أبو هلال هذا الكلام عن المبرّد، ويتبعه في الرأي، فقد رأى في الموضع نفسه أن ليس من الذكاء أن يضع الواضع اللغة، ويعطف زيدا على أبي عبد الله إذا كانا شخصا واحدا. ولم يكتف أبو هلال بالعطف فقط، ليؤكد عدم الترادف، إذ يضع شرطا لمنهجه يشرحه في مقدمة كتابه فهو يقول: «إذا اعتبرت هذه المعاني وما شاكلها في الكلمتين- الاشتياق والحنين- ولم يتبين لك الفروق بين معنيهما، فاعلم أنهما من لغتين مثل القدر بالبصرية، والبرمة بالمكية، ومثل قولنا: الله في العربية، وآزر بالفارسية» «2». وهذا الشرط الذي اتخذه العسكري، ليحدّ من شمول نظريته، اتخذه علي وافي وجعله مناط الاعتراف بالترادف، كما رأينا. ولمنهج العسكري ميزات ترفع من شأن كتابه، وتفضله على كتاب الثعالبي، فقد جعل كلّ كتابه للفروق، فمن جهة الكم قدّم مادة وفيرة، وهو لا يترك القارئ من غير إقناع، بما تسعفه ذاكرته من أمثلة من القرآن والشعر وأمثال العرب واستعمالهم، وإضافة إلى هذه الميزة الجيدة، اقتصر على ما هو مشهور، ولم يتعرّض لكلمات غريبة متخذا فذلكة فارغة لا طائل لها. وما يعنينا من اقتصاره هو اشتماله على مفردات القرآن التي يشتبه في ترادفها، ويعنينا أنه يحدّد في المقدمة نفيه للترادف في القرآن قائلا عن المبرّد: «والذي قاله هاهنا في العطف يدل على أن جميع ما جاء في القرآن، وعن العرب من لفظين جاريين مجرى ما ذكرنا من العقل واللب، والكسب والجرح، والعمل والفعل معطوفا أحدهما على الآخر، فإنما جاز هذا لما بينهما من الفرق

_ (1) العسكري، أبو هلال، الحسن بن عبد الله، 1353 هـ، الفروق في اللغة، ط/ 1، مكتبة القدسي، القاهرة، ص/ 11. (2) العسكري، أبو هلال، الحسن بن عبد الله، الفروق في اللغة، ص/ 16.

والمعنى» «1». ولا بدّ من تعليق على تقليص نظريته بشرط عدم تعايش لغتين، وهذا لم يطّرد في القرآن، وكذلك العطف الذي يمكن الاستعانة به في تجربة عملية تقضي بعطف كلمة قرآنية على أخرى قريبة من معناها، فنزيل غشاوة الترادف، ذلك لأن المفردة القرآنية غنية عن العطف، ليظهر تمكّنها من معناها واستقرارها. ومما ينظر إليه بتقدير أنه يخصص بابا حول العلم مثلا، ويبحث في الألفاظ متقاربة المعنى في مفردتين، فنحصل على الفروق الدقيقة المهمة بين العلم والمعرفة والفهم وغير هذا، ويخصص لكل فرق بين مفردتين ما لا يقل عن أربعة أسطر يدعمها بالشواهد المختلفة، وكل هذا في اللغة الواحدة كما يؤكد. لقد خصص الثعالبي القسم الأول من كتابه للفروق، وقد اتخذ منهجا مغايرا، ووصل بإسهابه ومحاولته لاستيفاء كل المفردات إلى ذكر الغريب والوحشي الذي ربما يدهش معاصريه وفقهاء عصره، ناهيك عن عصرنا الذي حافظ القرآن فيه على جزء مهم من الرصيد الكبير، فنقع على مفردات دثرتها العصور الخالية، ونبذها الاستعمال، يقول في فصل تفصيل الكثير، على سبيل المثال: «الدّثر المال الكثير، الغمر الماء الكثير، المجر الجيش الكثير، العرج الإبل الكثيرة» «2». ومثل «المجر والعرج» يندر استعماله في الشعر القديم فضلا عن القرآن الكريم، وقد ذكر أبو الطيب هذه الكلمة إذ نجد في شعره الكثير من المفردات غير المستعملة يقول: وتضريب أعناق الملوك وأنت ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر «3»

_ (1) العسكري، الفروق في اللغة، ص/ 11 - 12. (2) الثّعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد، 1972، فقه اللغة وسر العربية، ط/ 1، تح: إبراهيم الأبياري ورفيقيه، شركة مصطفى البابي، القاهرة، ص/ 70. (3) ديوان المتنبي، ص/ 195.

وهذا طبيعي في كتب اللغة لأنها لا تغفل اللفظة لندرة استعمالها، لأنها إنما تؤرخ فلا بد من الجمع الوافي. وكما نرى مفردات الثعالبي ليست بين طرفين كما هي الحال عند العسكري، بين السيّد والصّمد، والعزّ والشّرف، والصحّة والعافية، والقدرة والطاقة، إنما يخصص الفصل لترتيب الأسماء وفق الحالة الموجودة، وقلّما يجنح إلى القرآن، ليكون حجّة لتقسيماته، وقد احتج بالقرآن في فصل سمّاه «فيما يحتج على الشّدة من القرآن»، فجاء فيه: «الهلع شدّة الجزع، واللّدد شدة الخصومة، والحسّ شدة القتل، والبثّ شدة الحزن، والنّصب شدة التعب، والحسرة شدة الندامة» «1» وكلها مما ورد في القرآن. ومن الجدير بالذكر أن أحمد بن فارس رفض مسألة الترادف بعلّة تعايش اللغات، فهو يرى أن للسيف اسما واحدا، وباقي الأسماء صفات له كالصّمصام والباتر والصّارم، قال: «ويسمّى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو السيف والمهنّد والحسام، والذي نقوله في هذا إن الاسم واحد هو السيف، وما بعده من الألقاب صفات ومذهبنا أن كل صفة منها معناها غير معنى الأخرى، وقد خالف في ذلك قوم، فزعموا أنها- وإن اختلفت أصواتها- فإنها ترجع إلى معنى واحد، وذلك نحو قولنا: سيف وعضب وحسام، وقال آخرون: ليس منها اسم ولا صفة إلا ومعناه غير معنى الآخر» «2». وكأنه يريد أن طول استعمال الصفة إلى جانب الموصوف جعل الناس يكتفون بالصفة، فأبدلوا السيف المهنّد بقولهم المهند أي سيف من الهند. ومن مظاهر استيفاء المفردة القرآنية لطرفي الشكل والمضمون ما جاء في الآية تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا «3»، وقد جاء في الاتقان عن البارزي «4» أنّه

_ (1) الثعالبي، فقه اللغة وسر العربية، ص/ 68. (2) ابن فارس القزويني، أحمد، 1962، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، ط/ 1، تح د. مصطفى الشويمي، مؤسسة بدران، بيروت، ص/ 96. (3) سورة يوسف، الآية: 91. (4) البارزيّ: هو هبة الله بن عبد الرحيم الجهني الحموي، قاض وحافظ للحديث، من أكابر فقهاء الشافعية، عيّن مرات لقضاء مصر فاستعفى، وتولّى قضاء حماة،

أعجب ب «آثرك» وحسنها الزائد على «فضّلك» «1»، وظنّ أن الأمر- فيما يبدو لنا- هو هذا المدّ الطويل بعد الهمزة ثم الفتح على حرف لثويّ خفيف، وصعوبة الوقوف والتّشديد على الضاد، وهو من حروف الإطباق. ويضاف أن القرآن ذكر «فضّل» في سبعة عشر مكانا، مثل قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً «2»، فالتفضيل كما توحي المقارنة كان نتيجة عمل، ولم يكن له سابق تصميم أو إرادة، إنما هو نتيجة عمل، وإذا عدنا إلى «آثر» مثل: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا «3»، وقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «4»، فالعدالة السماوية تتأكد في سابق اختيار المرء للشر، والإيثار يكون له ثواب عند ما لا يكون جبرا، فيؤثر المؤمن أخاه عن سابق اختيار. ودلالة «آثر» في القرآن أقرب إلى الذهنيات منها للمحسوسات، أو هي اختيار بعد اختيار، يقول أبو هلال: «الفرق بين الاختيار والإيثار أن الإيثار على ما قيل هو الاختيار المقدّم» «5». وفي عصرنا أخذت عائشة عبد الرحمن على عاتقها نصرة استقلال جمال المفردة القرآنية من خلال الظلال النفسية للفروق، فانتدبت نفسها لهذا في كتابيها: «التفسير البياني» بجزئيه، و «الإعجاز في البيان» وقد وقفت في الأخير على هذه المسألة منظّرة، ومن ثمّ مطبّقة في عشر مسائل، مثل: الفرق بين الرؤيا والحلم، والنأي والبعد، وتكاد تشتمل على معظم ما يظنّ فيه الترادف في القرآن.

_ وتوفي سنة 738 هـ، وله بضعة وتسعون كتابا منها: «البستان في تفسير القرآن» و «الناسخ والمنسوخ» و «الفريدة البارزية في شرح الشاطبية» و «ضبط غريب الحديث» وغيرها انظر الأعلام: 9/ 60. (1) السيوطي جلال الدين، الإتقان: 2/ 270. (2) سورة النساء، الآية: 95. (3) سورة النازعات، الآية: 38. (4) سورة الحشر، الآية: 9. (5) العسكري أبو هلال، الفروق في اللغة، ص/ 101.

وقد استعانت بالمنهج الاستقرائي الإحصائي وبالمقارنات، مما ساعدها على استنتاج موفّق مؤدّاه أن الفروق لا يمكن أن تمحى، وذلك منذ عام 1964 حين وضعت بحثا في «مشكلة الترادف اللغوي في ضوء التفسير البياني»، وتقول: «شهد التّتبّع الدقيق لمعجم ألفاظ القرآن، واستقراء دلالتها في سياقها، بأن القرآن يستعمل اللفظ بدلالة محدودة، ولا يمكن معها أن يقوم لفظ مقام لفظ آخر» «1». ولم يكن لهذه الباحثة نظرات متفرقة في هذه الفكرة، فهي قوام دراستها التفسيرية لقصار السور في جزئي «التفسير البياني»، ويمكن أن يعدّ كتاباها معجمين للفروق البيانية القرآنية، وقد فنّدت آراء القدامى، وذلك خلافا لما نجد في كتب كثير من المحدثين المتكئين في نفي الترادف على شذرات متفرقة من «الكشّاف» و «المثل السائر» خاصة، فدراستها تتسم بالجدة والأصالة، وكثيرا ما ظل غيرها في إسار التقليد من غير تحرّ لمادة البحث. وعلى سبيل المثال نورد تفسيرها للآية: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ «2» تقول بعد العودة إلى الأصل المادي: «وتفترق الخشية عن الخوف، بأنها تكون عن يقين صادق بعظمة من نخشاه، كما يفترق الخشوع، بأننا لا نخشع إلا عن انفعال صادق بجلال من نخشع له، أما الخوف فيجوز أن يحدث عن تسلّط بالقهر والإرهاب، كما أن الخضوع قد يكون تكلّفا عن نفاق وخوف تقيّة ومداراة، والعرب تقول خشع قلبه، ولا تقول خضع قلبه إلا تجوّزا» «3». وأخيرا لا يعني ما تقدّم أننا ننفي- كليا- القول بالترادف، فعائشة تعود إلى شرط تعدد اللغات قائلة: «وإنما يشغلنا الترادف حين يقال بتعدّد الألفاظ للمعنى الواحد، دون أن يرجع هذا إلى تعدد اللغات، ودون أن يكون بين

_ (1) عبد الرحمن، د. عائشة، 1971، التفسير البياني، ط/ 1، دار المعارف، القاهرة: 1/ 7. (2) سورة يس، الآية: 11. (3) عبد الرحمن، د. عائشة، الإعجاز البياني للقرآن، ص/ 229.

الألفاظ المقول بترادفها قرابة صوتية» «1». وعلى الرغم من هذه القرابة الصوتية، فهي لا تطبّقها في الفرق بين النّعمة والنّعيم، فقد وجدت في الأولى معنى النّعمة العامة لكل الناس، وفي الأخرى معنى الخير في اليوم الآخر، فيتخذ النعيم سمة إسلامية «2». نخلص مما سبق إلى أن خصوصية الانتقاء القرآني تدعونا إلى الإقرار بتفرّد كل كلمة بمعناها الخاص، مستندين إلى السياق القرآني، فإذا كان الترادف موجودا في اللغة، فهو بعيد عن تهذيب القرآن اللغوي، وتمكّن مفرداته من معانيها وظلالها الخاصة، وسوف يتضح هذا في تطبيق الدارسين: أسلافا ومعاصرين.

_ (1) الإعجاز البياني للقرآن، ص/ 194. (2) المصدر نفسه، ص/ 218.

4 - الأثر الموسيقى لمفردات القرآن

4 - الأثر الموسيقى لمفردات القرآن امتاز العرب برهافة الحس، فهم يتأثرون أشدّ التأثّر بما يسمعون، وللكلمة قدسيّتها، وهي تفعل فعلها إلى أبعد مدى، فيحاربون ويصالحون، ويضحّون ويكرمون نتيجة سماع كلمات، وهم سيدركون القيمة الموسيقية في القرآن بسبب معايشتهم لفن الشعر والخطابة، واهتمامهم البالغ بالكلمة، وقد قال الزرقاني: «هذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي، هو أول شيء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن، ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام، سواء أكان مرسلا أم مسجوعا، حتى خيّل إلى هؤلاء العرب أنّ القرآن شعر» «1». ونحو ذلك ما ذكره الرافعي إذ يقول: «رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانا لغوية رائعة، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة قراءتها هي توقيعها، فلم يفتهم هذا المعنى، وأنه أمر لا قبل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم» «2». فما كان عليهم- وقد أصرّوا على الإشراك- إلا الهرب من سماعه على ملأ من القوم، والتلصّص لسماعه ليلا، مما يؤكد عدم موضوعيتهم في كرههم للقرآن، وقد قال عنهم عزّ وجلّ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «3»، فقد طغت المكانة العشائرية، ولكنها لم تمسح في نفوسهم تذوقا سمعيا فطريّا. ويمكن أن نعزو هذه الملكة السمعية إلى ضخامة مساحة الأميّة بين العرب حينئذ، بالإضافة إلى كثرة استماعهم للشعر الذي صوّر شئون حياتهم جميعها،

_ (1) الزرقاني، عبد العظيم، 1943، مناهل العرفان في علوم القرآن، ط/ 3، دار إحياء التراث العربي، بيروت: 2/ 206. (2) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، دار الكتاب العربي، بيروت بلا تاريخ، ص/ 214. (3) سورة فصّلت، الآية: 26.

ولهذا كان السمع هو المعيار الأول، وفي هذا الصدد يقول إبراهيم أنيس: «وفي رأيي أن هذه الظاهرة الموسيقية في اللغة العربية تعزى إلى تلك الأمية حين كان الأدب أدب الأذن لا أدب العين، وحين اعتمد القوم على مسامعهم في الحكم على النص اللغوي، فاكتسبت تلك الآذان المران والتمييز بين الفروق الصوتية الدقيقة» «1». ولا يعني هذا مجرد استمتاعهم بصوتيات القرآن، فقد عرفوا أيضا أنها قوالب فنيّة لمضامين فكرية جديدة، فالتعلّق لم يكن شكليا محضا، ونحن نعترف بأن كتابة الشعر كانت قليلة في الفترة الجاهلية، وهنالك أمم كثيرة بدأت نتاجها الأدبي بالأدب الشفوي، وكانت تهتم بتصوير الأساطير، ولكن لا تمتلك لغاتها هذه الموسيقية، إلا أنها غنّت نتاجها الأدبي، وكذلك كانت الالياذة والأوديسة. ونرجّح أن السبب هو طبيعة اللغة العربية التي نشأت موسيقاها وفق ذوق أوّلي، ثم صار هذا الذوق قانونا موسيقيا، ثم نزل القرآن الكريم بتشكيل فريد، وذلك بلجوئه إلى مزية خاصة، وتخيّره وتهذيبه للمفردات، وليس من الضروري أن يكون تفشّي الأمية السبب الوحيد، لأن الشعر قديم، ولكل قديم منه معايشة شفوية في زمن ما. ونودّ في هذه الفقرة أن نبين أن دراسة العنصر الموسيقى للقرآن ليست وليدة عصرنا، وما يشغلنا هاهنا محاولة استقصاء بعض الدلائل والمواقف التي تبرهن على وجود تذوق سمعي عاصر البعثة النبوية الشريفة، وكذلك نبحث في الدلائل القرآنية الداعية إلى مراعاة الإعجاز الموسيقى وتفهّمه، وكذلك لا بدّ من الإشارة إلى مقارنتهم القرآن بالشعر وقضية المعارضة التي تتصل بموسيقا القرآن.

_ (1) أنيس، د. إبراهيم، 1963، دلالة الألفاظ، ط/ 2، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص/ 195.

- في القرآن والحديث:

- في القرآن والحديث: نجد في رحاب الآيات الكريمة تسمية الكتاب العظيم بالقرآن، فقد ورد هذا الاسم سبعين مرة، وهذا أضعاف ذكر أيّ اسم غيره كالفرقان والكتاب، مما أحصاه العلماء، وكانت الكلمة الأولى من الوحي «اقرأ» في الآية: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1»، وقد اشتقّت كلمة «القرآن» من القراءة، فهي تتطلب السمع. وحضّ القرآن على استعمال حاستي السمع والبصر، وهما وسيلتا تذوّق الجمال مثل قوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «2» وقوله عزّ وجلّ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «3». وليس ما استنبطه علماء التجويد إلا أصلا في قراءة العربية، وقد قال السيوطي: «إن العرب لا تنطق بكلامها إلا مجوّدا» «4»، وقد استخلص عبد العزيز بن عبد الفتاح قواعد التجويد من جهود السّلف، ووضع مصنفا قال في مقدمته: «والمقصود الرئيسي خدمة القرآن الكريم، والتوصل إلى النطق العربي النبوي الفصيح بكتاب الله، وليعلم كلّ من درس هذا العلم، أو قام بتدريسه أنه- وإن كان يعتمد على النقل والرواية فحسب، إلا أن مصدره ومرجعه في الحقيقة الذوق العربيّ الفصيح» «5». فالتجويد ليس شيئا إضافيا أو زركشة لتزيين كلمات القرآن، فهو إعطاء الحرف حقّه في الأداء، وبما أن النسق القرآني فريد النوع، فقد كانت قواعد التجويد بالغة الأهمية، لأنها تبرز جمالا سمعيا غير معهود، كما أن مراعاة قوانين التجويد مراعاة للعربية التي هي المادة الصوتية لهذا الكتاب العظيم، وهي لغة تستبعد بطبيعتها الوعورة والثّقل، فقد اختار الناطق بها كلّ سهل مستساغ، وكان القرآن اختيارا آخر، ولهذا كانت آياته إعجازا لهم، لأنه يفوقهم

_ (1) سورة العلق، الآية: 1. (2) سورة الإسراء، الآية: 36. (3) سورة السّجدة، الآية: 9. (4) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، 1325 هـ، المزهر في علوم اللغة، ط/ 1، مطبعة السعادة بمصر، 1/ 146. (5) ابن عبد الفتاح القارئ، عبد العزيز، 1396 هـ، قواعد التجويد، ط/ 3، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، المقدمة: 1 - 2.

في هذا المجال بمراعاة دقائق فنية موسيقية، وهي ما يدعى بالموسيقى الداخلية، ومن الجهل أن يعدّ التجويد زركشة، ذلك لأن الذوق والقانون الصوتي متلازمان. وفي القرآن نجد حضّا على جمال الأداء في قوله عزّ وجلّ: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1»، ويؤكّد لنا فعل الترتيل بالمفعول المطلق، وهو ما يفوق الإنشاد والقراءة العادية، ويسمو على مطّ الغناء واضطرابه، وقد ذكرت هذه الآية في سورة تحمل اسما من أسماء القرآن، إنها سورة الفرقان، أما المكان الثاني الذي يذكر فيه الترتيل، فهو سورة المزمل، أوائل نزول الوحي المبارك، وفي هذا حجّة على إعجاز نسقه، والسورتان من العهد المكي، حيث تعنّت الكفار وعنادهم، يقول تعالى في سورة المزمل: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «2». وكذلك يؤكّد الفعل بالمفعول المطلق، وهنا يختصّ الترتيل بزمن الليل زيادة في جماله في هدأة الليل، حيث صفاء النفس، وذلك لأن المولى عزّ وجلّ عليم بأن السمع نافذة على النفس، وحافز على الانفعال والتفاعل مع متطلبات دينية حيوية وأخروية. وقد سبق علم التجويد تشجيع الرسول عليه الصلاة والسلام على الأداء الحسن الذي يركّز على الإحساس بالتشكيل الموسيقى في إيقاع القرآن، ذلك الأداء الذي يراعي دقائق داخلية يمتاز بها النّسق القرآني من مدود وصفير وجهر وقلقلة «3»، مما يعرف عن صفات الحروف، إضافة إلى تجميل الصوت عند أداء القرآن. وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم: «قرأ عام الفتح في مسير له سورة الفتح على

_ (1) سورة الفرقان، الآية: 32. (2) سورة المزمل، الآيات: 2 - 4. (3) الصّفير: صوت زائد يخرج عند النطق بالصاد أو الزاي أو السين. والجهر: انحباس النّفس في المخرج عند النطق ببعض الحروف كالجيم والطاء والظاء والقلقلة: تحريك المخرج والصوت بعد انضغاطهما وانحباسهما ثم يخرج الصوت قويا من المخرج محدثا نبرة وهزّة، وحروفها جمعت في «قطب جد».

راحلته فرجّع في قراءته» «1». فقد كان يهتم بالأداء الحسن، وهذا يتضمن مراعاة لفظ الحركات، وإعطاء الوقفات والغنّات «2» ومخارج الحروف حقّها، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن يجهر به» «3». ويعلّق الغزالي على هذين الحديثين قائلا: «قيل أراد به الترنّم، وترديد الألحان به، وهو أقرب عند أهل اللغة» «4». بيد أن هذا اللحن ليس بمطّ مبتذل، فهو محكوم بقوانين اللغة التي تساعد على إبراز النظم الموسيقى المعجز، وهذا التّغنّي لا يصل إلى مرتبة الغناء والإنشاد ولا يهبط إلى مرتبة القراءة، وإلى هذه المعيارية يشير الحديث النبوي: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتابين، وأهل الفسق، فإنه سيجيء بعدي قوم يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والرّهبانيّة» «5». وعلى هذا المنهج سار السلف الصالح، فلا يميلون إلى درجة الغناء، ولا إلى الغمغمة السريعة، وفي هذا الوعي المتجلّي في التأنّي نجد ابن عبّاس رضي الله عنهما يقول فيما نقله الغزالي: «لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتّلهما وأتدبّرهما، أحبّ إلي من أن أقرأ القرآن هذرمة» «6». فللتأنّي في تلاوة القرآن فضيلة المتعة السمعية، وهذا لا يكون إلا مع تدبّر

_ (1) مسلم، بن الحجاج، صحيح مسلم، المطبعة المصرية، القاهرة، بلا تاريخ، كتاب فضائل القرآن: 1/ 547. (2) الغنّة: هي ما يكون في إدغام النون الساكنة والتنوين مع بعض الحروف، فيخرج الصوت من الخيشوم. (3) البخاري، محمد بن إسماعيل 1976، صحيح البخاري، ط/ 1، شرح د. مصطفى البغا، مطبعة الهندي، كتاب فضائل القرآن: 4/ 1918. (4) الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: 1/ 329. (5) البيهقي، أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، كما في السيوطي جلال الدين، الجامع الصغير، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ: 1/ 199. (6) الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: 1/ 326. والهذرمة: قراءة سريعة غير مفهومة.

معانيه، فلا انفصام بين التدبّر والتذوّق. ومن الدّلائل على الإعجاز الموسيقى في القرآن فواتح السور التي اختلف المفسرون حول المقصود منها، وقيمة وجودها في هذا المكان، وبعضهم شطّ به الخيال، فربطها بحساب الجمّل «1»، وبعضهم سلّم الأمر إلى الخالق، وفوّض إليه التأويل. وتتصدر هذه الفواتح السور المكية، إلا سورتي البقرة وآل عمران، فهما مدنيتان وهذا يعني وجودها في سور لاقت عنادا ونكرانا لمصدر القرآن، فهي تبيّن عدم قدرة الناس على تأليف كتاب مثله أو من مثله، وإن كان من جنس حروفهم، والسورتان: البقرة وآل عمران مشتملتان على مقاصد القرآن المكي في إقامة الحجج على حقيّة القرآن ودعوته «2». ومن الذين تنبهوا إلى الأثر الموسيقى للفواتح الزركشي الذي لمس العلاقة بينها وبين الفواصل، إذ تقوم هذه الفواتح مقام الافتتاحيات التمهيدية في المقطوعات الموسيقية، ذلك عند ما تمهّد لتماثل الرّوي، كما في سورة آل عمران: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «3» أو تقارب الرّوي، كما في سورة البقرة: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «4»، وذلك لتقارب مخرجي النون والميم، وهذا وارد في سور أخرى، مثل: العنكبوت والشعراء والقصص، وهناك تمهيد لتناغم المدود كما في سورة «صاد» «5». ويذكر الزركشي كثرة ورود الحروف المقطعة ضمن كل سورة تبتدئ بها فيقول: «وقد عدّ بعضهم القافات التي وردت في سورة (ق)، فوجدها سبعا

_ (1) أي ربط الحروف بأعداد معينة. (2) انظر عتر، د. نور الدين، 1989، القرآن الكريم والدراسات الأدبية، ط/ 1 جامعة دمشق، ص/ 85. (3) سورة آل عمران، الآية: 1. (4) سورة البقرة، الآية: 1 - 2. (5) الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، 1988، البرهان في علوم القرآن، ط/ 1 تعليق مصطفى عبد القادر عطا، دار الفكر، بيروت، 1/ 221 باختصار.

وخمسين، مع أن آيات السورة خمس وأربعون، وفي سورة (ن) تكرر هذا الحرف أربع عشرة ومائة مرة، وآياتها اثنتان وخمسون، وجميع فواصل السورة تنتهي بهذا الحرف «ن» إلا عشر آيات تنتهي بالحرف ميم» «1». والميم والنون متقاربان إذ يخرجان من الخيشوم مع الغنّة، وقد أشار محمد الحسناوي إلى إعجاز الفواتح الموسيقى في كتابه «الفاصلة في القرآن» «2» فهذه الفواتح للتحدّي والردّ على تهمة الشعر والكهانة. لم يكتف القدامى بالمعاني الإشارية لهذه الحروف، فقد أكّد كثير منهم أنها وسائل تنبيه، إلا أن الغاية الموسيقية لم تعط حقّها في نظرتهم، على الرغم من دراستهم لطبيعة هذه الحروف، يقول السيوطي: «وقيل المقصود بها الإعلام بالحروف التي يتركب منها الكلام، فذكر منها أربعة عشر حرفا، وهي نصف جميع الحروف، وذكر من كل جنس نصفه، فمن حروف الحلق الحاء والعين والهاء، ومن التي فوقها الكاف والقاف، ومن الحرفين الشفويين الميم «3» ... ». والقرآن يشير إلى تكوين العبارات في نسق موسيقي ممتع من خلال انتقائه للحروف المقطعة، وبذلك يكون معجزا للمشركين بسلاح كانوا يدركونه، خصوصا أن مسألة الفواتح أمر فريد من نوعه، لم يعرفوه في استعمالهم، ولا في أشعارهم، ولم يبلغنا أن القدامى توصلوا إلى فائدته الموسيقية إلا ما كان من الزركشي، فإنهم رصدوا هذه الحروف من خلال علم فقه اللغة، فعرفوا مخارجها، وإنّ من بعدهم بذلوا جهدا كبيرا في تطبيق صفات الحروف، فتوصلوا إلى هذا الرمز الموسيقى في القرآن. ونستدل من القرآن على نموذجين من الجمال الموسيقى:

_ (1) الزركشي، بدر الدين، البرهان: 1/ 221. (2) انظر الحسناوي، محمد، 1977، الفاصلة في القرآن، ط/ 1 دار الأصيل، حلب، ص/ 230، وراجع ابن قيّم الجوزية 1352 هـ، التّبيان في أقسام القرآن، ط/ 1، المكتبة التجارية، القاهرة، ص: 203. (3) السّيوطي جلال الدين، الإتقان: 2/ 21.

- شهادة معاصري نزول الوحي:

الأول: ظاهر يتجلّى في الفواصل والحروف المقطعة، والفواصل تشبه قوافي الشعر، وتختلف عنها بالتمكن والتنوع. والثاني: جمال خفيّ مكنون بين الحرف والحركة، ومن خلال الانسجام بين الصفير والإطباق والبطش والانزلاق، وذلك في نسيج متكامل يأخذ كلّ جزء منه مكانه الطبيعي، ووفق ما يناسب الموضوع شدة ولينا، ولم يستطيعوا التعبير عن هذا النوع، على الرغم من اعتراف فطرتهم به، لندرته في الشعر، ومجيئه فيه آليا من غير قصد، وربّما بشيء من الفوضى والتنافر. - شهادة معاصري نزول الوحي: من أوائل الثناء على أسلوب القرآن ما جرى على لسان الوليد بن المغيرة الذي تنوقل كلامه في بطون كتب التاريخ والإعجاز والسيرة جميعا، إنه يحضر ويسمع شيئا من القرآن، ويقول السيوطي: «فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له ... ، ويذكر قول الوليد: «فو الله للذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته» «1». لقد تناقل دارسو الإعجاز هذه العبارة بلا تعمّق في ماهية الكلمات، وأبعادها، فلا شك أنها تمثل نظرة فنية عميقة، ووعيا للأثر الموسيقى، فالرجل مدرك بفطرته ميزات ما يسمع واختلافه عما عهد، فيقدّم رأيا معياريا، إنه يريد بالحلاوة سهولة النطق بمفردات القرآن، وهذا يتأتّى من جنس الحروف ونسقها وانسيابها ولينها، وهو رقيق حلو لدى القارئ والسامع، ولعلّه يؤكد هذه المزيّة من خلال ذوقه بوصفه «مثمرا أعلاه»، فإذا كان هذا العلوّ هنا هو اللحن المختوم في الفواصل التي تتخذ لها أردافا «2» من المدود غالبا، فإن «المغدق أسفله» هو الموسيقا الداخلية المبثوثة فيما قبل الفاصلة، فهناك إذن تلذّذ في النطق والسمع، وفي البداية والنهاية، وذكر الوليد للمساحة مستمدّ من فهمه

_ (1) السيوطي، الإتقان: 2/ 253، وانظر ابن هشام، عبد الملك، 1981، سيرة النبي، ط/ 2، دار الفكر، بيروت: 1/ 283. (2) الأرداف جمع ردف حرف العلّة الذي يسبق الرّويّ.

لشكل البيت الشعري، ففيه ضرب وعروض وقافية وصدر وعجز، والمتعة في الآية كلّها، وقد بدأ بالفاصلة لشدّة ظهورها، ومن ثمّ عاد إلى نسق الكلمات داخل الآية، فلا خلل حتى الوصول إلى إشباع هذه الموسيقية بالفاصلة، وكلمة «مغدق» تشير إلى كثرة المياه، ولذلك اتصلت بالكرم، فقالوا: أغدق عليه، أي أكثر العطاء، وهاهنا تدل على سلاسة النطق، ولين الحروف، وهذا أيضا في «طلاوة» التي تنمّ على اللّيونة لا الخشونة، والقرآن لم ينزع إلى غريب وحشي، فقد نبذ ما هو سوقي ومستثقل، ووثّق للأمة العربية ما هو رفيع سام، وكأنّ «الطلاوة» ذلك التأنّق الفائق الحسن. ولم ينس الوليد جزالة القرآن وفخامته، فهو «يحطم ما تحته»، والعبارة هنا تشير إلى مناسبة الكلمات للمواقف، فهي شديدة في موقف مثل قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ «1»، ولينة في مواقف الرحمة والعطف، والانسجام متحقق في الطرفين، فمن دواعي الشدة والوعيد وجود الطاء والشين، والوقوف على الدال وتكريرها، وسكون الطاء، ومثل هذا كثير. لقد اعترف بموضوعية خالصة بتفوق القرآن على الشعر، يقول البيومي عن سبب مقارنة القرآن بالشعر هنا: «وإنما تحدث الوليد عن الشعر دون النثر، مع ما كان في قريش من فرسان الخطباء، لأنه بداهة دون الشعر تأثيرا، وعمق نفاذ، وأن سطوة البيان القرآني قد فاقت سطوة الشعر المأثور، فأحرى بها أن تفوق الأقوال من خطب ومنافرات وأمثال» «2». والشعر أعقد فينا من فن النثر، ونضيف إلى كلام البيومي أن الوليد اكتشف بفطرته العنصر الموسيقى في الجزئيات، وهو قلّ أن يراعى في النثر إلا ما يكون في شكله الظاهر من توازن وتسجيع، وأن تنوع رويّ الفواصل يتبع تنوع المعاني، وهذا غير وارد في النثر، والقرآن لم يتحدّ قريشا وحدها، بل تحدّى كل العرب، وقد اشتهروا بالشعر، بل كان في أسرة النبي عليه الصلاة والسلام

_ (1) سورة البروج، الآية: 12. (2) البيومي، د. محمد رجب، 1971، البيان القرآني، ط/ 1، دار النشر، القاهرة، ص/ 13.

عدّة شعراء «1». وقد وردت مقارنة القرآن بالشعر على لسان مشركين آخرين، ومنهم من آمن، بعد أن انتهى إلى سمو النظم القرآني، ومخالفته للشعر، فقد روى أبو ذر الغفاري عن أنيس أخيه رضي الله عنهما- وقد كان شاعرا-: «لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون» «2». وقرين هذا الوعي ما حصل عند مجيء عتبة بن ربيعة الذي كلّفه المشركون بتقديم المغريات للنبي صلى الله عليه وسلم، لكي يتخلّى عن الدعوة الإسلامية، وقد كان ردّ الرسول الكريم: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟». قال: نعم، قال: «فاستمع مني» قال: أفعل، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ «3» ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه عتبة أنصت إليها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشّعر، ولا هو بالسحر، ولا بالكهانة» «4». لقد أنصت بارتياح إلى هذا النص الإلهي، وأبعد عنه تهمة الشعر لما وجد فيه من حلاوة خاصة تتخلل كلماته، وذلك النسق الفريد الذي اتسم به. ولا يقتصر مفهوم الأقراء- القوافي- في كلام أنيس رضي الله عنه على الكلمة الأخيرة من الآية أو البيت الشعري، بل يشمل كل النشاط الفني، ويبدو

_ (1) انظر ابن هشام، سيرة النبي: 2/ 368. (2) مسلم، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 6/ 28، أقراء الشعر: قوافيه. (3) سورة فصّلت، الآية: 1 - 5. (4) ابن هشام، سيرة النبي: 1/ 313.

هذيان مسيلمة

أنه تنبه إلى تنوع روي الفواصل، وهذا يتّضح في السور المكية التي كان هذا الرأي وغيره في زمنها، ولقد لمس التفاوت الكبير بين القرآن والشعر، وإن كان أقلّ تعمقا من الوليد. حار العرب في أمر القرآن، وقد عجزوا عن معارضته، بماذا يواجهون هذا الإعجاز؟ فجعلوا القرآن شعرا، واتهموا النبي بالكهانة والسحر، وكل هذا يدل على اضطرابهم، وفقدان الموضوعية في اتهاماتهم، فالدقائق الفنية الموسيقية في القرآن تثبت وجودها، وتؤكد عجزهم، يقول دراز: «إن أول شيء أحسته الأذن العربية في نظم القرآن، هو ذلك النظام الصوتي الذي قسّمت فيه الحركة والسكون تقسيما منوعا يجدّد نشاط السامع لسماعه، ووزّعت في تضاعيفه حروف المدّ والغنّة توزيعا بالقسط يساعد على ترجيع الصوت به .. إلى أن يصل إلى الفاصلة، فيجد عندها راحته العظمى» «1». هذيان مسيلمة : خشي المشركون من صراحة الوليد وعمق نظرته، واستخفّوا بكلام مسيلمة الذي التفّ بعضهم حوله عصبية ونتيجة النّعرة الجاهلية، وما هو إلا التفاف قبلي غاشم، فقد عيّروا الوليد، إذ صبأ عن دينهم، فلم يجد له مخرجا لكي يحفظ ماء وجهه،- وهو ذو مكانة- إلا أن يؤكد عدم استطاعة العقل البشري وحده على قول القرآن، فما كان أمامه إلا أن ينسبه إلى السحر إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ «2»، فهو بهذا الكلام يعترف بأن القرآن ليس كلاما معتادا. وكان من وجوه إجمال القدامى ما يتجلّى في تكذيب مسيلمة، فقد أثبتت المصادر نتفا من هذيانه وتعلقه بالشكل، وفي هذا المجال يستثنى الخطّابي، فهو الوحيد الذي أطال الوقوف، ليحكّم منطق العربية بين القرآن، وما لهج به لسان مسيلمة، فهو يقول عن شروط المعارضة: «وسبيل من عارض صاحبه في خطبة أو شعر أن ينشئ له كلاما جديدا، ويحدث له معنى بديعا، فيجاريه في

_ (1) دراز، د. محمد عبد الله، 1960، النبأ العظيم، ط/ 2، مطبعة السعادة بمصر، ص/ 97. (2) سورة المدثّر، الآية: 24.

لفظه، ويباريه في معانيه ... وليس بأن يتحيّف من أطراف كلام خصمه، فينسف منه، ثم يبدّل كلمة مكان فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق» «1». وهو ينطلق من الواقع الأدبي لاستخدام الكلمة وتركيب الكلمات. ونحن لا نطلب منه أن يقول مسيلمة بشر، والقرآن كلام الله، وعلى أية حال، فالقرآن توحيد وتشريع وحقائق كونيّة لا تقرن بهذيان من انبهر بالشكل، فقلّده في حركة يائسة، وبدّل كلمات الإيقاع الموسيقى الذي اتسمت به السّور المكية القصار خاصة، وظن أن الأمر سهل التناول والإحاطة به كما يوسوس له، كأن يقول: «الفيل وما الفيل وما أدراك ما الفيل ... إلى آخر هذا الإسفاف. ويعلّق الخطّابي على خطله في استخدام هذا النظم من وجهة نظر مضمونية: «أما علمت يا عاجز أن مثل هذه الفاتحة، إنما تجعل مقدمة لأمر عظيم الشأن فائت الوصف متناهي الغاية في معناه، كقوله تعالى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ «2»، وهنا يظهر معنى الترقيع، وإنها لخطوة مباركة من الخطّابي، لم نجدها عند من تلاه. ومن مظاهر سبر الأغوار عند الخطّابي تمحيصه استخدام مسيلمة العابث للمفردة، وقد فنّده الخطّابي بموضوعية، فهو ينقد قوله: «ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى» فيقول: «فإنّ أول ما غلط به هذا الجاهل، أنّه وضع كلمة الانتقام في موضع الإنعام .. وإنما تستعمل هذه الكلمة في العقوبات ونحوها، وإنما وجه الكلام مما رامه من المعنى أن يقول: «ألم تر إلى ربك كيف لطف بالحبلى» «3». فكلمة «فعل» تعبر عن التهديد والعقوبة كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ «4»، وقد وردت في ذكر عاد وثمود وفرعون، وإلى

_ (1) الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 53. (2) سورة الحاقّة، الآية: 1 - 3، والخطابي، ثلاث رسائل، ص/ 61. (3) الخطّابي، ثلاث رسائل، ص/ 63. (4) سورة الفيل، الآية: 1.

هذا اشار الجاحظ عند ما نبّه على الفرق بين المطر والغيث، والجوع والسغب «1»، لذلك يبدو واضحا أن كلمة «فعل» لا تناسب ضعف الحبلى. لقد درج العلماء على تسفيه كلام مسيلمة، ونالوا منه بعبارات الاحتقار من غير تبيين وجه سفاهته، وتقول عائشة عبد الرحمن عن الباقلاني: «ملأ ثلاث صفحات من كلام مسيلمة وسجاح التميمية، ليقول: «ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام» «2». ويمكننا أن نردّ على كلامها ملتمسين العذر لمنهج القدامى في أنهم اعتمدوا الحكم الإجمالي بلا تفصيل اعتمادا على ظهور السّخف والضعف في كلامه، خصوصا أن عصرهم عصر نضج علم اللغة العربية، ونستند في هذا الرأي إلى الشرط الذي ذكره الباقلاني، وهو إتقان فنون العربية لفهم البلاغة القرآنية، إذ قال: «أما البليغ الذي أحاط بمذهب العربية، وغرائب الصّنعة، فإنه يعلم من نفسه عجزه عن الإتيان بمثله، ويعلم بمثل ما عرف عجزه عجز غيره» «3». وكان من الطبيعي ألا يلجأ مسيلمة إلى الشعر، فقد أدرك البون بينهما في الظاهر، ولعلّه أدرك الموسيقا الداخلية وأبعادها النفسية، فتجاهلها، وتجنّبها لعدم قدرته على معارضتها، فقد كان الأمر يحتاج إلى إحاطة بالغة لا يصلها بشر، وهي إحاطة ترتيب الحروف والحركات، فظلّ في معارضته ناثرا شكليا. ولم يكتف بتقليد الفاصلة، بل عمد إلى شيء من الموازنة في بعض هذيانه، ومن أقواله ما يذكره الباقلاني: «والليل الأصحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، وما انتهكت أسيد من محروم» «4»، فالكلمات السابقة على وزن واحد، لأن القافية على وزن «أفعل» أصحم، أدلم، أزلم، والقافية الداخلية على وزن «فعل»، وهذه الشكلانية المحضة قد أوقعت به في الغريب مثل الأدلم والأزلم، وفي سوقية اختيار الذئب ذلك الحيوان المفترس الخدّاع، وتتبدى الوعورة في

_ (1) انظر الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 44. (2) عبد الرحمن، د. عائشة، الإعجاز البياني للقرآن، ص/ 75. (3) الباقلاني، إعجاز القرآن، ص/ 43. (4) الباقلاني، إعجاز القرآن، ص/ 56.

صوت «الأصحم» التي ينفر منها الذوق، لثقلها وشدّة جهرها، فإذا قارناها بقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ «1» لمسنا التفاوت، فالهمس يتجسّد في تكرير السين، وهو يناسب الليل، وليس هذا في تسكين الصاد المطبق، وتسكين الميم الشفوي، فكأن «عسعس» ترسم الأجواء الليلية الهادئة، ويمكن أن نقارن بقوله عز وجل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى «2»، ولهذا ندرك عدم مراعاته للسلاسة التي هي جزئيات الكلمات الحاملة للمعاني المقصودة. لقد أولع هذا الرجل بالقوالب الظاهرة في قصار السور المكية، فلجأ إلى أمثال الأدلم والأزلم والجماهر، فأخفق في هذا الجزء من الكتاب الأعظم، ناهيك عن سائر السور القرآنية، وقد حسب أن داء الإغراب هذا يغطّي تفاهة مضمون كلامه، فوقع في هذيان كان القتل شفاء له من هذا الداء. وفي إمكان المرء أن يقدم دراسة مستفيضة لأقواله، فيشذّبها من خلال علم فقه اللغة على الأقلّ، وذلك بنزاهة علمية، ليبين خطله. وكان يجدر بالرافعي الذي أفاض في دراسة النظم الموسيقى للقرآن أن يطبق نظريته على كلام مسيلمة، كما طبق الخطابي إحساسه بالفروق اللغوية على استعمال مسيلمة المشين، على الرغم من إيماننا بتفاهة مضمون كلامه، فما هو إلا تخرّصات، ولا بد لنا أن نكذبه في تقليده الشكلي، لنؤكد أن الصورة الفنية للقرآن لا تصلها بلاغة بشر، لأن المضمون القرآني بمنأى عن هذيانه، أي بمنأى عن موضوعاته التافهة مما جرى على لسانه، والنّعرة الجاهلية لم تكن عمياء عن سخف ما قال، وقد كان في إمكان الرافعي أن يقدم دراسة صوتية، وليس يكفي أن يقول: «كل كلامه واه سخيف لا ينهض ولا يتماسك، بل هو مضطرب النّسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه» «3». فليس يتوضح معنى الاضطراب والتماسك والاستهلاك، وهو الأديب الذي ينثر صفحات في تأمل آية واحدة، فالإجمال لا يقتصر على القدامى.

_ (1) سورة التكوير، الآية: 7. (2) سورة الليل، الآيتان: 1 - 2. (3) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 175.

- معارضة الشعراء للقرآن:

لقد نبذ التعبير القرآني جانبا قيود القافية الشعرية الموحّدة، والوزن الواحد الذي يبعث أحيانا على الرّتابة، خصوصا إذا نظرنا إلى تلوّن إيقاع القرآن مع تلوّن المواضيع، وإضافة إلى هذا لا تكون الفاصلة قلقة، بل توافق بنيتها المعنى المقصود تماما إذا كان المعنى يتمتّع بأكثر من صيغة مثل «قادر ومقتدر» و «غافر وغفّار» وعال وأعلى، وقد اعتمد إيقاع التكرار، وأحيانا نجد لازمة موسيقية مثل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «1» وتبدو عنصر تنبيه وإمتاع معا، فقد تكررت هذه اللازمة في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة فالقرآن نظام صوتي حرّ وجديد. تصور بعضهم قربه من الشعر، كما رأى المشركون، وقرّبه بعض المحدثين من النّثر، والحق أن الشبه الظاهري الذي يذكره الأقدمون بين القرآن والشعر غير تام، فرتابة الوزن استعيض عنها بإيقاع يبعث على الراحة في مكان، وعلى الانفعال القوي في مكان آخر، وقد تجسدت المشاعر في طول الآيات وقصرها، وهذا الشبه الظاهريّ الناقص ليس وحيدا في تهمة الشعر، بل السبب الأقوى هو العناد، إنما استغلّوا هذه الطريقة في القرآن لدعواهم الباطلة. - معارضة الشعراء للقرآن: ومن مظاهر حرية الفاصلة أنها حرة موسيقيا مقيدة بالمعنى، وقد تجاوزت أسسا كثيرة من أسس فنّ القافية، كوحدة حركة الحرف الذي يسبق الرّدف، أي الحذو، واختلاف سناد التوجيه أي حركة الحرف الذي يكون قبل الرّويّ المقيد، مثل «اصبر، ونظر»، والأمثلة كثيرة على حرية الفاصلة وجمالها معا، وكذلك اختلاف الرّويّ. ولقد تحدث القدامى من الدارسين كالباقلّاني «2» وغيره عن مواضع تشابه القرآن والشعر، ومواضع اختلافهما، ودفعوا عن القرآن تهمة الشعر والسجع، وشغلهم هذا الردّ عن معرفة ما وجد بديلا عن هاتيك القوقعة والجمود والرّتابة.

_ (1) سورة الرحمن، الآية: 13. (2) انظر الباقلاني، إعجاز القرآن، ص/ 51.

وتدلنا كتب الإعجاز على تعلّق الدارسين بالشعر، ونحن نأسف لأن نجد ما يشبه هذا التعلق إذا قرأنا ما جاء في كتاب نعيم الحمصي، فهو يرى أن بيان القرآن أعجز العرب الأوائل معاصري الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنهم شعراء فقط، والقرآن أقرب إلى النثر منه إلى الشعر، فهو يقول: «لتخلّف العرب في فني النثر والخطابة كانت دهشتهم من بيان القرآن وأسلوبه عظيمة جدا، دونها دهشة وتقدير الأدباء العباسيين الفحول الذين تجرّأ بعضهم، أو اتّهم بأنه تجرّأ على معارضة القرآن» «1»، وكلنا يعلم أن الذين اتّهموا بمعارضة القرآن شعراء على الأغلب. وهذا الرأي مردود، لأن الخطابة لم تتخلف عن الشعر، فقد كانت في مستواه جودة وتحبيرا، ونبغ خطباء مفوّهون في الجاهلية شهد لهم بالبراعة، واستجلاء الفكر، إلا أن الشعر كان من جهة الكم أكبر واستعماله أكثر، وهو أسهل حفظا نتيجة موسيقاه، فتداولوه في الحرب والسلم، ثم إن العرب قارنوه بالشعر، وليس بالنثر، وقد ارتأت لهم القرابة من جرّاء فواصله، ثم تراجعوا عن كونه شعرا، وما كلامهم في شئونهم وأمورهم المعيشية إلا خطب فصيحة تفوق ما جاء به العباسيون. ثم إذا كانت دهشة العباسيين أقلّ من الجاهليين- كما يرى الباحث- فهذا يعني مع الطرد العكسي تقدم الزمان وتأخر البيان القرآني، وكأنما يعني الباحث في كلامه اطراد قلّة الدّهشة في ظروف تقدّم الأدب، والعكس هو الصحيح، فكلما نضج الأدب ازداد بيان الإعجاز، وهذا ما تثبته الدراسات الحديثة. ومن المحذور في هذا المقام ما ذكره «عز الدين إسماعيل الذي خيّل إليه أن بعض الشعراء قد عارض القرآن في صورته الأولى، فتوصل إلى مرتبتها الفنية، فهو يقول: «هكذا يقف الشعراء من ذلك الأثر الأدبي- القرآن- يقيسون به أنفسهم أحيانا، ويأخذهم الزهو، فيفضّلون إنتاجهم عليه في بعض الأحيان، ولكنهم في كل الحالات لم يكونوا يتأثرونه، أو ينحون عليه إلا في ناحيته

_ (1) الحمصي، د. نعيم، 1955، تاريخ فكرة الإعجاز، ط/ 1، المجمع العلمي العربي، دمشق، ص/ 11.

الشكلية، أي في صورته الأولى، أما ما فيه من أخلاقية، فقد كانوا بعيدين كل البعد عنها» «1». والحق أن كل شاعر يصبح دعيّا في الأدب إذا توهّم أنه قادر على معارضة القرآن، والتفوق على أسلوبه، لأنه حينئذ يبرهن على جهله بجزئيات فن الشعر الموسيقية، وليست الموسيقا القرآنية منفصلة عن المضمون الأخلاقي، ولا يحق أن ندّعي أن بعض الأدباء فضّلوا أدبياتهم على القرآن، فنالوا شرف رتبته في الصورة الأولى كما يسميها الباحث، ونظل نكتفي بغائيته ومضمونه الأخلاقي والغيبي وغير هذا، ليكون هذا وحده عزاءنا- نحن المسلمين- بل نرفض كل مقولة تتماشى مع هذه المقولة الباطلة منطلقين في حكمنا من دراسة فن الكلمة العربية على الأقل، ولم يتوصل الشعراء- إن صحّ الادعاء- إلى شيء، إن هي إلا شائعات روّجها رواة مغرضون بعيدون عن الروح العلمية، والدوافع الموضوعية. ولقد تحدّى القرآن العرب الفصحاء الذين عهد عنهم التحدي بالشعر، فكانت لهم مساجلات شعرية، وإذا كان هؤلاء قد استيأسوا من حق معارضته، فإنّ عجز من كان بعدهم أبين، أما وضع كلمات على وزن كلمات القرآن، فهذا ما يدعو إلى السخرية بعد أن تفضح اللغة كاتبها، ويجب التنويه هنا بأن الأديب البليغ يزداد شعوره بعجزه عن معارضة القرآن، والوصول إلى مرتبته حينما تسمو بلاغته، لأن الأمر لا يقتصر على تقليد الرّويّ والوزن كما تكون معارضة الشاعر لشاعر آخر، بل سيصدم الأديب حين يحاول المعارضة بأنه أمام نسق فني لا يقع على مثله في إبداع البشر، والسر في ذلك أن القرآن عني عناية فائقة بدقائق فنية تظهر لكل متدبّر واع متذوق، فيفهم منها أن قائل هذه الكلمات لا يمكن أن يكون من البشر. أما ما تناقله بعضهم من أخبار حول معارضة أبي العتاهية لسورة واحدة في إحدى لياليه، ورجوعه عن هذا، فخبر لا صحّة له، وكذلك ما يروى عن المعري الذي ذكر ما ينمّ على شكّه في اللزوميات، وهذا لا يعني استمراره في الشك أو معارضة القرآن، وما كتابه «الفصول والغايات» الذي اتهم بأنه عارض

_ (1) إسماعيل د. عز الدين، الأسس الجمالية، ص/ 186.

- الإجمال في التذوق السمعي:

القرآن به إلا تمجيد وتسبيح لله، وهو شاعر زاهد كأبي العتاهية، فلا يمكن الاعتماد على شائعات أدبية «1» - كما صنع الباحث- للنيل من رفعة الإعجاز الفني في أسلوب القرآن، وهي شائعات- إن صحت- كانت دليلا على سمو البيان القرآني على غيره. فالبشر لا يمكن أن يأتوا بمثله لا في الصورة الأولى، ولا في الصورة الثانية، وذلك لأن الخالق عزّ وجلّ يقول عن كتابه: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «2»، وقال تبارك وتعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3». - الإجمال في التذوق السمعي: ظلّت المصطلحات الموسيقية مجملة في بداية دراسة الإعجاز، وكان هذا أشبه بالداء الذي استشرى قرونا، ولقد ابتلي الرافعي وقطب وغيرهما بهذا الداء في عدم تفسير إعجابهما بكثير من الموسيقا التي لمحاها في القرآن، وكذلك القدماء الذين لم يكونوا على جهل بالتذوق السمعي، إنما لم تساعدهم المصطلحات التي اعتمدوها على كشف جمال الميزات الفنية في إطار تحليلي إلا ما ندر، وإن كانوا قد وصلوا في دراساتهم إلى جماليات سمعية من خلال التفكير بالفواصل، ودفاعهم عن القرآن في دحض شبهة الشعر، وقد ماثلوه بالشعر والنثر بمصطلحات نقدية، مثل: التوازن والانسجام والازدواج والتكرار، وردّ العجز على الصّدر، كل هذا كان مساهمة في دراسة الإيقاع، وقد نظروا إليه من ناحيته الشكلية. إن وعي القدامى كان مغلّفا بكلمات تعارفوا عليها وتداولوها، ونتّخذ الخطّابي نموذجا منهم، إذ يقول: وأما ما ذكروه من قلة الغريب في ألفاظ القرآن، بالإضافة إلى الواضح، فليست الغرابة مما شرطناه في حدود البلاغة،

_ (1) انظر ضيف، د. شوقي، 1960، الفن ومذاهبه في النثر العربي، ط/ 3، دار المعارف، بمصر، ص/ 281. (2) سورة هود، الآية: 1. (3) سورة النساء، الآية: 82.

وإنما يكثر الغريب في كلام الأوحاش من الناس، والأجلاف من جفاة العرب» «1». والمقصود بالغرابة نفور السمع وصعوبة النطق لكلمات أهملها الذوق العربي، وقد ترد على لسان الأدباء، وتتعين أحيانا في تقارب المخارج، أو تكررها مثل «مستشزرات» وغيرها مما يحصيه علماء اللغة. والخشونة تنبع من طبع المتكلم، فقد رأى النقاد أثر خلقة الفرزدق وخلقه في مفرداته «2»، ولم يكن هدف القرآن الإغراب لمنافسة إحصائية تجمع الصّالح والطّالح من الكلمات، كما عهد هذا في فن المقامات التي أغرقت في كثير من الكلمات القاسية التي أهملها القرآن. وهذه المصطلحات الموسيقية في الفن القولي هي أوضح لدى ابن الأثير ومن تبعه، وكان يحبّذ جهدهم الكبير في هذا المجال الذي يقوم على تفسير الذوق وتقديم معايير مستخلصة من النص، ومن المتعارف عليه في فن الأدب، بدلا من الارتياح الذاتي للمفردات الليّنة، وكما قلنا سابقا كان بإمكانهم الاستفادة من علم التجويد وفقه اللغة لسبر موسيقية الكلمات. لم تكن القيمة السمعية إذا خافية عليهم، فقد اصطلحوا على عبارات تشمل كلّ جمال سمعي في المفردة، وربطوه بمقولة الكلام الفصيح، ولا شك أن الفصاحة ارتبطت بشكل الكلمة، وأنها جزء من البلاغة التي تشمل الشكل والمضمون. وكانوا يطلقون لدى إعجابهم كلمات بمنزلة تفريعات للفصاحة، فقالوا: عذب، رونق، رقيق، سلس، مليح، فخم، إلى آخر هذه الكلمات التي تنفي الوحشية والوعورة، وفي هذا تقول روز غريبه: «وقد جعلوا السلاسة والانسجام المحلّ الأول في كتب النقد، فسموا ذلك حلاوة النّغمة، وسمّوه فصاحة المفرد، أي أن يكون اللفظ سمحا سهل مخارج الحروف، وفصاحة

_ (1) الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 49. (2) انظر ضيف، د. شوقي، 1977، التطور والتجديد في الشعر الأموي، ط/ 6، دار المعارف، القاهرة، ص 210 وما بعدها.

المركب، أي انسجام الألفاظ مجتمعة، وائتلافها وعدم وتنافرها» «1». والخطوة الأولى في هذا المجال للرماني الذي مهّد لابن سنان وابن الأثير بعده توسيع مفهوم الانسجام في مخارج الحروف، وإنما ظلّ القدامى مقصّرين في جانب الدلالة النفسية للقيمة الموسيقية في القرآن، فغالبا ما ربطوا الأمر بالأذن فقط، فقد دلّوا على صورتها الأولى، فأحسّوا جمال الوقع على الأذن، ولم يفهموا علّة تنوع النّسق، واختلافه من سورة لسورة، ولم يتعمّقوا فيما تبثه الموسيقا من مشاعر ارتياح أو انقباض وتفاعل حي، ولمحمد الحسناوي جهد إحصائي تطبيقي في هذا المجال في كتابه «الفاصلة في القرآن»، وقد خص الباب الرابع منه لإيقاع الفاصلة وجمال مكانها من الآية مستعينا بفن الموسيقا وعروض الشعر «2». ولا بدّ من الإشارة إلى جهود الأسلاف التي مهّدت للمحدثين، وكانت عونا لهم، وإن اختلفت المصطلحات، وفي هذا تقول روز غريب: «وقد شغف العرب بموسيقا اللفظ، وازدانت بها لغتهم منذ نشأتها، وما التسجيع والتوزان والازدواج، وأنواع البديع، وقوانين الإعلال والإدغام، وعدم جواز البدء بالساكن، ما هذه سوى مظاهر أخرى لاهتمامهم المفرط بجمال الرنّة وحسن الإيقاع» «3». ويضاف إلى كلامها أن دارسي الإعجاز، كان بإمكانهم الاعتماد على علم القراءات والتجويد وفقه اللغة للوصول إلى دقائق موسيقية قد لا تراعى إلا قليلا في الشعر، فالشعراء لم يجيدوا استخدام «الرّنّة» في التعبير عن المعاني الذهنية النفسية على الرغم من وجودها في التراث العربي كما تقول غريبه. وموسيقا القرآن واضحة لكل نظر دقيق، وهي ذات هدف ديني جمالي معا، فهي رمز هادف، ولربما توضّح هذا في حلاوة ألفاظ بعض الغزل، ولكنه لم يطرد في كل معاني الشعر، وفي القرآن نجد أن الموسيقا أداة طيّعة في إبراز

_ (1) غريب، روز، 1952، النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، ط/ 1، دار العلم للملايين، بيروت، ص/ 132. (2) انظر، الحسناوي «الفاصلة في القرآن»، ص/ 201 وما بعدها. (3) غريب، النقد الجمالي، ص/ 132.

معاني الشدة والرحمة، التهديد والتّلطّف، وسيتضح هذا في مكانه من البحث. ونستطيع أن نجزم بأن المحدثين الذين تنبّهوا إلى تجسيد الأصوات للمعاني، ما استطاعوا الاستفاضة فيه لولا تعليق القدامى على جزالة الألفاظ ورقّتها، وبحوثهم في فقه اللغة والتجويد، حيث قسّموا المخارج، وبيّنوا صفات الحروف، فهي مطبقة وشديدة ورخوة وهامسة، حيث قسّموا المخارج، وبيّنوا صفات الحروف، فهي مطبقة وشديدة ورخوة وهامسة، بل أسهبوا في كيفية خروج الصوت حتى يصبح حرفا بدءا من الحلق حتى الشفاه، كما صنع ابن سنان وابن جني وغيرهما، وسوف نعتمد دراستهم في بسط تحليلات المحدثين والقدامى لموسيقى الألفاظ، وتفسير هذا من خلال فقه اللغة. وهناك رأي طريف لا بد من ذكره، للطيب المجذوب، في عدم استخدام القدامى لمصطلح «الجرس» واستعمالهم مصطلح «الفصاحة» بدلا منه، وهو يؤكد أن الرادع الديني هو السبب، فقد قال: «ومن العجيب حقا، أن النقاد، وهم يشملون دارسي الإعجاز، ضلّ عنهم أن يستعملوا كلمة «الجرس» استعمالا اصطلاحيا، وهي أولى من كلمتهم «الفصاحة» وأحسب أن للدّين يدا في هذا، فقد كانت الموسيقا والغناء، لولا تعشّق بعض العلية من الخلفاء والأمراء وبعض أهل الذوق من المتصوفة لها، بالمرتبة السفلى والحضيض الأوهد في نظر الناس» «1». ومن الحيف أن نقبل بهذا التفسير النائي عن الحقيقة، ونرد عليه بأن المعجم يثبت أن الجرس لغة: صوت النحل وهو يرعى الزهور للتّعسيل، لذلك لم يستعمله القدامى، واستعملوا كلمات الليونة والفخامة، ويقول المعجم أيضا، سمعت جرس الطير يعني سمعت صوت مناقيرها على شيء تأكله» «2». ولعل هذا ما نفّرهم من استعماله، فقد رأى دارسو الإعجاز خاصة أنها لا تليق بدراسة القرآن. والجرس هو الصوت الخفي، أما الفصاحة فهي

_ (1) المجذوب، المرشد لفهم أشعار العرب: 2/ 3. (2) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط: 1/ 117.

الخلوص كما فسّرها البلاغيون فالجرس لا يعني الفصاحة التي هي بيان، فقد يكون الجرس جميلا أو قبيحا. ولا علاقة له بالفصاحة، وتفسير المجذوب خاطئ. أخيرا نقول إن جهود القدامى على إجمالها جديرة بالاهتمام، فنحن لا نطالبهم بما قدّمه عصرنا من فنون وثقافات، فلهم زمانهم ولنا زماننا، وإن الموسيقا القرآنية ذات مغزى، وهي جزء من الشكل الفني للقرآن إلى جانب الصورة البصرية وغيرها، وعلينا أن نهتدي بهدي القرآن الذي حثنا على تذوق موسيقاه، وما تبع هذا من السّنّة الشريفة، والفنون التي كشفت هذه المزايا الرفيعة التي شهد لها المؤمنون والمشركون بالمرتبة العليا كما مرّ بنا. لقد رأينا أن نمهد السبيل إلى الفصول اللاحقة بهذه الفقرات التي تمثّل إطلالة على محتوى الفصول الأخرى، فبينّا في الفقرة الأولى إمكان تفرد الكلمة الواحدة بالجمال من خلال تفاعلها مع سائر كلمات السياق، فمنحناها الجزء الكبير من جمال التركيب على أنها الوحدة المشكلة له، وبيّنّا أنها تتسم في القرآن بعذوبة السمع والنطق، وبأنها غير قلقة في مكانها، وهذا ما سيؤكده دارسو الإعجاز والمفسّرون الذين تحدّثوا عن مناسبة المقام وحلاوة النغم في الوقت نفسه. وهذا يتضح في صحّة العلاقة بين المفردة والنظم، كما جاء في الفقرة الثانية، وهنا لا بدّ من إنصاف عبد القاهر الجرجاني الذي بسط نظرية النظم، وإن لم تكن من إبداع فكره، بل سبقته بعض النظرات المتفرقة في كتب الإعجاز، وكان مفهوم النظم القرآني قبله يشمل الأسلوب القرآني بما فيه المفردات، أما عبد القاهر فقد بنى النظم على أسس النحو فأهمل المفردة، ويظلّ الفضل لهذا العالم الجليل الذي قدّم تطبيقا بلاغيا، وأرسى علم البلاغة العربية، ووضّح معالمها، وكانت الغاية الدينية دافعا قويا في كتابه «دلائل الإعجاز»، إذ كان حريصا على إبراز جماليات النظم القرآني، ولم يكن هدفه فنيا محضا، وقد كان النظم مناط الإعجاز القرآني لدى سابقيه، ولا سيما المعتزلة منهم.

ويتبين لقارئ كتابه أن الدفاع الديني- إن صحّ التعبير- قائم على أسس علمية يدعمها الذوق الرفيع بالتطبيق الوافي، وهو حقيق بأن يعدّ مؤسس فنّ التذوق الأدبي في تراثنا، إذ ينطلق من النص نفسه وجزئياته الدقيقة، ليحكم ويقدم القيمة الفنية، وهذا ما تدعو إليه أحدث المدارس النقدية اليوم. وما تأكيدنا على حق المفردة بالجمال الفني- كما أكّد الدارسون- إلّا إضافة على نظريته، وليس نقضا لها. وكذلك تطلّ الفقرة الثالثة على الفصول الأخرى، ولا سيّما الرابع منها، لأن الدارسين اعتمدوا على الفروق في تملّي جمال المفردة ومناسبتها للمقام، واختزانها للمعاني الكثيرة وظلالها النفسية، ومطابقتها للعقل والوجدان، وهذا تطلّب منهم الاعتماد على الفروق بالإضافة إلى معايير أخرى. كما أنّ هذه الفقرة تطلّ على الفصل الثاني، إذ يؤدي الاختيار الدقيق للمفردات إلى قدرة فائقة في تصوير المشاعر والمشاهد، ولا سيّما المفردات الحسّية المستعارة، لتجسّم الحركة المشاهدة وتصوّرها، وتصوّر الحركة النفسية، وقدرة هذه المفردة على التشخيص الحي، وغير هذا. أما الفقرة الرابعة، فهي تمهّد السبيل إلى الفصل الثالث، وتعدّ نافذة على فقراته، وقد أكّدنا فيها الطابع الموسيقى للقرآن، ودعوة القرآن الكريم والسّنّة الشريفة إلى استيعاب أنغامها وتذوقها، وفي هذه الدّعوة وضع لليد على جزئيات الإعجاز، ورأينا أنّ الجمال الموسيقى في القرآن جليّ كالفواتح والفواصل، وخفي يشتمل على نسق الحروف والحركات مما يناسب المعنى. وبما أن العرب فرسان الفصاحة، فقد شهدوا بتفرد الشكل القرآني المعجز، وقد سجّلنا بعضا من شهاداتهم التي تشيد بالعنصر الموسيقى الذي فهموه بالفطرة. كما ألمحنا إلى وقوع الدّارس القديم على جمال الأنغام، وذلك وفق مصطلحه، وقد كان هذا المصطلح المجمل مشتملا في الحقيقة على الجزئيات التي درسها المتأخرون، وأبرزوا جمالها.

الفصل الثاني إسهام المفردة القرآنية في الجمال البصري

الفصل الثاني إسهام المفردة القرآنية في الجمال البصري

1 - إسهام المفردة في التجسيم

1 - إسهام المفردة في التجسيم أراد الخالق عز وجل أن يسهّل على عباده فهم القرآن، فجسّم لهم كثيرا من المعاني الدينية، إذ نقلها البيان القرآني من حيّز المجرّد الذهني إلى حيّز المادي المحسوس بوساطة الاستعارة، ومن هذا القبيل التعبير عن الهدى بالضياء، والضلال بالظلام، وكان هذا الأسلوب الحسي من عوامل استمرار تأثير الصورة القرآنية، كما أنه استخدم هذا في المتشابه المعنوي كالتعبير عن القدرة باليد والهيمنة بالكرسي وغير هذا، إضافة إلى الصورة الفنية. - التجسيم لغة: يبيّن لنا المعجم أن التجسيم يدلّ على ظاهر محسوس، ففي لسان العرب: «الجسم جماعة البدن أو الأعضاء من الناس والإبل والدّوابّ وغيرهم من الأنواع العظيمة الخلق، وجسم الشيء حقيقته» «1» وفي المعجم الوسيط نقرأ: «الجسم: الجسد، وكل ما له طول وعرض وعمق» «2» فهو يمتاز بأبعاد ثلاثة. - التجسيم اصطلاحا: يتبين لنا من المدلول اللغوي أن مصطلح التجسيم مشتق من جسم، فمصطلح «التجسيم» يعني إعطاء الفكرة جسما، هذا ما يلوح من الأصل اللغوي والاشتقاق. أما المعنى الفني المراد هنا فيقول فيه المعجم الأدبي: «هو ميل معاكس للتجريد، أي إبراز الماهيات والأفكار العامة والعواطف في رسوم وصور وتشابيه محسوسة، هي في واقعها رموز معبرة عنها» «3».

_ (1) ابن منظور، محمد، 1956، لسان العرب، ط/ 1، دار صادر، بيروت، مادة (ج س م): 12/ 99. (2) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مادة (جسم): 1/ 123. (3) عبد النور، جبور، 1979، المعجم الأدبي، ط/ 1، دار العلم للملايين، بيروت، ص/ 59.

- مع جهود القدامى:

ولا نجده متداولا لدى الأسلاف، إنّما وقعوا على مفهومه، وإن اختلفت عنا تسمياتهم، فهو عندهم تشبيه المعقول بالمحسوس، وتكاد عناوينهم تماثل مصطلحاتنا النقدية التي استنارت بالعلوم الحديثة من فلسفة وعلم نفس ونقد حديث وعلم جمال، يقول صبحي الصالح عن الكتب القديمة: «توحي عناوينها بالكثير مما ينطق به مفهومنا الحديث للإعجاز، ولكن حين نمضي في قراءتها لا نستطيع أن نتملّى فيها جمال القرآن، وإنما نكوّن فكرة عن ولوع علمائنا بالتفريع والتبويب» «1». والتجسيم جزء من التصوير، لأن التجسيم يتضمن إسباغ المظهر الحسي على الشيء المعنوي، والتصوير يشمل تشبيه المعقول بالمحسوس، والمحسوس بالمحسوس، فهو مصطلح أعمّ، ويستخدم التصوير وسائل مختلفة، كالحروف والأفعال والحوار وغير هذا. أما وسائل التجسيم الموجودة في البيان القرآني، فهي مفردات مستمدة من الطبيعة الجامدة، والطبيعة المتحركة، ونقتصر هنا على الطبيعة المجسّمة للمعاني المجردة، أو حسب ما يقول القدامى «تشبيه معقول بمحسوس»، وسنفصّل القول في استخدام مفردات الطبيعة في فقرة تالية، وقد رأينا أن نستخدم مصطلح «التجسيم» دون «التشبيه»، لأن تجسيم الأفكار يعتمد على تشبيه المعنوي بالحسي، وعلى استعارة كلمة حسية للمعاني المجردة. - مع جهود القدامى: إننا نقع على جهد وفير بذله القدامى في هذه الجمالية، وهذا الجهد يقدّم تحت عنوان التشبيه أو الاستعارة، وهذا لم يمنع أن يبدوا تأملاتهم في قدرة المفردة المستعارة على إبراز المعاني الذهنية في صور حسية مؤثّرة. ولا بدّ من الوقوف عند الرمّاني لمعرفة منهج الدارسين حسب التسلسل التاريخي في استخدام المفردة المجسّمة، يقول في الآية الكريمة: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ

_ (1) الصالح، د. صبحي، 1982 - مباحث في علوم القرآن، ط/ 14، دار العلم للملايين، بيروت، ص/ 321.

