جلال الدين السيوطي عصره وحياته وآثاره وجهوده في الدرس اللغوي

طاهر سليمان حمودة

[هوية الكتاب]

[هوية الكتاب] جلال الدّين السّيوطى عصره وحياته وآثاره وجهوده في الدّرس اللغوي تأليف د. طاهر سليمان حمودة أستاذ العلوم اللغويّة بجامعة الاسكندرية وجامعة الملك سعود بالرياض ط المكتب الاسلامي

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1410 هـ- 1989 م المكتب الإسلامي بيروت: ص. ب 3771/ 11 - هاتف 450638 - برقيا: إسلاميا

تصدير

تصدير بسم الله الرحمن الرحيم كان هذا البحث الذي أقدّمه للنشر اليوم عملا تقدّمت به للحصول على درجة الدكتوراة من قسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية بعنوان «السيوطيّ اللغوي»، وكنت قد أتممت كتابته في شهر المحرم من عام 1391 هـ الموافق مارس 1971 م، وقد تمت المناقشة في مايو من العام نفسه. وكانت هذه أول دراسة علمية عن السيوطي تقدّم في جامعة من الجامعات العربية، وكان من الواجب عليّ، أو من الأنسب لهذه الدراسة أن أبادر بنشرها صونا وإبرازا لما أتصوره من جهود مضنية بذلتها في البحث والدّراسة عاكفا على التفتيش في المخطوط والمطبوع من آثار السيوطي وآثار الأقدمين. ولقد ظهرت بعدها دراسات تناولت بعض جوانب السيوطي لا أشك في اعتمادها أو اعتماد بعضها على هذه الدراسة مع إغفال الإشارة إليها. وقد عاودت النظر قبيل النشر فيما كتبت من قبل، فرأيت أنني قد قمت في هذا البحث بدراسة وافية لعصر السيوطي وحياته وآثاره، وهي في نظري دراسة ضرورية لا تعدّ مقدّمة للدراسة اللغوية فحسب وإنما تزيد على ذلك إذ توفّي معظم جوانب عصر السيوطي وحياته وثقافته ومنهجه العلمي حقّها من الدّراسة، ولذلك رأيت أن أجعل عنوان الكتاب «جلال الدّين السيوطي: عصره وحياته وآثاره وجهوده في الدرس اللغوي». وقد قمت بإجراء بعض التصويبات أو التعديلات التي رأيت من الأفضل القيام بها عند المراجعة، وهي قليلة نسبيا، ولم أحاول إجراء تعديلات تتصل بالمنهج أو التصنيف لاقتناعي بسلامتهما ومناسبتهما لموضوع البحث.

والله أسأل أن يوفقنا لما فيه الصواب في العمل والسّداد في القول. ربيع الأول 1409 هـ تشرين الأول (اكتوبر) 1988 م طاهر سليمان حمودة

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد فهذا البحث الذي قصدت به دراسة «السيوطي اللغوي» يتناول شخصية هامة في تاريخ الفكر الاسلامي بعامة، والدرس اللغوي بخاصة، وقد أردت بهذا البحث الذي يتناول شخصية قدر لها أن تحيا في عصر متأخر، وفي بيئة متميزة ورثت البيئات الاسلامية المتقدمة أن أعرض صورة لما آل إليه أمر الدرس اللغوي بعد تدرج طويل مرّ به في أحقاب متتالية، والدرس اللغوي متصل أشد الاتصال بسائر فروع المعرفة الانسانية، لأن اللغة هي أداة التعبير في سائر العلوم، ولأن العلوم الاسلامية من فقه وأصول وحديث وتفسير وغير ذلك تعتمد أشد الاعتماد على اللغة ويهمها ما يصل إليه البحث اللغوي من نتائج، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن جميع هذه الفروع بما فيها البحث اللغوي قد امتزجت أمشاجها عند أولئك القوم وتأثر بعضها ببعض، ولا يعني ذلك اختلاطها عليهم ولكن يعني إفادة كل فرع من الآخر بالقدر الذي تقتضيه طبيعته. والسيوطي عالم متعدد الجوانب لم يدع فرعا من فروع المعرفة دون أن يطرقه ويترك لنا فيه آثارا تزيد أو تنقص بمقدار عنايته بذلك الفرع، وقد ترك اهتمامه المتعدد بشتى ألوان البحث أثرا بالغا في تفكيره وطبع عقليته بطابع متميز، كما أن حياته في عصر متأخر وفي البيئة المصرية التي تميزت في عهد المماليك بمميزات خاصة حضارية وثقافية، كل أولئك قد ظهر أثره في إنتاجه وآثاره، لذلك رأيت لزاما علي لكي أستجلي معالم شخصيته وفكره وطابعه العقلي أن أبدأ أولا

باستجلاء الصورة العامة لذلك العصر، فمن الخطأ البين أن نحكم على السيوطي بموازين عصرنا اللاحق له ومفاهيمه، كما أنه من الخطأ أيضا أن نقيمه من منظور العصور السابقة، ذلك أن صورة العصر تفسر لنا كثيرا مما نجده عنده. والسيوطي- في حقيقة الأمر- يعطي أصدق صورة للعلوم الإسلامية بصفة عامة في نهاية تدرجها، كما أننا نلحظ في كتاباته العديدة صورة حية للمجتمع الذي يعيش فيه ويتفاعل معه، وكون الرجل فقيها يحيا في مجتمع مسلم ويرى نفسه من مجتهدي مذهبه أو من المجتهدين على الاطلاق قد حتم عليه أن يكون على صلة وثيقة بالمجتمع وحاجاته العلمية وما ينتابه من أحداث يحتاج فيها الناس إلى حكم الله فيلجئون إليه، وقد طبقت فتاواه البلاد الاسلامية جميعا، وكان لها أثر في حياة المجتمع على عهده. ويتصل بما قدمنا من تحديد جوانبه العقلية ما نلاحظه في رسائله وكتاباته العديدة التي لم يدع فيها خاطرا يمر به إلا دونه ونبه عليه أو وضع فيه مؤلفا، وكثير من الموضوعات التي قد نعتبرها تافهة ترك فيها آثارا. على أن فحص هذه الكثرة الكاثرة من الآثار يبين لنا إلى حد بعيد غلبة الطابع النقلي على منهج الرجل في جميع دراساته، ولكن ذلك لا ينفي الجهود التي بذلها في الترتيب والتنسيق والجمع، ولا ينفي بعض ابتكاراته الهامة، كما أنه يصور في أحيان كثيرة عقليته الواعية ودرايته بما يتعرض له من موضوعات. وأهم الصعاب التي واجهتها في هذا البحث ما يتصل بآثاره التي لم يطبع جانب كبير منها ولم يصلنا جانب آخر، كما أن هذه الآثار ما بين مختصر ومطول ومتن وشرح ومنظوم وموشح ومقامة، فضلا عن تعدد ما يتناول منها موضوعا واحدا بحيث يخشى المرء من التباس الأمر عليه، كما أن بعض رسائله الصغيرة قد ضمنها في ثنايا كتبه الكبيرة إما تضمينا متميزا أو ممزوجا. والنقطة الثانية أن الرجل قد غلب عليه الطابع النقلي الذي استلزم مني أن أبحث في دوافع سلوكه هذا المنهج، وأن أنظر في جملة من المصادر التي نقل عنها لكي أحدد منهجه في النقل وأصف أمانته.

كل أولئك قد جعلني أسير في البحث على النسق الذي رأيته موفيا بما قصدت إليه من أغراض فجعلته في بابين يحوي أولهما ثلاثة فصول يتناول كل فصل جملة من الموضوعات المترابطة ويحوي الثاني فصلين أحدهما في فقه اللغة والثاني في النحو. أردت في الباب الأول «عصره وحياته وآثاره» أن أخلص إلى الحديث عن منهجه في التفكير موضحا أصول هذا المنهج، وأن أدرس آثاره بصفة عامة، وقد اقتضى ذلك أن أبدأ بالحديث عن عصره، والحديث عن العصر يستلزم من الدارس أن يوضح إطاره السياسي والاجتماعي، فالحياة العقلية ترتبط بالاطارين السياسي والاجتماعي ارتباطا وثيقا، تتأثر بهما وتؤثر فيهما، ولا يمكننا تفسير بعض الظواهر الثقافية إلا إذا رددناها إلى المؤثرات السياسية والاجتماعية الملابسة لها. لذلك خصصت الفصل الأول لتحديد الاطارين السياسي والاجتماعي لهذه الفترة، فبدأت بالحديث عن الحياة السياسية واقتضى ذلك الرجوع قليلا عبر السنين للتنبيه على حادثة هزت كيان العالم الإسلامي كله، وهي سقوط بغداد وانتقال الخلافة إلى القاهرة، وهذه الحوادث كان لها أثر بعيد في توجيه الحياة في البيئة المصرية طيلة عصر المماليك. ثم انتقلت إلى الحديث عن السلاطين الذين عاصرهم السيوطي لما كان بينه وبينهم من صلات أثرت في توجيه حياته وفيما ترك من آثار، وانتقلت بعد ذلك إلى الحديث عن خلفاء بني العباس بمصر حياة السيوطي، لما كان له ولأبيه من قبل من حظوة عندهم جعلتهم لا يبخلون عليه بالعون والمؤازرة. ثم أردت تحديد الاطار الاجتماعي لأتبين المكان الذي تنزله طبقة العلماء أمثال السيوطي من المجتمع، ولم تكن تتضح هذه المكانة إلا بمقارنة هذه الفئة بغيرها من فئات المجتمع ومن ثم فقد عرضت لأنواع هذه الفئات مبينا درجتها في المجتمع وفعلها فيه، كما أوضحت صورة الحياة في المدن وخصصت القاهرة بيئة السيوطي بالتفصيل الكبير، وعرضت لبعض الظواهر الاجتماعية والحيوية الهامة التي تميز بها المجتمع آنذاك وأهمها ظاهرة التصوف، وكل ذلك إنما تناولته لما للسيوطي وآثاره من صلة وثيقة به، فالرجل كما قلت صورة حية لمجتمعه

تمثله أصدق تمثيل، وقد نبهت أحيانا على تفاعل السيوطي مع ما عرضت من أحداث وصور سياسية واجتماعية. وفي الفصل الثاني تناولت الحياة الثقافية وقد أردت أن أوضح الظواهر التي تميز بها التأليف في ذلك العصر، والعرف الذي اتبع في التلقي والتدريس والتأليف حتى يسهل علينا مقارنة آثار السيوطي بما وضع في عصره، وحتى يمكننا رد كثير من الظواهر التي نلحظها في منهجه إلى أصولها، وقد دفعني ذلك إلى بيان نشاط الحركة العقلية ومظاهر هذا النشاط المتمثلة في مراكز العلم بأنواعها المختلفة وفي الكثرة الكاثرة من مؤلفات العصر، وفي كثرة الطلبة والشيوخ، وقد مثلت لكل من هذه المظاهر بمثال أو ببعض الأمثلة وتقصيت عوامل نشاط الحياة الثقافية ثم صببت اهتماما أكثر في الحديث عن الملاحظات التي أمكن لي الوقوف عليها فيما يتصل بمؤلفات العصر بصفة عامة ليساعدني ذلك في الحكم على مؤلفات السيوطي التي طبعت في الغالب بما طبعت به مؤلفات العصر، وقد نبهت على تأثر السيوطي بعصره وروحه بين حين وآخر، ولما كانت الحياة الأدبية جزء لا يتجزأ من الحياة الفكرية بعامة فقد رأيت أن أختم هذا الفصل بالحديث عن هذه الحياة ومميزاتها، لما ذلك من أثر لاحظته على كتابات السيوطي بصفة عامة وعلى إنتاجه الأدبي بصفة خاصة، فأسلوبه متأثر بروح العصر في الكتابة والتي من أهم خصائصها الحرص على ضروب البديع، كما أن إنتاجه يمثل الأنواع الأدبية المتنوعة التي عرفها العصر، ويدل على حرص السيوطي على أن يسهم في جميعها. وفي الفصل الثالث تناول البحث «حياة السيوطي وثقافته وآثاره» وقد اتضح فيه أهمية الارتكاز على الفصلين السابقين في سبيل استجلاء كثير من جوانب الموضوع، وقد بدأت ببيان مولده ونسبه ونسبته وتحدثت عن والده، ثم عرضت بعد ذلك لنشأته ودراسته وقد اقتضى ذلك أن أترجم باختصار لأهم الأساتذة الذين أخذ عنهم وكان لهم فعل وأثر في عقله وحياته، ثم خلصت بعد ذلك إلى الحديث عن مراحل حياته، وقد أردت بهذا الموضوع أن أبين المراحل التي مرت بها حياة السيوطي العملية، وأهم البواعث والمؤثرات التي وجهت هذه الحياة

ولذلك فقد تحدثت في ختام هذا الموضوع عن وفاته باعتبارها نهاية هذه المراحل التي مر بها. وأردت بعد ذلك أن ألقي الضوء على بعض الموضوعات، فتناولت مكانته في المجتمع وقد أخرتها بعد عرض مراحل حياته وبعد الحديث عن وفاته لأنني حينئذ أتناول بالدراسة تجربة قد انتهت، واكتملت وأصبح من الواضح البين إمكان الحكم على جوانبها المختلفة مع الاستعانة بالحوادث التي مرت في خلال فترة الحياة، وقد بينت في حديثي منزلته الاجتماعية وصلته بالمجتمع وأهم الأحداث العامة التي خاضها وأثره في مجتمعه. وبعد أن بينت هذا الجانب كان لزاما علي أن أتبعها بالحديث عن خصومات السيوطي التي تعرض لها والتي فرضها عليه مكانه من المجتمع وتبوؤه درجة لها قدرها، وقد عرضت بعض النماذج القولية التي هاجم بها خصومه، كما عرضت نماذج لهجومهم عليه، وحاولت استجلاء طبيعة هذه الخصومات وتلمست القول المنصف فيها، وأهم الموضوعات التي كانت مجالا لهذه الخصومات. وكان لزاما علي بعد عرض الخصومات وما تعرض له السيوطي من قدح وهجوم وما تناول به خصومه من قدح. وما قمت به من استجلاء للحقائق أن أعرض لخلقه وشخصيته نظرا لأن الخلق العلمي والأمانة إنما هما جزء لا يتجزأ من سلوك المرء العام في حياته العملية، وقد عرضت من الحوادث التي مرت به ومن أقواله وأفعاله ما يعين على وصف شخصه وخلقه وصفا دقيقا، ومن هنا خلصت إلى ما أريده من بحث منهجه في التفكير وتحديد أصول هذا المنهج معتمدا على ما سبق أن قدمته، وقد اقتضى بحث أصول منهجه في التفكير أن أتناول ثقافته، ولما كان السيوطي عالما متعدد الجوانب فقد لاحظت أن بعض العلوم قد استحوذ على الجانب الأكبر من اهتمامه وترك بذلك أثرا واضحا في عقله وفكره ومنهجه، ورأيت أن أعرض لصلة السيوطي بعلوم ثلاثة تركت أبلغ الأثر في نفسه ومنهجه، وهي الحديث لما له من أثر في طبع منهجه بالطابع النقلي وحرصه على الأمانة وشدة تحرجه في سائر دراساته، والتصوف الذي سلك فيه مسلكا علميا وعمليا لأنه يفسر لنا تساهل السيوطي في جانب كبير من المرويات التي يقبلها ولا يتعرض لها بالنقد، ثم الفقه لما يطبع به صاحبه من اتصال بالحياة وتعرف على مشكلاتها ودراسة للنص من جميع الوجوه في سبيل الاستنباط والنظر في

النقول نظرة عقلية واعية، ورأيت أن أختتم صلة السيوطي بهذه العلوم التي أثرت في فكره بالحديث من صلته بالأدب لما له من صلة ببيان أسلوبه التعبيري وذوقه، ولما يعكسه من تأثره بالعصر الذي يعيش فيه، ثم عرضت لصلته بالشعر وقد ابتغيت من ذلك أن أتناول موضوعا يهم البحث وهو المنظومات العلمية التي نظمها السيوطي في جميع الفنون التي تناولها بالتصنيف، ومنها منظومات لغوية ونحوية كثيرة وقد أشرت إلى بعض هذه المنظومات، ولقد دهشت من كثرة هذه المنظومات ومن قوة عارضي الرجل وقدرته العارمة على نظم أدق المسائل وأكثرها جفافا. وكان أمامي بعد ذلك الحديث عن آثاره، ورأيت أن أعرض لها بصفة عامة، وقد أبديت خلال هذا العرض الملاحظات التي لاحظتها من حيث عددها والمدة التي كان يستغرقها المؤلف، وأوقات صدورها عنه، ومن ناحية أحجامها ووثاقة نسبتها إليه، ولما كان حصر هذه المصنفات من الكثرة بمكان وقد اختلفت في تقديرها المصادر القديمة والحديثة فقد قمت بتصنيف هذه الآثار وترتيبها، ورأيت أن أجعل هذه القائمة في آخر البحث حيث إن كثيرا منها قد اعتمدت عليه وقد نبهت على ما رجعت إليه وما كتبته ولم أتمكن من الوقوف عليه، وقد تجنبت بذلك التكرار في سرد هذه الآثار. وقد نتج عما قمت به أن استطال البحث بالباب الأول بالرغم من أن قصدي كان الايجاز أكثر من هذا، ولكن ذلك نتج عما سبق بيانه من أهمية دراسة العصر بنواحيه المختلفة وأحداثه لما لها من صلة عميقة وموجهة لحياة السيوطي، كما أنني لم أجد من الدارسين من خص هذه الفترة بدراسة وصل فيها حياة السيوطي بعصره باستثناء دراسة الأستاذ عبد الوهاب حمودة وقد عرضت لكثير من الجوانب التي أغفلها، كما أنني أردت أن أستوضح عقل الرجل وفكره في صنوف إنتاجه المتنوعة، وأن أعرض لحياته وأستجلي بعض جوانب الغموض التي اكتنفتها وأنبه على بعض الأوهام التي وقع فيها المترجمون له، ونظرا لكثرة إنتاج السيوطي وكثرة مؤلفاته فقد استطال الحديث في الباب الأول ولم يكن هناك مندوحة عن ذلك في نظري.

وقد خصصت الباب الثاني لجهوده اللغوية والنحوية، وقد قسمته إلى فصلين أولهما: عنونته بفقه اللغة وعنيت به جميع ما له من دراسات لغوية لا تدخل في المستوى النحوي بمعناه العامّ الذي يشمل الصرف، أي ما يتصل بمستويات الدرس اللغوي الصوتية والمعجمية والدلالية والأبحاث العامّة المتصلة باللغة، والثاني: للنحو، وفي الفصل الذي عقدته لفقه اللغة كان هدفي تحديد دور السيوطي في هذا الميدان وفي تاريخ هذه الدراسات، وكان لزاما أن أقارنه بأسلافه من اللغويين الذي اعتمد عليهم، ومن ثم فقد بدأت باجمال تاريخ الدرس اللغوي وتدرجه قبل السيوطي، وبينت أنواع الدراسات اللغوية التي سبقته وأوضحت أنه لم يظهر في فقه اللغة بمعناه الحديث كتاب قبل كتاب السيوطي «المزهر» أجمع وأوفى منه. ولما كان للسيوطي عدد من الآثار اللغوية غير المزهر فقد بدأت بدراسة هذه الآثار، وقد آثرت ترتيبها ترتيبا موضوعيا حيث إنني قد وجدت من العسير أن أرتبها ترتيبا تاريخيا دقيقا لأنني وإن تمكنت من معرفة الأوقات التي صرح السيوطي بصدور بعضها فيها فإن هذه المعرفة لا تتيسر في سائرها، كما أن الترتيب الموضوعي يسهل عليّ تناول هذه الآثار بالدراسة دون تكرار ما يمكن تجنبه، وقد عرضت ضمن هذه الآثار اللغوية لبعض مباحث السيوطي اللغوية في كتابه الاتقان، كما أوردت كتابين أحدهما يشرح الأسماء النبوية والآخر يشرح قصيدة كعب بن زهير ليكونا مثالين لشروحه التي توضح مدى إفادته العملية من الدرس اللغوي، كما عرضت لكتاب في علم التاريخ ليكون مثالا لثقافته اللغوية التي تخللت ضروب إنتاجه المتنوعة، وقد بلغ عدد الرسائل والكتب التي سقت الحديث عنها ستة عشر، منها سبعة آثار لم أقف عليها، وقد استطعت بتتبع آثار السيوطي الحديث عن بعضها، وبعضها أمكن لي أن أتكهن بمضمون مبحثه، ولما كان كتاب المزهر أهم هذه الآثار وأكثرها بسطا فقد اقتضى أن يكون الحديث عنه متناسبا مع أهميته، وقد بدأت ببيان أهميته بالنسبة للدرس اللغوي بعامة، وما تميز به عن غيره من الكتب، ثم تناولت منهج السيوطي في مؤلفه من خلال موضوعات ثلاثة: هي مصادر الكتاب، وطريقة صاحبه في النقل والعرض، وكيفية تقسيمه، وقد وجدت من دراستي للكتاب أن أهم ما انفرد به

السيوطي وأعانه عليه ثقافته الاسلامية الواسعة بعامة والحديثية بخاصة هو تطبيقه منهج المحدّثين في دراسة اللغة، وقد وضع السيوطي بذلك مهجا لنقد الرواية اللغوية حاول به مضاهاة منهج المحدّثين في نقد الحديث، وهذه محاولة مبتكرة في ميدان اللغة سبق إليها السيوطي محاولا أن يستدرك بعمله نقصا في حقل الدراسة اللغوية، وقد حاولت أن أستوضح هذه المحاولة مقارنا ما قام به السيوطي بما عرف عند المحدثين من أصول وقواعد ومصطلحات وضعت وتقررت لدراسة الحديث ونقده سندا ومتنا والواقع أن أصول نقد الرواية اللغوية لم تحظ قبل السيوطي ببحث نظري وافر، ولم تكن سوى عرف غير مكتوب تشير إليه مناهج اللغويين العملية وشذرات مقتضبة ومتناثرة في كتب اللغويين وتراجمهم، وللسيوطي فضل إقامة هذه الأصول في إطار نظري منظم واضح المعالم، ونقد الرواية يتمثل في مرحلتين. أولاهما: النقد الخارجي وهي تبحث الرواة والأسانيد، والأخرى تتصل بالنقد الداخلي وقد رأيت أن أنفذ إلى عمل السيوطي من خلال هذا التقسيم فبدأت بالمرحلة الأولى ونظرت في دراسته لرواة اللغة ثم دراسته للأسانيد، ثم تناولت المرحلة الثانية وبحثت فيها ما قام به فيما يتصل بالنقد الداخلي، وقد قارنت صنيعه بصنيع أصحاب أصول الحديث. وكان عليّ بعد ذلك أن أنظر في الموضوعات اللغوية التي ساقها السيوطي في كتابه وأن أحاول التعرف على آرائه تجاه بعض القضايا اللغوية، وفي أحيان غير قليلة كنت أراه يسوق الحديث دون أن يدلي فيه برأي من عنده، وفي أحيان أخرى يقتضب رأيه أو يعلق بتعليقات موجزة، ولكنني كنت أحاول من خلال هذه النقول وطريقة عرضها وموضوعها أن أستوضح وجهة نظره إذا لم أجد له تصريحا بذلك، وقد عرضت لمفهومه للغة وهو يتابع فيه مفهوم ابن جني ومعظم اللغويين العرب، وأردت أن أغطي ما تبقى من مباحث الكتاب لأبين دور السيوطي فيها وآراءه، وقد رأيت أنه من العسير أن أتناول الأنواع التي عرضها في كتابه مفردا كلا منها بالدراسة فذلك ما لا يسمح به المكان فضلا عما به من تكرار لما سبق لي تناوله في بحث آثاره، ولذلك حاولت أن أجمل الحديث بقدر الامكان، ورأيت أن أتناول بقية هذه المباحث تحت ثلاثة أقسام أعرض فيها لمعظم الكتاب، فالقسم الأول للألفاظ وقد عرضت فيه لثلاثة عشر نوعا

ذكر السيوطي أنها تبحث اللغة من حيث ألفاظها، والثاني للدلالة اللغوية أو المعنى وقد جمعت فيه ثلاثة عشر نوعا ذكر أنها تبحث اللغة من حيث المعنى، والثالث يتصل بضبط اللغة وأبنيتها، وقد بينت أن التقسيم الذي وضعه السيوطي لم يكن دقيقا حيث إن بعض المباحث التي وضعها تحت قسم المعاني كان من الأفضل أن توضع في مباحث الألفاظ، ثم رأيت بعد ذلك أنني لم أستوف القضايا اللغوية التي بحثها الكتاب ومن هنا رأيت أن أتناول بعض هذه القضايا محاولا تبين موقف السيوطي منها، فبحثت نشأة اللغة، وقد أخرت البحث في نشأة اللغة إلى هذا المكان على خلاف المعهود لدى الدارسين لأنه في الحقيقة بحث غير عملي بالنسبة للدرس اللغوي الحديث، بل ان بعض القدماء قد تنبه إلى عدم جدوى هذا البحث وقالوا إن ذكر هذه المسألة في الأصول فضول، كما بحثت الوضع اللغوي، وإثبات الأسماء بالقياس، والمعاجم اللغوية، والصلة بين اللفظ والمعنى، وقد قدر اللغويون العرب هذه الصلة وقد وصلت بحوثهم فيها ببحوث المحدثين، والسيوطي من مثبتي هذه الصلة وقد حاول أن يدلل عليها بعدد كبير من الأمثلة. وفي جميع ما عرضت له حاولت الافادة من الدراسات السابقة التي اعتمد عليها السيوطي، ومن الدراسات الحديثة التي تناولت بعض هذه الموضوعات بيد أنني كنت أقدر أن هدف البحث هو بيان دور السيوطي من هذه الدراسات وموقفه من هذه القضايا لذلك لم أندفع وراء تقصي هذه المباحث وإنما حاولت أن أجعل السيوطي دائما محور الحديث كما هو مقصود البحث. وفي الفصل الثاني أردت أن أكمل الحديث عن لغوية السيوطي، ورأيت لزاما علي أن أبحث الشق الآخر من البحث اللغوي المتمثل في النحو، ورأيت أن أبدأ ببيان الدور الذي قام به في تاريخ الدرس النحوي فعرضت لآثاره النحوية وقيمتها ومكانها من الدرس النحوي، ولما كان للسيوطي عدد كبير من الآثار النحوية فقد قصدت إلى استقصائها وعرضت بدراسة موجزة ألقيت فيها الضوء على نحو ستة عشر نوعا من هذه الآثار ما بين مطول ومختصر ومنظوم وموشح ومقالة، وسردت بقية الآثار التي ذكرت له ولم أتمكن من الوقوف عليها،

ومعظمها رسائل صغيرة، وما عرضت له ووقفت عليه يمثل معظم جهود السيوطي النحوية. ثم رأيت بعد ذلك أن أطرق موضوعا يعدّ من مبتكرات السيوطي في الدرس النحوي وهو علم أصول النحو، وقد حاولت بيان الدور الذي قام به السيوطي في سبيل إرساء قواعد هذا العلم فعرضت لتدرج أصول النحو وما كتب فيه قبل السيوطي، ثم عرضت لجهود السيوطي وقارنته بما قام به ابن جني وابن الأنباري، وهما أهم من كتب في الأصول النحوية قبله، وبينت تفرد السيوطي بكثير من المباحث ودوره العظيم الذي قام به والذي يصوره كتابه «الاقتراح» الذي يعدّ أهم كتاب وأجمعه في علم أصول النحو، ولم أنس أن أنتقد صنيع أصوليي النحاة بما فيهم السيوطي، وما شاب أصولهم- في بعض الأحيان- نتيجة لحملها على أصول الفقه. ثم اختتمت دراسة السيوطي نحويا بحديثي عن مذهبه في النحو، ولما كان السيوطي نحويا مصريا متأخرا، فقد عرضت للمدارس النحوية قبله وللمدرسة المصرية وأهم نحاتها وأهم مميزاتها، ثم بينت منهج السيوطي في النحو، ومثلت ببعض الأمثلة لاختياراته وآرائه الخاصة، وتعليلاته النحوية. وهذه محاولة قمت بها أرجو أن أكون قد وفقت فيها، والكمال لله وحده، ومنه نستلهم الرشاد والتوفيق. طاهر سليمان حمورة

الباب الأول عصر السيوطي وحياته، وآثاره

الباب الأول عصر السيوطي وحياته، وآثاره

الفصل الأول

الفصل الأول الحياة السياسية والاجتماعية لا بد لنا قبل البدء في الحديث عن حياة السيوطي وآثاره أن نتناول بالحديث البيئة التي عاش فيها ونبت بين ربوعها والتي انعكست آثارها ومقوماتها- بلا شك- فيها أنتجه من دراسات متنوعة لغوية كانت أو غير لغوية. والحديث عن البيئة أعني به إعطاء صورة واضحة لجوانب الحياة المختلفة، فهذه الجوانب مرتبطة متصلة الأمشاج يؤثر بعضها في بعض. ولئن حاولنا أن نبدأ بأحد هذه الجوانب فإن الأمثل في تصوري أن يكون بالجانب السياسي لهذه البيئة لأنه يمثل الإطار الخارجي لجميع جوانب الحياة الأخرى، وتناول الجانب السياسي يقتضي منا أن نرجع قليلا عبر الزمان لنرى بداية هذا النظام الذي ساد البيئة المصرية وبيئة الشام قرابة ثلاثة قرون من الزمان. وليست محاولة الرجوع للتعرف على هذه النشأة رغبة في الإطالة فيما قد يبدو بعيد الأثر عن بحث يتناول الجانب اللغوي عند عالم من العلماء ويصب عنايته الجليّ على هذه الناحية، ولكنها في حقيقة الأمر وقفة على حقيقة معينة كانت ذات أثر بالغ في هذا العصر كله، ولا يمكن لمن يتصدى لدراسة أي ناحية فيه أن يغفل هذه الحقيقة. تلك الحقيقة التي نريد التنبيه إليها هي سقوط بغداد على أيدي التتار الذين اجتاح غزوهم العالم الاسلامي في القرن السابع الهجري، ولقد اتخذت الغزوات المغولية طابعا وحشيا عنيفا يدمر كل ما يجد من حضارات، ويهدم ما يلقى من بناء.

ولقد استطاع التتار قبل وصولهم إلى بغداد أن يقضوا على الدولة الخوارزمية وأن يسيطروا على إيران، وبذلك جاء دور بغداد. وقد تعرضت بغداد لهجوم التتار في عام 635 هـ وبعث الخليفة بجيش مني بالهزيمة وقتل أكثر جنوده وفر الباقون من وجه المهاجمين «1»، ولم يلبث التتر أن عاودوا هجومهم على بغداد في سنة 656 هـ بقيادة هولاكو الذي استولى على بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين ببغداد. «2» وتفيض المراجع العربية بذكر الفظائع التي ارتكبها المغول بسائر الأقاليم التي تعرضت لغزوهم فقد تعرضت بغداد للتخريب في شتى مرافقها، وجرت الدماء في الطرقات واستمرت إباحة المدينة للغزاة أربعين يوما حتى أمر هولاكو بعدّ القتلى فبلغت الألفي ألف قتيل «3» (أي مليونين من القتلى)، ومهما يكن من أمر هذا العدد ومدى صحته فإنه يعطي صورة لكثرة القتلى وما أقامه المهاجمون من مذابح بشرية. وهكذا سقطت الخلافة العباسية في بغداد، ولم يكن سقوطها في حقيقة الأمر يعني نهاية حكم العباسيين وحسب بقدر ما كان يعني حدثا خطيرا هز كيان العالم الاسلامي كله، ذلك أن الخلافة الاسلامية التي آل أمرها إلى المستعصم آخر خلفاء بغداد كانت تمثل رمزا دينيا لوحدة المسلمين، على الرغم مما كان عليه هؤلاء الخلفاء من ضعف جعل غيرهم ينفرد بالسلطة الفعلية دونهم، وبالرغم من انقسام الأقاليم الاسلامية إلى دويلات متعددة تخضع لحكام متفرقين متناحرين فيما بينهم على ازدياد النفوذ في كثير من الأحيان. ولقد شعر المسلمون بمدى الخسارة التي لحقتهم بسقوط بغداد على أيدي التتار الذين دمروا كل ما كان الخلفاء العباسيون قد جمعوه خلال خمسة قرون «4»،

_ (1) المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك ج 1 القسم الثاني ص 273. (2) المقريزي: السلوك ج 1 القسم الثاني ص 409، تاريخ الخلفاء ص 313. (3) المقريزي: السلوك ج 1 القسم الثاني ص 410. (4) أبو الفداء: مختصر تاريخ البشر: حوادث عام 656 هـ، ج 3 ص 202.

ولم يقف الغزو المغولي عند هذا الحد بل تعداه إلى بلاد الشام حيث أخذت مدن الشام تتساقط في أيديهم ويحدث بها من الفظائع والتخريب وسفك الدماء مثلما حدث ببغداد «1». ولقد كانت هذه الغزوات تسبق بموجات من الفزع تعتري سكان البلاد مثلما حدث بدمشق بعد سقوط حلب حيث ارتحل أغلب سكانها، وارتحل كثيرون من غيرها إلى مصر، وتفيض الكتب العربية بوصف المآسي التي حدثت للناس في هذه الظروف السيئة «2». ووصل الغزو المغولي إلى غزة وجاء دور مصر التي كان يحكمها المماليك الذين استطاعوا أن يستأثروا بالسلطة دون البيت الأيوبي، وفي هذه الظروف الحرجة استطاع سيف الدين قطز أن يتملك زمام الأمور وأن ينحي سلفه مستندا إلى أن المسلمين في حاجة إلى زعيم قوي يوحد صفوفهم ضد الغزو المغولي «3»، الذي كان يهدد المسلمين فضلا عن مساندته للصليبيين وتقويته جانبهم «4». وحضر رسل هولاكو يطلبون من السلطان التسليم بكتاب يتهددون فيه ويتوعدون ويطلبون إليه تسليم مصر لهم «5»، وكان أن قبض السلطان على الرسل وقتلهم وأبدى كثيرا من الشجاعة ورباطة الجأش في جمع الصفوف والدعوة إلى الجهاد على الرغم مما كان يحاوله بعض الأمراء من النكوص عن الجهاد والتخاذل «6». ولم يكن ثمة مناص من حدوث الصدام المسلح بين التتار والمماليك، وقد أظهر الأخيرون تماسكا في وجه عدوهم وتناسوا في تلك المرحلة الحرجة ما كان بينهم من خلافات، وبدءوا في الزحف لملاقاة عدوهم حتى انتهى بهم المسير إلى

_ (1) المقريزي: السلوك ج 1 القسم الثاني ص 418، 419. (2) المصدر السابق، ص 415، 416، السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 314 - 315. (3) المقريزي: السلوك ج 1 ص 418، ابو المحاسن: النجوم الزاهرة ج 7 ص 55. (4) السلوك: ص 425 وسعيد عاشور: العصر المماليكي ص 29. (5) نص الكتاب بالسلوك ص 427 - 428. (6) المصدر السابق ج 1 ص 429.

عين جالوت بين بيسان ونابلس حيث حدثت الموقعة التي تعد من أهم معارك المسلمين في تاريخهم بوجه عام، وقد استطاع المسلمون بقيادة السلطان قطز، وبحسن بلاء بيبرس أن يحرزوا انتصارا ساحقا على عدوهم وأن يتابعوا عدوهم قتلا وأسرا ويلحقوا به هزيمة ثانية قاضية عند بيسان. «1» وقد يبدو أنني قد فصلت إلى حد ما القول في معركة عين جالوت بالرغم من بعدها نسبيا عن العصر الذي نود لو نرسم صورة واضحة لمعالمه ولكن حقيقة الأمور تستدعي أن نلقي الضوء على هذا الحدث لما كان له من أثر في العصر المملوكي بصفة عامة، فلقد ترتب على هذه الموقعة آثار خطيرة منها أن المماليك قد بسطوا نفوذهم على مصر والشام كما أنهم بفضل هذا الانتصار أكسبوا حكمهم صفة الشرعية التي كانوا يفتقرون إليها في نظر الشعب لأنهم مغتصبون للبيت الأيوبي من جهة، وأنهم من أصل غير حر من جهة أخرى، ولقد كانت النقطة الأخيرة سببا في ثورة الأعراب عليهم قبل هذه الموقعة بقليل «2». وإذا كان أثر هذه المعركة هو استتباب الأمر للمماليك حكاما للبلاد فإن لها آثارا أخرى سياسية وحضارية في البيئة المصرية بوجه عام وفي القاهرة بوجه خاص. وإذا كانت القاهرة هي المدينة التي نشأ فيها السيوطي وتلقى علمه وتأثر بها وأثر فيها، فإن هذه المدينة قد اكتسبت كثيرا من المميزات على أثر هذا الانتصار، وظلت تتمتع بهذه المميزات طيلة عصر المماليك، فقد احتفظت القاهرة بما لها من حضارة وحيوية حيث لم تمتد إليها معاول التدمير المغولي التي شملت غيرها من مدن الشرق الاسلامي، وأصبحت ملجأ وملاذا للعلماء والمفكرين وسائر الناس الفارين من وجه الغزاة، وبحكم الحالة السياسية فقد أصبحت مصر والشام دولة واحدة قوية تعقد عليها آمال المسلمين في الشرق

_ (1) نفس المصدر ج 1 ص 431، أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ج 7 ص 79، السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 316. (2) المقريزي: السلوك ج 1 ص 386 - 388.

والغرب حيث لم يكن للمسلمين دولة ذات شوكة غيرها، فالعراق في الشرق تحت حوزة المغول وكذلك سائر الممالك الاسلامية الشرقية، والأندلس في الغرب تعاني من التفكك وتلفظ أنفاسها الأخيرة، وهكذا فإن الثقل السياسي والحضاري للمسلمين بصفة عامة قد انتقل إلى القاهرة حيث عاصمة البلاد القادرة على حماية المسلمين. وحلت القاهرة محل بغداد في كل شيء وأصبحت وارثة لها في تركتها سياسيا وحضاريا وثقافيا، وإكمالا لهذه الصورة فلقد انتقلت الخلافة العباسية كذلك من بغداد إلى القاهرة، وحرص المسلمين على الخلافة التي تمثل وحدتهم جميعا يتضح من حديثهم عن سقوط خلافة بغداد وكيف «أقامت الدنيا بلا خليفة ثلاث سنين ونصف سنة» «1» حتى تولى الخلافة أحد أبناء الخلفاء السابقين ببغداد حيث قصد إلى القاهرة وتلقاه سلطانها الظاهر بيبرس واستقبله العلماء والجند وسائر طوائف الشعب أروع استقبال فرحا بإحياء الخلافة «2». وهكذا انتقلت الخلافة الإسلامية التي كانت في هذا الحين رمزا دينيا سياسيا وحسب إلى القاهرة منذ عهد بيبرس سنة 659 هـ وأصبح أحد مناصب الدولة الرئيسية، وظل الحال على ذلك حتى آخر هذا العصر إلى حين قدوم السلطان سليم العثماني في سنة 923 هـ. وإذا كان الخليفة في العصور الإسلامية المبكرة هو صاحب السلطة الحقيقة في تدبير شئون البلاد التي تتبعه وتولية ولاة الأقاليم وعزلهم وتسيير الجيوش والغزوات فإن ضعف الخلفاء في بغداد أواخر عهدهم قد أفقدهم هذه السلطة كما أن الخلافة الجديدة بمصر لم تكن لديها هذه القوة، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الحقوق كانت لا تزال مكفولة للخلفاء من الناحية الشكلية النظرية، فالخليفة هو الذي يولي السلطان ولا يكون تولي السلطان شرعيا إلا باقرار الخليفة. وقد روعي ذلك منذ تولي أول خليفة فبعد مبايعة السلطان والعلماء والأمراء للخليفة قام هو بدوره فألبس «السلطان بيده خلعة سوداء وعمامة سوداء وطوقا

_ (1) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 57. (2) السلوك: ج 1 ص 499، حسن المحاضرة ج 2 ص 58، تاريخ الخلفاء ص 317.