عاصِفٍ «1»: بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقع عليه» «2». وهذا لا يبتعد عن مفهومنا للتجسيم الذي يقدّم المعنى في صورة بصرية لغاية التأثير، وإن كان هنا لا يؤكد أهمية مفردة الرّماد، وقد قلّده اللاحقون فعدّدوا أنواع التشبيه، فقالوا: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، وإخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به، وإخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها، وإخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوّة «3». ولا يهتم الباقلّاني بالمصطلح، بل يدلّ على جمال تصوير ما في النفس، فقد جاء في كتابه «4»: «ومما يصوّر لك الكلام الواقع في الصفة تصوير ما في النفس، وتشكيل ما في القلب، حتى تعلمه كأنك مشاهده، وإن كان يقع بالإشارة، ويحصل بالدّلالة والأمارة قوله تعالى: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً «5»، وقوله تعالى: قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «6» وتستوقفنا في كلامه عبارة «تصوير ما في النفس»، وعبارة «كأنك مشاهده»، وهذا خير دليل على سموّ تذوق القدامى وإدراكهم لجمالية التجسيم وفائدته في التأثير الوجداني، ويمكننا أن نقدمه على تعريف الرماني، فالباقلّاني يشير إلى عوامل هذه الصورة البصرية وفاعليتها، والتجسيم تصوير على أية حال. وإذا عدنا إلى الآيتين اللتين استشهد بهما نجد أنه يقصد الإضاءة التي تنبع من كلمتي «أفرغ» و «منقلبون»، وإن كان لم يصرّح بهذه الجزئية، فهذا شيء يفهم من الآية، وهو يدرك أن معاصريه لفصاحتهم يدركون مكان الشاهد،

_ (1) سورة إبراهيم، الآية: 18. (2) الرمّاني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 76. (3) انظر مثلا، العسكري، أبو هلال، الحسن بن عبد الله، 1952، الصناعتين، تح د. محمد أبو الفضل إبراهيم، د. علي محمد البجاوي، ط/ 1 دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ص 240. (4) الباقلاني، محمد بن الطيّب، إعجاز القرآن، ص/ 244. (5) سورة الأعراف، الآية: 126. (6) سورة الشعراء، الآية: 50.

وأهمية المفردة المجسّمة. ويمكن أن نقول إن جمال «أفرغ» يكمن في تشبيه النفوس بالأوعية الفارغة الظامئة إلى الصبر الذي يسكب برويّة ليس فيها قوّة الصّبّ، وكذلك تجسّم كلمة «منقلبون» في قوة حركتها سرعة الانقلاب، واتجاه السّحرة إلى الخالق اتجاها كاملا يعبّر عنه الانقلاب، وليس فيه ذبذبة. وإذا كنا نجد الدارسين يتبعون الرماني، كما رأينا، فقد جنحوا إلى كثير من التعمّق الفني، وهذا التعمق يزداد فاعلية في القرنين الرابع والخامس خاصة، قبل أن نصل إلى فترة التقسيمات والتقعيد البلاغي. ومن الشواهد التي يتفرّد بتذوقها أبو هلال العسكري قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ «1»، فهو يقول: «حقيقته لنعذّبنّهم، والاستعارة أبلغ، لأن حسّ الذائق أقوى لإدراك ما يذوقه، وللذوق فضل على غيره من الحواس، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى شيئا لم يعرفه شمّه، فإن عرفه، وإلا فذاقه لما يعلم أن للذوق فضلا في تبيين الأشياء» «2». وهكذا يقترب أبو هلال من مفهوم التأثير الأكبر في قرب المباشرة، ولقد ورد فعل الذوق في القرآن ثلاثا وستين مرة. معظمها في مجال الوعيد، ولم يذكر إلا في نطاق الاستعارة، أي لم يستخدم على وجه الحقيقة إلا في قوله تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما «3» في الحديث عن آدم عليه الصلاة والسلام وزوجته، ولم يذكر الذوق في بسط جمال الجنة، والتلذّذ بمباهجها وشرابها وطعامها، مما يدلّ على أنه خصص للكافرين والعاصين والجبابرة، وهو يدل على مرتبة بهيمية، هي شأن أهل النار الذي يطعمون من العذاب لتملأ البطون. والذوق حاسّة دنيا إلى جانب اللمس والشم من حواسّ الإنسان، أما الحواس العليا فهما السمع والبصر، إلا أن الكلمة تجسّم للبصر معاناتهم

_ (1) سورة السّجدة، الآية: 21. (2) أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، ص/ 275. (3) سورة الأعراف، الآية: 22.

للعذاب، وحسّية التذوق تبعث على التهويل، فكان حقيقا بأن تقرن بعذاب الآخرة، وفيها أقصى المباشرة في التّلقي، وقد وردت أيضا في تذوق الرحمة، كما وردت في تذوق الوبال والبأس والعذاب إذ تبعث في الذهن صورة النار تأكل الأحشاء بعد أن تصل إلى اللسان. وفي القرن الرابع يطالعنا الشريف الرّضي بكتابه «تلخيص البيان في مجازات القرآن»، وإذا كان قد كرّر شواهد سابقيه، فهذا طبيعي إذا نظرنا إلى محتوى الكتاب كلّه، بيد أننا لا نعدم تذوقا فنيا لفن التجسيم، يقول تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ «1». يقول الشريف الرضي: «وهذه استعارة، والمراد بها صفة لشمول الذّلّة، وإحاطة المسكنة بهم كالخباء المضروب على أهله» «2». ونحن نلمس جمالية التجسيم في مصطلح الاستعارة، ومما يحمد له في هذا المقام إلقاء الضوء على أهمية المفردة المستعارة من حيث الأثر النفسي المخزون فيها، فالذّلّة والمسكنة مشاعر، وتجسيمها بفعل الضرب يوحي بظهورها للعيان وكأنها خيمة تضرب عليهم، والكلمة توحي بالعنف المناسب، وكأن الذلة والمسكنة أداة يضرب بها هؤلاء اليهود ضربا. وكذلك عند وقوفه على الآية الكريمة: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «3» إذ يقول الشريف الرضي: «ألقى الرعب في قلوبهم من أثقل جهاته، وعلى أقطع بغتاته تشبيها بقذفه الحجر إذا صكّت الإنسان على غفلة منه» «4». فهو يقترب من إيحاء أثر المفاجأة في اختيار هذا الفعل الذي يجسّم الإحساس بالرعب، وهو- كما نرى- لا يغنى بتفصيلات عن نوع الاستعارة بقدر ما يلمح إلى ظلال القذف الذي يهزّ قلوب المشركين، وقد أدرك مدلول

_ (1) سورة البقرة، الآية: 61. (2) الشريف الرضي، محمد بن حسين، 1955، تلخيص البيان في مجازات القرآن، تح: محمد عبد النبي حسن، ط/ 1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ص/ 115. (3) سورة الأحزاب، الآية: 26. (4) الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 264.

السرعة والقوة في الفعل، ونظير هذا قوله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي «1» فالإلقاء هنا يدلّ على القوة، ليوحي بالثبات، وينفي الضّعف الذي تصوره النبيّ الكريم. ولا يبتعد الزمخشري عن مفهومنا للتجسيم، وهو يعدّه في بعض الأحيان ضربا من المجاز، ففي الآية الكريمة: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ «2». يقول: «أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يمسّ الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضرّ، وأذاقه العذاب، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، وكأنه قيل: فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف» «3». والحق أن استعانته بالمدلول اللغوي غير لائقة، وغير جديرة بالمقام، إذ إن القرآن هو الذي استعمل الذوق للعذاب والبؤس، وهذه الاستعارة جديدة لم يعرفها العرب، والفعل يدلّ على إشراك حاسّة الذوق التي تكون منفذا إلى الرّهبة في النفس، ويبقى للزمخشري أنه يقدم مفتاحا لغويا لفهم وتذوق هذه الصورة الحسية، وقد اهتم الزمخشري بالمذاقة، لأنه يرى فيها تجريدا للاستعارة يفوق الكسوة، لأن الذوق يشتمل على اللمس، واللمس لا يشتمل على الذوق. وإذا كان يفسّر هنا العلاقة بين المعنوي والحسي بالمجاز، فإنه في مكان آخر يعدّها «مثلا» فقد جاء في تفسيره للآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ «4»: «على حرف: على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مثل لكونهم على قلق

_ (1) سورة طه، الآية: 39. (2) سورة النّحل، الآية: 112. (3) الزمخشري، محمود بن عمر، 1966، الكشاف، ط/ 1، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر: 2/ 498. (4) سورة الحج، الآية: 11.

واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة» «1». فقد أدرك جمالية كلمة «حرف» وإسهامها في تجسيم الحالة الشعورية لمضطربة لدى المنافقين، ويعدّ هذه السمة في مكان آخر تمثيلا»، ففي الآية: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ «2» قال: «ذكر الوادي والهيوم فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم، وقلّة مبالاتهم بالغلوّ في المنطق، ومجاوزة حدّ القصد فيه» «3»، والمثل والتمثيل شيء واحد كما يقرر البلاغيون. وفي باب الاستعارة يضيف ابن الأثير ومضات جمالية إلى سابقيه بالرغم من إعادته كثيرا من شواهدهم، وكتابه يعنى بالشواهد القرآنية قبل الحديث الشريف، وقبل الشعر، ولا ينسى تفضيل ما جاء في القرآن على سائر الأقوال، وقد اعتاد المحدثون على اقتباس جمالية الموسيقا القرآنية من كتابه، بينما تعمّق هو في عموم وجوه الجمال الفني القرآني. ولا بأس أن نقف على تعليقه إزاء قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ «4» إذ قال: «فاستعار الأودية للفنون والأغراض الشعرية التي يقصدونها، وإنما خصّ الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراهما، لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والرّويّة، والفكرة والرّويّة فيهما خفاء وغموض، فكانت استعارة الأودية لها أشبه وأليق» «5». وهكذا استمد ابن الأثير من معرفته اللغوية فضل الوادي على الطريق أو المسلك، وهنا يقصد بالوادي الغرض الشعري، وهذه الكلمة تنمّ أيضا على العمق البشري، إذ تجسّم إيحاء الشعراء في قلوب المستمعين أو القارئين،

_ (1) الزمخشري، الكشاف: 3/ 115. (2) سورة الشعراء، الآيتان: 224 - 225. (3) الزمخشري، الكشاف: 3/ 271. (4) سورة الشّعراء، الآيتان: 224 - 225. (5) ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر: 1/ 374، وانظر، العلوي، يحيى بن حمزة، 1914، الطّراز، دار الكتب الخديوية بمصر: 1/ 214.

فالشاعر يستميل قلب المتلقي من خلال تشكيل الكلمات، وكأن القلب واد يحاول الشاعر التوغّل فيه، ليحرّك ما فيه من مشاعر مكنونة، ولعل كلمة «الغاوون» تعضد رأينا. وأحيانا يتداول الشاهد الذي ينصّ على إسهام المفردة في التجسيم، فتتشابه الأقوال، وتتلاقى الأذواق، ويبرز أحدها في التفرد بالإحساس الفني، وهذا التفرد يبدو أنه واحد من أسباب الاعتماد على شواهد السابقين، إذ يحاول الباحث الإضافة على سلفه، مع الاحتفاظ بفائدة بحثه وخبرته، فقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «1» ما من كتاب إلّا صدّر به باب الاستعارة، وهم بين إشارة وإسهاب، وهذا ما يحبّذ هنا قول ابن أبي الإصبع المصري، وهو الذي أفاض في حسية هذه المفردة «اصدع» وفضلها في رسم معنى الدعوة الإسلامية ومشقّتها إذ قال: «المستعار منه الزجاجة، والمستعار الصدع، وهو الشق، والمستعار له عقوق المكلّفين، والمعنى صرّح بجميع ما أوحي إليك، وبين كل ما أمرت ببيانه، وإن شقّ ذلك على بعض القلوب فانصدعت، والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصديع في القلوب، فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من التقبّض والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار، كما يظهر ذلك على الزّجاجة المصدوعة المطروقة في باطنها» «2». وهاهنا الصّدع يعني بقاء أثر الدعوة ظاهرا، ولا يكون هذا في التحطيم، فكأن كلمات الخالق عز وجل تشقّ القلوب، وهذا لا يقلّل من شأن ما ذكره ابن أبي الإصبع، فقد ربط بين التصوير الحسي، وبين أبعاده النفسية. ولا يقتصر هذا على كتب الإعجاز البياني، ففي كتب البلاغة العربية نجد دقة في التعبير بحيث تفي الكلمات القليلة بالمعاني النفسية التي توحي بها الآيات القرآنية، وقد فهم دارسو البلاغة العربية أن التحليل الأدبي لا يعني الإطناب، فنحن نفهم جمالية هذا التجسيم من قول القزويني المتوفى سنة 739 هـ: «فإن المستعار منه صدع الزجاجة، وهو كسرها، وهو حسي،

_ (1) سورة الحجر، الآية: 94. (2) ابن أبي الإصبع، 1957، عبد العظيم بن عبد الواحد، بديع القرآن، تح: د. حفني محمد شرف، ط/ 1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ص/ 22.

والمستعار له تبليغ الرسالة والجامع لها التأثير، وهما عقليان، كأنه قيل أبن الأمر إبانة لا تنمحي كما لا يلتئم صدع الزجاجة» «1». ونظير هذا ما ذكره يحيى العلوي «2» بأسلوب بلاغي مدرسي يعتمد التقليد، ويتعثر فيه لخلطه في معيار المصطلح الذي يولع به، وذلك في تعليقه المسهب على قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ «3»، وقد أسهب في تعليقه على الآية، وقال: «والظاهر من هذه الاستعارة هو التخييل، لأن الله تعالى لما ابتلاهم لكفرهم باتصال هاتين البليّتين، ولما استعار اللباس هنا للمبالغة في الاشتمال عليهم أخذ الوهم في «تصوير» ما للمستعار منه من التّغطية والستر والاسترسال رعاية لمزيد البيان في ذلك، وإن جعلته من باب التحقيق للاستعارة فتقريره هو أن ما يرى على الإنسان عند شدة الخوف والجوع من الضعف والهزال وامتقاع اللون، وعلوّ الصّفرة، ورثاثة الهيئة، وركّة الحال، وحصول القلق والفشل، يضاهي الملابس في اختلاف أحواكها وألوانها» «4». فالبلاغيون جعلوا الاستعارة تصريحية تحقيقية لتحقق معناها حسا أو عقلا، وجعلوا الاستعارة التخييلية إثبات الأمر المختص بالمشبه به على سبيل التخييل، كإثبات اليد للريح، وذلك في الاستعارة المكنية، والعلوي يخلط في نقاشه بين مذهبي الزمخشري والسكاكي اللذين جعلا الاستعارة تصريحية تحقيقية، ولكنهما اختلفا في معناها أهو عقلي أم حسي، فذهب الزمخشري إلى أنه عقلي يتصل بتشبيه الجوع باللباس بجامع الاشتمال، وذهب السكاكي إلى أنه حسي يتصل بما يعتري الإنسان في جوعه وخوفه من امتقاع اللون ورثاثة

_ (1) الخطيب القزويني، 1953، الإيضاح، دار محمد علي صبيح، القاهرة، ص 214. (2) هو يحيى بن حمزة الحسيني العلوي الطالبي، من أكابر الزّيدية وعلمائهم في اليمن ولد في صنعاء، وتوفي في حصن هران سنة 745 هـ من تصانيفه «الطراز» و «الانتصار في الفقه» و «الإفحام لأفئدة الباطنيّة الطّغام» و «الحاوي» في أصول الفقه، انظر: الأعلام: 9/ 174. (3) سورة النحل، الآية: 112. (4) العلوي، يحيى بن حمزة، الطّراز: 1/ 235.

الهيئة «1». وهو يركّز على تجسيم الخوف والجوع باللباس، ولا يهتم بالمذاقة كما صنع الزمخشري قبله، ففي الآية كلمتان مضيئتان «أذاقها» و «لباس»، ومما يصوّر بحسية عظمى، أن يتذوق المرء هذا اللباس الذي يجسم الخوف والجوع، والحاجة إلى اللباس قائمة ما دام الإنسان إنسانا، فالآية تريد عمق الإحساس بالخوف والجوع في أقوى مظاهر هما وإلى درجة التذوق. وهو يعزو طاقة هذه الكلمة إلى «التخييل، وهذا طبيعي، لأنه من رجال القرن الثامن الهجري حيث عرفت المصطلحات وتفرّعت. ويبدو أن القدامى تحرّجوا من استخدام مصطلح «التجسيم» لصلته بالفرقة المجسّمة لذات الله تعالى، فقد كانت العلة تقديس البيان القرآني وإبعاد ما يتصل بخطل الزنادقة من معان، ونظن أنه ذكر «التخييل» لعدم وجود علاقة فيزيائية في الواقع بين طرفي الصورة التي هي أقرب إلى إعمال الخيال. لقد اكتفينا بهذه النماذج من الدارسين القدامى، فقد استطاعوا أن يقدموا جمالية إسهام المفردة من خلال حديثهم عن حسية الاستعارة والتشبيه، ولم تقف التقسيمات البلاغية حاجزا بينهم وبين التأمل الرفيع، وإن ظل ما قدّموه بحاجة إلى لمسات المحدثين الذين تغلغلوا في الأثر النفسي، وقصدوا المعاني الثانية المستوحاة من الحسية متأثرين بالثقافة العصرية. إذ كان همّ الدارس القديم توضيح المصطلح البلاغي وتبيين جزئياته وأطرافه وتقريب الصورة من العقل أحيانا، ثم جاء المحدثون، وبسطوا الحالة النفسية للمتلقي إزاء التصوير، وهذا لا يعني أن الجانب النفسي مهمل في دراسة البلاغي القديم، بل كان هذا الأثر هو المقصود في توضيح وجلاء المصطلح. لذلك لا يمكن أن نبخس القدامى حقّهم، ونرى من المستبعد في هذا المجال قول أحد المعاصرين: «إن إهمال مادية التعبير في الموروث النقدي والبلاغي حال دون تطورات المعنى على حقيقتها، كما حال دون رؤية التميزات الدقيقة التي تصور حياة الاستعارة، وتوضح نشاطها البلاغي ... لم

_ (1) انظر القزويني، 1953، الإيضاح، دار محمد علي صبيح، القاهرة، ص/ 226.

- مع المحدثين:

يكن هنالك موقف خاص في تصوير جماليات الإيحاء المادي للكلمة المستعارة، وظلّت مسألة التعبير الحسي مبهمة، واهتم النقاد- جميعا- بتقرير الإشارة وتمكينها في العقل، وتصوّروا أن تشكيل الاستعارة المادي يوجد بمعزل عن فاعلية المعنى والسياق». ولعلنا نلمس في القول آنف الذكر إجحافا بما بذله القدامى، وما يمكن أن يسمّى تأمّلا فعّالا، فالقدامى أدركوا هذه الجمالية التي افتقدها الباحث المعاصر، وذلك مع تأطير كلامهم بالإطار العقلي، كما أنهم تنبهوا إلى أهمية المفردة المستعارة في التصوير الحسي، وعرفوا أنها علّة الإثارة الوجدانية، فلم يكن هذا بعيدا على سبيل المثال عن الشريف الرضي أو الزمخشري أو ابن أبي الإصبع. ولا يمكن أن نعتمد هذا التعميم، فإنه إن صح في نقد الشعر، فهو أبعد ما يكون بتعميمه على بلاغة القرآن لدى القدامى، على الرغم من أن رجال البلاغة يصدرون أبوابهم بالشواهد القرآنية، ويدرسونها على اختلاف الأذواق، ولا يجوز النظر إلى الأسلاف بمنظار عصري، لذلك نرى أن هذا القول أيضا يتعارض وروح الدراسات السابقة. - مع المحدثين: تختلف نظرات الباحثين في العصر الحديث إلى تجسيم المفردات القرآنية، فبعضهم يرى هذا التجسيم في الأصوات أي ما يدعى «بالاونوماتوبيا»، وبعضهم لم يحدّد المصطلح فجعله في حيّز أكبر هو التصوير بشكل عام، فيقرنه بالتشخيص والتمثيل والتخييل، وربما أعاد بعضهم مصطلحات القدامى وتقسيماتهم للصورة الفنية، ومنهم من اكتفى بإشارات بسيطة. أما أضخم كتاب في هذا المجال فهو «في ظلال القرآن» لسيد قطب ثم كتاباه «التصوير الفني» و «مشاهد القيامة». ومن أهم كتب الدراسة القرآنية التي نهل منها المحدثون كتاب أحمد بدوي «من بلاغة القرآن» الذي عدّ منارة لغيره، وسوف نعرض لبعض آرائهم

التنظيرية، ولنبذة من تعليقاتهم الفنية. يرى أحمد بدوي أنّ حسية التصوير كامنة في اختيار المفردات الحسية في الاستعارة، مما يزيد في قدرة التوصيل، يقول: «ولهذا الميل القرآني إلى ناحية التصوير، نراه يعبّر عن المعنى المعقول بألفاظ تدلّ على محسوسات مما أفرد له البيانيون علما خاصّا به دعوه علم البيان، وذلك أن تصوير الأمر المعنوي في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكّنا في النفس وتأثيرا فيها» «1». وهو يكرر هذه الفكرة في كتابه، وتبعه في هذا الرأي سائر الدارسين، وقوام رأيهم أن المرحلة المحسوسة للمفردة تقدم إيحاءات جديدة للمعنى النفسي، فالمفردة المستعارة تضخّ لما حولها من الطاقة الشعورية عند ما يرتدّ إليها النظر. وخير من يقدم فيضا من التحليل الفني للمفردة المجسّمة سيد قطب في كتبه الثلاثة، لأنه في عصرنا هذا أكثر من تعرّض لبلاغة القرآن كمّا، وإضافة إلى هذا وجد أن التصوير عماد البيان القرآني، وأنه ليس زينة، بل لا يقوم المضمون من غير هذا التصوير، فهو وسيلة إيضاح وتأثير، ويشمل التصوير فيما يبدو كل الأسلوب القرآني من تخييل وتصيير «2» وتجسيم ورسم مشاهد ... ، وهو يقول عن التجسيم في تفسيره: «إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد الصفات- وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا حيّا، مميّز الشخصية، حتى لتكاد تشير بإصبعك إليه، إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد البارئ في عالم الأحياء» «3». ويمتزج هنا الوازع الديني بالجانب الفني، إلا أنّ قطبا أثبت مرارا أن هذه الرّوعة التصويرية نابعة من النص، فالكلمة تستقل برسم مشهد أو نقل حركة أو تشخيص فكرة، وهو يصرّح باسم التجسيم قائلا: «وظاهرة أخرى تتضح في

_ (1) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 65، وص/ 218، وكذلك انظر حفني محمد شرف، الإعجاز البياني، ص/ 343، والشيخ أمين، د. بكري، 1973، التعبير الفني في القرآن، ط/ 1، دار الشروق، بيروت، ص/ 195. (2) صيّره إلى كذا حوّله، وكذلك صيّره كذا حوّله تحويلا. (3) قطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 2/ 204.

تصوير القرآن، وهي «التجسيم»: تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات على العموم، إنه ليصل في هذا إلى مدى بعيد، حتى ليعبّر به في مواضح حساسة جدّ الحساسية، يحرص الدين الإسلامي على تجريدها كامل التجريد، كالذات الإلهية وصفاتها» «1». فالتجسيم جزء من التصوير، لأنه يقتصر على نقل المجرد إلى المجال لمحسوس، ولم يكن اهتمام سيّد قطب بالبعد النفسي للتجسيم جديدا أو شيئا منكر بوجوده ما ذكره الأقدمون، وإن كان هو وأغلب المحدثين لا يهتمون لتقرير نوع الاستعارة أو وجه الشبه وما شاكل ذلك، مما يطرأ على لسان لأقدمين، فالبعد النفسي موجود لمن ينظر بإنصاف إلى الكتب القديمة، وما أتى به قطب لا يعدّ بديلا عما سلف. ولنقرأ قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «2» وننظر كيف يلقي لضوء في مفردة «أشربوا» إذ يقول: «تلك الصورة الساخرة الهازئة: صورة لعجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى لذهني الذي جاءت به هذه الصورة المجسّمة لتؤديه، وهو حبهم الشديد لعبادة لعجل» «3». ويكاد لا يزيد هذا الكلام عن كلام الدارس القديم إلا بعدم ذكر كلمة الاستعارة، وهنالك شيء آخر، وهو إثارة الباحث المعاصر للخيال. ولتأكيد هذا لا بدّ أن نذكر شاهدا آخر يؤكد فيه أهمية الكلمة المجسّمة بشكل جلي، يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ «4»، فهو يقول ما لا يختلف عما ذكره سابقا الزمخشري، إذ يقول سيّد قطب: «إن الخيال ليكاد يجسّم هذا الحرف الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس،

_ (1) قطب، سيد، 1956، التصوير الفني في القرآن، ط/ 2، دار المعارف بمصر ص/ 57. (2) سورة البقرة، الآية: 93. (3) قطب، سيّد- في ظلال القرآن، مج/ 1: 2/ 265. (4) سورة الحج، الآية: 11.

وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب الحسي في وقفتهم، وهم يترجّحون بين الثبات والانقلاب» «1». لقد دلّ الزمخشري على غاية القلق في كلمة «حرف»، لكن سيّد قطب يضيف إثارة الخيال لتملّي الجمال القرآني، وغالبا ما يستثير الخيال في صورة تدلّ على الحركة، فالقرآن في منظوره صور تتحرك، وأشخاصه كائنات لها فاعلية مستمرة، فالموقف المضطرب عند الزمخشري، وتخيّل الحرف عند قطب. ولكن ما هي أسس قطب في مسألة التجسيم هذا؟ إن هي إلا الذوق الخاص والعاطفة الشديدة، وهذا ما يوصله إلى بعض من التوهم كما سنرى في مكان آخر. وهو لا يعتمد علم الدلالة، أو علم الأصوات، أو الموروث اللغوي، أو دقة الفروق في دراسة المفردات، أما الزمخشري فقد ارتبط ذوقه الشخصي بالذوق العام، وتأكد بترسيخ المعنى في اللغة، وطبيعة النفس والحياة، وكأنما عرف قطب ذوقه الفرديّ النابع من عاطفة، فهو يذكر «يكاد» ليحدّ من مبالغته. ومما يعد أصالة في كتبه تلك الوقفات الرائعة على البيان القرآني في كلمات لم ينتبه القدامى إلى تجسيمها، ومثل هذا في قوله تعالى: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ «2» يقول سيد قطب: «تجسيم لهذا المعنى، وأي تعبير ذهني عن اللّجاجة في الخطيئة ما كان ليشعّ مثل هذا الظل الذي يصوّر المجترح الآثم حبيس خطيئته: يعيش في إطارها، ويتنفس في جوّها، ويحيا معها ولها» «3». فالقرآن يقدم أفكارا محسوسة، ويبعدها عن التجريد الذهني لأجل التأثير بأقصى فاعليته. لكننا كثيرا ما نجد قطبا في تفسيره يظن التجسيم في كلمات مجسّمة بصوتها، أو بوجودها، ولا نستطيع أن نتوصل إلى ما يدلي به، وصحّة ما وقر

_ (1) قطب، سيّد، التصوير الفني، ص/ 42. (2) سورة البقرة، الآية: 80. (3) قطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 1/ 86.

في نفسه، كما حدث في تفسيره لقوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «1»، يقول: «وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيّلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار- ألم تر-» «2». إنه يخصّ استعراض المشهد وتجسيمه بهاتين الكلمتين، وما وقع عليه يمكن أن نلقي فيه ضوءا آخر، من حيث النظم، إذ ينتفي النّفي بوجود الاستفهام بالهمزة مع حرف النّفي، ليفيد غاية القوة في الإثبات، ثم يأتي اختيار فعل «تر» المعبّر عن الرؤية، ليؤكّد صدق الخبر الذي يرويه الخالق، لأن البصر أكثر برهانا من الخبر، فلم يذكر البيان القرآني تعبير «ألم تسمع» أو «ألم تخبر» أو غير هذا، وفعل الرؤية يطرد في كل الأخبار التي يرويها الخالق لنبيّه الكريم، مثل أخبار عاد وثمود وفرعون والطير الأبابيل، ففي الفعل رسم لمشهد من غيب الزمن الماضي. ومن دواعي النّصفة القول بأنه لم ينفرد بالوهم والمبالغة، وأنه استوفى القرآن كله، كما صنع الزمخشري، وهذا الشمول لدى قطب لم يمنع من إهماله لبعض المفردات المجسّمة عند ما يشغل بالرواية وبالجانب الفكري، ونحن نجد في كتبه الثلاثة الجدّة والأصالة، فإذا قرأنا كتب معاصريه توالت الإحالات إلى بدوي، ومن القدامى الزمخشري وابن الأثير خاصّة، وممن دار في فلك بدوي الدكتور بكري الشيخ أمين، وحفني محمد شرف، وعدنان زرزور، وغيرهم كثير. لذلك نقف على ما هو غير مكرّر، يقول بدوي الذي اتسمت دراسته بالعمق: و «لهذا الميل القرآني إلى ناحية التصوير نراه يعبّر عن المعنى المعقول بألفاظ تدل على محسوسات مما أفرد له البيانيون علما خاصا به دعوه علم البيان، وحسبي الآن أن أبين ما يوحيه هذا النوع من الألفاظ في النفس ذلك أن تصوير الأمر المعنوي في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكّنا من النفس،

_ (1) سورة البقرة، الآية: 243. (2) قطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 2/ 265.

وتأثيرا فيها» «1». كما ذكرنا سابقا. ويستشهد لهذا بالآيتين: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «2»، وكذلك قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ «3»، وهو لا ينسى التأكيد على الكلمتين المستعارتين: ختم وسكت، ويبدو لنا أن الفعل في الآية الثانية أخصّ بالتشخيص، لوجود الصفة الآدمية. ويستعرض دراز في كتابه «النبأ العظيم» بعض السمات الفنية والفكرية في سورة البقرة، وهو الذي يقول: «تقرأ القطعة من القرآن، فتجد في ألفاظها من الشّفوف والملامسة والإحكام .. كأنك لا تسمع كلاما ولغات، بل ترى صورا وحقائق ماثلة» «4». ويقف على حسية كلمة «ختم» في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «5» وكلمة «مرض» التي جسمت ذهنية مساوئ الدخيلة البشرية في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «6». وهو يوازن بين الكلمتين، ويوافق المفسرين في أن الآيتين كليهما في صفة المنافقين، ويقول عن «ختم»: «وهذه الظلمات الثابتة المستقرة التي ليس فيها بصيص من نور، وليس فيها تقلّب ولا تذبذب .. إن المثل الأول يصوّر حال المنافقين في بواطنهم، وهو الأمر الذي يشاركون فيه سائر الكفار، والمثل الثاني يصوّر حالهم في ظواهرهم، وهو الأمر الذي يتقلّب عندهم بتقلّب الداعي، لأن تقبّلهم إنما هو في الظاهر لا الباطن» «7».

_ (1) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 65 وانظر كذلك شرف، حفني محمد، الإعجاز البياني، ص/ 343. (2) سورة البقرة، الآية: 7. (3) سورة الأعراف، الآية: 154. (4) دراز، د. محمد عبد الله، النبأ العظيم، ص/ 111. (5) من سورة البقرة، الآية: 7. (6) سورة البقرة، الآية: 10. (7) دراز، د. محمد عبد الله، النبأ العظيم، ص/ 164.

والحق أن الختم على القلوب يوحي بالقوة، وبثبات الفكر في أعماق المنافق، وأعراض المرض تفيد التقلّب، ومثل نظرة دراز تستأهل التقدير لدقّة النظر، وقد قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1»، فالقفل يفيد القوة والثبات. قد كان ينتظر من المحدثين منهجية أدقّ في تفصيل جزئيات التصوير القرآني، فهو يتخذ مفهوما عاما عند قطب يشمل الصورة والتعبير بالحرف والنغمة، وأما سائر الدارسين، فقد زينوا كتبهم بنتف متناثرة هي أحوج إلى الترتيب والمعيارية. وتنقصهم النظرة الشمولية ليس في استيفاء السور كلّها، بل في متابعة اللفظة الحسية المستعارة في كل البيان القرآني، مما قد يعطينا رأيا جديدا، وثباتا لفهم أسلوب القرآن، فمثلا إذا أردنا أن نتحدث عن تجسيم كلمة «ثقيلا» في قوله تعالى: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا «2» فلا بدّ من استقصاء لوجود هذه الكلمة في حيز الاستعارة لتتبدّى لنا معالم جماليتها فنذكر قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «3». في مخاطبة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وقوله عن الساعة: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً «4»، ومنه نجد أن الثقل خصّ بالدعوة الإسلامية لجلالها، وأهمية التكليف بالإيمان، وخصّ يوم القيامة بالثقل، وهو كائن زمني محدّد ومعنوي، فالثقل يبعث على تهويل أمره لما يجد فيه الكافرون من مشقّة، وكذلك الأمر في ثقل الساعة، وكأنها تهبط على القلوب، فتغلظ فيها، وكأنها مادة يعاني وطأتها الإنسان، ويتكسر قلبه. والمحدثون لم يمنهجوا جمالية المفردة، لأن كتبهم غير مختصة بالبلاغة القرآنية غالبا، بله المفردة القرآنية، فأغلب كتبهم تحدثت عن علوم القرآن كلّها، وخصّصت الفصول القليلة للبلاغة القرآنية، وإذا جنحوا إلى تخصيص

_ (1) سورة محمد، الآية: 24. (2) سورة الإنسان، الآية: 27. (3) سورة المزّمّل، الآية: 5. (4) سورة الأعراف، الآية: 187.

فقرة للمفردة تحدّثوا عن جمالها الموسيقى، ولكنّ متابعة قدرتها التصويرية في التجسيم والتشخيص كانت ضئيلة. كما يجب علينا ألا ننتظر سياق الاستعارة الواضحة صنيع القدامى، إذ أهملوا ما يكون في إحكام الصورة، من مثل قوله عز وجل: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ «1» فالصفة هنا تضيف شيئا آخر إلى حسية التذوق، والاهتمام بهذا أجدر من التأكد، إن كان العرب ذكروا مثل هذه الاستعارة أو تلك أو لم يذكروا، وكان من الممكن أن يقال «عذاب عظيم» كما يرد في غير مكان، ولكنه البيان القرآني الذي يفضّل حسية كل معنوي ليس مراعاة للعرب، بل موافقة للجنس البشري. ومن الطبيعي أن يستقي الباحث جمالية التجسيم من فصول الاستعارة والتشبيه، وهذا واضح في كتب القدامى والمحدثين، وإن المحدثين لم يضيفوا الإضاءة على الكلمة المجسّمة في الآية، فهذا مستفاد من إقرار الباحث القديم بوجود استعارة أو تشبيه، فلا بدّ من وجود كلمة نقلت من مجال إلى مجال آخر، أو يشبّه معنويّ بحسّي أو ما «تقع عليه العين» كما أراد الرماني. كما أن القدامى فهموا أن حسية التجسيم لا تطلب لذاتها، بل لما وراءها من إيحاءات نفسية، قال ابن الأثير: «وأما فائدة التشبيه من الكلام فهي أنك إذا مثّلت الشيء بالشيء، فإنما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبّه به أو بمعناه، وذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه أو التنفير عنه» «2». ولم تقصر أفهام القدامى عن استيعاب هذه الدلائل النفسية، وإن عبارة «تشبيه المعقول بالمحسوس» لا تختلف عن مفهوم التجسيم إلا اختلافا اصطلاحيا لا يمسّ المضمون. وإنهم اهتموا كما اهتم المحدثون بالكلمة المجسّمة، ذلك الإكسير الذي يقوم بعملية التحويل، ويكمن في صلب الجملة القرآنية، ونحن لم نستنطق تأملاتهم ما لم يكن فيها بدءا من الرماني، وينطبق هذا على جهود المحدثين.

_ (1) سورة فصّلت، الآية: 50. (2) ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر: 1/ 394.

إن التجسيم إذن لا يقتصر على الباصرة، بل يشمل البصيرة في نهاية الأمر، إذ أضفى القرآن عليه دقة فنية محكمة، فقد أضاف إلى جمال الاستعارة جمال انتقاء المفردة الحسية من بين ما يشبهها من الدّلالة لمراعاة المواقف وخصوصيتها، وآثرنا القول «إسهام المفردة» لوجود الكلمة في كليّة هي الصورة الفنية البصريّة.

2 - مفردات الطبيعة والأحياء

2 - مفردات الطبيعة والأحياء - الطبيعة في القرآن: كانت الطبيعة وما زالت منهلا للفن على اختلاف النظريات، ولم تكن عدوّا- إلا فيما ندر- للفنانين أمثال بيكاسو والمدرسية السريالية، وبما أنها وعاء للوجود البشري، فلا غرابة في أن تكون الجمال الأول الذي يأخذ بقلب الإنسان، ويأسر عواطفه، وذلك بمستوى تذوّقه، وسموّ روحه، وفي هذا يقول برتيليمي: «إذا نحن بحثنا في إيجاد قاعدة للجمال عن طريق أكبر عدد من الإجابات الصحيحة عن السؤال: هل هذا الشيء جميل؟ لوجدنا أن غالبيّتها تتجه- أولا- نحو جسم الإنسان، وبوجه خاص جسم المرأة، نحو زينتها من ملابس وحلي، ثم نحو المساكن، مواقع الطبيعة» «1». والمقصود بالطبيعة هنا كل ما لم تتدخل به يد بشر، بل هو من صنع البارئ عز وجل وهذا يشتمل على طبيعة جامدة كالجبال والأنهار والنبات: وطبيعة متحركة كالأنعام والجراد والخيول وغيرها. وبين الطبيعة والإنسان في القرآن علاقة فيها الوئام والانسجام، ويتجلّى هذا في وصف النجوم والأشجار والأنهار والليل والنّهار، فهي مخلوقات مسخّرة لأجل سعادته، ولأجل تحقيق سيادته، فهو يستغلّها عمليّا في شئون حياته، كركوب البحر، والتمتع بفواكهها، والاستعانة بالأنعام، وأكل لحومها، وكذلك في لحظات التأمل الجمالي، فبعد تحقيق الضروريات، هنالك وقفة كماليّة، ويمكن أن نستنتج هذا من قوله تبارك وتعالى عن الجمال: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ «2»، وقوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ، لِتَرْكَبُوها، وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «3». فالأنعام وسيلة للركوب وقضاء الحاجات، ثمّ هي منبع جمال داع إلى

_ (1) برتيليمي، جان، بحث في علم الجمال، ترجمة: د. أنور عبد العزيز، ص/ 7. (2) سورة النّحل، الآية: 6. (3) سورة النّحل، الآية: 8.

التأمّل في ساعات الهدوء والراحة. وجمال الطبيعة آية يستدلّ بها القرآن على وجود الله تعالى، وقدرته وتدبيره للعالم وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «1»، وكثيرة هي الآيات التي تعدّ حججا دالّة على عظمة الخالق تستند إلى ما أودع في الطبيعة من آيات الجمال. والطبيعة في القرآن ذات هدف ديني، فإذا ذكرت الجنة بسطت لنا أوصافها ترغيبا للمؤمنين، وحثّا لهم على الطاعات والخير، ليستحقّوا أنهارها وثمارها، وتذكر جزئياتها التي تشبه في الظاهر جمال طبيعة اعتدناها في الأرض، وفي ذلك تقرّب فيه رحمة من مفهوم الإنسان للطبيعة فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «2»، وقوله إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، حَدائِقَ وَأَعْناباً «3»، فقد جاء في الحديث القدسي قوله تعالى: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» «4». وهذه الطبيعة وسيلة ترهيب أيضا، فكم من أمة خسفت بها الأرض وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا «5»، وقوله: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ «6». فهي مسخّرة لصالح الكائن البشري، إلا أنها سرعان ما تنقلب شرا عليه بأمر خالقها، فالشجر ينمو، ولكن العذاب في جفافه، لينال الجاحدون بعضا من عقوبتهم في الدنيا، والنار التي هي مساعد في معاشه تكون مصدر العذاب الأخروي. نستنتج أن الطبيعة مظهر لقدرة الله ووحدانيته وكماله، والنظام الذي تسير وفقه إشارة واضحة على وجود الخالق ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ

_ (1) سورة فصّلت، الآية: 12. (2) سورة الرحمن، الآية: 68. (3) سورة النبأ، الآيتان: 31 - 32. (4) البخاري، صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق: 3/ 1185. (5) سورة العنكبوت، الآية: 40. (6) سورة القمر، الآية: 19.

- مفردات الجماد والنبات عند القدامى:

فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «1». فالطبيعة في القرآن لا تقف محايدة، بل تتمتع بمدلول خلقي، ففيها دعوة إلى علّة وجودها، وقريب من هذه الفكرة ما جاء عند سانتيانا إذ قال: «لكي نرى المنظر الطبيعي يتحتّم علينا أن نألفه نحن، ولكي نحبذه ينبغي لنا أن نضفي عليه مدلولا خلقيا» «2». وليست غايتنا في هذه الفقرة التحدث باستقصاء شامل عن الطبيعة في القرآن، ولا سيما أن مظاهر الطبيعة ستبرز في أماكن كثيرة بشكل تقريريّ، ولا تخدم الصورة الفنية، فلن نتطرّق مثلا إلى الناقة التي عقرها قوم صالح عليه الصلاة والسلام، فذلك واقع تاريخيّ قائم لا يمسّ، ولا يفيدنا في الجانب الفنّي، بل غايتنا أن ننصت إلى تعليقات الدارسين في جمال تشبيه المنافق بالكلب أو العنكبوت، إذن فالقصد معرفة فاعليّة مفردات الطبيعة، ومدى تأثيرها في الصورة الفنية. - مفردات الجماد والنبات عند القدامى: لا شك أن القرآن اتجه لأغراض فنية إلى استخدام مفردات الجمادات، ليصور معانيه في أقصى طاقتها المؤثّرة، واعتمد ما هو عام شامل لا يقتصر على بيئة محدّدة، وما هو متعارف على دلائله، وما تثبته المشاهدة، فالحجر متعارف على قسوته عند العربيّ وغيره، وعلى مدى العصور، فإذا شبّهت به قلوب الكافرين ظلّت الصورة عالقة في الأذهان ما دام المرء على وجه البسيطة، وكذلك البحر في هوله وضخامته، والرّماد في خفّته وتطايره، وقيمة الجماد أي المشبّه به لا تتسم بالمباشرة والابتذال، ذلك لما يضفي البيان القرآني على هذه الكائنات المنتزعة من الطبيعة من معان سامية، وجمال فني

_ (1) سورة الملك، الآيتان: 3 - 4. وخاسئا: ذليلا. حسير: متعب منقطع عن رؤية الخلل. (2) سانتيانا، جورج، الإحساس بالجمال تر. د. مصطفى بدوي، مؤسسة الأنجلو المصرية، بلاتا، القاهرة، ص/ 156.

أخّاذ عميق التأثير. ولربما أعيد هنا ما ذكر في فقرة التجسيم، ذلك لأن التّجسيم يقوم على استخدام مفردات الطبيعة، وعلى تغيير مجال المفردة. يعدّ الرّمانيّ صاحب الفضل في هذا المقام إذ شرع يقسم التشبيه إلى أربعة أنواع، مما ساعد لاحقيه على التعمّق في مثل الشواهد التي ذكرها، وقد وقف عند قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «1»، فقدم تنظيرا فنيا إذ يقول: «بيان ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به، وقد اجتمعا في قلع الريح لهما، وإهلاكها إياهم» «2». ولم يسر القدامى على هذا المنوال، وإن كان بعضهم يقدم تعريفا للفن ويؤطّره بمثال من القرآن، ولم يضيفوا شيئا على أهمية المشبّه به كما نجد عند الزركشي «3». ونلتمس العذر للرماني إذ قدّم بحثا موجزا في رسالة تتضمن البلاغة القرآنية بشكل عام، وكذلك يذكر الزركشي مثل هذا الشاهد في كتاب يبحث في علوم القرآن. وقد وقف الزمخشريّ في كشّافه عند هذه الآية فقال: «كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا، وهم جثث طوال عظام، كأنّهم أعجاز نخل، وهي أصولها بلا فروع، ومنقعر منقلع من مغارسه، وقيل: شبّهوا بأعجاز النخل، لأن الريح كانت تقطع رءوسهم، فتبقى أجسادا بلا رءوس» «4». هكذا نجد أن الزمخشري يتّجه إلى تفصيل صفات المشبّه به، هذا النّبات الدّال على خلوّ الأجسام، وخفّتها أمام قوة الريح، وشرحه اللغوي هذا ييسّر للمحدثين معرفة الجوانب الجمالية، وإذا كان اهتم بالمشبه به وهو النبات، فإنّ

_ (1) سورة القمر، الآية: 20. (2) الرمّاني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 77. (3) انظر الزركشي، بدر الدين، البرهان: 3/ 420. (4) الزمخشريّ، الكشّاف: 3/ 184، وانظر النسفي، عبد الله بن أحمد، مدارك التنزيل ط/ 1، دار الكتاب العربي، بيروت: 4/ 203.

الرماني يهتم بفنية التجسيم في قوله «ما لم تجر به عادة». ونقف هنا عند ابن قتيبة في شاهد، ثم ننتقل إلى ابن ناقيا البغدادي «1»، لنلمس فرق التذوّق، ففي الآية الكريمة: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ «2»، يقول ابن قتيبة: «يريد أنها لا تعي خيرا، لأن المكان إذا كان خاليا، فهو هواء، حتى يشغله الشيء» «3». يكاد يسير على منهج أبي عبيدة الذي يردّ المفردة من حيّز المجاز إلى حيّز يقرّب الاستعارة من العقل، وتترك الظّلال النّفسية للقارئ، فيفهم تجميد هذه الأفئدة التي صارت هواء لا يستقرّ، ولا يتّخذ جهة محددة، ففي الكلمة هبوط بالمستوى الإنساني، ونزع للتعقّل باستخدام الجماد الفارغ. وقد وضع ابن ناقيا كتابه «الجمان في تشبيهات القرآن» ونخصّه بالذّكر، لأنه امتاز بأنّه قصد إيراد كلّ تشبيهات القرآن، ونقف عند استشهاده بالآية الكريمة: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ «4»، فهو يقول: «شبّههم بخشب نخرة متآكلة دخلة، إلا أنّها مسنّدة يحسب من رآها أنّها صحيحة سليمة» «5». وهو يشير إلى تناقض الشكل والمضمون الذي تحدّث القرآن عن وجوده في تصرّفات المنافقين بأساليب متعددة، فأجسامهم تعجب، وألسنتهم عذبة الكلمات، وفي خبايا نفوسهم يستقرّ المكر، وكذلك أشار إلى تقييد الصورة بإسناد الخشب الذي يخلو من المنفعة إلى الحائط.

_ (1) هو عبد الله بن محمد بن الحسين بن ناقيا البغداديّ، ويقال له البندار شاعر مترسّل لغوي من أهل بغداد، من كتبه «مقامات» وديوان شعره و «تفسير الفصيح» «ملح الممالحة» و «الجمان في تشبيهات القرآن». توفي 485 هـ. انظر الأعلام: 4/ 267. (2) سورة إبراهيم، الآية: 43. (3) ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، تأويل مشكل القرآن، ص/ 105. (4) سورة المنافقون، الآية: 4. (5) ابن ناقيا البغدادي، عبد الله بن محمد، 1968، الجمان في تشبيهات القرآن، تح: د. أحمد مطلوب ود. خديجة الحديثي، ط/ 1، دار الجمهورية، بغداد، ص/ 243.

وهذا ما أضافه الزمخشري قائلا: لأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظانّ الانتفاع، وما دام متروكا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبّهوا به في عدم الانتفاع» «1». وهذا التعليل يعدّ إضافة جمالية إلى ما ذكره الرماني، ومفتاحا لكل تأمّل فنيّ، وهو طبيعي في «الجمان» لأنه كتاب مختصّ بالصورة الفنية، فلا نجد فيه إعجاز النظم، أو ألوان البديع. وهذا التعليل يتخذ طابعا عاما، فيعدّ تنظيرا لأهمية الطبيعة الدائمة في الصّورة الفنية، فقد لفت ابن ناقيا اهتمامنا إلى هذا قبل تنظير المحدثين، ففي الآية: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ «2» يقول: «فلما كانوا يلجئون إلى ورود هذه المياه، ويلقون العناء بشربها، والكلفة في تناولها، وكان القرآن قد نزل بلسانهم، وعلى ما عهد من شأنهم، ذكر الله تعالى لهم من العذاب الذي أعدّه للظالمين ما يكون في بعض أحوالهم مثال له، فيذكرون الكثير باليسير، والغائب بالحاضر ... وكما خوّفوا بشرب هذا الماء، فكذلك شوّقوا إلى أنهار الجنّة، ومائها وسلسبيلها وتسنيمها، ليروا أنّ ذلك أنفس بالقياس إلى ما وصفوه في أشعارهم» «3». ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الطبيعة لا تقتصر على البيئة العربية، فالماء عنصر هام في حياة البشرية، ونلمس مثل هذا الوعي عند الزمخشري لدى تفسيره للآية: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ «4» إذ يقول: «شبّه دين الإسلام بالصّيّب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلّق به في شبه الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق، وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام

_ (1) الزمخشريّ، الكشّاف: 4/ 109 وانظر الزركشي، البرهان: 3/ 326. (2) سورة الكهف، الآية: 29. (3) ابن ناقيا البغداديّ، عبد الله بن محمد، الجمان، ص/ 147. السلسبيل: الماء السهل المرور في الحلق لعذوبته، والتسنيم: عين في الجنة. (4) سورة البقرة، الآية: 19.

- نظرة المحدثين:

بالصّواعق» «1». فقد فهم الربط بين معنى الجماد وأهمية وجوده في الصورة البصرية مشيرا إلى ظاهرة مطّردة في أسلوب القرآن، وهي تبيان المعاني المجرّدة وجلاؤها بماديّات مشاهدة من مثل النور والظلام والمطر، فيجسم الهدى مثلا بالنور، ويجسّم الضلال بالظلمات. وهذا ما سمّاه ابن الأثير تمثيلا في تفسير الآية: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ «2»، وعدّه أحسن أنواع التشبيه قائلا: «تشبيه معنى بصورة، وهذا القسم أبلغ الأقسام الأربعة لتمثيله المعاني الموهومة بالصّور المشاهدة» «3». ولا شك في أن كلمة «المشاهدة» في عبارته تنمّ على معنى الطبيعة المستمرة التي اختارها البيان القرآني، وتدلّ على أن القدامى أدركوا هذه السّمة، ونكتفي بهذه النّبذة نموذجا من جهد القدامى، لننتقل إلى ما ذكره المعاصرون. - نظرة المحدثين: نبدأ هذه الفقرة بتنويه المحدثين بإسهام الطبيعة في الصورة البصرية بعد أن ذكرنا نماذج من وقفات القدامى الذين توصلوا إلى غير قليل من أهميّة استخدام مفردات الأحياء، وذلك من خلال دراستهم للتشبيهات والاستعارات القرآنية، ونلفت النظر بعدئذ إلى تطبيقات المحدثين. وغايتنا تبيين منهج الدارس، وما نقتبسه يعدّ تفردا بعيدا عن التقليد كي نستطيع معرفة تباين الأذواق واختلاف النّظرات. وضع بدوي في منتصف هذا القرن تقريبا كتابه «من بلاغة القرآن» ولفت النظر فيه إلى هذه الناحية في ألفاظ القرآن، فهو منظّر هذه الظاهرة، وقد سار

_ (1) الزمخشريّ، الكشّاف: 1/ 208 - 209. (2) سورة النّور، الآية: 39. والقيعة: جمع قاع أي فلاة. (3) ابن الأثير، المثل السائر: 2/ 142.

من تلاه على هديه لاكتشاف الدّلالة النفسية المقصودة في مفردات الطبيعة داخل الصورة، يقول: «أوّل ما يسترعي النظر من خصائص التشبيه في القرآن أنه يستمدّ عناصره من الطبيعة، وذلك هو سرّ خلوده، فهو باق ما بقيت الطبيعة، وسرّ عمومه للناس جميعا ... فلا تجد في القرآن تشبيها مصنوعا يدرك جماله فرد دون آخر» «1». ويفسر حفني شرف ومحمد المبارك هذه العمومية، بكونها تتجاوز البيئة الجاهلية الظاهرة في الشعر، ففي الشعر نزعت الصورة إلى الإقليمية، وفي رأيهما أنه لا يفهمها إلا من عاش في تلك البيئة «2». ويبرهن عدنان زرزور على شمول الطبيعة القرآنية بقوله: «لا يمكن أن يقال في تشبيه ما إنّه من البيئة العربية، إلا ما كان من خصائص تلك البيئة وحدها، بحيث لا يشاركها فيه بيئة أخرى، أو بحيث يصعب فهمه ومعرفة مغزاه أو معناه على غير العربي» «3». وهو يقول هذا بصدد دحضه لتعسّف كتاب واحدة عبد المجيد التي تردّ تشبيهات القرآن إلى خصوصية البيئة العربية. ولا شك في أن الطبيعة المختارة لإبراز جوانب الصورة الفنية هي شاملة، لأنها من حيث تأثيرها قائمة في أذهان كلّ مجتمع، فلا اختلاف في بلادة الحمار وغبائه، ومكر الثعلب، وصبر الجمل، ودناءة الكلب. وقد ألبس القرآن هذه المفردات لبوسا جديدا في خضمّ التأثير الوجداني المنبث في الصورة، وقد كان القصد الفني سببه، وعلى الرغم من وجود الجراد والفراش والعنكبوت في البيئة العربية، فإننا نجد في القرآن مجاوزة للبيئة

_ (1) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 196، وانظر الشيخ أمين، التعبير الفني، ص/ 192، وكذلك المبارك، د. محمد، 1964، دراسات أدبية لنصوص من القرآن، ط/ 2، دار الفكر دمشق، ص/ 60 - 76. (2) شرف، د. حفني محمد، الإعجاز البياني، ص/ 337، وانظر المبارك، د. محمد، دراسات أدبية لنصوص من القرآن، ص/ 89. (3) زرزور، د. عدنان، 1980، القرآن ونصوصه، ط/ 1، جامعة دمشق، ص/ 288.

- مفردات الجماد والنبات عند المحدثين:

الصحراوية العربية الحارّة، فما أكثر ذكره للبحار والأنهار. وعلى أية حال نأخذ برأي بدوي الذي أكده الدكتور عتر، وهو أن: «قيمة المشبّه به أن نفاسته ليست موضع عناية القرآن الكريم، لأنّ البحث هنا عن القيمة الفنية لا عن النفاسة الماديّة أو النّدرة التي كانت موضع عناية لدى بعض الشعراء في بعض العصور» «1». فالدّيمومة كائنة في أثر كيفية ملاءمة مفردات الطبيعة للمضمون الفني، والأمر ليس تلفيقا، كما يجري في كثير من الأدب القديم أو الحديث، وهذا بالإضافة إلى ديمومة ما ينتقى من الطبيعة ما دامت الحياة. - مفردات الجماد والنبات عند المحدثين: اهتم المحدثون بإيحاء التأثير الكامن في اختيار الجماد في الصورة البصرية أكثر من اهتمامهم بجودة التصوير الحسي، فقد وقف سيد قطب عند الآية الكريمة: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «2»، وقال: «لا يستجيبون فهم إذن حجارة، وإن تبدّوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية .. على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع مشهد النار التي تأكل الأحجار، ومشهد النار الذين تزدحمهم هذه الأحجار في النار» «3». وفي تفسير سورة الواقعة يشير إلى شدة العذاب في ذكر كلمة «الزقوم» من الآية الكريمة: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ «4» إذ يقول: «على أن لفظ الزقوم نفسه يصوّر بجرسه ملمسا خشنا شائكا مدبّبا يشوك الأنف، بله الحلوق» «5». وهو يلتمس- فيما يبدو لنا- هذه الشدة في القاف المضعّف ثم الوقوف

_ (1) بدوي، من بلاغة القرآن، ص/ 206، وانظر عتر. د. نور الدين، القرآن والدراسات الأدبية، ص/ 216. (2) سورة البقرة، الآية: 23. (3) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 1/ 49. (4) سورة الواقعة، الآية: 52. (5) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج/ 6: 27/ 3465.

على الميم الحرف الشفوي، ويحسن بنا أن نقف عند دلائل مفردات الجماد عند بدوي، فما يمتاز به هذا الباحث هو النّظر الدقيق في الفروق لدى استعمال هذا الجماد أو ذاك، مما يفيد الإيحاء الأكبر، فقد نظر إلى قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «1»، وقال: «فمثّلهم القرآن بحال من حصرتهم السماء بصيّب، وفي هذه الكلمة ما يوحي بقوة المطر وشدة بطشه، فهو ليس بغيث ينقذ الأرض من ظمئها، ولكنه مطر يصيبها ويؤثّر فيها، وفي النص على أنه من السّماء ما يوحي بهذا العلوّ الشاهق، ينزل منه هذا المطر الدافق، فأيّ رعب ينبعث في القلوب من جرّائه» «2». وهو يتملّى جمال الفرق بين تشبيه الموج بالجبال في مكان، وبالظّلل في مكان آخر، ويبحث في الموقف الشعوري الموائم بكلّ منهما، يقول: «ومن خصائص التشبيه القرآني المقدرة الفائقة في اختيار ألفاظه الدقيقة المصوّرة الموحية، تجد ذلك في كل تشبيه قرآني، فقد شبّه القرآن الموج في موضعين فقال: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ «3»، وقال: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «4»، وسرّ هذا التنوع أنّ الهدف في الآية الأولى يرمي إلى تصوير الموج عاليا ضخما، فتستطيع كلمة الجبال أن توحي به إلى النفس، مع أن السفينة محوطة بالعناية الإلهية، فليست في خطر الغرق، أما الآية الثانية فتصف قوما يذكرون الله عند الشّدّة وينسونه لدى الرّخاء، ألا ترى أن الموج يكون أشدّ إرهابا، وأقوى تخويفا إذا هو ارتفع حتى ظلّل الرءوس» «5»، والمقصود في الآية الأولى نوح عليه السلام وقومه. فأصحاب السفينة في الآية الأولى هم مؤمنون وهم في الآية الثانية جاحدون لنعمة الخالق، وكلمة «ظلل» توحي بالقرب والتّماس، مما يرعب القلوب أكثر من وصف الموج بالجبال التي قصد فيها ضخامة الأمواج فقط،

_ (1) سورة البقرة، الآية: 19. (2) بدوي، أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 33. (3) سورة هود، الآية: 42. (4) سورة لقمان، الآية: 32. (5) بدوي، أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 198، وانظر عتر، حسن ضياء الدين، 1975، بيّنات المعجزة الخالدة، ط/ 1، دار النصر، حلب، ص/ 280.

وليس التخويف. وإنه ليؤكّد أن الإيحاء ذو نصيب كبير في الصورة البصرية، يقول: «ليس الحسّ وحده هو الذي يجمع بين المشبّه والمشبّه به، ولكنه الحسّ والنّفس معا، بل إن للنفس النصيب الأكبر والحظّ الأوفى» «1». ولم يكن هذا بعيدا عن تملّي القدامى. ولا بأس أن نورد ما ذكره حول تشبيه القلوب بالحجارة في قوله عزّ وجلّ عن اليهود: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «2»، يقول بدوي: «ويجعل القرآن في الحجارة المثال الملموس لقسوة قلوب اليهود، ويبعدها عن أن تلين لجلال الحقّ وقوة الصدق، ألا ترى أنّ القسوة عند ما تخطر بالذّهن تخطر إلى جوارها الحجارة الجاسية القاسية» «3». وألمح بدوي إلى ظاهرة فنية في القرآن، وهي إحكام الصورة البصرية بتفصيل الحديث عن المشبّه به، وذلك بالصفة أو بغيرها، يقول: «ولم يكتف القرآن في تشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفه بالمنفوش وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ «4»، للدّقة في تصوير هشاشة الجبال» «5». وهذا النهج الفني كفيل بأن يجعل الصورة كاملة العناصر في نفوس القراء، وأدعى إلى التأثير في الفكر والوجدان على السّواء. ولا بأس أن نذكر بعض الآيات لتكون مصداقا لهذا الإحكام الذي ذكره بدوي، قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «6»، وقال عز وجل:

_ (1) بدوي، أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 192. (2) سورة البقرة، الآية: 74. (3) بدوي، من بلاغة القرآن، ص/ 194، وانظر عتر، بيّنات المعجزة الخالدة، ص/ 279. (4) سورة القارعة، الآية: 5، العهن: الصوف الملوّن المندوف. (5) بدوي، من بلاغة القرآن، ص/ 200، وانظر، زرزور، عدنان، القرآن ونصوصه، ص 304، وشرف، حفني، الإعجاز البياني، ص/ 338. (6) سورة الفيل، الآية: 5. العصف: ورق الزرع.

- مفردات الأحياء:

أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «1»، وفي تصوير قساة اليهود: كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «2» فقد وصف ورق الزّرع في سورة الفيل بأنّه مأكول، ليزيد من تصوير قبحهم، فقد أكلت الدّوابّ هذا الورق، وأتبع الرّماد بذكر الرّيح العاتية، وأضرب عن الحجارة، ليصمهم بأنّهم أقسى من الحجارة، وهذا ما يشدّ الانتباه، ويفسح المجال لتخيّل قلوب صلدة، وهذا الإحكام لا يقتصر على مفردات الجماد. لقد تناولنا هنا بعض النماذج المقتبسة من كتب المحدثين، وهي تعدّ تأكيدا لأهمية مفردات الطبيعة، وتصديقا لعموم الطبيعة وتأثيرها على مرّ العصور، فقد اعتمد القرآن على ما هو مستمر دائم مثل الحجر والمطر والجبال والنّبات، لتكتسب الصورة البصرية عموم التأثير واستمراره، وتبين لنا أن سيّد قطب وأحمد بدوي استطاعا أن يبرزا الشّحنة النفسية في استعمال مفردات الجمادات ومناسبتها للمواقف الشعورية، مضيفين إلى نظرة الأسلاف زيادة التأكيد على الإيحاء. - مفردات الأحياء: الأحياء جزء من المشاهدات اليومية التي خلقها الله عزّ وجلّ، وهذا لا يقتصر على البيئة العربية، وقد ذكرت الأحياء في سياق توضيح نعمة الله، ليسير المرء في موكب الحياة، فمنها ما يؤكل ومنها ما يركب، ومنها المحلّل، ومنها المحرّم، قال تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ «3». وجاء ذكر الأحياء في الصورة الفنية مخصّصا بشكل دائم لمقام التّوبيخ وإظهار بشاعة الكافرين، ولهذا اختير من الحيوان الجانب السلبيّ والقبح وقلة الفائدة والجمال، فقد كرّم الله الحيوان، وبيّن أن كلّ حيوان ينتسب إلى جماعة هي أمّة قائمة بذاتها، لما يطّرد فيها من أسلوب العيش، وهذه الأمم شبيهة بالأمم الإنسانية، قال عزّ وجلّ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ

_ (1) سورة إبراهيم: الآية: 18. (2) سورة البقرة، الآية: 74. (3) سورة النحل، الآيتان: 5 - 6.

بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ «1». وقد ركّزت الصّورة الفنية على خصوصية الطابع الحيواني، فالحيوان لا يملك إرادة الكفّ والمنع شأن الإنسان، ولا يستطيع أن يضبط نوازعه، ولا أن يفكر، فكلّ تصرفاته آليّة اندفاعيّة تعمل بدافع من غرائزه. ففي الصورة البيانيّة الجانب القبيح من الحيوان، إنّنا نقرأ عن لهاث الكلب، لا عن وفائه، وغباء الحمار، لا صبره، والطابع البهيمي الغرائزي عند الأنعام، لا فائدتها في الرّكوب والأكل. ويجدر بنا هنا أن نتوقف مليّا، ونتلمّس جمالية انتقاء الطبيعة في كتاب «الحيوان» للجاحظ، فعلى الرغم من أنه موسوعة علمية، ولا يختصّ بالبلاغة القرآنية فإننا لا نعدم شذرات رائعة ذات نظرة اختصاصية بأمور الحيوان، وذلك في أماكن ذكر الحيوانات الواردة في القرآن، نقول هذا تمشّيا محقّا مع البيّومي الذي قال: «إن الجاحظ أستاذ علم الأحياء، ليتهكّم خفيّا بالمعترض حين يقول: «على أننا ما نرمي بأبصارنا إلى كلابنا، وهي رابضة وادعة، إلا وهي تلهث من غير أن تكون هناك إلّا حرارة أجوافها، والذي طبعت عليه من شأنها» «2». وهو يريد قوله تبارك وتعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ «3»، وهنا تنتقى حالة خاصّة من تصرفات الكلب، لتمثل ديمومة شناعة المرتدين المنافقين، وطول ألسنتهم، وتلاعبهم بالكلمات. ولعلّ هذه الانتقائية تستمدّ قوّتها من تصوير المنافق المرتدّ، وهو يدلّي لسانه كالكلب نتيجة ضرام نار الحقد في دخيلته، ويلهث وراء الدمار، وذلك في حال الأمن والخوف على السواء، فالتودّد لا يجدي معه، ويقول الجاحظ أيضا: «فكان ذلك دليلا على ذمّ طباعه، والإخبار عن تسرّعه وبذائه، وعن

_ (1) سورة الأنعام، الآية: 38. (2) البيومي، محمد رجب، خطوات في التفسير، ص/ 89، وانظر الجاحظ، الحيوان: 3/ 38. (3) سورة الأعراف، الآية: 176.

وعن جهله في تدبيره، وتركه وأخذه» «1». ونظرته التخصصية بمنزلة مفتاح لتصوّر هؤلاء الكفرة، وقد قرنوا بالكلب من جهة محدّدة، فللكلب فوائد كثيرة أيضا، والجاحظ يقدّم لنا تفسيرا لاختيار حيوان بعينه في النص القرآني، وإن كان الأمر لا يمتّ بصلة للصورة الفنية البصرية، فمنه نفهم الإيحاء النفسي للاختيار الدّقيق الذي يوائم الطبيعة البشرية التي تنفر من القبح، يقول عزّ وجلّ حكاية عن ولد آدم عليه الصلاة والسلام: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ «2». وهذا الحيوان يفيد تأكيد بشاعة الموقف المعبّر عن وحشية، وما نقتبس من الجاحظ يعدّ تنظيرا لظاهرة قبح الحيوان في الصورة الفنية، إذ قال: «ولو كان في موضع الغراب رجل صالح، أو إنسان عاقل، لما حسن به أن يقول: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا العاقل الفاضل الشّريف، وكلّما كان المقرّع به أسفل كانت الموعظة في ذلك أبلغ» «3». ويتّضح هذا الرأي في تأويله لاختيار الخالق مسخ الكافرين قردة وخنازير، فهذا يوائم الطبيعة البشرية التي تنفر من القبح في هذين الحيوانين، يقول: «ولو لم يكن لهما في صدور العامّة والخاصّة من القبح والتّشويه، ونذالة النّفس، ما لم يجعله لشيء غيرهما من الحيوان لما خصّهما الله بذلك» «4». فالقصد من وجود هذه الحيوانات في الصورة الفنية تبيين تدنّي مستوى الكافرين وشناعة تصرفاتهم، وبعدهم عن الصفات الآدمية، ويمكننا أن نورد بعض الآيات في هذا الشأن مثل قوله تعالى: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ «5» وسَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ «6»، ولَنَسْفَعاً

_ (1) الجاحظ، الحيوان: 3/ 38. (2) سورة المائدة، الآية: 31. (3) الجاحظ، الحيوان: 3/ 411. (4) الجاحظ، الحيوان: 4/ 39، ويؤكد ابن أبي الاصبع هذا الرأي في إعجاز خلق الذّباب، تحرير التحبير، ص/ 474. (5) سورة الواقعة، الآية: 55. (6) سورة القلم، الآية: 16.

بِالنَّاصِيَةِ «1»، وكثيرا ما شبّه الكفار بالأنعام والدّوابّ. وهكذا نجد أن القرآن ينفي عن المشركين صفة التفكير عند ما يقرنهم بالجماد، فهناك عملية تحنيط وتجميد لهم، ويأتي الحيوان في الدرجة الثانية من التّدرّج، لأنه يتسم بالحركة، والقرآن باستخدام الحيوان يبثّ الحركة فيهم، ويؤكد تسلّط الغرائز، وكلّ ذلك لأجل توصيل صورة القبيح في أسمى شكل مؤثّر، فالناصية خصّت بالدّوابّ عموما، وهي في الآية تدلّ على تحقير الكافر ومهانته، فهو كالبهيمة تضرب ناصيته، وهو يشرب كالحيوان من الماء المغلي، ويعدل عن ذكر أنفه، فيضخّم قبحه، ويمثّل بحيوان له خرطوم، ويتجلّى القبح في العدول عن الأنف إلى الخرطوم، فهنا هبوط بآدمية المفتون الشرير إلى دونيّة البهائم والسّباع «2» التي كان يعيش عيشتها. ونقف على ذكر العنكبوت في القرآن، ونتلمّس المعالم النفسية التي ذكرها بعض الدارسين، فقد قرن عمل الكافرين في القرآن ببيت العنكبوت، إذ جعلهم: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «3»، ونبدأ بالجاحظ صاحب النظرة العلمية، لنفيد من تخصصه وتذوّقه، فهو يقول: «فدلّ على وهن بيته، فكان هذا القول دليلا على التّصغير والتقليل» «4». إنّه يشير إلى هلهلة ما تنسجه العنكبوت، وينتقل مباشرة إلى العبرة من هذا التجسيم، وقد قال الرماني في هذا الشاهد: «تشبيه قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، وقد اجتمعا في ضعف المعتمد، وو هاء المستند، وفي ذلك التحذير من حمل النفس على الغرور بالعمل على غير يقين» «5». لقد نبّه إلى تجسيم المعنى المجرّد، وهو الأعمال القبيحة بصورة مرئية تعتمد التشبيه المركّب، ودلّ على طبع هذا الحيوان، ليعطي البعد الإنساني

_ (1) سورة العلق، الآية: 15. (2) انظر عبد الرحمن، عائشة، التفسير البياني: 2/ 63. (3) سورة العنكبوت، الآية: 41. (4) الجاحظ، الحيوان: 3/ 38. (5) الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل، ص/ 78.