في عنقه من ذهب وقيدا من ذهب في رجليه، وفوض إليه الأمور في البلاد الاسلامية، وما سيفتحه من بلاد الكفر وسماه بقسيم أمير المؤمنين» «1»، وظل هذا التقليد ساريا منذ تولي الظاهر بيبرس وحتى آخر سلاطين المماليك وهو السلطان الغوري. «2» وهكذا استقرت الخلافة الاسلامية بالقاهرة بالاضافة إلى ما تمتعت به البلاد من قوة سياسية وعسكرية وكان ذلك يعني ما أشرنا إليه من ازدهارها واتجاه المسلمين إليها وهو ما أدركه المؤرخون السابقون المعاصرون لهذه الأحداث الذين ذكروا «أن مصر حين صارت دار الخلافة عظم أمرها وكثرت شعائر الاسلام فيها، وعلت فيها السنة، وعفت منها البدعة وصارت محل سكن العلماء، ومحط رحال الفضلاء» «3». وإذ كنا قد أوضحنا جانب الخلافة وبداية هذه الدولة فلا يضيرنا هنا أن نشير إلى سلاطينها وخلفائها وأن نتناول توضيح المعالم السياسية لهذه الدولة لا سيما في آخر عهدها لنخص بالحديث الفترة التي عاصرها السيوطي. وقد تميز هذا العصر بصفة عامة بالعصبيات بين طوائف المماليك المختلفة والتناحر من أجل الوصول إلى السلطة، وأهم هذه العصبيات ما كان بين طوائف المماليك الترك وطائفة المماليك الجراكسة وما لقيه الأخيرون من اضطهاد في أيام حكم أبناء قلاوون «4». على أن هذا الاضطراب الداخلي قد استمر أيضا بعد تولي برقوق أول المماليك الجراكسة، فقد كان الوصول إلى العرش يتم دائما عن طريق العصبيات وازدياد النفوذ بين أمراء المماليك، ولذلك فإن الفتن السياسية الداخلية لم تنقطع خلال هذه المرحلة «5»، فالأمير القوي الذي يستطيع

_ (1) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 58. (2) السيوطي: المصدر السابق ج 2 ص 87. (3) المصدر السابق: ج 2 ص 86. (4) سعيد عاشور: العصر المماليكى ص 137 - 145. (5) عبد الوهاب حمودة: صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي ص 3 - 4.

أن يؤلب طوائف المماليك على غيره وأن يجمع غالبيتهم حوله هو الذي يستطيع الوصول إلى دست السلطنة بعد وفاة السلطان أو بتنحيته عن الحكم. وهكذا فلقد كانت الفتن الداخلية والمنازعات بين أمراء المماليك من أجل الوصول إلى دست السلطنة هي طابع ذلك العصر «1»، ولم تكن تخمد هذه الفتن إلا في خلال حكم سلطان قوي يستطيع بدهائه وقوته مواجهة هذه الصعاب والتغلب عليها. وفضلا عن هذه الفتن الداخلية فلقد طبع هذا العصر ببعض الاضطرابات الخارجية التي تعود سلاطين المماليك مواجهتها وهي خروج أمراء الشام على طاعتهم، وكذلك تعرض البلاد لغزوات المغول، ولغارات الأعراب المتكررة «2»، ثم ظهرت منافسة سلاطين آل عثمان الذين قويت شوكتهم واتجهوا للغزو توسيعا لرقعة دولتهم وأصبح سلاطين المماليك يجدون فيهم منافسا خطيرا لهم. وقد عاصر السيوطي في طفولته مجموعة من السلاطين الذين كان لهم حكم البلاد «3»، وقد شهدت هذه الفترة تولية عدد كبير منهم لم يكن يستقر بهم المقام في دست السلطنة طويلا، حتى أقيم «سلطان العصر الملك الأشرف قايتباي المحمودي» «4»، والحقيقة أن أهم السلاطين الذين عاصرهم السيوطي هو قايتباي (872 - 901 هـ)، وهو أطول ملوك هذه الفترة حكما، وأصله من مماليك الأشرف برسباي، وغريب ألا نجد لقايتباي ترجمة في كتاب السيوطي الذي ترجم فيه لأعيان القرن التاسع «5»، بالرغم من أنه لم يغفل كثيرا من معاصريه ومن سلاطين عصره من الأتراك والمغول والمماليك ويبدو أنه قد أفرده بترجمة. وقد امتدحه كثير من المؤرخين فأشاد بحسن تدينه وحبه للخير وتعففه عن

_ (1) د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 323. (2) المصدر السابق ص 4. (3) تحدث عنهم في حسن المحاضرة ج 2 ص 106، وهؤلاء السلاطين ذكرهم ابن إياس في حوادث تلك الأعوام، راجع: تاريخ مصر ج 2 ص 29 - 70. (4) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 106، العصر المماليكي ص 172. (5) كتاب نظم العقيان في أعيان الأعيان.

الشهوات وكثرة حسناته فضلا عما لا ينكره أحد من كثرة ما أقام من إنشاءات وإصلاحات «1»، ويعتبر أبرز سلاطين دولة المماليك الجراكسة، فقد امتد حكمه طيلة تسعة وعشرين عاما، ومن الجانب السياسي فقد كان ماهرا وموصوفا بأنه كان «كفؤا للسلطنة وافر العقل، سديد الرأي عارفا بأحوال المملكة، يضع الأشياء في محلها ... موصوفا بالشجاعة عارفا بأنواع الفروسية» «2» وقد اضطرته حروبه الكثيرة إلى زيادة الضرائب في كثير من الأحيان، وكان ازدياد قوة آل عثمان سببا في حدوث بعض المنازعات بينهم وبين قايتباي وقد انتهت بمهادنة الطرفين في سنة 896 هـ «3». وفي أيام هذا السلطان في سنة 897 هـ أصاب البلاد وباء شديد وقد عاصر السيوطي هذا الوباء وذكر أنه «جمع في الموت بين كل ألفين، وبلغ عدد الموتى في كل يوم أزيد من ألفين، وقيل أكثر من ذلك .. » «4». ويفيض السيوطي في وصف هذا الطاعون وما أحدثه بالبلاد من خراب حتى أن نصف سكان القاهرة قد قضوا نحبهم بسببه، كما أن القرى والأقاليم لم تسلم منه ثم كان للاسكندرية نصيب في العام التالي من هذا الطاعون «5»، وكان الوباء المشار إليه ثالث الأوبئة الجارفة التي أصابت البلاد في حكم قايتباي فقد كان أولها في عام 873 هـ، وحدث الثاني في عام 881 هـ، ويبدو أن هذه الأوبئة كانت سمة بارزة في هذا العصر وكانت تعتري الناس في فترات غير متباعدة حتى أن مدة خمس عشرة سنة بين وباءين تعتبر في في نظرهم مدة طويلة «6».

_ (1) الشوكاني: البدر الطالع ج 2 ص 55 - 56 ترجمة السلطان قايتباي. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 298، د. سعيد عاشور، العصر المماليكي ص 174. (3) عبد الوهاب حمودة: صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي ص 6. (4) السيوطي: المقامة الطاعونية ضمن مقامات السيوطي ص 69. (5) المصدر السابق ص 70 - 71. (6) المصدر السابق ص 69 حيث يقول «وكان للطاعون نحو خمس عشرة سنة لم يطرق هذين المصرين»، انظر ابن اياس ج 2 ص 272 - 276.

وإن يكن السيوطي قد أغفل ترجمة السلطان قايتباي على ما يبدو فإنه لم يفته أن ينوه بذكره وأن يمتدحه في كتابه الذي ألفه بعد وفاته فذكر عنه أنه «سار في المملكة بشهامة وصرامة ما سار بها قبله ملك من الملوك من عهد الناصر محمد بن قلاوون .. ومن سيرته الجميلة أنه لم يولّ بمصر صاحب وظيفة دينية كالقضاة والمشايخ والمدرسين إلا أصلح الموجودين لها بعد طول تروية وتمهلة بحيث تستمر الوظيفة شاغرة الأشهر العديدة ولم يولّ قاضيا ولا شيخا بمال قط» «1». وجدير بالذكر هنا أن السخاوي معاصر السيوطي قد أثنى غاية الثناء على قايتباي في ترجمته له التي يبدو أنه كتبها في حياته فنوه بقوته وحسن تصرفه كما أشاد بحسن تدينه واعتقاده، وسيرته الحسنة في الرعية، وكثرة ما أقام من إصلاحات وانشاءات حتى قال فيه: «وبالجملة فلم يجتمع لملك ممن أدركناه ما اجتمع له، ولا حوى من الحذق والذكاء والمحاسن مجمل ما اشتمل عليه ولا مفصله» «2»، أما ابن اياس الذي كتب تاريخ هذه الحقبة وكان معاصرا لها والذي كتب عن السلطان قايتباي بعيد وفاته فإنه يبدو في تاريخه أكثر اعتدالا وموضوعية حيث يشيد بحسناته ولا يغفل ذكر بعض مساويه ثم يقول: «وكانت محاسنه أكثر من مساويه» «3». وبالاضافة إلى ما ذكرنا من مميزات الفترة التي حكمها قايتباي من منافسة العثمانيين إلى انتشار الطواعين، فقد تميزت هذه الفترة بكثرة الضرائب وجمع الأموال للحروب وهذا ما جعل مؤرخا كابن إياس يذكر عنه أنه «كان محبا لجمع الأموال ناظرا لما في أيدي الناس ولولا ذلك لكان يعد من خيار الملوك» «4». كما أن هذه الفترة قد تميزت نسيبا باستقرار الأوضاع السياسية الداخلية وذلك إذا ما قورنت بالفترات السابقة واللاحقة، أو بعبارة أخرى إذا ما قورنت بطابع ذلك العصر الذي اصطبغ بالفتن والمؤامرات والحروب الداخلية بين أمراء

_ (1) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 342. (2) السخاوي: الضوء اللامع ج 6 ص 201 - 210. (3) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 298. (4) المصدر السابق: ج 2 ص 298.

المماليك الطامعين في السلطنة. وحين طعن السلطان السابق في السن اتفق كبار أمراء المماليك على خلعه وتولية ابنه محمد الذي لقب بالناصر «1»، وقد حاول أحد أمراء المماليك ويدعى قانصوه خمسمائة أن يتولى السلطنة وكاد يتم له الأمر وجمع الخليفة والقضاة الأربعة والأمراء وتمت له البيعة لولا أن تعصب بعض المماليك الجلبان بزعامة قانصوه خال السلطان الناصر واستطاعوا هزيمة خصومهم وبذلك عاد الناصر إلى سلطنته «2»، ولم تطل بالرغم من ذلك سلطنة محمد بن قايتباي فقد تعرض لمؤامرة دبرها له مماليكه أودت بحياته «3». ويعطي ابن إياس صورة عن حالة الفوضى التي تعرضت لها البلاد فيذكر عن السلطان السابق أنه «كانت مدة سلطنته بالديار المصرية نحوا من سنتين وثلاثة أشهر وتسعة عشر يوما وكانت أيامه كلها فتنا وشرورا وحروبا قائمة» «4»، وتولى بعده خاله قانصوه الأشرفي في ربيع الأول سنة 904 هـ «5»، وقد كانت مدة حكمه سنة وثمانية أشهر، وقد صلحت أحوال البلاد في أيامه إذا ما قورنت بأيام. سلفه، وقد كان ملكا لين الجانب «6». وقد دفع الطمع في السلطة أحد كبار الأمراء وهو طومان باي إلى أن يثور في وجه السلطان السابق بعد أن جمع حوله المماليك، وحاول السلطان ترضيته ولكنه لم يفلح واستطاع طومان باي ومن معه من الجند أن ينزلوا الهزيمة بمن بقي بالقلعة من الجند عند السلطان بعد حصارها ثلاثة أيام، وكان طومان باي يطمع في السلطنة لولا وجود من هو أحق منه وهو جان بلاط، وهنا تعصب له طومان باي وولاه السلطنة «7»، غير أنه لم يكن يكنّ له الولاء التام إذ لم يلبث أن ثار عليه وخلعه ليتولى مكانه حين آنس من نفسه قوة بمن معه من الجند الذين كان ذاهبا بهم لاخماد ثورة الشام، ولكنه اتفق مع

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 303، العصر المماليكي ص 176. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 309 - 311. (3) المصدر السابق ج 2 ص 348. (4) نفس المصدر ج 2 ص 349. (5) نفس المصدر ج 2 ص 350. (6) نفس المصدر ج 2 ص 369. (7) نفس المصدر ج 2 ص 368، 369.

أمراء الشام على خلع السلطان وبويع له هناك بالسلطنة ولم يلبث أن جاء بعسكره إلى مصر واستطاع الاستيلاء على مقاليد الأمور «1». ولم تطل أيام طومان باي في السلطنة إذ مكث ثلاثة أشهر «وكانت مدة سلطنته كلها شرور وفتن مع قصرها وآخر الأمر هرب واختفى واستمر مختفيا حتى ظهر وقبض عليه وقطعت رأسه» «2»، وقد ثار عليه أمراء المماليك لما رأوا نيته السيئة حيالهم، وآل الأمر إلى أن تولى قانصوه الغوري السلطنة بعد تمنع وإباء خوفا على نفسه أن يحدث له ما حدث لأسلافه «3»، وذلك في مستهل شوال سنة 906 هـ. وجميع هؤلاء فيما عدا الغوري قد تولوا فترات قصيرة كما بينا مما يصور حالة الفوضى التي عمت الدولة في هذه الحقبة، ويفيض ابن اياس مؤرخ هذه الفترة في شتى المواضع في وصف الفتن والمؤامرات التي كانت لا تلبث تتحرك بين حين وآخر والحروب التي اشتعلت نيرانها أكثر من مرة بين الأمراء الطامعين في السلطنة. وقد عمل الغوري على إعادة الاستقرار إلى البلاد، ووطّد أركان ملكه وما زال يحتال بمنافسيه حتى أفناهم «4»، وقد حاول أن يملأ خزانة الدولة التي كانت فارغة واتبع في ذلك صنوف المظالم وانتهب أموال الناس وانقطعت بسببه المواريث، فضج أهل مصر ومن تحت طاعته من أخذه لأموالهم «5». ولم تحدث قلاقل داخلية في الفترة الأولى من حكم الغوري باستثناء بعض ثورات المماليك الجلبان، ولكن الخطر الحقيقي الذي هدد الدولة كان آتيا من ناحية البحر حيث اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح. وتحول مرور التجارة عن مصر وفقدت الدولة بذلك أعظم مورد لها، ولم يكتف البرتغاليون

_ (1) نفس المصدر ج 2 ص 383، 384. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 395 - 396. (3) المصدر السابق ج 4 ص 2 - 4. (4) الشوكاني: البدر الطالع ج 2 ص 54. (5) المصدر السابق ص 55.

الخلافة:

بذلك بل هاجموا السفن المصرية في البحر، وانتصر المماليك في أول الأمر بأسطولهم ولم يلبث البرتغاليون أن ثأروا لأنفسهم في موقعة ديو البحرية وهكذا ضاعت مكانة مصر في الوساطة التجارية بين الشرق والغرب «1»، ولم يكن هذا الخطر بأكبر من خطر بني عثمان الذين قويت دولتهم وعلا شأنهم منذ استولوا على القسطنطينية، وقد حدثت منازعات بينهم وبين السلطان قايتباي، ولم تكن هذه الأحداث ذات نتيجة حاسمة حتى كانت أيام السلطان سليم العثماني الذي كان معاصرا للغوري وانتهى النزاع بينهما إلى انتصار الأتراك في «مرج دابق» سنة 922 هـ، ثم دخولهم مصر في سنة 923 هـ، وذلك بعد وفاة السيوطي التي كانت سنة 911 هـ، ومنذ ذلك الحين فقدت البلاد استقلالها وأضحت تابعة للدولة العثمانية وانتهت بذلك سلسلة السلاطين الشراكسة. الخلافة: وإذا ما استعرضنا خلفاء الحقبة الأخيرة من هذا العصر والتي شهدها السيوطي فإن أولهم هو المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن المتوكل المتوفي سنة 855 هـ على ما يذكر ابن اياس في الثاني من المحرم «2»، أو في أواخر عام 854 هـ على ما يذكر السيوطي «3»، ولعل السيوطي قد أدرك هذا الخليفة في طفولته حيث كان أبوه مقربا منه، وهو الذي كتب له نسخة عهد الخلافة الذي عهد له به أخوه داود «4»، وقد ذكر السيوطي عنه أنه كان من صلحاء الخلفاء، كما أشار إلى العلاقة التي كانت بين أبيه كمال الدين وبين هذا الخليفة حيث كان «إماما له وكان عنده بمكان رفيع خصيصا به محترما عنده جدا، وأما نحن فلم ننشأ إلا في بيته وفضله، وآله خير آل دينا وعبادة وخيرا .... ولم يعش والدي بعده إلا أربعين يوما ومشى السلطان في جنازته إلى تربته وحمل نعشه بنفسه» «5»،

_ (1) د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 178 - 188. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 33. (3) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 341. (4) المصدر السابق ص 340، 341. (5) نفس المصدر ص 341، انظر حسن المحاضرة ج 2 ص 84، 85.

وبايع السلطان بالخلافة بعده أخاه أبا البقاء حمزة ولقب بالقائم بأمر الله، وحدثت جفوة بينه وبين السلطان انتهت بخلعه وتولية أخيه مكانه، وقد حكم بخلعه قاضي القضاة علم الدين البلقيني وذلك في سنة 859 هـ «1». وبايع السلطان بعده أخاه يوسف ولقب بالمستنجد بالله وساعده في الوصول إلى منصب الخلافة القاضي البلقيني لكونه زوج ابنته «2»، وقد ظل في الخلافة إلى أن توفي في عام 884 هـ وقد بلغ التسعين أو جاوزها «3»، وقد قلد خمسة من السلاطين آخرهم قايتباي «4»، وقد عهد الخليفة السابق لابن أخيه عبد العزيز الذي تلقب بالمتوكل على الله وقد طالت أيامه في الخلافة وكان كفؤا لذلك «5»، وقد كان هذا الخليفة صديقا للسيوطي وهو آخر من ترجم لهم السيوطي في تاريخ الخلفاء وقد أشاد بذكره فذكر أنه «نشأ معظما مشارا إليه محبوبا للخاصة والعامة بخصاله الجميلة ومناقبه الحميدة، وتواضعه وحسن سمته وبشاشته لكل أحد وكثرة أدبه، وله اشتغال بالعلم، قرأ على والدي وغيره» «6». وكانت وفاة المتوكل في المحرم سنة 903 هـ، وقد أشاد بذكره ابن اياس وذكر عنه أنه كان من خيار بني العباس وكانت خلافته تسع عشرة سنة وأياما «7»، وقد عهد المتوكل لابنه يعقوب بالخلافة، وقد تولى بعد وفاة أبيه ولقب بالمستمسك بالله ويقال إن الذي كناه ولقبه هو الجلال السيوطي «8»، وقد ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء غير أنه لم يترجم له إذ إن السيوطي قد توفي في حياة هذا الخليفة «9»، وقد شهد الخليفة الأخير مبايعة عدد من السلاطين وامتدت به الحياة إلى أن رأى احتلال العثمانيين للبلاد، وكان ابنه هو آخر الخلفاء العباسيين بمصر.

_ (1) تاريخ الخلفاء ص 341، حسن المحاضرة ج 2 ص 85، ابن إياس ج 2 ص 52. (2) حسن المحاضرة ج 2 ص 85، ابن إياس ج 2 ص 52. (3) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 342. (4) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 185، 186. (5) المصدر السابق ج 2 ص 186. (6) تاريخ الخلفاء ص 341. (7) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 333. (8) المصدر السابق ج 2 ص 333، 334. (9) تاريخ الخلفاء ص 344.

نظم الحكم:

والملاحظ أنه لم يكن للخليفة سلطة تذكر بجانب السلطان، وقد كان في مقدور السلطان أن يخلع الخليفة وأن يولي غيره، وكانت مبايعة الخليفة للسلطان تقليدا شكليا واعترافا من قبل الخليفة بالأمر الواقع الذي لم يكن له فيه خيرة، وبالرغم من ذلك فقد كان منصب الخلافة من المناصب الجليلة بالدولة، كما أن السلاطين راعوا حرمة الخليفة وتوقيره في كثير من الأحيان. وإكمالا للحديث عن الحياة السياسية لا نرى بأسا من أن نشير إلى نظم الحكم والقضاء بالدولة لارتباط هذه الأمور بالنواحي السياسية: نظم الحكم: كانت دولة المماليك إقطاعية كما سبق أن أشرنا، وقد قسمت أراضي مصر إلى أربعة وعشرين قيراطا، اختص السلطان منها بأربعة قراريط ووزعت بقية الأرض على الأمراء وجندهم، وأجناد الحلقة والعربان والتركمان «1». وكان الاقطاع شخصيا لا دخل لأحكام الوراثة أو الملكية فيه، وبموت المقطع أو إخلاله بشروط الاقطاع يمكن للسلطان أن يخرجه عن إقطاعه ويمنح الاقطاع لغيره، وكان السلطان على رأس الهرم الاقطاعي بالبلاد وكذلك على رأس الهرم الإداري، ووجد إلى جانبه مجلس للمشورة يضم أتابك العسكر والخليفة العباسي والوزير وقضاة المذاهب الأربعة وأمراء المائتين، وقد تعددت اختصاصات ذلك المجلس في شئون الحرب والصلح، وشغل المناصب الكبرى للدولة، على أن السلطان لم يكن ملزما بدعوة هذا المجلس أو الأخذ برأيه فهو صاحب الرأي الأخير بوصفه حاكما مطلقا «2». وكانت إقامة السلطان والأمراء وأسرهم بقلعة الجبل، وقد كانت بمثابة مدينة صغيرة تضم طباق المماليك السلطانية فضلا عن عديد من دواوين الدولة وأجهزتها، وكان بها كثير من القصور والعمائر والمساجد.

_ (1) القلقشندي: صبح الأعشى ج 3 ص 453، 454. (2) د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 352.

القضاء:

وقد بلغ النظام الاداري غاية الدقة، وتنوعت الدواوين التي تختص بمختلف الشئون «1»، وكان هناك نائب السلطنة وهو المنصب الثاني بعد السلطان، وبعده يأتي الأتابك وهو قائد جيش المماليك، ثم يليه الوزير الذي كان نفوذه أقل من سابقيه. وكان هناك نواب السلطنة بالأقاليم الكبيرة أو التي لها أهمية خاصة، وقد ناب كل منهم عن السلطان في وحدته الادارية، وكان عليهم الرجوع إلى السلطان في المسائل التي لا يستطيعون الانفراد بالبت فيها «2». ويأتي بعد هؤلاء فئة الولاة وكان أفرادها يختارون من بين الأمراء ليقوموا بوظيفة كوظيفة المحافظ الآن أو أكبر شأنا في الأقسام الادارية، وكان أكبر هؤلاء شأنا هو والي القاهرة الذي عهد إليه بالاشراف على العاصمة وصيانتها وحماية أهلها من عبث المفسدين واللصوص ومثيري الفتن، وكان عليه مكافحة الأمراض الاجتماعية كانتشار الخمر وتعاطي الحشيش وعبرها وكان يتخذ لذلك من الوسائل ما يراه كفيلا بتحقيق غرضه «3». القضاء: حظى القضاء باهتمام رجال الدولة، كما تمتع القضاة بمكانة اجتماعية كبيرة بين الناس، وروعي في اختيارهم شروط معينة، وكان هناك قضاة المذاهب الأربعة وظل هذا النظام طيلة عصر المماليك، وكان على رأس كل فئة قاضي قضاة المذهب، وكان لقضاة القضاة مكانة عظيمة بالدولة فقد كانوا يحضرون مجالس السلطان، فضلا عن ضرورة حضورهم مبايعة السلطان الجديد، وكان للقاضي الشافعي مكانة ممتازة عن سائر القضاة وله اختصاصات تزيد على نظرائه من قضاة القضاة. وكان هناك «قضاة العسكر» وهم الذين يختصون بشئون الجند كما كانوا

_ (1) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 111. (2) د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 354، 355. (3) د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 356، 357.

يفصلون في المنازعات القائمة بين العسكر والمدنيين «1». وقد كان للقضاة دور هام في المجتمع، باعتبار المسئوليات الكبيرة الملقاة على عواتقهم ونظرا لتنوع القضايا التي ينظرونها ويفصلون فيها، فضلا عن اضطلاعهم بشئون الوصايا والأحباس وشئون اليتامى والتدريس بالمدارس «2». وكان لكل قاض عدد من النواب الذين يعينونه في القضاء، كما كان لكل منهم عدد معين من الشهود الذين يتعرفون أحوال الناس ويشهدون في القضايا ولهم حوانيت معلومة «3»، وكثيرا ما تعرض النواب والشهود لنقد مرير من الناس نتيجة لتصرفاتهم المشينة في بعض الأحيان، بل إن النقد قد تجاوز هؤلاء إلى القضاة أنفسهم لإهمالهم في شئون الأوقاف والمدارس التي يلون نظارتها «4». وقد تعود السلاطين أنفسهم أن يعقدوا جلسات للنظر في المظالم التي تعرض عليهم، وكان مجلس السلطان يحضره قضاة القضاة الأربعة وعدد كبير من كبار رجال الدولة وكانت هيئة جلوسهم تتم وفق «بروتوكول» معروف دقيق «5»، وغالبا ما كانت هذه الجلسات تعقد يومين من كل أسبوع. وقد اقتصر جلوس السلاطين على مدد قصيرة- بمرور الزمن- ويبدو أنه كان من حق أي إنسان أن يتقدم بشكايته إلى السلطان مهما كان موضوع الشكوى، حتى أبطل ذلك قايتباي وأمر بألا يتقدم أحد إلى السلطان إلا بعد أن يرفع أمره إلى القضاة، فإذا لم ينصفوه فإن من حقه رفع الأمر إلى السلطان «6». على أنه كانت هناك وظيفة قريبة الصلة بالقضاء هي الحسبة، وكان يحدث أن تسند الحسبة والقضاء إلى شخص واحد، وكان عمل المحتسب يقوم على

_ (1) المصدر السابق ص 366. (2) نفس المصدر ص 367. (3) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص 158. (4) المصدر السابق ص 159. (5) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 109، 110. (6) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 129.

سرعة البت في المخالفات التي تتعلق بالآداب العامة ونظام الأسواق ومراعاة الأمانة في المعاملات وكان يقوم بعقاب الخارجين على النظم الموضوعة «1» وقد حاول السيوطي أن يمد نفوذه إلى القضاء وأن يجعل من نفسه قاضيا كبيرا أو رئيسا له الحق في عزل وتولية من يشاء، واستطاع أن يحصل على هذه الوظيفة التي لم تكن موجودة منذ زمن الأيوبيين عن طريق عهد من الخليفة المتوكل على الله عبد العزيز وقد كان وثيق الصلة به، وقد ثار ثائر القضاة عليهما، وحاولوا الايقاع بين الخليفة وبين السلطان وانتهى الأمر بأن رجع الخليفة عن ذلك واعتذر «2»

_ (1) القلقشندي: صبح الأعشى ج 4 ص 36، 37. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 307.

الحياة الاجتماعية

الحياة الاجتماعية نريد أن نلمس هنا بعض جوانب الحياة داخل البلاد ونتبين أهم العلائم التي تميز ذلك المجتمع عن غيره، والمعالم التي تحدد لنا صورة واضحة للبيئة التي عاش فيها السيوطي، ونستطيع استجلاء ذلك من خلال تعرضنا لبعض الجوانب الهامة في حياة المجتمع. بناء المجتمع: والمجتمع في عصر المماليك مجتمع طبقي تتضح فيه الفروق بين الطبقات، وتتزيل كل طبقة عن الأخرى بمجموعة من الخصائص والمظاهر. وأكثر فئات المجتمع تميزا عن غيرها هي فئة المماليك التي كانت تمثل طبقة عسكرية ممتازة تستأثر بالحكم وبشئون الحرب، ولهم من أصلهم ونشأتهم وأسلوبهم في الحياة وبعدهم عن أهل البلاد سياج يحيط بهم ويميزهم عن غيرهم. ولم يكن هؤلاء من أصل واحد، بل كانوا مجتلبين من شتى البلاد، وقد بالغ كثير من السلاطين في شراء المماليك واعدادهم، واهتموا بتربيتهم اهتماما كبيرا ولم يضنوا عليهم بتوفير المعيشة الفاخرة، وعند ما يشب المملوك ويخرج من الطباق يقرر له راتب شهري «جامكية» ويتدرج في الترقي وربما أتيح له أن يصبح من أمراء المماليك وكبار رجال الدولة، وربما يستطيع بعد ذلك الوصول إلى السلطنة. وقد تمتع المماليك بحظ كبير من الثراء عن طريق الأموال والاقطاعات الكبيرة التي تصلهم من الدولة «1»، وظلت القاعدة في الإقطاع أن يئول إلى السلطان

_ (1) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص 19.

بانتهاء مدة الاقطاع أو بسبب وفاة المقطع أو عزله أو إخلاله ببعض الشروط، وقد كان لهذه الطائفة مكانة كبيرة في المجتمع، وتمتع أمراؤهم بنفوذ عظيم في البلاد، بل كثيرا ما كان بعضهم يطغى نفوذه على نفوذ السلطان وكثيرا ما نجد بعضهم يتصرفون في حكم البلاد وجباية الأموال لأنفسهم في حرية مطلقة كالسلطان سواء بسواء. ولم يحاول المماليك الزواج من أهل البلاد والاختلاط بهم بل غالبا ما كانوا يختارون أزواجهم وجواريهم من بنات جنسهم اللائي جلبن معهم «1»، ولم يحدث الخروج على هذا العرف إلا في حالات قليلة. على أن أسس تربية المماليك واعدادهم التي روعي فيها اختيار السبل التي تضمن طاعتهم وولاءهم وتخلقهم بالآداب الحسنة وتمسكهم بالدين لم تلبث أن تطرق إليها الخلل في جوانب عديدة كان لها أثرها في فقد المماليك روح النظام والطاعة، واتضح ذلك جليا في الفترة التي نهتم بها وهي آخر عصر المماليك، ففضلا عن الثورات والفتن السياسية وما فيها نجد لهم حركات افسادية تهدف إلى النهب والسلب أو الحصول على نفقة من الدولة أو تعجلا لنفقة متأخرة أو ما شابه ذلك، وهناك عديد من الأمثلة التي ذكرها ابن اياس المؤرخ المعاصر لهذه الفترة، فمن ذلك ثورة المماليك الجلبان في عام 878 هـ حيث هاجموا بولاق ونهبوا ما فيها وقصدوا «شونة» الأمبريشبك الدوادار ونهبوها، وقد استمرت الفتنة أياما هرب خلالها بعض الأمراء خوفا على أنفسهم من النهب «2»، وتكرر حادث مشابه في العام التالي «3»، ثم نجد فتنة تثور بين بعضهم وبين بعض حتى يقع القتال في صفوفهم «4»، واضطراب آخر يحاول فيه المماليك قتل مقدمهم «5» «6»،

_ (1) المصدر السابق ص 23. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 149. (3) المصدر السابق ج 2 ص 151. (4) المصدر السابق ج 2 ص 183. (5) المصدر السابق ج 2 ص 314. (6) نفس المصدر ج 2 ص 215.

أرباب القلم:

وتتكرر هذه الاضطرابات التي يقصد بها المماليك النهب والسلب لا سيما طائفة المماليك الجلبان «1». والحقيقة أن كثرة هذه الاضطرابات تدل على فساد هذه المؤسسة العسكرية الحاكمة، وقد نشأ هذا الفساد لا سيما في طائفة الجلبان بسبب اجتلابهم كبارا في السنّ، وعدم أخذهم في التربية الإسلامية مأخذ الجد وقلة تعودهم على الانضباط والطاعة والخلق القويم، ولذلك كثر شغبهم وفسادهم، وكان ذلك مؤذنا أو مرهصا بنهاية دولة المماليك بأسرها. وقد تعود المماليك الثورة بسبب طلب نفقة البيعة وهي تعني بيعتهم للسلطان الجديد، ويكاد الحديث عن هذه الثورة يكون أمرا معاد مألوفا عند بداية عهد كل سلطان، فضلا عن الثورة بسبب تعجل نفقة متأخرة أو نفقة بسبب الخروج إلى القتال أو العودة بعد الانتصار «2». ولقد كانت هذه النفقات تكلف الدولة كثيرا من الأموال فكان السلاطين يصادرون بسببها كثيرا من أموال الأغنياء والأمراء، وهكذا فلقد ظهرت هذه الطبقة في هذه الفترة- فضلا عما تمتعت به من حظ لم يتح لغيرها- بمظهر الفئة الباغية المفسدة في كثير من الأحيان. أرباب القلم: وإلى جانب طبقة المماليك- وهم حكام البلاد- وجدت جماعة المعممين أو أرباب القلم، وهذه الطائفة كانت تضم أرباب الوظائف الديوانية والفقهاء والعلماء والأدباء والكتاب، وقد امتازت هذه الفئة طيلة عصر المماليك بمميزات معينة على الرغم مما تعرض له بعض أفرادها من الامتهان أو الاضطهاد في بعض الأحيان «3». وقد أظهر سلاطين المماليك احترامهم وتبجيلهم لرجال الدين وللمتصوفين،

_ (1) هنا أمثلة عديدة لحوادث النهب والسلب والفساد التي أحدثها المماليك ويمكن مراجعة أمثلة لها في بدائع الزهور ج 2 ص 318، ج 2 ص 230، ج 2 ص 39، ج 2 ص 240، 241، ج 2 ص 247. (2) المصدر السابق ج 2 ص 278، 279، ج 2 ص 257، 258. (3) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 256.

وهناك عديد من الأمثلة تشهد لما نقول طيلة ذلك العصر، وقد تولى الفقهاء مناصب القضاء بالدولة، كما أسند إلى أبناء هذه الفئة بصفة عامة مناصب الوزارة وكاتب السر بالاضافة إلى وظائف التدريس بالمدارس. وقد اعتد رجال هذه الطائفة بأنفسهم وعمدوا في كثير من الأحيان إلى معارضة السلطان والأمراء دفاعا عن الحق أو مطالبة برد بعض المظالم أو رفع بعض المكوس، كما تعود كثير منهم انتقاد السلطان والأمراء في المجالس العامة ومن فوق منابر المساجد، ولعل أبرز المواقف في الفترة التي شهدها السيوطي ذلك الموقف الذي وقفه شيخ الاسلام أمين الدين الأقصرائي في وجه السلطان قايتباي حين حاول أن يمد يده إلى أموال الأوقاف وجمع القضاة ليفتوه بذلك فهاجمه الشيخ مهاجمة قوية أشاد بها معاصروه والمؤرخون له «1» كذلك مواقف الشيخ زكريا الأنصاري من السلطان قايتباي ومهاجمته له من فوق المنبر والسلطان جالس أمامه ولم يكن السلطان يزيد على أن يقبل يد الشيخ بعد الانتهاء من الصلاة، فضلا عن النصائح القوية التي كان الشيخ لا يفتأ يوجهها إلى السلطان «2». وكان للسيوطي مثل هذا الاعتداد بالنفس وكانت له مواقف جليلة سنشير إليها بعد، ولم تكن هذه الأوصاف- بطبيعة الحال- مطردة على الدوام، فلقد تعرض الفقهاء وأهل العلم في بعض الأحيان للاضطهاد أو لحقد طبقة المماليك الذين رأوا فيهم منافسا لهم، وكثيرا ما وقعت المنافسات بين بعض الفقهاء وبين بعض أمراء المماليك. على أنه ينبغي ألا نغفل بعض مواقف الضعف التي كان يقفها بعض رجال هذه الفئة ترضيه للسلطان أو لكبار الأمراء كما فعل أحدهم حين أفتى بحلّ ما قصد إليه السلطان من فرض الضرائب الجائرة على الناس لجمع أموال يرضي بها مماليكه فتعرض الفقيه بذلك لغضب عامة الناس «3»

_ (1) المصدر السابق ج 2 ص 96، 97. (2) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى (مخطوط بدار الكتب المصرية) ورقة 23. (3) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 258 (هو الشهاب الحنبلي).

التجار:

وعلى أية حال فإن المكانة الكبيرة التي ارتقتها هذه الطائفة قد جعلتهم المعبرين عن الشعب والمدافعين عن حقوقه لدى الحكام، كما جعلتهم شفعاء للناس في قضاء حوائجهم لا سيما أن صلتهم بالناس أقوى بكثير من صلة المماليك الحاكمين. التجار: وهي الفئة الثالثة من فئات المجتمع، ولقد تمتع أبناؤها بثراء واسع ولا سيما أن مصر قامت بنشاط كبير في التجارة بين الشرق والغرب قبل اكتشاف البرتغاليين طريق رأس الرجاء الصالح «1» وقد عمد السلاطين إلى تقريب التجار منهم إذ إنهم المصدر الأساسي الذي يمد الدولة بالمال، على أن كثرة الثروة في أيدي التجار قد جعلتهم في كثير من الأحيان مطمع سلاطين المماليك فأكثروا من مصادرتهم بين حين وآخر إذا ما احتاجوا إلى الأموال بسبب إرسال تجريدة «2»، أو إنفاق نفقة على الجند أو غير ذلك فضلا عن الرسوم والضرائب الباهظة التي كانت تفرض عليهم. الصناع وأرباب الحرف: ووجد بالمدن المصرية في ذلك العهد طائفة كبيرة من العمال والصناع وأصحاب المهن الذين ينتمون لنظم معينة يدين بها أبناء الحرفة الواحدة، ولكل حرفة شيخ أو رئيس يرجعون إليه فيما يهمهم لا سيما في الوساطة بينهم وبين الحكومة، وكان للدخول في كل حرفة نظم خاصة فقد يقصر أبناء الحرفة حرفتهم على أنفسهم وعلى أبنائهم من بعدهم ولا يسمح لغيرهم بمزاولتها «3». العوام «4»: وقد اكتظت المدن المصرية في ذلك العهد بجمهور كبير من الباعة والسقائين

_ (1) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص 34. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 245 حوادث سنة 892 هـ. (3) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص 36. (4) المصدر السابق ص 377، العصر المماليكي ص 312.

أهل الذمة:

والمكاريين والمعدمين الذين يعبر عنهم في الكتب المعاصرة لهم بالعوام والزعر والحرافيش والمشاعلية، وقد لقى أبناء هذه الفئة ضيقا وعسرا في الحياة إذا ما قورنوا بغيرهم من الطبقات المنعمة حتى لاحظ بعض الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر في ذلك الحين أن بالقاهرة عددا كبيرا يعيشون بلا مأوى في الليل والنهار سوى الطرقات وأجسادهم شبه عارية، وتفاوتوا في تقدير ذلك العدد بين خمسين ألفا ومائة ألف «1» وكان كثير من هؤلاء لا يجدون إلا ما يجود لهم به بعض السلاطين والأمراء وذوي الأموال من الصدقات مما دفع بكثيرين منهم إلى أن يمدوا أيديهم بالسؤال وأن يجعلوا منه حرفة لهم، وقد دفعهم حالهم السيئ إلى احتراف السلب والنهب وتحين الفرص للحصول على أكبر قدر من الغنائم لا سيما في أيام الفتن والاضطرابات «2». أهل الذمة: «3» كان أهل الذمة يكونون أقلية كبيرة في ذلك الحين، وقد قدر عددهم في القاهرة وحدها بعشرين ألفا نصفهم من اليهود والنصف الآخر من النصارى. ويبدو أن ثروة مصر واتساع تجارتها في ذلك العهد قد اجتذبت كثيرين منهم من البلاد الأجنبية فاستوطنوا المدن المصرية، وحظى كثيرون منهم بثراء واسع جعلهم أيضا مطمع السلاطين إذ كانوا يصادرون طوائفهم حين احتياجهم إلى الأموال «4» وقد تعرضوا خلال هذه الفترة لبعض الاضطهادات بين حين وآخر، وتشير مراجع ذلك العصر إلى بعض ألوان الاضطهاد التي كانت تنتابهم «5»، وإن كنا لا نكاد نجد شيئا من ذلك في الفترة التي عاشها السيوطي سوى مصادرة أموالهم

_ (1) المجتمع المصري ص 38 (وقد رجع إلى أحد المصادر الفرنسية). (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 302. (3) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 40. (4) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 249، عام 893 هـ. (5) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 44.