لذكره، واهتمامه يرتكز على البيت، وليس العنكبوت بشكله البشع وما يضفيه على الكافر، وقد انشغل الزمخشري بتذييل الآية وهو قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1» فقال: «أي لا يعقل صحّتها وحسنها وفائدتها إلّا هم، لأن الأمثال والتشبيهات، إنما هي الطّرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار» «2». وانشغاله بتذييل الآية يقدّم فكرة جليلة، لأنه يرى أنّ وعي انتقاء الحيوان للمعاني يحتاج إلى تمحيص وتدبّر، وذلك لفهم إيحاءات جمّة يفهمها العالمون بتدبّرهم وتذوقهم، وفي هذا التذييل هنا تعريض بجهل هؤلاء المعترضين على القرآن. ولن نستفيض في البحث، ونستقصي جميع الحيوانات المذكورة في الصورة الفنية، وفي جميع كتب الدارسين، فإن هذه الطريقة لا تقدّم النفع الكبير، وبما أننا الآن اقتصرنا على ذكر العنكبوت، وتركنا سائر أقوال الدارسين في هذا «3»، وقد داروا في فلك الجاحظ والرماني، فلا بأس أن نعرض لتأمل معاصر، لنرى ما تمتاز به النظرة الحديثة، وهذا يمثل تطبيقا لرأي الزمخشري في ربط أهمية الأمثال بالخاصّة، إذ يقول فتحي أحمد عامر: «والعنكبوت أقذر ما تقع عليه العين، حيث لا يألف إلّا الأماكن المهجورة، ولا يعيش إلّا في الخرائب، ولا يصح في حكم العقل، أو في حكم العاطفة والوجدان أن تكون العنكبوت على حظ، ولو قليل من النظافة الحسية والنظام، وبيتها أو هن البيوت بالاستقراء، لأنه لا يحتمل نفخة واحدة، فتتطاير خيوطه المهوّشة مع الريح، والعلاقة بين الهيئة الأولى والهيئة الثانية علاقة نفسية، فعبّاد الوثن يتخذون أحقر أنواع العبادة، ولا يصحّ في حكم العقل أو في حكم العاطفة أن يكون هؤلاء الذي يسجدون لصنم على حظّ، ولو قليل، من النظافة المعنوية والعفّة والترفّع عن الدّنايا» «4».

_ (1) سورة العنكبوت، الآية: 43. (2) الزمخشري، الكشاف: 3/ 206. (3) انظر مثلا: أبو هلال العسكري، الصناعتين، ص/ 242، والعلويّ، الطّراز: 1/ 327. (4) عامر، د. أحمد فتحي، 1976، المعاني الثانية في الأسلوب القرآني، ط/ 2 دار المعارف بمصر، ص/ 427.

وهكذا لمسنا تنفير هذه الحشرة للناظر، وقد ركّز القرآن على العنكبوت مؤطّرة ببيتها الزّريّ، فشكل البيت مع الحيوان لا يريح البصر، وكل ما يعرف عن قذارة هذه الحشرة يعدّ مفسّرا لجمالية تجسيمها لقبائح الكفار. لكن القدامى كانوا أدقّ في تحليل المثل، لأنهم وعوا إشارة قوله «وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت» وما قاله عامر ليس تفسيرا للمقصد الأساسي، بل هو أخذ بإيحاءات المثل وظلال المشهد، لأن المراد في الآية وهن بيت العنكبوت لا قذارتها. ومن جهة الإحاطة قلّما نجد ما يشفي الغليل، إلا قليلا لا يردّ ولا يستهان به، ففي الآية: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «1» نجد جدّة وعمقا لدى الزمخشري، وقد ذكر هذا الحيوان بصورة إيجابية لدى ذكر النّعم، فهو وسيلة للركوب، وذكر أيضا في مجال التّشنيع والتّسفيه داخل الصورة الفنية، وقد شبّه به الكفار في نفورهم وإعراضهم عن آيات الله، وفي هذه الآية يقصد نهاقه المذموم الذي شبّه به الصوت المرتفع، يقول الزمخشري: «والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهاقه، ومن استفحاشهم لذكره مجرّدا، وتفاديهم من اسمه، أنهم يكنّون عنه، ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عدّ من مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرا، وصوتهم نهاقا، مبالغة في الذمّ والتهجين» «2». وما يضاف أن مقولته تنطبق على كل الصور التي استخدمت الحمار مثل قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «3». وقوله: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ «4»، وليته

_ (1) سورة لقمان، الآية: 19. (2) الزمخشري، الكشاف: 3/ 234. (3) سورة الجمعة، الآية: 5. (4) سورة المدّثّر، الآيتان: 50 - 51.

تحدّث عن الصوت المزعج للحمار، وقد يكون أحيانا بلا سبب، كما يرفع الناس أصواتهم أحيانا، لأجل فقّاعة من فقاقع الحياة وقشورها البالية. وهذا ما لفت إليه النظر الدكتور نور الدين عتر عند ما تلمس جمال التعبير في الصيغة، إذ يقول في تفسير الآية: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «1»: «صورة منفّرة غاية التنفير، تزيدها بشاعة صيغة الجمع «الحمير» وتوحيد كلمة «صوت» الذي يدلّ على صوت هذا الجنس البالغ غاية القبح بسبب ارتفاعه وصخبه» «2». لقد استطاع بعض الأسلاف التوصّل إلى جمال الاستمرار في الطبيعة التي اختيرت للصورة الفنية، وهذا الثّبات أو الاستمرار قائم لدوام صنيع الكفار، واستمرار أسلوب المنافقين، فما أحقّهم بصفات حيوانية لا يختلف فيها اثنان. وقد رأى بدوي أنّ من عوامل استحقاق وجود المشبّه به هنا ما يمهّد له في الآية، ومن شواهده قوله عزّ وجلّ: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «3»، إذ يقول: «وأنت ترى في هذا التشبيه كيف مهّد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوبا لا يفقهون بها، وأعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، ألا ترى نفسك بعدئذ مسوقا إلى إنزالهم منزلة البهائم؟» «4». لقد تراءى لبعضهم أن الرومنسيين هم الذين أدخلوا فكرة تصوير القبيح، وهذا ما تراه روز غريب قائلة: «وهنا تصبح أهمية المعنى كعنصر جمالي، أنه يسمح للقبح أن يكون مظهرا من مظاهر الفنّ، فكم من وجه قبيح كثير العيوب يجذبنا بقوة تعبيره وجمال معانيه» «5». بيد أننا لا نجد مسوّغا لأولوية الرومنسيين، إلّا إذا كان المقصود تفريغ

_ (1) سورة لقمان، الآية: 19. (2) عتر، د. نور الدين، 1982، محاضرات في تفسير القرآن الكريم، طبعة أولى، المطبعة التعاونية، دمشق، ص/ 73. (3) سورة الأعراف، الآية، 179. (4) بدوي، من بلاغة القرآن، ص/ 205. (5) غريب، روز، النقد الجمالي، ص/ 81.

تصوير القبح من المعاني السامية، فهو قبح غير هادف، إذ يرتكز الهجاء على معاني القبح في شعرنا العربي. ولا شكّ في أن القرآن بثّ الجمال في الإتقان الفني لدى تصوير القبح من غير إهمال الوظيفة السامية للصورة المؤثّرة، ولعلّ هذه العجالة المتواضعة تؤكد أن القرآن في ترهيبه يصوّر القبح بطريقة مؤثّرة غاية التأثير، خصوصا في السور المكية، فنجد شجرة الزّقّوم، وامتلاء البطون بالنار، والماء الذي يشوي الوجوه والثياب النيرانية، والمقامع الحديدية والصّديد. وهذا لا يبعث على الرعب الخالص أو القرف وحده، كما يكون أحيانا في الفن، إنما يطغى شعور بالرّهبة والخضوع لصاحب الهيبة العظمى، والحيوان مسخّر لصالح البشر، ولا يعني ذكره في الصورة إلا تأكيدا لبعض الخصوصيات والاستفادة منها للتعبير، ولا سيّما الأنعام. ولا بدّ من التأكيد على أن القرآن يبيّن أهمية الجماد والحيوان، فهما من مخلوقات الله عز وجل، وقد أقسم القرآن بالجماد، مثل: الصبح والنجوم والكواكب، وبالنباتات، مثل: التين والزيتون، لتدلّ هذه الأشياء على عظمة الخالق، وقد اختار في الصورة الفنية النبات، وأحكم اختياره بنزع صفة الحياة عنه عند ما وصف الكفار، فالخشب مسنّدة، والعصف مأكول، وأعجاز النخل منقلعة من جذورها. أما في وصف المؤمنين فقد اختار النبات الحي، قال عز وجل: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «1» فالتشبيه بالزّرع ينمّ على حيوية ونشاط، وخصوصا بإحكام المشبّه به بمؤازرة الشّطء والاستغلاظ والاستواء، مع ما تفيد الفاء من سرعة في النماء. ونستنتج أن القدامى وقعوا على المدلول الفني لذكر مشاهدات الطبيعة، وذلك وفق مصطلحاتهم الدقيقة، وأنهم فهموا اقتصار الصورة الفنية على الجانب القبيح من الحيوان، وذلك بدءا من الجاحظ.

_ (1) سورة الفتح، الآية: 29. والشّطء: فرخ الشجر وأول ورقه.

وقد بيّنّا أن المعاصرين أكّدوا عموم الطبيعة في القرآن، ونفي اقتصارها على البيئة العربية، كما أنهم أضافوا بعض إثارة من الخيال في تملّي جمال ذكر مفردات الطبيعة، ولا ريب أن القدامى يظلّون أكثر موضوعية، لمحافظتهم على دقّة المصطلح، واعتمادهم العقل والذوق الواضح، وأنهم قدّموا مادّة وفيرة في هذا المجال. وقد درسنا الجماد والنبات في مكان واحد، لأن القرآن نفي صفة الحياة عن النبات الذي شبّه به الكفار، فكأنه جماد. وتدل المشاهدات على أن الجماد يشارك النبات في السكون وعدم الإحساس، إلّا أن النبات يتصف بالنمو، كما أن النبات يشارك الحيوان في النمو، ويأتي دونه، لأن الحيوان يتصف بالغريزة والتنقّل ويأتي الإنسان الذي وهبه الله العقل على رأس هذه المخلوقات التي يدل ترتيبها على عظمة خالقها.

3 - إسهام المفردة في التشخيص

3 - إسهام المفردة في التشخيص - التشخيص لغة: لا بدّ من الرجوع إلى المعجم لمعرفة الأصل المادي للتشخيص، ومعرفة ما يحتفظ به من الحسيّة، ففي لسان العرب: «شخص بصر فلان إذا فتح عينيه، وجعل لا يطرف، وشخوص البصر ارتفاع الأجفان إلى فوق» «1» ونحن نلمس هاهنا معنى الوضوح والظهور في التشخيص، وفي المعجم الوسيط: «الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور، وغلب في الإنسان» «2»، وقد قال عزّ وجلّ: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا «3». - التشخيص اصطلاحا: إن مصطلح التشخيص مصطلح بلاغي مستحدث لم يرد في كتب الإعجاز، وقد اشتقّ من فعل شخص الذي يدل على الوضوح والظّهور، «والشّخص» التي تختص بالإنسان. ويقول صاحب المعجم الأدبي: «التشخيص إبراز الجماد أو المجرّد من الحياة من خلال الصورة بشكل كائن متميّز بالشعور والحركة والحياة» «4». وقد كثر هذا الفن في الشعر الأندلسي عند ما تكونت علاقة عاطفية بين المبدع والمشاهدات كأن يضفي الشاعر على مشاهد الطبيعة الشعور بالحزن فتتعاطف معه الأزاهير وتعطف عليه الأغصان إذ يملّك الشاعر مشاهد الطبيعة مشاعر إنسانية سامية. وبالمقابل عاطفة السرور التي تشعر بها الطبيعة عند ما يكون الشاعر في غبطة وسرور فيكون الضياء ابتسامة رقيقة، ويكون النسيم دغدغة لطيفة.

_ (1) ابن منظور، لسان العرب: مادة (ش. خ. ص): 12/ 99. (2) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط: 1/ 478. (3) سورة الأنبياء، الآية: 97. (4) عبد النور، جبّور، المعجم الأدبي، ص/ 67.

ونريد في هذه الصفحات أن نبيّن تأثير انتقاء المفردات التي يكمن فيها هذا الفنّ، وهو في كتب البلاغة أدخل في الاستعارة، كما سنبيّن، لأن المفردة المشخّصة تستعار من الإنسان للجماد، لبثّ روح فاعليّة الإنسان في الأشياء. وقد رأينا في استعارة الجماد والأحياء ما يوحي بهبوط الأسس الانسانية في الكافرين، وهاهنا نرى في التشخيص صعودا بالأشياء، لتأخذ صفات بشرية، تساعدها على التأثير. ولعل من جماليات هذا الفن أنه يلقي الطمأنينة في نفس القارئ، عند ما يقدّم له مثيله في رفع مستوى الأشياء، فيتلاشى الشعور بالغربة والانعزال، وهكذا يجعل التشخيص المعالم كائنات عاقلة أو أشخاصا، فيشعر المرء بمشاركتها الوجدانية. ومن الدليل على بحث المرء عن قرينه في الفن، ليتوحّد مع الأشياء، أنه يشخّص الكثير من الأعمال الفنية، فيجعل لها صفات بشرية، كما جاء عن الفئة المشخّصة التي تجعل من الأعمال الفنية أشخاصا، وربّما وصف اللون بالخامل أو العنيد أو النشيط «1». وهذا توسّع في الكلام حتما، ومن باب المجاز المساعد على التخييل، ولعل التشخيص أبعد الفنون عن المباشرة في توصيل الكلام، بل هو نوع من التخييل البعيد كما يرى سيّد قطب «2». وفائدته أنه يمتلك مخزونا مؤثّرا في توسيع رقعة الخيال لدى المتلقّي، وليس تلك النّقلة العادية في مجال الاستعارة، فهذه النّقلة تعني التحوّل من مجال الإخبار إلى مجال الرؤية بواسطة الخيال، فيضاف هنا إلى المسألة الاخبار المباشر عمق التأثير. ويقول مجيد عبد الحميد ناجي: «التشخيص ينقل الصورة من مجرّد

_ (1) انظر، عبد القادر، حامد، 1949، دراسات في علم النفس الأدبي، ط/ 1، المطبعة النموذجية، القاهرة، ص/ 112. (2) انظر كتاب قطب، سيد، التصوير الفني، ص/ 63.

- تشخيص المفردة عند القدامى:

الإخبار الذي يحتمل الصّدق والكذب إلى تخيّل مشاهدة أحداثها ووقائعها، مما يوهم المتلقّي أن ما هو مبنيّ على الظن أصبح يقينا» «1». - تشخيص المفردة عند القدامى: إننا نقع على أول إشارة إلى مفهوم التشخيص عند أبي عبيدة مع سابق علم بأن جميع دارسي الإعجاز القدامى لم يذكروا هذا المصطلح، بيد أننا نجد جماليته في أبواب الاستعارة، وهي في الأغلب عند المحدثين تجسيم، وقد قال أبو عبيدة: «ومن المجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر النّاس» «2»، والمجاز عنده كل ما يجوز في اللغة من حذف وإيجاز وإسناد وتشبيه واستعارة وغير هذا، ولا يختلف هذا الكلام عن التعريف الحديث للتّشخيص، وقد استشهد بالآية: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «3»، والآية: رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «4». لقد انتبه إلى اختصاص «أولئك» بالإنسان، وكذلك «السّجود» بيد أنه لم يفض في أهمية الحواس العليا في مجال التشخيص. ويمكن أن نضيف إلى شاهديه قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «5»، فنحن نجد أنّ البيان القرآني استعار السّباحة للكواكب، فجعلها عاقلة، مما يدل على طواعيتها، وتفهّمها لأمر خالقها. ولم يقف الدارسون على مثل هذه الآيات في باب الاستعارة فقط، إذ نجد هذه الآيات في باب المجاز «6»، مما يدل على أنهم لمسوا البعد النفسي في

_ (1) ناجي، مجيد عبد المجيد، 1984، الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ط/ 1، المؤسسة الجامعية، بيروت، ص/ 178. (2) أبو عبيدة، معمر بن المثنّى: مجاز القرآن، ص/ 10. (3) سورة الإسراء، الآية: 36. (4) سورة يوسف، الآية: 4. (5) سورة الأنبياء، الآية: 33. (6) انظر مثلا الزركشي، البرهان: 2/ 274.

آيات أخر، ووجدوا في هذه توسّعا عاديا من قبيل الاستعمال اللغوي المجازي، مع أن المجاز لا يختلف عن باب الاستعارة، فإذا كان المجاز مرسلا فهو استعارة، والمرسل ما أرسل عن قيد التشبيه، وكذلك التشخيص فهو استعارة معقول لمحسوس. وتأكيدا لهذه النظرة نورد رأي ابن قتيبة وابن الأثير في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ «1»، إذ يردّ ابن قتيبة القول إلى حيّز الحقيقة لتوضيح المعنى «2»، ويقول ابن الأثير: «نسبة القول إلى السماء والأرض من باب التوسّع، لأنهما جماد، والنطق إنما هو للإنسان لا للجماد» «3». ومما يحمدون عليه أن يشير الدارس إلى أهمية اللفظة المشخّصة بقوله «هذا أبلغ» بعد أن يبيّن الحقيقة اللغوية، ففي الآية الكريمة: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ «4» تتفق الآراء في أنّ الحقيقة علا، و «طغى» أبلغ لأنّ فيه قهرا، وهو استعارة معقول لمحسوس، وقد كانت بداية هذا التذوق لدى الرّمّاني «5». سوف نورد بعض المفردات التي عني بها بعضهم عناية مرضية، فنحن لا نرى تفسيرا لغويا في كل الأحوال، وخصوصا أن المحدثين لم يخرجوا كثيرا عن تعليقات السّلف، حتى إنهم اعتمدوا شواهد القدامى نفسها. هنالك آيات في ذكر جهنم وتصوير أهوالها، أسبغ البيان القرآنيّ عليها صفات جديدة، لتفجير طاقة التأثر، بما يكنه التّخييل الذي تبعثه المفردة في

_ (1) سورة فصّلت، الآية: 11. (2) انظر، ابن قتيبة عبد الله بن مسلم، 1952، تأويل مشكل القرآن، تح: أحمد صقر، ط/ 1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ص/ 78. (3) ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 363. (4) سورة الحاقة: الآية: 11. (5) الرماني، ثلاث رسائل، ص/ 80، أبو هلال العسكري، الصناعتين، ص/ 271، وانظر ابن قيّم الجوزية محمد بن أبي بكر، 1328 هـ، الفوائد ط/ 1، مطبعة السعادة بمصر، ص/ 48.

ثوبها الجديد، إذ يقول تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً، وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ «1»، ويقول الرماني عن الآيتين: «شهيقا حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكي، والاستعارة أبلغ منه وأوجز، والمعنى الجامع بينهما قبح الصّوت وتَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ حقيقته من شدّة الغليان بالاتّقاد، والاستعارة أبلغ منه، لأنّ مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك ما يدعو إليه من شدّة الانتقام، فقد اجتمع شدّة في النّفس تدعو إلى شدّة الانتقام في الفعل» «2». ولا يقلّل من شأنه نظرته الذوقية ما جاء في كتب غيره عن ربط الشهيق بصوت الحمار، ونهم البغلة إلى الشّعير «3»، ويبدو لنا أن النظرة الأخيرة تصور عنفوان جهنم بصورة أقوى، فالرماني أحسّ بالصفة الآدمية التي جعلت من النار إنسانا يبكي من الغيظ، وتكاد تتقطّع غيظا من الكافرين، بعد انتظار طويل، وقد أحسّ بدافع الانتقام الذي جعلها عاقلة أشركت في مهمّة قصد العذاب، وصحيح أنه بدأ شارحا إلا أنه نبّه إلى قدره الترويع في هذه الاستعارة، ولذلك نرجّح هنا نظرة الرماني التي تدلنا على الحالة النفسية التي اكتسبتها النار المغتاظة. كذلك نجد مثل هذا التأمل العميق النابع من ذوق شخصي لدى الشريف الرضيّ، فقد قال: «وصف النار بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه أن يبالغ في الانتقام، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام» «4». ولا نعدم مثل هذا التعمق لدى الزمخشري الذي أشار إلى رغبة المغتاظ في تقطيع أعضائه، وكأنّه يتقطّع، ويمزّق ما عليه «5». ونحن نستشف من كلام الباحث القديم أن التركيز يظلّ على المفردة المنقولة، غير أن الباحث المعاصر يؤكد هذا بصراحة كما سيمرّ بنا.

_ (1) سورة الملك، الآيتان: 7 - 8. (2) الرماني ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 80، وانظر أبو هلال العسكري، الصناعتين، ص/ 271 وغيره. (3) انظر أبو السعود، إرشاد العقل السليم: 9/ 4. (4) الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 339. (5) الزمخشري، الكشاف: 4/ 136.

ومن هذا القبيل تملّيهم جمال الآية الكريمة: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «1»، فنحن نفهم أهمية كلمة «يدمغه» في سياق كلام الشريف الرضي الذي قال: «الدّمغ إنما يكون عن وقوع الأشياء الثّقال، وعن طريق الغلبة والاستعلاء، فكأن الحقّ أصاب دماغ الباطل فأهلكه» «2». وتتسم كلمة «يدمغه» بالاختزان نتيجة اشتقاقها من عبارة «ضربة على دماغه»، وكذلك يعطي الزمخشري الأهمية الكبرى للمفردة المشخّصة، وبشكل أوضح في تفسيره للآية: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ «3» إذ يقول: «كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولم يستفصحها كلّ ذي طبع سليم، وذوق صحيح إلا لذلك وإلا فإنّ قراءة معاوية بن قرّة: «ولمّا سكن الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزّة، وطرفا من تلك الرّوعة» «4». وهو يفصح عن هذه الإضاءة التي تلقيها المفردة المنقولة، وذلك من خلال ذوقه الشّخصي، مضافة إليه معرفته بالقراءات، وقراءة معاوية على أية حال مخالفة لرسم المصحف ولا ثبوت لها. وإذا ما تقدم الزمن، ووصلنا إلى أمثال ابن قيم الجوزية والزركشي والسيوطي، فلا يعدو الأمر استعارة معقول لمحسوس أو مجازا، لأن هؤلاء لم يتخصصوا في البيان الأدبي، إنما ألّفوا كتبا جمعوا فيها ممن سبقهم، لذلك يكتفى في كتبهم بتبيين أطراف الاستعارة «5»، ولا نجد ظلالا نفسية كالتي وجدناها عند سابقيهم.

_ (1) سورة الأنبياء، الآية: 18. (2) الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 228. (3) سورة الأعراف، الآية: 154. (4) الزمخشري، الكشاف: 2/ 120. (5) انظر ابن قيم الجوزية، الفوائد ص/ 48، والزركشي، البرهان: 3/ 489، والسيوطي، الإتقان: 2/ 70.

- تشخيص المفردة عند المحدثين:

- تشخيص المفردة عند المحدثين: إن طبيعة كتب المحدثين تقف حاجزا أمام تتبّع آرائهم جميعا ومقارنتها، لأن كتبهم كما ذكرنا سابقا أغلبها غير مختص بالبلاغة القرآنية، إنما هي في علوم القرآن كلها، فنحن مثلا نقع على شاهد قرآني في كل الكتب القديمة، كما هي الحال في هذه الفقرة، وهناك كتب للمحدثين تهتم بالتشبيه، فلا نصيب فيها لما نبغي. والجدير بالذكر أن هذا الفن، أوّل ما نجده في كتاب أحمد بدوي على الرغم من مخالفته في تسمية هذا الفن، إلا أنّه قدّم عملا رائعا يقرن به ما جاء في كتاب صبحي الصالح، ونلفت الانتباه إلى أنهم أعادوا شواهد القدامى، ثم نقل بعضهم عن بعض. لا بد الآن من أن نورد تعليق صبحي الصالح، لنرى ما أتى به المحدثون الذين فتحوا أعينهم على ثقافات عصرهم، وهو الباحث الذي يعترف للسلف بالجهود الكبيرة، وهذا إنصاف منه، وترفّع على التحامل في البحث العلمي، إذ يقول في الآيتين السابقتين: «مع أن تشخيص جهنّم هو الذي يجعل المشهد حافلا بالحياة والحركة، فهي مغيظة محنقة تحاول أن تكظم غيظها حين ألقي إليها المجرمون، ولكأن منظرهم البشع كان أشدّ من أن تتحمّله، وتصبر عليه، فتلقّتهم بألسنة لهبها، وهي تئزّ وتشهق، وبمهلها وقطرانها، وهي تغلي وتفور، حتى كاد صدرها ينفجر حقدا عليهم، ومقتا لوجوههم السّود، فليس في الصورة استعارة معقول لمحسوس فقط، وإنما استعيرت لجهنم شخصية آدمية، لها انفعالات وجدانيّة، وخلجات عاطفية، فهي تشهق شهيق الباكين، وهي تغضب وتثور، وهي ذات نفس حادّة الشعور» «1». وهكذا نجد أن الانفعالات والشعور الحادّ عند الرماني «شدّة في النفس»، وليس الفرق كامنا بين إجمال وإسهاب، إنما التأكيد على المخزون الروحي لعملية التشخيص، وتجاوز الحسية. يقف المحدثون أحيانا على الكلمة المشخّصة التي أعطت الجملة المعنى الجديد، أما القدامى فغالبا ما نظروا إلى جملة النص، من غير الرجوع إلى

_ (1) الصالح، د. صبحي، مباحث في علوم القرآن، ص/ 325.

أجزائه، ليتوصلوا إلى فضل المفردة، فقد كان السياق العام مقصدهم وشاغلهم، يقول تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها، وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً «1». ولا بأس أن نوازن هنا بين تعليق الشريف الرضي وبين صبحي الصالح، يقول الشريف الرضي: «أي لبست زينتها بألوان الأزهار، وأصابيغ الرّياض، كما يقال: أخذت المرأة قناعها إذا لبسته» «2». فلا يقف هنا على المفردة المشخّصة، بل يشغل بالسياق العام خلافا لما يذكره صبحي الصالح، إذ قال: «أما الأرض فشخّصت مرتين، وقامت بحركتين، إذ أخذت بنفسها زخرفها، كما تفعل العروس في يوم جلوتها، وتطلّبت الزينة تطلّبا، وسعت إليها سعيا، فلم تزيّن، ولكنها ازّينت» «3». لقد نوّر صبحي الصالح في كتابه جمالية التشخيص، وركز على أهمية المفردة، وهنا يستمد إيحاءها من خلال صيغتها التي توحي بالإرادة، لأن الفعل لازم مما أفاد بثّ الروح في هذه الأرض. ويؤخذ على المعاصرين ضالة حجم اهتمامهم بالتشخيص في بحوثهم، وكذلك اختلافهم في تسمية الفن، وإن كان مأخذا شكليا، لأن اختلاف التسمية لم يقف عائقا عن التعمق في كشف الإيحاء، فأحمد بدوي يقول حول الآية السابقة من سورة الأعراف: «وقد يجسّم القرآن المعنى، ويهب للجماد العقل والحياة، زيادة في تصوير المعنى، وتمثيله بالنفس، وذلك بعض ما يعبّر عنه البلاغيون بالاستعارة المكنية» «4». وهو يريد حذف المشبه به من الكلام، والاكتفاء بشيء يذكّر به، كالدّمغ والشّهيق والغيظ من الإنسان، ونفهم من كلامه أن «سكت» تجسّم، ونرى أن

_ (1) سورة يونس، الآية: 24. (2) الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 155، وانظر السيوطي، الإتقان: 2/ 70. (3) الصالح، د. صبحي، مباحث في علوم القرآن، ث/ 326. (4) بدوي، من بلاغة القرآن، ص/ 221، وانظر الشيخ أمين، بكري، التعبير الفني، ص/ 196.

التشخيص أخصّ من التجسيم، لأن التجسيم يعني تصوير المعاني بمحسوسات، أي نقل المجرد إلى الحسي، وربما لا يتخذ حركة أو شعورا بشريا، لتبيين المعنى، لذلك يظلّ صبحي الصالح صاحب الفضل في التركيز على مصطلح التشخيص، فلا يقتصر الأمر على جعل المعنوي مرئيا ملموسا، بل تضاف إليه الصّفات الآدمية، أما التصوير فهو شامل لهما أي: التجسيم والتشخيص. إن الفن يشارك الفكر في جلاء الفكرة في البيان القرآني، ولا ينفصم أحدهما عن الآخر، وذلك لأن غاية التأثير لا يمكن أن تكون زائدة على المعنى، والتشخيص من أسمى مظاهر التأثير. ونستنتج هاهنا أن القدامى توصّلوا إلى جماليّة إضفاء المشاعر على الكائنات الجامدة، وتذوّقوا هذه السمة الفنية بمستوى لا يختلف عما جاء لدى المعاصرين، إذ كشفوا قبلهم عن الدلائل النفسية لهذا التصوير الذي يبثّ الروح في الجماد. كما تحمد لهم وفرة الجهود في المقام بالنسبة إلى ما مرّ به المعاصرون، ويبدو أنهم ظلوا يعبّرون عن هذه السّمة بالاستعارة والمجاز تقديسا للنص القرآني، فلم يذكروا تجسيما أو تخييلا.

4 - جمالية الحركة في المفردة

4 - جمالية الحركة في المفردة الحركة مظهر من مظاهر الوجود الحي، فبدءا من الذّرّة حتى المجرات نجد أن الحركة سمة المخلوقات، وكذلك هي سمة الكائنات الحية، فالحركة حياة والسكون موت، كما تؤكد حركة الوجود بثّ الروح فيه وطواعيته للخالق عزّ وجلّ، وهي ليست حركة عمياء، بل قدّر لها كلّ شيء. وللمنظّرين آراء في جمال الحركة في الفن، وهم يطلقون صفة الجمال عليها بقدر ما تعبر بصدق تصويرها عن الحياة، فالحركة موجودة في حياتنا، في تصرفاتنا اليومية، وموجودة في الفنون على تنوعها. وغايتنا في هذه الفقرة التحدّث عن الحركة التي تنقلها بعض مفردات القرآن، ومن ثمّ البحث في أنواع هذه الحركة، وبسط علاقتها الوشيحة بالحالة الشعورية، واستحقاق مطابقتها لحكم المنطق. وقد تطرق «جويو» لجمال الحركة في الحياة والفن، ورأى أنها قوية رشيقة وبطيئة، وقال في ذلك الموضع من كتابه «مسائل فلسفة الفن المعاصرة»: «فالجمال الأسمى في الحركات إذن من غير الحركات، إنه يأتي من فوق، ويأتي من أفق الإرادة والعواطف، ولكي نجد تعليله الصحيح، فلا بدّ من الصعود إلى هذا الأفق أفق الارادة والعواطف» «1». وهذا شيء صحيح ما دامت التصرفات ترجمة لما يرسله الدّماغ المتأثر بالمشاعر من أوامر عن طريق الأعصاب، فتتحرّك العضلة المطلوبة، لذلك تنحصر غايتنا في الدافع النفسي للحركة، وحجم تصويرها للمواقف، وكشفها بدقّة عن المشاعر الدفينة، مما يثير مشاعر القارئ بالصورة. ويمكن أن نجد هذه الجمالية تحت عنوان الاستعارة، في كتب القدامى، كتصوير الحركة القوية، وذلك لوضوح استعارة الزلزلة للاضطراب، والانقلاب

_ (1) جويو، جان ماري، 1948، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي، ط/ 1 دار الفكر العربي، القاهرة، ص/ 48.

- الحركة القوية السريعة:

للتحولات الوجدانية وغير هذا. وقد تنبّه الأسلاف القدامى إلى جمال الحركة القوية أكثر من الحركة الخفيفة البطيئة، إلا أن وقفاتهم لم تشتمل على كل ما جاء في الكتاب الكريم. ولم تسر على منهج واحد من الوضوح والكشف الفني، فقد يشير الدارس إلى جمال الحركة في الصيغة ولا يؤبه بها في موضع آخر، وقد تكون النظرة من خلال الفروق اللغوية، أو في سياق توضيح الاستعارة، فقد لمسوا قوة الحركة وسرعتها أو بطأها مشيرين أحيانا إلى إيحائها على قدر مصطلحهم وعصرهم. ونمرّ في هذه العجالة بمفردات شهد لها بتصوير الحركة: القوية السريعة والبطيئة، ومن ثمّ نعرّج على تجسيم الصوت والصيغة للحركة كما جاء عند بعض المحدثين، ونترك التوسع في تجسيم الصوت للمعاني إلى مكان آخر، وسوف نبين أخيرا سلبيّات بعض المحدثين في إقحام المفردة في لجج أوهامهم واستنطاقها ما ليس فيها. - الحركة القوية السريعة: ولا بأس أن نمرّ ببعض النماذج وفق ما جاء لدى الدارسين، فقد أشار ابن قتيبة إلى قوة الانزلاق في قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ «1». فلا شك أن الانزلاق هو الذي لفت نظره وجعله يقف على هذه الآية قائلا: «يريد أنهم ينظرون إليك بالعداوة نظرا شديدا يكاد يزلقك من شدّته أي يسقطك» «2». ولكنه لا يبسط هذا الانزلاق الحسّي، ولا يربطه بحركة العيون كما يريد البيان القرآني، وقد ظلّ مفسّرا للمعنى، ولم يظهر أبعاده الفنية، ثم شغل بذكر شعر في المعنى نفسه، بدلا من الاهتمام بهذه المفردة التي تصوّر العيون تحرّك وتبطش.

_ (1) سورة القلم، الآية: 51. (2) ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، تأويل مشكل القرآن، ص/ 129.

ويشير الرماني إلى الشّدّة المكنونة في لفظة «زلزلوا» التي تنم على اضطراب أعماق المؤمنين الذين انتظروا فرج ربهم، يقول تعالى: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا «1»، فقد عبر الرماني عن هذا الاضطراب قائلا: «زلزلوا أفضل من كل لفظ كان يعبّر به عن غلظ ما نالهم من الانزعاج فيهما، إلا أن الزلزلة أبلغ وأشدّ» «2». وكان في الإمكان الرجوع إلى المادة نفسها في القرآن، فنجد أن الزلزال حدث كوني عظيم، وهو مسخّر في الدنيا والآخرة، وفيه الارتجاج والانشقاق، وسائر المظاهر الطبيعية التي خوّف بها القرآن، وبهذا ننزع القشور الحسّية، لنشاهد زلزالا نفسيا. ويمكن هنا الاعتماد على كون تكرير الحروف مصاقبا لتكرير الحركة، فنجد أن الزلزلة تشتمل على اضطرابات نفسية متتابعة لا تنقطع، خصوصا أن الزلزال هائل، ولا سيطرة عليه، وكما يقول حفني محمد شرف: «إن الاستعارة التي تضمنتها لفظة «زلزلوا» التي شبه فيها الاضطراب النفسي الشديد الذي أصابهم كالزلزال، ومهما حاولنا تغيير لفظ الاستعارة فلن يؤدي المعنى المطلوب، ولا الحالة المرجوّة» «3». ونلمس إحساس الباقلاني بقوة الحركة لدى إشارته إلى قدرة تصوير بعض الآيات مثل قوله تعالى: قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «4»، ويقول: «ومما يصوّر لك الكلام الواقع في الصفة تصوير ما في النفس، وتشكيل ما في القلب حتى تعلمه وكأنك مشاهده» «5». وهو لا يذكر مصطلح الاستعارة، إلا أنه يريده في هذه المفردة، فالقدامى لم ينتبهوا إلى جمال الحركة إلا فيما ظهر في الاستعارة على الأغلب، وهم إذا

_ (1) سورة البقرة، الآية: 214. (2) الرماني، علي بن عيسى، ثلاث مسائل ص/ 83، وانظر العسكري، أبو هلال، الصناعتين، ص/ 274، والعلوي، يحيى بن حمزة، الطّراز: 1/ 245. (3) شرف، حفني محمد، الإعجاز البياني، ص/ 344 بتصرف لغوي. (4) سورة الشّعراء، الآية: 50. (5) الباقلّاني، محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، ص/ 244.

مرّوا بكلمات مستعارة تصور الحركة لا يذكرون الاستعارة، كما هي الحال عند الباقلاني الذي بيّن جمال الانقلاب. ولعلّهم يمرّون بالحركة القوة- الانقلاب- غير آبهين بقدرتها التصويرية، ففي قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ «1» نلمس سرعة التجار الكفار، ونشاطهم بين المدن والقوافل، وكأن البلاد الواسعة أطراف فراش يتقلّب بينها التاجر، وهذا يعني عمق تأثير الموقف لدى الرسول الكريم، ولا يكون هذا بكلمة «تجارة» أو «ذهاب» إنه تقلب. وفي هذه الآية يقول أبو السّعود: «وإنما جعل التقلّب مبالغة أي لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة، ووفور الحظ، ولا تغترّ بمظاهر ما ترى من التبسّط والمكاسب أو المتاجرة أو المزارع» «2». وقول مثل هذا يدلّ على إجمال التذوق الذي يلجأ مباشرة إلى مصطلح المبالغة، ولا ينير الناحية الفنية في تجسيم الحركة، وقد ذكرت معاني التقلب والانقلاب في القرآن خمسا وثلاثين مرة، وهي دالة على قوة الحركة وسرعتها، وعدم تذوق هذه الصورة ينطبق على المحدثين باستثناء قطب الذي يعدّ تفسيره أكبر رصيد لجمال الحركة، لأن تفسيره عني بالتصوير، فأجاد في التعبير عن قدرة المفردة على الرسم، وإن كانت له هفوات تمخّضت عن ذوق فردي. يقول تعالى: فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً «3»، وتعني الآية انتشار خبر موت الرسول الكريم في غزوة أحد، وتأنيب الخالق للمؤمنين، ويقول سيد قطب: «وفي التعبير تصوير حي للارتداد، فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة، وكأنه منظر مشهود، والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة، ولكن حركة الارتداد النفسية» «4».

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 196. (2) أبو السعود العمادي، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 2/ 135. (3) سورة آل عمران، الآية: 144. (4) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج 1: 4/ 486.

ومما يضاف هنا إلى قوة الحركة توالي القافات في المفردات الآتية: «قتل، انقلبتم، أعقابكم، ينقلب، عقبيه» ولعل هذا يدلّ على خشونة الطّبع، وشدّة التّوبيخ. وقد اكتفينا بنبذة من تأملات الدارسين لضيق الحجم، ولكثرة التّكرار في الكتب، ولا بأس أن نمر ببعض الآيات، ونتملى جمال الحركة في مفرداتها، ففي قوله تعالى: قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «1» نستشف أقصى غايات التغيّر، فالتعبير بالانقلاب يدل على أسرع حركة تجسّم تغيّر رأي السّحرة بفرعون، والتماسهم حبل ربّهم. كما نجد هذه القسوة والسرعة في الآية الكريمة: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «2» وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ «3». وكذلك في تصوير صلاته عليه الصلاة والسلام، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «4» فالتقلّب هنا يعبّر عن الحركة الرشيقة التي كان دافعها الإيمان القوي الراسخ. ويظهر جليّا أن القرآن يميل إلى بث الحركة في الكائنات والمشاعر، وانتقاؤه يدل على مناسبة المواقف، وإقناع العقل وإمتاع الوجدان بجوانب الحركة المبثوثة، فتغدو المشاهد موّارة تثير الخيال، وتتغلغل في الأعماق، ولا تكون سردا ذهنيا جافا. وكثيرا ما نجد الحركة القوية السريعة مما يبعث على تأثير خاص لا يطلب في موضع آخر، وقد قال جويو: «الصفة الأولى من صفات الجمال في الحركات هي القوة، والصفة الثانية من صفات الجمال في الحركات هي الانسجام، أعني ملاءمة الحركة لبيئتها وغايتها» «5».

_ (1) سورة الشّعراء، الآية: 50. (2) سورة الشّعراء، الآية: 227. (3) سورة الحجّ، الآية: 11. (4) سورة الشعراء، الآيتان: 218 - 219. (5) جويو، جان ماري، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي، ص/ 43.

ولدى الاستعانة بهذا يمكننا أن نعرض بعض المفردات التي خفي جمال حركتها على الدارسين، فلم يتأملوه حقّ التأمل، ولعلّ من أسباب هذا الخفاء أنهم تواكلوا على شواهد سابقهم، فحين أراد البيان القرآني التعبير عن ضعف المسلمين وحماية الخالق لهم نقرأ قوله تعالى: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ «1»، ففي الخطف قوة المعتدي، وضآلة المعتدى عليه، وهنا تبرز أهمية العناية السماوية، وكأن المسلمين في مكة حينذاك دمى يلتقطها بقوة فرسان أهل الأرض، كما دل التعبير ب «الناس» على هذا. ونقرأ عن انقلاب سحرة فرعون بعد رؤية البرهان الإلهي في المعجزة: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ «2»، وهذا يصوّر الشعور القوي الذي ترسّخ في أعماقهم، فنفضوا غبار الكفر، وسجدوا للقوة العليا، وكأن الشعور الجديد قد ألقى بهم على الأرض ساجدين، ومما يضاف هنا أن الفعل مبني للمجهول لتصوير القوة الخفية الحقيقة بالعبادة، والإنابة إليها، وهنا يثار الخيال لتصوّر شيء يضغط على الجسوم فتجسّد مستسلمة. ومن المفردات الكثيرة ما جاء في قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «3»، إنه السّعي الذي يكون أسرع من المشي. وكذلك سعي الرجل المؤمن في قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى «4» ليدافع عن موسى عليه الصلاة السلام، فالسّرعة مطلوبة في هذا الموقف لانسجامها مع الدافع الشعوري القوي. وفي قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى «5» عن ابن أم مكتوم الرجل الأعمى، إذ يصوّر لهفة هذا الأعمى إلى تعلّم الدّين، فليس وجود «يسعى» هنا

_ (1) سورة الأنفال، الآية: 26. (2) سورة الأعراف، الآية: 120. (3) سورة الحديد، الآية: 12. (4) سورة يس، الآية: 20. (5) سورة عبس، الآية: 8.

- الحركة البطيئة:

إلا لغاية جمالية، فهي ترسم مشاعر من لا يعهد به إلا المشي المتعثّر، لأنه أعمى الباصرة وقد أشرق الإيمان في حنايا صدره، وليس الأمر كما نرى موافقة لرويّ الفواصل. ومما يوحي بقوة الحركة ما جاء في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها «1»، فالربط يدل على القوة، كما يدل الختم على القلوب على قوة الحركة المحكمة في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «2». ولا شك أن القوة مقصودة في حركة الربط بعد أن فرغ قلب هذه الأم الرءوم لدى فراق ولدها، وكأن الربط يحميها من التلاشي أو السقوط، كما أن القوة مقصودة في الختم الذي يعني استمرار الكفار في عنادهم، وإن «ختم» لتثير الذهن ليحاول الإحاطة بالختم على المشاعر والآذان والعيون، وقوة الختم تؤكد معرفة الخالق باستحالة رضوخهم للحق، وبعدم إيمانهم. ويمكن أن تعبّر الصيغة عن حجم قوة الحركة، فنحن نقرأ مثلا قوله تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ «3» وصيغة الفعل المضعّف المفارقة ل «أغلقت» تعني شدّة الإحكام والتأكد الشديد من إغلاق الأبواب، وتعني ارتفاع الهمّة، وهذا يبعث في الذهن صورة الدّفع القوي للأبواب. والجدير بالذكر أن القدامى لم يهملوا علاقة اللفظ بالمعنى، فالصيغة تتخذ معنى محدودا لا يكون في غيرها، وكثيرا ما تحدثوا عن الكثرة الناتجة عن تضعيف عين الفعل، كما سنرى في فصل لاحق مع الاستدلال بالشواهد الكافية إن شاء الله. - الحركة البطيئة: الحركة في الحياة ظاهرة، وسريعة قوية وبطيئة، فالحركة البطيئة هي

_ (1) سورة القصص، الآية: 10. (2) سورة البقرة، الآية: 7. (3) سورة يوسف، الآية: 23، هيت لك: هلمّ أقبل.

الشّطر الآخر من صفة فاعليّتها الظاهرة. وقد عني القدامى بالحركة السريعة القوية، لأنها أدعى للتذوق الجمالي لارتباطها بالاستعارة، وكأنهم مروا بجمالية البطء في بعض المفردات، ولمسوا فيها حياد المباشرة، فلم يلتفوا إليه، ونسرد هنا بعض المفردات ونبيّن ما جاء في ربطها بالمدلول النفسي وموافقتها للموقف. وللخطّابي لمحة جيدة من خلال إحالتنا إلى الفروق اللغوية عند ما يذكر قوله تعالى حكاية عن المشركين: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ «1» إذ يقول متملّيا جمال لفظ المشي وموافقته للموقف: «بل المشي في هذا المحلّ أولى، وأشبه بالمعنى، وذلك لأنه إنما قصد به الاستمرار على العادة الجارية، ولزوم السّجيّة المعهودة في غير انزعاج منهم، ولا انتقال عن الأمر الأول، وذلك لأن المشي أشبه بالثّبات والصبر المأمور به، وفي قوله: امضوا وانطلقوا زيادة انزعاج ليس في قوله «امشوا» والقوم لم يقصدوا ذلك» «2». وكأن الخطابي يريد أن يقول: إن المشي أكثر من العدو والسعي، وهو لذلك ألصق بالطبع، بالثابت، ويعبر في بطئه ونمطه المعهود عن عدم مبالاة المشركين بما سمعوا، وعن إصرارهم على الكفر. وإنها للحركة الدالة على ارتياح، فهي توافق الدافع الشعوري، وتترجمه إلى واقع حسي، وهذه سمة رفيعة امتاز بها القرآن الذي يحيل السّرد إلى مشاهد منظورة قاصدا غاية التأثير. وهاهنا لمسنا أن الحركة البطيئة تصوّر الحالة الشعورية، وقد قال جويو عن الحركة الانسيابية: «فما هي الحركة التي تشعرنا إذ نحدثها أو نشاهدها بأنّها رشيقة؟ إنها الحركة التي توهمنا بأنها خالية من كلّ جهد عضليّ، فنرى الأعضاء تتحرك حرة طليقة كأنما يحرّكها النسيم» «3».

_ (1) سورة ص، الآية: 6. (2) الخطابي، حمد بن محمد، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 39. (3) جويو، جان ماري، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي، ص/ 43.

- تصوير الحركة بالصوت:

وقد صوّر القرآن حالة المنافقين، فاختار لقلقهم وفزعهم «مشوا» في قوله عزّ وجلّ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ «1»، وهنا تختلف الحالة النفسية، ومع هذا فالمشي مناسب، لأن هؤلاء يطلبون الخلاص مما يفزعهم فيقعدهم البرق والرّعد، ويضع حدّا لسرعتهم، أما المشي في الآية السابقة فهو دليل اطمئنان وارتياح نتيجة عناد، وهنا المشي مشوب بالخوف من ثورة الطبيعة المسخّرة، حيث شدّة الظلام وكثافة المطر والبرق الذي يخطف الأبصار، وفي هذا يقول أبو السّعود: «خطوات يسيرة مع خوف أن يخطف أبصارهم، وإيثار المشي على ما فوقه من السّعي والغدوّ للإشعار بعدم استطاعتهم لهما» «2». ومن مفردات تصوير البطء والانسياب ما جاء في الآية الكريمة: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ «3»، وقد تأمل البوطي جمال الحركة في «سارب» من خلال اللجوء إلى الأصل اللغوي، ف «سارب» تعبّر عن الوضوح والمسير الهادئ المناسب، وهو يقول: سارب بالنهار كلمة تصوّر لك الشيء إذ يسرب على وجه الأرض بارزا، فأنت تقول: سرب الماء، أي جرى في سجيّته على وجه الأرض بارزا متشعّبا يبرق ويلمع، والكلمة زيادة على ما فيها من جمال التعبير تصوّر لك شدة وضوح هذا الإنسان وظهوره مقابل شدة اختفاء ذلك الآخر واستتاره» «4». - تصوير الحركة بالصوت: من المحدثين من تلمّس جمالية البطء في التشكيلة الصوتية للمفردة نفسها، أي توالي الفتحات والضمات ومواقع الشّدّات، وطبيعة الأصوات، وهذا المنهج يميّز تفسير قطب، وقد تأكد سابقا في كتابه «التصوير الفني» كما نجده على قلّة من الشواهد في كتاب بدوي، ثم راح الآخرون يؤكّدون هذه

_ (1) سورة البقرة، الآية: 20. (2) أبو السعود العمادي، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 1، 55. (3) سورة الرّعد، الآية: 10. (4) البوطي، د. سعيد رمضان، 1970، من روائع القرآن، ط/ 2 دار الفارابي، دمشق، ص، 232.

الظاهرة الفنية التي تسمى «الأونوماتوبيا» معتمدين شواهدهما، ومقتفين أثرهما. والأونوماتوبيا فن يستلهم المعنى من أصوات الكلمات، وسوف نذكر تطبيقات المحدثين الذين أولعوا بها، معتمدين الخيال والرأي الذاتي على الأغلب، ومن هذا ما جاء في تأمل الآية: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ «1»، يرى قطب أن الصورة الصوتية رسمت الحركة المعنية،: «وإنك لمدرك أنّ صورة التبطئة أدّتها الكلمة «ليبطّئنّ» بجرسها إضافة إلى ما أدّته النونات في الكلمتين السابقتين من تأكيد لهذا الجرس الخاص» «2». ولم تربط هذه الظاهرة الفنية بمعطيات علم اللغة، فبقيت غالبا في مظانّ الوهم، ويبدو هنا أن حركة الفتح تقابل السير الطبيعيّ المعتاد، ثم يمثّل الخمول والتراجع بالوقوف على الشّدّة، وما يتبعها من كسر الطّاء. من هذا القبيل كلمة «يترقّب» من قوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ «3»، فإذا قرأنا تعليقهم لمسنا فيه شطحة خيال، وشيئا من التعتيم، لأن هذه النظرة لا تقوم على منهج علمي، إنما تظل غامضة وعالقة بذوق مبهم، أو انبهار كبير، يقول سيّد قطب: «هناك مفردات قرآنية من نوع آخر، يرسم صورة الموضوع لا بجرسه الموسيقى، بلّ بظلّه الذي يلقيه في الخيال، فمفردة «يترقّب» ترسم هيئة الحذر المتلفّت في المدينة التي يشيع فيها الأمن والاطمئنان في العادة» «4». ولا تحدّد هذه النظرة الفردية كيفية الرّسم، إنه توقّع إشعاعي خاص، ولكي يبتعد الدارس عن هذا المنهج يعود إلى جزئيات المفردة. ويمكننا أن نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام يمشي بتمهّل، إلا أن

_ (1) سورة النّساء، الآية: 72. (2) قطب، سيّد، التصوير الفني، ص/ 78، وانظر الشيخ أمين، التعبير الفني، ص/ 180. (3) سورة القصص، الآية: 18. (4) قطب، سيد، التصوير الفني، ص/ 81، وانظر الشيخ أمين، التعبير الفني، ص/ 180.

هناك تلفّتا منه بين الفينة والفينة خوف العدوّ، فيتقاسم حركته المشي والوقوف الحذر في خفية وحذر، ولعلّ هذا يستمدّ كما رأينا سابقا- من توالي الفتحات الذي يتبعه وقوف الشّدّة، ثم تجيء حركة الضّم على الباء. وعلى هذا المنوال نستطيع أن نفسّر علاقة الصوت بالصورة في كلمة «يتمطّى» كلمة من قوله تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى «1»، لأن الشّفاه ترتاح في حركة الفتح، ونستطيع أن نتلمس تطاول الأعضاء بعد شدّ العضلات من الوقوف في الشّدّة الذي تتبعه الألف المقصورة ذات المدّ الطويل، وهذا المدّ يمثل انفراج الأعضاء، وتعالي الرجل في مباهاة وخيلاء، وتلك مشية ذميمة اسمها المطيطاء، وفي لسان العرب لابن منظور: «المطيطاء والمطيطى بالمدّ والقصر التّبختر ومدّ اليدين في المشي» «2». ومن النظرات الموفّقة التي استطاعت أن تقدّم شيئا من التفسير ما جاء لدى قطب في قوله تعالى عن المؤمنين الذين لم يذهبوا إلى الجهاد: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ «3»، يقول قطب: «لو أنّك حذفت الشدة من الكلمة، فقلت: تثاقلتم، لخفّ الجرس، وضاع الأثر المنشود، ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها اللفظ واستقلّ برسمها» «4». وذلك لأنه قد لفت نظرنا إلى التشكيلة الصوتية، ولهذا نقول: إن حرف الثاء لثويّ، ووجود الشّدّة عليه يجعل اللسان عالقا بأطراف الأسنان بشكل قويّ، وهذا يمثّل حبّهم للقعود، وعدم التحرك، ولا شك في أن فرضية تبديل المفردة ب «تثاقلتم» توحي بهذه العملية في جهاز النطق، لكن هذا من حيث النّغم فحسب، إذ تدلّ صيغة «اثاقلتم» على المبالغة في حين تدلّ «تثاقل» على التكلف. لم تخل نظرات قطب أحيانا من جنوح إلى التوهّم، وتحميل المفردة طاقة من ذاته، فهو يعدّ مفردة ما مجسمة للحركة بجرسها، والقارئ لا يرى

_ (1) سورة القيامة، الآية: 33. (2) ابن منظور محمد، لسان العرب، مادة (م. ط. ط): 7/ 404. (3) سورة التّوبة، الآية: 38. (4) قطب، سيد، التصوير الفني، ص/ 87.

الحركة إلا في مضمون المفردة التوصيلي، وهذا من مظاهر المغالاة في أمر «الأونوماتوبيا» إذ يقول جلّ وعلا عن آدم وحواء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها، فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ «1»، فهو يرى أن لفظة «أزلهما» تصور الحركة على أنها تعني الحركة فقط، ولا حاجة لاستنباط ما لا يوجد فقد جاء في تفسيره: «إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبّر عنها، وإنك لتكاد تلمح الشيطان، وهو يزحزحهما عن الجنة، ويدفع بأقدامهما فتزلّ وتهوي» «2». وهذا يختلف عن إثارة الخيال لتصوّر الحركة المعينة، وهي كثيرة في التفسير المعاصر وعند قطب خاصة، فقد استشفّت عائشة عبد الرحمن قوة الحركة في فعل «أخرجت» من قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «3»، إذ تقول في تفسيرها: «يلفتنا في إخراج الأثقال هنا ما توحي به من اندفاع للتخلص من الثقل الباهظ، فالمثقل يتلهّف على التخفّف من حمله، ويندفع فيلقيه حين يتاح له ذلك، والأرض إذ تخرج أثقالها تفعل ذلك كالمدفوعة برغبة التخفّف من هذا الذي يثقلها عند ما حان الأوان» «4». ونجد أنها لم تؤكد تأكيد قطب الذي كثر الوهم عنده، لكونه فسّر القرآن كلّه، فمواقع الخطل متعددة، وإضافة إلى الكم يعدّ أكثر الدارسين تعتيما نتيجة استسلامه أو حماسته لمنهج الدراسة الذي حدّده. ولم تكن هذه الفكرة غائبة تماما عن أذهان القدامى، ففي وقفاتهم- على قلّتها- ما يعدّ تمهيدا للمحدثين إضافة إلى وجودها في النقد الغربي المعاصر، وباستطاعتنا أن نؤكد استمداد المحدثين لها من طبيعة اللغة العربية، واعتمادهم ما ذكره فقهاء اللغة، وبعض دارسي الإعجاز البياني، ودارسي الأوزان الصرفية ودلالاتها. ينقل برتيليمي عن كلوديل ما يعدّ لفتة إلى وجود هذه الظاهرة في النقد الحديث: «إن الكلمة تعيد أداء الحركة التي هي دافع كل كائن، بل هي الكائن

_ (1) سورة البقرة، الآية: 36. (2) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 1/ 58. (3) سورة الزّلزلة، الآية: 2. (4) عبد الرحمن، وعائشة، التفسير البياني: 1/ 89.

نفسه، وقد صوّره من ناحيته الصوتية الفمويّة، هي الشيء بعد أن أصبح نغما» «1». إذن ففي إمكاننا أن نشمّ رائحة المعنى ومعالم الصورة من الصوت، وبهذا تبعد الكلمة عن كونها إشارة اعتباطية فقط. ويطيب لنا أن نورد كلام الزمخشري ما دمنا في صدد جمال الحركة في الصوت، وذلك في الآية: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ «2» فقد أشار إلى تجسيم الحركة المتكررة تبعا لتكرر الحروف، وهو يقرر هنا ما جاء به فقهاء اللغة، إذ يقول: «الزّحزحة التّنحية والإبعاد تكرير الزحّ، وهو الجذب بعجلة» «3». ولكنه لا يذكر شيئا إزاء الآية: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ «4»، فالأمر لا يطّرد في كل مفردة تكررت حروفها، وفي الآية: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ «5»، يقول متملّيا المفردة بذوق رفيع، ويكاد يفوق المحدثين، لكونه يذكر سبب تكرير الحركة: «الكبكبة تكرير الكب، وجعل التكرير في الفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه: إذا ألقي في جهنم ينكبّ مرة بعد مرة حتى يستقرّ في قعرها» «6». ونضيف أن انضمام الشفتين ثلاث مرات في هذه المفردة، مرة على الكاف لوجود الضم، ومرتين على الباء، لأنه حرف شفويّ شديد، وهذا الانضمام يصور حركة تكوير الكافر، وهو يتدحرج حتى يصل إلى القعر، ويتجمع جسده كالكرة، وكما تتجمع الشفاه في لفظ هذه المفردة. والجدير بالذكر أن اقتصار القدامى على تجسيم تكرير الحركة جعل المادة المدروسة ضئيلة، فلا نقع في كتبهم إلا على النّزر القليل، وهو يتركز على

_ (1) برتيليمي، جان، بحث في علم الجمال، تر: أنور عبد العزيز، ص/ 288. (2) سورة آل عمران، الآية: 185. (3) الزمخشري، الكشّاف: 1/ 485. (4) سورة يوسف، الآية: 51، حصحص: توضّح. (5) سورة الشعراء، الآية: 94. (6) الزمخشري، الكشاف: 3/ 119.

الحروف، وليس على الحركات. أما المحدثون فقد تكلّموا على الرسم بالحرف والحركة ورسم الحركة البطيئة والقوية والمتكررة. يصل قطب إلى شواهد القدامى التي علّلوها، ويقنع بالظلال النفسية، وينفي علة الأصوات، فهو يقول عن «زحزح»: «إنّما هو القرآن يدع الألفاظ تلقي ظلالا معينة، فيرسم في الضمير مشهد مخيف، جهد الزحزحة، وهي الحركة البطيئة العنيفة ... و «زحزح» نفسها ترسم صورة لمعناها» «1». فقد تخلى عن المعيارية التي قدّمها فقهاء اللغة مشيرين إلى وجود كلمات تحاكي الطبيعة بأصواتها، وقد انتقل إلى تصوير نفسية المتزحزح، ومشقّة البعد عن النار، وقوله «صورة لمعناها» يطّرد في كتبه، وهو ما يرتضي به في تفسير علاقة الصوت بالمعنى أو الحركة. ولعل عنف الحركة يمثّل في نطق الحاء في الحلق، فالحاء الساكنة فيما يبدو تخرج من الحلق باحتكاك بجدرانه، وهذا يمثّل حركة الزحزحة العنيفة اللصيقة بالأرض. ولا نعدم قلّة من الدارسين تذكر مقياس القدامى، وهذا يفيد في عدم الشّطط، ففقهاء اللغة أقرّوا أن ما كان على وزن (فعلان) - كما سنجد في مكان لا حق- يدلّ على الاضطراب والنشاط، مثل: الرّجحان والخفقان والغليان والفوران، وضياء الدين عتر يذكر قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ «2»، ويدلي برأيه الذي يؤكد بثّ الحركة المقصودة في مفردات القرآن، وهذا مما يمكّن الفاصلة، وهي أبعد ما تكون عن اللجوء إلى الألف والنون، ويقول: «الحيوان في اللغة مصدر حيّ، وقد سمّي به كلّ ذي حياة، وهو أبلغ من الحياة، لأنّ في صيغة فعلان معنى الحركة والنشاط الملازم

_ (1) قطب، سيّد، 1956، مشاهد القيامة، ط/ 2، دار المعارف بمصر، ص/ 205، وانظر تفسيره في ظلال القرآن، مج/ 1: 4/ 539. (2) سورة العنكبوت، الآية: 64.

للحياة» «1». فالمعنى الأول تقرير الخلود والاستمرارية ويكون في لفظة حياة، أما المعنى الثاني الذي تدلّ صيغته على معنى النشاط، وطرد الملل عن الذهن، فلا يكون إلا في «الحيوان» التي تنفي الجمود والفناء معا، وقد استفاد من إشارة الكشّاف، والشاهد لا يدلّ على تقرير فن «الأونوماتوبيا» بشكل خاص، بل فيه مثال لتبنّي القديم الواضح في تفسير جمالي معقول. وقد اقتصرنا هنا على تجسيم الصوت للحركة، أما تجسيم الصوت للمعاني المجردة والصورة البصرية، فقد خصّص له مكان آخر سوف نبحث فيه أصالة هذه الفكرة، ونقدم نماذج كافية إن شاء الله. لا ريب في أن القرآن الكريم اعتمد فن التصوير لتوصيل معانيه الجليلة، وينقل التصوير الكلام في القرآن من طابع السّرد إلى مشاهدات محسوسة، والقرآن يصور بالحوار كما في القصص، وبالمفردات وبأسس النّظم. كما أن الميل القوي إلى المحسوس واحد من أهم عناصر التصوير القرآني، وقد قصدنا في هذا الفصل الصورة التي تختصّ بإبراز المجرّدات إلى محسوسات، وبيّنّا أن وسائل الصورة البصرية هي: التجسيم والتشخيص ومشاهدات الطبيعة واستخدام مفردات تدل على الحركة المناسبة. ويجب أن نؤكد أن الصورة البصرية في القرآن تتمتع بثنائية التوضيح والتأثير معا، فلا يكون المشبّه به أو المستعار توضيحا زائدا، بل هما من صلب المعنى نفسه، وبهما يتمّ هذا المعنى، وما أبعد القرآن عن توضيح شيء ثم تصويره. وقد حاول القدامى أن يبرزوا أهمية المفردة المستعارة أو المشبّه به، فدلّوا على إقناع العقل، إذ حرصوا على ربط المستعار بالمستعار له، وتبيين وجه الشبه، وليتقربوا من أفهام القرّاء، ولا يعني هذا جفافهم وسكوتهم عن الأثر النفسي للصورة، وإن وجدنا إجمالا في بعض الأحيان، فهم احترزوا من

_ (1) عتر، د. حسن ضياء الدين، بيّنات المعجزة الخالدة، ص/ 254، وانظر الزمخشري، الكشّاف: 2/ 183.

الشّطط والإسقاط النفسي الخاص لكيلا يخالفوا مقاصد الآيات. وبعد التّطوف بجهود الدارسين توصلنا إلى الأمور الآتية: 1 - لفت معظم القدامى نظرنا إلى أهمية المفردة المجسّمة أو المشخّصة أو ما ينتزع من الطبيعة، وأبدوا إضاءتها للنص الكلي، وذلك من خلال بسط معنى المصطلح، وما استلهموه من خصوصية المفردة المصوّرة. 2 - أدرك القدامى أن حسّية المعنى المصوّر تمثّل مرحلة أولى من التأثير، ومن ثمّ يتملّى المرء الأثر الوجداني، فحسّية تذوّق العذاب لا تقصد لذاتها، وكذلك حسّية الحالات الشعورية، فقد دلّت تطبيقاتهم على هذا، كما أثبتنا رأي ابن الأثير الذي يعدّ تنظيرا لما أكّده المحدثون، وهو يشبه رأي جويو الذي يقول: «حين يكون إحساس من الإحساسات اللذيذة القوية غير متّصف بالجمال، فمردّ ذلك إلى أن «الشّدة» المحلّيّة لهذا الإحساس تحول بطبيعتها دون «سعته» أعني انتشاره في الجملة العصبية، فينتج عن ذلك أن يستنفذ في منطقة معيّنة، ويتوقف في النقاط الأخرى، فتظلّ اللذة حسية محضة» «1». فاللذة الحسية الخالصة ليست من معالم الجمال، وذلك مثل كثير من اللذائذ التي يحصل عليها المرء، وقد شهدت لنا الصفحات السابقة أن القرآن يخاطب الشعور بالصّور الحسية، وأن هذه الحسية واضحة جليّة وعميقة الفاعلية، خصوصا أن في القرآن فنا قوليا يترفّع عن الغاية الحسية الخالصة، وأنه كأي فن رفيع يتعامل مع الحواس العليا المؤدّية إلى المشاعر. 3 - أدرك القدامى أن المفردة الحسية تصوّر الحالة الشعورية فتجسّمها، وتصور كذلك الحركة المشاهدة التي تتمخّض عن الحالة الشعورية، ولم يقف المصطلح القديم كالاستعارة والتمثيل والتخييل حاجزا يمنع من تبيين المدلول الفني فالنفسي، وقد أضاف بعض المعاصرين الكثير من المفردات المصوّرة للحركة، نذكر منهم سيد قطب. 4 - استخدام القرآن الجماد، والنبات في الصورة الفنية، وهنا حاول القدامى

_ (1) جويو، جان ماري، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي، ص/ 68.

إبراز الأثر الوجداني للجماد والنبات، بعد توضيح جوانبهما ومغزى استخدامهما في الصورة. ثم جاء المحدثون فوضحوا سمة الاستمرار في الطبيعة المنتقاة للصورة، وأضافوا إثارة التخيّل لدى التحليل الفني. 5 - استخدام القرآن النبات فاقد الحياة لدى تصوير الكفار والمنافقين ليدلّ على جمودهم، واستعان بالجانب القبيح من الأحياء في تصويرهم، ليدلّ على انحطاطهم وبعدهم عن الطّبع البشري. 6 - كانت غايتنا في تشخيص المفردات للجمادات إبراز تحلّيها بالصفات الآدمية، ولم نبحث في كيفية إدراك الجمادات، فنحن تلمّسنا جمال تغيّظ النار الدالّ على تشبيهها بالإنسان، ولم نقصد تبيين كيفية إسباغ الخالق عليها الإدراك، فمثل هذه المخلوقات: السّماء، النار، الرّعد .. عالم مستقلّ بكيفية شعوره وطواعيته للخالق، لذلك اقتصرنا على الجانب الفني. وكانت المادة المدروسة عند القدامى أكبر منها عند المحدثين، لكثرة اهتمام القدامى بالمجاز والاستعارة اللذين لم يبعداهم عن التملّي الجمالي. 7 - لقد فهم القدامى الأثر القوي للمفردات التي تصوّر الحركة القوية كالزلزلة والانقلاب، وكانت نظراتهم في الحركة البطيئة قليلة، وهذا ما أسهب فيه المحدثون، وأضافوا تصوير هذه الحركة بالتشكيل الصوتي. وقد أضفنا بعض الشواهد القرآنية في هذا الفصل، لنؤكّد منهج الدارسين ونوضّحه.

الفصل الثالث إسهام المفردة القرآنية في الجمال السمعي

الفصل الثالث إسهام المفردة القرآنية في الجمال السمعي

1 - الانسجام بين المخارج

1 - الانسجام بين المخارج فكرة الانسجام: لا شك في أنّ قضية الانسجام فرع أصيل في خصائص الفن، ويشمل الفنون جميعها، كالرسم والنحت والشعر والموسيقا، ونجده في تفريعات هذه الفنون على اختلاف مذاهبها ومشارب أربابها. ويلحظ في الانسجام أنه يتولّد من لقاء بين شيئين مختلفين، وهذه المقولة واردة على ألسنة الفلاسفة، والمنظّرين الجماليين منذ القدم، وقد أطلقوا على هذا الانسجام الذي يلائم بين شيئين مختلفين اسم «الوحدة في التنوع» فهو شرط أساسي من شروط الجمال، لذلك نرى الرسم الجميل قد تعاور لوحاته تناوب الألوان الغامقة والألوان الفاتحة، وفي إيقاع الفن السّمعي هنالك العلوّ الذي يتبعه انخفاض يدعى ب «القرار». ولذلك حبّذ الفلاسفة شكل المستطيل قديما، لأنه خير شكل هندسي معبّر عن الوحدة في التنوع، فهو يتكوّن من طول وعرض مختلفين متكررين، وخير مظهر لهذا الانسجام شكل الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم «1». وفائدة هذا المعيار الجمالي أنه معمّم، ولا يبعث حكمه الشكّ في النفس، لأنه موضوعي، وهذا ما يدعى في التراث العربي بالتلاؤم، إذ يختص ببينة المفردة فقط، على خلاف من المعاظلة التي تعني تنافر الكلمات بعضها مع بعض، وعلى خلاف أيضا من مصطلح الانسجام الذي يعني مجيء كلمات على أوزان معروفة، يقترب وزنها من أوزان بحور الشعر، وقد استشهدوا على ذلك بقوله عز وجل: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ «2»، وكذلك قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «3» وقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا

_ (1) انظر غريب، روز، النقد الجمالي: 75. (2) سورة يوسف، الآية: 86. (3) سورة الحجر، الآية: 49.

مِمَّا تُحِبُّونَ «1». فواضح أن الآية الأولى قريبة من بحر الرّمل، وأن الثانية قريبة من البحر الكامل. وتمثل الآية الثالثة أربع تفعيلات من بحر الرمل فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن، وهذه التسمية موجودة مثلا في كتاب بديع القرآن، وكتاب الفوائد» «2». وهي نظرة منهم غير مقبولة إذ لا يخلو أي كلام من تفعيلات البحور الشعرية، ثم إن الموسيقا الداخلية لنسق القرآن في غنى عن التفعيلات. وقد جاء في تعريف الانسجام في النقد ما ينطبق على فكرة التلاؤم، كما جاءت عند علمائنا القدامى، يقول حامد عبد القادر: «أصحاب المذهب الموضوعي يرون أن منشأ الجمال هو الاتساق والانسجام في الألوان والأشكال والأساليب والنّغمات، سواء أكان ذلك الانسجام طبيعيا أم صناعيا، وأساس الانسجام هو الوحدة مع التّعدّد، أي اجتماع عناصر مختلفة وائتلافها بحيث تكون وحدة مترابطة الأجزاء متناسقة العناصر» «3». ويحسن هنا أن نبيّن جذور فكرة الانسجام قبل أن نصل إلى ابن سنان، فقد نظر الجاحظ إلى اللغة العربية، ووجد أنّ جمال الانسجام يتجلّى في شكلين: في انسجام الكلمات فيما بينها، وفي انسجام حروف الكلمة الواحدة، يقول: «ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر، وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض استكراه، فمن ذلك قول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج .. وكذلك حروف الكلام وأجزاء الشعر من البيت تراها متّفقة لمسا، ولينة المعاطف سهلة، وتراها

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 92. (2) انظر ابن أبي الإصبع، بديع القرآن: 166، وابن قيم الجوزية، الفوائد: 219. (3) عبد القادر، حامد، 1949، دراسات في علم النفس الأدبي، ط 1، المطبعة النموذجية، القاهرة: 103.

مختلفة متباينة، ومتنافرة مستكرهة تشقّ على اللسان وتكدّه» «1». وهذا يعتمد على طبيعة حروف الكلمة التي تتّفق، أو تختلف مع حروف الكلمة المجاورة، ثم يقول الجاحظ: «فهذا في افتراق الألفاظ، فأما افتراق الحروف، فإنّ الجيم لا تقارن الظّاء، ولا القاف ولا الطاء ولا الغين بتقديم ولا تأخير، والزاي لا تقارن الظّاء ولا السّين ولا الضّاد ولا الذّال بتقديم ولا تأخير» «2». وهذا يدل على أن العرف اللغوي المعتاد يندر فيه الثّقل الناجم عن تنافر بين المخارج، وذلك لأن مخرج الجيم بين اللسان وبين الحنك الأعلى، ومخرج الظاء بين أطراف الثّنايا وبين طرف اللسان، ومخرج القاف أوّل الحلق، ومخرج الطاء طرف اللسان، وأصول الثّنايا، فالمخارج متقاربة. ويبدو أنّ هذا الاستهجان للثقيل الوعر كانت له دواعيه الناتجة عن استيفاء علماء اللغة قديما لمفردات كلّ القبائل، مما جعلهم يقعون على رصيد لا بأس به من ألفاظ وعرة خشنة، فجاء الأدباء لينفّروا الناس منها. وبعد أن بيّنا وفق نظرة الجاحظ أن الذوق السليم يميل إلى سهولة المخارج، لا بدّ أن نتعرض لما ذكره الرماني، فما ذكره جدير بالانتباه، لأنه دلّ على سهولة المخارج في القرآن بشكل خاص، يقول: «والسبب في التلاؤم تعديل الحروف في التأليف، فكلّما كان أعدل كان أشدّ تلاؤما، وأما التنافر فالسبب فيه ما ذكره الخليل «3» من البعد الشديد أو القرب الشديد. والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، وتقبّل المعنى له في النفس، لما يرد عليها من حسن الصورة، وطريق الدّلالة» «4».

_ (1) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 37 - 38. (2) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 39. (3) هو الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب معجم «العين» توفي في 170 هـ، وهو أستاذ سيبويه، ومن كتبه أيضا «العروض» و «معاني الحروف» و «تفسير الحروف» و «النقط والشكل» انظر طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص/ 34 وانظر الأعلام: 2/ 314. (4) الرمّاني، ثلاث رسائل في الإعجاز: 88.

ويعدّ الرماني المنظر الأول لهذا الفن في القرآن، إذ سبقه الجاحظ بالنّظر في سياق المفردات بشكل عام، ولم يخصص كلامه حول القرآن، وهو يحيلنا كما نرى إلى القرن الثاني الهجري الذي كان فيه الخليل قد تعمّق في الثقافة الموسيقية، واكتشف البحور الشّعرية، ووضع معجمه على أساس صوتي. ويبدو جليا أن هذه النظرة الحسّيّة في تلقّي الصورة الصّوتية يواكبها بيان واضح للأثر النفسي، فالنّفس لا تميل إلى المتنافر، وكأنه يغلق أبواب الفهم، فتصعب ترجمة الدّلالة. بيد أنّ الرماني لم يدعم كلامه بالشواهد القرآنية وغير القرآنية في هذا المجال، وهذا يعود لصغر حجم رسالته، ولإدراكه تصديق هذا الكلام بمجرّد سماع الآيات القرآنية، فكلّ القرآن الكريم دليل على صحّة نظريّته، حيث لا تثقل كلمة واحدة فيه على اللسان والأذن. وملاحظته هذه وليدة التدبّر العميق للقرآن، وتفهّم طبيعة اللغة العربية البليغة التي تستعمل، بله اختيار القرآن الكريم. إذن فقد فسّر الجاحظ جوانب الوعورة والخشونة والتقعّر في العربية، بينما دلّ الرماني على سهولة المخارج في القرآن بشكل خاص، فكلاهما يقدم تفسيرا مقتضبا لمفهوم الوعورة وغيرها، وفي هذا يقول محمد زغلول سلام: «ملاحظة الرماني لصلة الجمال اللفظي بسهولة حركة اللسان جديرة بالإشارة، إذ خرج الرماني عن حدود الأقوال إلى التجربة والملاحظة، وقديما ذكر اللغويون اللفظ الوحشي، واللفظ الوعر، ولم يذكروا سببا للوحشيّة ولا للوعورة» «1». والحقّ أنّ الرماني قدّم تفسيرا، ولم يصل إلى نطاق التجربة، ولم يتغلغل في ماهيّات أصوات القرآن، وكأنّه اكتفى بالأمثلة الحافلة التي قدّمها غيره حول الثّقل، لأنّه كتب رسالة مختصرة.

_ (1) سلام، د. محمد زغلول، 1952، أثر القرآن في تطور النقد العربي، ط/ 1، دار المعارف بمصر، ص/ 242.

نظرة ابن سنان:

ولعلّ الرمانيّ لحظ أن اللغة المستعملة تكاد تخلو من الثّقيل، وما يحمد له أنّه فتح بابا لجمال المفردة الصوتي من حيث بيانه لتلاؤم المخارج في مفردات القرآن، ولعله تأثّر بدراسة الخليل الصوتية في معجمه «العين»، ليصل بنا إلى أن جمال النّطق يكمن في سهولته، وهذا ما يشهد به علم الجمال في عصرنا، إذ يردّ قيمة الجمال الصوتي في الكلمة إلى رشاقة الحركات، والاقتصاد في الجهد العضلي عند النّطق «1». ومما يضاف أنّه لم ينس علاقة النّفس بالشيء المسموع، فالأذن منفذ إلى النّفس، وما يثقل سمعه تنفر منه الأذن ثم النفس. ويبدو أن الوحشي كان ثقيلا على الأذن، فرفضه الذوق اللغوي، ثم صار هذا الذوق قانونا ينفّر من الغريب، لعدم استعماله في المجتمع، ولاتّصافه بالثقل مثل كلمة جلفاط بمعنى لوح، وبعاق: أي بمعنى مزنة وهنا لا بد من شرطين: 1 - تلاؤم المخارج من حيث تلاؤم صفات هذه الحروف الناتجة عن المخارج. 2 - سلامة المفردة من الثّقل من خلال تشكيلها الداخلي، إضافة إلى طبيعة حروفها. وكل هذا نحتكم فيه إلى معيار حسّي هو السّمع، وسيتضح في عرضنا لنظرات الدارسين. نظرة ابن سنان: وضع ابن سنان الخفاجي أسسا فنية لفصاحة المفردة، وبالغ في تعميمها، وذلك في بداية كتابه، فكان الأساس الأول تباعد المخارج، ويبدو أثر الفلسفة الفنية جليا في عبارته، يقول: «الأول أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج، وعلّة هذا واضحة، وهي أن الحروف التي هي أصوات تجري في السّمع مجرى الألوان من البصر، ولا شكّ أن الألوان المتباينة إذا جمعت كانت

_ (1) انظر سلام، د. محمد زغلول، أثر القرآن في تطور النقد العربي، ص/ 240.

في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة» «1». وفكرة الوحدة في التنوع واضحة هنا، لكنه لا يستشهد بالقرآن، بل يربط هذا الأساس بشيء آخر، وهو ترتيب الحروف في الكلمة بما يناسب جهاز النطق بدءا من الحلق حتى الشّفاه، ويستشهد لهذا بكلمات جذرها عذب، إذ يقول: «فإنّ السامع يجد لقولهم العذيب اسم مكان، وعذيبة اسم امرأة، وعذب وعذب وعذبات وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط، ولكنّه تأليف مخصوص مع البعد، ولو قدّمت الذّال أو الباء لم تجد الحسن على الصّفة الأولى في تقديم العين» «2». وكأن الأمر مجرّد استحسان «عذب» لبدء الحلق بنطق العين، ثم نطق الذّال بين الأسنان وبين الثّنايا، ثم نطق الباء في الشفاه، وهذا النظام لا يطّرد بالتأكيد في كل المفردات، فكلمة «جمع» فيها عودة من الشّفاه إلى الحلق. وإذا كان استشهاده جزئيا، وكانت نظرته مبتورة في مجال الكلمة العامّة، فإن المفردة القرآنية لا تحظى بتحليل، بل يكتفي بأن يعترف لها بالتلاؤم والسّهولة، كما اعترف بهذا للسان العربي القديم، ويظنّ أنّه خشي مزالق نظرته إن طبّقها على المفردة القرآنية، فتنكشف له تمحّكاتها، وفذلكتها. ومما يستغرب هنا أن يظنّ شوقي ضيف أنّ ابن سنان نهل من علم التّجويد هذه اللمسات الصوتية الرائعة، وبالرغم من ذلك فإننا لا نجد خاصية بالصوت القرآني، أو معيارا لغويا صحيحا، يقول شوقي ضيف: «وأكبر الظّن أنه انتفع في ذلك كلّه مما كتبه علماء تجويد القرآن من مباحث قيّمة» «3». ومما يؤكد عدم استفادته من علم التجويد، أنه لم يدرك تماثل مخرجين وتقاربهما في حالة إدغام حرف بحرف، ونحن لا نتصور أن ابن سنان يجهل تقارب المخارج بل تماثلها في الإدغام، لكنه تجاوز هذا الواقع اللغوي لإقرار الجميع بعدم ثقله.

_ (1) ابن سنان الخفاجي، سرّ الفصاحة، ص/ 66. (2) المصدر نفسه، ص/ 152. (3) ضيف، د. شوقي، البلاغة تطور وتاريخ، ص/ 152.

نظرة ابن الأثير:

ولم يأخذ دارسو الإعجاز في عصرنا برأي ابن سنان في جمالية تباعد المخارج، وقد أشاروا إلى سهولة المخارج في القرآن، بينما ردّوا عليه بأقوال عامة مثل قول البيومي في «البيان القرآني»: و «إذا كان من أسباب الغرابة البلاغية ثقل النّطق كما مثلوا لذلك قول القائل: «تكأكأتم عليّ فافرنقعوا» مما اقتربت فيه مخارج الحروف إلى حدّ يدعو إلى الثّقل، فليس في القرآن إلا ما هو سهل المخرج من الألفاظ» «1»، وهذا الكلام يحتاج إلى تطبيق عملي. وإذا كنا نوافق على نظرة ابن سنان، ونعترف في الوقت نفسه، وبلا تمحيص بسهولة نطق القرآن، فإننا لا نفهم سرّ السهولة في كلمات تكرّر فيها الحرف نفسه، وليس التقارب فقط، وهكذا يمر المرء بالمخرج مرّتين في كلمة واحدة، ومثل هذا في قوله عزّ وجلّ: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ «2»، حيث يوجد كافان، وقوله عن الحيوانات: أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ «3»، وقوله: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ «4»، وعلى لسان مريم العذراء عليها السلام: لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «5» فقد تكررت السين. وإذا كان التّكرار في ذهن ابن سنان مجرّد صوت واحد، فهناك أمثلة كثيرة من القرآن حول التقارب بين المخارج، ومن ذلك لقاء القاف والكاف في قوله عزّ وجلّ: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ «6». نظرة ابن الأثير: لعلنا نجد في ردّ ابن الأثير على الخفاجي ما يكون مرتكزا لنا في رفض جمالية تباعد المخارج، خصوصا أن ما أوردناه من آيات لا تسير وفق بعد العين

_ (1) البيومي، د. محمد رجب، البيان القرآني، ص 128، تكأكأتم: تجمعتم، افرنقعوا: تفرّقوا وابتعدوا. (2) سورة المدّثّر، الآية: 42. (3) سورة الأنعام، الآية: 38. (4) سورة النّساء، الآية: 78. (5) سورة آل عمران، الآية: 47. (6) سورة الذّاريات، الآية: 22.

عن الذال والباء، كما أراد، وقد بين ابن الأثير ردّه من خلال مفردات اقتربت فيها المخارج، وعلى الرغم من ذلك لا ينفر منها السّمع، ومعياره ذوقي خاضع للتّجربة الحسّية المستوفية: «إن حاسّة السمع هي الحاكمة في هذا المقام بحسن ما يحسن من الألفاظ، وقبح ما يقبح .. على أن هذه قاعدة شذّ عنها شواذّ كثيرة، لأنّه قد يجيء في المتقارب المخارج ما هو حسن رائق، ألا ترى أن الجيم والياء والشين مخارج متقاربة، وهي في وسط اللسان بينه وبين الحنك، وتسمّى ثلاثتها الشّجريّة، وإذا تركّب منها شيء من الألفاظ جاء حسنا رائقا، فإن قيل: جيش كانت لفظة محمودة» «1». ويستشهد ابن الأثير كذلك بلفظة «بفم» لكونها مركبة من ثلاثة أحرف شفوية، إلا أنّه يتبع ابن سنان في جمال التّرتيب، فيقبّح ملع، ويستحسن «علم»، لأنّ مخرج العين الحلق، ومخرج الميم الشفاه. وتصديقا لردّ ابن الأثير نورد كلمات قرآنية مثل «استجيب، أجيبت، أجيبوا، وغيرها وكلمة «جيدها» في قوله تعالى: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «2»، والجيم والياء مخرجهما بين اللسان وبين الحنك الأعلى إلا أنّ حرف الياء حرف ليّن رخو، والجيم شديد، وكذلك حرف الشين مهموس والجيم مجهور «3». فثمّة تلاؤم من جهة أخرى، نقصد بذلك صفات هذه الحروف من حيث الشّدة والرّخاوة، والجهر والهمس، وهذا ما لم ينتبه إليه كلّ من ابن سنان وابن الأثير «4». إن هذه الجمالية الصوتية، لم يتناولها الكثير، فلم تحظ بأدنى اهتمام لدى الدارسين بعدهما، إلّا ما أشار إليه الزّركشي بصدد ذكره للآية: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ

_ (1) ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 152. (2) سورة المسد، الآية: 5، المسد: الليف. (3) انظر ابن جني، سر صناعة الإعراب: 1/ 50. (4) انظر ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، ص/ 67، وابن الأثير، المثل السائر: 1/ 152.

إِلَيْكَ «1»، ولم يهتم بهذا على الوجه الذي ابتغاه ابن سنان، إن هي إلا إشارة واحدة في كتابه، يقول: «قد يقال كيف توخّى حسن الترتيب في عجز الآية دون صدرها؟ والجواب أن حسن الترتيب منع منه مانع أقوى في صدر الآية، وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخرج، فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدّى الفعل إليه بالحرف على الفعل الذي تعدّى بنفسه» «2». وإذا كان مخرج الياء يبتعد عن مخرجي الطاء والتاء، فإنّ النغمة الصوتية للطّاء تظلّ مختلفة عن نغمة التاء، فالطّاء حرف مجهور، والتّاء حرف مهموس، وإشارة الزّركشي هذه تنفي الولاء لنظرة ابن سنان في الوقت نفسه، والسبب- كما يبدو لنا- وهاء الحجّة. اتخذت هذه الجمالية سيما الإيجاب لدى الرمّاني وابن سنان، وسيما السّلب لدى ابن الأثير، ولكنّ رفض هذا الأخير ضلّ عالقا بمعيار الذوق، ولم يؤطّر بمنطق العلم. وفي العصر الحديث يؤكّد الرافعي مسألة الانسجام، ليس بين الحروف فقط، بل بين صفات هذه الحروف، فالعذوبة عنده: «لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشّدة والرّخاوة، والتفخيم والترقيق، والتفشّي والتّكرير» «3». وتأكيدا لهذا الانسجام الذي ندعو إلى منهجه مع الرافعي، نذكر قوله تعالى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ «4»، فالطّاء حرف إطباق شديد، واستعلاء وجهر، أمّا الشين فهو حرف همس ورخاوة وانفتاح، إنّه انسجام بين الصّفات. وإذا كان حرفا النّون والرّاء متقاربين مخرجا لخروج النون من طرف اللسان والثّنايا، والرّاء كذلك مخرجه أول طرف اللسان والثنايا، فإنّ كليهما من حروف الذّلاقة، والتأليف بينهما أسهل من التأليف بين الحروف المصمتة،

_ (1) سورة المائدة، الآية: 28. (2) الزركشي، البرهان: 3/ 433. (3) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 215. (4) سورة الشّعراء، الآية: 130.

فليس من القبح أن نقرأ في البيان القرآني الأعلى مثل: «نريك، نرى، لنريه، نريهم» وكلا الحرفين بين الشّدة والرخاوة، فكثيرا ما ينفرد الراء ذلك الحرف المتكرر، فيصبح قويا عنيفا، وكذلك النّون، إلا أن النّسق الموسيقى في المفردات السابقة بوساطة الحركات يجعل للسمع وفي النطق لذة، يقول عزّ وجلّ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا «1»، وقوله: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً «2»، والشواهد كثيرة. إضافة إلى إشارتنا إلى أن المعوّل عليه طبيعة النّغمة الصوتية للحرف نفسه، فتفسير الأمر من جهة عضوية محضة لا يكون محقّا في تفسير الحالة الخارجية للصوت بعد خروجه من أعضاء النطق. ولهذا يتبيّن لنا أنّ أساس الانسجام هو في صفات الحروف، إذ تنقسم إلى صفات كثيرة مثل: شديدة ورخوة، ومجهورة ومهموسة، وحروف صفير واستعلاء وقلقلة وغيرها «3». ويمكن أن نعطي للتنافر المنبوذ بعدا آخر غير عدم الانسجام، وهذا البعد يتمثّل في الجهد العضلي لجهاز النّطق عند لفظ أصوات بعينها متقاربة، ولا يحصل هذا في كلّ مقام، ولا يطّرد في كل كلمة، وفي هذا الصّدد يقول عبد المجيد ناجي: «يمكن تفسير تنافر حروف بعض الألفاظ، والإحساس بثقلها على اللسان، ونفور النفس منها، خصوصا إذا كانت متقاربة المخارج، بأن النّطق بحروف متقاربة المخارج، يعني الإلحاح على مجموعة معيّنة من العضلات دون سواها، لإخراج أصوات اللفظة المطلوبة، وهذا يؤدي إلى إحساسها بالتّعب «4». وإذا كان هذا لا يحصل في كل تقارب، فإنّنا نستطيع القول إن النقد الحديث يعترف بشكل جزئي بنظرة ابن سنان، إلا أنّه يقدّم مقياس الذوق

_ (1) سورة الإسراء، الآية: 17. (2) سورة المعارج، الآية: 7. (3) انظر ابن عبد الفتاح، قواعد التجويد، ص/ 41، وابن جني، سرّ صناعة الإعراب: 1/ 56. (4) ناجي، مجيد عبد الحميد، الأسس النفسية للبلاغة، ص/ 52.

السمعي، كما هو الحال عند ابن الأثير، كأن يتلو السّين حرف الشين، وكلاهما مهموس ومخرجهما واحد، فتتعب عضلات النّطق في إخراجهما متتاليين، وهنا يتضح لنا أن الغرابة يقصد بها عدم تآلف السّمع مع أصوات كلمة ما، فينبذ هذا التشكيل. وإذا عدنا إلى بعض مفردات القرآن الكريم التي ورد فيها حرفان متماثلان مثل السين في الآية السابقة: لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «1» وكلمة «سلككم»، وكلمة «أمم» نجد أن السّين الأولى في «يمسسني» مفتوحة والثانية ساكنة، والكاف الأولى في «سلككم» مفتوحة والثانية مضمومة، والميم الأولى في «أمم» مفتوحة والثانية مضمومة، ونؤكّد السهولة في كلمة «رزقكم» من خلال أن نغمة القاف غير الكاف بالرغم من وجود الضمة على الاثنين. ويقول إبراهيم أنيس في أهمية الحركات في هذا المقام: «لمعرفة ثقل الحروف في تواليها يجب أن نذكر دائما أن المجاورة بين الحرفين، يجب أن تكون مباشرة، فلا يفصل بينهما بحرف أو بحركة» «2»، وهذا غير موجود في العربية. لقد كان يجدر بمن تناول هذه الجمالية، وحكّم بعد المخارج في الألفاظ القرآنية وغيرها، أن ينتبه إلى أن اللغة العربية المستعملة، أو كما يقال «الكلام» العربي- وهو الجزء اليومي المستخدم والمنتزع من المخزون اللغوي الكلّي- كان يميل إلى الصّفاء، والبعد عن الوعورة، وهذا ما ورد على ألسنة فصحاء العرب، فكيف إذا تأكدنا من أن كلمات القرآن الكريم انتقائية صوتية مهذّبة من لغات القبائل العربية، وأكثرها من قريش، فقد أخذ القرآن ما كان نافعا، ونبذ ما كان زبدا. وعلم اللغة الحديث يؤكّد أنّ اللغات جميعها، قلّما تشتمل على أصوات متنافرة، يقول إبراهيم أنيس: «إن اللغات في أحدث صورها تكاد تخلو من المجموعات الصوتية المتنافرة التي تتعثّر في نطقها الألسنة، مثل الكلمات التي

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 47. (2) أنيس، د. إبراهيم، 1972، موسيقا الشعر، ط/ 4، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة ص/ 28.

يصفها علماء البلاغة بتنافر الحروف مجتمعة كالهخع ومئتشزرات» «1». ثم ما الذي يدعونا إلى تصور قلب كلمة علم وعذب إلى العكس لنجد قبحا لا سبيل الآن إلى وجوده، وذلك ما دمنا قد عرفنا «علم» ولم نعرف «ملع» ويبدو أن هذه الخاصية كانت من دواعي التّرف الذهني والتعلّق بالشكل، كما هي الحال في مسألة طول الكلمات كما سنجد. لقد استطاع ابن الأثير بما ذكر من أمثلة أن يبطل نظرية ابن سنان، إلا أن الأمر ظلّ يفتقر إلى لمسات الرافعي الذي يبني نظرته على صفات الحروف، وهذا وليد التدبر العميق للكلمات القرآنية، مما يكشف جماليات موسيقية، ولم يعتمد الذوق الشخصي، بل حكّم طبيعة الحروف. وإن القراءة الدقيقة لآيات القرآن الكريم تؤكد أنّ السهولة نابعة من الانسجام، ولا يقتصر هذا الانسجام على تباعد المخارج، بل هناك الحروف والحركات، وصفات الحروف هي المعوّل عليه هنا، وإن الانسجام يحصل بين تلاقي هذه الصفات، وليس بين مخارجها قبل النّطق بالحرف. ويبدو أن الذوق الفطري كان عند الجاحظ هو الذي يرفض التنافر، لنبوّ المسموع على الآذان، ولم يخطئ هذا الذّوق الفطري، الذي ارتبط لدى الدارسين بعده بما أفادوه من الثقافة الصوتية السابقة، مثل ما جاء في مقدمة كتاب العين، وبداية سر صناعة الأعراب لابن جني، إذ درس الخليل مخارج الأصوات، وكذلك صنع ابن جني، وراح يشبّه المخارج بالناي، وهذا مما ينظر إليه بإجلال، إلا أن ما أفاده البلاغيون من هذه الدراسات لم يكن لائقا أحيانا. ونحن نقول هذا مع إقرارنا التام بأن القرآن نفسه كان حافزا قويا على الدراسات الصوتية التي تهدف إلى تجويد نطق القرآن، وإلى حسن أدائه «2».

_ (1) أنيس، د. إبراهيم، 1960، دلالة الألفاظ، ط/ 2، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص/ 32. (2) انظر أبو مغلي، د. سميح، 1986، جهود علماء العرب في الأصوات اللغوية، مجلة الفيصل، السعودية، العدد 108، السنة التاسعة، شباط ص/ 33. وراجع ابن جني، سر صناعة الإعراب: 1/ 50 - 65.

2 - المفردات الطويلة في القرآن

2 - المفردات الطويلة في القرآن - نظرة ابن سنان: لفت نظر ابن سنان وجود كلمات طويلة، كثيرة الأحرف في الشعر العربي، فراح يتّخذ من طولها مقياسا لقبح المفردات، فاستهجن ما يطول من الكلمات في الشّعر، وهذه الخاصية الفنية جزء من الفصاحة المتعلقة بالنّظم الموسيقى بشكل عام، وهذا الجنوح للتفتيش عن كلمات طوال يبدو أنّه من دواعي التعلق الشّكلي بالمفردات. والمفردة تتخذ بعدا بصريا في حجم المشهد الذي ترسمه، كما أنها تتّسم بحيّز زمني متعيّن في عدد مقاطعها، وقال برتيليمي: «وقد عرّف أو غسطين الموسيقا بأنها علم الحركة، والحركة تضم الزمن إن هي ضمّت فكرة العدد» «1». ومن خلال هذا التعريف صار بالإمكان إطلاق اسم «التنسيق الزمني» «2» على هذه الخاصية، من حيث إن عدد المقاطع شبيه بالسلّم الموسيقى. بدأت تظهر بذور هذه الفكرة لدى ابن سنان الخفاجي الذي خصّص في كتابه «سرّ الفصاحة» بابا لجمال المفردة، وآخر لجمال التركيب، وكأنّما كانت سعة الباب الأول المتعلق بالمفردة تسمح له بدراسة هذه الخاصية الدّالة على ترف ذهني، وهذا طبيعي في كتاب يدرس المفردة، ويقسم جماليتها إلى عشرة أقسام، فلا ضير في وجود قسم لطول الكلمات، تنثر فيه تمحّلات وتعليلات، القرآن الكريم غنيّ عنها، وهو يدرس هذا في مجال الأدب فقط، ورأينا أن ندرسها لاستكمال البحث، ولاكتشاف معالم جمالية فيها. فالقسم السابع من فصاحة المفردة أن تكون قليلة الأصوات، يقول ابن سنان: «والسابع مما قدّمناه، أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف، فإنّها

_ (1) برتيليمي، جان، بحث في علم الجمال، تر: أنور عبد العزيز، ص/ 353. (2) ورد هذا المصطلح عند عز الدين إسماعيل في الأسس الجمالية، ص/ 175.

- نظرة ابن الأثير:

متى زادت على الأمثلة المعتادة قبحت، وخرجت من وجوه الفصاحة» «1». - نظرة ابن الأثير: وإذا كان ابن سنان يعيب طول الكلمات، فإنه لا يرجّح جماله في القرآن، وقد أشار ابن الأثير إلى جمال طول مفردات القرآن كما سنرى، وحدود الجمال لا تظهر عنده بذكر عدد الأحرف في المفردة، بل يستهجن ما جاء في بعض الشّعر، وكأنه يرى أنّ طول النّفس في نطق معنى يسبّب جهدا عضليّا لأعضاء النّطق يصحبه ملل غير خفيّ، والحقّ أنّ سماع كلمات القرآن ينفي هذا. وإذا استطلعنا بعض الآيات الكريمة وجدنا مفردات ذات أحرف كثيرة، مثل: «نستدرجهم» من قوله عزّ وجلّ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ «2»، و «نلزمكموها» من قوله عزّ وجلّ عن عناد قوم نوح عليه السلام ورفضهم للإيمان: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ «3»، وكذلك قوله: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ «4»، وكلمة «أسقيناكموه» من قوله تعالى عن المطر: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «5» وفي قوله تعالى على لسان فرعون مهدّدا: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ «6»، وغيرها من الكلمات الطوال، فإنّ هذا يدحض نظرية ابن سنان. لقد نظر ابن الأثير إلى مثل هذه الكلمات، وراح يفنّد رأي ابن سنان، وعدّها سلاحا ماضيا لنسف رأيه، وتلمّس جمالها في القرآن من خلال ردّها إلى الأصل الثّلاثي، وإذا طبّقنا رأيه قلنا: إن الأصول الثلاثية هي صلب، سكن، سقى، لزم، درج، وهي أصول مجردة، وكذلك بعض الأصول الرباعية، فالمعيار صرفي لا علاقة له بقضية انسجام المقاطع الصوتية، وسهولة نطق الأصوات، وهو يتبع خطا ابن سنان في استهجان الكلمة الطويلة في الشّعر،

_ (1) ابن سنان الخفاجي، سرّ الفصاحة، ص/ 95. (2) سورة الأعراف، الآية: 182. (3) سورة هود، الآية: 28. (4) سورة إبراهيم، الآية: 14. (5) سورة الحجر، الآية: 22. (6) سورة الشّعراء، الآية: 49.

ولا يرى هذا في القرآن، لذلك يذكر بيت أبي الطيب: إنّ الكرام بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها «1» ولا يحبّذ كلمة «سويداواتها»، إذ يقول عن ابن سنان: «وقال: إنّ لفظة «سويداواتها» طويلة فلهذا قبحت، وليس الأمر كما ذكره، فإن قبح هذه اللفظة لم يكن بسبب طولها، وإنما لأنّها في نفسها قبيحة، وقد كانت منفردة حسنة، فلمّا جمعت قبحت لا بسبب الطّول، والدّليل على ذلك أنّه ورد في القرآن الكريم ألفاظ طوال، وهي مع ذلك حسنة كقوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «2»، فإن هذه اللفظة تسعة أحرف، وكقوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ «3»، فإن هذه اللفظة عشرة أحرف، وكلتاهما حسنة رائعة، ولو كان الطول مما يوجب قبحا لقبحت هاتان اللفظتان، وليس كذلك» «4». فهو يرفض ما ارتكز عليه ابن سنان في فصاحة المفردة، ويستمدّ هذا الرفض قوّته من وجود طوال الكلمات في القرآن، وهو في بداية كلامه يعبّر عن سمة القبيح بذاته في مفردة أبي الطيّب، مما لا يحتاج إلى سبب، وكشف مزايا، ويعبّر عن الجميل بذاته في جمال طوال الكلمات القرآنية، ولهذا يحاول قدر المستطاع الاستناد إلى معيار به يقبل، وبه يرفض، فيقول: «ألا ترى أنه لو أسقط من لفظة «سويداواتها» الهاء والألف اللتين هما عوض عن الإضافة، لبقي منها ثمانية أحرف، ومع هذا، فإنّها قبيحة، ولفظة «ليستخلفنّهم» عشرة أحرف، وهي أطول منها بحرفين، ومع هذا فإنّها حسنة رائعة، والأصل في هذا الباب ما أذكره، وهو أنّ الأصول من الألفاظ لا تحسن إلا في الثّلاثي، وفي بعض الرباعي، كقولنا: عذب وعسجد، وأما الخماسي فإنه قبيح» «5». وقد تدارك الأمر فنبذ تقويم الجميل بذاته، والقائم على المثالية الغامضة، وراح يقرّر الجمال الموضوعيّ الذي يتعيّن في نسب المادّة وشكلها، وهذا

_ (1) أبو الطيب، العرف الطيّب، شرح ديوان أبي الطيّب لناصيف اليازجي ط/ 2، دار القلم، بلاتا، بيروت، ص/ 192. (2) سورة البقرة، الآية: 137. (3) سورة النّور، الآية: 55. (4) ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 188. (5) المصدر نفسه: 1/ 188.

الجمال الموضوعي- كما نرى- يتّصف بالكمّ، ولا يتّصف بالماهيّة، فعدد الحروف هو المعيار، وليس أنواعها. ويجب أن نقول: إنّ علاقة القارئ أو السامع بالكلمة كما يجدها، ومن التّعسّف إحالته إلى الأصل، ثلاثيا كان أو رباعيّا، فإنّ هذا لا يعدّ تبريرا لطول النّفس معها، فما شأن القارئ أو السامع بكون الجذر الأصلي للكلمة «خلف»؟، لذلك نرى أنّ موضوعية ابن الأثير غير مقنعة، كما أن سطحيّة ابن سنان مجحفة، وكأنّما الأمر مجرّد كمّ لا كيفية ولا نوعيّة. ويبدو أن جمال كلمة «ليستخلفنّهم» له وجه آخر يتّضح من وجود السين، والخاء الساكنتين، وهما من حروف الهمس، وهذا هو سرّ فصاحة الكلمة. وإذا كان ابن الأثير يعوّل في هذا الأمر على جذر الكلمة، ولا يحتكم إلى الذّوق على جاري عادته في كثير من صوتيات القرآن، فإن هذا الاحتكام إلى الذوق المبهم يتكرر لدى يحيى العلوي الذي خصّص صفحات مطوّلة لفصاحة المفردة أيضا، إذ يقول: «والتّعويل في ذلك على الذّوق، فإنّها ربّما كثرت الحروف، وهي خفيفة على اللّسان، كقوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وكقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «1». ومفهوم الخفة يبدو غامضا، وكثيرا ما قرنوه بالعذوبة، لذلك يبقى هذا التفسير بحاجة كبيرة إلى التوضيح، فلا نعرف إن كانت الخفّة في التشكيل الصوتي الكلي للكلمة أو في طبيعة الصوت بمفرده. ويبدو لنا أنّ قبح كلمة «سويداواتها» ينتج عن ندرة استعمالها في صيغة الجمع، واطراد استعمال المفرد منها «سويداء»، وهذا الاضطرار الموسيقى في إحكام الوزن الشّعري الذي يخلّف كثيرا من الحشو، عادة لا يكون في نسق القرآن الكريم، ويضاف إلى هذا أن تكرار الواو والمدّ معا قد يعطي النّطق مدّا جبريّا، وصعودا شاقّا، فالقبح في الشّكل والمضمون معا. والجدير بالذكر أنّ الأسلاف لم يلتفتوا إلى دراسة هذه الخاصيّة، ولم

_ (1) العلوي، يحيى، الطّراز: 1/ 110.

يعيروها انتباههم، إلّا ما كان من هؤلاء الثلاثة: ابن سنان وابن الأثير ويحيى العلويّ، وباقي أبواب الفصاحة تكاد توجد في كل الكتب التي تبحث في البلاغة. وسبب ضالة هذه المادة- فيما نرى- هو ضعف الحجّة عند من يتصدّى للبحث فيها، وثمّة سبب آخر فقد تراءى لهم عيب التعلّق الشكلي غير المجدي بهذا الفنّ، وعدم جدواه في البلاغة القرآنية. وقد كان يجدر بمن درس طول الكلمات القرآنية التي ذكرناها، أن يهتمّ بالدّلالة الصّرفية، وقيمة الاختزان للمعاني الكثيرة في بنية كلمة واحدة، وأن يلتفت إلى تجسيم شكل الكلمة للمعنى المبتغى، فإن لفظة «سنستدرجهم» توحي بطول المدّة مدة عدم انصياعهم، وخصوصا في صيغة «استفعل» ففيها تصيير لهم، وحركة جعلية متمهّلة، وهذا ما يوحي به توالي المقاطع وتعدّدها مما يجسّم طول فترة الغفلة التي يكون فيها الكافرون، وفي هذا المعنى تقول روز غريب: «والألفاظ التي يشبه لفظها معناها: ذات الأصوات الممتدة التي توحي بالطّول والسّعة، والقصيرة التي توحي بالخفّة والسّرعة، وتلك التي بأصواتها تعبّر عن القوة النّشاط، والهدوء أو الخشية والاضطراب، والألم والعياء، أو النّعومة والتّرف» «1». ونستطيع أن نتلمّس جمال كلمة «أنلزمكموها» بألا نسير وفق نظرة القدامى، فلا نقف عند عدد حروفها، إلّا فيما يتعلّق بالمضمون، ففيها سمة الاختزان، لأن صيغتها تعني وجود مفعولين، وكأنّما أضمر هذان المفعولان لموافقة نبرة الغضب التي تتطلّب السّرعة، والمفعولان هما الكفّار والآيات، وكذلك يضمر مفعولان في كلمة «فسيكفيكهم» وكأنّ غرابة استعمال الكلمة على هذا الشّكل يمثّل غرابة الموقف الإلهي من البشر، فإنه عزّ وجلّ لا يجعل الإيمان فعلا قسريا كالتّنفّس والنّوم، مما ينفي إرادة البشر، ويحطّ من كرامتهم، ومن ثمّ يبطل الثّواب، إذ لا ثواب على فعل التّنفّس مثلا، ويكون للتنفس والنوم ثواب إذا قصد بهما مواصلة العبادة، ومن هذا ثواب الطعام الذي يقصد به التقوّي على إقامة العبادة والنّسك الربانية. فالإيمان محض اختيار،

_ (1) غريب، روز، النقد الجمالي، ص/ 91.

لأنه أرقى من سائر التصرّفات البشرية. ولو أنهم ردّوا جمالية كلمة «ليستخلفنّهم» إلى أمر التوكيد باللام والنون، وسمة الهيمنة النابعة من الضّغط على السين والخاء لكان أجدى، وكذلك فإن هناك وقوفا على حرف شديد، وهو الميم، وكذلك زيادة التوكيد الدالّ على التعجرف والثّقة العمياء بالنّفس في صيغة كلمة «لأصلّبنّكم»، والتوكيد باللام ونون التوكيد معا. لقد فسّرنا ضآلة عدد الدارسين القدامى في هذا المجال بظهور التعلّق الشّكلي، وضعف الحجّة، وهذا ينطبق على الدراسات الأدبية الحديثة للقرآن، فلم يذكر طول الكلمات إلا الرّافعي، وهو لا يسفّه رأي سابقيه، ولا يدلّل على عدم جدوى هذا البحث، بل يقدّم تبريرا آخر لم ينتبه إليه السابقون. وكأنّ سكوت القدامى عن الدلائل المضمونية لطول الكلمات جعل مفتاحا لنظرة الرافعي الصوتية إلى هذا الأمر، إلّا أنّ هذه النظرة لا تتّسم بالغموض وإطلاق عبارات مثل الخفّة والرّشاقة، وإن كانت واضحة الدّلالة لدى معاصريهم، بل تتّسم بموضوعية واضحة جليّة المعالم. يقول الرافعي: «وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع مما يكون مستثقلا بطبيعة وضعه أو تركيبه ... إذ تراه قد هيّأ لها أسبابا عجيبة من تكرار الحروف وتنوّع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها، كقوله: «ليستخلفنّهم في الأرض» «1»، فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوّع مخارج الحروف، ومن نظم حركاتها، فإنّها بذلك صارت في النّطق كأنّها أربع كلمات، إذ تنطق على أربعة مقاطع، وقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «2»، فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع، وقد تكرّرت فيها الياء والكاف، وتوسّط بين الكافين هذا المدّ الذي هو سرّ الفصاحة في الكلمة كلّها» «3».

_ (1) سورة النّور، الآية: 55. (2) سورة البقرة، الآية: 137. (3) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 229.

ومما يسترعي الانتباه، ويؤكّد عدم اهتمام الدارسين بهذا الأمر أنّ ابن الأثير ثم يحيى العلويّ، وأخيرا الرافعيّ لم يذكروا غير هذين الشاهدين، أحدهما بعشرة أحرف، والثاني بتسعة أحرف، مع أن الكلمات ذات الأحرف العشرة، كثيرة في القرآن، وقد ذكرنا بعضا منها قبل قليل. ومن المعروف أن المفسّرين اهتموا بجلاء المعاني، وما يتضمّنه من التصوير بفروعه لتوصيل المعنى، فكانت نظراتهم منصبّة في مضمون المفردة أكثر من شكلها. ومما ينوّه به هنا أنّ المقطع الأول من كلمة «فسيكفيكهم» طويل إلّا أنّه يتمتّع بتوالي الفتحات، ومع الفتحة تنفرج الشّفتان مما جعل نطق الكلمة سهلا، ولو أن الرافعي استشهد بكلمة «أسقيناكموه» لوقع على كلمة ذات أربع مقاطع أيضا. ويؤخذ عليه أنّه لا يقدّم تحليلا صوتيا يسير فيه بدقّة مع القارئ، ليفسّر له عملية نطق المقاطع، فكلامه لا يشرح في ضوء العلم، ليكون ثابتا بعيدا عن الذّوق المبهم، ويكفيه فخرا هذا التّغلغل في استنتاج أهمية المخارج، وخفّة المقاطع، بدلا من الوقوف عند العدد، فكأنما المدّ لم يضف فصاحة على مفردة أبي الطيب المتنبي، لتقارب مخارج الواو والياء والألف، فهي حروف ليّنة، وليست العذوبة في توالي الحروف الرّخوة، فهذا بعيد عن فنّ البيان القرآني الذي يهتم بالانسجام، فقوّة حروف «لأصلّبنّكم» ملائمة للمعنى، وسهلة النّطق. والرافعي يوافق ابن الأثير الذي اتّخذ الأصول الثلاثية والرباعية مقياسا لجمال المفردة الطويلة، ولكنه لا يكتفي بهذا فهو يقول: «وهذا إنّما هو الألفاظ المركّبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثّلاثية أو الرّباعية، أما أن تكون اللفظة خماسيّة الأصول، فهذا لم يرد منه في القرآن شيء، لأنّه مما لا وجه للعذوبة فيه، إلّا ما كان من اسم عرّب، ولم يكن في الأصل عربيا، كإبراهيم وإسماعيل وطالوت وجالوت، ونحوها، ولا يجيء به

مع ذلك إلا أن يتخلّله المدّ كما ترى، فتخرج الكلمة وكأنّها كلمتان» «1». ولولا ذكره المدّ لوصم كلامه بالقصور، لأن القرآن عربي على أية حال، أو وصم بالجمود عند رأي ابن الأثير، لكنه أردف هذا الرأي بأهمية الجمال السّمعي المتعيّن في المدود، ولا يقتصر الأمر على المدّ فحسب، بل هناك موضع الكلمة في التركيب، وقد وردت أسماء ليس فيها مدّ مثل «اليسع» في آيات الأنعام: وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ «2»، فالمدّ ليس شرطا دائما من شروط الفصاحة. كما أن الألف في «بعاق» لا يستلزم إقرارا بعذوبتها. لقد استقبح ابن سنان الكلمات الطويلة في الشعر، ولعلّه استقبح هذا لحصول الكلمة على أكثر من تفعيلة في وزن البيت الشّعري، إلّا أنّنا رأيناه يستقبح مجرّد الطّول، ثم جاء ابن الأثير، ورفض هذه النظرة لمجرّد وجود كلمات طويلة في القرآن، ولاعتماده على جذور الكلمات، ثم جاء الرافعي، وبنى نظرته على البنية الداخلية للمفردة القرآنية، فوجد أنّ الكلمات الطّوال تتمتّع بكثرة المدود والسّكنات مما يجعلها مقاطع، إلا أنه يوافق ابن الأثير في مسألة جذر الكلمة الطويلة، وتعدّ نظرة الرافعي أكثر وضوحا لارتباطها الكلي بطبيعة تشكيل المفردة. وقد وجدنا أنّ التعلّق بهذه السّمة يدلّ على ترف ذهني، وأنّ القدامى لم يعيروا هذه السّمة اهتماما كبيرا إلّا ما كان من القلّة منهم، ونحن لا نريد أن نعدّ حروف كلمات القرآن، بل نريد وقعها على الآذان، وملاءمتها للمقام، ومخزونها الوجداني، ولهذا ربطنا طول الكلمة القرآنية بطبيعة الحروف، وبتوزيع الحركات، وبيّنا علاقة هذا بمضمون الآية كلّها، وكذلك بيّنا قيمة الصّيغة الجمالية، وتفرّد هذه الصّيغة بمعان سامية، ودلائل فنيّة رفيعة من اختزان المعاني الكثيرة، ومواءمة الموقف.

_ (1) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 229. (2) سورة الأنعام، الآية: 86.

وهنا نستنتج الأمور الآتية: 1 - ليست العبرة في كثرة عدد حروف المفردة، بل في نوعية هذه الحروف. 2 - تتدخل المدود، والحركات في طول المفردات إذ تقسّمها إلى مقاطع صغيرة سهلة في النّطق والسّمع. 3 - لبعض المفردات الطويلة في القرآن أهمية هي أعلق بالنظم وملاءمة الموقف. 4 - إن سماع المفردات القرآنية لا يشعر بوطء الطول، فالتنسيق الزمني مترافق مع نوعية التّشكيل الصّوتي وكيفيّته.

3 - مفهوم خفة المفردات

3 - مفهوم خفة المفردات كان لبعض القدامى اهتمامات كبيرة بأصوات مفردات القرآن، وقد أكّدوا جمال الشكل السمعي وجمال المضمون، وعدم التنافر بينهما، فلا نجد لدى سماع المفردة القرآنية نبوّا ولا نفورا، ومع هذا فليس هناك بديل عنها في موافقة المعنى. وتتناول هذه الفقرة بعض ما ورد في كتب الإعجاز البياني- فيما يخص أصوات المفردات- وغايتنا توضيح مصطلح الرّقة والخفّة والعذوبة والجزالة، وما شاكل هذا مما جاء مجملا أو مفصّلا، وسنفسر وجهة نظر القدامى والمحدثين في مفهوم الخفة. الذوق الفطري عند ابن الأثير: لعلّ ما يلحظ هنا تلك القفزة الزمنية إلى القرن السابع الهجري، والممثّل بضياء الدين بن الأثير، وما يتبع هذا من تجاوز لجهود أعلام القرون السابقة، والحق أنهم اهتموا بهذه الجمالية اهتماما طفيفا، جاء في أسلوب مجمل. لقد استفاد ابن الأثير من ابن سنان الذي سبقه بقرنين من الزمن، والذي يهمنا أن ابن الأثير خصّص الكثير للمفردة القرآنية، يقول ابن سنان عن أحد شروط جمال المفردة: «أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسنا ومزيّة على غيرها، وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة ... وليس يخفى على أحد من السامعين أن تسمية الغصن غصنا أو فننا أحسن من تسميته عسلوجا، وأن أغصان البان أحسن من عساليج الشّوحط» «1». ويعيب على المتنبي ذكره كلمة خشنة، فقد ذكر الجرشّى بدلا من النّفس: مبارك الاسم أغرّ اللقب ... كريم الجرشّى شريف النّسب «2»

_ (1) ابن سنان، سرّ الفصاحة، ص/ 67، الشّوحط شجر يتّخذ منه القسي. (2) المصدر نفسه، ص/ 69، وانظر، المتنبي، الديوان، شرح ناصيف اليازجي ص/ 466.

وقد نصب ابن الأثير نفسه منظّرا لجمال المفردة شأن سابقه ابن سنان، بيد أنه أضاف تطبيقات من القرآن الكريم، يقول: «ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ نغمة لذيذة، كنغمة أوتار، وصوتا منكرا، كصوت حمار، وأن لها في الفم حلاوة، كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل» «1». إنه يحكّم معيار التذوق الحسّي بعيدا عما يقنّن، وهذا التذوق ليس فرديا، بل يرتبط بالذوق الفطري الذي ينبذ ما هو ثقيل على الآذان والنّطق. وقلّد ابن سنان فاعتمد على معياره، وراح يسفّه رأي من لا يفرّق بين السّيف والخنشليل. ويقول: «ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرّق بين لفظة الغصن والعسلوج، وبين لفظة المدامة، ولفظة الاسفنط، وبين لفظة السيف، وبين لفظة الخنشليل، وبين لفظة الأسد، وبين لفظة الفدوكس، فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب ولا يجاوب بجواب» «2». وفي هذه الأمثلة يظهر أثر العصر، فبيئة الجاهلي لا تستبعد كلمة (بعاق) ولا تستهجن خشونتها، لأن الطبيعة كانت تميل إلى الخشونة. وإذا طبّقنا رأيه في الآية: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ «3»، فهذا يدعونا إلى تفضيل المزن على البعاق كما أراد ابن الأثير، والمزن هاهنا تساهم في النّسق الموسيقى، إذ يتكرر حرفا النّون والزّاي. وبما أن الموقف موقف استلطاف واستمالة قلوب مع ذكر النّعم، فإنّ لفظة البعاق، وتظلّ بعيدة، ونافرة غير لائقة بالسّياق الموسيقى، وكذلك لم يرد مثل هذه المفردة في القرآن، ولعل مما يكره، ويعدّ تفسيرا لتذوق ابن الأثير، أن يفصل بين العين والقاف بمدّ، وهما متقاربان حلقيّان، والقرآن ذكر «عقر» و «يعقلون» و «عقد» وغيرها. هنالك وقفة حاول فيها ابن الأثير الاقتراب من التوضيح، يقول تعالى:

_ (1) ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر: 1/ 150. (2) المصدر نفسه: 1/ 150. (3) سورة الواقعة، الآية: 69.

- إضافة الرافعي على ابن الأثير:

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ «1»، يقول: «وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي الطّوفان والجراد والدم، فلما وردت هذه الألفاظ بجملتها قدّم منها لفظتا الطوفان والجراد، وأخّرت لفظة «الدّم» آخرا، وجعلت لفظة القمّل، والضّفادع في الوسط، ليطرق السّمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة، وينتهي إليه آخرا، ثمّ إنّ لفظة الدّم أحسن من لفظة الطّوفان والجراد، وأخفّ في الاستعمال، ومن أجل ذلك جيء بها آخرا» «2». - إضافة الرافعي على ابن الأثير: لقد حاول الرافعي أن يكون واضح الحكم، لأنه يشير إلى المدود في الجراد والطّوفان، وقلّة الأحرف في «الدّم»، فاقترب من الجمالية الموضوعية، وقد اعتمد الرافعي على هذا التّحليل، وأضاف إليه لمسات صوتية من خلال تأمّله المحكوم بطبيعة التّركيب الداخلي للمفردة، إذ إنّه يلقي الضوء في شاهد ابن الأثير قائلا: «أخفّها في اللفظ «الطّوفان والجراد والدّم»، وأثقلها «القمّل والضّفادع» فقدّم «الطّوفان» لمكان المدّين فيها، حتى يأنس اللسان بخفّتها ثم الجراد، وفيها كذلك مدّ، ثمّ جاء باللفظين الشّديدين مبتدئا بأخفّهما في اللسان، وأبعدهما في الصوت، لمكان تلك الغنّة فيه، ثم جيء بلفظة «الدّم» آخرا، وهي أخفّ الخمسة، وأقلّها حروفا، ليسرع اللسان فيها، ويستقيم لها ذوق النّظم، ويتم بها هذا الإعجاز في التركيب» «3». ولعلّ ابن الأثير لم يصرّح بالعلّة هنا، لأنّه رفض مبدأ طول الكلمات وقصرها كما يرى ابن سنان، ونلاحظ هنا أن المفردة إسهام جزئي في إيقاع الآية كلها. وتتبدّى مظاهر موضوعية في تأمل الرافعي من خلال ذكر المدود التي تقسّم الكلمات إلى مقاطع صغيرة خفيفة، وهذا ما يسمّى في العروض بالأوتاد، وكذلك من خلال ذكر الغنّة في كلمة «قمّل» ففيها إدغام بغنّة.

_ (1) سورة الأعراف، الآية: 133. (2) ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 148. (3) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 135.

ولم يتخلّص من غموض ابن الأثير، إذ لم يشر إلى طبيعة النّبر القوي في الضّاد من كلمة «الضّفادع»، واكتفى بمصطلح الشّدّة وكثرة الأحرف، والضّاد من حروف الإطباق والجهر، وقد تلاه حرف الفاء الشّفوي بشدّته. وإن عدم إشارته إلى الطبيعة النّغمية للضّاد جعله يعيد حكم السابقين في جمال إفراد الأرض، وقبح جمعها، ويتّضح هذا في قوله تبارك وتعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «1»، فلم يذكر البيان القرآني «أرضون»، يقول الرافعي: «ولم يقل سبع أرضين، لهذه الجسأة التي تدخل اللفظ، ويختلّ بها النظام اختلالا» «2». ومما لا شكّ فيه أن وجود الضّاد في «أرضين»، أخفّ من وجوده في «الضّفادع» لوجود مدّ الياء بعد الضّاد، وقبله الكسرة، إنما الأمر يعني غرابة المفردة فيما يبدو لنا، وهذه الغرابة لا يتطلّبها مضمون سياق الآية، حتى تكون الغرابة الصوتية موائمة لغرابة المعنى أو الموقف. ومما يؤكّد هذا أن البيان القرآني يذكر الأحرف الأربعة الأولى في كلمة أخرى، إذ يقول عزّ وجلّ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «3»، فهنا ذكرت الهمزة والرّاء والضّاد والياء، ولم تثقل في اللسان. ولربّما كان للإفراد هنا تفسير علمي ما زال في طيّات الغيب، أو إن نغم التركيب الكلي لا يساعد على ذكر سبع «أرضين» من حيث النّظم الموسيقى، كما رأى الرافعي. أما من حيث المعنى، فقد كان شائعا بين الناس خلق «سبع سماوات» ولا يعلم أحد بسبع أرضين، فجاءت كلمة «مثلهن» لتنزيح الاستغراب والإنكار عن وجود سبع أرضين، وكأنه يقول: الذي خلق سبع سماوات خلق سبع أرضين، وهو قادر على ذلك من باب أولى.

_ (1) سورة الطّلاق، الآية: 12. (2) الرافعي، إعجاز القرآن: 233 وقد ذكر الجاحظ هذا في البيان والتبيين: 1/ 141. (3) سورة التوبة، الآية: 38.

ونستطيع أن نقول: إن ابن الأثير ظلّ منظّرا أميل إلى ذكر الأحكام والأفكار من غير تطبيق، خصوصا إذا تعرّض لمفردات القرآن، وقد قال: «الألفاظ تنقسم في الاستعمال إلى جزلة ورقيقة، ولكلّ منها موضع يحسن استعماله فيه، فالجزل منها يستعمل في وصف مواقف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف، وأشباه ذلك، وأما الرقيق منها، فإنه يستعمل في وصف الأشواق، وذكر أيام البعاد، وفي استجلاب المودات، وملاينات الاستعطاف» «1». فهو يؤكّد أن الألفاظ جزلة ورقيقة، وأساس هذا هو الموضوع نفسه، لأنه يتطلّب تشكيلا صوتيا معيّنا، فقد أدرك العلاقة بين التشكيل الصوتي وبين المشاعر الإنسانية في الفن القولي، بيد أنه لا يطبّق هذا إلا في مجال رقة الألفاظ، وما يحمد له أنّه ربط الصوت بالموضوع. ولو أنّ ابن الأثير أجال النظر في آيات السور المكية القصار مثلا لوجد أن نبرة التهديد والغضب والعنفوان واضحة المعالم في المفردات، وفي قصر الجمل أو الآيات القرآنية، وكثيرا ما لا يراعي الشعراء تنظيم الإيقاع وجزئياته، ليوافق المشاعر كما نجد الشّدّة في غزل أبي الطيب أحيانا. ويمكننا أن نورد بعض الآيات مما يراعى فيها الموقف تفسيرا لمقولة ابن الأثير التي ذكرها في كتاب خصّص في الأصل لأدب الكاتب والشاعر، وإن عدّ البيان القرآني الأسوة الحسنة لصنّاع الأدب، ففي قوله عزّ وجلّ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «2» تمثّل المفردات صرخة عنيفة بأصواتها، وكان باستطاعة ابن الأثير أن يتلمّس مظاهر الجزالة في تعدّد الباءات، والباء حرف شفوي انفجاري، ويزيده عنفا كونه مشدّدا أو ساكنا بالتنوين والسكون، أو مشددا ساكنا مقلقلا قلقلة كبرى. كذلك يمكنه أن يتلمّس مظاهر الرقة في إيقاع أغلب السور المدنية، وكثير من السور المكية، ففي قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ

_ (1) ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 168. (2) سورة المسد، الآية: 1.

وَلِيًّا «1»، وعلى الرغم من أن سورة مريم مكية، فإن الآية تفوح من كلماتها رائحة البنوّة الإنسانية، فهو يستميل قلب والده، وإضافة إلى وجود تسعة مدود في الآية، فإنّ طبيعة الأصوات الرّخوة تناسب مقام الملاينة، فلم يذكر عزّ وجلّ «يصيبك» بل «يمسّك» للطف فعلها من حيث المسّ فقط، ولهمس السين فيها، وفي المفردات الخاء والحاء في «أخاف» و «الرحمن»، والأحرف الليّنة كالواو والياء. فإذا جاء ردّ الأب المتغطرس نقرأ كلمات ذات صوت شديد، يقول عزّ وجلّ على لسان آزر: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «2»، وجرس «لأرجمنّك» يوحي بوقع الحجارة على الجسم لوجود النون، وهي ترد فيها ثلاث مرات، ومرة مدغمة باللام، فتصير شديدة، والجيم كذلك، ووردت الراء مرتين ساكنة، مما يعطي نبرا قويا مضافا إلى طبيعة هذا الحرف الذي يتكرر في أثناء نطقه. فيجب أن يتلاءم التشكيل الموسيقى مع طبيعة الموقف الذي يذكره القرآن، وقد قال جويو: «وإذا كان الإيقاع إشارة طبيعية إلى عمق الانفعال، فإنّ هذا الإيقاع يميل إلى أن ينقل الانفعال إلى قلب السامع» «3». ونلحظ أن خصوصية تعبيره عن الفن الأدبي تطلّبت كلمة «انفعال» الخاصة بالطبع البشري، ونحن ننزّه الخالق عن الانفعال، ونؤكّد أن تعبير القرآن عن المواقف جاء بإيقاع مناسب، وسوف يتّضح هذا في شواهد عدّة نذكرها في مكانها إن شاء الله. خلاصة القول: على الرغم من تفصيل ابن الأثير وتنظيره وإطالته في الموضوع فقد بقيت هذه الناحية ذوقية، ولم توضع وفق منهج واضح.

_ (1) سورة مريم، الآية: 45. (2) سورة مريم، الآية: 46. (3) جويو، جان ماري، 1948، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي ط/ 1، دار الفكر العربي، القاهرة، ص/ 139، وانظر أيضا ص/ 183 من هذا الكتاب.

- الخفة عند البارزي:

ونجد في كتاب ابن أبي الإصبع ما يعدّ مسايرة لأحكام الدارسين قبله، فقد استمرت ألفاظ مثل «فصيح وجزل ورقيق وعذب»، وغيرها مما يدلّ على التعميم والإجمال، يقول عن الفرق بين الجزالة والفصاحة في كتابه «بديع القرآن»: ومنها قوله تعالى: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ «1»، وقوله سبحانه: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا «2»، فألفاظ هذه الجملة كلّها من هذا الباب، وأجزلها قوله تعالى: «اسْتَيْأَسُوا» وأفصحها قوله سبحانه: «خَلَصُوا نَجِيًّا»، وقلّ أن تجتمع الفصاحة والبلاغة في جملة من هذا الباب إلا في هذه الجملة» «3». وكأنما يخلو القرآن من أمثال هذه المفردات، وكأنما أحصاها، فاستوفى السور كلّها، ومن ثمّ أطلق حكمه هذا الذي يعدّ أشدّ تعميما من حكم أسلافه، وما هي إلا إشارة عابرة كانت له في كتابه. - الخفّة عند البارزي: ينقل السيوطي في «إتقانه» ما ورد في أوّل كتاب «أنوار التحصيل في أسرار التنزيل»، ونقع في هذا الاقتباس على ما يدل على تدبّر عميق لماهية الصّوت، وذلك من خلال ذكر مفردات مرادفة مما يبيّن لنا مظاهر الخفّة في المفردة، إذ يقول البارزي: «اعلم أنّ المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، ومنها قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ «4» أحسن من التعبير بتقرأ لثقله بالهمزة، ومنها: لا رَيْبَ فِيهِ «5» أحسن من لا شكّ فيه، لثقل الإدغام، ولهذا كثر الرّيب، ومنها وَلا تَهِنُوا «6» أحسن من ولا تضعفوا لخفّته، ووَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي «7» أحسن من ضعف، لأن الفتحة أخفّ من

_ (1) سورة يوسف، الآية: 51. (2) سورة يوسف، الآية: 80، نجيّا: يناجي بعضهم بعضا. (3) ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص/ 287. (4) سورة العنكبوت: الآية: 48. (5) سورة البقرة، الآية: 2. (6) سورة آل عمران، الآية: 139. (7) سورة مريم، الآية: 4.

الضمة» «1». وكأنما صار مفهوم الخفّة يتّصل بما هو رقيق فقط، ويجب أن نؤكد أنّ خفّة مفردات القرآن متحقّقة في الأصوات القوية والأصوات الرّخيّة، ودليل هذا عدم النّبوّ، وسهولة النطق. ومن البداهة أن تكون دلالة شكّ غير دلالة ريب، وأنّ الإدغام موجود في القرآن، فليس هناك مانع من وجود «شكّ» إلا موافقة الدّال للمدلول، وهذا ينطبق على «وهن» وضعف، فقد قال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «2»، وقال: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3»، وذلك أنه لا بدّ من ملاحظة أمرين: الأول: نظم الكلام الذي وقعت فيه الكلمة من حيث انسجام الصوتيات. الثاني: المعنى المراد، فالرّيب هو الشّكّ مع التّهمة، أما الشّكّ فهو عدم ترجيح أحد الاحتمالين أو الأمرين. ومما يستحبّ هنا هو إحساس البارزي بقوة الضادّ ورقّة الهاء، فهو يبيّن علّة الخفّة التي خفيت على كثير من أسلافه، ويتابع رأيه قائلا: «ومنها «آمن» أخفّ من صدق، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق، و «آثرك الله» «4» أخفّ من فضّلك الله و «أتى» أخفّ من أعطى، و «أنذر» أخفّ، من خوّف، و «خَيْرٌ لَكُمْ «5» أخفّ من أفضل لكم، والمصدر في «هذا خلق الله» «6» و «يؤمنون بالغيب» «7» أخفّ من مخلوق والغائب، ونكح أخفّ من تزوّج، لأن فعل أخفّ

_ (1) السيوطي، الإتقان: 2/ 269، لم نجد شيئا عن كتاب البارزي في كشّاف الظّنون أو ذيله، وكذلك كتب التراجم. (2) سورة يونس: الآية: 94. (3) سورة إبراهيم، الآية: 10. (4) سورة يوسف، الآية: 91. (5) سورة البقرة، الآية: 184. (6) سورة لقمان، الآية: 11. (7) سورة البقرة، الآية: 3.

من تفعّل، ولهذا كان ذكر النّكاح فيه أكثر» «1». وقد سبق أن أوضحنا في الفصل الأول أهمية المعنى المبتغى من جمال الشكل في المفردات التي سردها البارزي، والجدير بالذكر أن بعض المعاصرين يقتبسون رأي البارزي، ويزينون به بحوثهم من غير تعليق، حالهم في هذا حال السيوطي الذي يجمع، ولا ينقد في الأغلب. ولا يمكن أن ندّعي إسراف البارزي وتفريطه في مضمون الكتاب لأجل الحلاوة والخفّة، فهو ينظر باحتياط إلى مجموع القرآن، لأنّه يحترز بكلمة «أكثر» أو «كثر ذكره» تحاشيا للتعميم غير الدقيق، فقد جاء في القرآن قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها «2». ومما يسترعي الانتباه رهافة حسّه، فقد رأى أن التشديد يجعل الحرف ثقيلا أو قويا، وخصوصا إذا كان حرف لين، فالقرآن ذكر فعل تزوّج على قلّة. وقد انتبه البارزي إلى ثقل الشّدّة على الواو، وكذلك يعبّر عن إحساس بالبنية الداخلية، فإن مادة (خلق) تعاد في مخلوق، لكنّه يستقبح الوقوف على القاف بعد مدّ الواو، وكأنه لمس شدّة تسكين الفاء الحرف الشّفويّ الذي يخرج من باطن الشّفة السّفلى وأطراف الثّنايا العليا، ولتفادي النّبر القاسي عند الوقوف عليها كان وجود «خير» لا أفضل. وكذلك تتعدّى نظرته ماهية الصوت إلى ميزة أخرى، وهي نوعية الحركة، فالفاء قاسية اللفظ في «أفضل» وليست بقاسية في قوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ «3»، وذلك لاستراحة الشّفاه مع الكسرة. وفي الموضع نفسه يرى البارزي أن الاختصار الذي يكون في المجاز، والتطويل الذي يكون في الحقيقة، ما يجعلنا نحبّذ لفظة «آسفونا» في قوله تبارك وتعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «4» فهو يقول: «أحسن من «فلمّا

_ (1) السيوطي، الإتقان: 2/ 270. (2) سورة الأحزاب، الآية: 37. (3) سورة الشعراء، الآية: 80. (4) سورة الزّخرف، الآية: 55.

- ضآلة التوضيح عند المحدثين:

عاملونا معاملة الغضب، أو «فلمّا أتوا إلينا بما يأتيه المغضب» «1». والحق أن هذه المفردة تنم على سموّ في التعبير عن فواحش هؤلاء القوم، وتتخذ طابعا تهذيبيا يصدر عن الخالق، كما أن مما فات البارزي هنا الجمال الموسيقى في الخفّة التي تحدّث عنها، فيجب أن نعقّب على رأيه بأن هذا الفعل يمتاز بثلاثة مدود، وخفّفت النّون بالمدّ، وكذلك خفّفت الفاء بالمدّ، بالإضافة إلى حرف السين الهامس الدّالّ على الرّقّة. لقد انتبه البارزي إلى كمية وجود المفردة في القرآن الذي يميل إلى الخفّة، فكان من الجدّة في نظرته هذا الإحصاء الذي احتاط فيه من التعميم المغالط، بيد أنه يخطئ في وقوف مبتور عن باقي السور أحيانا، فليس من المعقول أن يقول امرؤ بخفّة كلمة «تتلو» وثقل «تقرأ» ووجود الثانية في القرآن أكثر. - ضآلة التوضيح عند المحدثين: تمنينا مناقشة واحد من المحدثين لهذه الفقرة الواردة في كتاب الإتقان، إذ كان همّهم النّقل الحرفي، ولا شيء فيما بعد أقواس الاقتباس «2»، ولهذا سوف نتناول في كتب المحدثين ما كان يتّسم بالجدّة والأصالة، لنخفّف عنا مئونة التّكرار والاتكاء في الشواهد والأحكام. ومن الطبيعي أن نتجاوز عبارات مجملة مثل عذب، وخفيف، ولذيذ، ولم تقتصر على القدامى، فقد وجدت بغزارة عند الرافعي، لأنّها لا تبيّن مواطن الحسن والخفّة، وخصوصا أن العصر الحديث تقوم دراساته النقدية للأدب على تحليل استقطابي لمادة النص، وقد ظلّ الرافعي وقطب يطلقان العبارات البيانية شأن الدارسين الأسلاف، فتمدح الكلمات بأنّها ذات نغم وعذوبة ونسق ولذّة وغير هذا. ولأحمد بدوي وقفات فاحصة نذكر منها واحدة من خلال المقارنة بغيره،

_ (1) السيوطي، الإتقان: 2/ 270. (2) انظر مثلا الخطيب، د. عبد الكريم: 2/ 275، وانظر شرف، حفني محمد، الإعجاز البياني، ص/ 189.

ففي قوله تعالى على لسان فرعون: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ «1» لحظ المحدثون أن المقصود هنا تسخين الطّين حتى يصبح قرميدا، وذلك من خلال التفاسير، فيصبح الطّين قرميدا أو آجرّا لأجل البناء، يقول بدوي: «هناك لفظتان أبي القرآن أن ينطق بهما، ولعلّه وجد فيهما ثقلا، وهما الآجرّ والأرضون» «2». ولا نحب هنا أن نسفّه هذه الإجمالية في الاكتفاء بذكر الثقل، فما يعذر به بدوي أن المفسرين القدامى الذين عنوا بالبيان لم ينتبهوا إلى هذا، فقد جاء في تفسير هذه الآية: «أي اطبخ لي الآجرّ، واتخذه، وإنما لم يقل مكان الطين هذا، لأنه أول من عمل الآجرّ فهو يعلّمه الصّنعة بهذه العبارة» «3». ومثل هذا التفسير لا علاقة له بالوجهة الفنية، وقد استبعد الرافعي كلمة الآجر إذ يقول: «ومن الألفاظ لفظة الآجر، وليس فيها من خفّة التركيب إلا الهمزة، وسائرها نافر متقلقل لا يصلح- مع هذا المدّ- في صوت ولا تركيب على قاعدة نظم القرآن» «4». ونظرته تتّسم بشيء من التقصير، فنحن نلتمس فيها استثقال الجيم والراء، فالجيم حرف شديد، والراء حرف يميل إلى الشّدّة بفضل تكرّره على اللسان، ولكن الرافعي لا يستوفي ما جاء في الآيات الكريمة من كلمات توالى فيها الجيم والراء مثل «أجر» «تجري» «يجرّه» «مجرمين» وغير ذلك. وأحيانا يتطلّب مضمون الكلمة هذين الحرفين ليكونا بشدّتهما عونا على تصوير المشهد الذي تعنيه، مثل قوله عزّ وجلّ عن ماء جهنّم: «يتجرّعه ولا يكاد يسيغه» «5»، ففي المفردة قسوة حروف في تركيب خاص، لتصوّر هذه القسوة عملية الشرب لهذا الماء المغلي، وليس هذا مما يتطلّب في قول فرعون، وقسوة آجر على كل حال في تركيبها أيضا.

_ (1) سورة القصص، الآية: 38. (2) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 71. (3) النّسفي، مدارك التنزيل: 3/ 237. (4) الرافعي، إعجاز القرآن: 232. (5) سورة إبراهيم، الآية: 17.