الفلاحون:

في بعض الأحيان شأنهم في ذلك شأن الأثرياء من الأمراء والتجار وأرباب الوظائف من المسلمين. الفلاحون: وإكمالا لطبقات المجتمع يحسن أن نشير إلى طبقة الفلاحين بالرغم من كونها فئة بعيدة عن حياة المدينة. ويبدو أن نصيب هذه الفئة لم يكن سوى الاهمال والاحتقار بالرغم من كونها أكبر فئات المجتمع ولعل وصف ابن خلدون لهذه الفئة كان يصدق عليها من قبله ومن بعده حيث وصف مهنتهم بأنها معاش المستضعفين وأن أهلها يختصون بالمذلة «1»، وقد عاش الفلاحون في مصر في ذلك العصر مشدودين إلى أرضهم وليس لهم من خيراتها إلا القليل لأن الأرض ظلت نهبا موزعا بين السلاطين والأمراء ومماليكهم وأوقافهم «2» وكثيرا ما تعرض الفلاحون لنهب أمراء المماليك الذين كانوا يجوبون القرى فضلا عما كان يفرض عليهم من الضرائب الباهظة، وكثيرا ما تعرضوا لظلم ولاة أقاليمهم الذين كانوا يأخذون منهم «غير العادة أضعافا» «3»، ولم تكفل الدولة لهم الأمن الكافي فكثيرا ما تعرضوا لغزوات الأعراب الذين كانوا ينهبون ضياعهم ومواشيهم وأمتعتهم، فضلا عما كانوا يفرضونه عليهم من إتاوات. الأعراب: ولا يسعنا- في الحقيقة- إلا أن نتحدث عن هذه الطائفة من طوائف المجتمع لما كان لها من أثر كبير في أحوال البلاد الداخلية. وقد شهدت الفترة التي ندرسها عديدا من القبائل التي انتشرت في أرجاء البلاد لا سيما في الشرقية والبحيرة والمنوفية والصعيد.

_ (1) ابن خلدون: المقدمة ص 394. (2) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 49. (3) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 302.

وقد أحصى القلقشندي والمقريزي قبائلهم بمصر وأماكن كل منها مما يتضح منه أنهم بلغوا عددا عظيما في ذلك العصر «1». وقد حاول الأعراب في أول عصر المماليك أن يقيموا حاكما من بينهم وأن يتخلصوا من سيطرة المماليك ولكن هذه المحاولة قد باءت بالفشل أمام جيوش المماليك المدربة، ولكن ذلك لم يمنع حدوث الصدام بين المماليك والأعراب على شكل أحداث متفرقة طوال العصر. وقد ظل العربان عنوانا للاخلال بالأمن والاضرار بالنظام والاعتداء على أهل البلاد الآمنين في المدن والقرى، ولم يسلم طريق الحاج من اعتداءاتهم المتكررة. والمتتبع لحوادث هذه الفترة تأخذه الدهشة من كثرة حوادث الأعراب وشغبهم وهو ما تسميه المراجع المعاصرة لهم بفساد العربان، فبينما يثور الأعراب بالشرقية ويفسدون في عام 875 هـ وترسل الدولة بحملة إليهم «2»، لا يكاد يمضي وقت حتى يعاودوا الفساد وفي هذه المرة يهاجمون القاهرة نفسها ويعملون بها النهب والسلب وينشرون الذعر «3»، ثم يتجدد فسادهم في عام 879 هـ ويهاجم بعضهم الجيزة في نفس العام وينهبون خيول المماليك ولا يستطيع السلطان الظفر بهم «4»، وبينما يحدث اضطراب الأعراب حول القاهرة تأتي الأخبار باضطرابات عنيفة يقوم بها الأعراب في الصعيد حيث ينزلون الهزيمة بكاشف الوجه القبلي «5»، وتحاول الدولة في كل ثورة أن ترسل إحدى الحملات لتأديب الأعراب وقد كان إعداد الحملات يكلف الدولة كثيرا من الأموال «6»، وربما تقاعس السلطان عن إرسال هذه الحملات مكتفيا بانصراف الأعراب

_ (1) القلقشندي: صبح الأعشى ج 1 ص 315 وما بعدها، ج 4 ص 67، ج 7 ص 160، انظر المقريزي: البيان والاعراب عما بأرض مصر من الأعراب. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 127. (3) المصدر السابق ج 2 ص 134، 135. (4) نفس المصدر ج 2 ص 156. (5) نفس المصدر ج 2 ص 180 حوادث ذي القعدة 882 هـ. (6) المصدر السابق ج 2 ص 165، ص 233.

الأقليات الأجنبية:

وعودة الأمور إلى مجراها الطبيعي كراهة النفقات الباهظة التي تتكلفها الدولة في إعداد هذه الحملات. وفي بعض الأحيان كانت تمنى حملات السلطان بالهزيمة أمام قوة الأعراب «1»، ولذلك فإن المماليك كانوا ينتقمون من الأعراب انتقاما شديدا بعد هزيمتهم، وكانوا يكثرون فيهم القتل والنهب والسلب كما كان سلاطينهم يبالغون في التمثيل بمن يؤتى به منهم أسيرا «2» وكثيرا ما اضطربت أحوال البلاد بسبب الأراجيف التي تنتشر بنية الأعراب محاولة الهجوم على القاهرة لا سيما في أيام الأزمات أو وجود الجند خارج البلاد في إحدى الحملات «3». وكثر قطع طريق الحجاج والاغارة عليهم وانتهابهم وتعويق بعضهم في الطريق «4»، وهناك أمثلة أخرى كثيرة أشار إليها مؤرخو هذه الفترة تدل دلالة واضحة على الاضطراب والفساد الذي كانت تحدثه تحركات الأعراب ومهاجمتهم للمدن والقرى، وتدل على مبلغ قوتهم في هذه الآونة «5»، فضلا عن اشتراكهم في بعض الأحيان في الفتن السياسية، وصراع قبائلهم فيما بينهم. وهكذا ظل الأعراب طوال هذه الفترة مصدرا هاما من مصادر القلق والفساد وعدم الاستقرار بالبلاد. الأقليات الأجنبية: بالاضافة إلى الطوائف السابقة وجدت بالبلاد مجموعة كبيرة من الأقليات الأجنبية، وقد قدر عدد الأجانب في بعض الأحيان بالاسكندرية بثلاثة آلاف تاجر مسيحي «6»، وكان هناك عديد من الجاليات موزعة على المدن المختلفة،

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 238. (2) المصدر السابق ج 2 ص 240، ج 2 ص 243. (3) نفس المصدر ج 2 ص 252. (4) نفس المصدر ج 2 ص 272 حوادث سنة 896 هـ، ج 2 ص 378. (5) المصدر السابق ج 2 ص 342، 346، 356، 357، 366. (6) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 55.

الحياة في المدن:

وكان لأبناء كل جالية فنادق خاصة بهم يقيمون بها، وقد تمتع هؤلاء داخل فنادقهم بقسط وافر من الحرية ولكن المجتمع فرض عليهم نظما معينة في تصرفاتهم بالخارج فلم يسمح لهم مثلا بركوب الخيل شأن أهل الذمة كما فرض عليهم إغلاق أبواب فنادقهم مساء كل يوم ووقت صلاة الجمعة «1». وقد اعتبر السلاطين أولئك الأجانب رهينة لدى الدولة فإذا ما حلّ اعتداء من الدولة الأجنبية ببعض الثغور الإسلامية وأسر من المسلمين أحد أو نهب منهم شيء فان الاقتصاص قد يكون من الفرنجة الموجودين بمصر، أو يكون تهديد الدول المعتدية بذلك وإن تكن هذه الوسيلة غير مجدية في دفع الاعتداء «2». الحياة في المدن: وإكمالا لحديثنا عن الجانب الاجتماعي فإنه يحسن أن نشير إلى نظام الحياة في المدن المصرية لا سيما القاهرة في ذلك الوقت. وقد اتصفت المدن في ذلك العصر بتلاصق منازلها وضيق دروبها واكتظاظ طرقاتها بالمارة والدواب، وقد أشاد الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر بعظمة المدن المصرية إذا ما قورنت بمثيلاتها من دول أوروبا آنذاك «3»، وقد فاقت القاهرة في ذلك العصر جميع مدن العالم تقريبا من حيث السعة والنشاط الحيوي وكثرة السكان، وقد أشاد ابن بطوطة الذي زار مصر في القرن الثامن الهجري بعظمة القاهرة «4». وبالرغم من ضيق طرقات المدينة فقد زخرت بألوان النشاط الانساني، يضاف إلى ذلك كثرة الدواب، فالخيول المطهمة يركبها المماليك ويركضون بها وسط الدروب والأسواق وهم يضربون الناس يمنة ويسرة دون اكتراث بهم، وليس مباحا لغيرهم من الفئات أن يمتطي الخيل إلا إذا كان من كبار أرباب

_ (1) المصدر السابق ص 56. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 246 حوادث ذي القعدة سنة 892 هـ، المجتمع المصري ص 56. (3) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 82. (4) رحلة ابن بطوطة ج 1 ص 19.

الوظائف بالدولة، والجمال العديدة تحمل القرب ويطوف بها السقاءون على المنازل، وقد قدر عدد جمال القاهرة في القرن الثامن الهجري بمائتي ألف جمل أما الحمير فبلغت عددا كبيرا، وكان جانب كبير منها يستأجر لقضاء الحاجات، وقد قدر ابن بطوطة عدد المكاريين في القاهرة بثلاثين ألف مكاري. «1» وكان على المحتسب أن يتولى تنظيم الطرقات وأن يضمن سلامة السير فيها، وكانت هذه الطرقات تضاء في الليل بالمصابيح، وقد ذكر بعض الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر في هذه الفترة أن بالقاهرة أربعة آلاف شارع ودرب كل منها له بابان وحارسان، وفي بعض هذه الشوارع ما يقرب من خمسة عشر ألف مسكن، ولكل منها سوق كبير. «2» وكانت الحراسة تشدد ليلا على هذه الشوارع، ومن سار في الليل لغير سبب معقول قبض عليه. وقد لقيت المدينة حظا لا بأس به من العناية بنظافة دروبها وطرقاتها كما زخرت بالأسواق العديدة التي حوت مختلف أصناف البضائع، وكان كل سوق ينفرد بنوع معين من البضائع فسوق للشماعين وآخر للدجّاجين ... وهكذا «3»، أما الأسواق الخاصة بالمآكل والمشارب فقد كانت عديدة، وقد قدر عدد المطاعم والمطابخ في القاهرة بما يزيد على اثني عشر ألف مطعم عدا الباعة الجائلين الذين يقدمون بعض أنواع الطعام، وقد وضع هؤلاء تحت رقابة المحتسب حرصا على صحة الناس. «4» وقد اشتهرت الحياة في المدن في ذلك العصر بالحفلات الصاخبة منها ما هو خاص كحفلات الزواج والختان والولادة، ومنها ما هو عام شعبي كالاحتفال بالمولد النبوي أو بموالد بعض كبار الأولياء أو غير ذلك من المناسبات الدينية والدنيوية، وقد بالغ السلطان والأمراء في إحياء هذه الاحتفالات على اختلافها

_ (1) المصدر السابق ج 1 ص 19. (2) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 84. (3) المصدر السابق ص 86. (4) نفس المصدر ص 87.

القلق الاقتصادي:

عامة كانت أو خاصة، وفي بعض الأحيان كان السلطان يحضر الاحتفال بالمولد بالقاهرة ثم يسافر لحضور الاحتفال بالاسكندرية «1». وحين قدوم السلطان من أسفاره كان يقابل بكثير من مظاهر الحفاوة ووجوه الاصلاح والزينة في الطرقات فضلا عن المواكب الكبيرة. «2» وقد عرفت هذه الفترة عديدا من أنواع الاحتفالات التي كانت لا تفتأ تقام بالمدينة بين حين وآخر كما عرفت صنوفا من المواكب التي كانت تشق القاهرة آنا بعد آن احتفالا بمناسبة دينية أو وطنية أو استقبالا للسلطان أو أحد الأمراء أو استقبالا لزائر أجنبي «3»، أو في حالات الزواج والختان والولادة أو لولاية ولاها السلطان أحدا من الناس. وكانت هناك مبالغات كبيرة في إعداد هذه الحفلات التي كانت تكلف الدولة أو تكلف أصحابها نفقات باهظة، وكانت حفلات الزواج تلقى عناية خاصة ويكلفها أصحابها أموالا طائلة «4». القلق الاقتصادي: على أن القاهرة وأسواقها لم تبق على حال ثابتة من الهدوء والسكينة في ذلك العصر، بل كثيرا ما تأثرت المدينة وأسواقها بعوامل سياسية أو اقتصادية أو اعتبارات أمن أدت إلى اضطراب الأحوال فيها، فقد أدت كثرة المنازعات والفتن بين أمراء المماليك وأحزابهم كما أدت ثوراتهم المستمرة في وجه السلطان إلى اضطراب الأمن في كثير من الأحيان، وتعرضت الأسواق لهجماتهم التي تقصد إلى السلب والنهب، وتكاد تكون جميع حوادث الفتن السياسية مصحوبة بمهاجمة الأسواق ونهب ما فيها الأمر الذي كان يترتب عليه أن تغلق المتاجر وتتوقف الحياة داخل الأسواق لعدة أيام حتى يعود الهدوء، وكان يكفي أن

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 172، 173. (2) المصدر السابق ج 2 ص 177. (3) نفس المصدر ج 2 ص 207. (4) نفس المصدر ج 2 ص 245 وانظر ج 2 ص 208، ص 187، ص 364.

يرجف بموت سلطان أو بهزيمة جنوده حتى يحل الفزع والاضطراب في جميع أرجاء المدينة. وبالاضافة إلى عامل الفوضى الناتج عن الفتن السياسية نجد ثمة عاملا آخر هو اختلال الأمن نتيجة لهجوم العصابات المسلحة الكبيرة على المدينة بين حين وآخر، وبالرغم من الاحتياطات والتدابير التي كان يقوم بها المسئولون بالمدينة فإن أخبار هذه الحوادث وكثرتها يعطي صورة للقلق وعدم الاستقرار وعدم التمكن من السيطرة على المفسدين حتى عدّ القبض على بعضهم «من النوادر» «1». وقد كان لذلك أثره في إشاعة القلق والاضطراب. وفضلا عن ذلك فهناك العوامل الاقتصادية المتصلة حينا بانخفاض النيل وما يترتب عليه من نقص الأقوات «2»، وحينا آخر بتلاعب السلاطين بالعملة، والتلاعب بالعملة مشهور في ذلك العصر، فكان السلطان يعمد إلى ضرب نقود جديدة ويجعل قيمتها أكبر مما في أيدي الناس فيخسرون بذلك أموالا طائلة ويكون هو المستفيد بفروق القيمة «3»، ويحدث الاضطراب والقلق بين التجار وفي الأسواق. وحوادث تغيير العملة وإبطالها والتلاعب بها كثيرة في ذلك العهد «4»، وقد تناول السيوطي ذلك في مبحث فقهي رائع عن أحكام الدّين بعد تغيير العملة وهل يطالب من عليه الدين بقيمته يوم اللزوم أو يوم المطالبة؟ وهل يأخذ الدائن من الفلوس الجدد المتعامل بها عددا بالوزن أو بالعدد؟ وقد تقصى بذلك إجابة على ما ورد عليه من الأسئلة في ذلك الحين. «5»

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 4 ص 39، 40، وهناك عدد من الأمثلة التي أوردها لهجوم العصابات على أسواق المدينة وأحيائها ج 2 ص 229، ص 294. (2) المصدر السابق ج 2 ص 226، 240، 241، 242، 336. (3) نفس المصدر ج 2 ص 157 ذو الحجة سنة 879 هـ. (4) نفس المصدر ج 2 ص 196، ص 310. (5) رسالة للجلال السيوطي بعنوان «قطع المجادلة عند تغيير المعاملة» وهي مطبوعة بكتاب الحاوي ج 1 ص 149.

المجاعات والأوبئة:

المجاعات والأوبئة: ويتصل بالقلق الاقتصادي ما كان يحدث بالبلاد من مجاعات نتيجة لانخفاض النيل وقلة الأقوات، أو نتيجة لاغتصاب المماليك أقوات الناس ودوابهم لا سيما في أوقات الاعداد لبعض الحملات الحربية كما حدث في عام 890 هـ «1». وأخبار المجاعات والغلاء كثيرة في هذه الفترة وتعكس كثرتها صورة للاضطراب الاقتصادي بالبلاد وعدم استقرار الأمور على حال واحدة. «2» أما عن الأوبئة فقد انتشرت عدة مرات خلال هذه الفترة، وقد حدث أن انتشر الطاعون في عهد قايتباي وحده ثلاث مرات كان أولها في عام 873 هـ «3»، وقد تزايد أمره بالقاهرة في شعبان من ذلك العام «وعمل في الأطفال والمماليك والعبيد والجواري والغرباء عملا بليغا ذريعا» «4»، وقد كان من الشدة بحيث «صارت الغرباء يموتون في الطرقات بعضهم على بعض» «5». وحدث الطاعون الثاني في عام 881 هـ أي بعد قرابة ثماني سنوات من انتشار الطاعون الأول وقد «كان طاعونا مهولا يموت فيه الانسان من يومه ... ومات فيه من الأعيان جماعة كثيرة» «6»، وقد عدد ابن اياس معاصر هذه الفترة جملة من الأمراء الذين لقوا حتفهم بسبب هذا الطاعون وذكر أنه قضى به «من الأمراء والخاصكية ما لا يحصى عددهم» «7»، هذا فضلا عن نحو ألفي مملوك من مماليك السلطان عدا من مات من مماليك الطوائف الأخرى «8».

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 232، (2) المصدر السابق ج 2 ص 118 غلاء عام 875 هـ، ص 194 عام 885 هـ، ص 241 عام 892 هـ. (3) المصدر السابق ج 2 ص 101، 105، 106. (4) نفس المصدر: ص 106، 107. (5) نفس المصدر: ج 2 ص 107. (6) نفس المصدر: ج 2 ص 169. (7) نفس المصدر ج 3 ص 170. (8) نفس المصدر: ج 2 ص 169.

وفي عام 897 هـ كان ثالث الأوبئة في عهد قايتباي، ويبدو أن الناس قد ألفوا هذه الأوبئة التي تنتاب البلاد والعباد بين حين وآخر، حتى اعتبروا أن مدة خمس عشرة سنة بين الوباءين فترة طويلة «1». وكان اعتقادهم أن حلول الطواعين إنما يكون بسبب ما أحدثوا في دينهم من الفساد، ويعبر ابن اياس عن ذلك بقوله: ان الطاعون «كان في مدة انقطاعه عن مصر كثر بها الزنا واللواط وشرب الخمر وأكل الربا وجور المماليك في حق الناس» «2». وكان هذا الطاعون أشد من سابقيه إذ يذكر أن من مات به بمدينة القاهرة وحدها يقدر بمائتي ألف «3»، ويؤكد السيوطي ذلك حيث يذكر أنه «ذهب فيه من القاهرة النصف أو أشد» «4». ولا نلبث أن نجد بعد قليل أخبار طاعون رابع حدث بعد وفاة قايتباي وفي حياة السيوطي أيضا وذلك في عام 903 هـ، وقد مات فيه «من المماليك والأطفال والعبيد والجواري جانب» «5»، ومات فيه من هؤلاء قرابة ثمانية آلاف فضلا عن موت جماعة من الأعيان، هذا إلى جانب ما يقدر بمائتي ألف إنسان بالقاهرة، وقد مكث بالمدينة نحوا من ثلاثة أشهر «6». والذي يحق أن نقوله هو أن البلاد المصرية لم تكن أسوأ بكثير من غيرها في الاصابة بالأوبئة، بل كثيرا ما كانت هذه الأوبئة تنتاب كثيرا من بلاد العالم «7»، ولكن يبدو أن إصابة البلاد المصرية وفعل الأوبئة بها كان أكثر قوة ووضوحا نظرا لكثرة السكان، ولم يكن في مقدور الناس ومستواهم آنذاك حكاما أو محكومين أن يفعلوا شيئا، بل كان مشهورا عند كثير من علماء ذلك العصر أن الطواعين

_ (1) السيوطي: المقامة الطاعونية، مقامات السيوطي ص 69. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 273. (3) المصدر السابق ج 2 ص 275. (4) مقامات السيوطي: المقامة الطاعونية ص 70. (5) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 339. (6) المصدر السابق: ج 2 ص 340، 341. (7) المقامة الطاعونية.

التصوف والمجتمع:

من الأمراض التي ليس لها دافع من الأدوية، وقد أنشد السيوطي لذلك في مقامته منكرا على المتداوين: لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة والطاعون والهرما «1» وإكمالا للحديث عن الحياة في المدن بصفة عامة وفي القاهرة بصفة خاصة يقتضي تناول بعض الظواهر الاجتماعية التي تميزت بها القاهرة في ذلك الوقت منها طرائق الاحتفال بالأعياد المختلفة ووصف مواكب السلاطين كذلك الحديث عن الألقاب والخلع والملابس التي تميز بها ذلك العصر ثم تناول الأمراض الاجتماعية التي مني بها المجتمع وأهمها الرشوة والزنا والخمر وبعض المعتقدات الفاسدة، ثم تناول روح المرح ووسائل التسلية، وتجنبا للاطالة في هذه الموضوعات رأيت أن أشير إليها بالحديث أثناء تناول حياة السيوطي وآثاره ذلك أنه قد عالج في كثير من رسائله جوانب تهم المجتمع في عصره وتعبر عن روحه وطابعه. على أن دارس الحياة الاجتماعية لا يستطيع بحال أن يغفل ظاهرة هامة تعدّ من أهم الظواهر الاجتماعية السائدة في مصر في تلك الفترة وهي ظاهرة التصوف، فقد اتخذ التصوف آنذاك طابعا اجتماعيا، ووجه حياة المجتمع وأثر فيها تأثيرا بالغا، لذلك فإننا نرى أن نتناول هذه الظاهرة ونحن نختتم الحديث عن الحياة الاجتماعية. التصوف والمجتمع: عرفت البيئة المصرية التصوف منذ عصر مبكر في الاسلام، فقد ظهر بها كثير من المتصوفة منهم ذو النون المصري، وقد عرفت هذه البيئة منذ ذلك الحين دراسة النفس الانسانية في صورة إشراقية تصلها بالملإ الأعلى عن طريق المقامات «2». على أن قوة تيار التصوف وأثره في الجانبين الديني والاجتماعي وفعله القوي

_ (1) المقامة الطاعونية ص 70. (2) د. سيد خليل: الليث بن سعد ص 32، انظر حسن المحاضرة ج 1 ص 292.

في الحياة لم يأخذ صورة واضحة إلا في عصر المماليك. وقد ساعدت عوامل كثيرة على ازدهار التصوف بالبيئة المصرية وتغلغله إلى أعماقها، فهناك عامل البيئة وحب الشعب المصري وميله الطبيعي إلى التدين بما يحتويه من تصوف فضلا عن الميراث الحضاري والثقافي لهذه البيئة، يضاف إلى ذلك ما اختصت به هذه الفترة من ظروف، منها تعرض المسلمين في هذا العصر للغزوات المستمرة من التتار المشركين من جهة الشرق، ومن الصليبيين من جهة الغرب، بالاضافة إلى الأحوال الاجتماعية القاسية التي عاشها الناس والتي سبق أن أشرنا إليها، كذلك الأوبئة والأزمات المستمرة، كل أولئك وجه أنظار كثير من الناس إلى التصوف والانقطاع للعبادة التماسا للعدالة والنعيم فيما وراء الدنيا حيث افتقدوهما في حياتهم الأولى. وقد وفد على مصر في عصر المماليك كثير من مشايخ الصوفية المغاربة والأندلسيين كالسيد أحمد البدوي وأبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي، وقد لقيت مسالكهم قبولا لدى المصريين، كما ظهر بمصر كثير من المتصوفين كابن الفارض «1»، وساعد على انتشار التصوف كثرة البيوت الخاصة بالصوفية والتي أقيمت لهم وهي ما عرفت بالخوانق والربط والزوايا. وقد انقسم الصوفية إلى طرق عديدة لكل منها شيخها وشعارها، فالأحمدية- مثلا- نسبة إلى السيد أحمد البدوي وشعارها اللون الأحمر. على أن كلمات «الخوانق والربط والزوايا» تحمل دلالات مختلفة ومتقاربة لا حاجة بنا إلى تقصيها «2»، فهي جميعا تدل على بيوت أنشئت لتقيم بها جماعات من الصوفية الذين انقطعوا للعبادة بشروط معينة. وقد شهد عصر السيوطي بالقاهرة عديدا من الخوانق وتحدث عنها في كتابه حسن المحاضرة خلال حديثه العام عن هذه المنشآت، فتحدث عن خانقاه سعيد السعداء التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي ووقف عليها أوقافا واستمرت

_ (1) حسن المحاضرة، ج 1 ص 292 وما بعدها. (2) عبد الوهاب حمود: صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي ص 20، 21.

عامرة إلى عهد السيوطي «1»، ومن بعده «2»، كما تحدث عن الخانقاه البيبرسية التي اعتبرت أعظم خانقاه بالقاهرة «3»، كما ذكر خانقاه شيخو «4»، ورباط الآثار «5»، ولم يفرد حديثا لخانقاه سرياقوس إلا ضمن حديثه عن الخانقاه الأولى. وقد جرت العادة بأن يعين لكل خانقاه شيخ أو أكثر وعدد من الصوفية، كما كانت هذه المنشآت معاهد ثقافية تدرس فيها العلوم الشائعة ووقتذاك، فالشيخونية كان بها أربعة دروس للمذاهب الأربعة ودرس للحديث ودرس للقراءات، ومشيخة لسماع الصحيحين وقد تولى السيوطي تدريس الحديث بهذه الخانقاه منذ وقت مبكر في حياته (شعبان سنة 877 هـ) «6»، كما تولى مشيخة البيبرسية فيما بعد. وقد كان لكل خانقاه أوقاف سخية تفي بأجور القائمين بالتدريس فيها، كما ينفق منها على الصوفية، وقد حرصت الحجج المعاصرة الخاصة بأوقاف هذه المنشآت على وضع الشروط التي تكفل انقطاع الصوفية للعبادة وعدم تغيبهم عن الخانقاه. وقد كان للصوفية آداب وتقاليد مرعية، وكثيرا ما اجتمع الناس لمشاهدة صوفية خانقاه سعيد السعداء عند ذهابهم إلى صلاة الجمعة في خشوع ونظام تبركا بهم، وقد كان الصوفية بصفة عامة موضع إجلال الناس وتقديرهم في ذلك العصر، وكان الأمراء يتنافسون في بناء الزوايا لهم. غير أن الحال لم يبق على ذلك إذ تغير في أواخر ذلك العصر من الصلاح إلى الفساد، وتخلوا عن كثير من النظم والآداب التي عرفوا بها بين الناس كما أنشأ

_ (1) حسن المحاضرة ج 2 ص 187. (2) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى، ترجمة الشيخ زكريا الأنصاري ورقة 23 وما بعدها. (3) حسن المحاضرة ج 1 ص 190. (4) المصدر السابق ج 2 ص 191. (5) نفس المصدر ج 2 ص 195. (6) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 142.

شيوخهم يمدون الأسمطة الحافلة وينفقون أموال الأوقاف في غير وجوهها. ويبدو أن انتشار الفقر وسوء الأحوال الاجتماعية الذي سبق الاشارة إليه قد حدا بكثير من الناس إلى أن ينتظموا في سلك الصوفية عن غير استعداد حقيقي الأمر الذي جعل هذه المنشآت الصوفية تضم كثيرا من الدخلاء والأدعياء «1». ولما رأى السيوطي حين توليه مشيخة البيبرسية ما آل إليه أمر هؤلاء قطع اعطاء بعضهم ورأى أنه لا حق لهم فيه وهم لا يتخلقون بأخلاق الأولياء و «من يأكل المعلوم بغير تخلق بأخلاقهم حرام» «2»، فثار ثائرهم عليه وكادوا يقتلونه ثم حملوه بأثوابه ورموه في الفسقية وشكوه إلى الأمير طومان باي الذي كان مبغضا له «3». وقد كان لكبار المتصوفة في هذه الفترة مكانة كبيرة في المجتمع، ولم تحجب الظلال المنفرة التي خلقها وجود الأدعياء في صفوفهم من أن يبقى للصوفية مكانة مرموقة مبجلة في المجتمع، وهناك عديد من الأمثلة التي تدل على تلك المكانة التي تبوأها الصوفية منها أن السلطان قايتباي قبّل قدمي رجل اعتقد أنه الشيخ عبد القادر الدشطوطي وشكا إليه ما بينه وبين ابن عثمان سلطان العثمانيين «4»، وقد ذكر الشعراني عن الشيخ أبي السعود الجارحي المتوفي سنة نيف وثلاثين وتسعمائة أنه كان له «القبول التام عند الخاص والعام والملوك والوزراء وكانوا يحضرون بين يديه خاضعين وعملوا بأيديهم في عمارة زاويته في حمل الطوب والطين» «5»، وذكر عن غيره أنه كان «كثير الشفاعات عند السلطان والأمراء» «6». وقد بلغ من نفوذ أبي السعود الجارحي بالبلاد أنه بعد موت الغوري اختار الأمراء طومان باي ليلي السلطنة فامتنع بسبب قلة الأموال ولا

_ (1) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 174، 175. (2) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21. (3) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 339، شعبان سنة 903 هـ. (4) المصدر السابق، ج 2 ص 256. (5) الشعراني: لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ج 2 ص 104. (6) المصدر السابق ترجمة الشيخ تاج الدين الذاكر المتوفي سنة نيف وعشرين وتسعمائة ج 2 ص 103.

ينتظر أن يمتثل الأمراء لرأيه دون أن ينفق عليهم الأموال، فذهب الأمراء إلى الشيخ أبي السعود فأحضر مصحفا وطلب من الأمراء أن يقسموا عليه بطاعة طومان باي، وألا يخونوه ففعلوا فاستقر بالسلطنة «1». وفي هذا دلالته على أنه كان آثر عند الحكام والشعب من كبار الفقهاء والعلماء المعاصرين. وقد حظى هؤلاء الصوفية لدى العامة بنفوذ أكبر وكان اعتقادهم فيهم أعظم، وإذا تعرض لهم أحد بما يمسهم قام العامة عليه وأرادوا قتله «2». وهكذا يتضح لنا كيف تمتع الصوفية في هذا العصر بنفوذ كبير بين جميع فئات المجتمع بما فيهم العلماء والفقهاء الذين نصبوا أقلامهم وألسنتهم في كثير من الأحيان للدفاع عن التصوف ورجاله، وقد كان السيوطي أحد هؤلاء العلماء الذين مالوا إلى التصوف وانتظموا في سلكه ونافحوا بأقلامهم عن أعتابه.

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 3 ص 69. (2) المصدر السابق ج 2 ص 121 الحديث عن ابن الفارض بين المدافعين عنه والمهاجمين له وقد كان البقاعي الفقيه من بين المهاجمين ويقول ابن إياس: «وأما البقاعي فكادت العوام أن تقتله وحصل له من الأمراء ما لا خير فيه، فهرب واختفى حتى توجه إلى مكة».

الفصل الثاني

الفصل الثاني الحياة الثقافية أشرنا من قبل إلى المكانة التي احتلتها مصر بين دول العالم الاسلامي، وإلى المنزلة التي تبوأتها القاهرة بعد سقوط بغداد. والنشاط العقلي غالبا ما يرتبط بألوان النشاط الأخرى في بيئة ما، فيزدهر بازدهارها ويخمل بخمولها، إذ إن عناصر الحياة والنماء في سائر الأنشطة متصلة الأسباب مختلطة الأمشاج. وقد شهدت مصر قبيل سقوط بغداد حركة علمية نشطة في العصر الأيوبي، وقد شجع ملوك بني أيوب هذه الحركة وبعثوا فيها الحياة والنشاط وكان هدفهم من ذلك بعث المذهب السني في البلاد وإحيائه والقضاء على ما خلف الفاطميون من آثار التشيع. وقد عرف كثير من ملوك الأيوبيين بميلهم إلى العلم ومشاركتهم فيه، وإغداقهم على العلماء وتكريمهم، فكان صلاح الدين شديد الكلف بعلوم الدين، وكان يحضر مع أبنائه دروس الحافظ السلفي بالاسكندرية، كما سمع من غيره وحضر كثيرا من مجالس العلماء المشهورين «1»، وقد سلك ملوك بني أيوب مسلك صلاح الدّين في تشجيع العلم وتقريب العلماء، وقد أنشأ صلاح الدين عديدا من المدارس لنشر المذهب السني ولم يكن بالبلاد مدارس قبل ذلك، فابتنى مدرسة بالقرافة الصغرى بجوار الامام الشافعي، وأنشأ أخرى بجوار المشهد الحسيني، وأقام ثالثة وخصصها للحنفية وقد عرفت هذه في عهد السيوطي بالسيوفية، كما خصص للشافعية مدرسة عرفت بزين التجار وكانت

_ (1) د. عبد اللطيف حمزة: الحركة الفكرية في مصر ص 149.

على عهد السيوطي تعرف بالشريفية، وبنى مدرسة للمالكية عرفت على عهد السيوطي بالقمحية، كما أنشأ خانقاه سعيد السعداء حيث أقام بها الصوفية وكان بها دروس علمية «1». وكان لكل مدرسة مدرسون ومعيدون وطلبة تجرى عليهم الأرزاق من الأوقاف التي وقفها السلطان لذلك، وقد اتبع كثير من ملوك بني أيوب هذه السنة في إنشاء المدارس والخوانق والمساجد. وحين خلف المماليك بني أيوب في حكم مصر فانهم لم يكونوا أقل تحمسا للعلم وأهله وللمذهب السني من أسلافهم، لذلك دأب ملوكهم على إنشاء المساجد والمدارس والخوانق ووقفوا عليها الأوقاف السخية التي تمدها بما تحتاج إليه من الأموال، هذا فضلا عن أن مصر قد غدت في أيامهم محور النشاط العلمي والديني في العالم الاسلامي بعد سقوط بغداد في أيدي التتار وأصبحت القاهرة قبلة علماء المسلمين ومحط رحالهم ومركز علمهم، وغدت تموج بألوان النشاط العقلي المتنوعة. ولقد حرص كثير من سلاطين المماليك على تشجيع الحركة العلمية بالبلاد والمشاركة في العلوم في بعض الأحيان وإن تكن مشاركتهم لا تقاس إلى مشاركة أسلافهم الأيوبيين. وكان للغوري- وهو آخر من عاصرهم السيوطي- مجالس علمية تعقد مرتين أو أكثر في كل أسبوع «2». وهكذا شهد العصر المملوكي نشاطا ثقافيا واسعا كما شهد كثيرا من المنشآت العلمية التي تمثلت في المدارس والخوانق والأربطة والزوايا والمساجد، وجميع هذه المنشآت- غير المدارس- كانت أماكن للدرس فضلا عن وظائفها الأساسية، أما المدارس فلقد كان غرضها الأساس أن تكون أماكن لالقاء الدروس وإقامة الطلاب، وقد ذكر ابن بطوطة أن مدارس مصر في القرن الثامن- وهو القرن السابق للقرن الذي عاش فيه السيوطي- «لا يحيط أحد بحصرها لكثرتها» «3».

_ (1) السيوطي: حسن المحاصرة ج 2 ص 185. (2) عبد الوهاب عزام: مجالس السلطان الغوري. (3) رحلة ابن بطوطة ج 1 ص 20.

وكان إلى جانب هذه المدارس مكاتب صغيرة ملحقة بها تعنى بتعليم الصبية مبادئ القراءة والكتابة وطرفا من العلوم الأولية وتحفيظ القرآن، وكانت هذه المكاتب تمهد للالتحاق بالمدارس الكبيرة. وكانت هذه المدارس بمثابة جامعات علمية عظيمة الشأن من حيث طريقة التدريس ومستوى الدراسة ونظم التلقي والإقامة، وكان لها نظم وقواعد محكمة ومرعية في مختلف مناحيها، بل إنها تمتاز عن الجامعات الحديثة بأن طلابها كانوا لا يجدون من العقبات والعوائق ما يحول بينهم وبين تحصيل العلوم فضلا عما كانوا ينالونه من ضروب التيسير والمساعدة. وقد روعي في تصميم المدارس الأغراض التعليمية وعدد المذاهب ومساكن الطلبة والمعيدين فضلا عن خزائن الكتب والمصاحف، ولم يكن بناء المدرسة مستقلا في كثير من الأحيان، بل كان بناء ملحقا بالقبة التي بناها السلطان أو الأمير منشئ المدرسة ليدفن فيها بعد وفاته، ومبعث اختيارهم أن يدفنوا إلى جوار المدارس هو طلب الرحمة باعتبار المدارس أماكن تدرس فيها العلوم الدينية «1»، وكان بالمدرسة مسجد وله عدد من المؤذنين وكان يؤم المصلين بها أحد القائمين بالتدريس أو المعيدين «2». وجرت العادة عند الفراغ من بناء مدرسة للسلطان أن يحتفل بافتتاحها في حفل كبير يحضره الأمراء والفقهاء والقضاة والأعيان ويأكلون من سماط يزخر بألوان الأطعمة، ثم يخلع السلطان على كل من أسهم في بناء المدرسة «3»، ويعيرى لها موظفيها من المدرسين والمعيدين والمؤذنين والقراء وغيرهم. أما العلوم الأساسية التي كانت تدرس في هذه المدارس فقد ارتبطت بأصول الدين كالفقه والحديث والتفسير أو العلوم اللغوية وما يتصل بها كالنحو والصرف والبيان، فضلا عن الدراسات العقلية كالفلسفة والمنطق أو العلوم العملية كالفلك والكيمياء والطب.

_ (1) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 149. (2) راجع: ابن دقماق: الانتصار: الكلام عن المدرسة الطيبرسية ج 4 ص 96. (3) راجع على سبيل المثال افتتاح مدرسة السلطان حسن: بدائع الزهور ج 1 ص 204.

وبطبيعة الحال فلقد تفاوتت هذه المدارس بحسب ما رصد لكل منها من أوقاف وما كان لكلّ من الشهرة بحسب شهرة العلماء القائمين بالتدريس فيها، ولذلك فكثيرا ما نرى من علماء العصر من قام بالتدريس بإحدى المدارس الصغيرة ثم تركها وانتقل إلى مدرسة أخرى أكثر شهرة وأوسع أوقافا. أما فيما يخص الطلبة فقد كان الواحد منهم يحضر دروس أحد المدرسين حتى يأخذ منه كفايته ثم ينتقل إلى الآخر حتى يصل من يأخذ العلم عنهم بضع مئات في بعض الأحيان، ونلاحظ ذلك من مطالعة تراجم كثيرين من علماء ذلك العصر، وكثيرا ما تطلبت هذه الطريقة من طالب العلم أن يرحل إلى مختلف المدن فإذا أتم الطالب دراسته وتأهل للفتيا والتدريس أجاز له شيخه ذلك وكتب له إجازة يذكر فيها اسم الطالب وشيخه ومذهبه وتاريخ الاجازة «1»، ولا شك أن لهذه الطريقة مزايا متعددة تتمثل في حرص الطالب على حضور دروس أكبر عدد من الشيوخ والسماع منهم، كذلك الحرص على حضور دروس كبار الأساتذة والعناية بها للحصول على إجازات منهم، وقد كان الحصول على الاجازات يستلزم من الطالب إتقان ما درسه على الشيخ واستيعابه وتفهمه وحفظه في بعض الأحيان فإذا ما أتم ذلك استوجب أن يمنح إجازة بتدريس كتاب ما أو الافتاء في مذهب من المذاهب الفقهية، وقد ظل هذا التقليد ذائعا ومرعيا طيلة هذه الفترة. وعرف في هذه المدارس نظام المحاضرات التي عرفت بالمجالس إذ كان بعض المدرسين يملي مجالسه على طلبته، وقد ذكر السيوطي عن الحافظ العراقي أن الله تعالى أحيا به سنة الاملاء فأملى أكثر من أربعمائة مجلس «2»، كما ذكر أن ابن حجر أملى أكثر من ألف مجلس وأن الله قد أحيا به وبشيخه العراقي سنة الاملاء «3».

_ (1) عبد الوهاب حمودة: صفحات من تاريخ مصر ص 44. (2) حسن المحاضرة ج 1 ص 204. (3) حسن المحاضرة ج 1 ص 206، نظم العقيان في أعيان الأعيان: ترجمة ابن حجر ص 45.