ونود أن نقول ما الذي يوجب ذكر لفظ آجر حتى نبرر عدم استخدام القرآن لهذا اللفظ؟ ثم إن هذا كلام فرعون حكاه القرآن؟ فما معنى التساؤل؟ ولم لا يكون السبب في تعبير القرآن بالطين هنا العمد إلى مادة تبيّن الضّعف والوهاء يعتمد عليها فرعون في مواجهة معجزات الأنبياء والحقّ الأعظم، وهو الإيمان بالله، وهذا مما يضع فرعون موضع السخرية لدى القارئ أو السامع الذي ترتسم في ذهنه صورة الطين أداة في مواجهة ذلك كلّه. ويستحسن أن ندرس المفردات التي ذكرها القرآن، وليس ما تجنّبه من مفردات، وهنا ننبّه إلى أن الخفّة لا تكون مع الصوت الرخي دائما، بل تكون أيضا مع الصوت القوي، ولكلّ مقام مناسب، وليست العذوبة في تجنّب أصوات الضاد والجيم والقاف والراء مثلا، وتجنب حركة الضم لكون الفتحة أسهل على الشّفاه، فإنّ ما يحتاج إليه زمن الفترة المكية من تهديد وتقريع يؤكّد وجود أصوات مهيبة تروّع القلوب. وقد تحدث عبد الكريم الخطيب عن قوة الصوت في القرآن، فراح يرصد الأحرف المتكررة في بعض الآيات، ليستشفّ من ورائها ظلالا فنية، فبعد أن ينقل رأي البارزي سالف الذكر الذي بيّن التفاضل بين تقرأ وتتلو يذكر الآية الكريمة: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، سَنَكْتُبُ ما قالُوا، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَنَقُولُ: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ «1». ويقول الخطيب: «فقد اجتمع في الآية الكريمة عشر قافات، ومنها سبعة في المقطع الأخير منها، ومع هذا فأنت ترى ماء الحسن يترقرق على محيّاها والملاحة تقطر من جبينها ... واللام قد عارضت حرف القاف فيها، فكانت عدّتها أحد عشر لاما، وقد عرفنا أن اللام من الحروف الخفيفة التي مخرجها طرف اللسان، على حين أن القاف من «أثقل» الحروف نطقا، لأن مخرجها من أقصى الحلق إلى ملتقى الشفتين» «2». فقد بيّن أن هناك انسجاما بين الشدة واللين مما يحقق الخفّة على الرغم من قوة القاف، ثم يذكر شاهدا هو الآية الكريمة: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا، وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 181. (2) الخطيب، د. عبد الكريم، إعجاز القرآن: 2/ 277 - 278.

أَلِيمٌ «1»، ويقول: «لقد جمعت هذه الآية ثمانية عشر ميما، نثرهم بين كلمات الآية، بل تكاد تحشدهم حشدا في مقطعين، حتى ليبدو المقطع، وكأنه مشكّل من ميمات، والميم وحده حرف «ثقيل» مضغوط، يشدّ عضلات الفم كلّها حتى يؤدّى على هيئة صوت، فكيف به إذا تكرر، ثم كيف يكون ميزانه من الثقل حين يتكرر بهذه الكثرة الكثيرة المتلاحقة؟ وليس هذا النغم المجلجل المتتابع من هذه الميمات إلا أداة يقتضيها المقام من دواعي القوة التي تحيط بالموقف وتظاهره» «2». فقد ربط بين قوة الميم والموقف المصوّر في الآية بعد الحديث عن الطوفان واستواء السفينة، وهو يؤكّد هذا في مواضع التهديد من السّور المكية مثل الآية الكريمة: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «3»، وهي لازمة موسيقية ترد عشر مرات في سورة المرسلات، كما كانت: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «4» لازمة سورة الرحمن. ويقول الخطيب: «وليس في هذا المقطع نبرة حنان ولا حرف ليّن، إنه بناء من صخر وجلمد، واجتمعت حروفه على هذه الصورة فكانت قذيفة منطلقة، أو شهابا منقضّا، يقع على رءوس المكذّبين» «5». ولا شك في أنّ تكرار هذه اللازمة يمثّل اقتحام مفردات صارخة بحروفها وحركاتها الإيقاع الكلّيّ، بما يقوى على السّمع وقعه، وذلك مما يناسب المقام، ولم تكن إشارات المحدثين واضحة كلّ الوضوح، فمثل قول الخطيب قريب من التفسير في ضوء طبيعة الحروف النغمية، وتغيّرات طبيعة الحروف مع بعض الحركات. ولا بد من إضاءة مديحه لآية المرسلات بذكر قوة التنوين في «ويل» و «يومئذ» ثم وجود الشّدّة على الذال، وحركات الشّفاه في الميم والباء. والحق أن الخطيب لم يكن بدعا فيما قرّره، إنّما اقتفى أثر الرافعي، لكنه

_ (1) سورة هود، الآية: 48. (2) الخطيب، د. عبد الكريم، إعجاز القرآن: 2/ 277 - 278. (3) سورة المرسلات، الآية: 15. (4) سورة الرحمن، الآية: 13. (5) الخطيب، إعجاز القرآن: 1/ 374.

قصّر عنه في أنّ الرافعي عرّفنا بأدوات القرآن التي يجعلها لتعديل الكفّة، وإيجاد التلاؤم والانسجام، أما الخطيب فلم يفعل ذلك. وقد أكّد الدكتور نور الدين عتر أهمية الصوت في مراعاة المواقف المصوّرة، وهو لا يظهر هذا في السور المكية، بل في سورة البقرة، إذ يظهر التباين في التشكيل الصوتي بين الحديث عن المؤمنين وبين الحديث عن الكافرين في سورة واحدة، فقد جاء في تفسيره لأوائل سورة البقرة: «ففي الحديث عن المؤمنين تجد المدّات في فواصل الآيات مع الحروف السّهلة ذات الوقع الخفيف على الأذن تعطي الكلام وقعا لطيفا مناسبا للتأثير العاطفي. وفي الغضب والسّخط تجد الحروف قوية الوقع شديدة التأثير، مثل الميم الساكنة في الحديث عن الكافرين، ثم هذه الألفاظ «صمّ، بكم، رعد، برق»، والحركات المتلاحقة ذات الجرس القوي «صواعق، ظلمات» تقرع الأذن بأصداء المشهد المخيف حتى تشترك في الإحساس بما أحسّ به الفكر، وما وقع في القلب» «1». ونلاحظ فيما ذكره الدكتور عتر مفهوم الشّدة وليس الثّقل، كما أنه دلّ على مواقع الخفّة والشّدة مما يبعد نظرته عن خطل التكهّن، وهو يؤكد أن أصوات القرآن كلّها خفيفة، وهذه الخفّة متفاوتة، ولذلك نستبعد قول الباحثين «حرف ثقيل» ونستبدل به قولنا: حرف شديد، لأن العربية الرفيعة قد استبعدت ما هو ثقيل عن الاستعمال، وجاء القرآن الكريم، واستبعد مفردات أخرى من خلال اختياره للأصوات، فالقاف ليس حرفا ثقيلا، ولن يتعسّر النّطق به، أو يثقل على لسان القارئ، وفي أذن السامع «2». ويجب أن ننوّه بأن القدامى لم يكونوا مقصّرين في إحساسهم بالصوت، وإذا كانوا قد أكّدوا رقّة الصوت، فإنهم أحسّوا أيضا بالشّدة الصوتية، وأطلقوا عليها فصاحة وجزالة، إذ كان هذا المصطلح يغلّف الكثير مما ذكره المحدثون، فالإحساس بالرّهبة والشّدة موجود في تأملات القدامى الفنية، بيد أن المصطلح القديم لم يكن يساعد على الكشف الواضح، ولكي لا نبخسهم حقّهم نقول: إن عدم الكشف هذا لا يقتصر على الأسلاف بل ينطبق على كثير من المحدثين.

_ (1) عتر، د. نور الدين، القرآن والدراسات الأدبية: 291. (2) من توجيهات الدكتور المشرف.

ولنورد هنا الحديث النبوي الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلّم: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» «1»، ولنقرأ شرح هذا الحديث، لنؤكد أن المقصود هو القراءة الصحيحة وفق قواعد التجويد، فقد جاء في شرحه: «الهجوا بقراءته وأشغلوا أصواتكم به، واتخذوه شعارا وزينة لأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، وفي أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء بعث للقلوب على استماعه وتدبّره والإصغاء إليه .. هذا إذا لم يخرجه التغنّي عن التجويد، ولم يصرفه عن مراعاة النّظم في الكلمات والحروف، فإن انتهى إلى ذلك عاد الاستحباب كراهة» «2». فلا نفهم من الحديث الشريف أنّ القرآن يتألف من أصوات رخيّة نديّة فقط، بل يدعو الحديث إلى إعطاء الحروف حقّها من حيث صحّة النّطق، إضافة إلى طبقة صوت القارئ، ففي القرآن حروف رخية وحروف شديدة لا ثقيلة، والتجويد مراعاة دقيقة لما يعدّ نبرا أو تنغيما، ففي قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ «3» يحدّد علم التجويد القلقلة في القاف، وهذا يساعد على تبيان أهمية المعنى من حيث تصويره بالصّوت، وكذلك مراعاة المدّ الطويل في قوله تعالى: شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ «4»، فهو يعطي للوقوف على القاف قوة تفيد في تجسيم الموقف. نخلص مما سبق أن مصطلح الخفّة يشمل كلّ مفردات القرآن الكريم، وأن العذوبة نابعة من قراءة كل مفردة، فليس في القرآن ما يثقل نطقا أو سمعا، إنما وظّفت طبيعة الأصوات لتجسيم المواقف، ومن يقرأ الآيات يتوصّل إلى هذه النتيجة. وإذا كانت جهود القدامى في مفهوم الرّقة والخفّة تكاد تنحصر في الأصوات الليّنة، فهذا مما يساعدنا في تكميل نظرتهم، ومما لا شكّ فيه أن الانسجام واضح بين أصوات القرآن، فالأصوات الشديدة تتلوها أصوات ليّنة،

_ (1) رواه الحاكم كما في السّيوطي، الجامع الصغير: 2/ 32. (2) المناوي، عبد الرءوف، 1938، فيض القدير في شرح الجامع الصغير، طبعة أولى، المكتبة التجارية، القاهرة: 4/ 68. (3) سورة ق، الآية: 19. (4) سورة الأنفال، الآية: 13.

وقد استطاع المحدثون بعض الشيء الوصول إلى هذه الحقيقة، وإن ظلّت أحكامهم مجملة أحيانا، وتفتقد المنهج العلمي الواضح كما رأينا. لقد قلّد ابن الأثير سلفه ابن سنان، وأتى بشواهد قرآنية جاعلا الفطرة هي المعيار في توضيح الخفّة، وما يحمد في نظرته التحدث عن الجزالة والرقة، وهذا يعني في القرآن ارتباط الصوت بالموقف حيث الشّدة في مواقف الترهيب، واللين في مواقف الترغيب، كذلك تحدّث البارزي عن الخفة من خلال تقديم بعض المترادفات، مما يدلّ على تفهّمه لصفات الحروف، ووجد أن الخفيف هو الأكثر في القرآن. أما المعاصرون فقد فهموا الخفّة على أنها سمة تشمل كلّ مفردات القرآن، وقد اقتبسنا بعض ما ورد عند عبد الكريم الخطيب والدكتور عتر، لنبيّن أن المواقف في القرآن هي التي تحدّد طبيعة الحروف والحركات، وبيّنّا أن القدامى، وإن صرّحوا بجمال الأصوات الليّنة، فإنهم قد وقعوا على جمال الأصوات الشديدة، وعبّروا عن هذا بالفصاحة، وأكّدنا أن القرآن كلّه يتّسم بالخفّة، وليس فيه ما يثقل على اللسان أو الأذن، أو يبعث على النّفور، إنما كانت فيه أصوات شديدة تجسّم المعاني المطلوبة، وقد شارك الصوت الفكرة في القرآن مشاركة فعّالة معبّرة عن الانسجام بين الشكل والمضمون. ونحن لا نصم القدامى بالخلط والتلفيق عند ما يطلقون عبارات مثل الخفّة والرّشاقة والجزالة، فلا شكّ في أنّها عبارات صحيحة يدركها معاصروهم، وإن يعدّها التّحليل الصّوتي مصطلحات مجملة.

4 - الحركات والمدود

4 - الحركات والمدود رأينا أن نذكر الكلام على جمال الحركة مع الكلام على جمال المدود لسببين: الأول صوتي: لأن الحركة جزء من الصوت، والمدّ حركة طويلة، فالضّمّة صويت، أمّا الواو فهي صوت، وتعدّ ضمّة طويلة المدى. والسبب الثاني: ضآلة المادة في التّراث وهذا لا يخصّ الحركة والمدود، إذ يتجاوز البنية الداخلية، ليشمل كلّ جوانب الجمال السمعي، وليس الأمر كالتشبيه مثلا، إذ يصادفنا في كلّ التراث البلاغي، ولعلّ السبب يتعيّن في احتياج هذا الفن إلى ذوق خاص، وتمحيص مصاحب بمعرفة لغوية صوتية، فالذين درسوا البنية الداخلية قلّة يعدّون على الأصابع، كما أن كثيرا من نظراتهم بحاجة إلى تصحيح وتوضيح، وتبدو غير مرضية من جهة التعليل. إن القرآن الكريم هذا السّفر العظيم المعجز، أنزل بلغة العرب، فكان من المحتّم، ومن العناية الإلهية أن يشذّب المفردات، وأن ينتقي ما هو نافع، ويترك الزّبد، ولهذا تعيّن إعجازه في امتلاك المعنى في أجمل صورة، وكان لمن لا يفهم العربية قطعا موسيقية تمتاز بانسجام وترتيب للحركات، وبمدود كثيرة، وأكثر هذه المدود مدّ الألف، وهو سرّ الفصاحة كما قال الرافعي. وهناك محطّات يقف عندها: أصيلة في الفواصل، وثانوية في الوقف والفواصل الداخلية، وهذه الآيات بالنسبة إلى العربي صورة موسيقية إن صحّ التعبير، فهو لا يمكن أن يفصل هذا النّغم المعبّر عن المشاهد التي ترسمها الكلمات بدقة بارعة، كما يضيف إلى تغنّي غير العربي بالمقاطع عذوبة الفهم والتصور، وفسحة الخيال عند كلمات لا تنحصر معانيها، والكلمات القرآنية كما يبدو للقارئ تكتنف معاني قرآنية لا توجد في العرف، ذلك لأن القائل خالق هذا الكون. ومن يتمتع بذوق مؤطّر بالعلم، وبالموضوعية ينف أن توزيع الحركات في

- جمالية الحركات:

مفردات القرآن قد أتى عبثا أو مصادفة، إنّما هناك قصد التهذيب الصوتي، كما وجه التهذيب المعنوي. ولشدة عناية القرآن بالتنغيم نجد أن أغلب فواصله كانت بالميم والنون، والمدّ بالألف أو الياء أو الواو يسبق معظم رويّ فواصله. - جمالية الحركات: امتاز ابن الأثير بنظرة فاحصة جعلته يقلّب النظر في جزئيات الكلمة القرآنية، فراح يتحدّث عن جمال الأصوات من خلال مصطلح الخفّة أو العذوبة، لكنّه أضاف شيئا آخر، وهو أن الجمال الصوتي يتعلّق بالصوت، وكذلك بالصّويت، فذكر أن كثرة الحركات الخفيفة تطيب للسمع، وتلذّ في النّطق، وتلك مسألة صوتية دقيقة دلّ بها على ذوقه الرفيع، ورهافة حسّه. يقول: «ومن أوصاف الكلمة أن تكون مبنيّة من حركات خفيفة، ليخفّ النطق بها، وهذا الوصف يترتب على ما قبله من تأليف الكلمة، لهذا إذا توالى حركتان خفيفتان في كلمة واحدة لم تستثقل، وبخلاف ذلك الحركات الثقيلة ... واعلم أنّه قد توالت حركة الضّم في بعض الألفاظ، ولم يحدث فيها كراهة ولا ثقلا» «1». ويستشهد ابن الأثير لهذا الاستثناء بكلمات قرآنية توالت فيها حركات الضم، كقوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ «2»، وقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ «3»، وهو يريد أن يقول: إن الكسرة والفتحة حركتان خفيفتان، بخلاف الضّمة فهي ثقيلة، وتلك القضية الصوتية تشهد بها عملية نطق الضمة التي يكون فيها انكماش الشّفاه. وقد عاد إلى سورة القمر ونهل منها شواهده، ولكن المرء يؤكّد فكرة عظيمة تتصل بالعقيدة بمجرّد وجود آية تثبت صحّة كلامه، وهنا يعدّ القرآن

_ (1) ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 191. (2) سورة القمر، الآية: 47. (3) سورة القمر، الآية: 52، الزّبر: كتب الحفظة.

الكريم الدليل النّقلي العقلي القاطع، فإذا أراد أن يثبت وجود الملائكة والجنّ يعود إلى آي القرآن، ليتخذ منها براهينه، ذلك لأن العقل لا يشكّ في صحّة كلام القرآن، وسلامته في الوصول إلينا عن طريق التواتر، لكن هذا الاعتماد في الأمور الفنية إجحاف بحقّ القرآن، لأن البلاغة القرآنية وفصاحة كلماته معلّلة من خلال الاستعمال الصحيح والأسلوب الراقي، كما يمكن أن نعلّل وجودها على ما نراه من خلال الفن وسائر المعارف المفيدة. إن ابن الأثير لا يبيّن سبب كراهة الضّم في الكلمات إلا بالثّقل، فإذا وجدت الضّمة في الكلمات القرآنية بطلت النظرية، وهذا غير مرض وغير مقنع، وتبدو عليه العاطفة الدينية القوية التي توطّرها ذوقية غامضة أيضا، فليست الحجّة مقتصرة على ورود كلمات مثل: سعر وزبر في القرآن. ويرى يحيى العلويّ في كتابه «الطّراز» أنّ الأولوية لسكون الوسط في الكلمات، وكأنّما كانت تستهويه كثرة المقاطع، أو ما يدعى في علم العروض بالأوتاد، وإذا انتفى وجود سكون الوسط فلا بأس بتوالي حركات الفتح، وإلا فالكلمة ثقيلة مستهجنة، فهو يقول: «فإذا حصل سكون الوسط كان أعدل وأرقّ، وإن توالي ثلاث فتحات فهو أخفّ من الضّم في وسطه، فلهذا كان فرسا أخفّ من عضد، والمعيار في ذلك عرضه على ما قلنا من تحكيم الذوق، ولهذا قد تتوالى ضمّتان، وهو غير ثقيل» «1». وكأنّما الذوق عند كل من يحيى العلوي وسابقه ابن الأثير شيء معارض للعلم، أو المعرفة الفنية بشكل خاص، فبعد بسط خاصية فنية معلّلة باللغة، يكون في نهاية المطاف مكان للذات لتستخدم الذوق معيارا. وما يسترعي الانتباه أن صاحب الطّراز يستشهد بالآيتين اللتين ذكرهما ابن الأثير من سورة القمر، ولا يبتعد عن خطاه قيد شعرة، إلا ما كان من رأيه الجديد في جمال سكون الحرف الأوسط، مما يحقق خفّة في النطق. ولم يهتمّ كلّ دارسي الإعجاز بمثل هذه الجزئيات الفنية، وكأنّما كانوا يخشون مزالق هذا الفن الصوتي، وقد برهنوا على دقّة النّظر والمعيار الواضح

_ (1) العلوي، يحيى، الطّراز: 1/ 111.

في بيان جوانب بلاغة القرآن من حيث الصورة الفنية، ومناسبة الكلمات للمقام، وإن كان الجمال الصوتي غير بعيد عن ذوقهم، إذ عبّروا عنه بالفصاحة والعذوبة والخفّة وغير هذا. ولا يحتكم الرافعي إلى العاطفة الدينية أو مجرّد الذوق، إنّما جمال الحركات عنده يظلّ موضوعيا لا علاقة له بتفاوت الذوق الذاتي لدى المتلقّين، فالسّبب كائن في نظم القرآن نفسه، ويتجلّى أمام كلّ نظر دقيق، يقول عن تلاؤم الصوت والحركة: «حتى إنّ الحركة ربّما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثّقل أيها كان، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا ... من ذلك لفظة «النّذر» جمع نذير، فإنّ الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذّال معا، فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوّه في اللّسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكلّ ذلك مما يكشف عنه، ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ «1»، فتأمّل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوّق مواقع الحروف، وأجر حركاتها في حسّ السمع، وتأمل مواضع القلقلة في دال «لقد» وفي الطّاء من «بطشتنا»، وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطّاء إلى واو «تماروا» مع الفصل بالمدّ، كأنّها تثقيل لخفّة التّتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضّمة مستخفا بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها، كما تكون الحموض في الأطعمة، ثم ردّد نظرك في الراء من «تماروا» فإنّها ما جاءت إلا مساندة الراء «النّذر»، حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجفّ عليه، ولا تغلظ، ولا تنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون «أنذرهم» وفي ميمها، وللغنّة الأخرى التي سبقت الذّال في «النّذر» «2» فالأمر كما نرى يخرج من المفردة ذاتها، ليكون توازنا وتكاملا مع طبيعة الحركات في المفردات السابقة لها، وقد أعجب الباحثون بتحليله، ونقلوه كما نقلناه على طوله من غير أن يضيفوا على اقتباسهم إلا

_ (1) سورة القمر، الآية: 36، تماروا: تجادلوا وكذّبوا. (2) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 227 - 228.

الإعجاب «1»، ومنهجه واضح من حيث الكشف عن التلاؤم بين صوتيات الآية، وهذا يدلّ على نظرة علميّة موضوعية. إننا لا نبخس الرافعي حقّه، وجهوده في النظم الموسيقى للقرآن، فنحن ننظر إلى تحليله بإجلال، ففيه لفتة موسيقية تستمدّ ركائزها من معطيات علم التجويد إضافة إلى فنّ الموسيقا، والذوق الموسيقى الرفيع، فكثيرا ما تصادفنا مصطلحات تجويدية من مثل الغنّة والوقف والمدّ والقلقلة، وهذا غير موجود لدى باحث سواه. ويؤخذ عليه أن نظرته جزئية، فقد وجد أن كثرة الفتحات تنسجم وتوائم توالي الضّمّات في الفاصلة، مما يجعلها خفيفة على اللسان والأذن، وهذا ينمّ على تدبّر عميق للنّسق القرآني، لكن هذه المفردة وردت في سورة القمر نفسها ببنيتها الثقيلة- كما يرى- عشر مرات أيضا، ولم يسبقها هذا التوالي من الفتحات، كما في «بطشتنا» مما يحقق الانسجام، فإذا عرفنا أنّها ظلّت فاصلة فيما يدعى باللازمة الموسيقية، ولم تسبقها تشكيلة صوتية واحدة من الحركات التي ذكرها، نكون قد اعترفنا بجسأتها في عشرة مواضع. بيد أن الكلمة جاءت نكرة، وليست معرّفة كما في شاهده، وثمّة فرق بينهما حيث لا توجد نون مشدّدة هنا قبل الضمتين، قال تعالى: فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ «2». كذلك يجدر به ألا يعمّم منطلقا من آية واحدة، كما يجب أن يشير إلى طبيعة الحروف، إذ لها تأثير في جعل الضمة ثقيلة أو خفيفة، فقوّتها وبساطتها تتبعان الحرف نفسه، وكما يقول كمال بشر: «فالفتحة مثلا قد تكون مفخّمة، وقد تكون مرقّقة، وقد تكون بين التفخيم والترقيق، فهي مفخّمة مع حروف الإطباق، وهي الصّاد والضّاد والظّاء، وهي في الحالة الوسطى بين التفخيم والترقيق مع القاف والعين والغين والحاء، ولكنها مرقّقة في المواقع الصوتية الأخرى ... وهذا الشيء نفسه يطبّق على الكسرة والضمة» «3».

_ (1) انظر مثلا زرزور، د. عدنان، القرآن ونصوصه، ص/ 209. (2) سورة القمر، الآية: 39. (3) بشر، د. كمال، 1970، علم اللغة، الأصوات، ط/ 1، دار المعارف بمصر،

ونخلص مما سبق إلى أن النون والذال ليستا من حروف الإطباق، بل هما من حروف الانفتاح «فيبتعد اللسان عن النّطق بها عن الحنك الأعلى تاركا فتحة يمرّ فيها الهواء والصوت» «1». فالضّمّة في هذه الفاصلة مرقّقة بسيطة بذاتها، لأنّها ارتبطت بهذين الحرفين، وهنا يحضرنا قول جويو: «إن الجرس إنّما هو انسجام بين النّغمة الأساسية والأصوات الثانوية- فإذا سمعته الأذن شعرت بالطّرب الذي تشعر به حين تسمع أيّة موسيقا» «2». وهنا يريد بالجرس حلاوة الصوت العام، ولا يختصّ بالحرف وحده، وقد رأى أن الجمال ينشأ من ملاءمة الحركة للحرف، وهذه طبيعة الإيقاع القرآني. ولا علاقة للنظم الموسيقى الكلي في الآية بكل فاصلة، كما رأى الرافعي إذ يصعب أن يفسّر الأمر على الشكل الذي ارتآه الرافعي، والضمّة أخيرا ليست بالحركة الثقيلة مما يستعصي على اللسان نطقه، إنّما هي أقل خفّة من الفتحة فالأمر نسبي. ولا يمكن أن ندّعي أن الموسيقا القرآنية شيء مستقلّ عن المعنى في نظر الرافعي، فهي ليست موسيقا خالصة ونقوشا زائدة، وهو يدرك أن التلازم بين الشكل الموسيقى والمعنى أمر مفروغ منه، بيد أنه ركّز اهتمامه على جانب الشكل، فالموسيقى القرآنية عملية تطريب وتنغيم، ولم يخصّص بحثه لرمز الجزئيات الموسيقية. ونرى أن ثقل الضمة ليس ثقلا حقيقيا، بل يمثّل مغايرة في الفاصلة، إذ تقوم الضمّات بعملية تنبيه للفكر عند آخر محطة من الكلام وهي الفاصلة، فكلّما وصلنا إلى آخر الآية قفزت إلى الذهن معاني التّهديد من خلال مغايرة السّياق الموسيقى، وتأكيد هذا أن الوقوف عند فواصل سورة القمر واجب،

_ ص/ 192 - 193. (1) ابن عبد الفتاح القارئ، قواعد التجويد، ص/ 43. (2) جويو، جان ماري، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي، ص/ 147.

- جمالية المدود:

وكذلك يثير شكل الفاصلة هذا المعنى. ومما يحمد له إشارته إلى الانسجام، فالقرآن حافظ على هذه السّمة، والدليل على هذا سهولة نطق مفرداته، وكثيرا ما نتلمّس خشونة حروف إلى جانب ليونة حروف، وقد قال جويو: «من الأسباب التي تجعل الأذن تضيق بالصّوت الرتيب هو أن الصوت الرتيب يعمل الأذن على نحو واحد، فيضني الأعصاب السمعية، ولا كذلك التنوع في الشّدة والنّغمة، فإنه يريح الأذن حتى في عملها». وقد ارتبط هذا بتصوير المعاني والمواقف، فالتركيب الداخلي لمفردات وصف أهل الجنة يختلف عن تركيب مفردات وصف أهل النار. وليت الدارسين قدامى ومحدثين استفادوا- كما استفاد الرافعي- من قواعد التجويد لكشف جماليات السّمع بدلا من إشعارنا بالحدس، وقلّما استفادوا من التّجويد أو فقه اللغة، ولو فعلوا لكانوا أكثر معيارية من الاحتكام إلى الذوق وحده. - جمالية المدود: حاول يحيى العلوي أن يقدّم بحثا مفصّلا حول فصاحة المفردة، فراح يعدّد وجوه هذه الفصاحة، وكان اهتمامه بتركيب المفردة يعدّ أصالة واكتشافا جديدا في الجمال الموسيقى لمفردات القرآن، فقد لفت نظره ورود كلمات في القرآن بصيغة الجمع، ولم ترد مفردة، وهذا التلميح يدلّ على تذوّق لجمال وجود الألف في الكلمات التي استشهد بها مثل الأكواب وأصواف وألباب، فأكواب مثلا ذكرت بصيغة الجمع ست عشرة مرة، ولم تذكر مرة واحدة بحالة الإفراد. وسوف نتناول إحساس هذا الباحث بالبنية الداخلية، إذ يقول: «فأمّا لبّ العقل فأحسن استعمالاته إذا كان مفردا عن الإضافة أن يكون على صيغة الجمع» «1». وهذا ما لفت نظر الرافعي، فحاول أن يلقي فيه أضواء من عنده مستعينا

_ (1) العلوي، يحيى، الطّراز: 3/ 47.

بطبيعة الأصوات، فقد جاء في كتابه: «ولم تجيء فيه مفردة- الألباب- بل جاء في مكانها القلب، وذلك لأن لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدة إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلما لم يكن ثمّ فصل بين الحرفين يتهيّأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشّدة تحسن اللفظة، مهما كانت حركة الإعراب فيها نصبا أو رفعا أو جرّا، فأسقطها من نظمه بتّة، على سعة ما بين أوّله وآخره، ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، وهذا على أن فيه لفظة «الجبّ»، وهي وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشّدة في الجيم المضمومة» «1». ويظهر فضل الرافعي هنا في كشف الغموض الذي اكتنف رأي صاحب الطراز، فصار الجمال عنده موضوعيا ينطلق في إثبات القيمة من الجميل نفسه، فنحن نقرأ قوله تعالى: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «2» وقوله تعالى: وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ «3»، ونرجّح جمال أكواب على كوب، وجمال ألباب على لبّ، لكننا لا نرضى بمجرد ذكر الثّقل في حالة الإفراد، وهذا الشيء مفسّر من خلال توالي حروف ثقيلة عند الرافعي كاللام والباء، ووجود الآية: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ «4»، لا يمثّل إشكالا، لأن طبيعة الجيم غير طبيعة اللام. ومن المواضع التي نقف عندها إشارة يحيى العلوي إلى جمال صيغة الجمع في كلمة «أصوافها»، وذلك في قوله تعالى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ «5»، فإذا احتيج إلى إفرادها ذكر العهن، كما رأى الرافعي في القلب بدلا من إفراد الألباب، يقول يحيى العلويّ: «واستعمالها مفردة ليس لائقا بالفصاحة، ومن أجل هذا لمّا احتيج إلى استعمالها مفردة جاء بما يخالفها في لفظها كقوله تعالى: كَالْعِهْنِ

_ (1) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 232. (2) سورة ص، الآية: 29. (3) سورة الغاشية، الآية: 14. (4) سورة يوسف، الآية: 10. (5) سورة النّحل، الآية: 80.

الْمَنْفُوشِ «1»، والعهن هو الصّوف، فانظر ما بين العهن والصّوف من التفاوت في الذوق والرقة والرشاقة» «2». ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن دلالة العهن لا تنطبق على دلالة الصّوف، لأن العهن صوف ملوّن مندوف، واختياره في الآية أليق بتصوير تخلخل الجبال يوم القيامة، ولم يشر العلويّ إلى أهمية مدّ الألف في «أصوافها»، أما الرافعي فهو يعترف ضمنا به من خلال إشارته إلى عدم وجود فاصل بين اللام والباء في كلمة «لبّ». ويبدو أنّ توالي انضمام الشفتين، مرة عند نطق حرف المدّ الواو، وأخرى عند نطق الفاء،- وهي المحطة- دلّه على جمال الجمع، فالفاء حرف شفوي تنكمش الشّفاه عند لفظه، وقد تكرّر هذا الانكماش في مدّ الواو وفي الفاء، ولعلّ هذا يدور في ذهن الباحث القديم الذي نوّه به، وكان مغلّفا بحاجز من مصطلح الذّوق أو الرّشاقة أو الرّقّة، على أن القرآن ذكر كلمتي «معروف» و «رءوف» قال تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ «3»، ووَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «4»، ومما يدلّ على جزئية النظرة السابقة. والألف بعد هذا تكون قد أبعدت الثّقل، ومما لم يذكره العلوي وزن هذه الكلمة، فهو يتكاتف مع وزن سائر الكلمات القريبة، ليشكّل إيقاعا جميلا، فالكلمات القريبة الثلاث على وزن «أفعال»، والألف وسط كلمة «أثاثا». ومن المرجّح أن تصل جذور هذه الخاصيّة الفنية إلى الجاحظ، وربّما كانت عند سابقيه أيضا، ذلك لأن الذوق ينفر مما ينبو على اللّسان، ويستهجن المرء كل ثقيل بطبعه حتى يصبح هذا الاستثقال فنا، وأصلا لغويا مستمرا. ويمكن أن يكون صاحب الطراز قد اتكأ على الجاحظ الذي لفت نظرنا إلى أن القرآن يذكر السّمع، ولا يذكر الأسماع، ويذكر الأرض ولا يذكر

_ (1) سورة القارعة، الآية: 5. (2) العلوي، يحيى، الطّراز: 3/ 48. (3) سورة النساء، الآية: 19. (4) سورة آل عمران، الآية: 30.

الأرضين «1»، فليس كل جمع مستحبّا، فأراد صاحب الطراز أن يرصد لهذه الظاهرة الفنية مفردات قرآنية أخرى، ولكنّه لم يضف كثيرا إلى ما جاء به تلميح سابقه، وإذا كنّا نكتفي بالتلميح هناك ففي «الطّراز» المتخصص بأجزائه الثلاثة بالبلاغة القرآنية لا نقبل بالذوق الذي بني عليه حكم الجاحظ. وكذلك لم يقف على ظاهرة الجمع والإفراد سوى العلوي والرافعي، وهذا يؤكّد قلّة البحث الموسيقى في بنية المفردات، على الرّغم من كثرة الاهتمام بالمحسّنات اللفظية التي لها شأن كبيرة بالنّغم، فلم يذكر أحد هذه الخاصية بعد العلوي إلّا الرافعي، وفي الوقت نفسه نجد شاهد تشبيه أعمال الكفار بالسّراب في قوله تعالى: أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً «2» في كل كتب الإعجاز والبلاغة، وكذلك ما يتّصل بالإيجاز وغيره، والسبب- كما قلنا سابقا- أن الموسيقا الداخلية كانت عسيرة على الفهم والشّرح وتحتاج إلى إمكانات خاصة حاجة ماسّة. وهذا التقصير لا ينحصر فيما جاء من التراث الأدبي، فإهمال التشكيل الصوتي وارد في كتب المعاصرين إلا ما كان من الرافعي بشكله المنهجي، وسيّد قطب بشكله غير المنهجي، فما لمسوه يعدّ يسيرا بالنسبة لاهتمامهم بالصورة البصرية والإيحاءات. وهذه المادة اليسيرة تسير وفق منهجين: الأول: منهج إجمالي، فيه التلميح المبهم يطغى من خلال أسلوب الدارسين الخلّاب، واهتمامهم بالعبارات العامة شأن الباقلاني، وهؤلاء لم يربطوا الصورة السّمعية بنفسية المتلقّي، أو بإحكام صورة المعنى. أما المنهج الثاني: فقد بسط فيه أصحابه هذه الجمالية محاولين الاتكاء على معيار يبعدهم عن الشّطط والغلوّ والتكهّن، وظلّت نظرتهم جزئية لا تشمل الكثير من المفردات، ولم يخصّصوا لهذا مكانا واسعا في بحوثهم، بل حظي بصفحات قليلة في كل بحث.

_ (1) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 14. (2) سورة النور، الآية: 39. قيعة: جمع قاع أي فلاة.

وكثيرا ما يشير المعاصرون إلى صفة العذوبة، وإلى ذيّاك اللحن العذب، وإمتاعه للآذان، من غير أن يقدّموا شواهد وافية أو غير وافية تثبت صحّة رأيهم. نجد من خلال استطلاع جهودهم الفنية أن سيّد قطب أكثر من اهتمّ بالمدود والحركات إلى جانب الرافعي، وإن مال في كثير من المواضع إلى الغموض والذاتية المبهمة، فنقع على تحليل شخصي يناسب نفسية الباحث فقط. بيد أننا لا نخفي أنّه ما انفكّ يربط بين الصورة السمعية والحالة النفسية المطلوبة في الآية، وهنا مراعاة فنية، إلا أنّها خفيّة على كلّ نظرة سطحيّة عابرة. ومن ذلك ما جاء في قوله عزّ وجلّ: وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ «1»، ومن الدّقة الباهرة أن يعلّق على جمال الْحَزَنَ بالفتحة، وهنا يستثنى من قاعدة الطّراز الذي رأى أن سكون الوسط أعدل من تحريكه، يقول سيّد: «الجو كلّه يسر وراحة ونعيم، والألفاظ مختارة، لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجوّ الحاني الرّحيم، حتى «الحزن» لا يتّكأ عليه بالسكون الجازم، بل يقال «الحزن» بالتّسهيل والتخفيف «2». وكثيرا ما نستشف رهافة حسّه، وإدراكه لدقائق فنية في بنية الكلمات، كالمدود والحركات والانسجام بين الشّدة والرخاوة، وذلك من خلال مصطلحين يظلّ يردّدهما في كتبه، وهما الإيقاع والجرس، ولا نجد عنده لغة علمية واضحة كما وجدنا عند الرافعي. وثمّة مفردات وردت في بعض السّور المكية، وكانت بتركيبها جديدة على الصّياغة العربية المعهودة، وهذه المفردات هي الصاخّة على وزن اسم الفاعل من صخّ يصخّ، أي يؤثّر في الأذن بصوته الشديد، وكذلك اشتقّت الحاقّة من الحق، والقارعة من القرع، والواقعة من وقع يقع، والطامّة من فعل طمّ يطمّ.

_ (1) سورة فاطر، الآية: 34. (2) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج/ 5، ص 1/ 294 وانظر قطب، سيد، 1956، مشاهد القيامة، ط/ 2، دار المعارف بمصر، ص/ 101.

وعلى الرغم من كون المعنى معروفا في الدلالة العربية، غير أن الصّيغة الجديدة جاءت مناسبة للمعنى الديني الجديد على المفاهيم العربية، وكلّها صفات أو أسماء ليوم القيامة، ويقول قطب عن الحاقّة: «الرّنّة المدوّية في القاف، والهاء الساكنة بعدها سواء أكانت تاء مربوطة يوقف عليها بالسّكون، أو هاء للسّكت مزيدة لتنسيق الإيقاع» «1». ونفهم منه أنّه لم ينتبه إلى جمال المدّ، وشغل بالدّويّ الذي يعبّر به عن الشدة على القاف، والمعروف في فقه اللغة أنه يوجد تماد في المدّ هنا، لوجود الشّدة على القاف، وهو في علم التجويد «مد لازم مثقّل» يمدّ بست حركات. وفي هذا يقول ابن جني: «فحينئذ ينهضون بالألف بقوة الاعتماد إليها، فيجعلون طولها ووفاء الصوت بها عوضا مما كان يجب لالتقاء الساكنين من تحريكها، إذا لم يجدوا عليه تطرّقا، ولا بالاستراحة إليه تعلّقا، وذلك نحو شابّة ودابّة» «2». وقد اقتبسنا قول ابن جني متخذين من جمال المدّ هنا شاهدا أو نموذجا، فيمكن أن يستعين الدارس بمعطيات هذا العلم، وبالتجويد كما سيمرّ بنا، ولا شكّ أن جماليات المدود منثورة في كلمات القرآن بكثرة، وتحتاج إلى مثل هذه المنهجية. كذلك وقف محمد المبارك في دراسته الأدبية للقرآن على هذه المفردات الجديدة، وتحدث عن جدتها، ولفت النظر إلى جمال المد فيها قائلا عن أوائل سورة الحاقّة: «تتكرر فيها كلمة «الحاقة»، وهي الكلمة الجديدة التي تعبّر هنا عن يوم القيامة والحساب، وتتكرر فيها هذه القاف المشدّدة التي تقرع السمع قرعا، والمسبوقة بالمدّ الطويل الممهّد لها، والمبرز لشدّتها، والمختومة بالهاء التي تنطفئ عندها شدّتها» «3».

_ (1) في ظلال القرآن، مج/ 6، ص/ 3676. (2) ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، 1982، الخصائص، تح د. محمد علي النجار، ط/ 1، دار الهدى، بيروت: 3/ 126. (3) المبارك، د. محمد، دراسات أدبية لنصوص من القرآن، ص/ 30.

ويلحظ في كلام المبارك أن ما يدوّي هو حرف القاف المشدّد، ذلك الحرف المطبق الشديد، ومما ساعد على إبرازه سبقه الألف. ولو أن الباحث رجع إلى علم التجويد، والتجويد يعني القراءة الصحيحية العادلة للقرآن الكريم لأدرك دقائق فنية موسيقية تكون عونا له على كشف مصطلح الإيقاع أو اللحن، فإن التجويد يقول بوجود أنواع للمدود، فهنالك مدّ بحركتين، ومد بأربع حركات، ومدّ بستّ حركات، وهو: «مدّ لازم مثقّل: وضابطه مثل الطامّة والصاخّة، أتحاجّوني، تأمرونّي، والمدّ اللازم بجميع أنواعه الأربعة يجب مدّه بمقدار ست حركات، ويسمّى الإشباع، وهذا عند جميع القرّاء» «1». ولو طبقت أنواع المدود اللازمة مثلا لوجدنا مادة وفيرة عند الباحثين، وكثيرا من الآراء كانت في أمسّ الحاجة إلى مفاتيح هذا الفن. إذن فقطب وغيره يكتفون بالإشارة إلى عنف الصوت أو سلاسته، ولا يفسّرونه في الأغلب، والحق أن هذا العنف المبثوث في طيّات هذه المفردات السابقة يكمن في وجود هذا المدّ الطويل الذي لا غنى عنه، حتى الوصول إلى الشّدّة، وكأنما تصوّر الحركات شدّة هذا اليوم الهائل، فهي تصوّر الهبوط القويّ الذي يفسّر معنى الطمّ والصخّ وغير هذا. وإذا كانت هذه الصيغة غير مستساغة في فنّ الشعر، فإنّ لها دوافع فنية في إيقاع القرآن، لذلك يستبعد هنا عن جادّة الصواب رأي عبد الصبور شاهين الذي ينقل رأي «فليش» في استهجان هذه الصيغة في الشعر، وهو يرى السبب في قوله: «يحدث مقطع مديد غير مرض في الشعر، لتنافيه مع الإيقاع البسيط الطبيعي للغة» «2». وهذا لا ينبو إلا مع طبيعة إيقاع الشعر، الذي يعتمد الأوتاد المنتهية بسكون واحد، فمثل هذه الصيغة تخلّ بالوزن العروضي، وغالبا ما يرد هذا في

_ (1) انظر ابن عبد الفتاح، قواعد التجويد، ص/ 71. (2) شاهين، د. عبد الصبور، 1970، القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث، ط/ 1، دار الكاتب، القاهرة، ص/ 58.

البيان القرآني في مواقف الشّدة والتّهديد والتّقريع العنيف، فكلمة «تشاقّون» ترد في موقف دحض حجّة المشركين الواهية، إذ يقول تبارك وتعالى: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ «1»، ويقول تعالى عن المنافقين: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى «2»، ويقول عزّ وجلّ في سورة الشورى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ «3» وغيرها. لم يسر قطب على وتيرة واحدة في منحى الغموض، فهناك وقفات صرّح فيها في تأمله بالجزء البسيط من المفردة كأن يكون حركة، كما وجدنا في كلمة «الحزن» حيث أشار إلى ارتياح الشّفاه مع الفتحة، وهو يتأمل المدّ في سورة الرحمن ويقول: «وزنة الإعلان تتجلّى في بناء السّورة كلّه، وفي إيقاع فواصلها ... تتجلّى في إطلاق الصّوت إلى أعلى، وامتداد التّصويت إلى بعيد ... الرحمن كلمة واحدة مبتدأ مفرد، الرحمن كلمة واحدة في معناها وفي رنّتها الإعلان» «4». وبما أن للمدّ دلائله الخاصة بكل سورة، ففي كلمة «الصّاخة» يأتي العنف والقسوة، وكأنه يشقّ الآذان، وفي كلمة «الرحمن» يدلّ على معنى الإعلان، ومعنى الصعود بالبشر إلى الملكوت، كما نجد هذا متجلّيا في المآذن التي تصعد بتضرّعات المؤمنين إلى السماء، فدلائل المدّ مختلفة، ولهذا يرى محمد المبارك في المدّ في سورة العاديات ما يوحي بالتأمّل، إذ يقول: «أما القسم الثاني من السورة، فهو أطول نفسا، وأكثر مدودا، وكأنه يشير بمدوده الطويلة إلى التأمل الطويل، والهدوء النفسي» «5». وهذا يظهر بجلاء لدى المغايرة في الفاصلة مما يعني انتهاء تصوير المقسم به، فنصل إلى المدود في «كنود» و «شديد» و «قبور» و «خبير» و «شهيد»، بعد أن كانت الفاصلة بالتنوين والسكون «ضبحا»، «نقعا»، «جمعا».

_ (1) سورة النّحل، الآية: 27. (2) سورة محمّد، الآية: 32. (3) سورة الشّورى، الآية: 16. (4) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج/ 2، ص/ 108. (5) المبارك، د. محمد، دراسات أدبية، ص/ 18.

ولا نريد من الباحث أن يبسط الجمال الموسيقى بمعزل عن دلالة الموقف، وهذا ما أخذناه على الرافعي، وكذلك لا نريد أن يربط الباحث ربطا قسريّا بين طبيعة الصوت والمعنى، مما يكون منشؤه الإسقاط الشخصي. وقد رأينا للدكتور نور الدين عتر لفتات جيدة في هذا المضمار، فهو لم ينفكّ يربط بين الجمال الموسيقى والفكرة، ويرى أن الموسيقا تساعد على جلاء الفكرة في الآيات، وتساعد على التصوير، وذلك في تفسير الآية: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ «1». ويقول الدكتور عتر: «أما الحاجّة بالدّليل فنجد أنّ النّغم الموسيقى يرتفع بتلاحق الحركات في كلمة «قل أرأيتم» التي ذكرت مرتين، ثم في هذا الاستفهام «من إله» والاستنكار «أفلا» فيملأ الأذن بحركات ذات قوّة خاصة تبرز في السّياق، لتكون عامل إيقاظ وتنبيه» «2». فلكي يكون أكثر منهجية ووضوحا ألمح إلى تعاضد النّظم للموسيقا، كما في الاستنكار والاستفهام، ويمكن أن نضيف إلى هذا قوله عز وجل: «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ «3»، فإنّ نغمة تلاحق الحركات في كلمة «أفحسب» تعضد الاستفهام الإنكاريّ التّوبيخيّ الدّالّ على تقريع، لتبيّن سفاهة الكفار، وتبرز الحجّة عليهم. وفي تفسير أواخر سورة الكهف يقول عن فاصلتي الآيتين: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً، وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً «4»: «ثم يأتي الإيقاع القرآني قويا في النّفس، في وصف الجموع في الحشر يوم القيامة، باستعماله البديع للمصدر المؤكّد «جمعا» و «عرضا» بما فيهما من تقوية للمعنى، وما فيهما من التنكير والتنوين اللذين يطلقان أعنّة الخيال، كما

_ (1) سورة القصص، الآية: 71. (2) عتر، د. نور الدين، القرآن والدراسات الأدبية، ص/ 304. (3) سورة الكهف، الآية: 102. (4) سورة الكهف، الآيتان: 99 - 100.

يحدثان في الوقت نفسه نغما موسيقيا يمتدّ مع انطلاق الخيال» «1». ونحن لا نطالب الباحث بالوقوف على كلّ حركة والتحدث عن جمالها ووقعها في النّفس، ولا نطالب بالتّحتيم الدائم، بيد أن الفنّ لا يكون كشفه بالغموض، فهناك روائز محكمة يمكن أن يكشف الغطاء عنها، وربّما عبّر إصرار الباحث على ربط الصوت بالمعنى عن حدس وتخمين، وهذا يؤدي إلى الإضرار بدراسات القرآن دراسة علمية منهجية، وعليه أن يكتفي بتلاؤم نغم الحروف مع مقاصد الكلمات أما زيادة الإيغال فلا حاجة لها. ولا بدّ من أن نؤكد أخيرا أن الدارسين القدامى قد لفتوا النظر إلى دقائق موسيقية في نسق القرآن، وإن اكتنف نظرتهم شيء من الغموض والإجمال، ثمّ جاء الرافعي واعتمد شواهد هم القرآنية، واحتكم إلى فن الموسيقا اللغوية، وإن ظلّ كلامه في حاجة إلى توضيح، وهو يهتمّ بجمال الشكل، ولم يربطه بالمضمون، فكان همّه تبيين السلاسة في وقع الكلمة على الأذن. ونستنتج مما اقتبسناه من دراسات المعاصرين أنّ الإجمال لا يقتصر على القدامى، بل ينطبق على كثير من نظرات المعاصرين الذين اتسمت نظرتهم بالمبالغة إلى جانب الإجمال، لذلك نرجّح الأسلوب الذي جاء عند محمّد المبارك والدكتور عتر. ولا بدّ من القول إن هذه الجمالية الموسيقية ضئيلة بالنسبة إلى اهتمامات دارسي الإعجاز بأبواب البلاغة الأخرى، كالصورة البصرية والدّلائل النفسية لمضمون أفكار المفردات، ويبدو أن السّبب هو صعوبة توضيح هذه الجمالية وشرحها، مما يحتاج إلى إمكانات خاصة في مجال الفن، وربّما خشي الدارس القديم المبالغة، فاحتاط في تعبيره واكتفى بمصطلحه، كالعذوبة والخفّة والرّقة والفصاحة خشية من مزالق نظرة مغالطة. وعلى الرغم من هذا نؤكّد أنهم يستطيعون إبراز هذه الجمالية من خلال تفهم معطيات فقه اللغة وعلم التجويد، ولا ننفي أن مصطلحهم القديم كان يشتمل على كلّ جمال صوتي نتحدّث عنه في عصرنا.

_ (1) عتر، د. نور الدين، القرآن والدراسات الأدبية، ص/ 315.

5 - مظاهر الأونوماتوبيا

5 - مظاهر الأونوماتوبيا - تعريف الأونوماتوبيا ( onomatopoea) : الأونوماتوبيا هي عملية تجسيد الصوت للمعنى، فيكون الشكل بذاته دالّا على مضمونه، والنقد الحديث صار يؤكّد هذه الظاهرة في الأدب على أنها عنصر ترميز، بحيث يصبح الشكل شفافا مصوّرا جوانب المعنى بصوته، وقد جاء في تعريفها: 1 - هي تسمية الأشياء بحكاية أصواتها كالقهقهة بالنسبة إلى الإنسان، والصّهيل بالنسبة إلى الفرس، والخرير بالنسبة إلى الماء. 2 - المحاكاة الصوتية: أي اختيار ألفاظ يوحي صوتها بمعناها «1». يدلّنا المعجم من خلال تعريف الظاهرة اللغوية، على وجودها في اللغات الأخرى إضافة إلى العربية، مثال: كلمة Hiss التي تعني الصّفير، فقد أوحى ال SS اللذان يقابلان السّين في لغتنا، وهي كلمة إنجليزية، وكذلك كلمة bang التي تعني ضربة عنيفة، ولا شك في أن الحروف الثلاثة bng مجتمعة توحي بهذا المعنى، وكذلك يورد المعجم أمثلة فرنسية «2». وكتب الإعجاز القديمة لم تنوّه بهذه الجمالية، وهي عند المحدثين تترجّح بين الإجمال والسّطحية، وبين الغزارة والعمق، وذلك على اختلاف أسلوب الدارس، واختلاف حجم ثقافته، وسوف نبيّن أن للموروث اللغوي العربي يدا في الأمر. من المعروف أن البحث عن نشأة اللغة معضلة كبيرة، وأن الحديث عن تفاصيل هذه القضية ذو شجون، وأن النظريات أو الفرضيات الموضوعة متنوعة ومختلفة، وبيّنة التعارض أحيانا.

_ (1) وهبه، مجدي، 1974، معجم مصطلحات الأدب، ط/ 1، مكتبة لبنان، بيروت، ص/ 367. (2) انظر المصدر السابق، ص/ 367.

- جذورها في تراثنا:

ما يستحوذ على اهتمامنا أنّ هناك النظرية الاعتباطية التي تنفي العلاقة بين ماهية الصوت وبين دلالته، وذلك على عكس نظرية المحاكاة التي ترى أنّ الصوت يحاكي الطبيعة، وأنّ لهذا بقايا ثابتة في المخزون اللغوي المتداول. ونظرية المحاكاة آخذة في القدم، وقد «كان سقراط وأفلاطون ممّن يرون أن الصّلة بين الأصوات والمدلولات طبيعية حتمية، في حين أنّ أرسطو كان يراها صلة عرفية لا تعدو أن تكون بمنزلة رمز اصطلح الناس على وصفه للمدلول» «1». ونلحظ مما سبق أنّ المنظّرين الجماليين المثاليين يحتّمون المحاكاة، ومنهم سقراط وأفلاطون، وأنّ هذه القضية شغلت كبار الفلاسفة، مما يحدو بنا إلى القول إنها قضية فكرية قديمة قدم الفلسفة، وكانت هذه النظرة تقتصر على وصف مشاهد الطّبيعة. - جذورها في تراثنا: لقد ذهب عبادة الصيرمي وهو من المعتزلة إلى أن دلالة اللفظ على معناه بذاته لا بالوضع، وقد غالى في ذلك، وعند ما سألوه عن معنى «إذغاغ» في لغة البربر، قال: «أظنها الحجر» كما استشفّ من أصواتها «2». ومن الأسلاف العرب الذين أخذوا بجانب من هذه النظرية، ولم يعمّموا، فقيه اللغة العالم ابن جني، وقد عرّج على هذه الفكرة في بابين من كتابه النّفيس «الخصائص» وهما «باب تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني» و «باب إمساس الألفاظ أشباه المعاني». ومما يفيد بحثنا أن أبا الفتح بن جني دعم رأيه بمفردات من القرآن الكريم، إضافة إلى شواهد من اللغة العربية، فذكر الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا «3»، وقال: «أي تزعجهم

_ (1) انظر أنيس، د. إبراهيم، دلالة الألفاظ، ص/ 56. (2) انظر السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها: 1/ 145. (3) سورة مريم، الآية: 83.

وتقلقهم، فهذا في معنى تهزّهم هزّا، والهمزة أخت الهاء، فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصّوا هذا المعنى بالهمزة، لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز، لأنك قد تهزّ ما لا بال له، كالجذع وساق الشجرة، ونحو ذلك» «1». والهمزة والهاء حرفان حلقيّان، ولاختلاف مكان كلّ منهما في مدرج الحلق كانت الهمزة أقوى من الهاء. ونراه يستنطق الطبيعة ليفسّر الفرق بين النّضح والنّضخ، فيذكر الآية الكريمة: فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ «2»، يقول: النّضخ للماء ونحوه، والنّضخ أقوى من النّضح، فجعلوا الحاء- لرقتها- للماء الضعيف، والخاء- لغلظها- لما هو أقوى منه» «3»، فالخاء له دخل في الدّلالة على العنف والكثرة. ولا بدّ من التنويه هنا بأنّ ابن جني لا يعطي لنظرية المحاكاة كلية التّفسير، فهي عنده تشمل قسما معيّنا من مفردات اللغة، فهذه الدّلالة الصوتية تمثل بعضا من كلّ، وهي كما رئي في العصر الحديث، فالعالم اللغوي «يسبرسن» يقدّم نظرية المحاكاة مع نظريات أخرى مخالفة، وكذلك سار علي عبد الواحد وافي وصبحي الصالح وإبراهيم أنيس على خطا ابن جني. ولم تكن هذه الأصوات في معتقد ابن جني مصوّرة تماما للمعنى، بل هي تقوم بعامل الملاءمة، وتساعد على التصوير، وذلك يبدو جليّا من اختياره لتعريف الباب بالمصاقبة، أي المقاربة أو المجاورة، وكذلك يعرّف الباب الثاني بالإمساس، ولا يقول بالمطابقة الكلية، وسوف يتضح هذا المنحى في تأملات دارسي الإعجاز المحدثين إذ لم يقولوا بالمحاكاة التامة دائما. لقد ذكر ابن جني أمثلة كثيرة لهذا، ومنها كلمة «شدّ»، إذ يقول: «فالشين» لما فيها من التفشّي تشبه بالصوت انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليه إحكام الشدّ والجذب، وتأريب العقد، فيعبّر عنه بالدّال التي هي أقوى من

_ (1) ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص: 2/ 146. (2) سورة الرّحمن، الآية: 66. (3) ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص: 2/ 158.

الشين، ولا سيما وهي مدغمة» «1». فالحركات تقوم بمكاتفة للحروف في عملية التجسيد، وهذا ما سيتضح أثره في بحوث الإعجاز الحديثة. ووجد الباحثون الجدد أن هذه النظرية- كما هو واضح في المخزون اللغوي- لا تستوفي كل المفردات، ففي اللغة ما هو رمزي وصل إلى مرحلة التّجريد، وليس له علاقة بالطبيعة، وما هو وصفي احتفظ بتلك العلاقة، وبهذا نوّه المجذوب، ويلتقي معه في هذا الرأي إبراهيم أنيس وصبحي الصالح، وعلي عبد الواحد وافي، إذ يقول: «أما النوع المحتفظ بوصفيّته نحو زحير وزفرة وصهصليق وأملس وزمهرير، ونعني بالوصفية هنا أن الواضع راعى في مدلولات هذه الكلمات صفاتها الواضحة المدركة بالحواسّ، وحاول تقليدها بحروف منها مشابه من هذه الصفات» «2». خلاصة القول أن الوصفية مرحلة أولية من نشأة اللغة، وهي تتّسم بالطابع الحسّي، كما أن شدّة لصوقها بالحواس البشرية، تجعلها مثيرة لهذه الحواس عند ورودها في القرآن الكريم، وتزيد التأثير الوجداني في النفس، وهذه السّمة موجودة في كل اللغات الإنسانية، خصوصا أن هؤلاء الدارسين يذكرون شواهد أجنبية إلى جانب الشواهد العربية. ونستنتج من هذا التمهيد أن «الأونوماتوبيا» ليست مجرد تأثّر بالنقد الغربي الحديث، فجذورها موجودة في الموروث اللغوي العربي، وما هي إلا هذه المصاقبة أو هذا الإمساس اللذان ذكرهما ابن جني، ولا يستبعد أنه قد اعتمد ملاحظات سابقيه، وأن التّنبيه إلى هذه الظاهرة مبكّر من زمن الخليل وسيبويه «3»، وقد استشهد بهما في هذين البابين من كتابه.

_ (1) ابن جني، الخصائص: 2/ 163. (2) المجذوب، عبد الله الطيب، المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها، ص/ 12. وانظر أنيس، د. إبراهيم، دلالة الألفاظ، ص/ 23، 186، والصالح، د. صبحي، دراسات في فقه اللغة، ص/ 185، ووافي، د. علي عبد الواحد، فقه اللغة، ص/ 171. (3) هو عمرو بن عثمان فارسي الأصل، اسمه يعني رائحة التفاح ولد في شيراز،

- منهج المحدثين:

- منهج المحدثين: وأول من تعرّض من المحدثين لهذا في القرآن هو قطب، ولم يفد من منهج ابن جني الذي اعتمد معطيات فقه اللغة في معرفة طبيعة الأصوات، فهو يقف عند الآية: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ «1»، ويقول: «على أنّ لفظة «الزقّوم» نفسه يصوّر بجرسه ملمسا خشنا شائكا مدبّبا يشوك الأنف بله الحلوق» «2». فقد غلّف حكمه بالذوق الشّخصي، ولم يحتكم إلى منهج موضوعي، ولو أنه احتذى حذو ابن جني، لتجنّب هذا التلميح الخفيّ، ولقال بقوة القاف الحرف المجهور الشديد، خصوصا إذا كان مدغما، وهناك الوقوف على الميم الذي «تنطبق الشفتان انطباقا تاما عند النطق به، فيحبس الهواء حبسا تاما في الفم» «3»، وهذا الحبس يلائم اختناق آكل هذا الطعام، وانسداد حلقومه، ويلائم القاف معالجة اللقمة غير السائغة بشدته وتكرره. ومثل هذا الإيحاء يلمسه قطب في لفظه «يصطرخون»، وذلك في قوله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها «4»، يقول: «ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء، متناوح من شتّى الأرجاء، إنه صوت المنبوذين، وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحسّ هذه المعاني جميعا» «5». فهو يكتفي بذكر الأثر النفسي، ولا يذكر الوشائج القائمة بين الصوت والمعنى، وهذا التأمّل الذاتي عادة جارية في كتبه، وقد تطرقنا إلى شيء من هذا لدى حديثنا عن منهجه في الصورة البصرية في مفردات القرآن، وهو على

_ درس الحديث في بداية حياته ثم أخذ العربية عن الخليل، توفي سنة 180 هـ، صاحب «الكتاب» المشهور، انظر طبقات النحويين للزّبيدي، ص/ 66. (1) سورة الواقعة، الآية: 52. (2) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج/ 6، ص/ 3465. (3) بشر، د. كمال، علم اللغة- الأصوات- ص/ 167. (4) سورة فاطر، الآية: 37. يصطرخون: يستغيثون بصراخ قوي. (5) قطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ 4، ج/ 22، ص 2520 وانظر قطب، سيد، مشاهد القيامة، ص/ 101، ومتناوح: متقابل.

جاري عادته يولع بالعبارات الفضفاضة، والألفاظ الرّنانة التي لا تفيد إلا بكونها مفتاحا لتذوق آخر يعتمد المنهج العلميّ، ولعلّه يريد شدّة الصاد الذي يجاور كلّا من الطّاء والراء، وكذلك الخاء، فيوجد أربعة حروف احتكاكية تقوم بدور حسّي يصوّر معالجة النار لأجسادهم. ولقطب وقفات كثيرة في هذا المضمار، وذلك لأنّ موسيقا اللفظ في منظوره عنصر من عناصر التصوير، وهذه الموسيقا المصوّرة لا تقتصر على نوعية الحروف، بل تشتمل على التّشكيل الناتج عن الحركات والمدود، فهو يقول في بداية تفسير سورة الواقعة: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «1»: «ولفظة الواقعة بما فيها من مدّ، ثم سكون، أشبه بسقوط الجسم الذي يرفع، ثم يترك، ليقع فينتظر له الحسّ فرقعة ورجّة» «2». فجمالية التصوير باللفظ تعتمد على هذا المدّ الطويل قبل القاف، مما يبعث على تصوّر وقوع جسم بعد ارتفاعه، ونظرة قطب لا تخلو من إثارة هذا التصوّر، على الرغم من أن «واقعة» نفسها تدلّ على السّقوط. وقد اطّردت عنده مثل هذه الإثارة في تفسير أسماء يوم القيامة، الصاخّة والطامّة والقارعة والحاقّة، وكل هذه المفردات مصوّرة بجرسها، يقول في تفسير فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى «3»: «والطّامّة لفظة مصوّرة بجرسها لمعناها، فهي تطمّ وتعمّ وتطغى على السّماء المبنية والأرض المدحورة» «4». ويجب أن ننبّه إلى احتكامه إلى الحرف والحركة معا، وإلى أنّ هذه خصوصية المدّ هنا لا تطّرد في كل موضع، فهي توظّف في بعض المواضع، وعلى سبيل المثال نقرأ قوله تعالى حكاية عن ولد نوح عليه السلام: قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ «5».

_ (1) سورة الواقعة، الآيتان: 1 - 2. (2) قطب، سيد، مشاهد القيامة، ص/ 108. (3) سورة النازعات، الآية: 34. (4) قطب، سيد، مشاهد القيامة، ص/ 189. (5) سورة هود، الآية: 43.

ويمكن أن تدلّ خصوصية الموقف على تصوير كلمة «سآوي» لمشهد ذلك الابن اللامبالي المتعجرف الذي يردّ على نصيحة أبيه بتراخ وفتور، وهذا بالتأكيد لا يمكن أن يلتمس في مادة الصوت نفسها إذا قرأنا قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ «1». وينبّه أحمد بدوي إلى هذه الجمالية قائلا: «وهناك عدد كبير من الألفاظ تصوّر بحروفها، فهذه الظّاء والشّين، في قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ «2»، والشين والهاء في قوله تعالى: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ «3»، والظّاء في قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى «4»، والفاء في قوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً «5»، حروف تنقل إليك صوت النار مغتاظة غاضبة، وحرف الصّاد في قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ «6»، يحمل إليك صوت الريح العاصفة، كما تحمل الخاء في قوله سبحانه: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ «7» إلى أذنك صوت الفلك تشقّ عباب الماء» «8». صحيح أن معطيات فقه اللغة هي التجربة الإنسانية المتكررة، فهي تلاحظ من خلال فعلها، ولكن الدارس هو القارئ المثقّف، فيجب أن توضع هذه الأحكام ضمن العلم، أي ضمن دراسات الأسلاف الذين ربطوا بين طبيعة الصوت وبين مظاهر الطبيعة، وإن اقتصروا على بعض المفردات، ودلّوا على يقين يدفع الاحتمال. والجدير بالذكر هنا أنّ هذه الحروف المصوّرة التي تحدث عنها بدوي هي حروف احتكاكية، يقول كمال بشر في تعريفها: «تتكون الأصوات الاحتكاكية

_ (1) سورة يوسف، الآية: 99. (2) سورة الرحمن، الآية: 35، والشّواظ: اللهب. (3) سورة الملك، الآية: 7. (4) سورة الليل، الآية: 14. (5) سورة الفرقان، الآية: 12. (6) سورة القمر، الآية: 19. (7) سورة فاطر، الآية: 12. (8) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 69.

بأن يضيق مجرى الهواء الخارج من الرّئتين في موضع من المواضع بحيث يحدث الهواء في خروجه احتكاكا مسموعا» «1»، وهذه الأصوات هي الفاء والثّاء والدّال والظّاء والسّين والشّين والزّاي والصّاد والخاء والغين والحاء، والهاء، وإن المفردات التي استشهد بها بدوي ذات سمة وصفية، فالشين والهاء يمثّلان باحتكاكمها زيادة في الحسية، وكذلك الظاء والشين، وكأن النار تلامس الأجساد من خلال الصوت، وقديما أشار فقهاء اللغة إلى مثل هذه المفردات كالزّفير والخرير وصرصر، وبحث. ويقف أحمد بدوي عند الآية الكريمة: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً «2» فلا يجد الشّدة إلا بوجود الطّاء في الكلمة الأخيرة، ولا يعنى بالتركيب الكلي للمفردة، يقول: «تجد كلمة العبوس قد استعملت أدقّ استعمال لبيان نظرة الكافرين إلى ذلك اليوم، فإنهم يجدونه عابسا مكفهرّا، وما أشدّ اسوداد اليوم .. وكلمة «قمطريرا» بثقل طائها مشعرة بثقل هذا اليوم» «3». فلا يستمد إيحاء ثقل هذا اليوم إلا من الطّاء وحدها، ولا شكّ في أن ثقل الكلمة أو الأصح قوّة تعبيرها يستمد من مجاورة الطّاء للميم الساكنة والرائين، ومثل هذا التركيب لا يرد في مفردة أخرى في القرآن، وإلا لكان الطّاء قد أثقل مئات الكلمات القرآنية من غير أن توحي بمعنى الثّقل أو العنف مثل: الطّير، طالوت، طلع، وغيرها، وربّما كان يريد في كلامه أهمية إضافة الطاء إلى مجموعة خاصة تتألف من الميم والقاف والرائين. ولم يقف بدوي إلا عند هذه المفردات، فهو مقلّ كمّا، وأكثر معيارية من قطب، وذلك لأنّه عقد فصلا واحدا لجمال المفردات ضمّنه معظم وجوه الحسن في المفردة، وهو كما رأينا لا يضيف الطاقة النفسية أو الإسقاط الشخصي، كما صنع قطب.

_ (1) بشر، د. كمال، علم اللغة العام- الأصوات- ص/ 118. (2) سورة الإنسان أو (الدهر)، الآية: 10. (3) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن ص/ 58، وانظر شرف، د. حفني محمد، الإعجاز البياني، ص/ 223

لم يلتفت الرافعي إلى هذه الناحية في جماليات المفردة القرآنية، على الرغم من عنايته الفائقة بموسيقية الألفاظ، واهتمامه بجزئياتها من الحروف والحركات معتمدا الموروث الجمالي في علم التجويد، محكّما الذوق الشخصي، والتأمل الرفيع. وقد أشار الرافعي إلى العلاقة القريبة بين المعنى في النفس، وبين تجلّيه في الحروف والحركات، يقول: «ليس يخفى أنّ مادّة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأنّ هذا الانفعال بطبيعته، إنما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدّا أو غنّة أو لينا أو شدّة، وبما يهيّئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النّفس من أصولها» «1». ويتّضح لنا أنه يركّز اهتمامه على الحركات من غير الحروف، وهذا المعنى متكرر في بحثه، وهو يرى أن الحركات تصوّر الحالات النفسية في جميع مظاهرها، ولم يذكر الطبيعة، وكذلك لم يترجم مثل هذا الكلام إلى تطبيق تحليلي لمفردات القرآن. ويترجّح أسلوب محمد المبارك بين غموض قطب، وبين تقديم آراء شفافة بعض الشيء، ويتّصل به في هذه الوجهة صبحي الصالح، وكذلك يقترنان في كون كلّ منهما قد وضع كتابا في فقه اللغة، ولصبحي الصالح فصل مطوّل حول تصوير الحروف للمعاني عرض فيه آراء كلّ العلماء «2». وقد خصّص المبارك فقرة في دراسة كل سورة للجمال الموسيقى، وذلك في كتابه الذي فسّر فيه بعض قصار السور، ويقول عن سور العاديات: «يلاحظ أن لبعض ألفاظ السورة جرسا موسيقيا واضحا مناسبا لمعناها، مثل «قدحا ونقعا» المناسبة لوقع حوافر الخيل، و «بعثر» المناسبة لانتشار أجساد الموتى بعد خروجها من الأرض، ومثل «حصّل» الدالة بصادها المشدّدة على شدّة التقصّي والجمع» «3».

_ (1) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 215. (2) انظر كتابه «دراسات في فقه اللغة» ص 180 وما بعدها. (3) المبارك، د. محمد، دراسات أدبية، ص 19، 40.

ويبدو جليّا أن هذا الاحتمال لم يوفّق فيه الباحث، فهل يستشفّ القارئ في «نقعا» - فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «1» - إلا دلالتها على الغبار الكثيف؟ ومن الواضح أن أصوات المفردة هنا في حالة اعتباطية قطعت صلتها بالمعنى، وصارت رمزا خالصا. وقد غاب عن ذهن المبارك هنا، أن صيغة الفواصل في السورة بسكون الوسط والتنوين «ضبحا قدحا نقعا جمعا» ما يناسب مقام الغضب، ومعاني الزّجر والوعيد، فكأن الكلمات قذائف تختم بها الآيات قصيرة المدى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً «2». وهذا المشهد العنيف لا يصوّره لنا الفنّ الزّمني، وربما يستعصي على الفن المكاني، والجدير بالذّكر أنّ الفاصلة لا تقف على المدّ كما هي الحال في سورة مريم، بل على قوة التنوين، ولعلّه يريد من تكرار قوّة التنوين في الفواصل تكرار وقع الحوافر. أما كلمتا «بعثر» و «حصّل» في الآيتين: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ «3»، فإنّ ماهية جرس الحروف لا تكفي وحدها لهذه المناسبة، بل تواكبها الحركات، وهذا ما قد لحظه الباحث، فالصيغة الصّرفية تؤدي دورا مهمّا، فكلمة «بعثر» لولا ضمّ الباء فيها التي تنطبق عندها الشّفاه للضم أيضا، وكسر الثاء اللّثوي مما يتطلّب تراخي الشّفتين وانفراجهما لولا هذا لما شممنا رائحة المعنى في أصوات المفردة، فالضّم يتبعه انفراج الشّفتين، ثم يتبع هذا الفتح على الرّاء، فهذا يمثّل في رأيه مشهد الانتشار بعد الخروج من القبور، ولكن ما أكثر الكلام الذي نجد فيه الضّم ثم انفراج الشّفتين، وعلى هذا نقول إن الصّوت والصّويت لا يوظفان في كل موضع لتصوير الحدث، وكان على الباحث أن ينتبه إلى ذلك.