دور العلم:

وكانت وظيفة التدريس بالمشهور من هذه المدارس جليلة القدر يخلع السلطان على صاحبها في كثير من الأحيان، أي أن تعيين المدرس لا يتم إلا بموافقة السلطان نفسه وعلمه. ولم تكن في دور التعليم نظم محددة ومناهج موضوعة يلتزم بها القائمون بالتدريس أو الطلبة، بل ثمة كتب في الفقه أو الحديث أو النحو أو اللغة أو غير ذلك يدرسها الشيوخ حسب اختياراتهم ويسمعها من الشيخ من شاء من الطلاب وغيرهم، ولم تكن المساجد أو غيرها من دور العلم تفترق في ذلك عن المدارس، غير أن الحصول على الاجازة هو الذي كان يستلزم مواظبة الطلاب في السماع وحضور الدروس. وكانت هناك عناية فائقة بحفظ عدد من الكتب المشهورة في كل فن من الفنون، ونرى في تراجم علماء العصر أسماء الكتب التي حفظوها، وقد كان ذلك بالطبع أثرا من آثار العناية بعلم الحديث وحفظه حيث انتقلت العناية بالحفظ من الحديث إلى غيره من العلوم. دور العلم: كانت مراكز العلم في ذلك العصر منحصرة في ثلاثة أنواع من المنشآت هي المدارس والخوانق وما يشبهها من الربط والزوايا والمساجد، وسنعرض هنا لكل منها باعتباره مركزا علميا ذاكرين بعض الأمثلة: 1 - المدارس: وقد أشرت من قبل إلى بداية إنشائها في عهد الأيوبيين، ثم كثرتها في عهد المماليك حتى أصبح من العسير إحصاؤها إذ بلغت عددا كبيرا، ووجد بالمدن المصرية غير القاهرة عديد من المدارس، ولكن القاهرة قد حظيت بالحظ الأوفر منها، وقد أشار السيوطي إلى بعض هذه المدارس منها ما كان قائما في عهده، ومنها ما انتهى أمره وبقي أثرا بعد عين، ونشير هنا إلى بعض المدارس التي كانت لا تزال قائمة إلى عهد السيوطي:

المدرسة الصلاحية:

المدرسة الصلاحية «1»: أنشئت بجوار الامام الشافعي، بناها صلاح الدين الأيوبي وجعل التدريس والنظر بها للشيخ نجم الدين الخبوشاني وحدث أن خلت من مدرس ثلاثين سنة واكتفى فيها بالمعيدين وكانوا عشرة، وممن ولى التدريس بها من شيوخ السيوطي ابن حجر العسقلاني والقاياتي شيخ والده، والشرف المناوي، وكان قائما بالتدريس بها على عهد السيوطي الشيخ زكريا الأنصاري. مدرسة السلطان حسن «2»: أنشأها السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، وهي أكبر مدارس مصر في عمارتها وحسن هندامها، وقد شرع في بنائها سنة 758 هـ، وتم بناؤها بعد ثلاث سنوات، وبها أربعة دروس للمذاهب الأربعة، وقد تعرضت للتخريب ونهب محتوياتها في فتنة أقبردي الدوادار «3»، ويفهم من ذلك أنها كانت لا تزال عامرة إلى ذلك الوقت الذي شهده السيوطي. مدرسة صرغنمش: كانت تقع خارج القاهرة بجوار جامع ابن طولون، أنشأها الأمير سيف الدين صرغنمش الناصري، وقد تمت عمارتها عام 757 هـ، وقد رتب بها درس للحنفية وآخر في الحديث «4». وقد بقيت هذه المدرسة عامرة إلى عهد السيوطي كما يفهم مما ذكره عنها ابن إياس في تاريخه «5». إلى جانب هذه المدارس كان هناك كثرة كاثرة من المدارس في عهد السيوطي تؤدي دورها في خدمة العلم وأهله منها المدرسة الأشرفية والايتمشية

_ (1) حسن المحاضرة ج 2 ص 186. (2) المصدر السابق ج 2 ص 192. (3) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 328. (4) حسن المحاضرة ج 2 ص 192. (5) بدائع الزهور ج 2 ص 158.

خزائن الكتب:

والجانبكية «1»، وغيرها من المدارس التي لا حاجة بنا إلى تقصيها في هذا المكان لضيقه عن ذلك «2». خزائن الكتب: وكان بكثير من هذه المدارس خزائن كتب حفلت بالكتب الثمينة في شتى العلوم والفنون وكانت على درجة كبيرة من الاعداد والتنظيم، «3» فكان بالمدرسة الظاهرية القديمة خزانة كتب جليلة، وكان للمدرسة المحمودية خزانة كتب ضخمة وقد أفاد منها السيوطي، وكذلك المدرسة الجمالية وعديد من المدارس غير ما ذكرنا، كما ألحقت خزائن كتب ببعض الخوانق والمساجد. وقد عنى المماليك أنفسهم بالكتب عناية فائقة دل عليها احتفاظهم في قلعة الجبل بمكتبة ضخمة بها أكبر عدد من الكتب «4». 2 - الخوانق والربط والزوايا: رأينا من قبل في حديثنا عن التصوف والمجتمع كيف انتشر التصوف في البلاد المصرية، وقد استتبع ذلك وساعد عليه في نفس الوقت كثرة البيوت التي أنشئت للصوفية وعرف بعضها بالخوانق وبعضها الآخر بالربط كما عرف قسم ثالث بالزوايا. وتكاد تنعدم التفرقة بين مسميات هذه الأسماء حتى وقع خلط فيها لدى المؤرخين فذكر ابن بطوطة أن الخانقاه هي الزاوية وأن المصريين يطلقون على زواياهم اسم خانقاوات أو خوانق «5».

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 158. الحديث عن الشيخ أمين الدين الأقصرائي. (2) حسن المحاضرة ج 2 ص 184 - 194، محمود رزق سليم: عصر سلاطين المماليك، المجلد الثالث ص 37 - 57. (3) د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 333، عبد الوهاب حمودة: صفحات من تاريخ مصر ص 102، 103. (4) العصر المماليكي ص 333. (5) رحلة ابن بطوطة ج 1 ص 20.

خانقاه سعيد السعداء:

والذي يهمنا الآن هو أن نذكر أن هذه المنشآت التي أنشئت لإقامة الصوفية لم تخل من الجوانب العلمية، بل إنها جعلت- على مر الأيام- تحل محل المدرسة تدريجيا، وسنرى الآن أن بعض هذه الخوانق فضلا عن قيامها بوظيفتها الأولى وهي إيواء الصوفية وإقامة شعائرهم قد أصبحت دورا للعلم تضارع أعظم المدارس في عصرها، ووجد بها تدريس كثير من المواد الدراسية المعروفة، ولعل هذا الاتجاه العلمي للخوانق هو الذي جعل بعض المؤرخين يطلق على بعضها اسم المدرسة مرادفا للخانقاه «1»، وهو كذلك ما حدا بالسيوطي إلى أن يذكر الخوانق المصرية أثناء حديثه عن المدارس في الفصل الذي عقده عن المدارس والخوانق حيث لم يفصل المدارس عن الخوانق «2»، مما يدل على كونها من الناحية العلمية كالمدارس سواء بسواء، وسنشير هنا إلى بعض هذه الخوانق التي تولى السيوطي مشيخة اثنتين منها. خانقاه سعيد السعداء «3»: كانت دارا لرجل اسمه قنبر أو عنبر ولقبه سعيد السعداء، وهو أحد الأساتذة الذين خدموا في قصور الفاطميين وكان له شأن في دولتهم، فلما آلت سلطنة مصر إلى صلاح الدين الأيوبي وقفها على الصوفية في سنة تسع وتسعين وخمسمائة وكان شيخها يلقب بشيخ الشيوخ، وظل ينعت بهذا اللقب حتى بنى محمد بن قلاوون خانقاه سرياقوس فدعي شيخها بشيخ الشيوخ، إلى أن كانت الحوادث عام 806 هـ وتلاشت الرتب أو فقدت شيئا من مدلولاتها فتلقب شيخ كل خانقاه بشيخ الشيوخ. وكان سكانها من الصوفية يعرفون بالعلم والصلاح وترجى بركتهم. وممن ولي مشيختها قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز والقاضي بدر الدين بن جماعة والقاياتي والقلقشندي.

_ (1) راجع ابن إياس في حديثه عن خانقاه شيخو أو المدرسة الشيخونية، بدائع الزهور ج 3 ص 222. (2) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 184. (3) المصدر السابق ج 2 ص 187، 188، بدائع الزهور ج 1 ص 72.

خانقاه شيخو:

وانتهى السيوطي في ذكر شيوخها إلى الكوراني الذي يذكر ابن اياس وفاته في رجب عام 894 هـ فهو من معاصري السيوطي ثم جاء بعده السنتاوي وليس الفتاوي كما هو محرف في كتاب ابن اياس، وهو الشيخ زين الدين عبد الرحمن السنتاوي الذي تولى مشيختها في شعبان من نفس العام «1»، وهو آخر من أوردهم السيوطي من شيوخ هذه الخانقاه. وقد ذكر ابن إياس بعد ذلك تولي عبد القادر بن النقيب مشيختها في عام 903 هـ «2». وفيما أوردنا دلالة على أن هذه الخانقاه ظلت منذ زمن إنشائها وطيلة عهد السيوطي قائمة تؤدي دورها الذي أنشئت من أجله. ويتضح من أسماء الذين تولوا مشيختها أنهم كانوا من فضلاء أهل العلم والفقه في ذلك الحين ولا ريب في أن ذلك قد جعل من هذه الخانقاه مركزا من مراكز العلم فضلا عن إيواء الصوفية وإقامة شعائرهم، نستطيع أن نذهب إلى ذلك بالرغم من عدم وجود نصوص لدينا تدل على وجود دروس علمية منظمة بها. خانقاه شيخو «3»: أنشأها الأمير سيف الدين شيخو العمري في حي الصليبة تجاه جامعه في عام 756 هـ ورتب بها دروسا عديدة، منها أربعة دروس في الفقه على المذاهب الأربعة، ودرس في الحديث ودرس في القراءات، ومشيخة لاسماع الصحيحين والشفاء. وقد اشترط في شيخها الأكبر حضور التصوف وتدريس الحنفية وأن يكون عارفا بالتفسير والأصول وألا يكون قاضيا. وأول من تولى مشيختها الكبرى الشيخ أكمل الدين البابرتي، وهكذا يلاحظ

_ (1) بدائع الزهور ج 2 ص 260. (2) المصدر السابق ج 2 ص 332. (3) المقريزي: الخطط ج 4 ص 283، السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 191، 192.

أن مدرس الحنفية هو الذي كان يتولى مشيختها في الغالب وفقا لشروط الواقف، وقد أورد السيوطي أسماء جميع من تولى مشيختها الكبرى حتى انتهى إلى الشيخ باكير «1»، ولم يرد بكتاب السيوطي الذي بين أيدينا بعد الشيخ باكير أحد، بالرغم من أن الذين ولوا مشيختها بعد ذلك كانوا معاصرين للسيوطي وكان بعضهم من شيوخه، فمنهم الشيخ محيي الدين الكافيجي المتوفي عام 879 هـ «2»، ثم وليها الشيخ سيف الدين الحنفي المتوفي عام 881 هـ «3»، وبعد ذلك وليها الشيخ محب الدين بن الشحنة «4»، وقد نص السيوطي في أماكن أخرى على تولي هؤلاء مشيخة الشيخونية «5». ويبدو أن كتاب حسن المحاضرة الذي بين أيدينا لم يسلم من نقص تعرض له كما لم يسلم من زيادات دخلت فيه، وما قدمنا دليل على ما نقول، فلعل السيوطي كان حريصا كل الحرص على ذكر أسماء شيوخه ومعاصريه الذين تولوا مشيخة الشيخونية، يدل على ذلك ذكره لهم في أماكن أخر وسنشير إلى هذه النقطة مرة أخرى في مناسبتها. وجدير بالذكر هنا أن السيوطي قد تولى منذ وقت مبكر تدريس الحديث بهذه الخانقاه وذلك في شعبان عام 877 هـ «6»، بعد وفاة فخر الدين المقسمي. وهكذا يتضح لنا أن خانقاه شيخو كانت تعد مدرسة كبيرة لها وزنها في المجتمع آنذاك فضلا عما كانت تؤديه من إيواء الطلبة والصوفية، وقد كان لها أوقاف سخية ينفق منها على شيوخها وطلبتها وسائر مرافقها وقد عظم قدرها وتخرج فيها كثير من أهل العلم، وسنشير إلى هذه الخانقاه عند الحديث عن حياة السيوطي لأن والده كان من صوفيتها وقد تولى تدريس الفقه الشافعي بالجامع الشيخوني المقابل للخانقاه كما أن السيوطي قد تولى أول وظائفه العلمية بها.

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 317. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 152. (3) المصدر السابق ج 2 ص 168، 169. (4) نفس المصدر ج 2 ص 175. (5) السيوطي: نظم العقيان في أعيان الأعيان ترجمة ابن الشحنة ص 171. (6) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 142.

الخانقاه البيبرسية:

الخانقاه البيبرسية «1»: بناها الأمير بيبرس الجاشنكير في عام 707 هـ وأغلقها الناصر بن قلاوون مدة ثم أمر بفتحها، وقد ذكر المقريزي أنها أجل خانقاه بالقاهرة بنيانا وأوسعها مقدارا وأتقنها صنعة والشباك الكبير الذي بها هو الشباك الذي كان بدار الخلافة ببغداد وكانت الخلفاء تجلس فيه، ويبدو من وصف المقريزي أنها ضمت من الصوفية عددا بلغ أربعمائة يجري عليهم من أوقافها ما يكفيهم في معيشتهم، ومما يذكر أنه كان بها درس للحديث وكان بها مجموعة من القراء وكان لها أوقاف عديدة بدمشق وحماة وبمواضع متفرقة في مصر. ويبدو أن أوقافها الواسعة ومبانيها الضخمة فضلا عن كثرة صوفيتها ومدرسيها قد أضفى عليها مسحة من الجلال والعظمة بين سائر المدارس والخوانق المعاصرة لها وجعل مشيختها منصبا يطمح إليه شيوخ المدارس الأخرى. والجدير بالذكر أن السيوطي قد تولى مشيختها بعد وفاة الجلال البكري وقد ساعده في بلوغ هذا المنصب الخليفة عبد العزيز «2»، وكان ذلك في ربيع الآخر عام 891 هـ. وأقام السيوطي في وظيفته بهذه الخانقاه حتى كانت سلطنة طومان باي وكان بينه وبين السيوطي عداوة فاختفى في رجب عام 906 هـ وعزل من وظيفته وقرر فيها الشيخ يس البلبيسي، وسنشير إلى ذلك عند حديثنا من حياة السيوطي، وهذه الخانقاه هي المعروفة الآن بجامع بيبرس بشارع الجمالية بالقاهرة «3». وهناك عدد من الخوانق شهدها عصر السيوطي غير ما قدمنا منها خانقاه سرياقوس التي أشار إليها السيوطي عرضا ولم يفرد لها ذكرا مع نصه على أن

_ (1) المقريزي: الخطط ج 4 ص 276، السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 276. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 236. (3) عبد الوهاب حمودة. صفحات من تاريخ مصر ص 73.

3 - الجوامع:

شيخها كان يلقب بشيخ الشيوخ «1»، وقد جدّد الناصر محمد بن قلاوون عمارتها في عام 723 هـ «2»، وكانت عامرة تؤدي دورها في حياة السيوطي. 3 - الجوامع: استقر العرف اللغوي على إطلاق «الجامع» على المسجد الذي تقام فيه الجمعة، و «الجامع» في الأصل وصف للمسجد كان يلفظ به مقترنا بموصوفه فيقال المسجد الجامع أو مسجد الجامع، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فاستعملت الكلمة وحدها لكل مسجد تقام به الجمعة. ولم يقتصر الغرض في إنشاء المساجد عند المسلمين منذ أوائل عهودهم على إقامة الصلوات فحسب وإنما امتد إلى الأغراض العلمية والسياسية. وقد عرفت مصر في عصر المماليك عددا ضخما من المساجد قدّرت بالقاهرة على عهد المقريزي بمائة وثلاثين مسجدا تقام بها الجمعة «3»، على حين قدرها غيره بأكثر من ألف مسجد «4». وقد شهد كثير من هذه المساجد ألوانا متنوعة من النشاط العلمي، وقام بالتدريس فيها كبار علماء العصر، وكثيرا ما نرى في تراجمهم أسماء المساجد التي كانوا يترددون عليها. فالكمال السيوطي كان يدرس الفقه بالجامع الشيخوني المقابل للخانقاه، وابنه الجلال السيوطي قام بالتدريس في نفس المسجد مكان أبيه «5»، كذلك تردد السيوطي على جامع ابن طولون يملي الحديث «6». وكان لكل مسجد أوقاف سخية تقوم بسداد احتياجات المسجد والإنفاق على مرافقه والعاملين به كما تكفل أموال القائمين بالتدريس فيه في بعض الأحيان.

_ (1) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 187. (2) المقريزي: الخطط ج 4 ص 284، بدائع الزهور ج 1 ص 163. (3) المقريزي: الخطط ج 4 ص 2. (4) خليل بن شاهين الظاهري: زبدة كشف الممالك ص 31. (5) السخاوي: الضوء اللامع ج 4 ص 66. (6) أحكام قراقوش ورقة رقم 167 وهي رسالة مخطوطة للسيوطي ضمن مجموعة رسائل.

جامع عمرو:

وقد أفرد السيوطي في كتابه «1»، فصلا للحديث عن جوامع مصر، فذكر أربعة منها هي جامع عمرو وجامع ابن طولون والجامع الأزهر وجامع الحاكم، وسنشير هنا إلى المساجد الثلاثة الأول باعتبارها دورا للعلم لم تكن تقل شأنا عن المدارس أو الخوانق، بل اننا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن بعضها قد بذّ جميع المدارس وتفوق عليها في ضروب نشاطه العلمي في بعض الأحيان. ولم تكن الدراسة بهذه المساجد مقصورة على العلوم الدينية واللغوية فحسب، بل تعدتها إلى غيرها من العلوم كالطب والفلك والحساب وغيرها، وكانت مشيخة الجامع لا سيما إذا كان كبيرا من الوظائف الهامة بالدولة وكانت تسند إلى المبرزين في العلوم الدينية. جامع عمرو «2»: أسسه عمرو بن العاص بعد فتح مصر ولا يزال قائما إلى اليوم، وقد عني بتجديده وتوسيعه كثيرون من أولي الأمر بمصر، وهو أول مسجد أسس بالديار المصرية ويسمى أيضا بالجامع العتيق. وقد أفاض السيوطي في ذكر تاريخه والمعتنين بأمره والقائمين على صيانته، وكانت تعقد به حلقات تدرس فيها شتى العلوم بلغ تعداد هذه الحلقات قبل عام 749 هـ بضعا وأربعين حلقة لا تكاد تبرح منه، وكان بالجامع زوايا يدرس فيها الفقه منها زاوية الامام الشافعي التي يقال إنها عرفت باسمه لأنه درس بها بعد مجيئه إلى مصر، ومنها الزاوية الصاحبية رتبها الصاحب تاج الدين محمد بن بهاء الدين ووقف عليها وجعل لها مدرسين أحدهما مالكي والآخر شافعي، ومن ذلك يبدو أن الحركة العملية بجامع عمرو كانت قوية نشطة، ويبدو أن النشاط العلمي ظل على حاله بالمسجد في عهد السيوطي حيث لم يذكر انقطاع هذا النشاط.

_ (1) حسن المحاضرة ج 2 ص 176. (2) المقريزي: الخطط ج 4 ص 4، حسن المحاضرة ج 2 ص 177، 178.

جامع ابن طولون:

جامع ابن طولون «1»: بناه أحمد بن طولون بالقطائع عام 263 هـ، وفرغ من بنائه في عام 266 هـ، وقد لبث هذا المسجد منارة تشع نور المعرفة والعلم في مصر زمنا طويلا، وقد اتخذ المسجد طابعه العلمي منذ أول يوم أنشئ فيه إذ خطب فيه أبو يعقوب البلخي وأملى به الحديث الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي، وقد قرر به ابن طولون جماعة من العلماء والفقهاء وأجرى عليهم الرواتب والصدقات وقد بلغ ما ينفق من الرواتب والصدقات في اليوم الواحد ألفا ومائتا دينار وكان هناك «مارستان» ملحق بالمسجد لايواء المرضى والضعفاء «2». وقد لقي المسجد عناية السلطان لاجين الذي تولى عام 696 هـ بعد أن ناله غبار الاهمال فوقف عليه السلطان أوقافا ثمينة ورتب فيه دروسا عديدة للحديث والتفسير والفقه على المذاهب الأربعة والقراءات والطب والميقات. وقد عدد السيوطي أسماء الذين تولوا نظر المسجد منذ اعتنى به السلطان لاجين فكان بعض نظاره من أمراء المماليك وبعضهم من القضاة، واستقر الأمر بأن يلي القضاة نظره وهو ما كان في عهد السيوطي إذ يذكر أن نظره عاد «إلى القضاة بعد الصفوي وهو بأيديهم إلى اليوم» «3»، وقد سبقت الاشارة إلى أن السيوطي كان يختلف إلى هذا الجامع يملي به الحديث. الجامع الأزهر: أنشأه بالقاهرة القائد جوهر الصقلي مولى المعز لدين الله الفاطمي وقد تم بناؤه في رمضان عام 361 هـ، ثم جدده الحاكم بأمر الله ووقف عليه أوقافا. وكانت الحكمة واضحة في إنشاء هذا المسجد لأن الدولة الفاطمية دولة الشيعة الامامية وقد عملت على نشر مذهبها فأقامت هذا المسجد، وقد مكث يتمتع برعاية الدولة الفاطمية طيلة عصرها مسجدا لإقامة الشعائر ومعهدا

_ (1) حسن المحاضرة ج 2 ص 180 - 183. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 1 ص 38. (3) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 183.

تدرس فيه العلوم المختلفة. ولما تولى صلاح الدين أبطل الجمعة بالجامع الأزهر وأقرها بالجامع الحاكمي غير أن صفة المسجد العلمية ظلت قائمة فكان مقصد كثير من العلماء المبرزين ومستقرهم زمن الأيوبيين وقد لبثت الجمعة مطلة بالمسجد حتى أيام الظاهر بيبرس «1»، وقد كان للجامع أهمية كبيرة في عصر المماليك كما قام بدور كبير في الحياة الثقافية في تلك الأيام بالرغم من المنافسة القوية بين المدارس والجوامع المختلفة في اجتذاب العلماء والطلبة إليها. وقد بلغ عدد الفقراء الذين أقاموا به أوائل القرن التاسع الهجري سبعمائة وخمسين رجلا من مختلف البلاد، وكان لكل طائفة رواق يعرف بهم ويشتغلون فيه بالعبادة والعلوم الدينية، كما قصده كثير من الناس بألوان البر إعانة لطلبته «2»، وقد أبدى سلاطين المماليك عناية خاصة بالجامع الأزهر فكانت الأحباس والهبات الثابتة تتوالى على الجامع وطلبته، وكان أكثرهم تحمسا السلطان قايتباي معاصر السيوطي الذي قام بتجديد المسجد وإصلاحه وأنفق عليه الأموال، وأنفق على طلبته «3». وهكذا فلقد كان القرن التاسع الهجري عصر الأزهر الذهبي حيث شهد الجامع عددا كبيرا من العلماء في كل علم وفن، وإذا كان هذا القرن يمثل نهاية ازدهار العلوم وتنوعها واتساع آفاقها وكثرة العلماء المبرزين في كل علم فلقد كان بينهم كثيرون يترددون على الجامع الأزهر لالقاء الدروس أو الخطب ويكفي أن الحافظ ابن حجر في أوج مكانته العلمية قد تولى الخطابة بالأزهر مدة طويلة «4». والمتتبع لتراجم رجال هذا القرن التي كتبها معاصروهم يرى حرصهم على ذكر وظائف التدريس التي تولوها بالجوامع والمدارس والخوانق دون تفرقة، إذ كانت كلها من الوظائف الجليلة التي يخلع السلطان على صاحبها، كما يلاحظ

_ (1) المصدر السابق ج 2 ص 183، 184. (2) المقريزي: الخطط ج 4 ص 53، 54. (3) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 169. (4) السخاوي: التبر المسبوك ص 231، عبد الوهاب حمودة: صفحات من تاريخ مصر ص 86.

كثرة هذه الدور التي كانت بمثابة معاهد علمية عالية الشأن، وثمة ملاحظة ثالثة يمكن إدراكها وهي أن شهرة العالم ومواهبه كانت تجعله أهلا لأن يجمع في يده أكثر من وظيفة واحدة فنراه يلي مشيخة مدرسة ما ويدرس إحدى مواد الدراسة بغيرها، ويختلف إلى أحد الجوامع لإلقاء بعض الدروس ونحو ذلك. كما نرى منهم من ولى التدريس بالجامع الطولوني والجامع الحاكمي ومدرسة السلطان حسن والشيخونية والجمالية والمؤيدية والأشرفية وغيرها «1»، ونرى عالما كبيرا طبقت شهرته الآفاق كابن حجر تسند إليه وظائف تدريس الحديث بالشيخونية وبجامع القلعة وبالجمالية والبيبرسية، ويسند إليه تدريس الفقه بالمؤيدية والشيخونية إلى غير ذلك من وظائف القضاء التي تولاها. وفيما أوردنا دليل على كثرة معاهد الدرس وتنوعها والعناية العظيمة التي لقيتها في هذا العهد، كما كانت وظائف التدريس بمكانتها المرموقة في المجتمع حافزا للعلماء على الإجادة والاجتهاد في علومهم فضلا عن الحوافز الدينية المخلصة التي وجدت عند كثيرين منهم والتي دفعتهم إلى الانتاج في العلوم الدينية واللغوية حسبة لله ورغبة في ثوابه فلا عجب أن تقوى الحركة العلمية في ذلك العصر وأن تبلغ أوج ازدهارها في أواخره أي في الفترة التي عاش فيها الجلال السيوطي، حيث شهدت هذه الحقبة من الزمن عددا ضخما من العلماء في كل فن. بالاضافة إلى ما سبق كانت هناك عوامل عديدة سبقت الاشارة إلى بعضها ضمنا وإلى بعضها تصريحا، ساعدت هذه العوامل على نشاط الحركة الثقافية وازدهارها أولها انتقال النشاط العلمي إلى القاهرة بعد سقوط بغداد، وقد بينا من قبل مكانة القاهرة في العالم الاسلامي بعد سقوط الخلافة في بغداد وانتقالها إلى القاهرة، وكان لما قام به التتر من تخريب بغداد وتبديد الكتب الاسلامية وإلقائها في دجلة وقتل كثير من العلماء أثره البالغ في نفوس علماء عصر المماليك بصفة عامة إذ شعر هؤلاء بأن عليهم تبعة كبيرة ورأوا أنفسهم مسئولين أمام الله

_ (1) السيوطي: نظم العقيان في أعيان الأعيان ترجمة عز الدين العسقلاني ص 31.

تعالى عن دينه وأمام التاريخ وأمام ضمائرهم عن إنهاض العلم وإقالة عثاره وجمع ما تفرق منه فدفعهم هذا الشعور إلى الجد في العمل والتحصيل، وكان لهذا الشعور نفسه أثر في ظاهرة شاعت في مؤلفات ذلك العصر وهي ظاهرة الموسوعات العلمية. وقد اجتذبت البيئة المصرية وعاصمتها القاهرة بما لها من مكانة إسلامية وحضارة مزدهرة وما بها من تشجيع للعلم وأهله كثيرا من العلماء والطلاب الذين هوت أفئدتهم إليها من مختلف بلدان العالم الاسلامي، وقد ظل وفود هؤلاء العلماء إلى مصر مستمرا طيلة عصر المماليك، ومن هؤلاء ابن مالك الأندلسي وابن أبي حجلة المغربي، وابن خلدون وكثيرون غيرهم ممن وفدوا على البلاد وازدهرت بهم الحياة العلمية بها. وقد وصف ابن خلدون نشاط الحركة العلمية بالقاهرة وعلل هذه الظاهرة تعليلا دقيقا فقال: «ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر، وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعلم العلم، وأكد ذلك وحفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا وذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء، ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته، فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط، ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركا لولدهم بنظر عليها، أو نصيب منها، مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير، والتماس الأجور في المقاصد والأفعال، فكثرت الأوقاف لذلك، وعظمت الغلات والفوائد وكثر طلب العلم ومعلمه، بكثرة جرايتهم، وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب، ونفقت بها أسواق العلوم، وزخرت بحارها، والله يخلق ما يشاء» «1». ولئن كان هذا الوصف الدقيق صادقا على القرن الثامن الهجري الذي عاش

_ (1) ابن خلدون: المقدمة ص 434، 435.

فيه ابن خلدون فلقد كان القرن التاسع الهجري الذي عاش فيه السيوطي وارثا لحضارة القرن السابق عليه مع ما فيه من زيادة عليه ما يعطي صورة للحركة الثقافية المزدهرة في تلك الأيام. ولا ننسى ما كان لتشجيع السلطان والأمراء من أثر في ازدهار الحياة العلمية فقد حرص ولاة الأمر على إظهار غيرتهم على الاسلام والمسلمين في كثير من الأحيان، كما شجع كثير منهم العلماء وأغدق عليهم وأقام لهم المدارس والخوانق والمساجد، كما وجد العلماء- كما سبق أن أشرنا في الحديث عن طبقات المجتمع- كثيرا من مظاهر التكريم والحفاوة وكان لهم كلمة مسموعة بالبلاد، وقد تولوا كثيرا من المناصب الهامة بالدولة لا سيما مناصب القضاء ودواوين الانشاء والتدريس. كما أن إنشاء دور الكتب الجديدة التي ألحقت بالمدارس والمساجد والخوانق كان له أثره في نشاط الحركة العلمية، فقلّ أن تجد دارا للعلم لا يلحق بها خزانة للكتب. وقد عني السلاطين والأمراء ومنشئو المدارس باختيار مدرسيها من بين العلماء الأفذاذ المعروفين في عصرهم، ولذلك فقد كانت وظائف التدريس في المدارس المشهورة محتفظة- في الغالب- بمكانتها العالية في المجتمع. وقد كان لتنافس العلماء في سبيل بلوغ المناصب الهامة المتاحة لهم أثره المباشر في نشاط الحركة العلمية، إذ كان على كل طامح إلى أحد المناصب أن يسعى إلى مطمحه من ناحية العلم أولا، فكان عليه أن يتتلمذ وينتقل من شيخ إلى شيخ وأن يدأب على الدرس والمطالعة والحفظ، وأن يلم بشتات من علوم عدة، ثم عليه أن يتصدى للتدريس والفتيا بعد ذلك وأن يتصدى للنفع العام بعلمه فإذا ذاع صيته وكثر ذكره دعي من قبل الملوك والأمراء إلى تولي المناصب الكبيرة، وإذا لم يدع فإن من اليسير عليه أن يسعى لديهم بواسطة أحد أولئك الأمراء أو الأعيان في سبيل بلوغ حاجته. وهكذا نشطت الحركة العلمية في العصر الذي نتحدث عنه، وكان لنشاطها

نتائج نشاط الحركة العلمية

مظاهر ثلاثة أولها: وفود الطلبة إلى دور التعليم. وثانيها: كثرة العلماء والأدباء، وثالثها نشاط الحركة التأليفية «1»، وسنشير هنا إلى كل مظهر من هذه المظاهر الثلاثة: [نتائج نشاط الحركة العلمية] 1 - وفود الطلاب إلى معاهد العلم: كان للعناية البالغة بدور التعليم أثره الكبير في اجتذاب الأعداد الكبيرة من الطلاب الذين وجدوا البيئة المهيأة للاقامة والمعينة على التفرغ لطلب العلم، ولم تقتصر المدارس كما أشرنا من قبل على الطلبة المنتظمين بها والمنقطعين للعلم مقابل ما يجدونه من أموال الأوقاف، وإنما امتدت لتشمل عددا كبيرا من طلبة العلم الذين يتفرغون من أعمالهم بين حين وآخر ويحضرون من الدروس ما يشاءون حضوره مما تتيحه لهم أوقات فراغهم وبهؤلاء وهؤلاء زخرت المدارس والمساجد والخوانق وجميع معاهد العلم، وكان لذلك أثره في نشر الثقافة والمعرفة. 2 - كثرة العلماء والأدباء: زخر العصر بعدد وافر من العلماء في شتى العلوم: في الفقه على المذاهب الأربعة، وفي علم الكلام والتصوف واللغة والنحو والأدب والطب والتنجيم والتاريخ والفلك وغير ذلك من العلوم. وقد قام كثير من هؤلاء العلماء بالفتوى والتدريس والوعظ والتأليف وشغلوا مناصب القضاء والكتابة وما إليها فنتج عن ذلك حركة فكرية نشطة سنرى شواهد عليها عند الحديث عن حياة السيوطي وما شهده عصره من منازعات فكرية ومنافسات بين العلماء. وكانت هناك مناظرات بين كثير من العلماء في شتى الموضوعات، كما كانت هناك رسائل ألفها بعضهم ردا على أقرانه. وقد شجع السلطان الغوري- وهو آخر السلاطين الذين عاصرهم

_ (1) محمود رزق سليم: عصر سلاطين المماليك ص 87 وما بعدها.

3 - نشاط الحركة التأليفية:

السيوطي- المناظرات العلمية بين العلماء في مجالسه التي تعوّد عقدها يومين كل أسبوع «1». 3 - نشاط الحركة التأليفية: وهي أهم مظاهر النشاط العلمي وأهم نتائجه كذلك وأبقاها، فلقد أنتج علماء هذه الحقبة آلافا من الكتب في مختلف ألوان المعرفة، وقد عرف عن بعضهم أنه ألف مئات من الكتب وحده كابن تيمية الذي قيل إن مؤلفاته أربت على خمسمائة، وابن حجر الذي زادت مؤلفاته على مائة وخمسين، والسيوطي الذي وصلت مؤلفاته إلى نحو ستمائة. وكانت هذه الكتب تملأ خزائن العصر، وقد ضاع عدد كبير منها بعد فتح العثمانيين لمصر وخمود الحركة العلمية بالبلاد، ونقل كثير من الكتب إلى القسطنطينية. والذي يعنينا أن هذا العصر قد شهد مجموعات من الكتب الضخمة التي وضعت به في كل ناحية من نواحي المعرفة، وكنا نود أن نشير إلى بعض هذه الكتب في شيء من الايجاز لا سيما ما تناول منها التاريخ بفروعه والحديث ومصطلحه واللغة والنحو والفقه والتصوف، ولكننا نكتفي دفعا للاطالة وتجنبا للاستطراد بأن نذكر هنا أن هذه الفروع وغيرها من فروع المعرفة قد حظيت بعدد ضخم من الكتب التي وضعت فيها وكانت بمثابة مراجع للطلاب والشيوخ، ونكتفي بالاحالة إلى ما ذكره محمود رزق سليم عن مؤلفات هذا العصر في التاريخ وما يتصل به من تراجم وسير وكتب عن المدن والأمصار والخطط «2»، وما ألف في فقه المذاهب الأربعة «3»، وما ألف في التفسير وما يتصل به «4»، وفي الحديث ومصطلحه «5»، وفي التصوف والعقائد وما ألف في القراءات

_ (1) عبد الوهاب عزام: مجالس السلطان الغوري: مقدمة الكتاب. (2) عصر سلاطين المماليك، المجلد الثالث ص 92 - 125. (3) المصدر السابق، المجلد الثالث ص 126 - 138. (4) نفس المصدر، المجلد الثالث ص 139. (5) نفس المصدر، المجلد الثالث ص 142.

منهج التاليف فى العصر

والنحو والصرف وعلوم العربية وفي العلوم الكونية، ثم ما ألف من كتب جامعة «1». ولا نرى داعيا لتكرار ما سبق إليه الباحث ونكتفي بالاحالة إليه، ويكفينا أن نخلص إلى أن العصر قد شهد حركة تأليفية وعرفت خزائن الكتب آلافا من الكتب المتنوعة في شتى فروع المعرفة لا سيما الفقه والحديث واللغة والنحو. ومما يؤسف له أن كثيرا من هذه الكتب رغم قرب عهدها منا قد ضاع واندثر ولا نجد له ذكرا في فهارس المكتبات المصرية مخطوطا أو مطبوعا، على أن كثيرا مما تبقى لا يزال إلى اليوم مخطوطا لم تمتد إليه يد النشر. ويمكننا أن نذكر عدة ملاحظات عامة على التأليف والمؤلفات في ذلك العصر نجملها في النقاط التالية: [منهج التاليف فى العصر] 1 - الاتجاه الموسوعي: اتجه المؤلفون إلى وضع موسوعات علمية تجمع أشتاتا من علوم مختلفة، ويستطرد المؤلف فيها إلى كثير من الميادين حسب المناسبات، فنرى فيها التقويم والتاريخ والأدب شعرا ونثرا إلى جانب الفكاهة أو الحديث عن الحيوان والنبات أو الحديث في الطب وما شاكل ذلك وهي في جملتها تفي بجمع المعلومات المختلفة والحقائق المتفرقة، والنصوص المتباعدة المبعثرة التي تجمعها أدنى جامعة، ويربط بينها رباط يبدو واهيا، ويظهر فيها الاستطراد والتسلسل من موضوع إلى موضوع. ويدل وضع هذه الموسوعات على سعة علم واضعيها ومقدار اطلاعهم الواسع وصبرهم على تدوين ما لديهم من العلوم وتنسيقه، وليس وضع الموسوعات عملا آليا خاليا من الجهد العقلي كما يتهم أصحابه بذلك من قبل بعض المحدثين، وإن كان يؤخذ على هذه الطريقة خلطها بين المواد العلمية المختلفة وقلة العناية بوحدة الموضوع فإننا لا نستطيع أن ننكر ما لها من فوائد في حفظ هذه العلوم والأفكار من الضياع.

_ (1) نفس المصدر، المجلد الثالث ص 146 - 172.