_ (1) سورة العاديات، الآية: 4. (2) سورة العاديات، الآيات: 1 - 5. الضّبح: صوت أجواف الخيل وأنفاسها. (3) سورة العاديات: الآيتان: 9 - 10.

ويمكن أن نقول مثل هذا في «حصّل»، ونخلص إلى أن المبارك على الرغم من كونه ملمّا بفقه اللغة لم يتزحزح كثيرا عن منهج قطب، ووقفاته على قلّتها في حاجة ماسّة إلى تبرير ما يجعل الشّكل الصوتي مصوّرا. ويجب أن نكون حذرين في هذا المقام لأن هذا الأمر أصلا فرضيّة متحقّقة في بعض المفردات، ولأن الاحتمال يخطئ ويصيب. ولا بدّ من الإشارة إلى أن ابن جني قد رصد الكلمات التي أدخلت حرفا ما فاشتركت في معنى واحد، كأن تدخل الفاء على الدّال، والتّاء والطاء والراء واللام والنون فتشكّل كلمات كلها تدلّ على الضّعف والوهن، مثل فتور، فرد، الفارط، الرّديف، الطّفل وغيرها «1». ويتحدث صبحي الصالح عن جمال المفردة في فصل الإعجاز من كتابه «مباحث في علوم القرآن»، ويخصّص صفحات ثلاثا للمفردات المصوّرة بأصواتها، إذ يقول: «تكاد تستقلّ بجرسها ونغمها بتصوير لوحة كاملة يكون فيها اللون زاهيا أو شاحبا، والظّلّ شفيفا، فحين تسمع همس السين المكررة تكاد تستشفّ نعومة ظلّها، مثلما تستريح إلى خفّة وقعها في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» «2»، بينما تقع الرهبة في صدرك وأنت تسمع لاهثا مكروبا صوت الدال المنذرة المتوعدة مسبوقة بالياء المشبعة المديدة في لفظة «تحيد» بدلا من تنحرف أو تبتعد، في قوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ «3». وهو ينتقل مباشرة إلى الأثر النفسي، ولا يتغلغل في صفات الحروف بما يرضينا، خصوصا أنّه ذو ثقافة متخصّصة باللغة، ومن هذا القبيل عند ما يورد الآية الكريمة: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ، وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ «4»،

_ (1) انظر ابن جني، الخصائص: 2/ 145. (2) سورة التكوير، الآيات: 15 - 18. (3) الصالح، د. صبحي، مباحث في علوم القرآن، ص/ 385، سورة ق/ 19. (4) سورة إبراهيم، الآيتان: 16 - 17.

يقول عن لفظة «يتجرّعه»: «وما أحسب شفتيك إلا منقبضتين استقباحا واستهجانا لحال الكافر الذي يتجرع صديده، ولا يكاد يسيغه، فتستشعر في لفظة التجرّع ثقلا وبطءا يدعوان إلى التّقزّز والكراهية» «1». والباحث لا يدّعي تصوير المشهد بالصّوت، بل يكتفي بلفتة الزمخشري النّفسية، وهذا الثّقل أو الشّدة موطنه في قوة الجيم والرّاء، والأخير متكرر بطبعه، وهو مضعّف هنا، وتعطي العين الاحتكاكية شيئا من مظهر التقزّز الحسي، فهذا التشكيل الصوتي يجسّد صعوبة دخول الصّديد، وليس في المفردة حرف ليّن أو هامس. والجديد عند صبحي الصالح أن عملية التجسيم هذه لا تقتصر على معاني القوة والبطش والتهديد، فقد رأيناه يتحدث في المكان نفسه عن همس السين التي ناسبت موقف تصوير الصبح في سورة التكوير. وهنالك وقفات متناثرة لعبد الكريم الخطيب حول هذه الجمالية، وهو لا يجمعها تحت عنوان معيّن، بيد أنّها غنيّة المضمون، غزيرة في استكشاف الإيحاءات، وكما قلنا سابقا إنه لا يقف عند مفردة واحدة، بل يفتّش عن معنى الآية المتجسّد في توالي أصوات مناسبة، ولا يدّعي أكثر من المناسبة كما هي الحال عند صبحي الصالح، فالأمور ظنّية وليست قطعية غامضة، كما ورد في أسلوب قطب. لقد ذكرنا شاهدين في الفقرة السابقة للخطيب في سياق إبعاد ما يسمّى بالثّقل الصّوتي، وهاهنا نورد ما ذكره حول الآية الكريمة: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ «2»، فنقرأ في كتابه: «استمع إلى هذه الموسيقا المتدفّقة منها تدفّق السّيل الهادر في لجّة البحر العميق، إنها لو صيغ منها لحن موسيقي يجري مع مقاطعها ومخارجها، لكان منه أروع نغم تسمعه الأذن، فالتاء من الحروف المتفجّرة، وإذا كانت مفتوحة اتسعت رقعة انفجارها، فإذا وقع بعدها سكون كان هو القرار الذي يمسك هذا الدّويّ الحادث من التفجير (تل- تف- تذ)،

_ (1) الصالح، د. صبحي، مباحث في علوم القرآن، ص/ 336. (2) سورة يوسف، الآية: 85.

ولا تجد في الكلام أوضح وأصدق من هذه الصورة التي التقطتها هذه الكلمات الثلاث للموقف المتأزّم الخانق بين يعقوب وأبنائه، وبعد أن فعلوا فعلتهم بيوسف» «1». ولم تحظ الكلمات المصوّرة لمعناها بمثل هذه الطريقة الصوتية التحليلية عند كلّ الباحثين، وهذه السّمة الفنية في الوقت نفسه، لم تدرس كثيرا، وإن درست فلا نقع على منهج واضح موضوعي بل نقع على منهج ذاتي شأن قطب، ومن اقتفى أثره، فقد سار الكثير في تيار واحد من الإجمال، وقد مررنا ببعض الشّذرات التي ابتعدوا فيها عن مسار الغموض، فكثيرا ما ترد التعبيرات على شكل تسبيحات، ولا نستطيع أن نربط بين هذا التّسبيح وبين الشاهد الصّوتي في المفردة القرآنية، وربّما لم تدرس هذه الجمالية كثيرا خشية هذا المزلق أو الانفعال إن صحّ التعبير. ومثل هذا جاء عند ضياء الدين عتر عند إشادته بهذه الجمالية واستشهاده بأوائل سورة الحج «2»، وكذلك ما جاء عند البوطي حول كلمة «أغطش»، من قوله تعالى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها «3». كانت غايتنا في هذه العجالة أن نقتصر على ما هو واضح مبرّر في أكثره لدى الباحثين، فلا نحب أن نحمّل المفردة ما لا تحمل، ولا أن نحمّل الباحث أيضا ما لا يحمل، لأننا لا نريد ضربا من التّخمين. ولا شكّ أن مما يزيد إجلالنا لهذه الجمالية في مفردات القرآن الكريم معرفتنا أن هذا الانتقاء الصّوتي لا يراعي ظاهرة تجسيم المعاني فحسب، بل هناك ترابط للأفكار، وتمكّن المفردة من المعنى المرتجى، فلا تكون عنصرا جماليا مخلّا بالسياق إذا راعت قضية شكلية، وكذلك هناك مراعاة النّسق الموسيقى، وهي رمزية شفّافة لا تعسّف فيها ولا افتعال.

_ (1) الخطيب، د. عبد الكريم، إعجاز القرآن للخطيب: 2/ 273، ونرى أن التاء من حروف الانفتاح لوجود فتحة بين اللسان والحنك عند النطق بها. (2) عتر، د. حسن ضياء الدين، بيّنات المعجزة الخالدة، ص/ 313. (3) البوطي، محمد سعيد رمضان، من روائع القرآن، ص/ 142، سورة النازعات/ 29.

لقد حاولنا تقديم مصداق لوجود هذه الجمالية من خلال ما هو صادق مبرّر عند الباحثين، وقد حاولنا تقديم التبرير من خلال طبيعة الأصوات، وهناك ما كان متوهّما تمخّض عن إسقاط نفسي لدى الباحثين مما يحدو بهم إلى المبالغة أو الاستكناه، وهذا ما نرفضه في دراسة القرآن دراسة علمية منهجية. إن المفردات القرآنية المصوّرة بأصواتها بحاجة شديدة إلى دراسة صوتية معيارية، فإذا كانت مستورة خفيّة، فإن الذوق العادي يمرّ بها عابرا، وتحتاج إلى ذوق ودربة وثقافة صوتيّة. ويطيب لنا في ختام هذه الفقرة أن نورد رأي درويش الجندي الذي يعضد رأينا في شفافية رمز الموسيقا القرآنية، فقد قال: «وإذا علمنا أيضا أن موسيقا القرآن الكريم أحد عوامل البيان والوضوح في تصوير المعاني، وإبراز الأفكار، عرفنا الفرق الشاسع بين هدف الموسيقا هنا، وبين هدفها في الرمزية الأوروبية، إذ كانت تهدف من وراء الموسيقا الإيحاء المبهم الغامض الذي يتحقق في جو موسيقي تكون فيه الأنغام هي الناطقة فقط، مع تعمّد كتم أنفاس الوسائل الأخرى التي تعين على الإبانة والإفصاح، لتحقيق الغموض المنشود» «1». فالقصد في القرآن ليس فنا خالصا، كما هي الحال في بعض الأدب إذ تكون الكلمات غمغمات وتأوّهات فارغة، ذلك لأن الغموض فيه رغبة منشودة، وهذا أدعى إلى العبث والفوضى، وتعالت كلمات الله عن هذا الإسفاف، فالقرآن كتاب أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «2». وفيه تتكاتف الجزئيات لأجل الوضوح والتأثير الأقوى. ولم تستعص كلمات هذا الكتاب على كل من قدّم جهدا فكريا في تفسير معانيه، كما لم تتخفّ معالمه الجمالية على كل متذوّق عالم، قال تعالى:

_ (1) الجندي، د. درويش، 1958، الرمزية في الأدب العربي، ط/ 1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ص/ 193. (2) سورة هود، الآية: 1.

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ «1»، وقال: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «2». ولا بد من إبعاد حتمية الأونوماتوبيا كما يتصوّر بعض الدارسين، فإنّ صفات الحروف تختلف من مكان إلى آخر، ولكلّ حرف خمس صفات من الصّفات المتضادّة، ومن الصّفات القوية: الجهر والشّدة والانطباق والقلقلة، ومن الصفات الضعيفة: الهمس والرخاوة والاذلاق واللين، وأقوى الحروف هو الطاء، لأنه يضم ست صفات قوية. لذلك يجب أن نكتفي بمناسبة الأصوات للمواقف ومساعدتها على تجلّي المعاني، وليس المطابقة الكلية كما في نظرية المحاكاة، وعلى الدارسين أن يحذوا حذو ابن جني الذي أطلق على هذه الظاهرة الإمساس والمصاقبة أي المقاربة، وأن يكتفوا بمعرفة صفات الحروف، وقدر ملاءمتها للموقف في الآية، وخصوصية الصّفة النّغميّة للحرف لارتباطه بحركة ما، واتصاله بحروف معيّنة، فالكاف مثلا من حروف الهمس، وكذلك من حروف الشّدة، وتبرز صفة معيّنة لاعتبارات خاصّة «3»، ولقد مرّ بنا كيف دلّ بعض الدارسين على مواطن تساعد على إبراز الشّدة أو اللين في التشكيل اللغوي في المفردات، وهذا كان يعني النظر في طبيعة الحروف وكذلك المدود والحركات، مما جعل مشاركة الشّكل للمضمون واضحة. ولا بد من أن نختم هذا الفصل بالاستنتاجات الآتية: 1 - إن الانسجام بين أصوات القرآن يحتكم إلى سهولة تلقّيها في السمع، وسهولة نطقها، وهذا يحتكم أيضا إلى صفات الحروف، لا إلى مخارجها في جهاز النطق. 2 - يعتمد جمال المفردات الطويلة على التشكيل الداخلي فيها، وتوزع الحركات والمدود، وملاءمة الموقف بهذا الطول، وهذا ما لفت النظر إليه

_ (1) سورة القمر، الآية: 17. (2) سورة مريم، الآية: 97. (3) انظر مثلا ابن عبد الفتاح القارئ، قواعد التجويد، ص 40 - 50. وابن جني، عثمان أبو الفتح، سرّ صناعة الإعراب: 1/ 58 وما بعدها.

الرافعي. 3 - إن مفهوم الخفّة لا يعني وجود مفردات ثقيلة، بل هناك شدّة ولين، وهذا يتفق مع الموقف الذي تتحدث عنه المفردات، وإن إجمال القدامى في هذا المضمار لا يتنافى مع فهمهم للتشكيل الصوتي، بيد أن كشفهم للمفردات الخفيفة كان أكثر من البحث عن مفردات تلائم الشدّة في الموقف، كالترهيب والوعيد. 4 - لم يسهب الأسلاف في الجمالية الموسيقية، لأن غاية المفسّر القديم كانت تتحدّد في جلاء المعنى وتوصيله إلى القارئ، وهذا أهم شيء عندهم، وكانوا إذا تحدثوا عن الجمال الموسيقى يحتذرون من الخطل والتعميم. 5 - لم يكن ما ذكره القدامى حول جمال التشكيل الداخلي للمفردات مغالطا لمفهومنا المعاصر، بل إن ما جاء به الرافعي وغيره يعتمد على ما ذكروه ويكمله بكشف واضح. 6 - على الدارس أن يتسلّح بمعطيات علمية واضحة يكتسب من خلالها أسس فن الموسيقا، كما جاء في علم التجويد، فيحصل على صفات الحروف، ليفسّر الجمال الموسيقى بما يوائم مضمون الآيات، وعليه ألا يعتمد التخمين في ربط الصوت بالمعنى. ولا بد من أن نوضح هنا أن ابن سنان استقبح شكل مفردات وردت في شعر المتنبي، وقلّده ابن الأثير في هذا الرأي ووضّحه، وهذا لا يعني كثرة إسفاف أسلوب شاعرنا الكبير المتنبي، ولا يعني أننا ننكر شاعريته وإمتاعه للعقل والوجدان، فهو شاعر يتجاوز شعره عصره، لأنه شاعر الإنسانية بحقّ.

الفصل الرابع ظلال المفردة والمعنى

الفصل الرابع ظلال المفردة والمعنى

1 - دلائل صيغ مفردات القرآن

1 - دلائل صيغ مفردات القرآن امتازت اللغة العربية بمقدرة فائقة في جانب الاشتقاقات الصرفية، وهذه الميزة أغنتها عن المزيد من المفردات، والدلالة الصرفية تتعيّن في لغتنا من داخل التشكيل الصوتي غالبا، وذلك بخلاف اللغات الأخرى التي تجنح غالبا إلى السّوابق واللواحق في الوصول إلى دلائل جديدة. ونعني بالصيغة هنا ورود الكلمة على حالة معيّنة من بين الصّيغ التي نجدها في تصريف الكلمة، وسنبحث في هذه الفقرة في أثر صيغ بعض مفردات القرآن من خلال بعض دارسي الإعجاز. ومن نظر نظرة متفحّص وجد أن الدارسين القدامى انطلقوا من معيار لغوي واضح في تملّي جمال الصّيغة ومناسبتها للنص، وربطوا بين اللفظ وبين المدلول من خلال الصّيغة الصرفية. - إشارة ابن جني: لقد اهتمّ ابن جني بقضية محاكاة الأصوات لظواهر الطبيعة، وقد أثار هذه الفكرة في مصنّفه النفيس «الخصائص»، وأشار إلى ارتباط صيغة «فعلان» بحالة الاضطراب والحركة، واهتمّ بمحاكاة الحروف والحركات، يقول: «قال الخليل: كأنهم توهّموا في صوت الجندب استطالة ومدّا، فقالوا: صرّ وتوهّموا في صوت الباز تقطيعا، فقالوا: صرصر، وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنّها توالي حركات الأفعال- الأحداث-» «1». ويسرد أوزانا أخرى توافق ما ذكره الخليل وسيبويه، وهذه المحاكاة لم يصرّح بها دارسو الإعجاز، وذلك لعدم تأتّي التّعليل، إلا في القليل النادر، فلم يجدوا منه شيئا في القرآن. وقد استفاد الزمخشري من هذا في تفسيره الآية الكريمة: إِنَّ الدَّارَ

_ (1) ابن جني، الخصائص: 2/ 152.

الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ «1»، وقال عن الفاصلة: «وفي بناء «الحيوان» زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي لما في بناء «فعلان» من الحركة والاضطراب، والحياة حركة، كما أن السّكون موت، فمجيئه على بناء دالّ على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة» «2». ونجده يطبّق القاعدة التي أوردها ابن جنّي، بيد أن ما ذكر هناك يتّصل بالمحسوس، وهذه المفردة تدلّ على نشاط الجانب الرّوحي. واهتمام ابن جني بالدلالة الصرفية أكبر من اهتمامه بمحاكاة الصوت لظواهر الطبيعة، والسبب سهولة إثبات دلائل التغيرات الصرفية، ووفرة الشواهد التي تثبت هذه المسألة، وإن كانا ذكرا معا في باب «المصاقبة»، يقول: «ومن ذلك جعلوا تكرير العين في المثال دليلا على تكرير الفعل، فقالوا: كسّر وقطّع وفتّح وغلّق، وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعاني، فأقوى اللفظ ينبغي أن يقابل به قوة الفعل، والعين أقوى من الفاء واللام، وذلك لأنّها واسطة لهما، ومكنوفة بهما، فصارا كأنّهما سياج لها، ومبذولان للعوارض دونها» «3». ولم يبتعد الدارسون كثيرا عن تقنين ابن جني، وإن كان هذا تحت عناوين مختلفة مثل: «الزيادة في البناء»، و «ملاءمة اللفظ والمعنى». وقد كثرت الشواهد على تضعيف العين مثل غافر وغفّار، وكاذب وكذّاب، وذبح وذبّح، وقتل وقتّل وغيرها. ولا يعنينا اختلاف الاسم، إنما تعنينا ملاحظة الدارس للمخزون النفسي، والأثر الوجداني فيما تكتنفه الصّيغة، وإن كنا نعني بها التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية، فغايتنا تنحصر في كل جمال يعتمد التركيب الدّاخلي. وسوف نتجاوز المكرّر من الملاحظات، ونطرح جانبا ما لم يتعدّ التفسير

_ (1) من سورة العنكبوت، الآية: 64. (2) الزمخشري، الكشّاف: 2/ 183 وانظر تفسير النسفي، مدارك التنزيل: 3/ 263 وتفسير أبي السعود: إرشاد العقل السليم: 7/ 47. (3) ابن جني، الخصائص: 2/ 285.

- مع الزمخشري:

اللغويّ، الذي لا يمسّ الوجدان، وتطول وقفتنا مع الزمخشري، لأنه خير من يتأمل دقائق اللغة القرآنية بتذوق، لا بجفاف مدرسي. - مع الزمخشري: هنالك وقفات يتأمل فيها الزمخشريّ المفردة القرآنية، ويتحدث بمعيار لغوي بلاغي يؤيّد المفهوم الديني، وذلك على سبيل المثال في تفسيره البسملة، إذ يقول: «وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرّحيم، لذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، ويقولون: إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى» «1». وقرين هذا إشارته إلى موافقة الصيغة للواقع، فإن فعل «نزّل» يعني عنده التواصل بالتدريج، وفي سورة البقرة نقرأ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «2»، ويقول في تفسيرها: «فإن قلت: لم قيل (مما نزّلنا) على لفظ التنزيل لا الإنزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم .. وذلك أنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله مخالفا لما يكون عند الناس لم ينزل هكذا نجوما .. فقيل: إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلمّوا نجما واحدا من نجومه سورة من أصغر السور، أو آيات شتّى مفتريات، وهذه غاية التّبكيت، ومنتهى إزاحة العلل» «3». ويتأمل صيغة التأنيث في «مرضعة» في قوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ «4»، وقد رجّح أبو هلال العسكري «5» جمال وجود «مرضعة» على امرأة، لإظهار ناحية العطف، إلا أن الزمخشري يتعمّق في صيغة التأنيث، فيرى للتأنيث جماله في الآية، فهو يقول: «فإن قلت: لم قيل مرضعة

_ (1) الزمخشري، الكشاف: 1/ 41. (2) سورة البقرة، الآية: 23. (3) الزمخشري، الكشاف: 1/ 238. (4) سورة الحج، الآية: 2. (5) انظر: أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، ص/ 365.

دون مرضع، قلت: المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصّبيّ، والمرضع التي من شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة، ليدلّ على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت ثديها نزعته، لما يلحقها من الدّهشة» «1». وبناء على هذا يكون «المرضع» اسما عاما، وتتخذ كلمة مرضعة فاعليّة كبرى، فتناسب هول هذا اليوم، ومن عادة الزمخشري أن يقلّل من البحث في القانون اللغوي، لينتقل مباشرة إلى الإيحاء النفسي الخاص بالنصّ. وقد قال المبرّد عن المؤنث: «فمتى أفاد الفعليّة لزمته علامة التأنيث حتى يضارع فعله، كقولك أشدنت الظّبية، فهي مشدنة، وطلّقت المرأة، فهي طالقة» «2». ويذكر الشاهد القرآنيّ نفسه، ويقال: مشدن ومشدنة، وطالق وطالقة، ومرضع ومرضعة. ويعلّق عليه صبحي الصالح: «وكأنّ المبرد بهذه التفرقة الدقيقة يميز الوصف القائم بالنفس من الحدث العارض الذي هو من أفعال الذّات، وفي تجشّمه هذا التعليل المنطقيّ لعلامة التأنيث في الآية إيحاء بصعوبة التّحليل فيما سمع من الشواهد الأخرى» «3». ونجد أنّ الزمخشري يصبّ اهتمامه على تصوير الحدث، وكأنما أدرك عدم اطّراد هذا القانون في كل تأنيث، فالحيز النفسي هو المهم عنده. ونراه يستشفّ طبيعة الحركة المرئية في الصيغة، وكأنما يقول بالمحاكاة، من غير أن يميل إلى الوهم فيما يبدو لنا، وذلك في تفسير الآية: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ «4»، يقول: «فإن قلت: لم قيل: «ويقبضن»، ولم يقل: قابضات، قلت: لأن الأصل في الطيران هو صفّ

_ (1) الزمخشري، الكشاف: 3/ 4، وانظر النسفي، مدراك التنزيل: 3/ 92. (2) مخطوطة «المذكر والمؤنث» نقلا عن صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص/ 84. (3) الصالح، د. صبحي، دراسات في فقه اللغة، ص/ 84. (4) سورة الملك، الآية: 19.

الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مدّ الأطراف، وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرّك، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنّهنّ صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة، كما يكون من السّابح» «1». ونستطيع أن نقول بعد ملاحظته دلالة الاسم والفعل: إن طول المدّين في «صافّات» يمثّل بسط الأجنحة، وتمثّل الوقفتان في «يقبضن» التحرك الطارئ، وزمن المدّ أطول من زمن التحرك في الطيران، وفي المفردتين. وهكذا نتبين أن الزمخشري لا يكتفي بجوانب النّظم، بل يلاحظ بذوقه جزئيات النّظم، ويشدّ الانتباه إليها، وفي هذا يقول درويش الجندي: «إن الزمخشري يختلف عن عبد القاهر في كونه بالإضافة إلى نحويّته لغويا شديد الحساسية باللغة، عارفا بالفروق الدقيقة في بنيات النظم فوق تحليله البلاغي للتراكيب النّحوية» «2». ومثل هذا واضح في تفريقه بين طاهرة ومطهّرة في الآية الكريمة: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ «3» فهو يقول: «فإن قلت: هلّا قيل طاهرة؟ قلت: في «مطهّرة» فخامة لصفتهنّ، ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأنّ مطهّرا طهّرهنّ، وليس ذلك إلّا الله عزّ وجلّ» «4». وهذا واضح من الصّيغة الصّرفية، فكلمة «مطهّرة» تدلّ على التعدية، أما «طاهرة» فتدلّ على اللزوم. إن التذوق الشخصي لدى الزمخشري قد يبتعد به أحيانا عن الصواب، ومن هذا وقفته التي هي أعلق بالنظم لدى تفسيره للآية: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ «5»، فهو يقول عن تنكير حياة: «أراد حياة مخصوصة، وهي

_ (1) الزمخشري، الكشاف: 4/ 138، وانظر النسفي، مدارك التنزيل: 4/ 277، وأبو السعود، إرشاد العقل: 9/ 8. (2) الجندي، د. درويش، 1969، النظم القرآني في الكشاف، ط/ 1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ص/ 27. (3) سورة البقرة، الآية: 25. (4) الزمخشري، الكشاف: 1/ 62، وانظر النسفي: 1/ 35، وأبو السعود: 1/ 70. (5) سورة البقرة، الآية: 96.

الحياة المتطاولة .. لأن معنى أحرص الناس أحرص من الناس» «1». ونجد أن تعليله لا يناسب المقام، فلا يكون ذمّهم في طول الحياة، ويمكن أن نجد إيحاء هذا التّنكير عند ضياء الدين عتر، إذ يقول: «يورد الكتاب المبين الألفاظ موارد حسّاسة، فلا تراها قاصرة على المعنى المتبادر منها للبال عادة، بل تتّسع دلالتها حتى توحي بمعنى أجلّ وأدقّ، خذ كلمة «حياة» أنت تشعر بأن كلمة «حياة» قد عبّرت بدقّة مرهفة عن حرص أولئك اليهود على أدنى قدر ممكن من الحياة، ومهما كان يسيرا خاويا من أية قيمة كريمة، فأثار ورودها بالتنكير معنى التحقير، وأفادت بالتالي أنّ اليهود أشدّ حرصا على الحياة المتطاولة من باب أولى، فعبرت كلمة «حياة» في هذا المورد بآن واحد عن ضآلة قيمة الحياة الدنيا، وشدّة تكالب اليهود عليها» «2». فالزمخشري فهم طول الحياة فقط، وتبعه في هذا الفهم من نقل عنه «3»، مثل النسفي «4» وأبو السعود. ويستخلص الزمخشري من الآية الكريمة: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «5» مفهوما دينيا، إذ يقول: «لم خصّ الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلمّا كان الشرّ مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه، وأمّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولمّا لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» «6». فإذا كانت صيغة «اكتسب» تدلّ على الاعتمال الذي يناسب الشر، فإننا

_ (1) الزمخشري، الكشاف: 1/ 298. (2) عتر، د. حسن ضياء الدين، بينات المعجزة الخالدة، ص/ 253. (3) انظر تفسير النسفي: 1/ 63، وتفسير أبي السعود: 1/ 132. (4) هو أبو البركات عبد الله بن أحمد النّسفي نسبة إلى نسف بالهند، فقيه حنفي، توفي في أصبهان سنة 710 هـ، له مصنفات جليلة منها تفسيره «مدارك التنزيل» و «كنز الدقائق» في الفقه، و «المنار» في أصول الفقه وغيرها، وانظر الأعلام: 4/ 192. (5) سورة البقرة، الآية: 286. (6) الزمخشري، الكشاف: 1/ 408.

- ما بعد الزمخشري:

لا نجد هذا مطّردا في القرآن، فقد ذكر فيه الكسب في مضمار الشر مثل قوله تعالى: مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ «1»، فنحن معه في أنّ الخير طبع، والشّرّ تكلّف واعتمال. ونلتمس له العذر هنا، لأنه يريد تبيين الموازنة بين حالتي الخير والشّر في آية واحدة، فنبّه إلى عدم التّكرار، وهذا ما أوضحه بعده ابن الاصبع قائلا: «وإنّما منع ذلك ما يحصل للنّظم من العيب وإغماض المعنى الذي قصد، أما العيب فاستثقال «كسبت» بغير زيادة في نظم قربت فيه الثانية من الأولى فسمج، وأما الإغماض، فلأن المراد الإشارة إلى أن الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى الناس فطرة الخير، فالإنسان بتلك الفطرة السابغة في أصل الخلق لا يحسن أن ينسب إليه إلا كسب الحسنات، وما يعمله من السيئات يعمله لمخالفته الفطرة، فكأنه تكلّف من ذلك ما ليس في جبلّته، فوجبت زيادة التاء التي للافتعال» «2». - ما بعد الزمخشري: نستطيع أن نقول إن الزمخشري قد امتاز بإضاءة إيحاء الصيغة، وشرح دلائلها النفسية، أما من تلاه من الدارسين فقد تحدّثوا عن معنى الزيادة في بناء الكلمة حسب ما قرّر رجال اللغة، مثل ابن جني، فهؤلاء رأوا أن «غفّارا» أبلغ من غافر، و «قيّوما» أبلغ من قائم، وغير هذا، إضافة إلى نقلهم ما ورد في الكشاف، وهم لا يتجاوزون التقرير اللغوي، بحيث كان الحديث عن جانب تأثير بناء الكلمة مجملا على الأغلب. ولا بأس أن نعرض لنبذة من وقفاتهم التي وردت تحت عنوان «الزيادة في بنية الكلمة» كما نجد هذا عند يحيى العلوي صاحب الطّراز الذي يقول «قوّة اللفظ لأجل المعنى إنما تكون بنقل اللفظ من صيغة إلى صيغة أكثر منها حروفا .. وذلك يكون في الأسماء والأفعال، في الأسماء كقوله تعالى:

_ (1) سورة النساء، الآية: 111. (2) ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص/ 305، وانظر العلوي، يحيى بن حمزة، الطّراز: 2/ 164.

الْحَيُّ الْقَيُّومُ «1»، فإنه أبلغ من قائم، ونحو قوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «2»، فإنّ فعّالا أبلغ من فاعل، ومتطهّر أبلغ من طاهر، لأن التّواب هو الذي تتكرر منه التوبة مرة بعد أخرى، وهكذا المتطهّر فإنه الذي يكثر منه فعل الطّهارة مرة بعد مرة» «3». وهكذا نجد أن جمال الصيغة يقتصر على الكثرة، وأن الربط بين كثرة الحروف وكثرة المعنى مسألة قرّرها رجال اللغة، كما مرّ بنا حول تضعيف العين من الفعل، كما أن دلالة صيغة المبالغة معروفة، وكان بإمكان يحيى العلوي أن يشير إلى الدافع الذاتي في فعل التّطهّر، وحبّ المبادرة إلى فعل الخيرات. ونجد المنهج نفسه عن ابن قيّم الجوزية «4» الذي يذكر قوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً «5» وقوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً «6» ويضع مثل هذين الشاهدين تحت عنوان «الزيادة في البناء»، ويعرّف هذا الباب قائلا: «وهو أن يقصد المتكلم معنى يعبّر عنه لفظتان إحداهما أزيد من الأخرى، فيذكر التي تزيد حروفها عن الأخرى قصدا منه إلى الزيادة في المعنى، فإنّ اعشوشب واخشوشن في المعنى أكثر وأبلغ من خشن وأعشب، ولهذا وقعت الزيادة بالتّشديد أيضا، فإنّ ستّارا أبلغ من ساتر، وغفّارا أبلغ من غافر» «7». وهذا الاقتضاب نجده عند الزركشي الذي ينقل شواهد سابقيه، مع تعليق بسيط، فهو يقول: «واعلم أنّ اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان، ثم نقل إلى

_ (1) سورة البقرة، الآية: 255. (2) سورة البقرة، الآية: 222. (3) العلوي، يحيى بن حمزة، الطّراز: 2/ 163. (4) هو محمد بن أبي بكر دمشقي المولد تتلمذ لابن تيميّة، فقيه مفسّر توفي في دمشق سنة 750 هـ، ومن كتبه «زاد المعاد» و «أخبار النساء» و «الفوائد» و «التبيان في أقسام القرآن» و «عدة الصابرين» وغيرها، انظر الأعلام: 3/ 871. (5) سورة نوح، الآية: 10. (6) سورة الكهف، الآية: 45. (7) ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص/ 106.

وزن آخر أعلى منه، فلا بدّ أن يتضمّن من المعنى أكثر مما تضمّنه أوّلا، لأن الألفاظ أدلّة على المعاني، فإن زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعنى ضرورة، ومنه قوله تعالى: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ «1»، فهو أبلغ من قادر، لدلالته على أنّه قادر متمكّن القدرة، لا يردّ شيء عن اقتضاء قدرته، ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى «2». وهذا الأمر يقتضي منهم توضيحا، أي ربط الصيغة بسياق الآية التي وجدت فيها، فالقرآن ذكر كلمة «غفور» أكثر من كلمة «غفّار»، وذكر كلمة «قدير» أكثر من «مقتدر»، فغفار ذكرت خمس مرات، و «غفور» ذكرت إحدى وتسعين مرة، ونحن نعرف أن البيان القرآني يميل إلى قوة التأثير بجميع الوسائل الفنية، فكان من المرجّح أن ترد كلمة «غفّار» و «مقتدر» أكثر من «قدير» و «غفور» لكثرة الحروف، وقد ذكرت «قدير» خمسا وأربعين مرة، وذكرت «مقتدر» ثلاث مرات. ويبدو أن صيغة «غفور» و «قدير» أدلّ على الصّفة الثابتة للخالق عزّ وجلّ، و «مقتدر» و «غفار» أدلّ على الصّفة الثابتة مضافا إليها جانب الفاعلية والقصد، والصّفة الإلهية- كما هو معروف- ثابتة لا تتغيّر زيادة ونقصانا. وهنالك شاهدان ذكرهما الزركشي، فقد قال: «وكقوله تعالى: وَاصْطَبِرْ «3» فإنه أبلغ من الأمر بالصبر من «اصبر» كقوله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها «4» «فإنه أبلغ من «يتصارخون» «5». والزركشي يشير إلى الحرف الذي زيد في الكلمتين، إنه حرف الطاء أحد حروف الاطباق، وهو حرف شديد، بل يعدّ أقوى الحروف، فإذا قرأنا الآية الكريمة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «6» وجدنا أن الطّاء يساعد

_ (1) سورة القمر، الآية: 42. (2) الزركشي، البرهان: 3/ 83. (3) سورة طه، الآية: 132. (4) سورة فاطر، الآية: 37. (5) الزركشي، البرهان: 3/ 38. (6) سورة طه، الآية: 132.

- جهود المحدثين:

على تجسيم الجهد الذي يكون في إقامة الصلاة، وحجم تحمل المؤمن للشّدّة في تنفيذ الأمر الإلهي، كما نفّذه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. وكذلك الأمر في كلمة «يصطرخون» فالطّاء يضيف معنى الشّدة في استغاثة الكافرين، إنه صراخ قويّ نابع من نفوس محطّمة يائسة. - جهود المحدثين: إن عطاء المعاصرين في هذا المجال ضئيل، فهم لم يعنوا كثيرا بهذه الناحية الفنية، ولعلّ السبب في هذا أن مسألة الصيغة أعلق بما هو معياري ثابت في اللغة، ويحتاج إلى تخصص أكثر مما يحتاج إلى تذوّق شخصي، فكان البحث في جمال الصيغة أقرب إلى فقه اللغة منه إلى التأمل الجمالي. ويمكن أن نجد لمحات جيدة في هذا المضمار لدى أحمد بدوي، وإن كانت ضئيلة بالنّسبة إلى إسهابه في فنون بلاغية أخرى، ففي قوله تعالى عن الكفار: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً «1» يتأمل بدوي صيغة «استوقد» والمعروف أن السّين والتاء في «استفعل» تفيدان الطّلب، كما تفيدان أشياء أخرى كالصّيرورة والتّحوّل، مثل: استغلظ أي صار غليظا، ويقول بدوي: «تستوقفنا كلمة «استوقد» نارا، فنتبيّن فيها حال رجل قد أحاطت به حلكة الظّلام، فهو يطلب جاهدا نارا تضيء له مسالك السبيل، والسّين والتاء يدلان على هذا البحث القوي والطلب الجاد» «2». ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الصيغة تفيد القوة والثّبات، كما في قوله عزّ وجلّ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3» وذلك بعد أن شجب عناد المشركين، في قوله: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ، فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ «4». وكذلك ما جاء على لسان الكفار الذين أجهدوا فكرهم، ولم يتوصّلوا إلى

_ (1) سورة البقرة، الآية: 17. (2) بدوي، من بلاغة القرآن، ص/ 32. (3) سورة الزّخرف، الآية: 43. (4) سورة الزّخرف، الآية: 21.

صدق رسولهم في قوله تعالى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ «1». لقد فصّل القرآن الحديث عن نعمة الله على بني إسرائيل، فقد أنقذهم من فظائع فرعون في النفوس والأعراض كما قال عزّ وجلّ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ «2»، ويلفت بدوي نظرنا إلى فعل «يذبّحون» قائلا: «تجده قد اختار ذبّح مصوّرا به ما حدث، وضعّفت عينه على كثرة ما حدث من القتل في أبناء إسرائيل يومئذ، ولا تجد ذلك مستفادا إذا وضعنا مكانها كلمة يقتلون» «3». ولم تذكر قصة بني إسرائيل إلا بصيغة الكثرة في هذا الفعل، وقد استمرّ فيها إيثار «يذبّح» على «يذبح»، و «يقتّل» على «يقتل»، و «يصلّب» على «يصلب»، و «يقطّع» على «يقطع» وذلك في سرد الخبر، أو على لسان فرعون. ومن النظرات الموفقة ذات المنهج الواضح السّويّ ما جاء لدى الدكتور نور الدين عتر عند تفسيره لأوائل سورة البقرة، إذ يقول في الآية الكريمة: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «4»: «ونلحظ هاهنا أنّ وصف القرآن بقوله «هدى» وهو مصدر نكرة، والمصدر لا يوصف به فالأصل أن يقال «هاد»، لكنه وصف بالمصدر إشارة إلى أنّه بلغ في الهداية غاية الغايات، فأصبح هو نفس الهداية» «5». فالتعبير بالمصدر يدلّ على كليّة الاستحقاق، ومن الوضوح أن يعتمد منهج تبيين الجمال على الموروث اللغوي الذي لا نختلف فيه، وفي دقّة حكمه. وينتبه الدكتور عتر إلى جمال صيغة المفاعلة في تفسير الآية: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا «6»، إذ يقول: «إنه الخداع والمكر البالغ الذي عبّر عنه بصيغة المفاعلة «يخادعون»، لإفادة المبالغة في فعلهم ذلك، وحسبك في ذلك

_ (1) سورة الجاثية، الآية: 32. (2) سورة البقرة، الآية: 49. (3) بدوي د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 58. (4) سورة البقرة، الآية: 2. (5) عتر، د. نور الدين، القرآن والدراسات الأدبية: 272. (6) سورة البقرة، الآية: 9.

أنّهم في خداعهم هذا غفلوا عن رقابة الله لهم واطّلاعه على خباياهم» «1». وهكذا نجد أن الصلة واضحة بين المعيار اللغوي، وبين الدّلالة الجمالية، ومما يزيدنا إعجابا بمثل هذه النظرات أنّها وردت في كتاب يتحدّث عن علوم القرآن كلها، وجميع وجوه إعجازه، فهذا مما يبعث على التقدير، فالنظرات هنا تدلّ على عمق أدبي. وهنالك صيغ تقوم برسم المشاهد بأدقّ طريقة فنية، وقد نظر الدكتور عتر إلى قوله تعالى: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى «2»، وقال: «عبّرت الآية باسم الفاعل «فالق»، واسم الفاعل ينطبق على الفاعل حال تلبّسه بالفعل، وبذلك قوّى القرآن الصّورة، وأدناها منّا، ونبّه الإحساس لصورة الفلق، وهي صورة موحية مؤدّية جعلت نظرنا يثقب الأرض إلى جوفها يشهد أعجوبة فلق النّواة والحبّة عن حياة جديدة» «3». ولدى العودة إلى بني إسرائيل في القرآن نقرأ قوله عزّ وجلّ على لسان فرعون، وهو في قمة غطرسته بعد اتباع السحرة لموسى عليه السلام: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى «4». فالغضب يتجلّى في الفعل مشدّد العين «أقطّعنّ» و «أصلّبنّكم»، كما تضيف نون التوكيد معنى الشّدة، وثمّة نبرة قوية في الوقوف على الميم الساكنة ثلاث مرات، وفي الوقوف على الباء الساكنة في الكلمة الأخيرة «أبقى»، وكلّ هذا يساعد على تجسيم الغضب، وشدّة الوعيد. وتظهر أهمية صيغة المبالغة من اسم الفاعل في قوله عزّ وجلّ عن اليهود: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «5»، مما يدلّ على قوة فعل التنفيذ.

_ (1) عتر د. نور الدين، القرآن والدراسات الأدبية: 278. (2) سورة الأنعام، الآية: 95. (3) عتر د. نور الدين، القرآن والدراسات الأدبية: 325. (4) سورة طه، الآية: 71. (5) سورة المائدة، الآية: 42.

- إنصاف القدامى:

ويمكن ان نتلمّس معاني القوة في شواهد كثيرة مثل قوله تعالى: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ «1»، إنه يظهر نعمته على قريش، فيؤثر فعل «يتخطّف» لا «يخطف»، ففيه زيادة التاء والتشديد، بالإضافة إلى اختيار فعل الخطف الذي يفيد قوة المعتدي وبطشه، وبالمقابل يفيد سهولة خطف المعتدى عليه، وذلك لتظهر جليّة رحمة الله وعنايته بهم. - إنصاف القدامى: لا يحقّ لباحث معاصر أن يسفّه القدامى، وينظر إلى جهودهم من خلال نظريات حديثة في النقد، ويجب أن ننبّه إلى أنهم لم يكونوا مقصّرين في مجال الإحساس بجمال الصيغة، فقد أوردنا بعضا من تأملاتهم. والحقّ أن جمال الصيغة لا يمكن أن يخفى على الدارس القديم، إذ يتمتع بمقدرة لغوية فائقة، فقد لمسوا فيها أسلوب الإيجاز، وتصوير الحركة المرئية، ومساعدة الصيغة على إكمال الصورة البصرية، ومساعدتها على كشف إيحاءات فنية رائعة، كما يتضح في فصول أخرى من البحث. إن الباحث القديم يحكّم المفهوم اللغوي، ثم يحكّم ذوقه في كشف ظلال الصيغة، وذلك من غير توهّم أو تقوّل، فإذا ردّنا إلى اللغة اقتنعنا بمعياره، وإذا ردّنا إلى الإيحاء النفسي وفق التجربة الإنسانية وجدنا الأثر في النفس قائما. وإن من الإجحاف أن ننكر ما جهد القدامى فيه كما يقول أحد المعاصرين: «إذا صحت هذه الملاحظة، وصحّ أن تفاعلات التشكيل الصرفي تتداخل مع تفاعلات المعاني والإيقاع، فإن الموقف النقدي القديم يحتاج إلى تعديل أساسي، أو يبدو غير مقنع». وهو يريد أن يقول: إن القدامى لم يربطوا بين التشكيل الداخلي وبين تغيرات المعنى، وكأنما لم يسهب أسلافنا في باب «زيادة المعنى لزيادة المبنى»، ولم يقدم الزمخشري- مثلا- خصوصية صيغة ما، وملاءمتها للمعنى المطلوب، ولم تقتصر الصيغة على معنى الزيادة كما جاء في الكشاف، فإذا

_ (1) سورة الأنفال، الآية: 26.

عدنا إلى البلاغة القرآنية وجدنا اهتماما كبيرا بجمال التشكيل، ومن هذه البلاغة استمد الموقف النقدي أساسه، إنما كانت نظرات القدامى مغلّفة بمصطلحاتهم الخاصة، وجاءت هذه النظرات مجملة بعض الشيء أحيانا، وهذا لم يمنع من تفهّمنا لها، وتبجيل أصحابها.

2 - الدلائل التهذيبية في مفردات القرآن

2 - الدلائل التهذيبية في مفردات القرآن لقد تنبّه الدارسون القدامى إلى جمالية التهذيب في أسلوب القرآن، وبذلوا الجهد في التماس رفعة البيان القرآني فيها، وقد عقدوا لها فصولا بأسماء مختلفة في مصنفاتهم، فكان طابع التهذيب الذي هو موضوع هذا البحث يقع تحت عناوين كثيرة مثل «الإشارة» أو «التعريض» أو «التلويح» أو الكناية أو غير هذا. بيد أن الذي يجمع هذه المصطلحات في سلك واحد هو التلويح عن المعنى في مقام لا يناسب فيه التصريح، وذلك لأسباب واردة في السياق، وإن كان التصريح مطلوبا في مواضع أخرى بحيث لا يغني عنه تلويح. وتعود أهمية هذه الدراسة إلى تبيين وجه من وجوه الإعجاز البياني، فلا شكّ أنّ طابع التهذيب يدل على تمكّن من الفروق اللغوية، بحيث تختار كلمة مناسبة، تومئ بظلالها إلى المعنى، وهذا يدلّ على النّهوض بالنفس البشرية، وإبعادها عن الابتذال، لأنّ الحياة السوية مطلب القرآن الكريم. وتنقسم فكرة هذا البحث إلى وسائل التهذيب مما يخصّ المرأة، أو العلاقة بين الرجل والمرأة، وإلى أمور عامة حياتية جنح فيها البيان القرآني إلى الرمز والإيجاز بغية المحافظة على سموّ الخطاب. وسوف نمرّ بنماذج من لمحات الدارسين: قدامى ومحدثين، ولن نشغل بدقائق وتفصيلات حول التسمية قاصدين لباب الفكرة، وتوضيح هذه الجمالية من خلال جهود الدارسين. - في أمور النساء: كثيرة هي الإيماءات التهذيبية الخاصة بالمعنى الجنسي، أو العلاقة الحسية بين الرجل والمرأة، ونبدأ الفقرة بكشّاف الزمخشري تاركين من سبقه، لأنه كان أكثر تعمّقا من سابقيه.

لقد تنبّه الزمخشري إلى جمال المسّ في الآية الكريمة: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «1» حكاية عن مريم عليها السلام، إذ يقول: «جعل المسّ عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه كقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «2» وأَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ «3» والزنى ليس كذلك، وإنما يقال فيه: فجر فيها، وخبث فيها، وما أشبه ذلك، وليس بقمين أن تراعى فيه الكنايات والآداب» «4». وهو يرى معمّما نظرته أن العلاقة الشرعية بين الرجل والمراة يكنّى عنها بالمسّ والملامسة، وليس يكون هذا في الزّنى، ويجب أن نضيف أنّ البيان القرآني لم يجنح إلى هذه الجمالية معتمدا على الفروق اللغوية، فيصرّح في الزّنى، ويلمّح في النكاح المشروع، فقد عبّر القرآن عن أبشع الزنى الذي ابتلي به قوم لوط بكلمة تتّسم بالظّلال، فنقرأ على لسانهم: ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ «5»، فعبّرت كلمة «حق» عن قمة الهياج عندهم، والكلمة على أخلاقيتها التي تطفىء معنى الشّبق، وتزيحه من التصور، تدلّ على ثقة هؤلاء الماجنين بأنفسهم وإمعانهم في الضلال، فهم أصحاب حقّ كما يرون. ونقرأ في سورة يوسف الآية: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ «6» تلك السورة التي تعد منهجا أخلاقيا، ودرسا ربانيا في الصّبر على البلاء والشّهوة، وهذان الفعلان: «همّت، همّ» يختزنان بهدف الأدب كلّ تفاصيل الحادثة، وإلى هذا أشار أبو السعود في تفسيره قائلا: «ولعلّها تصدّت هنالك لأفعال أخر، من بسط يدها إليه، وقصد المعانقة، وغير ذلك مما يضطره عليه السلام إلى الهروب نحو الباب .. ولقد أشير إلى تباينها حيث لم يلزّا في قرن واحد من التعبير بأن قيل: ولقد همّا بالمخالطة، وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النّير على ما هو عليه في حدّ ذاته أقبح

_ (1) سورة مريم، الآية: 20. (2) سورة الأحزاب، الآية: 49. (3) سورة النساء، الآية: 43. (4) الزمخشري، محمود بن عمر الكشاف: 3/ 638. (5) سورة هود، الآية: 79. (6) سورة يوسف، الآية: 24.

ما يكون «1». فقد اكتفى البيان القرآني بالهمّة والقصد، فما قرأنا انكشاف صدر، أو نزع ثياب، أو تأوّهات، كما هي الحال في كثير من الأدب الروائي، مما يثير الغرائز الحيوانية، ويستفزّ النوازع المريضة. وضّح القدامى هذه الجمالية في معرض حديثهم عن الأسلوب الكنائي في القرآن، ونحن إذا قلّبنا صفحات كتبهم، وطالعنا أبواب الكناية نجد الشواهد الرائعة التي دلّت على ذوق وتدبّر. وعلى سبيل المثال لا الحصر نورد شاهدا يذكره الزّركشي في باب الكناية، وقد نقله السيوطي في باب الكناية أيضا مع غيره من الشواهد التي ذكرها سلفه، ولتوضيح هذا نذكر من الوقفات التي تفرد بها الزركشي ما كان في تأمل الآية: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ «2»، إذ يقول: ومن عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللّمس والملامسة والرّفث، والدخول والنكاح ونحوهن، فكنى بالمباشرة عن الجماع، لما فيه من التقاء البشرتين» «3». فكأن الكناية هنا استلزمت أخذ جزء بسيط من المكنّى عنه، ونجد أن الزركشي يعوّل على الأصل اللغوي، ونظير ما جاء في تفسيره لمعنى الفرج، إذ يقول حول الآيتين: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «4»، والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ «5»: «أخطأ من توهّم هنا الفرج الحقيقي، وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها، وهي كناية عن فرج القميص، أي لم يعلق ثوبها ريبة، فهي طاهرة الأثواب، وفروج القميص أربعة: الكمّان، والأعلى والأسفل، وليس

_ (1) أبو السعود العمادي، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 4/ 266. ولم يلزّا: لم يلتصقا، والقرن: الحبل يجمع به البعيران. (2) سورة البقرة، الآية: 187. (3) الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان: 2/ 33، وانظر السيوطي: جلال الدين الإتقان: 2/ 102. (4) سورة الأنبياء، الآية: 91. (5) سورة المؤمنون، الآية: 5.

- نظرة جديدة:

المراد هذا، فإنّ القرآن أنزه معنى، وألطف إشارة» «1». وكأنه ينظر إلى قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ «2» الذي يعني تطهير الجسد، وعلى هذا فقد دلنا في المكان نفسه على لطيف العبارة في قوله عزّ وجلّ: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا «3» فقد كنّى التعبير القرآني عن الفروج الحقيقية بالجلود، وكذلك الآية: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ «4» التي فسّرها على أنها كناية عن الزّناة، وقد نقل السيوطي شواهد الزركشي مع تعليقاته مختصرة في «إتقانه» «5»، وهذا لا يدلّ على تحجّر فكر، بل على إجلال القدامى لجهود أسلافهم. وقد اقتصرنا على هذه النّبذة اليسيرة من جهود العلماء خشية سرد ما هو مكرر، وهذا لا يدلّ على جفافهم، وإنما شغلوا بالصورة البصرية فاهتموا بالتشبيه والاستعارة، وقد أبرزنا بعضا من لمحاتهم الفنية في مكانها من البحث. - نظرة جديدة: إن مسلك اتكاء اللاحق على السابق خلّف تكرارا كثيرا، وتجاوزا لبعض المفردات، كما في قوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ «6»، فإن من الحق والترفّع أن تذكر طهارة النساء في الجنة، لأن كثرتهن أبعد ما تكون عن كونهنّ حلّا لكلّ رجل، فلكل مؤمن زوجاته الخاصات، والتطهير هنا يدلّ على رقيّ طبيعة المرأة في الجنة عن الحيض والنّفاس، وعلى طهارة الروح أيضا. وكذلك في الآية التي تحدّد تنزيه الخالق، إذ يقول عزّ وجلّ: أَنَّى يَكُونُ

_ (1) الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان: 2/ 318. (2) سورة المدّثّر، الآية: 4. (3) سورة فصّلت، الآية: 21. (4) سورة النور، الآية: 26. (5) انظر السيوطي، جلال الدين، الإتقان: 2/ 102. (6) سورة البقرة، الآية: 25.

لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ «1» فقد ذكر كلمة «صاحبة» لتدل على المصاحبة المؤقّتة بين الرجل والمرأة في الدنيا، وقصر فترتها، ولله الزّمن المطلق ولم يقل: زوجة، لأنها ربما أوحت إلى النفس بتفاصيل حسية، تبارك وتعالى الله عن هذه الطبائع البشرية. وقد تجلّت السمة الأخلاقية في سورة يوسف في غايتها الكليّة المستمدة من سيرة هذا النبي، وفي انتقاء المفردات المعبرة عن محنته، فعلى لسان زوجة الملك يقول تعالى: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ «2» ويتضح طابع التهذيب والسّمو في الاكتفاء بظلال كلمة «يفعل» وكلمة «ما آمره» بهاتين الكلمتين تم التعبير عن شهوة عارمة، وهذا يتمشّى وطابع الدين الإسلامي الذي يدعو إلى تهذيب الغرائز وتوجيهها، والحدّ من فاعليّتها، وليس قتلها، وكذلك يكمن هدف القصة القرآنية في الموعظة والاعتبار، ولا حاجة لتصوير يخدم الفنّ لأجل الفنّ. ولا بأس أن نتأمل جمال التعبير عن الجماع في قوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، لِيَسْكُنَ إِلَيْها، فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً «3»، وفيه نؤكد أنّ التعبير أبعد كلمة جامعها أو ضاجعها، وإذا أردنا أن نعود إلى الأصل اللغوي، كما صنع الزركشي نصل إلى دلالات رفيعة، فالكلمة تعني التّغطية، فكأن الرجل غطاء للمرأة، وهذا يدل على رضاها التام، فلا ترى غيره، وهذا هو المثل الأعلى للحبّ الزّوجي والإنجاب وعمارة الأرض، والسكينة شرط أساسي في حياة الرجل والمرأة، لذلك ذكر الراحة النفسية أولا. ولم ينظر المحدثون إلى جمال الرموز في الأمور الجنسية، وكأنما وجدوا ما هو كفاية في كتب سلفهم، وقد قدّموا أفكارا جديدة في المجالات الأخرى من الحياة. وهنالك كتاب «قصص القرآن» لأحمد موسى سالم يقول فيه عن أمور

_ (1) سورة الأنعام، الآية: 101. (2) سورة يوسف، الآية: 32. (3) سورة الأعراف، الآية: 189.

- جوانب تهذيبية عامة:

المرأة في القرآن: «ذكر القرآن من النساء الصالحات أمّ مريم، وذلك بنسبتها إلى زوجها، في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي «1»، وكذلك ذكر القرآن من الصالحات منسوبة إلى زوجها امرأة فرعون، وأما غير الصالحات من النساء، فقد جاء ذكرهن كذلك منسوبات إلى أزواجهن في قصص القرآن» «2». وقد فسر في الموضع نفسه ذكر اسم مريم عليها السلام، لأنها تنفرد بحالة خاصة، فهي أمّ من غير زوج، وقصّة حملها خرق لنواميس الطبيعة البشرية. وهذا الذي رآه الباحث موجود مثلا لدى السيوطي تحت عنوان «المبهمات» «3»، وذكر فيه أسماء النساء والمنافقين والصحابة فيما ينتمي إلى أسباب النزول. ويبدو أن الباحث يرجّح الجانب الفني، فإضافة إلى الأدب في عدم ذكر أسماء النّساء، فإن القضية تدور حول نموذج أبطال القصة، فمن هنا يجيء ذكرهن منسوبات طبيعيا، إذ المهمّ أن يستمر الحدث حتى مرحلة الاعتبار، والأسماء لا تغيّر من طبيعة الشخصيات. - جوانب تهذيبية عامة: - تأملات الزمخشري: خير من نبدأ به هو الزمخشري، ذلك المفسّر الذي يكشف النّقاب عن إيحاءات المفردة وظلالها النفسية، يقول عزّ وجلّ: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ «4»، فيستخدم أسلوب الفنقلة «5» على جاري عادته في تفسيره، ويقول: «فإن قلت: فالإصبع التي تسدّ بها الأذن إصبع خاصة، فلم

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 35. (2) سالم، أحمد موسى، 1978، قصص القرآن في مواجهة الرواية والمسرح، ط/ 1، دار الجيل، بيروت، ص/ 120. (3) انظر السيوطي، جلال الدين، الإتقان، 2/ 314 - 329. (4) سورة البقرة، الآية: 19. (5) الفنقلة: تعني عبارة (فإن قلت: قلت).

ذكر العامّ دون الخاصّ، قلت: لأن السّبّابة فعّالة من السبّ، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ألا ترى أنهم قد استبشعوها، فكنوا عنها بالمسبّحة والسّبّاحة والمهلّلة والدّعّاءة، فإن قلت: فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت: هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد» «1». لقد رأى في ذكر كلمة «سبابة» مدعاة لتذكّر فعل السب، وهو محرّم في القرآن، يقول تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «2»، فلا يصبح اسمه الجليل ممتهنا على الألسنة. أما من تلا الزمخشري فقد فسّر وجود كلمة الأصابع على سبيل المجاز اللغوي، أي: إطلاق الكل على الجزء «3» من غير تنبيه على رفعة الأسلوب. فنحن نقع على هذا الشاهد إلى جانب شواهد أخرى حول المجاز مع شيء من التعليق المقتضب، ولا يعارض موقفهم تحليل الزمخشري، بل يكمله، فالمعنى لديهم المبالغة في إدخال غير المعتاد، لأن المقصود إدخال أطراف الأنامل، وإلى هذا المعنى الرفيع يشير أبو السّعود قائلا: إن إيراد الأصابع يدلّ على الأنامل للإشباع في بيان سدّها باعتبار الذات، كأنهم سدّوها بجملتها، لا بأناملها فحسب كما هو المعتاد، ويجوز أن يكون هذا إيحاء إلى كمال حيرتهم، وفرط دهشتهم، وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارح على النّهج المعتاد، وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتاد، أعني السّبّابة، وقيل: ذلك لرعاية الأدب» «4». وهكذا نجد لدقة الاختيار هذه عند أبي السعود وجوها جمالية متعددة، وتعددية التعليل هذه هي أسلوب مطّرد في تفسيره النفيس، مما يوضح رجاحة عقل، وفتح منافذ عريضة أمام التأمل الفني، وكثيرا ما أضاف إلى لمحات الزمخشري محاسن أخرى، وهو هنا يشير إلى الحالة النفسية، وإلى التأدب

_ (1) الزمخشري، الكشاف: 1/ 217، وانظر تفسير النسفي: 1/ 27. (2) سورة الأنعام، الآية: 108. (3) انظر مثلا: الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان: 2/ 279، والسيوطي، جلال الدين، الإتقان: 2/ 78. (4) أبو السعود العمادي، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 1/ 53.

معا، بدلا من الاكتفاء بالقول: مجاز لغوي علاقته الكليّة. ومن هذه النظرات التي نجدها في «الكشاف» التعبير عن أسلوب القرآن في انتقاء الكلمات المناسبة للمواقف، فقد رأى الزمخشري في الآية: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً «1» جمال تخصيص المؤمنين بالفعل «حشر»، وتخصيص الكفار بفعل «ساق» إذ يقول: «ذكر المتقون بلفظ التبجيل، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته، وخصّهم برضوانه وكرامته، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين الكرامة عندهم، وذكر الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف، كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء» «2». ويبدو أنه يريد تخصيص نوع من الأفعال في موقف موازنة فقط، أي عند ما يذكر مصير المؤمنين والكفار معا في مكان واحد، فجعل الحشر للمؤمنين والسوق للكفار. والقرآن يسند فعل «ساق» إلى المؤمنين في قوله تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً «3» فالفعل هنا مجرّد الجمع، وهنالك يقترب من معنى جمع البهائم، وكذلك لم يخصص فعل «حشر» للمؤمنين، فهو يسند في القرآن إلى الكفار والشياطين وسحرة فرعون، وهذا لا يعني عدم إحاطة الزمخشري، بل يدل على تذوقه الموازنة بين مصيرين في مقام تقصد فيه الموازنة. ومن هذه اللفتات الجيدة التي نبّهته إليها الموازنة ما جاء حول الآية الكريمة: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ «4»، فقد جاء في كشّافه: «فإن قلت: لم سمّى ظفر المسلمين فتحا، وظفر الكافرين نصيبا؟ قلت: تعظيما لشأن المسلمين، وتخسيسا لحظ الكافرين، لأن ظفر الكافرين، فما هو إلا حظ دنيء

_ (1) سورة مريم، الآيتان: 85 - 86. (2) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: 2/ 524، وانظر تفسير النسفي: 3/ 45. (3) سورة الزّمر، الآية: 71. (4) سورة النساء، الآية: 141.

- ابن أبي الإصبع:

ولمظة «1» من الدنيا يصيبونها» «2». يحاول الزمخشري جاهدا أن يقنعنا بجمال المفردة، وذلك بمعطيات الذوق السليم، والمنطق، والاستعمال الصحيح للغتنا، وهذا يطّرد في كل جوانب جمال المفردة، ولا يقتصر على جانب التهذيب. - ابن أبي الإصبع: ونصل إلى فترة التقعيد البلاغي، كما هي الحال عند ابن الإصبع المصري «3» الذي تحدّث عن البلاغة القرآنية في كتابيه: «بديع القرآن» و «تحرير التحبير»، فنجده يرصد هذه الجمالية من خلال فنّ الكناية يقول: «الكناية هي عبارة تعبير المتكلم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن، وعن النّجس بالطاهر، وعن الفاحش بالعفيف، هذا إذا قصد المتكلم نزاهة كلامه عن العيب، وقد يقصده بالكناية عن ذلك، وهو أن يعبّر عن الصّعب بالسهل، وعن البسط بالإيجاز، أو يأتي للتّعمية والإلغاز، أو للستر والصيانة، فمما جاء منها للتعبير عن النّجس بالطاهر قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ «4»، كناية عن الحدث، لأنه ملازم أكل الطعام وقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «5» لأنه المنخفض من الأرض الذي يقصد لقضاء الحاجة، فسمّي الحدث باسم موضعه «6».

_ (1) اللمظة: اليسير من الشيء تأخذه بالإصبع. (2) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: 1/ 573، وانظر تفسير النسفي: 1/ 257. (3) هو عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن أبي الإصبع العدواني المصري، شاعر من العلماء بالأدب، مولده بمصر، ووفاته فيها سنة 654 هـ له تصانيف حسنة مثل «بديع القرآن» و «تحرير التحبير» و «الجواهر السوانح في سرائر القرائح» و «البرهان في إعجاز القرآن» انظر الأعلام: 4/ 156. (4) سورة المائدة، الآية: 75. (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) ابن أبي الإصبع، عبد العظيم بن عبد الواحد، بديع القرآن، وانظر كتابه تحرير التحبير، ص/ 418.

- مع المحدثين:

وهو يرى أن السّتر واحد من أسباب هذه الكنايات، ويبدو في كلامه أثر العصر جليا، لكنه يقدم تعريفا وافيا هو بمنزلة تنظير فني، ويتجلى هذا الأثر في ذكر مصطلحات مثل الإلغاز والتعمية التي طالما أولع بها علماء عصره، لذلك نجده يفسّر هذه الجمالية من خلال صيغة التبويب والاقتضاب ونقرأ شواهد متوالية من غير تعليق أحيانا، وكأن الهدف تعليمي محض. ومن المواضع التي أحسن فيها ودقّق النظر ما جاء حول الآية: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ «1»، إذ يقول: «الرّكون إلى الظلم دون فعل الظّالم نفسه، ومسّ النار دون إحراقها والدخول فيها، والعدل يقتضي أن يكون العقاب على قدر الذنب» «2». وهو ينطلق من خلال الحسّ اللغوي بالفروق، فمقتضى الحال يتطلّب المسّ، لأن المخاطبين مؤمنون، وقرين هذا قوله عزّ وجلّ في سورة الأنفال: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «3»، وذلك لقبول الصّحابة بفداء الأسرى، وتخصّص مفردات الإحراق التام والصديد، والنار في البطون، والمقامع، والملائكة الغلاظ للكافرين والمجرمين، فالمسّ يدلّ على الملاطفة في التنبيه، ويعدّ ما ذكره ابن أبي الإصبع بادرة فنية تستند إلى مقياس العدل في العقاب. - مع المحدثين: لقد دعا القرآن إلى تطهير الجسد، كما دعا إلى تطهير الروح من درن الدنيا وخبائثها، يقول تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «4»، فكلمة «رجس» تنم على إبعاد المؤمن عن أخلاقية دنيئة منشؤها معاقرة الخمر، واتباع الأصنام، ولعب القمار، وهذه الكلمة من المفردات التي لم يذكرها القدامى.

_ (1) سورة هود، الآية: 113. (2) ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 418. (3) سورة الأنفال، الآية: 68. (4) سورة المائدة، الآية: 90.

وعلى سبيل المثال لا الحصر كان التعبير عن فظائع الكافرين بكلمة «آسفونا» في قوله عز وجل: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «1» وهي لا تتصل بالكناية أو التّعريض أو الإلغاز مما ذكر البلاغيون، وإنما هي كلمة تردّ على كلّ شنائع الكفار من استكبار واستهزاء وعبادة أصنام وقتل وشذوذ، وهي كلمة أليق بالذات الإلهية التي تقدم الرحمة على الغضب. ومن هذا قوله تعالى في تعليم المؤمنين آداب الزيارة: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ، ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ «2»، لقد اختصر البيان القرآني كلّ ما يمكن أن يحدث في عدم الاستئذان من قبائح ومنكرات بكلمة «أزكى»، ومن اشتقاقات المادة «الزكاة» التي تطهّر النفوس، وتحدّ من جبروتها. إن ما نقع عليه في كتب المحدثين يختلف عن منهج القدامى، لأن المحدثين لا يعنون بجلاء المصطلح البلاغي في سياق تأملهم الفني، بل يعمّقون الإحساس في تملّي الجمال القرآني، ولا بأس أن نورد نبذة مما لدى المحدثين، ومن هؤلاء محمد عبد الله درّاز الذي تأمل بعض آيات سورة البقرة، وراح يفسّرها تفسيرا أدبيا، وكانت الآيات تتحدث عن بني إسرائيل، فتذكر النّعمة، ثم تذكر سفاهتهم مع موسى عليه السلام، وعبادتهم العجل يقول دراز: انظر إليه بعد أن سجّل على بني إسرائيل أفحش الفحش، وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبّيهم على أوامر الله، فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى إن هذا ظلم، وفي الثانية بِئْسَمَا «3»، أذلك كلّ ما قابل به هذه الشّناعات، نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا» «4». ولا يصل بنا إجلالنا لمثل هذا التحليل إلى الإجحاف بالقدامى، فإننا على الأقل نحسّ نفس الزمخشري في نظرة درّاز.

_ (1) سورة الزّخرف، الآية: 55. (2) سورة النور، الآية: 28. (3) سورة البقرة، الآية: 90. (4) دراز، د. محمد عبد الله، النبأ العظيم، ص/ 121.

ويمكن أن نضيف من هذه الكلمات على شاهده في الآيات نفسها أَفَلا تَعْقِلُونَ «1» وعَفَوْنا عَنْكُمْ «2» مما يدل على لطف الخطاب ورفعة مستواه، وعلى رحمة الربوبية. وقد حاولت الباحثة عائشة عبد الرحمن في كتابيها «التفسير البياني» و «الإعجاز البياني للقرآن» أن تثبت أن حصول الفواصل على الشكل الموجود ليس مراعاة موسيقية فحسب، بل موافقة للمعنى المطلوب قبل حلاوة النّغمة، وتقف عند الآية الكريمة: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «3» فتقول: «ويبقى القول بأن الحذف- في فعل قلى- لدلالة ما قبله من المحذوف، وتقتضيه حساسية معنوية بالغة الدقة في اللّطف والإيناس، هي تحاشي خطابه تعالى لحبيبه المصطفى في مقام الإيناس: ما قلاك، لما في القلى من الطرد والإبعاد، وشدّة البغض، أما التّوديع فلا شيء فيه من ذلك، ولعلّ الحسّ اللغوي فيه يؤذن بالفراق على كره مع رجاء العودة» «4». فهي ترى أن «قلى» لم تنزل هكذا مراعاة للفواصل الأخرى: «ضحى، سجى، الأولى»، فتحذف كاف الخطاب، والحق أنها توصلت إلى كشف ميزات فنية متنوعة نتيجة محاولتها الأدبية في مسألة تمكن الفاصلة من المعنى، بيد أنها لم تتحدث إلا عن بعض السور القصار، وهي تنطلق من المعين العربي، أي إن معيارها لغوي بشكل أكبر، ولولا جزئية فكرتنا لوجدنا عندها مادة وفيرة. وقد قدم أحمد موسى سالم كما أسلفنا دراسة فريدة لشخصيات القصة القرآنية، فحلّل الشخصيات، وقسّمها إلى خيّرة وشرّيرة، ورجال ونساء، وأصيلة وثانوية، ورأى أن من دواعي الأدب أن يسكت القرآن عن ذكر أسماء الطّغاة، ويقول: «كيف يكون لهؤلاء الأشرار الذين ليسوا في هذه الحياة إلا الظّلّ المنحسر، والوهم الزائل، خلود بأسمائهم في كتاب الله، لم نعرف اسم

_ (1) سورة البقرة، الآية: 44. (2) سورة البقرة، الآية: 52. (3) سورة الضحى، الآية: 3. (4) عبد الرحمن د. عائشة، التفسير البياني: 1/ 35 - 36.