2 - ظاهرة التقليد:

ولعل الدافع إلى وضع هذه الموسوعات والإكثار منها هو شعور علماء العصر بمسئوليتهم تجاه المسلمين في المشرق والمغرب بعد سقوط بغداد وضياع كثير من كنوزها العلمية على أيدي التتر. على أن كثيرا من المؤلفات التي وضعت في ميدان من ميادين المعرفة لم تخل من أثر الاتجاه الموسوعي في منهج تأليفها فنجد فيها الاستطراد إلى موضوعات خارجة، والتسلسل من موضوع إلى غيره، وهناك كثير من كتب اللغة والحديث والتاريخ والنحو والأدب لم تسلم من أثر النزعة الموسوعية إن قليلا وإن كثيرا وأشهر الكتب التي يتضح فيها الاتجاه الموسوعي هي: أ- لسان العرب: وهو المعجم اللغوي المشهور الذي ألفه ابن منظور المتوفى عام 711 هـ، وفيه إلى جانب اللغة تطرق إلى كثير من مواد المعرفة. ب- إرشاد الساري إلى شرح البخاري لشهاب الدين القسطلاني المتوفى عام 923 هـ وهو من معاصري السيوطي، وفي كتابه إلى جانب شرح الحديث بحوث تاريخية وفقهية وتطرق إلى موضوعات شتى، والكتاب في عشر مجلدات. ج- فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر العسقلاني المتوفى عام 852 هـ، وهو كتاب ضخم وفي ثناياه بحوث فقهية وتاريخية. د- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء لشهاب الدين القلقشندي المتوفى عام 821 هـ، وهو في عشرين مجلدا وفيه استطرادات تاريخية وتراجم ونصوص أدبية وتطرق إلى كثير من الموضوعات المتنوعة. إلى غير ذلك من الكتب التي يضيق المقام هنا عن ذكرها وإنما مثلنا بما قدمنا منها، وسنرى عند الحديث عن مؤلفات السيوطي أثر هذه النزعة الموسوعية في مؤلفاته. 2 - ظاهرة التقليد: يبدو أن كثرة المؤلفات التي وضعت في هذه الحقبة وذيوع شهرة بعضها جعلت كثيرا من المؤلفين يتجهون إلى تقليد ما اشتهر منها لدى أشياخهم، ولهذا

3 - ظاهرة المتون والشروح:

التقليد في التأليف صور عديدة فقد نرى التقليد في تسمية الكتاب، أو في أسلوب التأليف، وقد يبدو التقليد واضحا حين يكون في الموضوع باعتماد المؤلف على كتاب أو عدد قليل من الكتب السابقة اعتمادا ظاهرا في مؤلفه الجديد دون إشارة إليها أو بإشارات قليلة بحيث يدرك الباحث مدى اعتماد المؤلف اللاحق على السابق. 3 - ظاهرة المتون والشروح: كانت هذه الظاهرة نتيجة للحركة التثقيفية النشطة بالبلاد، فقد اتجه الشيوخ تيسيرا على طلابهم إلى وضع المتون التي تجمع مسائل الموضوعات في قليل من اللفظ حتى يتسنى لطالب العلم أن يستوعبها بأيسر طريق وفي زمن قليل، وقد غلا بعضهم في الايجاز وفي ضغط العبارة في هذه المتون حتى بلغت حد الرموز فاستغلق بذلك فهمها على الطلاب واحتاجت إلى شروح، فوضعت لها كتب شارحة ثم وضعت كتب أخرى أكثر تفصيلا تشرح الكتب الشارحة، ومن ثم تعددت الشروح التي تتناول المتن الواحد ما بين شرح مطول وآخر يميل إلى الايجاز كما نظمت كثير من العلوم في منظومات تعليمية احتاجت أيضا إلى وضع الشروح لها. وقد استفرغت المتون والشروح والمنظومات التعليمية جلّ مجهود قرائح العلماء في ذلك العصر، بل أصبح وضع هذه الأنواع يبدو في كثير من الأحيان تمرينات عقلية يريد بها الشيوخ إثبات مقدرتهم على التأليف ولكي يزداد عدد ما أنتجوا من كتب. وهكذا فقد امتلأ العصر بالمتون والشروح نثرا ونظما، فللمؤلف الواحد متن وشرح وهو بدوره يتناول متون السابقين ومنظوماتهم بالشرح والبيان، ولعل أشهر المنظومات التي لقيت عناية الشارحين في ذلك العصر هي ألفية ابن مالك في النحو. ثم نرى إلى جانب ذلك الحواشي والتعليقات التي يتكفل بها كثير من العلماء على الشروح السابقة أو يضعها واضعوها الأصليون، وسنرى جميع هذه الصور

من المؤلفات في إنتاج السيوطي، على أن الاتجاه إلى الإكثار من الحواشي والتعليقات والتقريرات قد ازداد بعد ذلك العصر وكان الاتجاه السائد في مؤلفات العصر العثماني بمصر. وقد كان هذا الأسلوب الذي بيناه في مؤلفات عصر السيوطي يمثل ظاهرة واضحة وعرفا متبعا في التأليف لا يحيد عنه المؤلفون، وربما دفعهم التمسك بالشكل المنهجي إلى وضع المتون والشروح والمنظومات فيما لا تدفع إليه حاجة عملية، ولكن هكذا درجوا وعلى هذا المنهج ساروا كما هو عرف التأليف في عصرهم. وقد كان لهذا المنهج في التأليف أثره الخطير في الإنتاج العلمي لهذا العصر، فقد ضاع جهد المؤلفين واستفرغت ثمار أذهانهم في نظم المنظومات التعليمية التي احتذوا فيها حذو سابقيهم، وربما زادوا عليهم ما لم يذكروه، وربما لم يزيدوا شيئا له قيمته العلمية، كما تبددت جهودهم في الاختصار والتطويل والجمع والتنظيم والتبويب والتقسيم. ولعل طابع الزخرفة والتنسيق الذي ظهر في فنون العصر وأثر في الشعر والنثر وطبع الأدب بصنعة متكلفة ثقيلة، هذا الطابع ظهر أثره في المؤلفات العلمية وفي طريقة وضعها وتصنيفها بحيث نجد الاهتمام الأول لدى المؤلف ينصب على التنظيم والتبويب في مؤلفه، وقد يبتكر تنظيما لم يسبق إليه في علم من العلوم. على أن هذا الاهتمام بالناحية الشكلية في المؤلفات لم يقض قضاء تاما على الاهتمام بالقيمة العلمية في المؤلفات، ولم يصرف المؤلفين في بعض الأحيان عن التجديد والابتكار. والحقيقة أنه من العسير أن نجزم بطرافة بعض الأفكار وأوليتها لدى مؤلف من مؤلفي ذلك العصر، أو أن نجزم بأن صاحب المؤلّف هو أول من طرق فكرة ما أو نبه إلى حقيقة من الحقائق العلمية وسط هذا الركام الضخم من الكتب التي وجدت آنذاك، والتي وصل إلينا بعضها وكثير منها لم تنله أيدينا. غير أنه في إمكاننا أن نقرر أن عالما ما هو الذي اتضحت لديه فكرة معينة لم تتضح لدى سابقيه أو أنه هو الذي طرق بابا من الأبواب يظن أن غيره لم يعمد إلى طرقه.

ولكن هناك أمرا لا ينبغي أن نغفله وهو التجديد في التصنيف والتبويب في العلوم، فليس هذا عملا شكليا بحتا كما قد يتوهم لأول وهلة، بل إنه عمل تمليه عقلية علمية لها صفات تميزها عن غيرها، وتتجه بها وجهة فريدة في نوعها، بالاضافة إلى ما نجده لأصحاب هذه الكتب من الأفكار المبتكرة بين حين وآخر، وسنشير إلى ذلك في حديثنا عن مؤلفات السيوطي، ومهما يكن من شيء فإن هذه المؤلفات بطريقة وضعها تدل على مقدرة علمية كبيرة، وقدرة على الفهم والتحصيل عميقة، كما تدل في أحيان كثيرة على المقدرة الفائقة على تمثل أفكار السابقين واستيعابها وإخراجها في صورة جديدة. وليس من الانصاف أن نصف هذه الكتب بالتقليد والجمع دون تمحيص ونرمي أصحابها بأنهم محتطبون جماعون ليس لهم من الجهد العقلي شيء إذ تبدو كتبهم خالية من الابتكار، ذلك أن وضع هذه الكتب على محك النقد الصحيح الذي يضع في اعتباره الحقائق العلمية في المرتبة الأولى، ثم حالة العصر العقلية ومنهجه في التأليف في المرتبة الثانية، يجعلنا نعيد النظر فيما يلصق بهذه المؤلفات وأصحابها من اتهامات. لقد كان تأثر التأليف بروح الحفظ التي شاعت في العصر والتي تأثرت بحفظ الحديث، ثم تأثر المؤلفون بمنهج المحدّثين في النقل ذا أثر كبير في أن تعج المؤلفات بروايات عديدة وأسانيد تملأ أرجاءها بحيث يبدو كثير من المؤلفات مجموعات من النقول حشد كل منها إلى جوار الآخر. ولقد كان من الميسور على كثير من المؤلفين أو على بعضهم- إذا لم يقدروا الأمانة العلمية ويتبعوا المنهج العلمي الصحيح- أن يرسلوا القول فيما يؤلفون دون إشارة إلى من ينقلون عنه مع تغيير في العبارة حتى يتوهم القارئ أن هذه الأفكار لمن يقرأ لهم لا لمن ينقلون عنه ولن يتنبه لحقيقة الأمر إلا قلة من الممحصين، فلا ينبغي أن يكون الحرص على الأمانة في النقل دافعا لأن نصف هذه الكتب من قبلنا بخلوها من الابتكار، وبانصرافها إلى الجمع والترتيب دون تمحيص لما ينقلون، وإنما المنصف من القول أن نذكر ما عليه أصحابها من مقدرة علمية كبيرة على التمثل والتحصيل والتنسيق في العلوم، ثم ما لهم من فضل في حفظ كثير من الأفكار والنقول منسوبة إلى أصحابها الأوائل، ثم نتتبع بعد ذلك ما ذكروه من حقائق علمية نقلوها عن غيرهم، فما أقروهم عليه منه

4 - الاكمالات والتذييلات:

فهو يدل على عقلية فالاختيار يدل على عقل صاحبه، وما عارضوا سابقيهم فيه له نفس الدلالة، كما يمكننا أن نتتبع ما ذكروه من تعليقات على ما نقلوه من النصوص، وسنثير هذه المسألة مرة أخرى عند بحث الجانب اللغوي عند السيوطي وهو ما يهتم به البحث. ذلك أن بعض هؤلاء كانت له في بحوثه شخصية وقوة تشعرنا بعمق الفهم وكمال الادراك وحسن التوجيه والتعليل. وفي كثير من ميادين البحث: في الحديث وأصوله، وفي اللغة والنحو والفقه وأصوله وغيرها من العلوم نبغ في هذه الحقبة لا سيما في مصر رجال كانت لهم اليد الطولى في إرساء قواعد هذه العلوم واستقرارها ولم تخل بحوثهم من جدة وحسن اختيار وشخصية تظهر بوضوح خلال البحث. 4 - الاكمالات والتذييلات: قريب من المتون والشروح ما نراه من إكمالات وتذييلات، وهي ظاهرة شاعت في مؤلفات ذلك العصر لا سيما في كتب التراجم والتاريخ، وقد أفادت هذه الظاهرة العلم بأن وصلت حلقات الزمن المختلفة وحفظت لنا كثيرا مما كان مهددا بالضياع، فنرى على سبيل المثال كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان المتوفي عام 681 هـ وبه أكثر من ثمانمائة ترجمة بينها تراجم بعض أعيان القرن السابع، نرى ذلك الكتاب وقد ذيّله عالم متأخر هو ابن شاكر الكتبي المتوفى عام 764 هـ بوضعه كتاب فوات الوفيات الذي ضمنه عشرات التراجم لبعض أهل القرن الثامن. ونجد هذه الظاهرة في بعض كتب التاريخ التي أكملها بعض المتأخرين لوفاة مؤلفيها السابقين كما صنع أبو المحاسن في كتاب «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور» إذ جعل كتابه ذيلا لكتاب السلوك للمقريزي فيبدأ فيه من حيث انتهى المقريزي في سلوكه عام 856 هـ، وبه تاريخ مصر مدة اثني عشر عاما مع كثير من التراجم، وسنرى اتباع السيوطي أيضا لهذا العرف عند إكماله التفسير الذي وضعه جلال الدين المحلي فقد أكمله على نفس المنهج والتنظيم

5 - تنظيم العلوم واستقرار المصطلحات:

الذي اتبعه المفسر السابق. والمتتبع لكتب الطبقات يجدها حلقات يكمل كل منها الآخر، فهناك طبقات لمشاهير القرن السابع يضعها البرزاني المتوفى عام 739 هـ، والأدفوي المتوفى عام 748 هـ، يليها طبقات لرجال القرن الثامن يضعها ابن حجر العسقلاني (852 هـ) معتمدا على الصلاح الصفدي (764 هـ) سابقه ومضيفا إليه ما فاته. ثم هناك طبقات لرجال القرن التاسع يضعها السخاوي (902 هـ) والسيوطي كذلك، هذا على سبيل التمثيل فضلا عن عديد من كتب الطبقات التي ترجمت لرجال كل علم على حدة، أو ترجمت لرجال مصر من الأمصار، وقد أنتج السيوطي مجموعة من هذه التراجم ترجم فيها لكل طائفة في كتاب مستقل وسنشير إليها فيما بعد. وبصفة عامة فإن هذا المنهج في التأليف بما شاع فيه من ظواهر وما استقر فيه من أعراف قد خلف لنا عديدا من المختصرات والمتون والشروح والمنظومات والتذييلات والاكمالات والحواشي والتعليقات. وقد حظيت بعض المؤلفات بكثير من الشروح والتعليقات، واعتمد عليها المدرسون في دروسهم ولقيت رواجا بين الطلبة، يتضح ذلك من تتبع تراجم كثير من رجال العصر إذ يرى الناظر أن أكثر الكتب المدروسة بين الطلبة ذكرا هي الكافية لابن الحاجب في النحو وقد حظيت بشروح عديدة ومختصرات متنوعة، كذلك ألفية ابن مالك وكتاب الملحة في النحو أيضا، وفي الفقه وأصوله المنهاج الأصلي والمنهاج الفرعي وهما للنووي، ومختصر القدوري وجمع الجوامع، وفي اللغة فصيح تعلب، وفي الحديث ألفية العراقي والأربعون حديثا النووية، وصحيح البخاري وصحيح مسلم، والشاطبيتان في القراءات، والعمدة للنسفي في العقائد، وسنرى في ترجمة السيوطي حفظه لكثير من هذه الكتب في مقتبل حياته العلمية. 5 - تنظيم العلوم واستقرار المصطلحات: نلاحظ فيما أنتجه العصر من مؤلفات ظاهرة واضحة تبدو في جميع ميادين

6 - العناية بتاريخ مصر:

البحث تقريبا، فهناك أولا محاولات عديدة لتنظيم العلوم وتقسيمها والتعريف بها وبمصطلحاتها وقد ألف في ذلك مؤلفات كان هدفها- على ما يبدو- أن تتيح للمتخصصين من أبناء كل علم أن يلموا بأطراف من العلوم الأخرى وأن يعرفوا عنها ما يريدون معرفته في وقت يسير، وحين أتى السيوطي ووجد قبله مجموعة من هذه الكتب فإنه على عادته أراد أن يدلي بدلوه بين الدلاء فألف كتابه «إتمام الدراية لقراء النقاية» ويسمى أيضا «الأصول المهمة في علوم جمة» وقد عرف فيه بأربعة عشر علما ذاكرا مبادئها وأصولها الأساسية. ونلاحظ أيضا استقرار مصطلحات العلوم في ذلك العصر، ويمكن إدراك ذلك مثلا في علم النحو بمقارنة ما وضع في ذلك العصر من كتب مثل الكافية لابن الحاجب والألفية لابن مالك وشروحها العديدة لكثير من رجال العصر كابن الصائغ (777 هـ)، والبابرتي (786 هـ) وناظر الجيش (778 هـ)، وابن عقيل (769 هـ)، والسيوطي (911 هـ)، وغير ذلك من الشروح لنجد أن المصطلحات النحوية لا تتغير بين نحوي وآخر، فهي مستقرة متعارف عليها لديهم، وقد ندرك ذلك بوضوح إذا ما قارنا هذه الكتب بكتاب سيبويه وما وضع في النحو من الكتب الأولى، إذ يتضح لنا تغير اصطلاحات المتأخرين عن اصطلاحات السابقين في بعض المواضع، ذلك أن المصطلحات النحوية كانت إلى عهد سيبويه ومعاصريه من الكوفيين كالفرّاء لم يكتب لها الاستقرار والثبات، كما أن علم النحو إلى عهده كان علما غضا لم يتم نضجه بعد، أما عند هؤلاء فقد نضح واحترق، ونستطيع إدراك ذلك أيضا في كثير من العلوم الإسلامية إذ كانت في ذلك العصر في طور نضجها وكمالها. 6 - العناية بتاريخ مصر: عني مؤرخو العصر بالكتابة عن تاريخ مصر بعامة وتاريخ القاهرة بخاصة، وقد بدأت هذه العناية عند المصريين قبل عصر المماليك، وقد اتضحت هذه الظاهرة في هذا العصر فظهرت موسوعات تاريخية ضخمة لتاريخ مصر وقاهرتها وأهم هذه المؤلفات: 1 - السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي المتوفى عام 845 هـ، وهو تاريخ

مصر من عام 577 هـ- إلى عام 844 هـ مرتبا حسب السنين. 2 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لأبي المحاسن بن تغري بردي المتوفى عام 874 هـ، وهو في تاريخ مصر منذ الفتح الاسلامي حتى عام 857 هـ. 3 - حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور لأبي المحاسن وقد جعله ذيلا لكتاب السلوك للمقريزي فيبدأ به من حيث انتهى المقريزي في سلوكه عام 856 هـ كما بينا. وهنا عديد من الكتب غير ذلك، ويأتي السيوطي فيؤلف في التاريخ كتاب «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» ومن بعده يضع ابن إياس كتابه المشهور «بدائع الزهور في وقائع الدهور» ويؤرخ فيه حوادث مصر حسب ترتيب السنين، وتمتد به الحياة حتى يشهد نهاية ذلك العصر ودخول العثمانيين مصر فيؤرخ فترة من حكمهم. ويبدو أن هذه النزعة في التأريخ لمصر كانت وليدة حب المؤلفين لمصر ولكونها أصبحت في هذا العهد ممثلة للزعامة الاسلامية بعد سقوط بغداد وانتقال الخلافة إليها.

الحياة الأدبية

الحياة الأدبية لست هنا بصدد دراسة الحياة الأدبية دراسة متعمقة فذلك أمر يطول شأنه ويحتاج إلى بحث مستقل، وإنما مقصودنا أن نعرض لهذه الحياة عرضا نستجلي به صورتها العامة والشكل الذي كانت عليه في عصر السيوطي، ونتعرف على الأنواع الأدبية من الشعر والنثر في ذلك الحين، وتجنبا للاطالة فإننا نكتفي بعرض سريع نتبين فيه الملامح العامة للنشاط الأدبي. وقد حرم الشعر والشعراء في هذه الفترة الحفاوة التي وجدها أسلافهم القدماء، ذلك أن رجال الدولة وكبراءها كانوا من الأتراك الذين لا تهتز أعطافهم للأشعار العربية على الرغم من أن لغة الدولة العربية ولغة العلم هي العربية كذلك. لذلك لا نجد من الشعراء من اتصل بالدولة أو بالسلاطين، وإنما اندس هؤلاء بين الناس وتناولوا حرفهم. وقد كان شعر هذه الفترة تقليدا لا استقلال فيه في أحيان كثيرة، وكان الشعراء يتتبعون في أشعارهم آثار أسلافهم الأولين مصيبين حينا ومخطئين أحيانا. ويمكن تقسيم شعر هذه الفترة إلى قسمين أولهما: شعر المناسبات وهو ما يخاطب به الحاكم والجماعة، والآخر الشعر الذاتي وهو ما يعبر به الشاعر عن مشاعره الذاتية بغض النظر عن الجماعة «1». وفي الأول نجد العناية باللفظ ولكنها عناية متغالية تجلب على الشعر التكلف

_ (1) د. عبد اللطيف حمزة: الأدب المصري من قيام الدولة الأيوبية إلى مجيء الحملة الفرنسية ص 107.

والصنعة والتقيد بالشكل في صوره المتعددة التي حرص عليها الشعراء، وفي الثاني نجد الميل إلى البساطة والتحلل من قيود الصنعة اللفظية إلا ما كان منها بغير تكلف. وهناك مذهبان في التعبير أولهما المذهب البديعي المتأثر بمذهب الكتاب، وقد كان للقاضي الفاضل أثر في إضفاء ألوان جديدة عليه حرص عليها الشعراء والكتاب من بعده بيد أنهم أسرفوا في حرصهم على المحسنات اللفظية، ولقيت العناية اللفظية بجميع ألوانها الاهتمام الأول لديهم على حساب المعاني «1»، وكان الشعراء يعمدون إلى المذهب البديعي في شعر المناسبات أو في قصائد المديح النبوي التقليدية. أما المذهب الآخر وهو مذهب المعاني فيظهر بوضوح في الشعر الشعبي ويتمثل في احتفال بالأفكار وعناية تامة بتصوير العواطف والمشاعر التي ينفعل بها الناس انفعالا صادقا بريئا من التكلف. «2» وهناك بعض ظواهر يمكن ملاحظتها على الشعر والشعراء في ذلك العصر أولها قصائد المديح النبوي العديدة التي أنشأها شعراء العصر المملوكي معارضين بها بردة البوصيري فقل أن نجد شاعرا منهم لم يعارضها، بالاضافة إلى القصائد التي أنشئت في المديح النبوي في غير معارضة للبردة، والملاحظة الثانية هي أن كثيرا من علماء العصر وفقهائه كانوا ينظمون الشعر في أغراض كثيرة وأشهر هؤلاء ابن حجر ثم السيوطي، وثالثها شيوع الشعر التعليمي في دوائر العلماء والطلاب وسنشير إليه عند الحديث عن شعر السيوطي. وقد شهدت الفترة التي عاشها السيوطي عددا كبيرا من الشعراء وقد ذكر ابن اياس أنه كان بالقاهرة سبعة من الشعراء اجتمعوا في عصر واحد وكل منهم لقب بشهاب الدين، فكان يقال لهم السبعة الشهب وهم الشهاب ابن حجر وابن الشاب التائب، وابن أبي السعود، وابن مبارك شاه الدمشقي، وابن صالح، والشهاب

_ (1) أفاض الرافعي في دراسة الصناعات اللفظية في هذا العصر في الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب ص 370 - 466. (2) د. عبد اللطيف حمزة: الأدب المصري ص 108.

الحجازي، والشهاب المنصوري، فلما مات الستة رثاهم الشهاب المنصوري بقوله: خلت سماء المعاني من سنا الشهب ... فالآن أظلم أفق الشعر والأدب تقطب العيش وجها بعد رحلة من ... تجاذبوا بالمعاني مركز القطب «1» وأشهر هؤلاء جميعا الشهاب المنصوري الذي توفي عام 887 هـ وكان جيد الشعر. وقد أصل جورجي زيدان الحديث عن شعر هذه الفترة بقوله: «ان الشعر أصبح صناعة لفظية بعد أن كان قريحة فطرية، واختلط الشعر بالأدب، وقلما نبغ شاعر لم يشتغل بغير الشعر، فإن أكثرهم ألفوا الكتب في الأدب وجمع الشعر والنكات والمواعظ والحكم ونحو ذلك، وابتذلت الصناعة الشعرية، وتعاطاها الناس لقضاء ساعات الفراغ فقط، وكثر الناظمون من الباعة وأرباب الحرف كالخياطين والنجارين والدهانين ونحوهم وليس ذلك خاصا بهذا العصر إذ كثيرا ما ظهرت القرائح الشعرية في طبقات العامة لكنهم كانوا إذا نبغوا استغنوا عن صنائعهم بتقربهم من بعض الأمراء أو الخلفاء فتشحذ قرائحهم ويأتون بالمعجزات كما اتفق لكثيرين من شعراء العصر الأموي والعباسي». «2» والحق أن هذه الأوصاف تنطبق إلى حد كبير على العصر الذي نستوضح ملامحه، ولكن ينبغي التحفظ في إطلاق الأحكام، إذ إن العصر لم يعدم كثيرا من الشعر الجيد والشعراء الذين أجادوا في كثير من أشعارهم على الرغم من أن شاعرا منهم لم يخل شعره من الإسفاف والانحدار في بعض الأحيان، ومن تكلف الصنعة في أحيان أكثر، وذلك هو السبب في تعميم وصف الانحدار على العصر وشعرائه. أما النثر فله أنواع عديدة وصور متنوعة، ويمكن أن يندرج النثر بدوره من ناحية أسلوبه وطريقة التعبير فيه في قسمين رئيسيين أولهما: قسم تلقى فيه العناية

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 126. (2) جورجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية ج 3 ص 126.

الخطبة:

اللفظية الحظ الأوفر من الكاتب، وتصل هذه العناية إلى حد التكلف مع الاسراف في استعمال المحسنات اللفظية على اختلاف ضروبها وهو ما نسميه بمدرسة البديع، والقسم الآخر ما لا يحفل الكاتب بالعناية اللفظية فيه بل يرسل قوله على عواهنه ولكن عيب هذا القسم الأخير كان يأتيه من انحدار الأسلوب وكثرة اللحن واستعمال العامية وهذا القسم يسمى بمدرسة المعاني. والأنواع الأدبية النثرية التي أنتجها العصر كثيرة ومتنوعة نكتفي منها بالحديث عن الخطبة والرسالة والمقامة لكونها أشهر الأنواع ولاحتفال الكتاب بها أكثر من غيرها، فهناك إلى جانبها الموازنات والتوقيعات والحكم والوصايا. الخطبة: كانت الطبقة الحاكمة بالبلاد كما رأينا من الأتراك الذين ديفت بالعجمة ألسنتهم وبالرغم من تعلم كثيرين منهم العربية لكونها لغة الدين والعلوم فإنهم- في الغالب- افتقروا إلى الفصاحة فيها- وبذلك فقد تغير الحال في الخطابة عما كان عليه زمن الخلافة العربية في عهد الأمويين والعباسيين، يضاف إلى ذلك ما أصاب اللغة من دخول كثير من الألفاظ التركية بها وانحدار كثير من أساليب الكتاب نحو العامية. وإذا كان العصر قد خلا من الخطب الرسمية التي كان يلقيها الحكام باستثناء بعض خطب خلفاء العباسيين في مصر فإنه لم يعدم وجود أنواع معينة من الخطب التي خلت في الغالب من أهم عناصر الخطبة وهو الارتجال، فكانت الخطب تعد إعدادا كالرسائل، وقل أن نجد الارتجال في غير المناظرات التي كانت تعقد بين العلماء حيث يضم جماعة منهم أحد المجالس. لهذا نلحظ على الخطب سمات الرسائل «1» حيث سلك الخطباء مسلك الكتاب فاتبعوا الأسلوب البديعي المسجوع وأكثروا من الاقتباس من آيات القرآن الكريم ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أقوال السلف الصالح. وأهم الخطب التي نزعت هذا المنزع الخطب المنبرية التي كانت تعدّ من قبل

_ (1) عبد الوهاب حمود: صفحات من تاريخ مصر ص 105، 106.

الرسائل:

أصحابها قبل القائها أو من قبل غيرهم، ومن دواوين الخطب ديوان خطب الشيخ زكريا الأنصاري وهو معاصر للسيوطي، وقد امتد به العمر فتوفي عام 926 هـ، واسم ديوانه «التحفة السنية» وهو مجموعة من الخطب المنبرية مرتبة حسب جمع الشهور العربية. «1» وهناك خطب كانت تقال في المناسبات التقليدية كالأعياد وأوائل الشهور الهجرية، والكسوف والخسوف والحفلات الاجتماعية وغير ذلك من المناسبات، وقد طبعت الخطب بما طبعت به الآثار الأدبية جميعها من احتفال بالصنعة اللفظية وحرص من الخطباء على الجمل المسجوعة التي تشيع في الخطبة ويبدو التكلف في إيرادها واضحا، فضلا عما تتحمله الخطبة من حشو لمراعاة السجع والجناس وسائر ضروب الصنعة اللفظية. الرسائل «2»: حظيت الرسائل الديوانية والاخوانية بعناية بالغة من كتابها، بيد أن هذه العناية كانت منصرفة في غالبها إلى الألفاظ على حساب المعاني، وجرى الكتاب على تقليد من سبقهم في التزام المحسنات اللفظية بجميع ضروبها، وقد أدى ذلك إلى انحدار الأساليب وشيوع التكلف فيها، بل حرص الكتاب على وضع العناوين المسجوعة لرسائلهم فضلا عن عناوين الكتب المسجوعة، وبإجمال فإننا يمكن أن نلاحظ على كتابة ذلك العصر ما يلي: 1 - التزام السجع في جميع الرسالة، وربما تكررت قافية السجعة في عدة فقرات. 2 - الاحتفال بأنواع البديع ولا سيما براعة الاستهلال والتورية والتضمين والاقتباس والتلميع إلى الحوادث الشهيرة وحل الأبيات وإدماج الأمثال، والاكثار من أنواع الاستعارة وضروب التشبيهات. 3 - كثرة الحشو مراعاة للسجع والجناس ومراعاة لغيرهما من ضروب

_ (1) المصدر السابق ص 106. (2) د. عبد اللطيف حمزة: الأدب المصري ص 177 وما بعدها.

المقامة:

المحسنات اللفظية. 4 - استعمال الدخيل وعدم تحاشيه في المفردات والتراكيب، وقد كانت ألفاظ كثيرة من التركية والفارسية قد دخلت إلى العربية بعد غلبة العنصر التركي، ونتيجة لحكم الأتراك للبلاد. غير أن أساليب الكتاب المصريين بالرغم من ذلك كانت تمتاز بميزة تتضح لقارئها وهي السهولة والوضوح اللذان يدلان على ذوق سمح وفطرة مواتية، ولم تكن تميل- في الغالب- إلى الغموض أو التعقيد، وسنرى هذه الخصوصية واضحة في رسائل السيوطي جميعها على الرغم من أنها لم تخل من احتفال بالمحسنات اللفظية وحرص عليها شأن كتابات العصر. والكتاب- بطبيعة الحال- في ميدان السهولة والوضوح درجات يتميز أسلوب كل منهم بخصائص فردية تقربه أو تبعده عن السهولة والوضوح. المقامة: لم تكن المقامات في ذلك العصر تختلف عن الرسائل كثيرا، بيد أنها كانت أكثر احتفالا بالمحسنات اللفظية حتى ليبدو أمام القارئ أن أصحابها قد وضعوها ليحشدوا بها ضروب الصناعات اللفظية وليبينوا مهارتهم في ذلك، وإذا كانت المقامات العربية عند بديع الزمان والحريري قد اعتمدت على تسلسل القصة والحدث في تطور فني وعقدة تسلم غالبا إلى حل ذي مغزى وهدف، فإن المقامة في هذا العصر لم يراع فيها هذا التسلسل الفني في كثير من الأحيان. وقد تنوعت أغراض المقامات في ذلك العصر فتناول أصحابها في مقاماتهم شتى الموضوعات وسنرى مصداقا لما نقول عند الاشارة إلى بعض مقامات السيوطي التي تعددت أغراضها.

الفصل الثالث

الفصل الثالث حياته وثقافته وآثاره مولده ونسبه: في العصر الذي بينا من قبل معالمه السياسية والاجتماعية والعقلية، وفي النصف الثاني من القرن التاسع وأوائل القرن العاشر كانت حياة السيوطي، فقد ولد ليلة الأحد مستهل رجب عام 849 هـ «1»، ويوافق هذا التاريخ 3 من أكتوبر عام 1445 م «2». ويجمع المترجمون له: من عاصره ومن جاء بعده على صحة هذا التاريخ فلا يحيدون عنه «3»، إلا شيئا من الاختلاف اليسير حين يذكر ابن اياس أن مولده كان في جمادى الآخرة «4»، ويمكن توجيه قوله بأنه كان في آخر جمادى الآخرة وفي ليلة أول رجب كما نصوا عليه. واسمه عبد الرحمن بن الكمال بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان بن ناظر الدين محمد بن سيف الدين خضر بن نجم الدين أبي الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الهمام الخضيري الأسيوطي «5». وقد سماه والده عبد الرحمن، ولقبه بجلال الدين ثم عرضه على شيخه قاضي

_ (1) السيوطي: حسن المحاضرة ج 1 ص 188. TheEncyc lopaediaofIslams» Suyuti « (2) (3) السخاوي: الضوء اللامع ج 4 ص 65، العيدروسي: تاريخ النور السافر ص 54، الشوكاني: البدر الطالع ج 1 ص 328، ابن العماد: شذرات الذهب ج 8 ص 51. (4) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 29. (5) حسن المحاضرة ج 1 ص 188.

والده:

القضاة عز الدين أحمد الكناني فيما بعد فكناه بأبي الفضل «1». وينتهي نسبه من جهة أبيه إلى أصل أعجمي، وقد رجح ذلك حين ذكر أن جده الأعلى كان أعجميا أو من الشرق وأن النسبة بالخضيري هي إلى الخضيرية محلة ببغداد «2». وترجع نسبته إلى أسيوط لاستقرار أجداده بها، وقد ولد أبوه كمال الدين بها، وكان جده الأعلى همام الدين متصوفا، ومن دونه من آبائه كانوا من ذوي الوجاهة والرئاسة بأسيوط، منهم من ولى الحسبة أو الحكم، ومنهم من كان صاحب ثروة، أما والده فقد كان من المشتغلين بالعلم «3». والنسبة إلى أسيوط أسيوطي بضم أولها، وقد ذكر صاحب القاموس «سيوط وأسيوط بضمهما بلدة بصعيد مصر»، فالنسبة على ذلك سيوطي وأسيوطي بالضم «4»، وزاد ابن علان الكسر في ضبط النسبة إلى «سيوط» «5». والده: ترجم السيوطي لأبيه كمال الدين ضمن الفقهاء الشافعية بمصر «6»، كما ترجم له السخاوي معاصره «7»، وقد ولد بأسيوط عام 800 هـ، وتولى قضاءها زمنا، ودرس على بعض نابغي العصر كالقاياتي «8»، والحافظ ابن حجر، ونبغ في علوم عدة منها فقه الشافعي والأصول والكلام والنحو والحديث، وأجيز بالتدريس

_ (1) العيدروسي: تاريخ النور السافر ص 54، ابن العماد: شذرات الذهب ج 8 ص 51. (2) حسن المحاضرة ج 1 ص 188. (3) حسن المحاضرة ج 1 ص 188. (4) القاموس المحيط مادة «ساط» ولم يذكرها صاحب اللسان، ضبط هذه النسبة كذلك الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على تفسير الجلالين ص 5. (5) ابن علان: شرح على الاقتراح (مخطوط) ص 3. (6) حسن المحاضرة ج 1 ص 251. (7) السخاوي: الضوء اللامع ج 11 ص 72، 73. (8) السخاوي: الذيل على رفع الاصر عن قضاة مصر ص 292 ضمن الحديث عن القاياتي.

عام 829 هـ، وبرّز في الانشاء ودرّس الفقه بالجامع الطولوني، وبرع في الخط وكان يخطب من إنشائه، وصنف بعض التصانيف وتوفي عام 855 هـ. وكان لوالد السيوطي صلة طيبة بخلفاء بني العباس بمصر، وقد كتب صورة العهد بالخلافة لأحدهم كما سبق أن أشرنا «1»، وقد ذكر السيوطي أن والده كان إماما لهذا الخليفة وكان خصيصا به ثم يقول: «وأما نحن فلم ننشأ إلا في بيته وفضله» كما يذكر عن أبيه أنه لم يعش بعد وفاته إلا أربعين عاما «1». ولا ريب أن هذه الصلة فضلا عن المكانة العلمية، كانت تجعل منه رجلا له قدره في الحياة العامة، وقد كان الرجل من صوفية الخانقاه الشيخونية، وقد ولى تدريس الفقه بالجامع الشيخوني المقابل للخانقاه «3»، بالاضافة إلى قيامه بالتدريس في جامع ابن طولون كما ذكرنا. ولم يذكر السيوطي في ترجمته لنفسه شيئا عن أمه، في حين ذكر السخاوي معاصره أنها أمة تركية «4»، وقد تابعه في ذلك بعض المترجمين للسيوطي «5»، على حين أغفل كثير منهم الحديث عنها لاغفال السيوطي ذلك، كما أغفلت التراجم الحديثة التي كتبت عن السيوطي الحديث عن أمّه تبعا لاغفال السيوطي ذكرها «6».

_ (1) تاريخ الخلفاء ص 340، 341. (3) السخاوي: الضوء اللامع ج 4 ص 66. (4) المصدر السابق ج 4 ص 65. (5) العيدروسي: تاريخ النور السافر ص 54. (6) ممن ترجم للسيوطي من المحدثين وأغفل الحديث عن أمه. TheEncyclopaedia ofIslam» AlSuyuti «TheEncyclopaedia BritanicaV. 21 جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية ج 3 ص 244، محمود رزق سليم: عصر سلاطين المماليك، المجلد الثالث ص 355.

نشأته وحياته العلمية والعملية

نشأته وحياته العلمية والعملية نشأته: ولد السيوطي بالقاهرة بعد انتقال أبيه إليها بمدة طويلة حيث كان يعمل مدرسا للفقه الشافعي بالجامع الشيخوني، وقد سبق بيان ما كانت عليه بيئة القاهرة من عظمة في نواحيها الفكرية والحضارية، ونتيجة لغلبة الطابع الصوفي على البلاد من ناحية، ولكون والده من صوفية الشيخونية من ناحية أخرى حمله بعد مولده إلى أحد كبار الأولياء بجوار المشهد النفيس، وهو الشيخ محمد المجذوب فباركه «1»، وكان والده قد قارب الخمسين من عمره في ذلك الحين. وعند ما بلغ السيوطي الثالثة من عمره وكانت شهرة الحافظ ابن حجر تملأ الدنيا وكان شيخا لأبيه اصطحبه والده إلى مجلس الحافظ ابن حجر في إحدى المرات «2»، وقد كان لحضور هذا المجلس أثره العميق في نفسية السيوطي وفي حياته العلمية فيما بعد. ولم يلبث والده أن توفي بعد قليل في صفر عام 855 هـ- مارس 1451 م «3»، حين كان ابنه لم يتمّ السادسة من عمره، وقد ولى الوصاية عليه بعد أبيه أحد أصدقائه من الصوفية وهو الشيخ جمال الدين بن الهمام «4». وقد أنشأ السيوطي يحفظ القرآن قبل وفاة أبيه، وقد بلغ في الحفظ عند وفاته إلى سورة التحريم «5»، وقد واصل الحفظ بعد وفاته فأتم القرآن الكريم ولم يبلغ

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 188. (2) تاريخ النور السافر ص 54. . TheEncy clopaediaofIslam» Suyuti « (3) (4) العيدروسي: تاريخ النور السافر ص 54، ابن العماد: شذرات الذهب ج 8 ص 52. (5) شذرات الذهب ج 8 ص 52.

دراسته:

الثامنة من عمره «1». دراسته: دلّ السيوطي بحفظه المبكر للقرآن الكريم على ذكاء متوقد، وذاكرة قوية وقد حفظ بعد ذلك عمدة الأحكام، والمنهاج الفرعي في الفقه للنووي، والمنهاج في الأصول له أيضا على ما ذكر، وإن كان السخاوي ينص على أنه لم يحفظه كله وإنما حفظ بعضه «2»، وألفية ابن مالك في النحو «3»، ومنهاج البيضاوي «4»، وقد أتم حفظ هذه الكتب وعرضها على شيوخ عصره، ومن ثم فقد أصبح أهلا لأن يطلب العلم على أيدي علماء العصر في مختلف مناحي العلم. ومنذ مستهل عام 846 هـ وحين كان السيوطي لم يتم الخامسة عشرة من عمره أنشأ يطلب العلم، فأخذ الفقه والنحو عن جماعة من الشيوخ منهم الشمس محمد بن موسى الحنفي إمام الشيخونية في النحو، وعن الفخر عثمان المقسي والشموس البامي وابن الفالاتي وابن يوسف أحد فضلاء الشيخونية، والبرهانين العجلوني والنعماني بعضهم في الفقه وبعضهم في النحو «5»، وأخذ الفرائض عن العلامة فرض زمانه شهاب الدين الشارمساحي الذي كان قد بلغ المائة من العمر «6». وقد أجيز بتدريس العربية في مستهل عام 866 هـ أي حين كان في السابعة عشرة من عمره «7»، وقد ابتدأ التأليف في هذه السنة فكتب شرحا للاستعاذة والبسملة وأطلع عليه شيخه علم الدين البلقيني شيخ الاسلام فكتب عليه تقريظا «7»، وقد لزم عليه كثيرا من أبواب الفقه وأجازه بالتدريس والافتاء في عام

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 188، شذرات الذهب ج 8 ص 52. (2) الضوء اللامع ج 4 ص 65. (3) حسن المحاضرة ج 1 ص 188. (4) شذرات الذهب ج 8 ص 52. (5) الضوء اللامع ج 4 ص 65. (6) حسن المحاضرة ج 1 ص 188. (7) حسن المحاضرة ج 1 ص 189.

876 هـ حين كان السيوطي في السابعة والعشرين من عمره، وحضر تصديره، وقد توفي البلقيني عام 878 هـ. كما لزم السيوطي شيخ الاسلام شرف الدين المناوي فقرأ عليه بعض كتبه في الفقه والتفسير «1». ولزم في الحديث والعربية العلامة تقي الدين الشمنيّ أربع سنين وكتب له تقريظا على شرح ألفية ابن مالك وعلى جمع الجوامع في العربية، وكان شيخه يشهد له بالتقدم ويثق في علمه وسعة اطلاعه «1». وقد أخذ جملة من العلوم منها التفسير والأصول والعربية والمعاني عن العلامة محيي الدين الكافيجي الذي لازمه السيوطي أربع عشرة سنة، وكتب له الكافيجي إجازة عظيمة بذلك، كما حضر دروسا عديدة عند الشيخ سيف الدين الحنفي «3». وقد أغفل السيوطي حين ترجم لنفسه كثيرا من الشيوخ الذين درس على أيديهم، ويبدو أنه قد اكتفى في ذلك بالمعجم الذي وضعه لهم في حين ذكر المترجمون له من خصومه وأنصاره أسماء بعض الذين أغفل ذكرهم، ويمكننا من دراسة ترجمته الذاتية ومقارنتها بما كتبه عنه معاصره وخصمه السخاوي وبما كتبه المحايدون من المترجمين وبما كتبه أنصاره من معاصريه أو لاحقيه أن نخلص إلى استجلاء المعالم الرئيسية في حياة السيوطي في وضوح نطمئن إليه، وأن نقف على الأصول والبواعث التي كان لها أثرها في توجيه حياته، وتكوين عقليته وكل أولئك نسترفده عند حديثنا عن منهجه في التفكير وأصول هذا المنهج. حاض السيوطي كما رأينا حياة دراسية شاقة بالقاهرة درس فيها على كثير من النابهين من علماء عصره، ويلاحظ أن الشيوخ الذين لزمهم مدة طويلة كانوا من شيوخ الخانقاه الشيخونية، حيث كان لأبيه من قبل صلة بها وحيث عمل هو بعد ذلك بها، ولم يكتف بذلك بل رحل طلبا للعلم إلى بعض البلاد فسافر إلى دمباط والاسكندرية والفيوم والمحلة ثم حج إلى مكة عام 869 هـ وجاور بها

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 189. (3) الضّوء اللامع ج 4 ص 65 - 66.

شيوخه:

سنة كاملة كما انتقل إلى بلاد الشام واليمن والهند والمغرب والتكرور (غينيا الآن) وقد حصل على إجازات كثيرة من الشيوخ الذين درس عليهم ورحل إليهم «1». شيوخه: ذكر الداوديّ تلميذ السيوطي أسماء شيوخ السيوطي قراءة وسماعا مرتبين على حروف المعجم فبلغت عدتهم واحدا وخمسين «2»، وقد حاولت العثور على ترجمة الداوديّ لشيخه في طبقات المفسرين فلم أجد لها ذكرا، ولعله ترجم له في مكان آخر اطلع عليه الناقلون عنه ولم يصل إلينا «3»، وقد ذكر السيوطي أن شيوخه في الرواية سماعا وإجازة يبلغون مائة وخمسين «4»، أما عدة من درس عليهم وأخذ عنهم فقد بلغت ستمائة شيخ، وقد وضع السيوطي كتابين في أسماء شيوخه هما معجم الشيوخ الكبير ويسمى حاطب ليل وجارف سيل، ومعجم صغير يسمى المنتقى، ولم أتمكن من الوقوف على أحد المعجمين، وليس هذا بالأمر الخطير إذا عرفنا أن أهم الذين درس عليهم قد ذكرهم في ترجمته الذاتية، كما ترجم لهم في بعض كتبه الأخرى، كما تناولهم غيره بالترجمة. وقد روى الشعراني تلميذ السيوطي عن شيخه أن شيوخه بلغوا ستمائة وقد نظمهم في أرجوزة، وقسمهم إلى طبقات أربعة: الأولى: من يروي عن أصحاب الفخر بن النجار والشرف الدمياطي ووزيره والحجار وسليمان بن حمزة وأبي النصر بن الشيرازي ونحوهم، والثانية: من يروي عن السراج البلقيني والحافظ أبي الفضل العراقي ونحوهما وهي دون التي قبلها في العلوم، والثالثة: من يروي عن الشرف بن الكويك والجمال البجيلي ونحوهما وهي دون الثانية، والرابعة: من يروي عن أبي زرعة العراقي وابن الجزري ونحوهما.

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 189، 190. (2) ابن العماد: شذرات الذهب ج 8 ص 53. (3) طبقات المفسرين (مخطوط)، ويبدو أن للداودي ترجمة مستقلة لشيخه السيوطي لم تصل إلينا، انظر الأعلام للزركلي ترجمة الداوديّ. (4) حسن المحاضرة ج 1 ص 190.

1 - ابن حجر العسقلاني:

ولئن كان أساتذة السيوطي من الكثرة بحيث يتعذر علينا لضيق المكان التعريف بهم على الوجه الأكمل فليس أمامنا سوى التعريف بأكثرهم تأثيرا في نفسه وعقله وأقواهم فعلا في حياته وألصقهم به. 1 - ابن حجر العسقلاني: وأول هؤلاء الأساتذة ابن حجر العسقلاني، وبالرغم من أن السيوطي- على وجه التحقيق- لا يعد من تلاميذه إذ إنه لم يحضر مجلسه إلا في طفولته صحبة والده «1»، فإنه تأثر به تأثرا كبيرا، وقد كان أمله في يوم من الأيام أن يصل إلى مرتبته في الحديث «2»، وقد كان السيوطي بعد نفسه من تلامذة ابن حجر العسقلاني ويتحدث عنه أحيانا بعبارة «شيخنا» وقد روى عنه متعمدا على الاجازة العامة، وقد قال عن نفسه: «ولي منه إجازة عامة، ولا أستبعد أن يكون لي منه إجازة خاصة، فإن والدي كان يتردد إليه وينوب في الحكم عنه، وإن يكن فاتني حضور مجالسه والفوز بسماع كلامه، والأخذ عنه فقد انتفعت في الفن بتصانيفه، واستفدت منها الكثير، وقد غلق وختم به هذا الشأن» «3». وقد ترجم السيوطي لابن حجر في كتابه نظم العقيان فذكر أنه «فريد زمانه وحامل لواء السنة في أوانه ... إمام لهذا الفن للمتقدمين، ومقدم عساكر المحدثين، وعمدة الوجود في التوهية والتصحيح، وأعظم الشهود والحكام في بابي التعديل والتجريح» «4». كان ابن حجر أولا وقبل كل شيء إماما في الحديث وحسبه شرح البخاري الذي نبه ابن خلدون من قبل على أنه دين على هذه الأمة، وله إلى جانب جهوده في علوم الحديث مشاركة في كثير من العلوم والفنون، وهو شاعر مجيد وأحد السبعة الشهب الذين سبقت الاشارة إليهم، وقد ولى في حياته وظائف

_ (1) ابن العماد: شذرات الذهب ج 8 ص 52، العيدروسي: تاريخ النور السافر ص 54. (2) حسن المحاضرة ج 1 ص 190. (3) السيوطي: ذيل طبقات الحفاظ للذهبي ص 381، 382. (4) نظم العقيان في أعيان الأعيان ص 46.

2 - علم الدين البلقيني:

سنية منها «تدريس الحديث بالشيخونية وبجامع القلعة وبالجمالية، وبالبيبرسية، وتدريس الفقه بالمؤيدية وبالشيخونية وولى مشيخة الشيوخ بالبيبرسية، ومشيخة الصلاحية بجوار مشهد الامام الشافعي رحمه الله تعالى، وولى قضاء القضاة بالديار المصرية» «1»، وله عدد كبير من المصنفات. 2 - علم الدين البلقيني: هو علم الدين صالح بن شيخ الاسلام سراج الدين عمر، ترجم له السيوطي في أماكن متفرقة من كتبه فأوجز فيما أورده عنه في نظم العقيان «2»، وبسط القول بعض البسط في حسن المحاضرة «3»، وقد خصه بترجمة مفردة لم تصلنا، كما ترجم له تلميذه السخاوي «4». وقد أخذ السيوطي عنه الفقه وأشاد بتمكن شيخه فيه فذكر أنه إمام الفقهاء في عصره وحامل لواء مذهب الشافعي في عراقه وحجازه وشامه ومصره. ولد البلقيني عام 791 هـ، وتلقى العلم على يد مشاهير عصره ومن بينهم أبوه، وقد تولى عدة وظائف قام فيها بتدريس الفقه والحديث والتفسير، ثم تولى القضاء الأكبر سنة 826 هـ، وتكرر عزله وإعادته، وقد اختتم السيوطي ترجمته بقوله: «وأخذ عنه الجم الغفير وألحق الأصاغر بالأكابر والأحفاد بالأجداد ... قرأت عليه الفقه وأجازني بالتدريس وحضر تصديري، وقد أفردت ترجمته بالتأليف، مات يوم الأربعاء خامس رجب سنة 868 هـ» «5»، وقد ذكر ابن إياس وفاته عام 869 هـ «6» والصواب ما ذكره السيوطي. 3 - شرف الدين يحيى المناوي: ولد سنة 798 هـ، ولازم أعيان شيوخ عصره، وتصدى للإقراء والافتاء،

_ (1) المصدر السابق ص 46. (2) نظم العقيان ص 119. (3) حسن المحاضرة ج 1 ص 253. (4) الضوء اللامع ج 3 ص 312 - 314. (5) حسن المحاضرة ج 1 ص 253، 254. (6) بدائع الزهور ج 2 ص 78.

4 - تقي الدين الشمني الحنفي:

وولى تدريس الشافعية وقضاء الديار المصرية، وله عدة مصنفات قال عنه السيوطي: «هو آخر علماء الشافعية ومحققيهم»، وقد رثاه ببعض الشعر «1»، وقد سمع السيوطي عليه دروسا في الفقه والتفسير يبدو أنها غير قليلة «2»، بالرغم مما يغمز به السخاوي معاصره السيوطي بأنه «حضر عند الشرف المناوي يسيرا جدا» «3». وقد كان المناوي معاصرا للبلقيني وكانا يتعاقبان قضاء الشافعية يعزل أحدهما فيولى «4» الآخر. 4 - تقي الدين الشّمنيّ الحنفي: ذكر السيوطي أنه لزمه في الحديث والعربية أربع سنين، وقد كتب له تقريظا على شرح ألفية ابن مالك وعلى جميع الجوامع في العربية والمؤلفان للسيوطي، كما شهد له بالتقدم في العلوم «5». والشمني هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن كمال الدين، ترجمه السيوطي في كتابيه حسن المحاضرة «6»، وبغية الوعاة «7»، ترجمة تفيض بالاعجاب نعته فيها بأبلغ الأوصاف التي تدل على تنوع معارفه. ولد الشمنيّ بالاسكندرية عام 801 هـ، وقدم القاهرة مع والده، وأخذ عن جماعة من أعيان علماء عصره منهم العراقي والبلقيني، ثم استحصدت قوته فتعرض للنفع العام بعلمه فأقرأ التفسير والحديث والفقه والعربية والمعاني والبيان وغيرها، وتزاحم الناس عليه، وافتخروا بالأخذ عنه، وقد تولى مشيخة عديد من المدارس، وطلب لقضاء الحنفية فامتنع، وله مصنفات عديدة منها حاشية على

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 253، 254. (2) المصدر السابق ج 1 ص 189. (3) الضوء اللامع ج 4 ص 66. (4) بدائع الزهور ج 2 ص 35، 75. (5) حسن المحاضرة ج 1 ص 189. (6) المصدر السابق ج 1 ص 271. (7) بغية الوعاة ص 163 - 167.

5 - محيي الدين الكافيجي:

مغنى ابن هشام سماها «المنصف من الكلام على مغنى ابن هشام» تعقب فيها الدماميني كثيرا «1»، وله نظم حسن. وقد سمع السيوطي عليه قطعة كبيرة من المطول للشيخ سعد الدين، ومن التوضيح لابن هشام، وسمع وقرأ عليه في الحديث عدة أجزاء، وكانت صلة السيوطي بشيخه طيبة طيلة حياته، وقد مدحه بشعره، ورثاه بمرثية طويلة بعد وفاته التي كانت في ذى الحجة عام 872 هـ. ويعد الشمني شيخ السيوطي من أشهر نحاة القرن التاسع وقد رزق مؤلفه «المنصف من الكلام» رواجا كبيرا في عصره. 5 - محيي الدين الكافيجي: لقب بالكافيجي على ما يقال لكثرة اشتغاله بكافية ابن الحاجب في النحو، وقد لازمه السيوطي أطول مدة إذ بلغت أربع عشرة سنة، وأخذ عنه أكثر ما أخذ، وقد جمعتهما صلات طيبة يوضحها قول السيوطي: «ما كنت أعد الشيخ إلا والدا بعد والدي لكثرة ما له علي من الشفقة والافادة، وكان يذكر أن بينه وبين والدي صداقة تامة، وأن والدي كان منصفا له بخلاف أكثر أهل مصر» «2». وقد ترجم له السيوطي ترجمة تفيض بالاعجاب والتقدير «3»، شأن الترجمة السابقة للشّمنيّ، وهو محيي الدين محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود الرومي، وقد اشتهر بأنه علامة وقته في المعقولات: «الكلام وأصول اللغة والنحو والتصريف والاعراب والمعاني والبيان والجدل والمنطق والفلسفة والهيئة بحيث لا يشق أحد غباره في شيء من هذه العلوم «4»، هذا إلى جانب دراسته للعلوم النقلية ومعرفته بها كالتفسير والحديث والفقه وقد صنف كثيرا من الكتب في العلوم العقلية ويبدو أن كثيرا منها قد أتت عليه يد الحدثان وأكثر تآليفه مختصرات.

_ (1) د. شوقي ضيف: المدارس النحوية ص 357. (2) السيوطي: بغية الوعاة ص 48. (3) حسن المحاضرة ج 1 ص 317، 318، بغية الوعاة ص 48 وما بعدها. (4) بغية الوعاة ص 48.

6 - سيف الدين الحنفي:

وقد تولى مشيخة التصوف بتربة الأشرف برسباي، وتولى مشيخة الشيخونية بعد أن رغب عنها ابن الهمام، وقد عاصره السيوطي بالشيخونية إذ كان السيوطي يلي تدريس الحديث بها. ويعد الكافيجي من أشهر علماء عصره، ويعد هو والشّمني أشهر نحاة القرن التاسع، وقد نص السيوطي على أنهما أنحى من رآه من الشيوخ «1»، وقد أورد لهما في كتابه جمع الجوامع بعض الآراء والاختيارات النحوية، وخالفهما في بعض الأحيان، وقد توفي الكافيجي عام 879 هـ، وقد رثاه الشهاب المنصوري شاعر وقته «2». 6 - سيف الدين الحنفي: حضر السيوطي عنده دروسا عديدة كما ذكر عن نفسه في الكشاف والتوضيح وحاشيته عليه وتلخيص المفتاح. وهو محمد بن محمد بن عمر بن قطلوبغا البكتري «3»، ولد في عام 800 هـ، وأخذ عن شيوخ عصره ولازم الكمال بن الهمام الذي كان يلي مشيخة الشيخونية، وبرع في الفقه والأصول والنحو، وقد ولى التدريس بكثير من المدارس، واستنابه ابن الهمام في مشيخة الشيخونية مدة حجه، وقد ولى مشيخة المؤيدية ثم آلت إليه فيما بعد مشيخة الشيخونية، ومن ثم فلقد عاصر السيوطي بها حين كان يقوم بتدريس الحديث، توفي السيف الحنفي في ذي القعدة عام 881 هـ، وقد ذكر السيوطي أنه آخر شيوخه موتا لم يتأخر بعده أحد ممن أخذ عنهم، وقد رثاه بعد موته، وأهم مصنفاته حاشية على توضيح ابن هشام. هؤلاء أهم شيوخ السيوطي الذين درس على أيديهم وتلقى عنهم وكان لهم تأثير في عقليته ومنهجه الفكري وتوجيه حياته، وقد كان من تحدثنا عنهم- في حقيقة الأمر- أشهر رجال عصرهم في الفنون التي ثقفها على أيديهم السيوطي،

_ (1) المصدر السابق ص 309، 310 ترجمة عبد القادر بن أبي القاسم نحوي مكة. (2) بدائع الزهور ج 2 ص 151، 152. (3) بغية الوعاة ص 92، حسن المحاضرة ج 1 ص 273.

فابن حجر أكبر علماء العصر في الحديث، والبلقيني أكبر فقهاء الشافعية في وقته، كذلك كان الشرف المناوي في التفسير والفقه، أما الكافيجي فهو أكبر علماء وقته في المعقولات، ويعد هو والشمني أكبر النحاة الذين عرفهم ذلك القرن، وكان السيف الحنفي من العلماء المبرزين، وكان لهؤلاء جميعا مكان مرموق بالمجتمع وقد تولى عدد منهم قضاء القضاة ورشح بعضهم لذلك وامتنع بمحض اختياره. وهناك إلى جانب هؤلاء عدد كبير من الشيوخ الذين درس السيوطي على أيديهم أو لقيهم، ولكنا لا نرى موجبا لإيرادهم لما في ذلك من الاطالة فضلا عن أثرهم القليل نسيبا في عقله وتفكيره، وقد اكتفيت فيما تقدم بايراد أهمهم وأكثرهم تأثيرا في حياته وعقله.

مراحل حياته

مراحل حياته سبق لنا بيان المرحلة الأولى من حياة السيوطي التي ابتدأت بمولده وما تبعه من دراسته وتلقيه عن الشيوخ حتى أجيز بتدريس العربية ومن ثم فقد أصبح مشاركا في الحياة بصورة أخرى، ومنذ ذلك التاريخ تبدأ مرحلة متميزة من مراحل حياته دأب فيها على التلقي والدراسة مع مشاركة في الحياة العامّة. وقد أجيز بتدريس العربية منذ وقت مبكر (عام 866 هـ) إذ لم يكن قد أتم السابعة عشرة، وقد ابتدأ التأليف منذ ذلك الوقت، ولهذا دلالته على قدرته الفائقة ونبوغه المبكر. وقد أسهم الرجل منذ ذلك الحين في الحياة العملية وتصدي للنفع العام بعد قليل فقصد مسجد ابن طولون وأملى به الحديث من مستهل عام 872 هـ «1»، فكان يملي به الحديث يوم الجمعة بعد الصلاة اتباعا للخطيب البغدادي وابن السمعاني وابن عساكر، وخلافا للعراقي وولده وابن حجر فإنهم كانوا يملون يوم الثلاثاء «2»، ويحاول السخاوي الغض من قيمة عمل السيوطي فيتهمه بأنه كان يدرس لجمع من العوام أملى عليهم الحديث وأنه توسل بذلك إلى الوصول إلى منصب التدريس بالشيخونية «3». وقد حصل السيوطي على إجازة بالتدريس والافتاء من شيخه البلقيني عام 876 هـ، تصدر على أثرها للتدريس والافتاء، وحضر شيخه تصديره «4»، وكانت سنه آنذاك تقترب من السابعة والعشرين، وهي سن صغيرة لمن يتصدى لمثل ذلك، وقد ساعده شيخه البلقيني في تولي وظيفة تصدير الفقه بالجامع

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 190. (2) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى (مخطوط) ورقة 4 ص 8. (3) السخاوي: الضوء اللامع ج 4 ص 66، 67. (4) حسن المحاضرة ج 1 ص 189.

الشيخوني وهي الوظيفة التي كان بها أبوه من قبل «1». وفي العام التالي (شعبان 877 هـ)، تولى السيوطي تدريس الحديث بالخانقاه الشيخونية بعد وفاة الفخر المقسي «2»، وقد أعانه في الوصول إلى هذه الوظيفة. الأمير إينال الأشقر «3». كما تولى السيوطي إلى جانب ذلك وظيفة أخرى هي مشيخة التصوف بتربة برقوق نائب الشام بالقرافة، وقد ساعده في توليها أبو الطيب السيوطي «4»، وبقي السيوطي يجمع هذه الوظائف في يده حتى ناهز الأربعين من عمره. وتبدأ مرحلة ثالثة من حياة السيوطي حين بلغ الأربعين من عمره يلاحظ عليه فيها ميله إلى الهدوء وزهده في الدنيا، وقد حاول في بداية هذه المرحلة أن يعتكف وينقطع إلى الله تعالى، فترك وظائفه السابقة بيد أن اعتزاله التام لم يدم سوى بضعة شهور انتقل بعدها إلى وظيفة أكبر شأنا مما كان تحت يده وهي مشيخة الخانقاه البيبرسية وذلك في ربيع الآخر عام 891 هـ بعد وفاة الجلال البكري، وقد ساعده في الوصول إلى منصبه الأخير صديقه الخليفة المتوكل على الله عبد العزيز «5». وبالرغم من أن مشيخة البيبرسية كانت أعظم الوظائف التي تولاها السيوطي وأكبرها أجرا فإنه كان يميل آنذاك إلى الزهد، وكان يتجه بحياته نحو الاعتكاف

_ (1) الضوء اللامع ج 4 ص 66. (2) بدائع الزهور ج 2 ص 142. (3) الضوء اللامع ج 4 ص 67، اينال الأشقر أحد أمراء المماليك، ترجم له السخاوي وذمه كثيرا حتى قال فيه «مات غير مأسوف عليه فقد كنت أشهد في وجهه المقت وكان من سيئات الدهر»، الضوء اللامع ج 2 ص 330، انظر بدائع الزهور ج 2 ص 59. (4) الضوء اللامع ج 4 ص 67، كان أبو الطيب السيوطي (828 هـ- 893 هـ) من أعيان موقعي الحكم وكان عالما فاضلا وجيها عند الأمراء وأرباب الدولة، ترجم له السخاوي (ج 11 ص 118) وذكر أنه كان يقصد السلطان والأمراء لقضاء حاجات الناس وكان يميل إلى الاحسان. (5) بدائع الزهور ج 2 ص 236.

والانقطاع إلى العبادة والتأليف. والذي يدلنا على تميز هذه الفترة من حياة السيوطي بالميل إلى العزلة والانقطاع أنه قد حاول العزلة التامة لبضعة أشهر قبل توليه مشيخة البيبرسية ترك فيها الاقراء والافتاء وقد اتهمه معاصره السخاوي بأنه بعد استقراره في البيبرسية «خمد من ثمّ بل جمد بحيث رام ستر نفسه بقوله: تركت الافتاء والاقراء وأقبلت على الله» «1». وهناك ما يلقي الضوء على هذا التحول في حياة السيوطي بعد بلوغه الأربعين، ذلك أنه قد تعرض لأزمة بينه وبين السلطان قايتباي بسبب صعوده إليه بالطيلسان، ولم يستحسن السلطان ذلك منه، وتمسك السيوطي بموقفه وكادت الأمور تسير سيرا حسنا لولا أن ابن الكركي خصم السيوطي أوفر صدر السلطان وزين له البطش بالسيوطي مما دعاه إلى أن يحجم بعد ذلك عن الصعود إلى السلطان وألف رسالة سماها «ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين»، وقد ألف في لبس الطيلسان رسالة سابقة يدعم بها موقفه واستفتى السلطان العلماء في شأن موقف السيوطي، ولكنهم لم ينصروا الحق مما دعاه إلى أن يعتزل وظائفه السابقة «2». وهنا نستطيع أن نقرر أن اعتزال السيوطي واعتكافه حين بلوغه الأربعين كما روى ذلك المترجمون له «3»، كان في الفترة التي أعقبت اعتزاله لوظائفه السابقة وقبل توليه مشيخة البيبرسية، وقد كان اعتزالا موقوتا، ولم يكن دائما كما توهم التراجم السابقة، وإلا فإننا لا نستطيع أن نفسر اعتكافه مع توليه فيما بعد مشيخة البيبرسية ومكوثه بها نحو خمسة عشر عاما (891 هـ- 906 هـ) مع مشاركته في الحياة العامة. ونحن نقول إنه مال إلى الزهد والعبادة منذ ذلك التاريخ ولكن اعتزاله

_ (1) الضوء اللامع ج 4 ص 69. (2) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 18، 19. (3) المصدر السابق ورقة 17، شذرات الذهب ج 8 ص 53، تاريخ النور السافر ص 55.

وانقطاعه عن الناس في بيته بالروضة كان في مرتين أولاهما لم تدم أكثر من بضعة أشهر كتب فيها مقامته اللؤلؤية التي تسمى أيضا «التنفيس في الاعتذار عن ترك الفتيا والتدريس». واعتزاله الثاني واعتكافه كان بعد عز له عن مشيخة البيبرسية في عام 906 هـ، وقد صمم في هذه المرة على عزلته وانقطاعه حتى وفاته عام 911 هـ. على أن المقامة التي كتبها في الاعتذار عن الافتاء والتدريس تطلعنا على الآلام التي كان يعانيها من معاصريه والأذى الذي تعرض له من بعض من يكيدون له، كما تبين لنا حالة الفساد التي ظهرت بالبيئات العلمية وجعلت الرجل يفكر في اعتزالها، وفي هذه المقامة يعتذر السيوطي إلى أصدقائه عن تركه الحياة العامة فيذكر كثيرا من الأعذار مجملها أن الزمان قد فسد وظهر به من العلامات «ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلزم العالم عندها خاصة نفسه، ويجلس في بيته ويسكت ويدع أمر الحياة من ذلك الشح المطاع، ودنيا مؤثرة، وهوى له ذو أتباع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وذلك عين الابتداع، وقد مزجت الأمانات والعهود، وكثر القائلون بالزور والشهود ... الخ» «1». ويتضح من حديث السيوطي كثير من أوجه الفساد التي عانى منها عصره والتي تطرقت إلى الحياة العلمية، كما يدافع عن نفسه ويروى أن كثيرا من علماء السلف المعروفين قد اعتزلوا الحياة العامة حين شاهدوا فسادها، ويتحدث عن اعتزاله للتدريس فيذكر أن تلامذته طبقات ثلاث: أولاها كان فيها خير، والثانية كان بها خير وشر، والثالثة كانت شرا كلها وساء حالها، وهو يحاول بذلك تصوير استشراء الفساد شيئا فشيئا. ويذكر السيوطي أن فتاواه قد ملأت الأرض وأنه أهل للفتيا وقد انتفع الناس بعلمه، ويبدو من أسلوبه العنيف في آخر رسالته مدى العداء الذي كان يناصبه أعداؤه، فهو يهاجمهم هجوما لا هوادة فيه إذ يصف نفسه وما يبذله من الجهد في العلم وما يأتي به من أمور يعجز غيره عنها ثم ينظر فيجد نفسه بعد ذلك «بين

_ (1) المقامة اللؤلؤية ص 1 (مخطوط بدار الكتب برقم 21174 ب).

راء بجهام، ورام بسهام وطاعن بكلام، وظاعن بملام، وراجم بسلام غير راحم بسلام» «1». كما يشيع في الرسالة اعتداد السيوطي بنفسه وعلمه، فهو يعبر عن ذلك نثرا ثم لا يلبث أن ينظم شعرا يقول فيه: إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر إلى أن يقول: ولست بإمعة في الرجال ... أسائل هذا وذا ما الخبر ولكنني مدره الأصغرين ... أقضى بما قد مضى ما غبر ثم يهاجم السيوطي أعداءه الكثيرين ويبدو من رسالته أنه يخص بالهجوم ابن الكركي الذي كان يشي به آنذاك عند السلطان، وكان ابن الكركي إمام السلطان قايتباي، ويشتد السيوطي في هجومه حتى يقول عن خصمه «كلما سمع مني بمسألة يجهلها أكثر النعيق، وتابع النهيق ... فيا سبحان الله ما أنت وذا هل أنت إلا مغنّ وراء الزفف ... الخ» «2». وهكذا يستمر السيوطي في مهاجمة ابن الكركي ومهاجمة غيره بأعنف أسلوب يمكن أن يكتب في الهجوم، ويعتمد السيوطي على ثروته اللغوية في هجومه الشديد وهجائه لخصومه فهو يصفهم بأنهم «حثالة حقالة حفالة رذالة بذالة نخالة سحالة وصالة هزالة نقالة غسالة بوالة زيالة ... الخ» «3». وقد أورد السيوطي في رسالته مجموعة من الأشعار صور بها نواحي الفساد التي تخللت البيئات العلمية مما جعله يؤثر الابتعاد عنها والانقطاع في بيته فمن ذلك قول الشاعر: رأيت فقيه الشكل لا علم عنده ... ويقنع من حال الفقاهة بالاسم فقلت وقد وافى بتضليع عمّة ... تضلّع جهلا ما تضلع من علم

_ (1) المقامة اللؤلؤية ص 4. (2) المصدر السابق ص 4، 5. (3) نفس المصدر ص 6.

وقول القائل: دهر علا قدر الوضيع به ... وغدا الشريف يحطّه شرفه كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلا ويطفو فوقه جيفه وقول القائل: وعاش بدعوى العلم قوم وما لهم ... من العلم حظ لا بعقل ولا نقل فوا عجبا للعلم يحرم رزقه ... عليم وللأغمار ترزق بالجهل «1» ويبدو أن حالة السيوطي النفسية وما عاناه من آلام تسبب في إذكاء نيرانها خصومة، وما آل إليه أمره بعد ترك وظائفه السابقة التي كانت تأتيه بنصيب لا بأس به من أوقافها، هذه الحالة قد دفعته لأن ينفث في رسالته تعبيرا عما يحس به داخل نفسه، وتخفيفا لآلامه. فهي تصور حالة نفسية في وقت من أوقات الشدة التي مر بها ولجأ إلى قلمه عساه يجد فيه صديقا يشكو إليه ألمه بعد أن اعتزل جميع الأصدقاء. ولا تخلو هذه الرسالة من مبالغات في وصف الفساد واتهام الخصوم، ويبدو أن الخليفة عبد العزيز المتوكل على الله الذي كان صديقا للسيوطي ومخالطا له في أكثر الأحيان قد آلمه ما آل إليه أمر صديقه، وكان يعرف عنه اعتداده بنفسه، فسعى له في تولي مشيخة البيبرسية. والواقع أن مشيخة البيبرسية- في ذلك الحين- كانت أكبر الوظائف التي يتولاها القائمون بالتدريس لأنها كانت أعظم الخوانق المصرية وأوسعها أوقافا، وأكثرها صوفية، ولا نستطيع أن ننكر أن السيوطي قد قرت عينه بهذا المنصب الجديد، وربما يكون قد سعى في سبيل الوصول إليه، ولعله كان يرى نفسه أكفأ وأصلح من غيره لأن يوضع في هذا المكان، وأيا ما كان الأمر فإن ذلك لا ينفي عنه نزعة التصوف الحقيقي التي كانت تخالط وجدانه والتي تمثلت في ميله إلى العزلة.

_ (1) المقامة اللؤلؤية ص 7.

وبالرغم من الوظائف الجليلة التي تولاها السيوطي فإنه- على ما يبدو- لم يقنع بها بل كان يرى نفسه أهلا لأن يلي من الأعمال ما هو أجل مما وصل إليه لا سيما بعد أن بلغ من العلم مبلغا، وكانت وظائف القضاء- كما أشرنا من قبل- لها شأنها في المجتمع، وكانت وظيفة قاضي قضاة الشافعية التي يمكن للسيوطي باعتباره فقيها شافعيا أن يطمح إليها في يد الشيخ زكريا الأنصاري (824 هـ- 926 هـ) وكان أسنّ من السيوطي وقد تولى هذا المنصب منذ وقت مبكر (886 هـ)، وكان معروفا بالنزاهة والعدالة والميل إلى الزهد والتمسك بالحق «1»، وقد قبل منصب القضاء بعد تمنع وإباء وقد مكث به نحو عشرين عاما حتى ضعف واعتزل بنفسه عام 906 هـ «2»، ثم أعيد إليه مرة ثانية، لذلك لم يشأ السيوطي أن ينافسه لزهده وعفته وصافته الحميدة التي جعلت منه صديقا له ومؤيدا في بعض المواقف «3» وكان سلوك الشيخ زكريا لا يدفع أحدا إلى منافسته لا سيما أنه كان عزوفا عن الدنيا غير راغب فيها، مألفا يحبه الناس ويجتمعون إليه. لم يحاول السيوطي أن ينافسه في الوصول إلى منصب القضاء برغم صلاته القوية بالخلفاء وبعض رجال الدولة لما قدمنا من أسباب، ولأن هذه المحاولة من شأنها أن تسيء إلى السيوطي وتبغضه إلى الناس وإلى أولي الأمر إذا أقدم عليها. ولكن طموح السيوطي وتطلعه إلى منصب القضاء جعله يتخذ وسيلة أخرى لذلك إذ اتصل بصديقه المتوكل على الله الخليفة العباسي في ذلك الوقت (صفر 902 هـ)، واقترح عليه أن يجعله رئيسا لجميع القضاة بمذاهبهم الأربعة، ولم تكن هذه الوظيفة معروفة بمصر آنذاك إذ إن قضاة كل مذهب كانوا يتبعون قاضي قضاة المذهب، وبذلك فإن أعلى مراتب القضاء كانت وظائف قضاة القضاة الأربعة، ولكن السيوطي أفهم الخليفة بأن وظيفته التي يقترحها كانت بمصر زمن الأيوبيين، وقد تولاها القاضي ابن بنت الأعز، وأن من حق الخليفة

_ (1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى: ترجمة الشيخ زكريا الأنصاري ورقة 23. (2) بدائع الزهور ج 4 ص 12. (3) ذيل الطبقات ورقة 24.

أن يكلها إلى من يراه أهلا لذلك، ومن ثم فإن صاحب هذه الوظيفة تكون له السلطة على قضاة القضاة الأربعة فمن دونهم. وقد مال الخليفة إلى اقتراح السيوطي، وكان السيوطي في ذلك الحين قد بلغ مكانة علمية ممتازة فضلا عن مكانته الاجتماعية ونشاطه السابق ومشاركته في الحياة العامة بمصر، وأعلن الخليفة أنه عهد للسيوطي بهذه الوظيفة في صفر عام 902 هـ «1». ولم يكن هذا التصرف- بطبيعة الحال- مرضيا للقضاة بل كان سببا لثورتهم ومعارضتهم وهاجموا الخليفة وقالوا: ليس للخليفة مع وجود السلطان حلّ ولا عقد ولا ولاية ولا عزل ولكن الخليفة استخف بالسلطان لكونه صغيرا. وكان السلطان آنذاك الناصر محمد بن قايتباي، ولم يكن يبلغ أن العشرين من عمره، وكان على ما وصفه المؤرخون به طيش وظلم، ويبدو أن الخليفة تخوف من مساعي القضاة لدى السلطان وتأليبهم السلطان عليه بحجة أنه فعل أمرا ليس من حقه، وإنما هو من حق السلطان، وقد شرحنا من قبل ما كان عليه أمر الخلافة العباسية في مصر طيلة ذلك العهد، لذلك لم يستطع الخليفة الصمود في وجه تيار الثائرين عليه من القضاة فرجع عن ذلك وتعلل بأن الشيخ جلال الدين السيوطي هو الذي حسن له ما فعل، وأشهد على الخليفة بالرجوع عن العهد الذي عهد به إلى السيوطي ويبدو من سياق ما أورده ابن إياس عن هذه القصة أن السيوطي بعلمه وعقليته الكبيرة ولما بينه وبين الخليفة من صلات طيبة قد استطاع التأثير على الخليفة وإقناعه بأن يقدم على عمل لم يكن معهودا في عصره، ولم يقدر عاقبته، ولم يحتط لما سيترتب عليه من ثورة القضاة. ولنترك جانبا هذه القصة التي تدل على طموح السيوطي إلى تولي القضاء، ولعله كان يبغي شيئا من الاصلاح، ولنتجه مرة أخرى إلى السيوطي حيث لا يزال يشغل مشيخة البيبرسية كبرى الخوانق وأوسعها أوقافا في عهده، وكانت البيبرسية تضم أكبر عدد من المتصوفة الذين تجري عليهم الأرزاق من جنى

_ (1) بدائع الزهور ج 2 ص 307.

أوقافها، وقد رأى السيوطي ما آل إليه أمر التصوف في عهده من كثرة الأدعياء الذين استمرءوا العيش داخل الخوانق دون عمل، ولم يقوموا بواجباتهم في العبادة والتخلق بأخلاق التصوف الحقيقة، لذلك فقد وجه إليهم السيوطي نصحه بأن «الصوفي من تخلق بأخلاق الأولياء ... ومن يأكل المعلوم بغير تخلق بأخلاقهم حرام» «1». وقد عمد السيوطي إلى قطع جعلية هؤلاء الصوفية، ولكنهم ثاروا عليه، وكادوا يقتلونه ثم حملوه بأثوابه ورموه في الفسقية «2»، وكانت هذه الحادثة في جمادى الآخرة عام 903 هـ، ولم يكتف الصوفية بإهانتهم للشيخ بل إنهم شكوه إلى السلطان وسعوا لديه في سبيل قتله، وقد شجعهم وأعانهم على ذلك الأمير طومان باي الذي كان يلي «الدوادارية الكبرى» ويعد صاحب المنصب الثاني في الدولة بعد السلطان، وكان بين السيوطي وبين طومان باي عداوة، وقد مر السيوطي ببعض المحن خلال هذه الأزمة، وقد سعى طومان باي جاهدا في سبيل قتله كما لم يكف أعداؤه عن تأليب ذوي الشأن من العلماء والأمراء عليه، ويبدو أن السيوطي أبدى من الشجاعة ورباطة الجأش خلال أزمته ما جعل تلميذه الشعراني يذكر أنه «لم يتغير منه شعرة واحدة» «3»، ويدافع الشعراني عن السيوطي ويهاجم الذين ثاروا عليه كثيرا حتى يقول: «إن جميع من قام على الشيخ حصل له مقت بين العباد ومات على أسوأ حال» «4». ويستدل بعض الباحثين بهذه الحادثة على فساد التصوف، وانتشار الجهل بين الصوفية الذين ارتفع قدرهم بين العامة على قدر العلماء، كما يرى أن السيوطي كان على حق في سلوكه مع هؤلاء الصوفية «5». ولم ينل أعداء السيوطي الذين انتهزوا هذه الأزمة للايقاع به ما يبتغون،

_ (1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21. (2) ابن إياس: ج 2 ص 339. (3) ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21 ص 42. (4) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21 ص 42. (5) عبد المتعال الصعيدي: المجددون في الاسلام ص 342 - 326.

ومرت الفتنة وظل السيوطي في مشيخة البيبرسية، ولم تكن هذه الحادثة سببا في فقده لمشيخة البيبرسية كما توهم كاتب ترجمته في دائرة المعارف الاسلامية «1»، وقد وقع في هذا الوهم أيضا عبد الوهاب حمودة «2»، وليس الأمر كما ذهبا إليه لأن هذه الحادثة كانت في جمادى الآخرة عام 903 هـ، وقد نص عليها ابن إياس المؤرخ المعاصر لهذه الفترة، ثم إن تركه لمشيخة البيبرسية لم يكن إلا في رجب عام 906 هـ أي بعد ثلاث سنوات من الحادثة السابقة، ولم يكن سبب تركه لها هو أصداء الحادثة المذكورة، بل كان سبب عزله من مشيخة الخانقاه كما سنرى هو تولي طومان باي السلطنة بعد أن كان يشغل منصب الدوادارية الكبرى، وحينئذ تخوف السيوطي على نفسه فاختفى في جهة غير معلومة وكان السلطان قد طلبه ليفتك به «فلما اختفى قرر السلطان الشيخ يس البلبيسي في مشيخة الخانقاه البيبرسية عوضا عن الجلال السيوطي بحكم صرفه عنها»، وقد نص على ذلك ابن اياس في حوادث جمادى الآخرة عام 906 هـ «3». وهكذا فلقد ظل الرجل بعد حادثة الصوفية في مشيخة البيبرسية بالرغم من كثرة الأذى الذي تعرض له، والثورة الجامحة التي شارك فيها أعداؤه المتربصون به والتي كادت تعصف به. ويبدو أنه قد تعرض لبعض الأذى من أعدائه بعد هذه الحادثة مما جعله ينفث ما يشعر به من ظلم في رسالته «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة» «4»، وبالرغم من اتباعه في رسالته منهجه في التأليف الذي يكثر فيه من النقول، وعلى الرغم من أن الرسالة في جملتها مجموعة من النقول والقصص التي تذكر ليكون للمؤتسي بأصحابها أسوة حسنة فإن روح الرسالة تشعرنا بمدى ما تعرض له وأحس به خلال هذه الفتنة وبعدها. وقد تطورت الأحداث بعد ذلك على غير ما يهوى السيوطي، فقد آلت

_ TheEncy clopaediaofIslam» AlSuyuti «. (1) (2) صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي ص 155. (3) بدائع الزهور ج 2 ص 391، 392. (4) تأخير الظلامة إلى يوم القيامة (مخطوط بدار الكتب المصرية).