فرعون موسى الذي لم يحمل أكثر من لقب طغيانه، وهكذا لم نعرف اسم ذلك الملك الذي رأى في مصر سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ «1»، في قصة يوسف، كما لم نعرف اسم ذلك الملك الذي كان يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً «2» في قصة موسى وصاحبه «3». ولم يقتصر هذا على القصة، فقد ذكر أبو لهب بلقبه، واسمه عبد العزّى وهو طاغية، وكانت سورة المسد إثباتا لاستمراره في الكفر، واللّقب يذكّر بالنار التي تنتظره يوم القيامة. والقرآن يتجاوز أشياء لا فائدة من سردها في القصة التي كان منهجها تربويا في كتابنا العظيم، فقد كفّ عن ذكر أسماء الصالحين، فلا نعرف اسم صاحب موسى عليه الصلاة والسلام، ولا اسم من دافع عنه كما جاء في الآية: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «4». فيبدو أنّ الأمر أعلق بالجانب الفني منه بالسمة الخلقية، فالقصد من القصة القرآنية الموعظة، وعلى المؤمن أن يتّخذ نماذج منها تكون بمنزلة مرشد له في الحياة، ففرعون نموذج الشّر والطغيان، وكلّ شرّير فرعون زمانه، وكلّ مؤمن هو يوسف في عفّته، وأيوب في صبره، وسليمان في حكمته. ويمكن أن نقع على سلبية ذكر الأسماء في الأساطير اليونانية الواردة في الإلياذة مثلا، فهناك حشد من الأسماء، إضافة إلى حشد من الحوادث تمثّل حشوا فارغا. وأخيرا على الرغم من جهود القدامى التي كانت مفاتيح لنظرات المحدثين رغم ثقافتهم المتقدمة في الأدب والفنّ يظلّ القرآن معينا لا ينضب لمن يرهف الحسّ، ويتسلّح بالذوق الرفيع والتدبر العميق. وقد نزل القرآن لينهض بالإنسان إلى أسمى المراتب، فليس من الغريب أن

_ (1) سورة يوسف، الآية: 43. (2) سورة الكهف، الآية: 79. (3) سالم، أحمد موسى، قصص القرآن، ص/ 218 - 219. (4) سورة القصص، الآية: 20.

يشارك الأسلوب في إبراز هذه الفكرة، فجاء الخطاب الإلهي ساميا يدعو إلى التهذيب، ويتّسم بالاحتشام والرّفعة، وقد تبين لنا في المفردات التي مررنا بها، أنّ البيان الإلهي يدلّ على خبرة الصانع بما صنع، أي اطلاع الخالق على طبيعة النفس البشرية ومواءمتها في الخطاب.

3 - سمة الاختزان في مفردات القرآن

3 - سمة الاختزان في مفردات القرآن إنّ نظرة الباحث في آيات القرآن توحي له بأن الإيجاز مناط السّور المكية، وإن الإطناب أو دقّة التفصيل مناط السّور المدنية، ذلك لأن المرحلة المدنية من نزول القرآن مرحلة تشريع، فتطلّب الأمر بسط الأمور الفقهيّة للمؤمنين، كما هي الحال في سورة البقرة والنّساء والنّور، خلافا لمضامين السّور المكية، فهي تدور حول فكرة التّوحيد، وأمور الغيب والترغيب في وصف الجنّة، والتّرهيب في وصف أهوال النار. ومن هذا القبيل ما لفت الجاحظ إليه أنظارنا، إذ وجد أن الإيجاز والإطناب من حق ملاءمة المقام، فهو يقول: «ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل، أو حكى عنهم جعله مبسوطا، وزاد في الكلام» «1». وهو يرمي إلى تفوّق العرب على اليهود في مضمار الفصاحة، واشتهارهم بقلّة الألفاظ للمعاني الكثيرة، فإذا كان الإيجاز نتيجة للموضوع، فإن النظرة المتفحصة في الآيات القرآنية تؤكّد أن هناك إيجازا أو اختزانا من نوع آخر، وهو يتعلّق بجزئيات مكوّنة للموضوع، ألا وهو اختزان المعاني بمفردات معيّنة، وذلك يطّرد في جميع المواضيع القرآنية، ولا يقتصر على موضوع مخاطبة العرب. وإننا لنجد الغيبيات وجوانب التوحيد في السّور المدنية، كما نجد وصف الجنة والنار، وكذلك نقرأ مفردات مدنية النزول أغنت عن عبارات مطوّلة، وإن كان الموضوع فقهيا يتطلّب التفصيل. والقرآن الكريم من جهة أسلوبه المعجز نصّ أدبي يخلو من حواشي الكلام، ومع هذا وافق المنطق والطّبع البشري، وواءم كلّ العصور في تشريعاته، وهذا هو معنى الإحكام والتفصيل كما نصّت الآيات مثل قوله

_ (1) الجاحظ، الحيوان: 1/ 94.

عز وجل: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «1»، فمن الطبيعي أن يتحلّى هذا النص الأدبي بما هو مقرّر في فن الأدب الراقي، لذلك يجنح البيان القرآني إلى اختزان المعاني إلى حد مرض لا يصل بنا إلى التعتيم. إن الإيجاز سمة الأدب الرفيع، ويلحظ في الشعر بشكل جليّ عند استخدام الرموز الموحية، وفي هذا يقول «لاسل آبر كرمبي»: «فن الأدب فنّ استخدام وسائل محدودة لتجارب غير محدودة، فكان لا بدّ للفنان الأديب من أن يعرف كيف يجمع في فنه كل ما احتوته الألفاظ من قوّة التعبير والتصوير» «2». فلا بدّ للأدب الرفيع من الجنوح إلى الإيماء، ومن ثمّ تتفاعل النفس مع المعاني العريضة التي يكتنفها اللفظ، وكأنه نواة لكل ما يدور من معان وتفصيلات وظلال نفسية. ويمكن أن تنسب إلى مواد هذه الفقرة شواهد الجانب التهذيبي التي وردت في الفقرة السابقة، ورأينا ألا نضعها هناك مع قرائنها من الشواهد، لنستطيع توضيح سمة الاختزان بجميع وسائله في المفردات. وسوف نبتعد عن اختلاف القدامى في المصطلح، فهذه الجمالية اللغوية موزّعة تحت عناوين الإشارة والكناية والإيجاز والتّلميح والتّلويح والتّعريض، كما أن مفهوم الاختزان هاهنا لا يطابق الإيجاز كما ورد في كتبهم، لأنه يتضمن عندهم الإيجاز في الحذف، كحذف جواب الشرط مثلا، وقد يعني إيجاز الآية بكليتها، وغايتنا الإيجاز في المفردة فقط. وتتناول هذه الفقرة منهج تذوق الدارسين لجمالية الاختزان، وذلك من خلال نماذج نسردها من بطون كتبهم، والجدير بالذكر أننا لا نعنى بالأقوال العامة المبهمة في إيجاز القرآن، لأننا نقصد سرد تطبيقات واضحة قدر الإمكان، تكون هذه التطبيقات في الوقت نفسه مصداقا لمديحهم المجمل، وتحقيقا لوجهة النظر.

_ (1) سورة هود، الآية: 1. (2) كرمبي، لاسل آبر، قواعد النقد، تر: محمد عوض محمد، ص/ 35.

- إشارة الجاحظ:

- إشارة الجاحظ: لعلّ الجاحظ أول من أشار إلى جمالية الاختزان في ألفاظ القرآن، وإن كان التفسير بالمأثور قبله يفصّل معاني الألفاظ، ولا سيما كتاب أبي عبيدة «مجاز القرآن»، بيد أن الجاحظ ينظر إلى هذا الأمر من زاوية فنية بلاغية، فقد جاء في كتابه الحيوان أنّه رصد شواهد كثيرة في كتاب له مفقود اسمه «نظم القرآن»، ويقول: «ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف فضل ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول، والاستعارات، فمنها قوله تعالى حين وصف خمر أهل الجنة: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ «1» وهاتان الكلمتان قد جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا، وقوله عز وجل حين وصف فاكهة أهل الجنة، فقال: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ «2»، جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني» «3». وهكذا تشير الآية الأولى مثلا إلى أن خمر الأرض تسبّب السّكر ثم التنازع والفراق، وكثرة الإحن والشّغب، وفيها ذهاب العقل والمال، فتختصر الكلمتان كلّ ما يمكن أن يحدث من قبائح مادية وروحية نعرفها في عصرنا من جرّاء معاقرة هذه الخمر. والجدير بالذكر أن هذين الشاهدين يردان في معظم مصنّفات الدارسين بعد الجاحظ «4»، وهذا ديدنهم غالبا، إذ كرروا الشواهد مع التعليق، ولهذا سوف نسعى إلى ذكر نماذج متمايزة تمثّل النظرة العامة لديهم، ونبتعد عن تكرارهم. وفي كتاب «تأويل مشكل القرآن» لابن قتيبة، نجد نقولا عن أستاذه الجاحظ، وذلك من غير ذكر اسمه، ومن هذا القبيل ما ورد في باب العصا عند

_ (1) سورة الواقعة، الآية: 19. (2) سورة الواقعة، الآية: 33. (3) الجاحظ، الحيوان: 3/ 86، وانظر: 4/ 278 منه أيضا. (4) انظر مثلا الثعالبي، أبو منصور، عبد الملك بن محمد، 1897، الإعجاز والإيجاز ط/ 1، المطبعة العمومية بمصر، ص/ 10 وانظر ابن قيّم الجوزية، الفوائد، ص/ 135، والسيوطي، الإتقان: 2/ 119.

- الإيجاز عند الرماني والباقلاني:

الجاحظ حول الآية الكريمة: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها «1» فهو يستخدم ألفاظه معيدا إياها: «كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر، والحبّ والثّمر والحطب والعصف واللباس والنار والملح، لأن العيدان والملح من الماء» «2». وأحيانا ينفرد بالنظرة، فيستطيع أن يبرز جمال الاختزان، كما صنع في تأمله في الآية: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ «3»، يقول: «والتعريض في الخطبة أن يقول الرجل للمرأة: إنك والله لجميلة، ولعل الله أن يرزقك بعلا صالحا، وإن النساء لمن حاجتي، هذا وأشباهه من الكلام» «4». فكلمة «عرّضتم» تشمل معاني جمّة تتبادر إلى الذهن، وليته ربط هذه الإشارة بالغائية الأخلاقية في المفردة، فبها ينهج القرآن للمؤمنين منهج السّتر والتأدب في خطبة المرأة المعتدّة، وهي ممنوعة من النكاح، والكلمة توحي بكسر فاعلية اعتراض الرجل للمرأة في هذه الحالة. ولعل البلاغيين استمدوا من هذه المفردة اسم مصطلح التّعريض الذي قيل في تعريفه: «أن نذكر شيئا يدلّ على شيء لم يذكر، وأصله التّلويح عن عرض الشيء» «5». - الإيجاز عند الرماني والباقلاني: يتخذ مفهوم الإيجاز طابعا عاما لدى الرماني، فشواهده تدلنا على جميع أقسام الإيجاز، وهي تشمل المفردات التي ذكرها الجاحظ، فهذا الإيجاز يشمل الحذف كحذف المفعول به وجواب الشرط، واختزال عدد الكلمات، وغير

_ (1) سورة النازعات، الآية: 31. (2) الجاحظ، البيان والتبيين: 3/ 26، وانظر ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص/ 4. (3) سورة البقرة، الآية: 235. (4) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص/ 204. (5) ابن قيّم الجوزية، الفوائد، ص/ 135.

هذا، يقول: «الإيجاز بسلوك الطريق الأقرب دون الأبعد، وإيجاز باعتماد الغرض دون تشعّب، وإظهار الفائدة بما يستحسن دون أن يستقبح، لأن المستقبح ثقيل على النفس، فقد يكون للمعنى طريقان أحدهما أقرب من الآخر، كقولك: تحرّك حركة سريعة في موضع، وأسرع» «1». إنه يعطينا البعد النفسي للاختزان، وينظر إليه بعين الجمال، بيد أنه لا يقدّم شواهد وفيرة، لأن بحثه رسالة، وهو لا يربط الإيجاز بالمفردات شأنه شأن الباقلّاني الذي يرى في الآية: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى، بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً «2» جمال حذف جواب الشرط، فهو إذن إيجاز جمل لا مفردات «3». وبعد الباقلاني يضع أبو منصور الثعالبي كتابه «الإعجاز والإيجاز» الذي مهّد له بفنّ الإيجاز القرآني، إلا أن هذا يقع في أربع صفحات فقط، وهو يقول: «من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبّه على فضل الإعجاز والاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن، وليتأمل علوّه على سائر الكلام، فمن ذلك قوله عزّ ذكره: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «4» استقاموا كلمة واحدة تفصح عن الطاعات كلّها في الائتمار والانزجار «5». إنه يخص المفردة باهتمامه، فهو ينحو منحى الجاحظ، وقد سرد شواهد متلاحقة مما يدلّ على إحاطته وعمق تدبره، وقد حرص على أن الإيجاز في كلمة واحدة، مستخدما كلمة «جمعت» كما كان من الجاحظ. وهو يحاول تبيين العلّة في جمال الكلمة المختزنة كما جاء في تأمله للآية الكريمة: لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ «6» إذ يقول: «فالأمن كلمة واحدة تنبئ

_ (1) الرّمّاني، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 71. (2) سورة الرّعد، الآية: 31. (3) الباقلّاني، إعجاز القرآن، ص/ 90. (4) سورة الأحقاف، الآية: 13. (5) الثّعالبي، عبد الملك بن محمد، الإعجاز والإيجاز، ص/ 10. (6) سورة الأنعام، الآية: 82.

عن خلوص سرورهم من الشوائب كلّها، لأن الأمن إنما هو السلامة من الخوف» فإذا نالوا الأمن بالإطلاق ارتفع الخوف عنهم، وارتفع بارتفاعه المكروه، وحصل السرور المحبوب» «1». وهو يبين طبيعة النفس البشرية التي يوائمها بعد الخوف والحزن، كما في قوله تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «2» فقد قال: «فقد أدرج فيه إقبال كلّ محبوب عليهم، وزوال كلّ مكروه عنهم، ولا شيء أضرّ بالإنسان من الحزن والخوف، لأن الحزن يتولّد من مكروه ماض أو حاضر، والخوف يتولّد من مكروه مستقبل، فإذا اجتمعا على امرئ لم ينتفع بعيشه بل يتبرّم» «3». لقد أشار إلى أسلوب القرآن الذي يقدم مادة لغوية قليلة للدلائل الكثيرة في كلمته «أدرج»، وكلمته التي تتكرر أيضا «كلّ»، ونحن لا نراه يقف على اللغة، بل يحاول أن يبسط جمال الاختزان من خلال واقع البشر، وهكذا شملت كلمتا الخوف والحزن كلّ مراحل حياة الإنسان. وتعدّ وقفات الزمخشري على جمال المفردة كثيرة وغنية المحتوى، وهو يدل على ذوق رفيع ومعرفة لغوية واسعة، ومن هذا تأمله للآية: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «4»، فهو يقول: «فإن قلت: لم عبّر عن الإتيان بالفعل، وأيّ فائدة في تركه إليه؟ قلت: لأنه فعل من الأفعال، تقول: أتيت فلانا، فيقال لك: نعم ما فعلت، والفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصارا ووجازة عن طول المكنّى عنه» «5». فهو يلتفت إلى شمول «تفعلوا»، وكأنه يرى في استعمال الكناية أن كل شيء في التصرفات الإنسانية هو فعل، فهو أعمّ من أفعال أخرى، مثل: أتى أو نظّم أو كتب، ونرى أنّ عموم الفعل يدلّ على منتهى عجزهم عن معارضة القرآن مهما تعدّدت القوى والوسائل البشرية.

_ (1) الثّعالبي، الإعجاز والإيجاز، ص/ 11. (2) سورة البقرة، الآية: 62. (3) الثّعالبي، الإعجاز والإيجاز، ص/ 11. (4) سورة البقرة، الآية: 24. (5) الزمخشري، الكشّاف: 1/ 247، وانظر أبو السعود، إرشاد العقل السليم: 1/ 66.

- الاختزان في الصيغة:

ويضع ابن أبي الإصبع أمثال هذه الشواهد تحت عنوان الإشارة، أي اللفظ القليل للمعاني الكثيرة، ومما يلفت النظر أنه من أعلام القرن السابع الهجري الذي كثر فيه النّقل عن المتقدّمين، وعلى الرغم من هذا يعدّ ما وقع عليه في هذا المجال تفرّدا ودليلا على تذوق وتفهم كبيرين، يقول عن قوله تعالى: وَغِيضَ الْماءُ «1»: «فإنّ غيض الماء يصير إلى انقطاع مادة الماء من نبع الأرض ومطر السماء، ولولا ذلك لما غاض الماء» «2». فقد أغنت الكلمة عن كلمات أخرى لتصوير الحدث، كذلك ما جاء حول الآية الكريمة: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «3» فيدلّ على تعمّق قائلا: «فانظر إلى ما أشارت إليه لفظة «الأمر» من ابتداء نبوة موسى عليه السلام، وخطاب الحقّ له، وإعطائه الآيات البيّنات من إلقاء العصا، لتصير ثعبانا، وإخراج يده بيضاء، وإرساله إلى فرعون، وسؤاله شدّ عضده بأخيه هارون، إلى جميع ما جرى في ذلك المقام، وأمثال هذه المواضع كثيرة إذا تتبّعت خرجت عن حدّ الحصر في الكتاب العزيز» «4». فقد استعيض عن تكرار ذكر الأحداث بهذه المفردة الجامعة، وهذه السمة متواترة في القصة القرآنية، وإننا لنرجح ما جاء لدى الجاحظ والثّعالبي، ولأن المفردات عندهما أغنت عمّا لم يذكر، وهي هنا أغنت عن التّكرار، ويبدو ذكرها أقرب إلى الاعتيادي في الكلام. ويمكن القول إن الدارسين استفادوا بعض الشيء من إشارة الجاحظ إلى إيجاز الكلمات الجامعة في القرآن، وكان في إمكانهم الاعتماد عليها في ذكر كلمات أخرى مع منهج فني متخصص. - الاختزان في الصيغة: وفي هذا المجال لا بدّ من المرور بأهمية الصيغة: صرفية وغير صرفية مما

_ (1) سورة هود، الآية: 44. (2) ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص/ 82. (3) سورة القصص، الآية: 44. (4) ابن أبي الإصبع: بديع القرآن، ص/ 83.

يغني عن مفردات كثيرة أو عن جملة خبيئة في طيّات هذه الصيغة. والحق أن الجرجاني أبدى اهتماما كبيرا بأثر الصيغة، إلا أنّ هذا مرتبط عنده تماما بمسألة النظم، وهو لا يخص المفردة بجمال، لأنه مهتم بالسياق الكلي حسب العلاقات النحوية. إن أول ملاحظة لهذه السمة الفنية نجدها في كتاب «الحيوان» للجاحظ في مكان منه مخصوص لميزات الكلب، فيقف عند الآية: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ «1» إذ يقول: «فاشتقّ لكل صائد وجارح كاسب من باز وصقر وعقاب وفهد وشاهين وزرّق ويؤيؤ وباشق وعناق الأرض من اسم الكلب، وهذا يدلّ على أنه أعمّها نفعا، وأبعدها صيتا وأنبهها ذكرا» «2». فقد استغنى المقام باشتقاق «مكلّبين» من الكلب عن تعداد الكثير من سباع البهائم والطيور. وقرين هذا ما ورد لدى تلميذه ابن قتيبة حول الآية الكريمة: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «3»، إذ يقول: «أي كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي حافر من الدّوابّ» «4». وهو يكتفي بجانب التوضيح اللغوي صنيع الجاحظ في كلمة «مكلّبين»، وقد أسهب في ذكر أشعار وردت فيها كلمة «ذي ظفر» بدلا من أن يقدم شواهد أخرى. ومن هذه الوجهة اللغوية ينطلق الشريف الرضي عند ما يتأمل بعض الصيغ، فلا يضفي على الجانب اللغوي شيئا من الأثر الوجداني، كما جاء في تأمله للآية الكريمة على لسان إبليس: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا «5»، فهو يقول

_ (1) سورة المائدة، الآية: 4. (2) الجاحظ، الحيوان: 2/ 187. (3) سورة الأنعام، الآية: 146. (4) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص/ 116. (5) سورة الإسراء، الآية: 62.

- الاختزان في التهذيب:

عن اشتقاق فعل احتنك: «هو أن يكون الاحتناك هاهنا افتعالا من الحنك، أي لأقودنّهم إلى المعاصي، كما تقاد الدابّة بحنكها غير ممتنعة على قائدها» «1». ولا شك أن الإيجاز الذي تأتّى هنا من الصيغة يناسب نبرة الغضب والتمرد التي تتطلب قلّة العبارات، فالغاضب لا يفصّل كلامه تفصيلا، بل يلقيه قذائف، والكلمة توحي بالمستوى البهيمي لمن يتبع الشيطان وأتباعه، والشريف الرضي مقلّ في هذه التأملات. أما الزمخشري فغالبا ما يربط جمال الصيغة بأهمية التهذيب في الأسلوب القرآني، وهو لا يردد ما سبق من تلميحات، كما أنّه يضيف إلى معرفته النحوية واللغوية شيئا من التذوّق الرفيع، ليفسّر الجمال اللغوي وأثره النفسي. - الاختزان في التهذيب: لا شك أنّ الكلمات التي وردت لغاية التهذيب مالت بغالبيّتها إلى الاختزان، فالقرآن الكريم يذكر مفردات تغني عن التفصيل الذي ربما يجنح إلى تجريح المخاطب، أو إلى ذكر ما هو فاحش رذيل، ومثل هذا ورد في الكنايات. ولنتأمل قوله عز وجل عن مباهج الجنة التي يرغّب بها المؤمنين: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ «2»، فهذه الكلمات تختصر معالم كثيرة ورغائب وفيرة من نساء وطعام وشراب وخضرة، وصيغة التعميم تدلّ على إفساح المجال للخيال، وتصوّر ما قد يخطر على النفس وما ترتاح إليه العين. وقد قال ابن أبي الإصبع في هذه الكلمات: «فألمح إلى كلّ ما تميل النفوس إليه من الشهوات، وتلذّه الأعين من المرئيات، لتعلم أن هذا اللفظ القليل جدا عبّر عن معان كثيرة لا تنحصر عدّا» «3». إذن فقد حصرت هذه الكلمات كل جمال لا يتوقع في عالمنا الدنيوي،

_ (1) الشّريف الرّضيّ، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 202. (2) سورة الزّخرف، الآية: 71. (3) ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 202.

وهو يشتمل على المرئيات والمسموعات مناسبا الحاستين البشريتين اللتين توائمان الحسّ الجمالي. ومثل هذا ما ورد في وصف نساء الجنة، فيعبّر البيان القرآني بالكلمة والكلمتين عن الجمال الشكلي وجمال المضمون الخلقي، ومنه قوله تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ «1»، فعبر بهاتين الكلمتين عن عفافهن وشرفهن وفرحة أزواجهن، وما يتصل بالقناعة والرضا وعدم التطاول، ويكتفي الدارس القديم عادة بالقول: إن هذا من باب الإشارة كما كان من ابن قيم الجوزية «2». وقد حضّ القرآن الكريم على طاعة الوالدين، ومن هذا قوله عز وجل: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «3» فكلمة «أفّ» تشمل ترك التعرض لهما بيسير من الإيلام النفسي فضلا عن كثيره، ولا شك أنّ انتزاع المفردة من عملية حسية هي النّفخ في التراب، وما إلى ذلك، جعلها تصوّر بحسية هذا الموقف، فهي اسم صوت بمعنى أتضجّر، وهي تختزن ما يقال قبلها، وما يقال بعدها من كلمات غير لائقة بمكانة الوالدين السامية، فقد مثّلت الحالة النفسية بحسّيتها. ولنتأمل تصوير الكفار يوم القيامة في قوله عز وجل: خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ «4»، فإن كلمة «خفيّ» تختزن كلّ المعاني النفسية التي يتّسم بها ذلك الذليل، وهي منتزعة من صورة بصرية، وتختزن كلّ تأوّهاته وحنقه على من أضلّه، وقد رأى العذاب، وتوحي بإيجاز رائع بخجلته من خالقه وانكساره. إن الاختزان المتصل بالتهذيب وارد بكثرة في مفردات سرد القصة القرآنية، كما وجدنا في الفقرة السابقة ما جاء في الحديث عن قوم لوط وقصة يوسف عليهما السلام. وكما أن التهذيب لا يقتصر في القرآن على الأمور النسائية، فكذلك

_ (1) سورة الرحمن، الآية: 56. (2) انظر ابن قيّم الجوزيّة، الفوائد، ص/ 125. (3) سورة الإسراء، الآية: 23. (4) سورة الشّورى، الآية: 45.

اختزان التّهذيب، فهناك الكثير من المفردات دلّ عمومها على ملاطفة وحسن خطاب، ومن ذلك إطلاق كلمة «الناس» على المنافقين في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1»، وهي أكثر ما وردت في سورة البقرة، ونجد أنها مرة تعني الكفار، ومرة تعني المنافقين، ومرة تعني اليهود، ومرة تعني بني آدم جميعا، وهي تفيد عموم الرسالة السماوية، فلا عصبية ولا قبلية ولا جنس أو عرق، إلا أنّ عمومها في الحديث عن المنافقين يدلّ على ملاطفة الخالق لهم، واستجلاب قلوبهم، وفي هذا يقول بدوي: «ألا ترى في اختيار كلمة «الناس» وعمومها عدم مجابهة المنافقين بتعيينهم، وفي ذلك ستر عليهم، وإغراء لهم بالإقلاع عن نفاقهم، ذلك أنهم ما داموا لم يعيّنوا من المتوقع أن يصغوا للقرآن» «2». لقد كان في الإمكان ذكر أسماء شخصيات من اليهود والمسلمين الذين كانوا يظهرون الحقّ ويخفون الباطل، ومثل هذا في قوله تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «3» فالكلمة تشير إلى رءوس النفاق ذوي الكلام المعسّل والضمائر الحاقدة، وقوله عز وجل: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ «4»، فهي تعني المشركين الذين يعرفون ملّة إبراهيم عليه السلام، واليهود الذين قرءوا في التوراة عن قبلة النبي الجديد، وفي هذا غاية الأدب من حيث لا يهان من كان على الدين، ويستّر على أخطائهم، ومثل هذا يقع عند الزركشي والسيوطي تحت عنوان «المبهمات» «5»، فقد ذكرا أسماء من نزلت فيهم مثل هذه الآيات. وقد تواتر هذا في الدراسات الإسلامية في عصرنا، فكثيرا ما يعبّر الباحث في الفكر الإسلامي عن المتطرفين في الدّين، أو عن أصحاب الفكر المعارض للإسلام، وكل من يعادي الإسلام بكلمة «الناس»، وهذا يدلّ على تأدب، ويلحق به أيضا عدم ذكر اسم الشخص الذي ينال من الإسلام أو يغالي فيه.

_ (1) سورة البقرة، الآية: 8. (2) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 28. (3) سورة البقرة، الآية: 204. (4) سورة البقرة، الآية: 150. (5) انظر الزركشي، البرهان: 1/ 201، والسيوطي، الإتقان: 2/ 314.

وفي سورة يوسف نقرأ قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «1»، وكلمة «متّكأ» تعني للوهلة الأولى تلك النّمارق المعدّة للجلوس، ولكنها بعد التمحيص تتكشّف عن ترفّع محقّ لتصوير انبساطهن، وكيفية الجلوس، والحديث الفكه مع الراحة، وهذه الكلمة أبعدتنا عن جوّ الجوع والطّعام، وفي هذا يقول البوطي: «لم يعبّر عن ذلك بالطعام، فهذه إنما تصور شهوة الجوع، وتنقل بالفكر إلى «المطبخ»، بكل ما فيه من الطعام ورائحته وأسبابه، «متّكأ» كلمة تصور ذلك النوع من الطعام الذي يقدم إلى المجلس تفكّها وتبسّطا، وتجميلا للمجلس، وتوفيرا لأسباب المتعة فيه، ولذلك فالشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتّكاء» «2». وجميع التفاسير لا تبعد عن كون المتكأ نمارق للجلوس والإمساك بالسكاكين «3»، ومن هنا يتبين لنا أن المحدثين تعمّقوا في جمالية الاختزان الذي يدعو إلى الترفع والتأدب في كلمات لا علاقة لها بالنساء، إذ كان نصيب التهذيب في شئون المرأة كبيرا عند القدامى. - مفردات الإعجاز العلمي: وأخيرا لا بدّ من القول إن التفسير العلمي الحديث جعلنا نتأكد من أن بعض المجاز في القرآن حقيقة، وذلك في مواءمة المفردة لكلّ عصر، فالدلالة تستمر وتتسع لمفاهيم كل عصر، ويتلقّف هذه المفردة كلّ حسب فهمه وقدراته العقلية ونوع ثقافته، وذلك من غير إقحام أو تقوّل، لأن مرونة الكلمة القرآنية ليست عشوائية. يقول تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً «4» والاختزان يكون في إفهام هذا وذاك من البشر، وهذا مما يجعل في العقل مرونة، ويفتح باب التفكير.

_ (1) سورة يوسف، الآية: 31. (2) البوطي، من روائع القرآن، ص/ 144. (3) انظر مثلا أبو السعود، إرشاد العقل السليم: 4/ 271. (4) سورة الفرقان، الآية: 61.

والكلمتان «سراجا، منيرا» تحملان في طيّاتهما كلّ المعاني المتغيرة مع تغير الزمن وتقدّم العلوم وتبدّل أفهام الناس، وقد قال البوطي: «فالعامي من العرب يفهم منها أن كلّا من الشمس والقمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، وإنما غاير في التّعبير عنه بالنسبة لكل منهما تنويعا للفظ، وهو معنى صحيح تدلّ عليه الآية، والمتأمل من علماء العربية يدرك من وراء ذلك أن الآية تدلّ على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة، فلذلك سمّاها «سراجا»، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه، وهو أيضا معنى صحيح تدلّ عليه الآية دلالة لغوية واضحة، أما الباحث المتخصص في شئون الفلك، فيفهم من الآية إثبات أنّ القمر جرم مظلم، وإنما يضيء بما ينعكس عليه من ضياء الشمس التي شبّهها بالسراج» «1». لقد قدّم البوطي بعض الشواهد في هذا المجال، وهي تقرن بكل ما يجيء لدى كتب التفسير العلمي الذي يبحث في دقائق القرآن الطبية والفلكية والجيولوجية وغيرها، وقيمة الاختزان تتجلّى في عدم انغلاق المعنى على نفسه، بل يظلّ مفتوحا أمام القارئ، وكأن المفردة تمتلك أكثر من معنى، وذلك عند ما يفهمها كلّ حسب ثقافته، وهذا من مزايا إعجاز القرآن الكريم. والقرآن كتاب هداية وإرشاد، وليس من مهمّته الحديث عن حقائق الوجود العلمية، ومع ذلك لم تخل آياته من التعبير عن حقائق كثيرة أثبتها العلم الحديث، ودلّت هذه الآيات على إعجاز القرآن وبيان مصدره الإلهي. ومن هذه الآيات قوله عزّ وجلّ عن تلقيح السحاب: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً «2»، وقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ «3»، فالمفسّر القديم يرى في ذكر لواقح مجازا من المجازات البلاغية، لأنها في الأصل تعني اجتماع الذكر بالأنثى للناقة أو الشجرة، والعلم الحديث يؤكّد أن السّحاب

_ (1) البوطي، محمد سعيد، من روائع القرآن، ص/ 114. وانظر الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان: 2/ 252، ففيه شواهد أخرى. (2) سورة الحجر، الآية: 22. (3) سورة النّور، الآية: 43، يزجي: يسوق، الودق: المطر.

مكهرب، وأنّ الموجب والسالب لا يتنافران، كما أثبت «فرنكلين» لأول مرة عام 1752 م، فالتأليف بين السّحاب إشارة واضحة، ووصف دقيق للتقريب بين السحاب مختلف الكهربائية «1» وهذا المفهوم الحديث لا يتناقض مع مفهوم المفسّر القديم، الذي يرى في التأليف أو التلقيح مجرّد ضمّ السّحابة إلى سحابة أخرى. وهكذا وجدنا أن اختزان المفردة للمعاني الكثيرة يتجلى في عدة مجالات، وأن القدامى قدّموا أفكارا جيدة عند ما نهجوا نهج الجاحظ، وعند ما تقدمت فنون البلاغة وضعوا هذه السّمة تحت عناوينهم المختلفة، وهم- وإن اعتمدوا النّقل عن أسلافهم- قد أبدوا تأملات لهم تدلّ على تذوق وتدبّر، خصوصا الزمخشري وبعض ممّن تبعه، وجاءت جهود المحدثين مكمّلة لجهود القدامى، ولا بدّ من الإشارة إلى أن المعين لن ينضب لدراسة أدبية توضّح سمة الاختزان في مفردات القرآن.

_ (1) طبارة، عفيف، 1964، روح الدين الإسلامي، ط/ 6، دار العلم للملايين، بيروت، ص/ 57، وراجع السيوطي، تفسير الجلالين، ص/ 470.

4 - مناسبة المقام

4 - مناسبة المقام من الطبيعي أن تكون كل مفردات القرآن تحت عنوان مناسبة المقام، ذلك لأن نظمه المعجز يتضمن كلمات لا تكون نافرة متقلقلة في مكانها، ولا تكون حشوا يستغنى عنه، والموضوع القرآني كذلك خصّص له حجم معيّن، فلا زيادة فيه ولا نقصان، ولا يكون الإيجاز قائما مكان الإطناب، ولا الإطناب مكان الإيجاز، لأنّ الفكرة هي التي تحدّد أسلوبها. وهذه الفقرة تعيّن مناسبة المقام في اختيار مفردة من المفردات، أو تخصيص دلالتها اللغوية، لتحقق إيحاء نفسيا، أو توسع ظلال الدلالة اللغوية، والمفردة قد تكون عادية، فإذا قرئت في القرآن، وجدنا لها طعما آخر، وتأثيرا فريدا لا نعرفه في حدودها الطبيعية المتعارف عليها. سوف نسرد هنا نماذج مما ورد في كتب الإعجاز والتفسير متّخذين المنهج التاريخي عونا لنا في الترتيب، وقاصدين تباين الأذواق، وأثر العصر في كشف هذه السّمة، ونتجنّب ما هو متكرر حذر الإطالة، كما نتجنّب الأقوال العامة في ملاءمة المفردة للموضوع، لنفرغ لتحليلهم الفني الذي يعدّ زادا وفيرا، وعطاء زاخرا، كما أننا نتجاوز ما ورد عند الجرجاني حول تمكن المفردة في سياق الآية، لأنه لا يوليها الاهتمام فهو ينظر إلى النصّ كلّه بعد دخول المفردة، وينظر إلى العلاقة النحوية بشكل كلي. - معيار اللغة والذوق الفني: لقد مر بنا سابقا كيف ألمح الجاحظ في «البيان والتبيين» إلى دقّة النّظم القرآني ومراعاة الفروق الدقيقة التي تدلّ على مقدرة لغوية فائقة، فقد فرّق الأداء القرآني بين الجوع والسّغب، وبين المطر والغيث. أما الخطّابي فنراه يفنّد حجج الملاحدة والفسّاق الذين ادّعوا إسفاف كلمات القرآن وتناقضه، وبعد الكلمة المختارة فيه عن القانون اللغوي المعهود.

ومن ذلك بيانه دقّة كلمة «أكله» في الآية الكريمة: وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ «1»، يقول الخطّابي: «فإن الافتراس معناه في فعل السّبع القتل فحسب، وأصل الفرس دقّ العنق، والقوم إنّما ادّعوا على الذئب أنّه أكله أكلا، وأتى على جميع أجزائه وأعضائه، فلم يترك مفصلا ولا عظما، ذلك لأنهم خافوا مطالبة أبيهم إيّاهم بأثر باق منه يشهد بصحّة ما ذكروه» «2». فالناقدون يرون الصّحة في «افترسه» الذّئب، والخطّابي يرى أنّ البيان القرآني لا يتّسم بالزّلل والفوضى في إلباس المعاني بالألفاظ، فالفعل أكل يدلّ على إخفاء آثار الجريمة، وخصوصية الموقف تتطلّب هذا الفعل لا غيره. ويؤيّد ما ذهب إليه الخطّابيّ أنّ «أكل» ورد قبل أن يدّعوا ما ادّعوا، فعلى لسان أبيهم يعقوب عليه السلام جاء في السورة: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ «3». إنّه الأكل وليس الافتراس. وفي كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي لمحات جيدة، وإن كان لا يعير الجانب النفسي اهتماما، ففي الآية: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ «4» يقول: «ولفظة الإيلاج هاهنا أبلغ، لأنّه يفيد إدخال كل واحد منهما في الآخر، بلطيف الممازجة، وشديد الملابسة» «5». لقد ذكرت هذه المفردة عشر مرات، وهي من البلاغة، بحيث حقّقت الواقع المدروس في علم الفلك الآن من حيث دوران الأرض وكرويتها، وكثيرا ما يكتفي الشريف الرضي بأنّ هذه المفردة أبلغ من غيرها، من غير

_ (1) سورة يوسف، الآية: 17. (2) الخطّابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 37. (3) سورة يوسف، الآية: 13. (4) سورة آل عمران، الآية: 27. (5) الشّريف الرّضي، تلخيص البيان، ص/ 123.

أن يسبر غورها أو يذكر معيار القيمة. وقد وضع الخطيب الإسكافي «1» كتابا نفيسا سمّاه «درّة التنزيل وغرّة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز» وقد عرض فيه الآيات التي تتشابه مفرداتها، وتتغيّر فيها كلمة أو كلمتان، فاستطاع أن يقنعنا بارتباط هذا التغيّر بالموقف الذي يبسطه القرآن. ومن ذلك تفسيره للآيتين: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً «2»، ولَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً «3» إذ قال: «قيل الإمر إنّه الداهية، وقيل إنه العجب، والنّكر ما تنكره العقول ولا تعرفه ولا تجوزه .. والنّكر لا يستعمل إلا في المذموم الذي يخرج عن المعروف في العقل أو الدّين، فاختص الأول بالأمر، لأن خرق السفينة التي لم يغرق فيها أحد أهون من قتل الغلام الذي قد هلك» «4». وهكذا يمهّد بمعرفته اللغوية لبيان حقّ المفردة في الوجود دون غيرها، ويمتاز أسلوب الإسكافي بالإحاطة، فلا توجد آيات متشابهة الألفاظ إلا أوردها، ويمتاز أيضا بدقّة المعيار اللغوي، ولا يكتفي به في بعض الشواهد، كما في تفسيره للآيتين: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ «5» والآية: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ

_ (1) أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالخطيب الإسكافي، عالم بالأدب واللغة من أهل أصبهان، كان إسكافا وحبّب إليه العلم فبرع في علمي الأدب واللغة، توفي سنة 420 هـ، من كتبه «درّة التنزيل وغرة التأويل» و «مبادئ اللغة» مطبوع و «لطف التدبير» في سياسة الملوك، «غلط كتاب العين» و «نقد الشعر»، انظر الأعلام: 3/ 923. (2) سورة الكهف، الآية: 71. (3) سورة الكهف، الآية: 74. (4) الإسكافي، محمد بن عبد الله، 1977، درّة التنزيل، ط/ 2، دار الآفاق الجديدة بيروت، ط/ 2، 1977، ص/ 284، ويعنى كتابه بالمتشابه اللفظي، لا المتشابه المعنوي الخاص بالعقيدة. (5) سورة الحجّ، الآية: 22.

تُكَذِّبُونَ «1»، فهو يقول عن زيادة كلمة «غمّ» في الآية الأولى: «فلمّا وصفهم بأنّ العذاب من جميع الجوانب اكتنفهم، صاروا بإحاطة ذلك بهم، وسدّ أنفاسهم عليهم بمنزلة البعير المغموم بالغمامة التي تسدّ منفسه، فلا يجد فرجه، والآية التي في سورة السّجدة لم تشتمل من إحاطة العذاب بهم من ذكر الثّياب من النار وصبّ الحميم وإذابة الشّحوم» «2». فقد انتبه إلى هذه العلّة نتيجة تفهمه للآيات، والإسكافي وضع كتابه مهتمّا بالمتشابهات، وهذه الغاية الدينية تمتّعت بنظرات فنية تعتمد غالبا على الموروث اللغوي، ويبدأ كلامه عادة بعبارة «للسائل أن يسأل». يمكننا هاهنا أن نذكر وقفات الزمخشري التي بسط فيها الظلال النفسية، ولتجاوز ما يستمدّ من المعرفة بالفروق كالفرق بين الكبير والعظيم، وبين الأذى والضرر، ففي قوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً، فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «3» يقول: «ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن إعلاما بأنّ المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة، وقيل: «فإن طبن لكم عن شيء منه» ولم يقل «فإن سمحن لكم عنه» بعثا لهنّ على تقليل الموهوب» «4». فالكلمة تنمّ على راحة صدرها وهي تتخلّى عن بعض صداقها، وكما نرى لا يكتفي بمطابقة الحقيقة، كما يكون في الاعتماد على اللغة، والحق أن الزمخشري كثيرا ما يقف في إبراز بلاغة القرآن حتى في الآيات الفقهية التي تبيّن الأحكام الإسلامية، وتبعه في هذا المسلك أبو السّعود وسيّد قطب خاصة، وهنا يحضرنا قول نعيم الحمصي: «إن القرآن على الرغم من أنه يتناول أبحاثا من طبيعتها إلا تتناول في أسلوب فصيح بليغ، لأنها تعبّر عن فكرة مجرّدة، أو عن واجبات دينية اجتماعية، فهو يعبّر عنها فيما هو

_ (1) سورة السّجدة، الآية: 20. (2) الاسكافي، درّة التنزيل، ص/ 309. (3) سورة النّساء، الآية: 4. (4) الزمخشريّ، محمود بن عمر، الكشّاف: 1/ 499، وانظر تفسير أبي السّعود: 2/ 144.

الغاية في الجمال والفصاحة» «1». وهذا مما يحدو بنا على القول إن التشريع الإسلامي يتّسم باتصال الحق بالوجدان في تطبيق هذا التشريع، وفي أسلوب الحديث عنه. ويوازن الزمخشري بين «دمعت» و «تفيض» الواردة في قوله عزّ وجلّ عن الرّهبان: تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ «2»، يقول: «معناه تمتلئ من الدّمع حتى تفيض، لأنّ الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو إقامة المسبّب مكان السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنّها تفيض بأنفسها: أي تسيل من الدّمع من أجل البكاء، من قولك: دمعت عينه دمعا» «3». إنه يردنا إلى الأصل اللغوي مما يجعلنا نتأمل في إسهام هذه المفردة في التصوير بالاستعارة، وقد يجتمع أكثر من معيار في رصد جمال المفردة في كشّافه، فمرة يكون للنفس حظّ كبير، ومرّة يفتح بالشّرح اللغوي أبواب تملّي الجمال، فنجد هنا إيثار «تفيض» التي تتصل بالمياه الغزيرة المتدفقة، وكأن جفونهم ينابيع تفيض بالدمع الذي هو دلائل على عمق الإيمان، فالكثرة معبّرة عن المضمون، كما أن الفيض يعبّر عن استمرار أكثر مما يعبّر الامتلاء، فالفيض امتلاء بعد امتلاء، وقد ينقص القدامى الكثير من التخيّل بيد أن هذا لا يمسّ الزمخشري إلا قليلا. ولا يعني هذا أن الزمخشري بمنأى عن المزالق التي تبعد عن المعنى الحقيقي متأثرا بمفهوم خاطئ مثل تفسيره لقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا «4» إذ يقول: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما بالليل متزمّلا في قطيفة، فنبّه ونودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في

_ (1) الحمصي، نعيم، تاريخ فكرة الإعجاز، ص/ 29. (2) سورة المائدة، الآية: 83. (3) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: 1/ 638، وانظر تفسير النسفي: 1/ 298 وتفسير أبي السعود: 3/ 72. (4) سورة المزّمّل، الآيتان: 1 - 2.

- الذوق الذاتي عند ابن الأثير:

قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمّه أمر، ولا يعنيه شأن ... » «1». ويرد عليه الدكتور عتر من منطلق لغوي يقوّم النظرة، ويصحح تقويم الزمخشري للداعية العظيم رسول الله، فقد جاء في كتابه «محاضرات في تفسير القرآن»: قيل: المعنى يا أيها الذي زمّل أمرا عظيما هو أمر النبوة والزّمل: الحمل، ويدلّ على بطلان فهمه هذا- يعني الزمخشري- أمور نذكر منها: 1 - أن هذا الأسلوب في وصف المخاطب ليس نصا ولا ظاهرا في إفادة ما زعمه الزمخشري، فصيرورته إليه تحكم في النص. 2 - أنّ الذم أو التهجين إنما يتأتّى لمن توجه إليه الأمر، ولم يعطه الاعتناء اللازم أو الاجتهاد اللازم، وهو غير وارد هنا، لأنه لم يسبق هذا النداء تكليف بقيام الليل، فعلام التهجين» «2». فقد أخذ الزمخشري بمعنى المتلفّف بثيابه من كلمة «المزّمّل» ولم يأخذ بمعنى حمل أعباء الدعوة التي تشعر بعلوّ مقام النبوة، ثم أساء في تمكين هذه الكلمة بوصفه لعدم مبالاة النبي عليه الصلاة والسلام، ولم نجد عند من خصّص دراسة لتفسير الزمخشري مثل مصطفى الجويني أو درويش الجندي إشارة إلى مثل هذا التأويل المتعسّف. - الذوق الذاتي عند ابن الأثير: يعنى ضياء الدين بن الأثير بجمال المفردة في كتابه «المثل السائر»، إلا أن هذا الجمال النابع من دقة الفروق ومناسبة المقام لا يحظى بالكثير من اهتمامه، ذلك لأنه شغل بالجمال الموسيقى، وجمال الصّيغ والتركيب الداخلي للمفردات، فإذا أعجب بوجود كلمة في القرآن واستقبح وجودها في الشعر، فإن هذا يعود إلى إيقاع الآية، وموقع الكلمة في هذا الإيقاع، ونغمة حروفها.

_ (1) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشّاف: 4/ 507. (2) عتر، د. نور الدين، محاضرات في تفسير القرآن، ص 281.

وإذا أنعمنا النّظر في كتابه ألفينا أن معيار الذوق هو الذي يفرّق فيقبل ويرفض، وهذا مرتبط بالفطرة، فهو يقول: «ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار حتى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ، فيضعها في موضعها، ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن في الاستعمال، وهما على وزن واحد وعدّة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرّق بينهما في مواضع السّبك، وهذا لا يدركه إلا من دقّ فهمه، وجلّ نظره، فمن ذلك قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «1»، وقوله تعالى: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً «2»، فاستعمل الجوف في الأولى، والبطن في الثانية، ولم يستعمل الجوف موضع البطن، ولا البطن موضع الجوف، واللفظتان سواء في الدّلالة، وهما ثلاثيتان في عدد واحد، ووزنهما واحد أيضا، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف يفعل» «3». نلحظ إذن أنّ الجانب الموسيقى يطغى على إحساس ابن الأثير بالفروق، فإذا كان قد تحدّث فيما سبق عن الخفّة والعذوبة، ولذّة السمع، وسهولة النّطق وغيرها، فإنه هنا يحتجّ بشكلية المفردات، فيعدّ الحروف، وينتبه إلى الوزن، ثم يعود إلى الذوق، وكأنه يريد أن الاستعمال القرآني وجود لا يفسّر، ويجب أن يتّبع. ويخيّل إلينا أن الأمر يعود إلى الدّلالة الإيحائية في الشاهدين، ذلك أن مادة كلّ منهما تختلف كلّ الاختلاف عن مادة اللفظة الأخرى، فمادة «الجوف» توحي بالضّمور والخلوّ والانحسار والعمق، خصوصا بما يرسمه حرف الجيم، وبعده حرف الواو الساكن، ثم حرف الفاء الذي تنضم عنده الشفاه من دلالة إيحائية. وذلك على عكس «البطن» التي توحي بالنّتوء والبروز والانكشاف،

_ (1) سورة الأحزاب، الآية: 4. (2) سورة آل عمران، الآية: 35. (3) ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 143.

- المفردة وغرابة الموقف:

وهي أنسب للحامل من مادة «الجوف» فالجنين المكنّى عنه بقوله تعالى على لسان أم مريم عليها السلام «ما فِي بَطْنِي» يناسبه كثيرا النتوء والبروز والانكشاف، مثلما هي حال الحامل، وتبعا لذلك استحق السياق مفردة «بطن» لا «جوف» «1». ولقد اطّرد استعمال «البطن» للحامل في القرآن كما في قوله عز وجل: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «2»، وفي تصوير أجواف الكفار قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ «3»، فتعبّر الكلمة أيضا عن امتلاء الآكل بالطعام، وتذكيره بنهمه في الحياة الأولى. - المفردة وغرابة الموقف: يمتاز ابن أبي الاصبع بشيء من الإحاطة في هذا المجال، فلتأكيد استحقاق مفردة ما بالموضع يذكر آيات أخرى، ليبيّن أن السياق يتطلّب هذه الكلمة هنا، وتلك هناك، إذ سرد الآيات التي ورد فيها كلّ من الطّين والتراب ليبسط الفرق بينهما «4». وهو يلتقي في هذه الميزة بالخطيب الإسكافي. ومن نظراته الثاقبة ربط المفردة الغريبة بغرابة الموقف، وذكر لهذا شواهد عدّة، منها ما جاء في سورة يوسف، يقول عزّ وجلّ على لسان أبناء يعقوب عليه السّلام: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ «5»، فقد قال ابن أبي الإصبع في باب ائتلاف اللفظ

_ (1) انظر: عاكوب، د. عيسى، جمالية المفردة القرآنية عند ضياء الدين بن الأثير، مجلة التراث العربي، العدد/ 44 محرم 1412 - تموز 1991، السنة/ 11، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص/ 29. (2) سورة النّجم، الآية: 31. (3) سورة الدّخان، الآيات: 43 - 46، المهل: ما يبقى في أسفل الزيت، الحميم: الماء الحارّ. (4) انظر كتاب ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 194. (5) سورة يوسف، الآية: 85. وحرضا: مشرفا على الهلاك.

والمعنى، وهو في مفهومنا المعاصر احتواء المفردة موضوعها: «فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنّسبة إلى أخواتها، فإن «والله» و «بالله» أكثر استعمالا، وأعرف عند الكافّة من «تالله» لمّا كان الفعل الذي جاور أغرب الصّيغ التي هي في بابه، فإن «كان» وأخواتها أكثر استعمالا من «تفتأ» وأعرف عند الكافّة، ولذلك أتى بعدهما بأغرب ألفاظ الهلاك، وهي لفظة «حرض»، ولمّا أراد غير ذلك قال في غير هذا الموضع: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ «1»، لمّا كانت جميع هذه الألفاظ مستعملة، وعلى هذا فقس، والله أعلم» «2». فالغرابة تمثّل انسجام مفردة مع ما يجاورها، ويبدو أن غرابة الموقف تحكّمت في اختيار المفردات المعبّرة، إضافة إلى النّبرة القوية التي تمثّل غضبهم واشمئزازهم، وقد تحدثنا عن جمالية الصوت التي رآها عبد الكريم الخطيب في هذا الشاهد. والجدير بالذكر أن هذه المفردة ذكرت مرة أخرى في السورة نفسها، فعلى لسانهم يقول عز وجل: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا «3»، والموقفان متشابهان. ومما يعضد هذا تأمل الرافعي في كلمة «ضيزى» في قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «4»، يقول: «وفي القرآن لفظة غريبة، وهي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قطّ إلا في موقعها منه، فكانت غرابة اللفظ أشدّ الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلّها كأنّها تصور في هيئة النّطق بها الإنكار في الأولى، والتّهكم في الثانية، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصّة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة

_ (1) سورة فاطر، الآية: 42. (2) ابن أبي الاصبع، تحرير التحبير: 195 وانظر ابن أبي الاصبع، بديع القرآن، ص/ 78، والفوائد، ص/ 145، والبرهان: 3/ 433. (3) سورة يوسف، الآية: 91. (4) سورة النّجم، الآية: 22.

- الفروق عند الزركشي:

المتهكّم في إنكاره من إمالة اليد والرأس، بهذين المدّين إلى الأسفل والأعلى» «1». وإذا أقمنا موازنة في تلقّي غريب القرآن، فإنّنا نفضّل نظرة الرافعي على نظرة ابن أبي الإصبع، فالأخير يكتفي بوجهة علمية على الأغلب، ونظرة الرافعي والمحدثين على أغلبهم علمية وتأمّلية معا، فكلمة «ضيزى» تجسّم بحركاتها حركة المتهكّم، وهذا هو الشاهد الوحيد الذي عبّر فيه الرافعي عن تجسيم الصوت للمعنى. لقد استنكر البيومي تأكيد ابن أبي الإصبع على وجود الغريب قائلا: «فما توهّمه المؤلف من الغرابة في الألفاظ لا دليل يؤيّده، إلا إذا كان لفظ «حرضا» باعث هذه الغرابة، واللفظ الواحد لا يضرب مثلا لتناسب الألفاظ في الجملة» «2». فقد غابت عن ذهنه الغاية الجزئية في هذا الشاهد، وكان يجدر بالباحث المعاصر أن يشيد بنظرة سلفه بدلا من قطع العلاقة بين اللفظ والمعنى بحجّة سهولة ألفاظ القرآن ودورانها على الألسن، ففي الآية كلمات مجلجلة بصوتها، تصور الموقف بدقّة فائقة. ولا يقدّم ابن قيم الجوزية ما هو جديد في هذا المجال، فكتابه لا يتّسم بالأصالة، إذ يتكئ فيه على آراء سابقيه «3» بالنقل الحرفي على الأغلب، وذلك لا يقتصر على هذا المجال، بل يشتمل وجوه البلاغة القرآنية كافة. - الفروق عند الزركشي: ينفي الزركشي الترادف قائلا: «على المفسّر مراعاة الاستعمالات، والقطع بعدم الترادف، ما أمكن .. فمن ذلك «الخوف» و «الخشية» لا يكاد اللغوي يفرّق بينهما، ولا شكّ أن الخشية أعلى من الخوف، وهي أشدّ

_ (1) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ 230. (2) البيومي، د. محمد رجب، خطوات في التفسير، ص/ 278. (3) انظر كتاب ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص/ 145.

الخوف، فإنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشيّة، إذا كانت يابسة، وذلك فوات بالكليّة، والخوف من قولهم: ناقة خوفاء، إذا كان بها داء، وذلك نقص، وليس بفوات، ومن ثمّة خصّت الخشية بالله تعالى في قوله سبحانه: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ «1». وهذا الجنوح إلى الأصل الحسّي للمفردة قبل الاصطلاح الذهني المجرد مستفاد من سفر الراغب الأصفهاني الذي ردّ كلمات القرآن إلى الأصول الحسية، وهذا السّفر هو «الغريب في مفردات القرآن» وضعه في القرن الخامس. وكأنّما أراد الزركشي أن يربط بين الطابع الحسّي في الأصل، وبين مقدار التأثير في الاصطلاح الجديد، فتوصّل إلى أن مخزون الخشية أعظم، وقلّما يعود الباحث المعاصر إلى الأصل اللغوي، أو يحكّم معيار اللغة، فقد قال شوقي ضيف في هذا الشاهد: «الخشية خوف ممزوج بتعظيم وإجلال، فهي أخصّ من الخوف، إذ الخوف توقّع العقوبة، والخشية انقباض وهيبة وسكون إلى الله بعمل الطاعات، وإخلاص واعتصام به من خوف عذابه» «2». ولا يفهم مما سبق أن الخشية اطّرد ذكرها متعلّقا بالله، والخوف بغيره، والحق أن الزركشي دأب دائما في استدراك الأمور كيلا يصل إلى تعميم مغلوط فقد قال: «فإن قيل: ورد يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «3»، قيل: الخاشي من الله بالنسبة إلى عظمة الله ضعيف، فيصحّ أن يقول: «يخشى ربّه لعظمته، ويخاف ربّه، أي لضعفه بالنسبة إلى الله تعالى، وفيه لطيفة، وهي أن الله لمّا ذكر الملائكة وهم أقوياء، ذكر صفتهم بين يديه، فبيّن أنهم عند الله ضعفاء، ولما ذكر المؤمنين من الناس

_ (1) سورة الرّعد، الآية: 21، الزركشي، البرهان: 4/ 93. وانظر السيوطي: معترك الأقران: 3/ 602. (2) ضيف د. شوقي، 1390 هـ، سورة الرحمن، وسور قصار، ط/ 1، دار المعارف بمصر، ص/ 195. (3) سورة النحل، الآية: 50.

وهم ضعفاء، لا حاجة إلى بيان ضعفهم، ذكر ما يدلّ على عظمة الله تعالى» «1». ولا بدّ من التنويه بأن الله عزّ وجلّ قال: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2»، فلا يقتصر الخوف على الملائكة الأقوياء من مخلوقات الله. ويعد البرهان أفضل الكتب التي تتحدث عن الفروق، لدقّة الباحث وشموله لما يظنّ فيه الترادف في القرآن، فقد بسط الفرق ببراعة بين الطّريق والسّبيل، وبين التّمام والكمال، وبين أتى وجاء وغيرها. وهو لا ينكر فضل أبي هلال العسكري في هذا المضمار، وقد نقل السّيوطي شواهده هذه في «معترك الأقران». وقال الزركشي عن الفرق بين العمل والفعل: «والفرق بينهما أن العمل أخصّ من الفعل، كلّ عمل فعل، ولا ينعكس، ولهذا جعل النّحاة الفعل في مقابلة الاسم، لأنه أعمّ، والعمل من الفعل ما كان مع امتداد، لأنّه «فعل» وباب «فعل» لما تكرّر، وقد اعتبره الله تعالى، فقال: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ «3» حيث كان فعلهم بزمان، وقال: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «4»، حيث يأتون بما يؤمرون في طرفة عين، فينقلون المدن بأسرع من أن يقوم القائم من مكانه، وقال تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «5»، فإنّ خلق الأنعام والثّمار والزّروع بامتداد وقال: كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ «6» وأَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ «7» فإنّها إهلاكات وقعت من غير بطء» «8»

_ (1) الزركشي، البرهان: 4/ 94. (2) سورة آل عمران، الآية: 175. (3) سورة سبأ، الآية: 13. (4) سورة النّحل، الآية: 50. المقصود هنا الملائكة. (5) سورة يس، الآية: 71. (6) سورة الفيل، الآية: 1. (7) سورة الفجر، الآية: 6. (8) الزركشي، البرهان: 4/ 98، وانظر السيوطي، معترك الأقران: 3/ 604.

إنه يشير إلى دقّة الزمن المطلوب في كل من الدلالتين، ولم يكن أساسه من الموروث اللغوي، بل برهن على اطراد هذا الاستعمال في القرآن، وهو لا يتأثّر بالخطّابي الذي رأى خصوصية «فعل» بالعقوبات، فقد اختصّ «فعل» بالأفعال القبيحة من البشر أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ «1»، فقد دلّنا الزركشي إلى أن «فعل» إذا نسب إلى الله فإنه يتّسم بالقوة والسرعة، ولا يقتصر على معنى العقوبة «2»، كما مرّ في الفصل الأول، يقول تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ «3». وكل مظاهر القيامة تدلّ على السرعة والقوة. من يطالع أسفار الدارسين القدامى يجد أن هذه المادة أي- مناسبة المقام- وفيرة، وذلك لأسباب عدة، وهي أنهم ناضلوا بإخلاص جاهدين للرّدّ على الملاحدة الذين يدّعون التناقض في القرآن الكريم، والخطل في استعمال مفرداته، فكان لا بدّ من تبيين سبب ذكر الانبجاس في موضع، والانفجار في موضع آخر وعلّة تقديم موسى على هارون في موضع، وهارون على موسى في موضع آخر عليهما السلام. ويضاف إلى هذه الغاية الدينية الخالصة محبّتهم العميقة لأسلوب كتاب دنياهم وآخرتهم، فمنه استلهموا أسس حياتهم، وأرسوا قواعد مجدهم، وهذا مما حدا بهم على إبراز جماليات دقة الاختيار في الكتاب المعجز. ومن هذه الأسباب وفرة الثروة اللغوية، فأكثرهم لغويّ متمعّن، كما يظهر في مناقشاتهم، ومنهم من كان ذا مكانة كبيرة في اللغة كالزمخشري والسّيوطي. ومن هذه الأسباب أيضا قرب عهدهم بزمن الفصاحة، لذلك وجد المحدثون الكفاية في كتب أسلافهم، وأكثر من اهتمّ بالفروق عائشة عبد الرحمن، وقد ذكرنا نتفا من كتابيها في الفصل الأول، حيث كانت تنفي وجود الترادف في القرآن وتقرّ به في اللغة.

_ (1) سورة الأعراف، الآية: 173. (2) انظر الخطابي، ثلاث رسائل، ص/ 53. (3) سورة الأنبياء، الآية: 104.

- ظلال الدلالة الخاصة:

ووقفات المحدثين على قلتها تتّسم بالغنى والعمق، وهي لا تأتي تحت عنوان معيّن، فهذه الجمالية لم تكن تحت عنوان ائتلاف اللفظ والمعنى، أو مشاكلة اللفظ للمعنى، أو الفروق اللغوية، أو مراعاة النظير، شأن القدامى، إن هي إلا نظرات فنية تستوفي الأبعاد النفسية، وهي التي لم يهملها أسلافنا في الغالب، إلا أنه يؤخذ على الباحث الحديث الاكتفاء بالذات الشاعرة، وهذا كثير في أسلوب سيّد قطب. ومن الواضح الجلي الذي يدلّ على العمق النفسي ما يرد في كتب الدكتور نور الدين عتر على اختلاف مناهجها ومقاصدها، وقد قدّم شذرات رائعة في تفسيره لبعض السّور، وفي قوله عزّ وجلّ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ «1» يدلنا على جمال الفرق، إذ يقول «فعبّر بكلمة «ووصّينا» بدلا من أمرنا، إشعارا بأنّ المسألة مفروغ منها تحتاج إلى تحريك النفس نحوها، لا إلى الإلزام» «2». وبهذه الطريقة السامية يقرّر القرآن الكريم أحكامه الشرعية، فقد أحاط بالإلزام رفعة المخاطبة مع بعث الرّحمة في التّوصية. ونرى أن دراسة عائشة عبد الرحمن تتسم بالموضوعية الواضحة، لأنها تنطلق من الأصل اللغوي في استعمال العرب، وترصد استخدام المفردة المدروسة في القرآن كلّه، ومن ثمّ تفرغ للدلائل النفسية التي تبثّها المفردة المنتقاة من بين مرادفاتها، وهذا لم يبعد عن ذهن الزركشي مثلا. - ظلال الدلالة الخاصة: لا نقف هنا على الفروق، إنما نتتبّع ما ورد عند الباحثين حول اختيار مفردة تلقي إشعاعا شاملا في مفردات السياق كلّه، من حيث لا يسدّ غيرها هذا المكان، وتنفرد بمكانها من حيث ملاءمة أقصى التأثير، وقد تكون الكلمة عادية في استعمالنا، فإذا قرأناها في الآيات، وجدنا أنها تتجاوز كلّ تعابيرنا،

_ (1) سورة لقمان، الآية: 14. (2) عتر، د. نور الدين، محاضرات في التفسير: 67، وهي فائدة لطيفة أتى بها في هذا المقام.

متمكنة من موضعها بمنزلة اللّبنة المطلوبة للبناء الكلّي. من أولى هذه الملاحظات الفنية تأمل الرماني في تشبيه أعمال الكفار في قوله عزّ وجلّ: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً «1» فإنه يقول: «ولو قيل يحسبه الرّائي ماء، ثم يظهر على خلاف ما قدّر لكان بليغا، وأبلغ منه لفظ القرآن، لأنّ الظمآن أشدّ حرصا عليه، وتعلّق قلب به» «2». وهو لا يكتفي بجمال التشبيه الحسّي، بل يؤكّد لنا إحكام الصورة بما يؤثّر تأثيرا حسّيا في المتلقي، ومن الواضح عدم الترادف بين الظمآن والرائي، وإن هذا الميل إلى الحسية يؤكد الحد الأقصى من التأثير في الإنسان، لأن أقوى متطلباته تتعلّق بالحسية. ومنه على سبيل المثال قوله تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ «3» واقترنت كلمة غليظ، بالميثاق ثلاث مرات في قوله تعالى: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً «4» عن إمساك الزوجات أو تسريحهنّ، وقال عن بني إسرائيل: وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً «5»، وقال عزّ وجلّ: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً «6». وتشير كلمة «غليظا» هنا إلى أهمية الرسالة السماوية وصدق الأنبياء، كما أن غلظ العذاب مناسب للشعور بوطأته على جسوم الآثمين، فالانتقال من حسّية إلى حسية أعمق تأثيرا، والميثاق معنى ذهني، والغلظ يدلّ على تأكيده. وقد قال تعالى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ «7» فقد عدل عن الإحراق إلى التّحطيم، لأن إيلام النار المحطّمة

_ (1) سورة النور، الآية: 39. (2) الرماني، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 75. (3) سورة لقمان، الآية: 24. (4) سورة النساء، الآية: 21. (5) سورة النساء، الآية: 154. (6) سورة الأحزاب، الآية: 7. (7) سورة الهمزة، الآيات: 4 - 6.

أقوى، ولا يحيط به تصوّر، كما عدل عن الرؤية إلى الظمأ لعمق الصلة بالجسم. وإذا كان الرماني قد وجد أن هذا يتطلبه التأثير الأقوى، وهو مناسب للموقف فإن أبا هلال العسكري يصنف مثل هذه اللمحة الفنية تحت عنوان «المبالغة» ومن شواهد هذا الفصل قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ «1» وقد جاء فيه: «ولو قال: تذهل كل امرأة عن ولدها لكان بيانا حسنا، وبلاغة كاملة، وإنما خصّ المرضعة للمبالغة، لأن المرضعة أشفق على ولدها، ولمعرفتها بحاجته إليها، وأشغف به لقربه منها ولزومها له» «2». ونستنتج مما سبق أن طريقة الرماني والخطابي أكثر إرضاء للذوق، فالرماني مثلا يقدّر كلمة بليغة، ويرى أن الكلمة القرآنية أبلغ، فالجمال درجات، أو كما يقول «طبقات»، ويؤخذ على العسكري تمسّكه بمصطلح «المبالغة» التي كثيرا ما تشين الشعر، ففي القرآن تأثير عميق، ولا يوجد مبالغة، ويبدو أنه يريد المبالغة في التأثير. وقد عني الشريف الرضي بمجازات القرآن، وتفسيرها من خلال العودة إلى حيز الحقيقة، ولكنا لا نعدم شذرات رائعة تمثّل ذوقا رفيعا إزاء بعض المفردات القرآنية، وعندئذ يتناسى الاصطلاح وتقعيده، ويقول تعالى عن أهل الكتاب الذين كتموا خبر النبي المبعوث: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ «3» وقد قال الشريف الرضي: «و قوله سبحانه: فِي بُطُونِهِمْ زيادة معنى، وإن كان كلّ آكل إنما يأكل في بطنه، وذلك أفظع سماعا، وأشدّ إيجاعا، وليس قول الرجل للآخر: إنك تأكل النار مثل قوله: «إنك تأكل النار في بطنك» «4».

_ (1) سورة الحج، الآية: 2. (2) العسكري، أبو هلال، كتاب الصناعتين، ص/ 365. (3) سورة البقرة، الآية: 174. (4) الشريف الرضي، محمد بن الحسين، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 119.

فالكلمة تتخذ دلالة خاصة وإشعاعا يدلّ على القبح، خلافا لما جاء في الآية على لسان امرأة عمران: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً «1». وقد علّق البيومي على الآية السابقة قائلا: «فإن تصوير ذلك باللفظ مما يعيد المنظر الهائل مفجعا مفزعا حين يتصوّره الخيال في أفجع مثال» «2». وقد وردت كلمة «بطون» بصيغة الجمع سبع مرات في مواقف تصوير العذاب، وأربع مرات مختصة بالحيوان كالأنعام والنّحل، مما يدلّ على أن الكلمة في شاهد الشريف الرضي توحي بالطّبع الحيواني وبشاعته عند من يتاجر بآيات الله، ويكذّب بها، وهي تهبط بآدميّته، خصوصا حين تصوّر الجشع والنّهم، كما وردت كلمة «الخرطوم» في الآية الكريمة: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ «3» والمقصود أنف واحد من المشركين قيل: هو الأخنس بن شريق أو الأسود بن عبد يغوث أو الوليد بن المغيرة «4». والجدير بالذكر أنّ تصوير القبيح في القرآن يمتاز بقوة استمرار التأثير، وبحسّيته الواضحة، وقد قال جارييت حول وضوح القبيح: «مما يؤسف له أن الأشياء القبيحة التي نتحاشاها ندركها بالسّهولة التي ندرك بها الأشياء الجميلة «5». وهذا يؤكد كمال إعجاز القرآن، لأنه أتى بالجمال الفني من وجوهه كلّها الإيجابية والسّلبية. وفي كشاف الزمخشري نقع على غزارة هذه المادة، وهو يعوّل على الواقع الملموس، والتّجربة البشرية، وطبيعة النّفس الإنسانية، وأحيانا يتّخذ المعيار اللغوي حكما، بيد أن الجانب النفسيّ للدّلالة الخاصّة مراعى في أغلب لمحات

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 35. (2) البيومي، د. محمد رجب، خطوات في التفسير، ص/ 184. (3) سورة القلم، الآية: 16. (4) انظر السيوطي، جلال الدين، 1978، أسباب النزول حاشية تفسير الجلالين، ط/ 1 دار الملاح دمشق، ص 753. (5) جارييت، فلسفة الجمال، تر: عبد الحميد يونس، ص/ 108.

الزّمخشري. ففي تفسيره للآية الكريمة: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ «1» يقول: «فإن قلت: لم يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأنّ الغمام مظنّة الرّحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول، لأنّ الشّرّ إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغمّ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب، كان أسرّ، فكيف إذا كان الشّرّ من حيث يحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقّع الغيث، ومن ثمّة اشتدّ على المتفكّرين في كتاب الله قوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ «2». فهو هنا يحكّم الإحساس بالفجاءة في جمال «الغمام» وهذا الحكم يعتمد على طبيعة النفس الإنسانية. ويرى مصطفى الجويني أن «شخصية الزمخشري قد طغى عليها العاطفة الدينية في الأمور الجمالية» «3». ويبدو لنا جليّا أن الدين والجمال لا ينفي أحدهما الآخر، وأن مظاهر الجنّة تعدّ دروسا في دربة الإحساس الجمالي، وكذلك مظاهر النار، فالجمال والدّين يتعاوران البيان القرآني في الكشاف، والجمال في القرآن ليس جمالا لذاته، بل هو مسخّر في نهاية الأمر للأغراض الدينية. ويستشعر الزمخشري حسرة الأم التي تلد الأنثى في قوله عزّ وجلّ عن امرأة عمران: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ «4» فيقول: «إن قلت: فلم قالت: إني وضعتها أنثى، وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت: قالته تحسّرا على ما رأت من خيبة رجائها، وعكس

_ (1) سورة البقرة، الآية: 210. (2) سورة الزمر، الآية: 47، الكشاف: 1/ 353، وانظر تفسير النسفي: 1/ 105، وتفسير أبي السعود: 1/ 213. (3) الجويني، مصطفى، 1959، منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه، ط/ 1 دار المعارف بمصر، ص/ 186. (4) سورة آل عمران، الآية: 36.