السلطنة إلى طومان باي ألدّ أعدائه، والذي تولى كبر الحملة عليه إبان أزمته السابقة، وكان طومان باي عسوفا سفاكا للدماء كثير التدبير للمؤامرات، وقد قتل كثيرا من خصومه من أمراء المماليك أثناء حكمه، وبالرغم من ذلك فقد كان يظهر العدل في بعض الأمور مما حببه إلى العامة من الناس وإن كان يخفي في نفسه غير ما يظهر «1»، وهذه الصفات بطبيعتها كفيلة بأن تجعل رجلا مثل السيوطي يخشى على نفسه منذ اليوم الذي ولي فيه طومان باي السلطنة. لذلك اختفى السيوطي بعد توليه في عام 906 هـ «2»، وكان حصيفا في تصرفه إذ إن السلطان قد طلبه ليفتك به، وقد كثر الواشون لديه، وقد أوغروا صدره عليه مما جعله يتهدد بتقطيعه إربا إربا «3». ومكث السيوطي مختفيا منذ جمادى الآخرة عام 906 هـ، لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وفي خلال هذه الفترة فقد وظيفته بالبيبرسية إذ صرف عنها وتولى مكانه الشيخ يس البلبيسي «4». ويبدو أن السيوطي قد عانى مدة اختفائه كثيرا من الآلام لما كان يبلغه من وعيد السلطان وتهديده، بيد أنه قابل هذه المحن بالصبر والشجاعة التي أثرها عنه تلامذته الذين شاهدوه في محنته أو نقلوا عنه فيما بعد أخبار هذه المحنة. ويترجم الشعراني لشيخه السيوطي ترجمة تفيض بالحب والاعجاب، ويذكر له كثيرا من المواقف الحسنة، وما أظهره الله على يده من الكرامات، ومهما يكن من شيء في أمر الخوارق التي أوردها السيوطي، وسواء أكانت قد حدثت بالفعل أم كانت من قبيل المنقبيات فإننا نستطيع أن نستدل منها دلالات تعيننا على تعرف الأحداث التي مر بها المترجم له والمواقف التي وقفها. ومما رواه الشعراني من أخبار هذه المحنة أن أعداء السيوطي قد أججوا النار

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 4 ص 11، ج 2 ص 395، 396. (2) المصدر السابق ج 2 ص 391، 392. (3) ذيل الطبقات الكبرى ورقة 22 ص 43. (4) بدائع الزهور ج 2 ص 391، 392.

عليه عند السلطان الذي كان يضمر له الكراهية من قبل فأقسم السلطان أن يقطعه قطعا فبلغ ذلك السيوطي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن رأسه تقطع في يوم كذا وكذا، فكان الأمر كما قال «1». كما روى الشعراني عن الشيخ عبد القادر الشاذلي أن السيوطي امتحن «المحن الكثيرة وما سمعته يوما واحدا ينحو على من آذاه من الحسدة ولا يقابله بسوء وإنما يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وصنف في ذلك كتابا سماه تأخير الظلامة إلى يوم القيامة» «2». على أن دياجير الظلمة التي اكتنفت السيوطي في محنته السابقة وفرضت عليه أن يعيش فيها لم تلبث أن تبددت، وانقشعت السحب القاتمة التي ظللت سماء حياته لثلاثة أشهر، فقد دالت دولة طومان باي بعد ثورة المماليك عليه، واضطر إلى الهرب، وآلت السلطنة إلى الغوري الذي بويع في مستهل شوال عام 906 هـ وفي ذلك اليوم ظهر السيوطي بعد اختفائه وقد كفاه الله شر السلطان السابق «3». وتقبل الدنيا مرة ثانية على السيوطي فيرى بعينيه ما يحل بخصمه طومان باي إذ هرب واختفى وكثر التفتيش عنه من قبل السلطان الجديد، وظل مختفيا نحو ثلاثة أشهر ثم انتهى أمره بأن حصره المماليك في أحد المنازل وألقى بنفسه يحاول الفرار ولكنهم اهتبروه بسيوفهم ومزقوه شر ممزق «4». وقد تحول السيوطي بعد هذه المحنة تحولا كبيرا، ولا شك أن هذه الأحداث كان لها دور كبير في تحوله الأخير، ولكن الباعث على هذا التحول كان كامنا في نفسه من قبل، فلقد سبق له أن اعتزل الناس واعتكف في بيته فترة من الوقت بعد بلوغه الأربعين واعتزاله وظائفه، ثم إن اتجاه الزهد والانقطاع كان مؤثرا في حياته طيلة المدة التي تولى فيها مشيخة البيبرسية، بالرغم من مشاركته في الحياة العامة وإسهامه في النفع العام بالتدريس حيث ظل إلى ذلك الحين يملي الحديث

_ (1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21، 22 ص 42، 43. (2) المصدر السابق ورقة 22 ص 43. (3) ابن إياس: بدائع الزهور ج 4 ص 5. (4) المصدر السابق ج 4 ص 9، 10.

العزلة الأخيرة:

بالجامع الطولوني «1» وكان يتردد على المسجد كما سبقت الاشارة يوم الجمعة من كل أسبوع. العزلة الأخيرة: ولكنه بعد هذه المحنة اتجه إلى الاعتكاف واعتزال الناس، ونحن نقرر أن اعتزاله واعتكافه الذي ذكره المترجمون له إنما كان بعد هذه المحنة في عام 906 هـ، ويصف المترجمون ذلك بأنه «لمّا بلغ أربعين سنة أخذ في التجرد للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى والاشتغال به صرفا، والاعراض عن الدنيا وأهلها كأنه لم يعرف أحدا منهم، وشرع في تحرير مؤلفاته وترك الافتاء واعتذر عن ذلك في مؤلف سماه بالتنفيس، وأقام في روضة المقياس فلم يتحول منها إلى أن مات» «2». فصاحب هذا النص وغيره من المترجمين «3»، يوقتون انقطاع السيوطي واعتكافه وميله للعزلة ومقامه بالروضة ببلوغه الأربعين، وقد سبق أن رأينا أن ذلك يتنافى مع ما قدمنا من ترجمة حياته بعد الأربعين وتوليه مشيخة البيبرسية وقيامه بالقاء الدروس بالجامع الطولوني وغير ذلك من أنواع الأنشطة، وأظهر من ذلك سعيه لتولي منصب رئاسة القضاء. والحق أن ما يذكره أصحاب هذه التراجم من أمر هذا الاعتكاف إنما كان بعد المحنة الأخيرة التي واجهها السيوطي عام 906 هـ وهو في السابعة والخمسين من عمره، ومنذ ذلك الحين اتجه إلى الاعتكاف تماما وابتعد عن المشاركة في الحياة العامّة، وانقطع للعبادة والتأليف بمنزله بالروضة حتى وافته المنية.

_ (1) أحكام قراقوش، رسالة مخطوطة ضمن مجموعة رسائل برقم 25 مجاميع قوله، وفي مقدمتها ما يدل على أنه كان إلى عام 899 يختلف إلى المسجد الطولوني ورقة رقم 167. (2) شذرات الذهب ج 8 ص 53. (3) ذيل الطبقات الكبرى ورقة 17، 18، ص 34، 35.

وقد زهد السيوطي في الحياة ورغب عن المناصب التي كان يشغلها من قبل أو التي حدثته نفسه بالطموح إليها في وقت من الأوقات، وصمم هذه المرة وقد بلغ السابعة والخمسين من عمره على أن يعتكف في بيته وأن يبتعد عن الحياة بما فيها من زينة بدت زائفة أمام عينيه، وما بها من مظاهر أصبحت نفسه لا تطيقها، لا سيما أنه رجل صوفي درس التصوف وانطبعت به نفسه فأحب أن يطبق الجانب العملي منه بعد أن أحاط بالجانب النظري، فالتصوف كما يعرفه أهله علم وعمل، ولا يجوز للمتصوف الحقيقي أن يسلك أحدهما دون الآخر وإلا كان عمله مبتورا. ونحن نقرر هنا أن الرجل الذي دافع عن التصوف طيلة حياته، وألف فيه عديدا من الكتب والرسائل وولى مشيخته في بعض الخوانق قد أراد أن يسلك طريق الصوفية عملا بالتجرد والزهد والاعتكاف، والانقطاع إلى الله والعبادة. ولم يكن هذا الاتجاه- في حقيقة الأمر- شاغلا للسيوطي عن العلم والمشاركة فيه بل إنه ألف في هذه الفترة من حياته كثيرا من المؤلفات، وقد أتاح له الاعتكاف والاعتزال والابتعاد عن الحياة بمشاغلها الفرصة للعلم والتأليف. وكان السيوطي يقيم في منزل يطل على النيل بجزيرة الروضة بجنوب القاهرة، وكانت جزيرة الروضة من الأماكن المفضلة في السكنى آنذاك، وقد أشاد السيوطي بالروضة وجمالها وفضلها في السكنى على غيرها من الأحياء الأخرى «1»، بيد أنه بعد اعتكافه الأخير وانقطاعه كلية في منزله بها لم يكن يفتح طاقات بيته المطلة على النيل «2». وتجلت صور العزوف عن الدنيا وأهلها وزينتها وسلطانها في سلوك السيوطي في عزلته الأخيرة حين كان يأتي الأمراء والأغنياء ويعرضون عليه الأموال فيردها، وحين أرسل إليه الغوري خصيا وألف دينار فأخذ الخصي وأعتقه وجعله خادما في الحجرة النبوية، وردّ الألف دينار وقال لقاصد السلطان: لا تعد تأتينا قط

_ (1) مقامة الروضة: روضة مصر، مقامات السيوطي ص 63 - 68. (2) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 18 ص 35.

بهدية فإن الله أغناني عن مثل ذلك «1»، وقد كان السيوطي يرى منذ وقت مبكر في حياته وبعد اصطدامه بالسلطان قايتباي أن عدم التردد إلى السلاطين والأمراء أسلم للمسلم وكذلك رد أموالهم عليهم. وفي هذه الفترة الأخيرة من حياة السيوطي عرض عليه الغوري أن يلي مشيخة مدرسته التي ابتناها بالقبة الزرقاء فلم يقبل، ويبدو أن السلطان قد ألح عليه، ولكن الرجل قد ثبت على رأيه وآثر البقاء في عزلته «2». ولقد كان السيوطي يحاول أن يعتزل منذ وقت مبكر، وكان ينفث في كتاباته ما يدل على ميله إلى الزهد وإحساسه بدنو الأجل، فهو حين يترجم لنفسه وقد كتب هذه الترجمة وهو في الحلقة الخامسة من عمره يقول بعد أن يعدد العلوم التي حصلها وأنه اكتملت لديه آلات الاجتهاد: «أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى لا فخرا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر، وقد أزف الرحيل، وبدا الشيب وذهب أطيب العمر» «3». وظل السيوطي في عزلته وانقطاعه إلى العبادة والتأليف، وابتعاده عن الحياة العامة بالرغم من ميل السلطان الغوري إلى إشراكه في الحياة العامة وتوليته بعض المناصب لما كان يكنه له من إكبار في نفسه، حتى إذا ما انقضت سنوات ثلاث على هذه العزلة وتوفي الشيخ يس البلبيسي شيخ البيبرسية (ذو الحجة عام 909 هـ) «4»، عرض على السيوطي أن يعود مرة ثانية إلى وظيفته السابقة ولكنه رفض «5». وقد كان السيوطي في هذه المرحلة الأخيرة من حياته يسلك المسلك العملي للصوفية وقد أعرض عن الدنيا وأهلها وامتنع عن الذهاب إلى الأمراء والسلاطين، وقد روي أنه سئل أن يقضي حاجة لإنسان عند الغوري، وكان

_ (1) المصدر السابق ورقة 18 ص 36، شذرات الذهب ج 8 ص 53. (2) ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21 ص 41. (3) حسن المحاضرة ج 1 ص 190. (4) ابن العماد: شذرات الذهب ج 8 ص 43 ترجمة البلبيسي. TheEncy clopaediaofIslam» AlSuyuti «. (5)

وفاته:

الغوري يقدره ويعرف مكانته، ولكنه اعتذر عن ذلك بأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ويخشى على نفسه أن يجتمع بالغوري فيحتجب النبي صلى الله عليه وسلم عنه «1»، ونحن لا نستبعد صدور مثل هذا القول عن السيوطي، فليست القصة من قبيل المنقبيات التي رواها له الشعراني، فقد ألف السيوطي رسالة في «إمكان رؤية النبي والملك» سماها بتنوير الحلك «2»، وقد حشد فيها كثيرا من الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين والأولياء التي يستدل بها على إمكان ذلك، كما أورد أسماء كثيرين ممن وقعت لهم هذه المكاشفات، وبالرغم من أنه لم يصرح في رسالته بحدوث الرؤية له، فإن ما ذكره ودافع عنه يشهد لصحة ما نذهب إليه من صدق نقل الرواية السابقة عنه. ولست هنا بصدد مناقشة صحة الموضوع فذلك لا يفيدنا في شيء، وإنما يهمنا ما يوحي به من دلالات وما يفسره لنا من الاتجاه الذي سار فيه الرجل في المرحلة الأخيرة من حياته وهو اتجاه التصوف العملي. وفاته: لبث السيوطي في المرحلة الأخيرة من حياته على حاله التي قدمنا تفصيلها حتى وافاه أجله سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى عام 911 هـ الموافق (18 أكتوبر عام 1505 م) وكان مرضه سبعة أيام بورم شديد في ذراعه اليسرى يقال إنه خلط أو انحدار، وقد استكمل من العمر إحدى وستين سنة وعشرة أشهر وثمانية عشر يوما، وكان له مشهد عظيم، ودفن بحوش قوصون خارج باب القرافة من جهة الشرق، وقبره ظاهر وعليه قبة «3». وقد ذكر ابن اياس هذا التاريخ نفسه بيد أنه جعل وفاته يوم الخميس، كما أخطأ في حساب عمره حيث جعله اثنين وستين عاما وأشهرا «4». والصحيح ما

_ (1) ذيل الطبقات الكبرى ورقة 14 ص 28. (2) الرسالة بكتاب الحاوي للفتاوي ج 2 ص 437 - 460. (3) ذيل الطبقات الكبرى ورقة 23 ص 45، شذرات الذهب ج 8 ص 55. (4) ابن إياس ج 4 ص 83.

قبر السيوطي:

تقدم ذكره، وقد ذكر ابن اياس أن بعض الناس اشترى قميصه للتبرك به بعد موته «1»، وهذا يدل على حسن اعتقاد الناس فيه. قبر السيوطي: لأحمد تيمور رسالة بعنوان «تحقيق قبر السيوطي»، ويبدو أن الدافع الذي حمله على كتابه بحثه ما تذهب إليه العامة من وجود قبر السيوطي في أسيوط في ضريح بأحد المساجد المسماة باسمه، فكان بعض من يسمع أنه دفن في حوش قوصون يتوهم دفنه في أشهر المسجدين فقام ببحثه تصحيحا لهذه الأخطاء وتصحيحا لخطأ وقع في خطط علي مبارك «2». وقد تتبع تيمور ما قيل في وفاة السيوطي وموضع دفنه «3»، وتكلم عن تاريخ القرافة الكبرى والقرافة الصغرى بالقاهرة وعن قرافة الإمام وحوش قوصون «4»، وينتهي المحقق بعد ذلك إلى أن «الذي دلت عليه هذه النصوص والآثار وطابقه أيضا المعروف عن موضع قبره الآن أنه مدفون في هذه البقعة الواقعة شرقي باب القرافة المعروف اليوم عند العامة ببوابة السيدة عائشة، وعند بعضهم ببوابة حجاج خطأ، فإذا خرج قاصد زيارته من هذا الباب متجها إلى الشرق وسار قليلا مجتازا السكة الحديد الذاهبة من قراميدان إلى طرا اعترضه في أول هذه الجبانة شارع ممتد من الشمال إلى الجنوب الشرقي كتب على ألواحه (شارع القرافة الكبرى)، ثم يواجهه شارع خارج منه إلى جهة الشرق كتب عليه (شارع سيدي جلال)، والمراد جلال الدين السيوطي لأنه مفض بسالكه إلى حوش قوصون الذي دفن فيه، وقبره مشهور عند أهل هذه الناحية، يعرفه الخلف عن السلف من زمن وفاته إلى اليوم لا يشك في ذلك شاكّ، ويرجع الفضل في حفظه من الدثور كل هذه المدة إلى حسن اعتقاد الناس فيه، وقصدهم إياه بالزيارة كل حين، وكانوا يقيمون له حضرة كل أسبوع ثم أبطلوها واقتصروا على المولد الذي اعتادوا عمله كل سنة

_ (1) المصدر السابق ج 4 ص 83. (2) مقدمة محيي الدين الخطيب لكتاب تحقيق قبر السيوطي ص 3. (3) أحمد تيمور (باشا): تحقيق قبر السيوطي ص 4 - 6. (4) أحمد تيمور: تحقيق قبر السيوطي ص 7 - 15.

صفة المقام:

في نصف شعبان» «1». كان هذا زمن المرحوم أحمد تيمور، أما الآن فقد أبطلت الحضرة والمولد ونزع قضيب السكة الحديد، وقد ذكر تيمور زيارة النابلسي للقبر في أوائل القرن الثاني عشر حيث ذكر أنه مدفون وحوله قبور، وهو ما عليه الحال إلى وقتنا. صفة المقام: أما صفة المقام فهو زاوية متوسطة يقع القبر فيها بجوار حائط القبلة في مقصورة من خشب تحت قبة صغيرة وفوقه تابوت مغطى بستر أخضر مطرز بآيات كريمة وعلى باب الزاوية من الخارج لوح رخام نقش عليه: «هذا مسجد العارف بالله سيدي جلال الدين الأسيوطي رحمه الله»، وفوق هذا اللوح لوح آخر لا صلة له بهذا المقام مكتوب فيه: «العرب والعجم والعز والنعم سنة 1211»، والظاهر من هيئته أنه بقية لوح كان على أحد القبور فنقله بعض العوام إلى هذا المكان وليس تاريخ عمارة كما ظن علي مبارك «2». هذا ملخص ما ذكره تيمور، وقد قمت بزيارة القبر والضريح وقد وجدت هذا الوصف لا يزال باقيا كما ذكره المحقق السابق، والجدير بالذكر أن الزاوية بها قبور من الداخل، وقد منع الدفن فيها منذ أعوام قلائل، وخارج الزاوية توجد قبور كثيرة لا يزال الدفن بها قائما إلى الآن. وجدير أن نلفت إلى أن المسجد الموجود بمدينة أسيوط إلى الآن والمعروف باسم جلال الدين السيوطي، وبه ضريح تزعم العامة أنه له، ومن عاداتهم اقامة مولد له كل عام، ليس له صلة بالجلال السيوطي، وليس به قبره، والمسجد قد أنشئ قبل السيوطي في القرن الثامن الهجري، والنسبة حدثت خطأ «3».

_ (1) المصدر السابق ص 16. (2) نفس المصدر ص 20، 21. (3) أحمد تيمور: تحقيق قبر السيوطي ص 23 - 24.

مكانه في المجتمع

مكانه في المجتمع سبق أن أشرنا إلى ما كانت تتمتع به طبقة أهل العلم في المجتمع إذ كان لأبنائها مكانة رفيعة بالمجتمع جعلتهم المعبرين عن الشعب والمدافعين عن حقوقه لدى الحكام، كما اتخذهم الناس وسطاء لقضاء حوائجهم. وقد كان والد السيوطي من أبناء هذه الطبقة تمتع بما تمتعت به، بالاضافة إلى ما كان له من صلات طيبة بخلفاء بني العباس بمصر، وكانت صلته أكثر توثقا بالخليفة المستكفي بالله وقد بقيت هذه الصّلات الطيبة بعد وفاة والد السيوطي فنشأ منذ صغره مقربا إلى بيوت الخلفاء العباسيين. وقد كان كمال الدين بن الهمام وصيا عليه بعد وفاة والده، وكان كمال الدين من كبار فقهاء الحنفية وقد ولي مشيخة الشيخونية حتى عام 858 هـ، وتوفي في عام 861 هـ «1»، وقد أعان السيوطي في بداية حياته وقرره في الخانقاه الشيخونية. وقد استطاع السيوطي بعد أن أتم دراسته، وأجيز بالتدريس أن يأخذ مكانا ذا قدر في المجتمع، وبعد تصديره في عام 876 هـ، أصبح يعد من كبار علماء عصره. وقد ظلت مكانته- بطبيعة الحال- في تزايد وعلو، وكان له شأن وتأثير في المجتمع طيلة حياته، ونستطيع هنا أن نورد بعض الأمثلة التي تدل على أهميته في الحياة العامة واعتباره رجلا له قدره وكلمته المسموعة في المجتمع. وأول الأحداث العامة التي كان له فيها دور مشهود ما حدث في بداية عام 875 هـ من جدل بين العلماء حول أقوال ابن الفارض، إذ تعصب عليه جماعة من العلماء ورموه بالكفر والفسق ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد، وكان

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 59.

«رأس من تعصب على الشيخ عمر بن الفارض برهان الدين البقاعي، وقاضي القضاة محب الدين بن الشحنة وولده عبد البر، ونور الدين المحلي، وقاضي القضاة عز الدين المحلي، وتبعهم جماعة كثيرة من العلماء يقولون بفسقه، وأما من تعصب من العلماء للشيخ فهم الشيخ محيي الدين الكافيجي الحنفي، والشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي، والشيخ بدر الدين بن الغرس، ونجم الدين يحيى بن حجي وشيخنا الجلال بن الكمال الأسيوطي والشيخ زكريا الأنصاري وتاج الدين بن شرف» «1». وهكذا وقف السيوطي بين مجموعة من كبار علماء عصره يدافع عن ابن الفارض، فوقف إلى جانب شيخيه الكافيجي والسيف الحنفي، وقد ألف الكافيجي في الدفاع عن ابن الفارض، وألف السيوطي رسالة سماها «قمع المعارض في نصرة ابن الفارض» ويذكر أن العلماء قد وقع بينهم صدامات عنيفة حول هذا الموضوع، وتعرض البقاعي وابن الشحنة لهجوم عنيف من أنصار ابن الفارض، وقد هجا الشهاب المنصوري شاعر عصره البقاعي بقوله: إن البقاعيّ بما ... قد قاله مطالب لا تحسبوه سالما ... فقلبه يعاقب «2»، وهجاه بقصيدة أخرى، وقد تعصب السلطان وبعض الأمراء لابن الفارض، وقد استفتى السلطان الشيخ زكريا الأنصاري في هذه المسألة فأفتاه بتبرئة ابن الفارض مما نسب إليه، وأن للصوفية تعبيراتهم ومصطلحاتهم الخاصة بهم، والتي لا ينبغي أن تؤخذ ألفاظهم فيها على ظاهرها، وقد انتهت هذه الفتنة بانتصار العلماء الذين دافعوا عن ابن الفارض ومن بينهم السيوطي انتصارا كبيرا.

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 119. (2) المصدر السابق ج 2 ص 119، وهو يريد أنّ لفظ «يعاقب» هو مقلوب لفظ «بقاعي» ويتصور أن في ذلك دلالة على عقابه بسبب هجومه على ابن الفارض، وتدل هذه الحادثة على مكانة التصوف في المجتمع ونصرة الحكام لأهله، فضلا عن تعصب العوام للصوفية، وهو ما جعل الصراع غير متكافئ بين أنصار ابن الفارض وأعدائه.

ولقد ساعد على هذا الانتصار اعتقاد العوام البالغ في الشيخ عمر بن الفارض حتى ذكر أنهم حاولوا قتل البقاعي ورجموه بالحجارة، كما أن السلطان انتصر له وعزل ابن الشحنة من القضاء «1» وتدلنا هذه الحادثة على منزلة السيوطي منذ بداية حياته العلمية بين العلماء، ومشاركته في الأحداث العامة، والحقيقة أن السيوطي كانت له مبادئ وآراء تمسك بها طيلة حياته ودافع عنها، وقد نصب من نفسه مدافعا عن رجال التصوف المعروفين فصار ينفي عنهم كل شبهة أثيرت حولهم ويحاول أن يبين التزامهم بالكتاب والسنة وموافقتهم في مسالكهم لهما. فهو لا يفتأ يذكر بعد ذلك في موضع آخر أنه «ما زالت العلماء ومحققو الصوفية يبينون بطلان القول بالحلول والاتحاد، وينبهون على فساده، ويحذرون من ضلاله» «2». وغدا السيوطي عالما يشار إليه بالبنان في القاهرة منذ ذلك الوقت، وقد وردت عليه كثير من الأسئلة التي أجاب عليها أحسن إجابة، واستفتى في كثير من المعضلات فأفتى فيها، ومن الأسئلة المبكرة التي تدل على تمكنه وشهرته وذكائه وعقله ما ورد إليه عام 876 هـ، وهي مجموعة من الألغاز العلمية المنظومة طلب إليه أن يجيب عنها نثرا ونظما فأجاب أصوب جواب «3». وقد طبقت فتاوى السيوطي بلاد مصر والشام وسائر بلاد الاسلام «4»، وانتشرت كتبه في حياته وانتفع بها الناس، ونلاحظ في فتاواه وكتاباته الكثيرة انتقادا لكثير من نواحي الحياة في المجتمع وحثا على الاصلاح، ومن أوضح الأمثلة على ذلك فتواه بهدم أحد البيوت التي أقيمت إلى جوار أحد المساجد

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 120، 121. (2) السيوطي: تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد، رسالة ضمن كتاب الحاوي للفتاوي ج 2 ص 236. (3) الأجوبة الزكية عن الألغاز السبكية، رسالة له طبعت بالحاوي ج 2 ص 493. (4) انظر مثلا رسالته: المباحث الزكية في المسألة الدوركية، وهي استفتاء عن وقف بإحدى بلاد خوزستان، الحاوي للفتاوي ج 1 ص 253، انظر رسالته: فتح المطلب المبرور وبرد الكبد المحرور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور، الحاوي ج 1 ص 451.

واتخذها صاحبها لايواء المفسدين من الزناة وغيرهم، وصارت مقصدا لأهل اللهو والعبث، فأفتى السيوطي بهدمها وكتب في ذلك رسالته «هدم الجاني على الباني» «1». وكانت كتابات السيوطي في حياته موضع اهتمام عامة الناس وخاصتهم، وكانت فتاواه تحظى بهذا التقدير، وكان السلاطين يقدرونه تقديرا بالغا ويعرفون له منزلته، ويتّبعون ما يفتى به أو يشير إليه، ففي عام 896 هـ، ذاع بين الناس فتوى السيوطي بعدم جواز البناء على ساحل الروضة لأن الاجماع منعقد على منع البناء في شطوط الأنهار الجارية «2» وقد كتب في ذلك رسالة سماها «الجهر بمنع البروز على شاطئ النهر» «3»، وقد أذعن لهذه الفتوى القضاة في عصره بعد أن أرسلها إليهم، وقد نظم السيوطي هذه الرسالة في منظومه سماها «النهر لمن برز على شاطئ النهر» «4»، وقد أرسل السيوطي بفتواه إلى السلطان «فأحاط بذلك علما وتوعد أهل البروزات منعا وهدما» «5». وكانت صلة السيوطي طيبة بالسلطان قايتباي الذي عاصره أطول فترة في حياته، وكانت العادة في التهاني أن يصعد إلى السلطان قضاة القضاة وأعيان الدولة لتهنئته بالأعياد أو بأول كل شهر هجري وكان السيوطي ممن يصعد مع القضاة، وكان يفتقد من قبل السلطان إذا تخلف عن الصعود، وفي إحدى المرات وجه السلطان مسألة للسيوطي عن سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها، وسكت الجلال السيوطي ولم يجب وأجاب بعد ذلك في رسالة وكان السلطان عنده كتاب يسمى «حيرة الفقهاء» وكان الجواب عن ذلك هو: الأذان، ويبدو أن سكوت السيوطي مرجعه أن الأصح أن الرسول لم يؤذن إلا عند من يقول بصحة الخبر بأنه أذن في وقت ما، وقد أضاف السيوطي إلى ذلك ذكر بعض

_ (1) الحاوي للفتاوي ج 2 ص 177. (2) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 271. (3) الجهر بمنع البروز على شاطئ النهر: رسالة له ضمن كتاب الحاوي ج 1 ص 208. (4) المصدر السابق ج 1 ص 226. (5) نفس المصدر ج 1 ص 226.

السيوطي بين أنصاره وخصومه:

السنن التي سنها الرسول ولم يفعلها «1». بيد أن علاقته لم تلبث أن تغيرت بعد صعوده في إحدى المرات وهو يلبس الطيلسان، وقد تقدم ذكرها، وقد أذكى نيران الوقيعة بينهما ابن الكركي الذي كان خصما للسيوطي وقد انتهى الأمر بأن امتنع السيوطي عن تهنئة السلطان أو الذهاب إليه وظل على تمسكه بهذا المبدأ بقية حياته فأصبح لا يقصد السلاطين والأمراء ولا يسعى إليهم، لأنه كان يرى أن السنة عدم سعي العلماء إلى السلاطين، ومن ثم فقد أصبح السلاطين والأمراء هم الذين يقصدونه ويسعون إلى زيارته أو يرسلون إليه الرّسل. وهكذا تمتع بمنزلة سامية بين أبناء عصره: حكامهم ومحكوميهم، وكان في القاهرة علما بارزا من أعلامها، ومؤثرا كبيرا في حياة أبنائها، كما كان معروفا في سائر بلاد الاسلام. السيوطي بين أنصاره وخصومه: ومن الطبيعي أن تجر عليه هذه الصلات، وتلك المكانة بعض العداوات التي تفرضها طبيعة الصراع والتنافس بين الناس في هذه الحياة، لذلك كانت حياته مليئة بالصراع بينه وبين بعض علماء عصره وأمرائه، وقد كانت بداية خصوماته منذ ذلك الوقت الذي وقف يدافع فيه عن ابن الفارض ويهاجم أعداءه، بيد أن الخصوم الذين صمدوا في وجهه طويلا يناضلونه كانوا غير أولئك الذين هاجمهم وانتصر عليهم من قبل. وهناك حادثة أخرى يذكر أنها من أوائل الوقائع «2» التي تعرض فيها لهجوم عنيف من قبل علماء عصره وتلك هي فتواه بتحريم الاشتغال بعلم المنطق وكتبه، ويبدو أن كتابه «صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام»، الذي اعتمد فيه على كتاب ابن تيمية في الرد على المنطق كان من أول مؤلفاته التي

_ (1) بدائع الزهور ج 2 ص 280، حوادث عام 899 هـ. (2) الشعراني: ذيل الطبقات ورقة 3 ص 6.

هاجم فيها المنطق الأرسطي، ومن أوائل مؤلفاته بصفة عامة، وقد تعرض بسببه لحملة من بعض العلماء كما أشار السخاوي «1»، وعلى أية حال فقد تمسك السيوطي بأقواله وأبداها في كل موضع، وجهر برأيه، ولم يأبه بخصومه «2». ثم إن الرجل بعد أن استحصدت قوته وارتفعت درجته، وكثرت وظائفه تألب عليه بعض منافسيه وأقرانه من العلماء وطعنوا في مواهبه وعلمه ومؤلفاته، وتحاملوا عليه، ورموه بما ليس فيه، وبالغوا في تصوير عيوبه، وعين السخط تبدي من المساوي ما لا تبديه عين الرضا، والمعاصرة كما يقول أهل الجرح والتعديل حجاب، فينبغي أن تؤخذ أقوال المتعاصرين بعضهم في بعض بحذر شديد. وقد انقسم عصر السيوطي إلى معسكرين: أحدهما يقوده السخاوي (903 هـ)، ومن أنصاره برهان الدين بن الكركي (922 هـ)، الذي كان إماما للسلطان، والشمس الجوجري والقسطلاني، وشمس الدين الباني وتلاميذ هؤلاء الكثيرون وأتباعهم. والمعسكر الآخر يقوده السيوطي ومن أنصاره الفخر الديمي، والشيخ أمين الدين الأقصرائي، وزين الدين قاسم الحنفي، وسراج الدين العبادي، وغيرهم وتلاميذهم الكثيرون. ولبثت الخصومة بين الفريقين زمنا طويلا، بل إن هذه الخصومة قد استنفدت أعمار هؤلاء جميعا، والذي نلاحظه في كتابات الفريقين المتنوعة والمختلفة تأثرها بهذه الخصومة، فلا نلبث أن نجد بين حين وآخر عبارة أو عبارات يقصد بها الخصوم ردا عليهم أو قدحا فيهم. وقد ألف السيوطي في الانتصار لنفسه ومهاجمة خصومه مجموعة من الرسائل فضلا عن هجومه في كثير من كتاباته الأخرى، وأهم ما ألفه «الكاوي في الرد على السخاوي»، و «الجواب الذكي عن قمامة ابن الكركي» و «الصارم الهندكي في عنق ابن الكركي»، وله في الرد على الجوجري «الحبل الوثيق في نصرة الصديق»، وقد هاجمهم أيضا في رسالته «التنفيس في الاعتذار عن الفتيا

_ (1) الضوء اللامع ج 4 ص 66. (2) القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق: رسالة ضمن كتاب الحاوي للفتاوي ج 1 ص 393 - 397، والرسالة مخطوطة ضمن مخطوط بدار الكتب برقم 21606 ب.

والتدريس»، وفي «مسالك الحنفا في والدي المصطفى»، وفي كثير من المواضع الأخرى. وقد تعرض السيوطي لهجوم عنيف من قبل خصومه كما تعرض لكيدهم له لدى أولي الأمر وقد ترجم له السخاوي ترجمة مظلمة في كتابه «الضوء اللامع»، ووجه إليه مجموعة من الاتهامات والانتقادات كما غمزه في مواضع كثيرة، وأهم هذه الانتقادات ما يتصل بسرقة المؤلفات فلقد ادعى السخاوي أن السيوطي قد اختلس منه حين كان يتردد إليه كثيرا مما عمله «كالخصال الموجبة للضلال، والأسماء النبوية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وموت الأبناء، وما لا أحصره، بل أخذ من كتب المكتبة المحمودية وغيرها كثيرا من التصانيف التقدمة التي لا عهد لكثير من العصريين بها في فنون فغير فيها يسيرا وقدم وأخر ونسبها لنفسه، وهوّل في مقدماتها بما يتوهم منه الجاهل شيئا مما لا يوفي ببعضه» «1». كما ذكر السخاوي أن هناك مؤلفات للسيوطي اختلسها من مصنفات ابن حجر وهي «لباب النقول في أسباب النزول، وعين الاصابة في معرفة الصحابة، والنكت البديعات على الموضوعات، والمدرج إلى المدرج، وتذكرة المؤتسى بمن حدث ونسى، وتحفة النابه بتلخيص المتشابه، وما رواه الواعون في أخبار الطاعون، والأساس في مناقب بني العباس، وجزء في أسماء المدلسين، وكشف النقاب عن الألقاب، ونشر العبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير» «2»، ويعقب على ذلك قائلا: «فكل هذه تصانيف شيخنا، وليته إذ اختلس لم يمسخها، ولو نسخها على وجهها لكان أنفع وفيها مما هو لغيره الكثير» «3». تلك أهم الاتهامات التي وجهت إلى السيوطي من قبل أكبر خصومه، ولم يكتف السخاوي بهذه التهمة بل وجه إليه عديدا من الانتقادات القاسية منها أنه كثير المجازفة، وأنه كان يكذب في بعض الأحيان، ومنها أنه كثير الادعاء، يقع

_ (1) الضوء اللامع ج 4 ص 66. (2) الضوء اللامع ج 4 ص 68. (3) المصدر السابق ج 4 ص 68.

في كثير من التصحيف والتحريف لكونه لم يزاحم الفضلاء في دروسهم بل استبد بأخذه من بطون الدفاتر والكتب «1»، كما أنه سريع الكتابة معروف لدى السخاوي بالهوس ومزيد الترفع حتى على أمه، كذلك ترفعه على شيوخه ومن أسدى إليه المعروف «2»، كما هوجم أقسى الهجوم في دعواه بلوغ درجة الاجتهاد المطلق. وإذا كان السخاوي قد وجه إليه هذه التهم القاسية وأشباهها فإن أنصار السخاوي لم يفتئوا أيضا يهاجمونه ويكيدون له، فقد كاد له ابن الكركي عند السلطان إبان حادثة الطيلسان التي أشرنا آنفا إليها «3». وإن يكن السيوطي قد عانى في حياته من كيد خصومه الكثيرين له وهجومهم عليه، وانتقادهم له فإنه- في حقيقة الأمر- كان أقوى منهم عريكة، وأشد بأسا، ولقد كانت قسوة الهجوم عليه كما يتضح في بعض مواضع ترجمة السخاوي له محاولة للرد على انتقاداته القاسية لخصومه وهجومه عليهم وانتقاصه لهم. ولئن كان قلم السيوطي سيالا كثير الانتاج فلقد وجهه إلى التعبير عن كل شيء يريده ومن هنا فلقد خصص جملة من رسائله لمهاجمة خصومه، كما أن رسائله الأخرى التي لم يخصصها لهذه المعارك لم تخل من تنقصهم ومهاجمتهم في أحيان كثيرة، وكما ترجم السخاوي للسيوطي فإن الأخير لم ينس أن يترجم له، بيد أن هذه الترجمة كانت موجزة، ويبدو أن السيوطي لم يفصل الهجوم في ترجمته اعتمادا على كتاباته الكثيرة التي فوّق سهامها إلى أعدائه. وقد ذكر السيوطي عن السخاوي أنه لا يحسن من غير الفن الحديثي شيئا أصلا، وأنه قد أكب على التاريخ- وهو يقصد بالتاريخ تراجم الرجال- «فأفنى فيه عمره، وأغرق فيه عمله، وسلق فيه أعراض الناس، وملأه بمساوئ الخلق وكل ما رموا به ان صدقا وإن كذبا، وزعم أنه قام في ذلك بواجب، وهو الجرح والتعديل، وهذا

_ (1) نفس المصدر ج 4 ص 68. (2) نفس المصدر ج 4 ص 69، 70. (3) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 18 - 20، ص 36 - 40.

جهل مبين وضلال وافتراء على الله، بل قام بمحرم كبير، وباء بوزر كثير ... وأنا نبهت على ذلك لئلا يغتر به أو يعتمد على ما في تاريخه من الإزراء بالناس خصوصا العلماء ولا يلتفت إليه» «1»، وسنرى بعد قليل أن السيوطي كان على جانب كبير من الصواب فيما اتهم به تراجم السخاوي التي كان صاحبها شديد القسوة في أحكامه على من يترجم لهم، ولم تخل من اتباع الهوى في بعض الأحيان. ويكتب السيوطي ستة رسائل حول موضوع أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم يتعرض في جميعها لمسألة أحب التنبيه إليها وتأكيدها، وهي القول بنجاتهما من النار وأنهما من أهل الجنة، ويبدو أن السخاوي قد عارض السيوطي فيما ذهب إليه، أو أنه توقف في هذه المسألة ولم يجب فيها باثبات النجاة أو نفيها كما صرح في آخر ترجمته للسيوطي وقد هاجمه السيوطي هجوما شديدا في بعض رسائله، وأكثر الهجوم في مقامته السندسية حيث يقول: «ليث شعري ما الذي أنكره علي وفوق بسببه سهامه إليّ، أترجيح جانب النجاة، أما لي فيه من سلف صالح؟ أما تقدمني إليه من أئمة كل منهم لو وزن بالجبال فهو عليها راجح؟ فإن اعتذر بعدم الوقوف كان عذره جليا ... إلى أن يقول من نظمه: شحّ السخاوي بالانجاء يذكره ... عن والدي سيد الأنباء والأمم إن عزّ أن يبلغ البحر الخضم روى ... يا ليته يستقي من وابل الديم» «2» وقد استمر السيوطي في هجومه بأسلوب سيال وحجج قوية كما تعرض في هذه المقامة لمجموعة من المسائل التي كانت مثارا للخلاف بينه وبين خصمه موجها إليه أقسى الانتقادات معتمدا فيها يورده ويحتج به على الأدلة النقلية والعقلية وقد أشار فيها إلى إنكار السخاوي إمكان رؤية الأنبياء يقظة من قبل الأحياء وقد كان السيوطي أفتى بامكانها وقد شدد السيوطي عليه النكير وذهب إلى أن قول السخاوي يجره إلى التكفير، وعندئذ أحجم السخاوي عن إنكاره

_ (1) نظم العقيان في أعيان الأعيان ص 152، 153. (2) المقامة السندسية في النسبة المصطفوية ص 12، 13 من ط. حيدرآباد، ص 93 من ط الجوائب.