تقديرها، فتحزّنت إلى ربّها» «1». فقد كانت ترجو أن يكون المولود صبيا لكي يخدم بيت الله المقدّس، وليست الحسرة لمجرد كون المولود أنثى كما كان في الجاهلية، فهي كانت تظنّ أن الذكر أولى بالنّذر من الأنثى، وإلا فكمال العبودية يمنع من هذه الحسرة. ومن مظاهر تداخل المصطلحات البلاغية أن يعدّ ابن أبي الإصبع هذه الجمالية في باب ائتلاف اللفظ والمعنى في كتابه «تحرير التحبير»، وتوضع الشواهد نفسها تحت عنوان «فرائد القرآن» في كتابه «بديع القرآن»، وهو يعرّف هذا النوع قائلا: «وهو مختصّ بالفصاحة دون البلاغة»، لأنّه عبارة عن إتيان المتكلم في كلامه بلفظة تنزل منزلة الفريدة من حبّ العقد، وهي الجوهرة التي لا نظير لها، تدلّ على عظم فصاحته، وقوة عارضته، وجزالة منطقه، وأصالة عربيته، بحيث تكون هذه اللفظة إذا سقطت من الكلام عزّت الفصحاء غرابتها» «2». ونلاحظ في التعريف اهتمامه بالمتكلم، وهذا ديدن علماء البلاغة، فكأنهم يدرّسون هذا العلم، ويستعينون بالبلاغة القرآنية. ويستشهد بالآية الكريمة: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ «3»، ولا يبيّن لنا سمة هذا التفرّد، فلا يكفينا أن نعرف أن القرآن استقلّ بهذه الصّيغة أو تلك، إنما نريد التوصّل إلى أبعادها الجمالية، وكذلك لفظة «فزّع» في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ «4» فهو يقول: «فانظر إلى لفظة «فرّغ»، وتأمل غرابة فصاحتها، لتعلم أن الفكر لا يكاد يقع عليها» «5».

_ (1) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: 1/ 425. (2) ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص/ 486، وانظر ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير ص/ 415. (3) سورة غافر، الآية: 19. (4) سورة سبأ، الآية: 23. (5) ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص/ 288، وانظر ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 418.

ونحن لا ننكر جهوده في مواضع أخرى، كما تبين في الصفحات السابقة في هذه الفقرة، وما سيتبين في مسألة تمكّن الفاصلة القرآنية في الفقرة التالية، ولعلّ جمال «خائنة» يكمن في صيغتها على اسم الفاعل، وهي تدلّ على الحركة أكثر من الاسم، وتفيد الكثرة في استمرارها. وقد قال البيومي عن شواهد ابن أبي الإصبع هذه: «فهذا الكلام- الفرائد- لو ترجم إلى لغة عصرنا لترجم عما يسمّيه النقاد باللفظ الموحي، وما يبعثه في الجملة من الظلال والأضواء، ووقوع ابن أبي الإصبع على هذه الألفاظ والجمل في كتاب الله يدل على ذوق بصير، ونحن نأخذ عليه أنه أحسن الاختيار، ولم يأت بما يجمل من التحليل» «1». ونكتفي بهؤلاء الأعلام، لأن كل كلمة قرآنية يمكن أن تقع تحت عنوان «مناسبة المقام»، وأيضا لحذر الإطالة غير المجدية، فالتّكرار كان في الشواهد نفسها، وفي التّعليق الفني، فمثلا لا يبتعد أبو السّعود كثيرا عن تذوق الزمخشري، فهو يقلّده أحيانا بالنقل الحرفي أو بأسلوب التذوق، كما أعاد ابن قيّم الجوزية ما ورد عند الرماني حول كلمة «ظمئان» وغيرها «2». ولا بأس أن نجري هنا موازنة في شاهد واحد بين الزمخشري وسيّد قطب، لنعلم اختلاف النظرات، يقول تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «3» يقول الزمخشري حول كلمة «يتربّصن»: «إخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بما يجب أن يتلقّى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربّص، وذلك لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرهنّ أن يقمعن أنفسهنّ، ويغلبنها على الطّموح، ويجبرنها على التّربّص» «4». فهو ينطلق من معيار جمال اللغة، ليقدمه تبريرا.

_ (1) البيومي، د. محمد رجب، خطوات في التفسير، ص/ 295. (2) انظر ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص/ 145. (3) سورة البقرة، الآية: 228، القرء: الحيض أو الطّهر. (4) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: 1/ 365، وانظر تفسير النسفي: 1/ 113. وتفسير أبي السعود: 1/ 225.

وفي المفردة نفسها يقول سيّد قطب: «إنه يلقي ظلال الرّغبة الدّافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة، رغبة الأنفس التي يدعوهنّ إلى التربّص بها، والإمساك بزمامها، مع التّحفّز والتّوقّر الذي يصاحب صورة التربص، وهي حالة طبيعية تدفع إليها المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها، أنّ إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص، وأنها قادرة على أن تجذب رجلا آخر» «1». ولكن الشعور بالإخفاق لا يكون في حالة موت الزوج، فقد قال تعالى عن الأرامل: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً «2»، وكان على سيد قطب أن ينتبه إلى هذا، فهذا وليد الإشعاع الذاتي لدى الدارس. وقد وفّق في مواضع أخرى، كما ورد لدى الآية: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «3» فهو يحدثنا عن تحقيق انسجام الأضواء في الصورة بكلمة «الفلق»، يقول: الجوّ كله ظلام ورهبة وخفاء وغموض، وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله، والله ربّ كل شيء، فلم يخصّصه هنا «بربّ الفلق»؟ لينسجم مع جوّ الصورة كلّها، ويشترك فيه، ولقد كان من المتبادر أن يعوذ من الظلام بربّ النور، ولكن الذهن هنا ليس المحكّم، إنما المحكّم هو حاسّة التصوير الدقيقة، فالنور يكشف الغموض المرهوب .. والفلق يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية، ثم يتّسق مع الجوّ العام من الوجهة التصويرية» «4». ويمكننا أن نقول: إن المحكّم في كل نظرات سيد قطب هو التصوير الذي يشمل الصورة البصرية والإيحاء النفسي، والصورة السمعية أيضا، ومثل هذا الإيحاء ما ذكره عن ميل القرآن إلى تصوير قبح أعمال الكفار بمفردات توائم شنائعهم، يقول تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ «5» عن اليهود، يقول سيّد قطب: «والنص على «الحريق» هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه،

_ (1) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 2/ 245. (2) سورة البقرة، الآية: 234. (3) سورة الفلق، الآية: 1. (4) قطب، سيد، التصوير الفني، ص/ 98. (5) سورة آل عمران، الآية: 181.

ولتجسيم مشهد العذاب، بهوله وتأجّجه وضرامه، جزاء على الفعلة الشنيعة قتل الأنبياء، وعلى القولة الشنيعة: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ «1». وهو لا يذكر مثلا مساحة دلالة «الحريق» في اللغة مقارنة بالنار، وتحليله ليس ببعيد عما يسميه القدامى مراعاة النظير، فتربط الكلمة بسياق الآية كلها، وهذا ما وجدناه عند الخطيب الإسكافي وابن أبي الإصبع. ولا يكاد يبتعد بدوي قيد شعرة عن منهج سيّد قطب، فهو كذلك يترك المعيار للنفس والتصور، ففي الآية الكريمة: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ «2». يقول عن فعل «خلوا»: «ترى ما توحي به إلى نفسك من جبن هؤلاء المنافقين الذين لا يستطيعون أن يظهروا ما تكنّه قلوبهم إلا في خلوة لا يراهم فيها أحد» «3». وتعد دراسة عائشة عبد الرحمن جيدة، لأنها تنظر إلى قرائن السياق العام ففي الآية الكريمة: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً «4» تبين البعد النفسي لفعل «أهلكت» قائلة: «ولم يقل أنفقت مع قربها، وذلك لأن الإهلاك أولى بالغرور والطّغيان، وأنسب لجوّ المباهاة والفخر المسيطر على المقام» «5». وهذا واضح في سورة البلد، ولا شكّ في وجود مفردات مختصة بدفع المال مثل أنفق وبذل وصرف، ولكن «أهلكت» فعل يعدّ استعماله مجازيا، وهو ليس من مرادفات أنفق، كما ترى الباحثة. ولا بأس أن نقف عند كلمة «أخذ» الواردة في مقام التهديد، لتتضح الدلالة الخاصة لبعض مفردات القرآن، إنه فعل عادي إلا أن دلالته تتّسع في القرآن، ويتغيّر حجم مفعولها، ومن هذا قوله تعالى: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 181، وقطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 4/ 537. (2) سورة البقرة، الآية: 14. (3) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 31. (4) سورة البلد، الآية: 6، لبد: كثير بعضه فوق بعض. (5) عبد الرحمن، د. عائشة، التفسير البياني: 1/ 187.

بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «1». وقديما ألمح الباقلاني إلى هذا الفعل في قوله تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ «2» فقد قال: «هل تقع في الحسن موقع قوله «ليأخذوه» كلمة، وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة، وهل يسدّ مسدّه، في الأصالة نكتة لو وضع موضع ذلك «ليقتلوه» أو «ليرجموه» أو «لينفوه» أو «ليطردوه» أو «ليهلكوه» أو «ليذلّوه»، ونحو هذا ما كان بديعا ولا بارعا ولا عجيبا ولا بالغا» «3». وكان الباقلاني فهم أن هذا الفعل يدل على غاية العنف دون سائر أفعال الاجرام، ويدلّ على قوة الباطش وسهولة البطش، فالرسول لقمة سائغة، وكأنما تصوّر المفردة ضآلة حجمه، وضخامة حجومهم. ومن هذا قوله تبارك وتعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «4»، ويقول البوطي: «وأي تصوير لضئلة شأنهم ونسيانهم أنفسهم أبلغ وأروع من هذه الكلمة» «5». فهنا يسند الفعل إلى الخالق الذي تنصاع له كل الكائنات، فيزداد عنفا وغموضا، ولا يستطيع الذهن أن يحيط بكل مساحة هذا الفعل، لأنه من عند الخالق ففيه الهول الأعظم، على الرغم من أن فعل «أخذ يأخذ» محدود الدلالة في استعمالنا. وهنا يحضرنا قول «بختين» إن احتواء الكلمة لموضوعها فعل معقّد، ذلك أن أي موضوع مفترى عليه، ومختلف فيه، مضاء من جهة ومعتم عليه من جهة أخرى بالآراء الاجتماعية المختلفة وبكلمات الآخرين» «6». وفي القرآن نجد أن الفعل «يذر» مع تصريفاته يرد إحدى وثلاثين مرة، وثلاث مرات منها تختصّ فيها بالخالق عزّ وجلّ، مع أن الدّلالة واحدة في

_ (1) سورة الأعراف، الآية: 165. (2) سورة غافر، الآية: 5. (3) الباقلاني، أبو بكر، إعجاز القرآن، ص/ 197. (4) سورة الأنعام، الآية: 44. (5) البوطي، محمد سعيد رمضان، من روائع القرآن، ص/ 171. (6) بختين، ميخائيل، الكلمة في الرواية، تر: يوسف حلاق، ص/ 30.

المعجم، وهذا يؤكد السّياق الخاص لآيات القرآن الذي ينفي الترادف، إذ تصل بنا الآيات إلى دلائل متعددة لمادة واحدة، فنحن نقرأ قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً «1» فالفعل «يذرون» يعني المغادرة والتّرك، إذ تقرّر الآية المدنيّة مسألة فقهية. أما قوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ «2» فإنّ الكلام يعجز عن التعبير عن هول هذه المفردة وهالاتها الخاصة، نتيجة صدورها عن الخالق، وكذلك قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا «3» وقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «4» والآيات الثلاث هذه من السّور المكية، والأخيرتان منها من أوائل نزول الوحي المبارك. ففي هذه الكلمة إثارة للتخيل تبعدها عن المعنى المعهود، وذلك لأنها تثير في الذّهن كيف تنفرد القوة المطلقة بما خلقت، وتبعث في النفس الرّهبة والإجلال، وخصوصا إذا أعربنا «وحيدا» حالا لضمير الياء. ومن يطالع أبحاث محمد سعيد رمضان يقع على مادة وفيرة تدلّ على إحساسه الفني بدلالات المفردات، وذلك لا يقتصر على كتابه «من روائع القرآن» الذي تحدّث فيه عن البيان القرآني، فنحن الآن مع كتيّب في الدّعوة الإسلامية بعنوان «منهج تربوي فريد في القرآن» وقد تأمل الآية الكريمة: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما «5»، فمما يدل على أصالة فنية وتفرّد ذوقي قوله: «لو حذفت هذه الكلمة- عندك- من الآية، لاختفى منها أعظم عوامل التأثير فيها: إنها كلمة واحدة، ولكنها تفيض بشحنة هائلة من العواطف المثيرة، إذ هي تصوّر للمخاطب حالة والديه، وقد انتهينا من الضّعف والشيخوخة إلى أن غدا كلّ منهما يعيش في كنفه، وفي ظلال عطفه ورعايته بعد أن كان هو الذي يعيش في كنفهما،

_ (1) سورة البقرة، الآية: 234. (2) سورة القلم، الآية: 44. (3) سورة المزمّل، الآية: 11. (4) سورة المدّثّر، الآية: 11. (5) سورة الإسراء، الآية: 23.

وفي ظلال عطفهما ورعايتهما «1». فهذه الكلمة التي هي ظرف مكان، تثير كوامن من الرحمة في أعماق الإنسان وتسمو به، مع أنها كلمة عادية، إذ اكتسبت هذه الظلال نتيجة وجودها ضمن هذا الموضوع رعاية الوالدين. ويدلنا محمد سعيد رمضان على إيثار العفو على القصاص في الإسلام، فيلمّح القرآن إلى سبيل التراحم مع تقريره لحدود الله، فعن حدّ القتل قال عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ «2». يقول رمضان: وانظر إلى طبيعة هذه الكلمة- أخيه- وموقعها من الآية إنها تذكّر وليّ المقتول تذكيرا دون أن تأمره أو توجّهه إلى شيء، كلمة تحاول بتصويرها العاطفي المباشر أن تذكّر وليّ القصاص بأنه أخ قريب للقائل، وأن تنسيه أنه وليّ للمقتول» «3». لقد استطاع الدارسون أن يربطوا وجود الكلمة بسياق الآية، فبيّنوا حاجة المقام إليها، واستحقاقها بالمكان، وتفرّدها به، وقد عوّلوا على منطق اللغة العربية فكان معيارا واضحا. وعوّلوا على التذوق، فكان معيارا ناجحا على الأغلب في تأملات القدامى منهم، لأن بعض المحدثين اعتمدوا الإسقاط النفسي الشخصي كما رأينا، ولم يكن إجمال القدامى يدلّ على خطل أو تعسّف، وقد دأب القدامى في الإحاطة بالأمر، وغالبا ما استعانوا بالفروق ليبيّنوا أهمية المفردة، فكانوا موضوعيين. ولا بد من الإشارة إلى أن ظاهرة التكرار التي ورد شيء منها في الفقرة هذه لا تدل على تحجر، بل تدل على إجلال اللاحق للسابق، ويمكن أن نلتمس

_ (1) البوطي، د. محمد سعيد رمضان، منهج تربوي فريد في القرآن، ص/ 1. دار الفارابي دمشق: 70. (2) سورة البقرة، الآية: 178. (3) البوطي، د. محمد سعيد رمضان، منهج تربوي: 71.

العذر لهم بأن كثيرا من الكتب وضعت في علوم القرآن كلها أو البلاغة القرآنية بجميع وجوهها، وربما كان بعض الباحثين غير مختص بفنون البلاغة اختصاصا متعمقا كالأئمة البارعين فيها.

5 - تمكن الفاصلة القرآنية

5 - تمكن الفاصلة القرآنية - تعريف الفاصلة: الفاصلة لغة هي ما يفصل بين شيئين، وهي في علامات الترقيم في الكتابة العلامة التي توضع بين الجمل التي يتركب منها كلام تامّ الفائدة، وبين الكلمات المفردة المتصلة بكلمات أخرى تجعلها شبيهة بالجملة في طولها «1». أما الفاصلة اصطلاحا، فهي كلمة آخر الآية، كقافية الشعر، وقرينة السجع، وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب، لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام. وتسمّى فواصل، لأنه ينفصل عندها الكلامان، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها، ولم يسمّوها أسجاعا، فأما مناسبة فواصل، فلقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ «2» وأما تجنّب أسجاع، فلأنّ أصله من سجع الطير «3». فالفاصلة في القرآن كلمة تختم بها الآية وغالبا ما تضمنت الواو والنون، أو الياء والنون، وذلك لأهمية التّطريب، ففاصلة الآية الكريمة: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ «4» هي كلمة «ساهون» لأنها تفصل بين آيتين. - السجع والفاصلة القرآنية: تقوم الفاصلة القرآنية بدور الإحكام، فتربط بالمعنى الكلي الذي يسبقها في الآية ذلك إضافة إلى ترنيمها الموسيقى الواضح، فهذا الإحكام يتّسم بوظيفتين في الشكل والمضمون.

_ (1) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، 2/ 698. (2) سورة فصّلت، الآية: 3. (3) انظر الزركشي محمد بن عبد الله، البرهان: 1/ 83. (4) سورة الماعون، الآية: 5.

والحديث عن الفاصلة قديم قدم الدراسات الأدبية للقرآن، فقد أكّد الرماني في تعريفه الأدبي للفاصلة سموّها واختلافها عن الأسجاع، وقال: «الفواصل حروف متشابكة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، ذلك لأن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها» «1». والرماني يرى أن التعلق الشكلي المتعيّن في مماثلة الأصوات في الرّويّ يدعو إلى التكلّف المستهجن، وهذا مستفاد من أصل تسمية الأسجاع، فسجع الحمام يعني ترديد الصوت نفسه، وكذلك السّجع في فنّ النثر، وكأنّ الرماني يلمّح إلى وجود فواصل متقاربة الروي في القرآن، فبناء الفواصل ينطوي غالبا على المغايرة والتنويع، مراعاة للمعاني، وهذه الفضيلة تبعد السّجع عن أسلوب القرآن. ومن الذين تحمّسوا قديما لقضية نفي السجع أبو بكر الباقلاني، وهو يقوم بهذا الردّ جاهدا في ربط المفردة الأخيرة من الآية بسياق المعنى الكلي، يقول: «ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز، وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجّة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النّبوّات، وليس كذلك الشعر» «2». فهو بعد هذا الرد المنطقي يذكر شواهد من مثل تقديم موسى على هارون في موضع، وهارون على موسى في موضع آخر. ونقف عند نقطتين في عبارة الباقلاني، الأولى: أن كلامه يوحي بأن جميع القرآن متّهم بالسجع، وإذا كان السجع مماثلة في الرويّ، فقد وقع في القليل منه، وإذ استقلّت الفواصل المتماثلة بإحدى عشرة من السّور القصار وهي: القمر والقدر والعصر والكوثر والأعلى، والليل والشمس والمنافقون والفيل والإخلاص والنّاس.

_ (1) الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 89. (2) الباقلّاني، أبو بكر، محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، ص/ 86.

أما مقارنة البيان القرآني بالشعر فهي بعيدة عن التحقيق، لأن قيود القافية والوزن أبعد ما تكون عن نظم القرآن. والنقطة الثانية: خروج القرآن عن أساليب كلام العرب، وقد دأب دارسو الإعجاز يعلّلون الصور والمجازات بقولهم: كانت العرب تقول كذا، وربما كان هذا زائدا عن حدّه أحيانا. ولقد توسّم ابن سنان غاية الفصاحة في وجود بعض المماثلة في الكلام، فلا يكون كلّه مسجوعا، يقول: «إن القرآن أنزل بلغة العرب، وعلى عرفهم وعادتهم، وكان الفصيح منهم لا يكون كلامه كلّه مسجوعا، لما في ذلك من أمارات التكلّف والاستكراه والتصنّع، ولا سيّما فيما يطول من الكلام» «1». ويستفاد هنا من كلام ابن سنان أن المواضيع القرآنية هي التي تتحكم في وجود السجع أو قرب السجعة أو بعدها، وهذا جليّ في أسلوب القرآن، فالسور المدينة تحتاج أفكارها إلى التفصيل، مثل آية الدّين، وآية الحجاب، وآيات التّوريث، فهذا يحتاج إلى دقّة تشريعية، وكذلك الأمر في العتاب والأخلاق وأمور الفقه كافة، وهذا يختلف عن أسلوب السور المكية القصار التي شملت مواضيعها الترهيب والترغيب وقضايا التوحيد، ووصف الجنة والنار، وكانت نبرة الغضب والزجر لا تتطلب النّفس الطويل، فتأتي الفاصلة بسرعة، وكأن المشهد قذيفة في إثر قذيفة، كما أنّ القصص يختلف أسلوب سردها بين السّور المكية وبين السّور المدنية، وعلى الرغم من هذا لم تتماثل الفواصل تمام التماثل غالبا، وذلك لأغراض فنية عميقة. ومن خلال هؤلاء الأعلام نستنتج تواتر التحرّج من مسّ القرآن باصطلاح «السّجع»، لأصله اللغوي في صوت الحمام، ولعيوبه الكثيرة التي لمسوها عند الخطباء المتقعّرين، وبعض المؤلفين في العصر العباسي، وانزاحت هذه الصورة من أذهانهم مع تقدم الزمن، لذلك رأينا السماحة في قبول مصطلح السجع، على أن سجع القرآن سجع محمود لا تكلّف فيه.

_ (1) ابن سنان الخفاجي، عبد الله بن محمد، سرّ الفصاحة، ص/ 205.

وتكمن مشكلة التسمية إذن في رغبتهم في تنزيه القرآن، وإلى هذا توصّل السيوطي فقال: «وأظنّ أن الذي دعاهم إلى تسمية جلّ ما في القرآن فواصل، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعا رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المرويّ عن الكهنة، وهذا غرض في التسمية قريب» «1». والمشكلة ليست في الاسم، بل في تبعيّة الشكل للمضمون في الفاصلة، وقد ذهب الفراء «2» في تفسيره «معاني القرآن» إلى القول بسجع القرآن، ورأى أن ليس من المعيب الحرص على الرنّة الموسيقية، ودعم رأيه بشواهد من السّور القصار، فرأى أن الغاية الموسيقية هي التي تتحكم في صيغة الفاصلة، فلا بأس أن يوجد الحذف، أو إفراد المثنّى، أو جمع المفرد، وغيرها من الأحكام. فقد رأى في سورة الضحى أن السجع هو علّة الحذف في قوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «3»، فأصل الكلام عنده: «ما ودّعك ربّك وما قلاك» فهو يقول: «يريد ما قلاك، فألقيت الكاف، كما تقول أعطيك وأحسنت، فهو يقول: «يريد ما قلاك، فألقيت الكاف، كما تقول أعطيك وأحسنت، ومعناه أحسنت إليك، فتكتفي بالكاف من إعادة الأخرى، ولأن رءوس الآيات بالياء، فاجتمع فيه ذلك» «4». فالسبب الأول هو أن البلاغة الرفيعة على هذا المنوال، والسبب الثاني مراعاة رويّ الفواصل الأخرى، فلا يكتفي بناحية الشكل كما نرى، بيد أننا بينا في مكان سابق كيف توسّمت عائشة عبد الرحمن التهذيب في حذف

_ (1) السيوطي، جلال الدين، الإتقان: 2/ 213. (2) هو يحيى بن زياد الدّيلمي أبو زكرياء، نحوي، كان أبرع النحويين في الكوفة عاصر هارون الرشيد، ووضع كتابه «معاني القرآن» تلبية لأسئلة الأمراء عن التفسير، توفي في طريقه إلى مكة سنة 207 هـ، من كتبه «المذكر والمؤنث» و «الفاخر» و «الممدود والمقصور»، انظر طبقات النحويين واللغويين للزّبيدي، ص/ 143. (3) سورة الضّحى، الآية: 3. (4) الفراء، يحيى بن زياد، 1972، معاني القرآن، تح: د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، ط/ 1، الهيئة المصرية العامة للكتاب: 3/ 271.

الكاف، ولم تحتكم إلى عادة الاستعمال اللغوي هنا. ومن شواهده على أنّ المضمون مسخّر لأجل الشكل قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى «1»، يقول: «يراد به فأغناك وآواك فجرى على طرح الكاف، لمشاكلة رءوس الآيات، ولأن المعنى معروف» «2». وهو لا يوضّح هنا تعاضد الشكل والمضمون، كما أنه لا يشير إلى جمال هذا التنغيم الذي هو علّة الحذف، ولا يعطيه حقّه من التّبيان والتعليل، وكأنه يريد أن يرجّح العلة الشكلية فحسب. لم يكن الفراء وحده آخذا بهذا الرأي، وجاهدا في الدفاع عن سبب الشكل في الحذف في مثل هذه الكلمات، فهناك النيسابوري، والفخر الرازي «3». وقال السيوطي: «ألّف الشيخ شمس الدين بن الصّائغ الحنفي كتابا سماه «إحكام الرأي في أحكام الآي» قال فيه: اعلم أن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يرتكب لها أمور من مخالفة الأصول» «4»، ومن هذه الأحكام صرف ما لا ينصرف، وحذف المفعول، وغير هذا. ويرى أحمد حسن الزيات أن «وجود الازدواج والسجع في القرآن الكريم في حالة تجوز لبعض الصيغ والألفاظ، ما يقطع بلزومه في البيان العربي، فأعجاز النخل مرة «خاوية»، ومرة «منقعر» «5». ومن الحيف أن يكتب هذا في مستهل القرن العشرين، وقد مضت قرون على نظرة الفراء، وجهد القدامى في تأكيد تمكّن الفاصلة، واستقلال كلّ صيغة بمعنى، ويعدّ ما ذكروه دراسات جمّة تردّ على الفراء بأن تمكّن الفاصلة بعيد

_ (1) سورة الضّحى، الآية: 6. (2) الفراء، يحيى بن زياد، معاني القرآن: 3/ 274. (3) انظر عبد الرحمن، د. عائشة، الاعجاز البياني للقرآن، ص/ 249. (4) السيوطي، جلال الدين، الاتقان: 2/ 214، وانظر السيوطي، معترك الأقران: 1/ 32. ولم أجد تعريفا بهذا الكتاب في كشف الظنون وذيله، ويعرف ابن الصائغ في حاشية مقبلة. (5) الزيات، أحمد حسن، دفاع عن البلاغة، ص/ 47.

عن مجرّد المناسبة اللفظية. وقد كانت حجّة الزيات أن الله عزّ وجلّ يقول في سورة القمر: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «1»، وفي سورة الحاقة يقول: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «2»، والمقصود بهذا التشبيه واحد، يقول المبرّد في مخطوطة المذكر والمؤنث: «ليس في إحدى الآيتين رعاية للفاصلة، وما أغنى القرآن عن رعايتها لو أدخلت على المعنى، وإنما قصد جنس النخل في التذكير، وأريدت جماعته في التأنيث، وبكلتا الصيغتين نطقت العرب، وعلى كلتيهما بنت تصرّفها في الكلام» «3». هذا من جهة التذكير والتأنيث أما اختلاف نعت أعجاز النخل مرة خاوية ومرة «منقعر» فإننا نجد أن كلمة «خاوية» معناها ساقطة، وقد ناسبت هذه الفاصلة ما قبلها دون «منقعر» في هذا المقام، لأن القوم صرعى ألقت بهم الريح العاتية على الأرض، كما ألقت بأركان بيوت القرية في قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها «4»، فهنا يقصد مجرد السقوط، وعند ما قصد البيان الإلهي خفّتهم أمام قوة الريح ذكر كلمة «منقعر»، وفي هذا يتضح التمكن في أقصى غاياته. ونحسّ في تفصيلات الزمخشري دفع تهمة السجع، وذلك من خلال نظرية النظم، وهو يصرح بهذا قائلا: «لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلّا مع بقاء المعنى على سردها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه .. وبني على ذلك أن التقديم في وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «5»، ليس لمجرد الفاصلة، بل لرعاية الاختصاص» «6». فهو يثبت أن التقديم كان لأهمية ما يوقن به المرء في الدرجة الأولى، ويأتي

_ (1) سورة القمر، الآية: 20. (2) سورة الحاقّة، الآية: 7. (3) الصالح، د. صبحي، دراسات في فقه اللغة، ص/ 87. (4) سورة البقرة، الآية: 259. (5) سورة البقرة، الآية: 4. (6) الزمخشري، محمود بن عمر الكشاف: 1/ 137.

ترنيم الواو والنون في الدرجة الثانية. والمحدثون لم يميلوا إلى جانب سيطرة الشكل على المضمون، فهم يعترفون برنة الفاصلة من حيث هي قرار موح، وترجيع رائع، ولكن هذا مرتبط أشدّ الارتباط بالمعنى، فأحمد بدوي يقول: «فإنك لتجد أن الفاصلة القرآنية كالقافية الشعرية، وتزيد الفاصلة على نظيرتها بشحنة المعنى، ووفرة النّغم، والسعة في الحركة» «1». وقد حاولت عائشة عبد الرحمن جاهدة الردّ على الفراء الذي قال بعلّة السجع في وجود الفاصلة، وكان اختيارها لتفسير قصار السور مناسبا، لأن الفراء فسّر مقولته بشواهد من السّور القصار. ومعيارها الاستخدام الصحيح للغة، والأسلوب الخاص للبيان القرآني من خلال اطّراد صيغ ما، فلا يوجد إسقاط نفسي يدعو إلى الأخذ به، أو إلى رفضه، بل اللغة الصحيحة التي تعلّمنا الفروق الدقيقة هي المتحكم، وفي كل وقفة لها نقع على احتراز من توهم المراعاة الشكلية للفواصل. وتقول في الآية الكريمة: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «2»: «لم يعدل فيها عن الكريم إلى الأكرم لمجرد رعاية الفاصلة، ولا قصد بها المفاضلة بين أكرم وكريم، على ما تأوّله المفسّرون، فالغاية من صيغة أفعل هي أبعد ما يكون من التصوير». وهذا ما تراه أيضا في اسم الأعلى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3»، تقول: «وإنّما القصد المضيّ بالعلوّ إلى نهايته القصوى بغير حدود ولا قيود» «4». وهي تنظر في صيغة الفاصلة، وتبحث عن نظائرها محافظة على أسلوبها الشمولي، ففي الآية: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى «5» تقول: «واستعمال العسرى

_ (1) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 89. (2) سورة العلق، الآية: 3. (3) سورة الأعلى، الآية: 1. (4) عبد الرحمن، د. عائشة، البيان في الإعجاز، ص/ 253. (5) سورة الليل، الآية: 7.

كاستعمال اليسرى ليس ملحوظا فيه المصدرية كالعسر واليسر، وإنما الملحوظ فيها بصيغة فعلى أقصى اليسر، وأشدّ العسر، أو هما اليسر الذي لا يسر مثله، والعسر الذي ما بعده عسر، ونظيرهما في القرآن الكريم من غير المادة: «البطشة الكبرى والنّار الكبرى» «1». فقرين هذا في الآية الكريمة: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى «2» وقوله عزّ وجلّ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «3». والجدير بالذكر أن صيغة الكبرى لم ترد إلا مسندة إلى آيات الله، وفي وصف القيامة، وهذا يحقق غاية الفاعلية، ليظلّ التفكير يحوم حول مدى قدرة الله المطلقة. وفي تفسيره سورة الهمزة تذكّر بالاستعمال الصحيح الذي تعدّه سلاحا في رفض القول بالسجع، قال تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «4». وهي لا ترى في الأفئدة معنى عضويا إذ تقول: «إذن يكون إيثار الأفئدة هنا لا لنسق الفاصلة فحسب، ولكنه كذلك لتخليص الأفئدة من حسّ العضويّة التي تدخل على دلالة لفظ القلوب فيما ألف العرب من لغتهم، ولا نزال نستعمل القلب بمعناه العضويّ، ولا نستعمل الفؤاد بهذا المعنى قطّ» «5». وهي قلّما تسهب في بسط الجوانب النفسية، إذ تكتفي غالبا بذكر التمكن اللغوي، إلا أن أسلوبها يوحي بمجاوزة البعد اللغوي، لأجل تبيين المقدرة التصويرية من خلال الفروق، فهي لا تعلّق مثلا على أهمية الأفئدة لا القلوب بشكل واضح، مما يفسّر العذاب الذي ينال النّفس. وبعد هذا لا بدّ من الإشارة إلى أن الدراسين لم ينكروا مراعاة الفواصل

_ (1) عبد الرحمن، د. عائشة، التفسير البياني: 2/ 111. (2) سورة الأعلى، الآيتان: 11 - 12. (3) سورة الدخان، الآية: 16. (4) سورة الهمزة، الآيتان 6 - 7. (5) عبد الرحمن، د. عائشة، التفسير البياني: 2/ 181.

- مناسبة الفاصلة لما قبلها:

تماما خصوصا إذا أمعنّا النظر في سياق كلامهم، فنجد عبارة «لمجرد مراعاة الفواصل»، فهم على يقين بانسجام الشكل والمضمون، إلا أنهم يقدّمون المضمون على الشكل. - مناسبة الفاصلة لما قبلها: غايتنا هنا البحث عن العلائق المعنوية التي تربط مفردة الفاصلة بما يسبقها من كلام، وهذا ما يمكن أن يسمى مراعاة النظير، فتكون المفردة تتويجا لما يسبقها، بحيث تناسب فحوى المعنى الوارد. لقد بذل الخطيب الإسكافي جهدا كبيرا في المتشابهات في اللفظ، وذلك في كتابه «درّة التنزيل» الذي عني فيه بالآيات المتشابهات، قال تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ «1». ففي تذييل الآية الأولى نجد كلمة الفاصلة «يتفكّرون» وفي تذييل الثانية كلمة «يعقلون» وفي تذييل الآية الثالثة «يذّكّرون»، يقول الخطيب الإسكافي في هذا التنوع: «إن التفكير إعمال النظر، لتطلّب فائدة، وهذه المخلوقات التي تنجم من الأرض إذا فكّر فيها علم أن معظمها ليس إلا للأكل .. فهذا موضع تفكّر بعث الناس عليه، ليفضي بهم إلى المطلوب منهم، وأما تعقيب ذكر الليل والنهار، وما سخّر في الهواء من الأنواء بقوله لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فلأن متدبّر ذلك أعلى رتبة من متدبّر ما تقدم، إذ كانت المنافع المجعولة فيها أخفى وأغمض .. وأما الآية الثالثة وهي لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فلأنه لما نبّه في الأوّلين على إثبات الصانع، نبّه في الثالثة على أنه لا شبه له مما صنع» «2». لقد دلّ على تماسك كلمات القرآن، وربط معنى الفاصلة بالآية، بل إنه دلّ على ارتباط «يذكرون» بتنزيه الخالق كما ورد في أول السورة: سُبْحانَهُ

_ (1) سورة النّحل، الآيات: 11 - 13، ذرأ: خلق. (2) الإسكافي، محمد بن عبد الله، درّة التنزيل وغرّة التأويل، ص/ 258 - 259.

وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «1». ونظير هذا ما ورد عند تملّي الزمخشري جمال آيات سورة الأنعام، فهو يقول عند الآية: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «2»، وعند الآية التي تتلوها قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ «3»: «فإن قلت: لم قيل: «يعملون» مع ذكر النجوم، و «يفقهون» مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدقّ صنعة وتدبيرا، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له» «4». ومن هذا جاءت تسمية تفاصيل التشريع الإسلامي فقها، لأنه يعتمد الفهم لدقائق الأمور، مما يحتاج إلى دقّة وفهم واسع، كذلك فقه اللغة، والزمخشري لا يتعرض هنا للجانب الموسيقى، فكلا الفاصلتين على الواو والنون، وهو الأكثر في القرآن. يضع ابن أبي الإصبع أمثال هذه الشواهد تحت عناوين متعددة هي التوشيح، أي دلالة أول الكلام على آخره، والتصدير الذي هو في الشعر ائتلاف القافية مع سائر كلمات البيت، والإيغال الذي هو تتميم المعنى، وما قد ذكره الزمخشري نجده تحت عنوان «التخيّر» فالتذييل ينتهي بقوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «5» وهو يقول: «إن نفس الإنسان وتدبّر خلق الحيوان أقرب إليه من الأول، وتفكّره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول، وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح تقتضي رجاحة العقل ورصانته» «6». وقد امتاز الخطيب الإسكافي والزمخشري بصفاء الذّهن والترفّع عن التعلّق

_ (1) سورة النّحل، الآية: 1. (2) سورة الأنعام، الآية: 97. (3) سورة الأنعام، الآية: 98. (4) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشّاف: 2/ 39، وانظر تفسير أبي المسعود: 3/ 166. (5) سورة الروم، الآية: 24. (6) ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 528.

بالمصطلحات والتفريعات، كما صنع ابن أبي الإصبع، إذ كان يردّد الشواهد نفسها تحت عنوان آخر، على الرغم من إدراكه جمالية تماسك آيات القرآن. وهو يستشهد للتّصدير ببعض الآيات، ومن شواهده قوله تعالى: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ «1» .. ويعلق على هذا التذليل قائلا: «إنّ هذه الآية الكريمة لما تقدم فيها ذكر العبادة والتصرف في الأموال، كان ذلك تمهيدا تاما لذكر الحلم والرّشد، لأن الحلم: العقل الذي يصحّ به التكليف، الرّشد حسن التصرف في الأموال» «2». إنه يستعين بما يعرف في الشرع عن التكليف، وحقّ التصرف في الأموال، ويمكن أن يضاف هنا بعد التهكّم في الكلمتين. ويستشهد للتّوشيح بقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ «3»، ويعرّفه قائلا: «سمّي هذا الباب توشيحا، لكون أوّل الكلام يدلّ على لفظ آخره، فيتنزّل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزّل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح» «4». ونحن لا نرى هذا الفرق الذي يحدو به على تخصيص مكان للتوشيح، وآخر للتّصدير، فكلاهما يعني العلاقة القوية بين الأوّل والآخر، وكان يكفي الحديث عن التمكن من غير هذه التفريعات، إلا أن هذه التفريعات لا يخلو مضمونها من نظر ثاقب وتذوق رفيع مبدع. ويتبع السيوطي خطا ابن أبي الإصبع، وينقل رأيه قائلا: لا تخرج فواصل القرآن عن أحد أربعة أشياء: التمكين والتصدير والتوشيح والإيغال» «5». ثم ينقل شواهده مع اختصار التّعليق الفني، وبعد هذا يذكر ما يحصل من

_ (1) سورة هود، الآية: 87. (2) ابن أبي الإصبع، تحرير الحبير، ص/ 224. (3) سورة يس، الآية: 37. (4) ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 228. (5) السيوطي، جلال الدين، معترك الأقران: 1/ 23.

تقديم وتأخير وغيره لمراعاة الفاصلة، وينقل أحكام ابن الصّائغ «1» من كتابه «إحكام الرأي في أحكام الآي» «2»، وكأنّ الأصل ليس على ما جاءت عليه الفواصل، إنما خولفت الأصول التي يريدها ابن الصائغ لأجل مراعاة لفظية. وعند أبي السعود نجد تعدّدا لا يدل على تناقض، فهو يضيف إلى أهمية النظم- كما رأيناها عند الزمخشري تتخذ الأولوية- مراعاة الفواصل، ومن هذا ما جاء في تفسيره للآية الكريمة: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «3» فهو يقول: والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد، والمحافظة على الفواصل» «4». والمحدثون لم يخصّصوا فصلا في أسفارهم لتمكّن الفاصلة، واحتوائها لمعناها صنيع القدامى، فذلك نجده منثورا في صفحات جمال اللفظة القرآنية بشكل كلي. ولهذا يلفت الدارس نظرنا إلى جمال المفردة، فنجد أن هذا الجمال يشمل فصولا متعدّدة من بحثنا، ولا ريب في أنّ المفردة القرآنية تتّسم بتعدّد جوانب جمالها، فهناك الصوت الموسيقى، وهناك الإيجاز والتهذيب، ومناسبة المقام وإحكام الصورة، وغير هذا. وقد خصصت عائشة عبد الرحمن جانبا لتمكّن الفاصلة، كما وجدنا سابقا، وكذلك في الفصل الأول، وسائر الدارسين المحدثين لم يبخلوا بعطائهم في إثبات تمكّنها وجمالها، لكنّهم ينظرون إليها على أنها مفردة، ولذلك مرّت بنا فواصل كثيرة في فقرات سابقة.

_ (1) هو محمد بن عبد الرحمن، شمس الدين الحنفي من أدباء مصر، درس بالجامع الطولوني، وولي في آخر عمره قضاء العسكر ودار الإفتاء توفي سنة 776 هـ، ومن كتبه «الغمر على الكنز» في فقه الحنفية»، و «المنهج القويم في فوائد تتعلق بالقرآن العظيم» و «المباني في المعاني» انظر الأعلام: 7/ 66. (2) السيوطي، جلال الدين، الاتقان: 2/ 214، وانظر السيوطي، معترك الأقران: 1/ 32. (3) سورة الأنعام، الآية: 1. (4) أبو السعود العمادي، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 3/ 105.

- انفراد الفاصلة بمعنى جديد:

ونورد هنا ما قاله حفني محمد شرف الذي سار على نهج القدامى، فقد جاء في كتابه: «ومن دقّة اختيار ألفاظ القرآن، والتمييز بين معانيها ما نجده في التفرقة في الاستعمال بين لفظ «يعلمون» و «يشعرون»، وقد كثر دورانهما في القرآن، فنجد أنه في الأمور التي يرجع إلى العقل وحده في الفصل فيها يستعمل كلمة «يعلمون»، لأنها صاحبة الحق في التعبير عنها، وأما الأمور التي يكون للحواس مدخل في شأنها فيستعمل كلمة «يشعرون» «1». وإذا تلمسنا ورود كلمة «يشعرون» مثلا نجد أنها أعلق بحاستي السمع والبصر، كقوله عزّ وجلّ: فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ «2»، ولا شكّ أن التتبّع الدقيق والتفسير القويم يوصلانا إلى نتيجة تطابق ما ذكره شرف. وهذه النظرة تتكئ على ما ذكره القدامى، بيد أنّ الباحث ينظر إلى القرآن كلّه، وقد ظلّ الزمخشري مثلا يقتصر على الآية التي يفسرها، ولا يصل بنا إلى النظام القرآني الكلي، إلا أنه لا جديد إزاء ما بذل القدامى من جهد في هذا الشّأن. - انفراد الفاصلة بمعنى جديد: ثمّة فواصل تحسبها النظرة السطحية زائدة عن المعنى، وأنّها أضيفت لأجل النّسق الموسيقى، وقد لفت بعض المحدثين الأنظار إلى مثل هذه الفواصل، وما تضيئه في النص، وحجم فاعليتها في التأثير، ولم تكن هذه السّمة بعيدة عن تذوّق القدامى، فقد سمّاها ابن أبي الإصبع إيغالا، ومن شواهده قوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ «3»، وقد قال: «فإن قيل: فما معنى «مدبرين»؟ وقد أغنى عنها قوله: «إِذا وَلَّوْا» قلت: لا يغني عنها قوله: «ولّوا»، فإن التولّي قد يكون بجانب دون جانب، وبدليل

_ (1) شرف، د. حفني محمد، الإعجاز البياني بين النظرية والتطبيق، ص/ 224. (2) سورة الزّمر، الآية: 25. (3) سورة النّمل، الآية: 80.

قوله تعالى: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ «1»، أراد تتميم المعنى بذكر تولّيهم في حال الخطاب، لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة، فإن الأصمّ يفهم بالإشارة ما يفهمه السّميع بالعبارة، ثم اعلم أن التولّي قد يكون بجانب من المتولّي، فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتولّ به» «2». وكأن عنوان هذا الفن يوحي بأن البيان القرآني يوغل في المعنى، وفي رسم المشاهد حتى يكون التصوير واضحا للعيان، ومؤثّرا بشكل أقوى. والشواهد التي قدّمها ابن أبي الإصبع تميل إلى المعيار اللغوي دائما، ولهذا لم يكن منه تخيّل للإيحاءات النفسية التي تضيفها الفاصلة الموغلة، وهذا نستشفّه في تفسير أبي السّعود الذي سار على خطا الزمخشري، ففي تفسيره للآية: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ «3» يقول: «والجلود عطف على «ما» وتأخيره عنه إما لمراعاة الفواصل، أو للإشعار بغاية شدّة الحرارة، بإيهام أنّ تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها على العكس» «4». فهو لا يسمّي هذا الفنّ، ولا يذكر شواهد شعرية شأن ابن أبي الإصبع، وهذه طبيعة كتب التفسير البياني المختلفة عن طبيعة كتب الإعجاز والبلاغة، ولكن يؤخذ عليه هنا تعدّد في الرأي، فرأيه بين مراعاة الفواصل، وأهمية معنى الجلود. ولا شك أن كلمة الجلود هنا تنمّ على الإحساس بالنار التي تصهر، وهي كذلك توحي بالفروج، وما يتصل بها من زنى وقبائح، وأنّ الوقوف عليها يبعث في روع المرء رهبة، وقد تبيّن في العلم الحديث أنّ الجلد مستقل بمراكز إحساس، ولا يتلقّى الإحساس من الباطن. لقد وردت في القرآن فواصل يظنّ أنها زائدة، وفائدتها تكمن في إحكام

_ (1) سورة الإسراء، الآية: 83. (2) ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 234. (3) سورة الحجّ، الآية: 20. (4) أبو السّعود العماديّ، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 6/ 101.

الصورة الفنية، وهذا ليس ببعيد عن معنى الإيغال الذي ذكره لنا ابن أبي الإصبع. وهذه الفاصلة تقع من جهة الإعراب صفة للكلمة التي تكون قبلها، فتعطيها إيغالا، وزيادة تأثير، ومن هذا قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ «1»، فإنّ هذه الفاصلة أضافت إلى غباء الحمر ضعفها، فهي تهرب من اللّيث، وهذا يصوّر مقدار إنكار الكفار وتهربهم من الرسالة السماوية. وكذلك قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى «2» فالفاصلة توحي باستدامة هذه النار، والفاعلية تضاف إلى الماهيّة، ويمكن أن نقول هذا في قوله تعالى: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ «3»، وكذلك قوله: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ «4»، فهاتان الكلمتان تكملان الصورة أمام البصر ولا تدعان للنّقص مكانا، إضافة إلى جمال المحافظة على الرّنّة الموسيقية. نستنتج مما سبق أنّ جمالية تمكّن الفاصلة لم تكن وليدة عصرنا، فقد أفاض القدامى في بيان مضمون الفاصلة، وحقّه من الوجود، وبعدها عن التكلّف والقلق في مكانها، وردّوا تهمة السّجع، بيد أنهم لا ينفون قصد القرآن إلى الترنيم بالفواصل، وذلك بتقديم معنى الفاصلة وأهميّته في الآية على المراعاة اللفظية. وكان لكلّ دارس أسلوبه في إبراز تمكّن الفاصلة، وقد أثبتنا في الفقرة وقفات رائعة لهم، وبيّنّا المعيار الذي يعتمده كلّ منهم، فهناك المعيار اللغوي، ودقّة الاستعمال والفروق، وهناك معيار النظر إلى أوّل الآية، ولم تخل نظراتهم من تمحيص وكشف لظلال الفاصلة، وقد وجدوا جمالها يتوزّع بين مناسبتها لما قبلها، وإضاءتها للنص بمعنى جديد، وقد تبيّن لنا أن القدامى بذلوا جهدا كبيرا في هذا المضمار، لم يزد عليه المحدثون كثيرا.

_ (1) سورة المدّثّر، الآية: 50. (2) سورة الليل، الآية: 14. (3) سورة الهمزة، الآية: 9. (4) سورة الحاقّة، الآية: 22.

- رأي الداني في الفاصلة:

- رأي الدّاني في الفاصلة: والجدير بالذكر أن هناك تعريفا للفاصلة انفرد به أبو عمرو الدّاني «1»، إذ يرى أنّ الفاصلة هي كلمة آخر الجملة، وليس آخر الآية، كما هو متعارف عليه، وقد نقل الزركشي رأيه هذا، إذ يقول أبو عمرو: «أمّا الفاصلة فهي الكلام المنفصل مما بعده، والكلام المنفصل، قد يكون رأس آية، وغير رأس، وكذلك الفواصل يكنّ رءوس آي وغيرها، وكلّ رأس آية فاصلة، وليس كلّ فاصلة رأس آية، فالفاصلة تعمّ النّوعين، وتجمع الضربين، ولأجل كون معنى الفاصلة هذا ذكر سيبويه في تمثيل القوافي يَوْمَ يَأْتِ «2» وما كُنَّا نَبْغِ «3»، وهما غير رأس آيتين بإجماع- مع وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ «4»، وهو رأس آية باتّفاق» «5». وإذا كانت الفاصلة القرآنية قرينة السّجعة والقافية، فإنّ هذه الفواصل الداخلية تختلف برويّها عن الفاصلة في رأس الآية، ومما يفاد من نظرة أبي عمرو الدّاني أنّ الوقوف على رأس الجملة لتحديد الفاصلة يعدّ مظهرا آخر لتمكّن الكلمات من أماكنها. ومما يفاد أيضا أنّ الوقوف الجائز على رأس الجملة لا يفقد القارئ شيئا من الترنيم الذي يكون في فاصلة رأس الآية، ويبدو مما اقتبسناه أنّ سيبويه ذكر هذا فقرن «يأت» مع «يسر». ولم يناقش الزركشي هذا الرأي، وكأنّه ذكره لأجل استيفاء الآراء في تعريف الفاصلة، ونودّ أن نقف عند قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا

_ (1) هو عثمان بن سعيد، أحد حفّاظ الحديث، ومن الأئمة في علوم القرآن، من أهل «دانية» بالأندلس، توفي في بلده 444 هـ، ومن كتبه: «اليسير» و «جامع البيان» و «طبقات القراء» انظر الأعلام: 4/ 306. (2) سورة هود، الآية: 105. (3) سورة الكهف، الآية: 64. (4) سورة الفجر، الآية: 4. (5) الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان: 1/ 84، وانظر السيوطي، الإتقان: 2/ 209.

بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «1» في الحديث عن يوم القيامة، فإنّ الوقوف على كلمة «يأت» لا يخلو من نغم، وكذلك يعني الوقوف هنا استحضار الذّهن لتلقّي النتيجة حيث الشّقاء والسّعادة. وكذلك في قوله عزّ وجلّ عن موسى عليه الصلاة والسلام وفتاه عند ما نسيا الحوت: قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً «2» فإنّ الوقوف على كلمة «نبغ» يعني استحضار تأمّل النبي الكريم موسى، وصمته وفهمه لحكمة ربّه، ومن ثمّ يأتي الحديث عنهما، بعد كلام النبي. وقد بينّا في الفصل الأول كيف حضّت الأحاديث النبوية الشريفة على القراءة المتأنّية للقرآن، وقد ذكر السيوطي أن الوقوف على كل كلمة جائز «3». ويمكن أن نطبّق رأي أبي عمرو الدّاني في الفاصلة في آية الكرسي، وهي من الآيات الطوال، يقول عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ، مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ «4». فنحن في هذه الآية إزاء تسع فواصل: «القيّوم، نوم، الأرض، بإذنه، خلقهم، شاء، الأرض، حفظهما، العظيم»، فالمدّ الجميل ذو الحركات السّتّ في كلمة القيّوم، ويتبعه جمال الوقوف عند «نوم»، مع إطالة الإحساس بالواو قبل التّركيز على الميم، وكذلك كلمة «الأرض»، ثم يأتي الوقوف عند «بإذنه»، حيث تشبع كسرة الهاء، فتحدث في الأذن تطريبا، وكذلك «خلفهم» ثم المدّ الجميل يكون في شاء، لينسجم مع سكون الميم الشّفوية، وكذلك المدّ في «حفظهما» ينسجم مع الوقوف على الضّاد «الأرض»، ثم يأتي مسك الختام في المدّ الذي يسبق الميم «العظيم»، وهي الفاصلة التي تعارف عليها الدارسون.

_ (1) سورة هود، الآية: 105. (2) سورة الكهف، الآية: 64. (3) انظر السيوطي، جلال الدين، الإتقان: 2/ 209. (4) سورة البقرة، الآية: 255، لا يؤده: لا يثقله، ولا يشقّ عليه: ماضيه آد أودا.

ونلتمس من رأي الداني جمالا في الشكل بحيث أكّدت لنا التلاوة جمال الوقوف على أواخر الجمل: اسمية أو فعلية، وهذا ما يدفع شبهة السّجع بقوّة، لأجل تنوّع رويّ هذه الفواصل بشكل واضح، كما يؤكّد مفهوم الفاصلة في رأس الجملة مناسبة كلّ كلمة قرآنية للمقام، هذا من جهة المضمون، أما الشكل فقد دلّتنا نظرة الدّاني على جمال موسيقي في تركيب الجمل ومشاركتها للفواصل بالأنغام الداخلية.

الخاتمة

الخاتمة تقع المفردة في غاية الأهمية في دراسة بلاغة القرآن، من حيث إنها الوحدة المكونة للآيات، وإنها عنصر فعّال في توصيل المعنى إلى المتلقّي بصورة بيانية، ومن حيث إن الكلام الرّبّاني محكم متماسك لا غنى فيه عن مفردة، بل عن حرف. وقد تبين لنا في هذا البحث أن جمال المفردة مرئيّ من حيث التصوير، وسمعي من حيث متعة الأنغام، ونفسي من حيث إمتاع الوجدان وموافقة المواقف. وقدّمنا الجمال البصري على الجمال السمعي لكثرة الاهتمام به، إذ رأينا أن الأسلاف الميامين يعنون بالجمال البصري، ويبذلون الكثير في تبيينه، لأنه أعلق بالصورة البيانية، وسنذكر أهم الاستنتاجات التي توصّل إليها البحث: 1 - أسهمت المفردة القرآنية في تبيين جمال الصورة البيانية، فكانت عنصرا مهما من عناصر الجمال البصري، لأنها حلقة الوصل بين المعنى وبين توصيله بصورة جمالية رفيعة. فالمفردة القرآنية تجسّم المعاني وتحيلها إلى مشاهدات بعد أن تكون دفينة مكنونة ومشاعر ومجرّدات، ومن جوانب هذا الجمال البصري إسباغ الصّفات الآدمية على الجمادات، فالمفردة تشخّص، فترتفع بالأشياء بعد أن تلقي عليها الأحاسيس واللواعج البشرية، كما أنّها تصوّر الحركة المنشودة المناسبة للموقف وتترجم بسرعة الحركة أو بطئها المشاعر الخبيئة. ومما أسهم في تصوير الجمال البصري ذكر أسماء من الطبيعة الجامدة والحيوان، ووجدنا أن ما استعير منهما كان مناسبا للمواقف، ومتميزا بطابع الاستمرار والشّمول، ورأينا أن القرآن اقتصر على الصّفات القبيحة في الحيوان لدى الاستعانة بها في تصوير الكفار والمنافقين، كما أنّه نفى الحياة عن النبات المستعار، ليدلّل على صفة الجمود في تفكير الكفار، وإصرارهم الفارغ

كالنّخل الخاوي والعصف المأكول. وتأكدنا أن الحسية المطلوبة في التجسيم وغيره مرحلة أوّلية، وواضحة السّبل إلى الأثر النفسي، فلا يوجد في القرآن إثارة حسّية تقصد لذاتها، بل الغاية الدائمة هي سبر أغوار النفس، وتوصيل رسالة الهداية. 2 - وقد اتسمت المفردة القرآنية بجمال الشكل والمضمون، فجمعت بين قوة تأثير التصوير، وبين عذوبة الصوت، ونقصد بالعذوبة سهولة نطق مخارجها، وشهادة السّمع بسهولة أصواتها، وهذه العذوبة لم تنتج عن اجتماع الأصوات الرّخوة أو تباعد مخارج حروف المفردات، إذ تبيّن لنا أن العبرة بصفات الحروف لا بمخارجها العضوية. وقد استعنّا بمعطيات علم التجويد وفقه اللغة لمعرفة صفات الحروف من حيث الشّدة والهمس والإطباق والذّلاقة والقلقلة وغير هذا، ولدى تطبيقنا لهذه المعطيات تبيّن لنا في دراسة بعض المفردات أنّ ثمّة انسجاما ملموسا بين هذه الصّفات مما يبعد الثّقل عنها، كما أن ثمة علاقة وشيجة بين طبيعة الأصوات وتشكيلها وبين المواقف التي تذكرها. وقدمنا بعض الشواهد التي تثبت العلاقة بين الأصوات الشديدة وبين مواقف الوعيد والترهيب، والعلاقة بين مواقف الرحمة وبين الأصوات اللينة، وقد عمدنا إلى مصطلح «الشّدة» لا مصطلح «الثّقل» لعدم وجوده في مفردات القرآن مقابلا لمصطلح الخفّة. وتعرّضنا في البحث للمفردات ذات الحروف الكثيرة، ونفينا عنها عيب الطّول من خلال التّنويه بأهمية التشكيل الداخلي الصوتي، وإفاضة هذا الطول لبعض الإيحاءات مما ينفي عيب الطول ووطأته. وكان للمفردات القرآنية جمال خاص، من حيث إن بعضها مصوّر بأصواته للحدث وهو ما دعي ب «الأونوماتوبيا»، ولكي نبعد طابع الرمز المغرق، لجأنا إلى علم اللغة لمعرفة صفات الحروف، وإمكان ربطها بالتصوير، وقد أكّدنا وجود جذور لهذه الفكرة في التراث العربي، على الرغم من وجودها في الأدب الأوروبي.

ولدى ذكر بعض الشواهد تبيّن لنا أن على الدارس أن يتسلّح بمعطيات علم اللغة وعلم التجويد، ليتفهّم صفات الحروف، فيربطها بالمواقف أو يبحث في صحة محاكاتها للمعاني والأحداث، لكي لا يقع في تخمين ووهم، وقد رأينا أن الحركات تشارك الحروف في المحاكاة، وأنّهما لا يوظّفان لمطلب المحاكاة في كل موضع. 3 - ثمّة جانب آخر لجمال المفردة تتلقّفه البصيرة، ويدخل في أغوار النفس، ويحيط بأحكام المنطق وثباته، وهو ليس بالجمال الحسّي كالمرئي والمسموع، بل يدل على إقناع وموافقة السّياق الكلي، وقد حرصنا على كشف المعالم الفنية في اختيار المفردة، ومن خلال أسلوبها في التعبير عن المعنى. وهاهنا درسنا الأبعاد الفنية لصيغ المفردات، وخصوصية التعبير بصيغة ما، فوجدنا أن الصيغة تختصر الكثير من المفردات، وأنها تنمّ على رفعة البيان القرآني ودعوة إلى التهذيب، وأنها تلقي ظلالا نفسية خاصة. ورأينا أن ثمة مفردات قصد فيها البيان القرآني الإيماء وعدم التصريح بالمعنى فوضع مفردات شفّافة تومئ إلى المعنى إيماء، وهذه المفردات تخصّ المرأة وعلاقتها بالرجل، وأضفنا إلى هذا مفردات في شئون عامة دلّ فيها القرآن على سموّ خطابه ورفعته. وكذلك درسنا المفردات التي تختزن المعاني الكثيرة التي تدلّ على تماسك الآيات، وهي تضاف إلى إيجاز الآيات، وقد حاولنا تبيين التوقيع على أوتار النفس بهذا الاختزان، وقدرة القرآن على التوصيل بأقلّ عدد من المفردات. وقد حاولنا أن نبيّن سيطرة المضمون على الشكل في فواصل الآيات، إذ ربطنا المفردة بما يسبقها، واختصاصها بمعنى جديد على سائر مفردات الآية، وبهذا نفينا أن تقصد المراعاة الموسيقية في وجود مفردة ما أو صيغتها، إذ المعنى هو المقدّم. وقد بيّنّا استيعاب المفردة لجوانب المعنى من خلال الاستعانة بالفروق الدقيقة بين المفردات، وأضفنا إلى هذا الدّلالة الخاصة لبعض المفردات التي

يضفي عليها السّياق القرآني دلالة خاصة تبعدها عن المعنى المتعارف عليه، ومن هذا ما يسند إلى الخالق عزّ وجلّ من مفردات تثير الخيال البشري، وتؤكّد الهيبة العظمى. 4 - ومن النتائج التي توصل إليها البحث إمكان استقلال المفردة بجمال فعّال في سبك الآيات، وقد أكّدنا عدم وجود الترادف في القرآن، فكلّ مفردة تستقلّ بمعنى لا يكون في مرادفة لها، وأقررنا بوجود الترادف في العربية لأسباب عدّة كتعدّد الواضعين والتّصرّف بالصوتيات ووجود المجاز وغير هذا، وقد أثبتنا بعض الشواهد التي تؤيّد الفروق اللغوية بالاستعانة بجهود العلماء. 5 - لم تنف المفردة جمال النّظم القرآني، بل يضاف جمالها إلى نظرية النظم، لأنّ المفردة تعدّ من جزئيات النّظم، وهي الخطوة الأولى في بناء الجمل، ولهذا تسبق الجمال الناشئ عن العلاقات النحوية بين المفردات. 6 - دلّ القرآن والحديث النبوي على جمال التشكيل الصوتي للقرآن، وقد وقع الدارس القديم على هذا الجمال، ودلّ على مواطن الحسن أحيانا، إلا أن اهتمامه كان ينصبّ في تبيين الصورة البيانية، وتوصيل المعنى، ولهذا لم ندّع أن المحدثين هم مكتشفو الجمال الموسيقى. 7 - إن تذوق البلاغة القرآنية لم يقتصر على الأدباء وحدهم، كما أنّ هذا التذوّق لا يقتصر على عصر معيّن، فالإعجاز القرآني تحدّ لكل عصر، وإن تقدّم الفنون والدراسات يعدّ مفتاحا لقراءة جديدة فنية لبسط معالم جديدة في جمال القرآن، ونقصد بجمال القرآن، جمال الشكل الفني المعجز، وليس جمال المحتوى الدّيني فيه. وأبعاده الإنسانية كصفات الخالق وعلاقة الإنسان بخالقه وغير هذا. هذا من حيث بيان وجوه جمال المفردة وأسلوبها في القرآن، أما من الوجهة التاريخية فقد توصّل البحث إلى الاستنتاجات الآتية: 1 - استطاع القدامى معرفة إسهام المفردة في الصورة الفنية، وبيّنوا إضاءتها للنص، وانفرادها بالجمال البياني، وكانوا يهتمون بتوصيل إقناعها للعقل وأثرها في الوجدان، وأدركوا أن الحسّية تقصد لأجل زيادة الأثر النفسي، كما

قدّموا جهودا كبيرة في استيعابها للمعنى وحقّها بالمقام، وإن مالت بعض النظرات إلى الإجمال. 2 - أدرك القدامى النّغم الموسيقى، وقد دلّنا استقراء جهودهم على أن غاية المفسّر القديم لم تنصبّ في إبراز الجمالية الموسيقية، وأنّ مصطلحهم المجمل لا يعني- إطلاقا- عدم فهمهم وإحساسهم بتنغيم المفردات، بل كانت غايتهم تنحصر في جلاء المعنى وتوصيلة بدلا من التّكهّن في أهمية موسيقا تشكيل المفردات، فهم اكتفوا بالإشارة إلى مواطن جمال الصوت بمصطلحات مثل: فصاحة وعذوبة وخفّة وغير هذا، ولم يتوسعوا في توضيحها وربطها بمعايير فنية جليّة، وذلك لعدم وجود الثقافة الفنية الخاصّة بهذه الجمالية، ولاهتمامهم الكبير بالصورة البيانية، لذلك لا ندّعي أن المحدثين ابتدعوا هذه الجمالية، فقد كانت إشارات القدامى مفتاحا لهم، كما أشرنا منذ قليل. 3 - تسلّح المحدثون بالثقافة الفنية المعاصرة، واعتمدوا على ما بذله أسلافهم القدامى، فدلّوا على الأثر النفسي في نظراتهم، وتوسّعوا في ربط الصورة البصرية أو السّمعية بالوجدان، إلا أنهم لم يضيفوا الكثير بالنسبة لعلاقة المفردة بالمعنى وتمكّنها في الآية فقد كانت للقدامى جولات رائعة في هذا المضمار بأساليب مختلفة. 4 - أكّد المحدثون علاقة الأنغام بتصوير المواقف، وكان بعض هذه النظرات واضحا يعتمد الذوق والمعيار، وكان بعضها الآخر غامضا يعتمد الذوق الشّخصي، ولا يمكن أن يبرّر، فكان لا بدّ من الرجوع إلى معرفة صفات الحروف وطبيعة التشكيل الداخلي للمفردات لتأكيد العلاقة بين الصوت والموقف. ولا بدّ أن نعتذر في آخر المطاف عن عدم الاقتباس من كتب التفسير الصوفي، على الرغم من أن الصّوفيين اهتموا بالجميل والجليل عند ما فسّروا القرآن، كما نجد هذا في التفسير المنسوب إلى الشيخ محي الدين بن عربي 638 هـ، فلا يفهم عباراتهم إلا من اشتغل بالشّئون الرّوحية، كما أن تذوقهم الوجداني قائم على حدس نفسي تكثر فيه الشّطحات، ولم ترتكز نظراتهم على

الأصول الفنية في إبراز جمال المفردات، إن هي إلا تأملات تمخّضت عن تجلّيات وخواطر غيبية وفيض إلهي وغير هذا. ويمكن أن يقال هذا أيضا في التفسير الإشاري الذي يقترب من منهج الصوفية، كما نجد هذا في تفسير الآلوسي 1270 هـ المسمّى «روح المعاني»، إذ يستنبط في تفسيره المعاني الخفيّة بطريق الرّمز والإشارة. ولم نتعرّض لمفهوم الحسن العقلي أو القبح العقلي عند المعتزلة الذين اقتبسنا من كتبهم، إن في مستهلّ البحث أو في فصوله، ففي المدخل اقتصرنا على توضيح وسائل استيعاب الجمال، كما كان من الجاحظ، وبعضهم لم يقحم مذهبه الفكري في التذوّق الفني مثل الرّمّاني، وهو صاحب رسالة وجيزة، ويعدّ معتزليا غير مغال، وكذلك كان ابن جني الذي أفدنا من معلوماته اللغوية التي لا تمتّ بصلة إلى الاعتزال. ورأينا الزمخشري المعتزلي المغالي المجاهر يبسط إيحاءات لا يشوبها فكر اعتزالي على الأغلب، خصوصا في جمال المفردة، ولم يقحم فكرة الحسن العقلي كما في مذهبه، إذ ترك نفسه على سجيّتها، وراح يسجّل المخزون النفسي في المفردات، ولم يكن لهذا المنهج أثر دائم في تنحية المذهب الفكري، إذ تغاضينا عن هفوات له سجّلها العلماء بعده، لأنّ هذا البحث لا علاقة له بالجوانب الفكرية للمفسّر.

فهرس ترجمة الأعلام

فهرس ترجمة الأعلام الكنية/ الاسم/ سنة الوفاة/ الصفحة - ابن أبي الإصبع/ عبد العظيم بن عبد الواحد/ 654 هـ/ 263 - ابن الأثير نصر الله بن محمد/ 637 هـ/ 29 - ابن الأزرق/ نافع بن الأزرق/ 65 هـ/ 37 - ابن جني/ عثمان بن جني/ 392 هـ/ 33 - ابن خالويه/ الحسين بن أحمد/ 370 هـ/ 60 - ابن السكيت/ يعقوب بن إسحاق/ 244 هـ/ 60 - ابن سنان/ عبد الله بن محمد/ 466 هـ/ 29 - ابن الصائغ/ محمد بن عبد الرحمن/ 776 هـ/ 320 - ابن فارس/ أحمد بن فارس/ 395 هـ/ 68 - ابن قتيبة/ عبد الله بن مسلم/ 276 هـ/ 36 - ابن قيم الجوزية/ محمد بن أبي بكر/ 750 هـ/ 248 - ابن ناقيا/ عبد الله بن محمد/ 485 هـ/ 124 - أبو حيان التوحيدي/ علي بن محمد/ 400 هـ/ 15 - أبو السعود العمادي/ محمد بن محمد/ 982 هـ/ 58 - أبو عبيدة/ معمر بن المثنى/ 209 هـ/ 35 - أبو هلال العسكري/ الحسن بن عبد الله/ 382 هـ/ 48 - الإسكافي/ محمد بن عبد الله/ 420 هـ/ 285 - الباقلاني/ محمد بن الطيب/ 403 هـ/ 40 - البارزي/ هبة الله بن عبد الرحيم/ 738 هـ/ 71 - الثعالبي/ عبد الملك بن محمد/ 429 هـ/ 68 - الجاحظ/ عمرو بن بحر/ 255 هـ/ 13 - الجرجاني/ عبد القاهر بن عبد الرحمن/ 471 هـ/ 28 - الخطابي/ حمد بن محمد/ 388 هـ/ 39 - الداني/ عثمان بن سعيد/ 444 هـ/ 324 - الراغب الأصفهاني/ الحسين بن محمد/ 502 هـ/ 36 - الرماني/ علي بن عيسى/ 384 هـ/ 39 - الزركشي/ محمد بن عبد الله/ 794 هـ/ 37 - الزمخشري/ محمود بن عمر/ 538 هـ/ 48

- سيبويه/ عمرو بن عثمان/ 180 هـ/ 225 - السيوطي/ عبد الرحمن بن أبي بكر/ 911 هـ/ 36 - الشريف الرضي/ محمد بن الحسين/ 465 هـ/ 35 - الطبري/ محمد بن جرير/ 310 هـ/ 35 - العلوي/ يحيى بن حمزة/ 745 هـ/ 107 - الغزالي/ محمد بن محمد/ 505 هـ/ 16 - الفراء/ يحيى بن زياد/ 187 هـ/ 312 - الفراهيدي/ الخليل بن أحمد/ 170 هـ/ 171 - الفيروزآبادي/ محمد بن يعقوب/ 817 هـ/ 62 - المبرد/ محمد بن يزيد/ 286 هـ/ 67 - النسفي/ عبد الله بن أحمد/ 710 هـ/ 246

§1/1