وتأول ما قاله «1»، وكان السخاوي قد ألف في إنكاره على السيوطي مؤلفا سماه «الإرشاد والموعظة لزاعم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في اليقظة» «2»، وكان ذلك سببا في أن يؤلف السيوطي رسالة كبيرة في إمكان رؤية النبي والملك يسميها بتنوير الحلك وذلك لأن «طائفة من أهل العصر ممن لا قدم لهم في العلم بالغوا في إنكار ذلك والتعجب منه، وادعوا أنه مستحيل» «3». كما دافع السيوطي عن فتاواه التي أفتى بها وتعرض بسببها لانتقاد بعض خصومه أو مخالفتهم فقد أفتى في رسالته «تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء» «4»، التي تدور كما يتضح من اسمها حول عدم التعريض بالأنبياء وأحوالهم وتشبيه ما يحدث من الأحياء من نقص ببعض أحوال الأنبياء، أو ذكرهم في مواضع تنقص أقدارهم، وقد أفتى بأن فاعل ذلك يعزر، وقد أورد نقولا عديدة وأدلة متنوعة تؤيد فتواه، ثم نجده يهاجم خصومه قائلا: «المماراة في مثل هذا الموضع والتدليس وقصد الانتقام بالضغائن الباطنة لا يضر إلا فاعله، ولا يصيب المشنع عليه من ضرره شيء» إلى أن يقول: «لأن يكون كل أهل العصر في هذه المسألة خصمائي أحب إلي من أن يخاصمني نبي واحد فضلا عن جميع الأنبياء» «5». ويتضح من أقوال السيوطي أن فتاواه كانت تتعرض لنقد من قبل خصومه، ولذلك فهو لا يكل من الدفاع بجميع الأدلة عنها «6»، وقد رأينا هجومه العنيف من قبل على خصومه حين اعتزم في وقت من الأوقات أن يعتزل الافتاء والتدريس. وقد هاجم السيوطي جميع أعدائه وخصص رسائل لمهاجمتهم، بيد أن جانبا كبيرا من انتقاده لخصومه كان موضوعيا بمعنى أنه كان نتيجة للاختلاف في

_ (1) المقامة السندسية ص 92، 93. (2) الضوء اللامع ج 8 ص 19 ترجمة السخاوي. (3) الرسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 437 - 460، والنص ص 437. (4) الحاوي ج 1 ص 359 وما بعدها. (5) المصدر السابق ص 374. (6) المصدر السابق ج 1 ص 370.

الفتاوى أو الاستنباط، فقد هاجم خصمه الجوجري وأنكر عليه ما أفتى به في تفسير قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى بأن الآية وإن نزلت في أبي بكر فإنها عامة المعنى إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أفتى الجوجري بذلك نتيجة لما حدث من خلاف بين بعض أمراء المماليك في تفضيل أبي بكر على سائر الصحابة، وقد ردّ السيوطي على فتوى الجوجري بقوله: «هذا شأن من يلقي نفسه في كل واد، والرجل فقيه فماله يتكلم في غير فنه؟ وهذه المسألة تفسيرية حديثية أصولية كلامية نحوية، فمن لم يكن متبحرا في هذه العلوم الخمسة لم يحسن التكلم في هذه المسألة» «1»، ثم يفند السيوطي بالأدلة العلمية النقلية والعقلية قول الجوجري، ويؤيد ما ذهب إليه من نزول الآية في حق أبي بكر واعتباره أفضل الصحابة، ويحمل على الجوجري حملة قوية يذكر فيها أنه ليس أهلا للفتيا في هذا الفن لأنه لا يتقنه، ولو جاز له أن يفتي فيه لكان ذلك جائزا لآحاد الطلبة، وللعوام والسوقة إذ «لا يعدم أحد منهم أن يكون عارفا بعدة من المسائل تعلمها من عالم، أو رآها في كتاب، ولا ريب في أنه لا يجوز لأحد منهم أن يفتي» «2»، ويذكر أن مدار الفتوى على التبحر في العلم «فمن تبحر في فن أفتى به، وليس له أن يتعدى إلى فن لم يتبحر فيه» «3»، ويستمر السيوطي في بيان التأهل للفتوى في الفنون المختلفة ويسيل قلمه دافقا ويصرح من حين إلى آخر باسم خصمه الذي كان ينبغي أن يلاحظ هذه الأقوال ويعرفها قبل أن يقدم على الفتوى «4». وقد جر التصدي للإفتاء على السيوطي بعض العداوات بيد أنه- في حقيقة الأمر- لم يكن يأبه بمن يخالفه إذا أثبت له البحث أنه على الحق، وقد خالف في بعض فتاواه أكثر مفتي عصره، وفي هذه الأحوال كان يعرض للمسائل عرضا موضوعيا علميا يثبت فيه ما يراه حقا ويدفع ما يراه باطلا معبرا عن ذلك

_ (1) الحبل الوثيق في نصرة الصديق، رسالة له بكتاب الحاوي ج 1 ص 504، النص ص 504، 505. (2) المصدر السابق ص 507. (3) نفس المصدر ص 508. (4) نفس المصدر ص 508 - 515.

دعوى الاجتهاد:

بقوله: «لا أرى السكوت يسعني في ذلك فإن هذا عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته، فوجب على كل من علمه أن يبينه ولا يراعي فيه صديقا ولا حبيبا ولا بعيدا ولا قريبا» «1»، وهذا تقدير منه لمسئوليته التي يوجبها عليه كونه مجتهدا. كما أن السيوطي كان يتعقب فتاوى خصومه أو تفسيراتهم ويبين ما قد يقعون فيه من خطأ فقد ذكر أن السخاوي صحف في حديث «شفر الحوراء» بمعنى هدب عينها، فجعله «شقر» بالقاف وبين أن ذلك تصحيف للحديث وتبديل لمعناه وأنه في غاية الركاكة «2». كما هاجمه حين صوب قراءة من قرأ في كتاب الشفا عبارة «ويخصنا بخصيصى زمرة نبينا وجماعته» في قراءة «خصيصي» بتسكين الياء مع أن صحة القراءة أنها كما ذكر السيوطي بألف القصر، وقد اقتنع جماعة من العلماء بصحة قول السيوطي ورجعوا عن تصويبهم للقارئ ومنهم الشيخ أمين الدين الاقصرائي، وزين الدين قاسم الحنفي، والشيخ سراج الدين العبادي والفخر الديمي، ولم يكن بين هؤلاء وبين السيوطي إلا الصداقة، أما خصمه السخاوي فإنه لم يقنع بذلك، ورد بأنه مستنده في ذلك أن عنده نسخة من الكتاب صحيحة قرئت على شيوخ عدة وفيها صورة السكون مرقومة بالقلم على الياء، وكان من اليسير على السيوطي أن يوجه إليه عبارته القاسية: «كفى بهذا الكلام جهلا، ومن هذا مبلغ علمه فهو غني عن الرد عليه»، ثم يورد بعد ذلك من الأدلة ما يؤيد صحة فتواه اللغوية «3». دعوى الاجتهاد: وإكمالا لما نحن فيه مما تعرض له السيوطي من خصومه لا مناص من الحديث عما قاله عن نفسه من استكماله أدوات الاجتهاد إذ جعله قوله هدفا لكثير من الهجمات التي وجهها إليه خصومه منكرين عليه دعواه، وقد عدّ السيوطي نفسه ممن بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق ولذلك وضع ترجمته لنفسه آخر

_ (1) فتواه الخاصة بسد الأبواب الملاصقة للمسجد النبوي، الحاوي ج 2 ص 61 ضمن رسالته: شد الأثواب في سد الأبواب ج 2 ص 53 وما بعدها. (2) الحاوي للفتاوي ج 2 ص 180. (3) ألوية النصر في خصيص بالقصر، رسالة له بكتاب الحاوي ج 2 ص 478 - 479.

الفصل الذي عقده عن الأئمة المجتهدين بمصر في كتابه حسن المحاضرة، وقد صرح ببلوغه رتبة الاجتهاد في قوله بعد أن عدد أنواع العلوم التي تبحر فيها «وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى، أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى لا فخرا» «1»، وقد تعرض بسبب ذلك لهجوم أعدائه عليه فيذكر السخاوي أنه «قد قام عليه الناس كافة لما ادعى الاجتهاد» «2»، وقد عبر السيوطي عما تعرض له من الهجوم في مقدمة إحدى رسائله بقوله بعد أن ذكر اشتغاله بالعلم وحبه للبحث عن الدقائق والأصول: «وقد أوذيت على ذلك أذى كثيرا من الجاهلين والقاصرين وتلك سنة الله في العلماء السالفين فلم يزالوا مبتلين بأسقاط الخلق وأرذالهم وبمن هو من طائفتهم ممن لم يرتق إلى محلهم» «3»، ثم يذكر بعض من تعرض للأذى من علماء السلف كابن عباس وما تعرض له من نافع بن الأزرق وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وما تعرض له من أهل الكوفة، وما قاساه الشافعي من أهل مصر وما قاساه الغزالي وغيرهم، وينبه السيوطي بعد ذلك إلى حقيقة هامة في أمثال هذه الخصومات ومن يكون فيها على الحق بقوله: «وقد اجتمعوا كلهم عند الله، وظهر لهم المحق من المبطل، والأرفع رتبة عند الله من غيره، وظهر لنا مصداق ذلك في هذه الدار ببقاء كلام هؤلاء الائمة وانتشاره وظهوره واضمحلال من ردّ عليهم وطمس ذلك ودثوره» «4». وبهذا الرد البليغ يرد على أعدائه معلنا لهم أن الحق هو الذي سيبقى وأن قائله هو الذي ستذكره الأجيال والناس فيما بعد، وأن له أسوة بعلماء السلف الصالح الذين لم تتضح عظمتهم وأقدارهم في أزمانهم بقدر ما اتضحت لمن بعدهم، وهذه العبارة التي أطلقها السيوطي تأخذ الانسان بالدهشة والتأمل لما فيها من صدق الرجل مع نفسه وإحساسه بعظمته وإن لم يقدره أهل عصره. وقد كتب السيوطي في بلوغه الاجتهاد مؤلفا سماه «الرد على من أخلد إلى

_ (1) السيوطي: حسن المحاضرة ج 1 ص 190. (2) الضوء اللامع ج 4 ص 69. (3) تعريف الفئة بأجوبة الأسئلة المائة، رسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 509. (4) الرسالة السابقة النص ص 509، 510.

الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض»، افتتحه بما يريد قوله من أن الأمة لا تخلو في عصر من عصورها من مجتهد أو طائفة من المجتهدين ولا تخلو من طائفة تنصر الحق وهي ظاهرة عليه، ثم يهاجم الذين أنكروا قوله بالاجتهاد قائلا: «فإن الناس قد غلب عليهم الجهل وعمهم، وأعماهم حب العناد وأصمهم، فاستعظموا دعوى الاجتهاد، وعدوه منكرا بين العباد، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة في كل قطر» «1». وقد قسم كتابه إلى أربعة أبواب جعل أولها لا يراد نصوص العلماء على أن الاجتهاد في كل عصر فرض من فروض الكفايات وأنه لا يجوز شرعا خلو العصر منه «2»، وفي الباب الثاني يحاول بالنقول المختلفة تأكيد الفكرة القائلة بأن أي عصر لا يمكن أن يخلو من مجتهد وهنا يرى أن عصرا من العصور قد يجتمع فيه طائفة كبيرة ممن بلغ رتبة الاجتهاد، ويجوز ألا يبقى في الأمة إلا مجتهد واحد «3»، ويفرق السيوطي بين المجتهد المطلق وبين المجتهد المستقل والمجتهد المقيد، فالمستقل «هو الذي استقل بقواعده لنفسه يبني عليها الفقه خارجا عن قواعد المذهب المقررة، وهذا شيء فقد من دهر بل لو أراده الانسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له» «4»، وأما المجتهد المطلق غير المستقل، «فهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل ثم لم يبتكر لنفسه قواعد بل سلك طريقة إمام من أئمة المذهب في الاجتهاد، فهذا مطلق منتسب لا مستقل ولا مقيد» «5». وقد وضح الشعراني هذه التفرقة في الحديث عن السيوطي فذكر أن الناس قد هاجموه لأنه ادعى الاجتهاد المطلق كأحد الأئمة الأربعة وأن السيوطي كان

_ (1) الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ص 2. (2) المصدر السابق ص 3 - 25. (3) نفس المصدر ص 26 - 28. (4) نفس المصدر ص 39. (5) نفس المصدر ص 39.

قول إنه لم يدع الاجتهاد المطلق وإنما ادعى الاجتهاد المنتسب وأن كثيرا من أتباع المذاهب بلغوا درجة الاجتهاد المطلق ومع ذلك لم يخرجوا عن مذاهبهم، وذكر السيوطي أن في أصحاب الشافعي على مر الزمن منهم المزني وابن سريج والقفال وابن خزيمة وابن الصباغ وإمام الحرمين وابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد والتقي السبكي وولده عبد الوهاب كذلك في أصحاب مالك ابن وهب وأضرابه، وفي أصحاب أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد، وقد بلغ هؤلاء مرتبة الاجتهاد المطلق ومع ذلك فلم يخرجوا عن تبعيتهم لأئمتهم «1». وقد ختم السيوطي كتابه بما يؤكد فكرته السابقة ومجمل ما يريد قوله أنه قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق ومع ذلك فهو لم يخرج عن مذهب الشافعي وأنه بذلك يسمى مجتهدا مطلقا منتسبا، وقد كرر السيوطي في مواضع متفرقة من فتاواه وكتاباته هذه الفكرة نظرا لما تعرض له من هجوم ولما اتهم به في زحمة الصراع بينه وبين خصومه، فكأنه أراد أن يؤكد تبرئة نفسه مما ادعوه عليه ولكن مع التمسك بالحديث عما أنعم الله به عليه من عقل وعلم وما بلغه من درجة. ويفتي السيوطي عام 898 هـ إحدى الفتاوى ويرى أن أحدا من أهل عصره لا يمكنه أن يتصدى لما يضطلع به، فيرفع عقيرته قائلا: «جولوا في الناس جولة فإنه ثمّ من ينفخ أشداقه ويدعي مناظرتي وينكر علي دعواي الاجتهاد والتفرد بالعلم على رأس هذه المائة، ويزعم أنه يعارضني، ويستجيش عليّ من لو اجتمع هو وهم في صعيد واحد ونفخت عليهم نفخة صاروا هباء منثورا» «2». ومهما يكن من أمر الخصومة بين السيوطي وأنصاره وبين السخاوي وأنصاره فإن المعاصرة كما سبق القول حجاب بين المتعاصرين، كما أن الاتهامات التي تبادلها الفريقان لم تخل من مبالغات كثيرة يمكن بسهولة أن نتعرف عليها، هذا فضلا عن أن كثيرا مما وجه إلى السيوطي أثبتت الأيام بطلانه ولعله قد استلهم ذلك حين ذكر أن له بعلماء السلف الصالح الذين تعرضوا للأذى في أزمانهم

_ (1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى الورقة الأولى والثانية ص 2 - 4. (2) الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف: رسالة له ضمن كتاب الحاوي ج 2 ص 167.

وظهرت حجتهم من بعد أسوة حسنة «1». وانتصر للسيوطي من بعده الشوكاني في ترجمته له وفند جميع ما وجهه إليه السخاوي ورد عليه ردا بليغا، وتعقب اتهاماته بالدفاع القوي، ومن بين ما ذكره دفاعا عن الاتهام باختلاس الكتب أن ذلك «ما زال دأب المصنفين، يأتي الآخر فيأخذ من كتب من قبله فيختصر أو يوضح أو يعترض أو نحو ذلك من الأغراض- التي هي الباعثة على التصنيف، ومن ذاك الذي يعمد إلى فن قد صنف فيه من قبله فلا يأخذ من كلامه؟» «2»، فليس السيوطي بدعا من المؤلفين، وإذا كان ذلك شأن عصره ومنهجه فلا يصح أن نوجه التهمة إليه وحده، وقد بين الشوكاني أن السخاوي «وإن كان إماما غير مدفوع لكنه كثير التحامل على أكابر أقرانه كما يعرف ذلك من طالع كتابه الضوء اللامع فانه لا يقيم لهم وزنا بل لا يسلم غالبهم من الحط منه عليه، وإنما يعظم شيوخه وتلامذته ومن لم يعرفه ممن مات في أول القرن التاسع قبل مولده، أو من كان من غير مصره أو من يرجو خيره أو يخاف شره» «3»، وهذه الأوصاف التي تقدح في الكتاب كفيلة أن تجعلنا على حذر مما يورده السخاوي من تراجم، ومهما أحسنا ظننا به بعد ذلك فسنأخذ تراجم أقرانه بالحذر، وقد انتهى الشوكاني إلى أن ما بلغه السيوطي من المكانة العلمية وما ادعاه من الاجتهاد كان سببا في هذه الخصومات، وبين أنه بذلك قد تعرض لما تعرض له أئمة العلماء ممن بلغوا المرتبة العالية، فما زال «ذا دأب الناس مع من بلغ إلى تلك الرتبة، ولكن قد عرفناك في ترجمة ابن تيمية أنها جرت عادة الله سبحانه كما يدل عليه الاستقراء برفع شأن من عودي بسبب علمه وتصريحه بالحق، وانتشار محاسنه بعد موته، وارتفاع ذكره، وانتفاع الناس بعلمه، وهكذا كان أمر صاحب الترجمة فإن مؤلفاته انتشرت في الأقطار، وسارت بها الركبان إلى الأنجاد والأغوار، ورفع الله له من الذكر الحسن والثناء الجميل ما لم يكن لأحد من معاصريه، والعاقبة

_ (1) تعريف الفئة بأجوبة الأسئلة المائة، الحاوي ج 1 ص 509، 510. (2) الشوكاني: البدر الطالع ج 1 ص 333. (3) المصدر السابق ج 1 ص 333، 334.

خلقه وشخصيته:

للمتقين» «1». خلقه وشخصيته: نريد بالخلق ما هو أعم من المعنى الذي نستعمل فيه هذه اللفظة اليوم، فنتناول فيه سلوكه مع أهله ومع الناس من حوله وصلته بمن يشتركون معه في فنون المعرفة التي يجيدها ونستطيع من ثم أن نستوضح معالم شخصيته الاجتماعية والعلمية. ولا شك أن خلق الفرد تشكله عوامل كثيرة من وراثة عن أسرته التي عاش بينها واكتسب منها بعض الصفات أو الاتجاهات التي تحدد مسلكه في الحياة ثم من المجتمع بمعناه العام الذي ترتبط حياته به، وبه تتحقق مصالحه، ثم من تدينه وطريقته في ممارسة الدين تسمحا أو تشددا وتحرجا، وهذه الأشياء تكشف لنا عن أهم جوانب شخصيته «2». ونرى أن فيما قدمنا من الحديث عن جوانب حياته المختلفة ما يمكننا من استيضاح معالم شخصيته ويعرفنا بخلقه فضلا عن عديد من الروايات والنقول التي لم نوردها من قبل اكتفاء بغيرها عنها أو ادخارا لها لمواضع أخر، أو تخففا من الاطالة. وأول هذه الصفات التي نستشفها مما خلف السيوطي من آثار هي الصراحة في الحديث عن نفسه، تلك الصفة التي تدل على صفاء نفسي وروحي، ومن هنا فقد كان يتحدث في رسائله عن نفسه بقلب مفتوح ووضوح بالغ، ومن لا يعرف هذه الصفة عنه يخيل إليه أن الرجل صاحب دعاوى عريضة أو يصف نفسه بما ليس فيها من صفات حسنة، والحقيقة أن السيوطي حين الحديث عن نفسه كان يعلله دائما بأنه تحدث بما أنعم الله به عليه لا فخرا وهنا يتضح لمنصفه صفة التواضع عنده بينما ينظر أعداؤه إلى ذلك على أنه ادعاء وتعال وزهو ممقوت، فبعد أن يعدد ما أتقنه من العوم وما استكمله من آلات الاجتهاد

_ (1) نفس المصدر ج 1 ص 339. (2) د. سيد خليل: الليث بن سعد ص 86.

يقول: «أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى لا فخرا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر، وقد أزف الرحيل وبدا الشيب وذهب أطيب العمر» «1». وبالرغم مما يشيع في عبارته من تواضع فإن الرجل كان يتصف بالشجاعة والاعتداد بالنفس والثقة فيها، وقد كانت هذه الصفات لديه وليدة شعوره العميق بأنه عالم مسلم استكمل أدوات الاجتهاد وحباه الله عقلا حصيفا فاستشعر المسئولية الجسيمة الملقاة على عاتقه بما هو عليه تجاه الله وتجاه المجتمع وتجاه ضميره، ومن هذا الشعور العميق بهذه المسئولية يمكننا أن نفسر كثيرا من تصرفات السيوطي وكتاباته، فقد كانت الأمانة الملقاة على عاتقه أكبر مما يتحمله غيره، وكان ينظر فيمن قبله من كبار علماء السلف الذين تألقت نجومهم في سماء التاريخ الاسلامي، ويجعل منهم قدوة صالحة في السراء، وأسوة حسنة في الضراء، وهناك كثير من الحوادث والأدلة التي نستطيع أن ندلل بها على ما قلناه عن خلقه وشخصيته ولكنا نستدرك قبل ذلك بأن نذكر أن الرجل كانت به حدة وسرعة غضب لما يصيبه، ولكن هذا الغضب كان يستفرغ منه في رسالة تكتب، أو انقطاع عن الناس، وهجرهم ريثما تهدأ نفسه ويعاود الحياة بنشاطه المألوف، وكثيرا ما كلفته غضباته رسائل يدفع فيها عن نفسه ويهاجم خصومه. على أن الأسلوب العنيف الذي لاحظناه في رسائله الأولى التي هاجم بها خصومه أخذ يميل إلى الهدوء والاتزان في السنوات الأخيرة من عمره، بل لعله أصبح يعرض عن كثير من أذى الخصوم ويصبر على ما يقابله من أعدائه فقد نقل عنه بعض من اتصل به أنه امتحن المحن الكثيرة، وما سمع يوما يدعو على من آذاه من الحسدة، ولا يقابله بسوء، وإنما يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وصنف في ذلك كتابا سماه «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة» «2». والحقيقة أن هذه الرسالة تعبر عن الاتجاه المتزن الصابر الذي طبعت به حياة السيوطي أواخر أيامه، وبالرغم من أن الرسالة في جملتها مجموعة من النقول عن

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 190. (2) الشعراني: ذيل الطبقات ورقة 22 ص 43.

الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين تدور حول تأخير ظلاماتهم إلى يوم القيامة لايمانهم بأن عذاب الله أشد وأبقى، وإيثار المظلومين منهم ألا يقتصوا لأنفسهم في الدنيا مع تمكنهم من ذلك تأخيرا لظلاماتهم لتعرض أمام الله تعالى، بالرغم من ذلك فإن قراءتها تشيع في نفس القارئ أن صاحبها كان يتعرض وقتها لمظالم يصبر عليها، ويعزي نفسه بالتأسي بالسلف الصالح، وهي تبين لنا جانبا هاما من خلق السيوطي في سنواته الأخيرة، وتلقي الضوء على معالم شخصيته «1». ومن الحوادث التي تدل على ما قدمنا حادثة الطيلسان التي امتنع بعدها عن الذهاب إلى السلطان مع العلماء، وقد تمسك بموقفه برغم محاولة بعض الوسطاء الملاينة بينه وبين السلطان فكان رده: «إني متمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله لا يضرهم من خذلهم» «2». وإحساسه بالمسئولية الملقاة عليه تجاه الناس يتمثل في قوله: «ما أجبت قط عن مسألة جوابا، إلا وأعددت جوابها بين يدي الله تعالى إن سئلت عنها» «3». وقد سبق أن أشرنا إلى موقفه الشجاع الذي وقفه تجاه خصمه العنيد طومان باي الذي حاول الكيد له، ثم حاول قتله، كما قدمنا ما قاله من أن له أسوة حسنة بمن تعرض للأذى من كبار علماء السلف الصالح. وإتماما للحديث عن خلقه وشخصيته فإننا نعرض لما يتصل بهذا الموضوع بأوشج الصلات بل لما هو جزء منه وهو الحديث عن تدينه. وقد قلت ان شخصية السيوطي شخصية العالم المسلم الذي يستشعر المسئولية نحو المجتمع والذي يراعي في خلقه وسلوكه السير على هدى من السنة التي أفنى حياته في جمعها ودرسها وتعليمها. أما عن ورعه وتقواه فهناك روايات كثيرة تصل بالرجل إلى مصاف كبار

_ (1) تأخير الظلامة إلى يوم القيامة، مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 22729 ب. (2) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 20 ص 40. (3) المصدر السابق ورقة 12 ص 24.

الأولياء وأصحاب المناقب العالية، ولست هنا بصدد مناقشة هذه النقول، ولكن مهما كان أمر صحتها أو كذبها أو المبالغة فيها فإنها تدل على ما عرف به الرجل في عصره من ورع وتقوى. وهناك نقول وروايات لا تصل إلى حد الخوارق شأن الروايات الأولى، تؤيد ما قلناه من تقواه وزهده، ونحن نرى هذه الأوصاف منطبقة تماما على السيوطي لا سيما في السنوات العشر الأخيرة من عمره بعد أن اتجه إلى الزهد والتجرد ثمّ انقطع بعد ذلك تماما في بيته واعتكف وكان لا يقبل هدايا الأمراء والسلاطين ويتعفف عنها قانعا بما قسم له من رزق قليل، ثم عزوفه عن الوظائف ومظاهر الدنيا واغلاقه نوافذ بيته واتجاهه إلى الله. وقد أجمل الشعراني صفات شيخه بقوله: أنه كان «مجبولا على الخصال الحميدة من صفاء الباطن وسلامة السريرة، وحسن الاعتقاد، زاهدا ورعا مجتهدا في العلم والعمل، لا يتردد إلى أحد من الأمراء والملوك ولا إلى غيرهم مدة حياته رضي الله عنه وكان يظهر كل ما أنعم الله به عليه من العلوم والأخلاق» «1». كان هذا السلوك سلوك التصوف العملي الحقيقي الذي لا نستطيع إنكاره، ولا نقول إنه كان يقصد به دنيا يصيبها، بل كان عملا مخلصا يبتغي به وجه خالقه، ومن كان هذا مسلكه فأحر به أن يكون خليقا بالاضطلاع بالمسئولية الجسيمة التي تحملها بوصفه عالما مجتهدا يعرف للكلمة حقها ويؤديها على وجهها لا يخاف لومة لائم لأنه لا ينتظر ثوابا ولا يخشى عقابا إلا من قبل الله تعالى. وقد كان السيوطي يحاول جاهدا أن يؤدي ما عليه من واجب علمي تجاه مجتمعه، فهو ينقطع للتأليف في خلوته ولا يكل من كتابة الأجوبة على المسائل العديدة التي ترد إليه ثم هو يعرف قيمة الفتوى بحيث لو جيء إليه على حد تعبيره بفتوى وهو مشرف على الغرق لأخذها ليكتب عليها، وقد قال ذلك بعد أن عاود الافتاء بعد ترك عزلته القصيرة التي سبقت الاشارة إليها.

_ (1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 3 ص 5.

وإذا كانت البيئة المصرية قد تميزت عن غيرها من البيئات بالسهولة والاستقامة والانبساط والوضوح، وتلك مميزات الشخصية المصرية من جميع نواحيها، فقد انطبعت هذه الصفات وظهرت في شخصية السيوطي وهي تبدو واضحة إذا ما قورن بغيره من أقرانه الذين أنجبتهم بيئات أخرى.

منهجه في التفكير وأصول هذا المنهج

منهجه في التفكير وأصول هذا المنهج تعد ثقافة السيوطي أفضل مثال للثقافة في عصره، كذلك تمثل عقليته العقلية الاسلامية بما تمثلته من معارف متنوعة في القرن التاسع الهجري: الخامس عشر الميلادي ويمكن اعتبار كتاباته الموسوعية في موضوعاتها ودائرة اتساعها مجسّم العلوم الاسلامية في القرن الخامس عشر. وتتميز حياة الرجل العلمية بنشاط غير عادي فقلمه السيال لم يعرف الملل، ولم يترك قط موضوعا في حقل المعرفة إلا تناوله، فمن علوم قرآنية وحديثية وفقهية إلى علوم لغوية ونحوية إلى علوم في التصوف والتاريخ والفلسفة إلى غير ذلك من مختلف العلوم التي عرفت في عصره، وتشهد آثاره التي يصعب إحصاؤها لكثرتها وتنوعها بتنوع معارفه وشمول عقليته واتساع أفقه ومشاركته في كل علم فضلا عن تبحره في جانب كبير من العلوم، وصدق ما وصف به من وجهة نظر أجنبية بأنه من أعظم كتاب الشرق قاطبة «1»، وبأن نشاطه العلمي الذي ابتدأه في سن السابعة عشرة كان يتميز بحركة غير عادية «2»، وقد عبر السيوطي عن مبلغ ثقافته بقوله: «و رزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي فضلا عمن هو دونهم، وأما الفقه فلا أقول ذلك فيه بل شيخي فيه أوسع نظرا وأطول باعا، ودون هذه السبعة في المعرفة: أصول الفقه والجدل والتصريف، ودونها الانشاء والترسل والفرائض ودونها القراءات ولم

_ TheEncyclo paediaBritanicaV.21. (1) TheEncy clopaediaOfIslam «Suyuti» . (2)

آخذها عن شيخ، ودونها الطب، وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني ... وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى، أقول ذلك تحدثا بنعمة الله لا فخرا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر وقد أزف الرحيل وبدا الشيب وذهب أطيب العمر؟، ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية ومداركها ونقوضها وأجوبتها والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله لا بحولي ولا بقوتي فلا حول ولا قوة إلا بالله» «1». وقد ألف السيوطي في جميع العلوم التي عددها مؤلفات تشهد بعلو قدره فيها، بيد أن هناك قلة من هذه العلوم المتنوعة استحوذت على الجانب الأكبر من اهتمامه، وكان لها أثر كبير في طبع عقليته بطابع معين، وفي توجيه منهجه، وسنتناول اشتغال السيوطي بهذه العلوم بعد قليل. ويتصل بما نحن فيه من شمول عقليته واتساعها وتنوع مداركها ما قاله عن نفسه من بلوغ رتبة الاجتهاد، وقد سبق أن رأينا أن هذا القول قد جر عليه عداوات كثيرة وعرضه لكثير من النقد الذي وجه إليه من قبل خصومه، والحقيقة أن السيوطي لم يكن مدّعيا فيما نسبه إلى نفسه، فمصنفاته في الفقه تشهد بذلك، كما أنه لم يقصد الاجتهاد المستقل كالأئمة الأربعة وإنما قصد الاجتهاد المنتسب، وكان في فتواه يفتي بمذهب الشافعي ولا يذكر ما يمليه عليه اجتهاده خارج المذهب، وقد بين أنه ليس من شرط الاجتهاد في الفقه أن يكون صاحبه قد بلغ رتبة الاجتهاد في الحديث والاجتهاد في العربية «2»، وإنما يكتفي فيها بمرتبة أقل من ذلك، على أن السيوطي قد نص على بلوغه درجة الاجتهاد في الفقه والحديث والعربية وأن بلوغ رتبة الاجتهاد في الفقه قد وجدت عند كثير من العلماء، أما الجامعون للثلاثة فقليل، ومن قبله كان تقي الدين السبكي جامعا للثلاثة ولم يكن هناك بعد السبكي من اجتمعت له غيره «3».

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 190. (2) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 7 ص 13. (3) المصدر السابق ورقة 6، 7 ص 12، 13.

فكرة المبعوثية:

على أن إحساس السيوطي بتنوع معارفه وبلوغه درجة الاجتهاد في بعض العلوم، وإحساسه أن ذلك لم يحدث لأحد من أبناء زمانه فمنهم من بلغ درجة كبيرة في الفقه أو في العربية أو في علم من العلوم، ولكن اجتماع هذه العلوم على سبيل التبحر لدى أحدهم غير كائن، هذا الاحساس قد جعله يستشعر في قرارة نفسه أنه المبعوث على رأس المائة التاسعة ووجد الرجل نفسه وقد جاوز الخمسين من عمره وحصل من العلوم جملة كبيرة، وبلغ ما لم يبلغه أحد، ورأى أنه قد جاوز أقرانه وبذّهم جميعا، وهنا وقف يعلن أنه المبعوث على رأس المائة التاسعة. فكرة المبعوثية: ويبدو أن الرجل كان يعرف أن هذه الفكرة قد تقابل ببعض الأفكار، ولذلك أكدها في كثير من كتاباته فهو يبدأ كتابه «الدر النثير الذي لخص فيه نهاية ابن الأثير» قائلا: «الحمد لله الذي بعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها وأقام في كل عصر من يحوط هذه الملة بتشييد أركانها وتأييد سننها وتثبيتها» «1». وكان عليه أن يثبت صحة هذه الفكرة عن طريق السنة وأن يقنع الناس بذلك، ثم عليه بعد ذلك أن يقنعهم بأنه المبعوث على رأس المائة التاسعة. وبداية هذه الفكرة في كتاباته نلحظها في ترجمته لسراج الدين البلقيني (المتوفي 805 هـ) والد علم الدين، إذ نقل أن السراج البلقيني مجدد المائة الثامنة، ثم ذكر أن كثيرا من المبعوثين على رءوس القرون مصريون: عمر بن عبد العزيز في الأولى، والشافعي في الثانية .. وابن دقيق العيد في السابعة، والبلقيني في الثامنة، ثم أتبع ذلك بقوله «وعسى أن يكون المبعوث على رأس المائة التاسعة من أهل مصر» «2»، وهنا نلاحظ أنه كان يمهد لفكرته، ويرجو أن يكون هو المبعوث على رأس قرنه، ونلاحظ أنه وضع ترجمته بعد ترجمة البلقيني مباشرة

_ (1) الدر النثير في تلخيص نهاية ابن الأثير: المقدمة. (2) حسن المحاضرة ج 2 ص 183.

وكأنه بذلك يضع مجدد المائة التاسعة عقب مجدد المائة الثامنة، ولم يفصل بينه وبين البلقيني السابق بأحد من علماء قرنه، وذلك في الفصل الذي خصصه لتراجم الأئمة المجتهدين. ثم ينادي بعد حين بصوت قوي بأنه المتفرد بالعلم والاجتهاد على رأس قرنه فيكتب في عام 898 هـ معلنا ذلك في قوله: «فإن ثمّ من ينفخ أشداقه ويدعي مناظرتي، وينكر علي دعوى الاجتهاد، والتفرد بالعلم على رأس هذه المائة، ويزعم أنه يعارضني ويستجيش عليّ بمن لو اجتمع هو وهم في صعيد واحد ونفخت عليهم نفخة صاروا هباء منثورا» «1». وحين ينقضي القرن وينظر السيوطي في نفسه وفيمن حوله ويرى ما بلغه من علم فإنه يصرح بعد ذلك بأنه المبعوث على رأس هذه المائة، ولكنه يمزج قوله بالرجاء والضراعة إلى الله، وقد كتب السيوطي رسالة فيمن «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة» ترجى فيها أن يكون المبعوث على رأس المائة التاسعة لانفراده عليها بالتبحر في العلوم، ثم نظم في هذا الموضوع منظومة تسمى «تحفة المجتهدين في أسماء المجددين» «2»، وقدم لها بمقدمة نثرية صغيرة، ووضح الفكرة في قوله: «فقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، ومعنى التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والعمل بمقتضاها على رأس كل مائة سنة أولها من الهجرة النبوية، وهي ما يؤرخ بها في مدة المائة، وأن يكون المبعوث على رأس المائة رجلا معروفا مشهورا مشارا إليه وأن تنقضي المائة وهو مشهور حتى يشار إليه ... ولا يكون المجدد إلا عالما بالعلوم الدينية ظاهرا وباطنا، ناصرا للسنة قامعا للبدعة» «3»، ثم نظم منظومة في ثمانية وعشرين بيتا وضح فيها هذه الفكرة، وذكر أسماء المجددين السابقين وشروط من يكون مجددا، وبين أن بعض المئين قد اختلف في المجدد فيها أهو واحد أم

_ (1) الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف، رسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 167. (2) مخطوط بدار الكتب في ورقة واحدة أي في صفحتين، في مجلد مستقل برقم 260 ح. (3) المصدر السابق ص 1.

أكثر؟، ومن الذين لم يختلف فيهم عمر بن عبد العزيز في المائة الأولى والشافعي في الثانية، والغزالي في الخامسة، وابن دقيق العيد في السابعة، ثم ذكر أن البلقيني يعد مجدد المائة الثامنة وفي أخريات المنظومة يترجى السيوطي أن يكون مجدد المائة التاسعة فيقول: وهذه تاسعة المئين قد ... أتت، ولا يخلف ما الباري وعد وقد رجوت أنني المجدّد ... فيها، ففضل الله ليس يجحد» «1» وأيا ما كان أمر الحديث عن فكرة التجديد والبعث على رءوس المئين، فإن لها دلالة تهمنا في الحديث عن منهجه في التفكير، وتشير إشارة صريحة إلى ما أحس به الرجل بين أبناء زمانه من تفرده بالعلم وتبحره في أكثر من علم على وجه لم يتيسر لمعاصريه الذين اشتهر كل منهم بإجادة فن واحد، وهذه الدعوى عن التبحر في بعض العلوم صحيحة إلى حد كبير يثبتها ما خلف السيوطي لنا من آثار في سائر فروع المعرفة في عصره، وهذه الآثار تشهد بعلو كعبه في الفنون المختلفة التي طرقها. ولكي نصف منهج السيوطي وصفا دقيقا نتبين منه كيفية تناوله للأشياء، ونظرته في العلوم لا بد لنا أن نتعرف على مكونات عقليته ومنابع ثقافاته المختلفة. وقد سبق لنا أن تحدثنا عن شيوخه الذين تلقى عنهم، ولاحظنا أنهم من كبار علماء عصره، كما رأينا رحلاته وتنقلاته إلى أكسيته زيادة في الثقافة والمعرفة فضلا عن قيامه بالحج والمجاورة بمكة لمدة عام، وها نحن أولاء قد رأيناه وقد أحاط بجملة كبيرة من العلوم تبحر في بعضها وأجاد بعضا، وشارك في بعض، فأيّ هذه العلوم كانت ذات أثر أكبر في تفكيره وطبع عقليته؟، وأي هذه العلوم نستطيع من خلالها التعرف على صفات هذه العقلية وتحديد منهج صاحبها في التفكير؟. إن الإجابة على هذا السؤال ليست بالعسيرة، فقد ذكر الرجل عن نفسه أنه

_ (1) نفس المصدر ص 2.

تبحر في سبعة علوم هي: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع، ونقل عنه أنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق في ثلاثة علوم هي الفقه والحديث والعربية «1»، ثم إننا نجد أن عنايته بالتفسير متصلة أشد الاتصال بعنايته بالحديث فأهم مؤلفاته في التفسير كتاب «الدّر المنثور في التفسير بالمأثور» الذي جمع فيه جميع الروايات المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين في تفسير القرآن ولا شك أن هذه الروايات التي تفسر القرآن تدخل من جانب آخر في مباحث علماء الحديث، كما يشهد لما نقوله أيضا كتابه «لباب النقول في أسباب النزول» الذي تشيع فيه ثقافة الرجل الحديثية النقلية يخدم بها علوم القرآن. ومن ناحية أخرى نجد عناية الرجل بالتصوف، والتصوف علم وعمل، والتصوف يطبع عقلية صاحبه بطابع معين ويترك أثرا في منهجه في تناول العلوم، ولذلك أرى أن عقلية السيوطي ومنهجه في التفكير لا بد أن ينظر إليه من خلال أمور ثلاثة هي: علم الحديث الذي اهتم به أبلغ اهتمام وود أن يصل فيه إلى مرتبة الحافظ ابن حجر، والثاني: التصوف الذي أقبل عليه، ودافع عن رجاله وسلك طريقه، والثالث الفقه الذي بلغ فيه درجة الاجتهاد وتصدى فيه للافتاء منذ وقت مبكر، ومن ثم فإننا نستطيع بعد ذلك أن ندرس بقية جوانبه، وأهم الجوانب عنده بعد الحديث دراساته اللغوية التي أجيز بالتدريس فيها منذ بلوغه السابعة عشرة، ثم بلغ فيها بعد درجة الاجتهاد المطلق، ودراساته الفقهية التي بلغ فيها مرتبة الاجتهاد المطلق.

_ (1) الشعراني: ذيل الطبقات ورقة 6 ص 12.

السيوطي وعلوم الحديث

السيوطي وعلوم الحديث اشتغل السيوطي منذ أيامه الأولى بتدريس الحديث بالخانقاه الشيخونية، وامتزج بعلوم الحديث امتزاجا كبيرا، فهو يشرب من زمزم تطلعا لأن يصل إلى مرتبة الحافظ ابن حجر، ثم يحمل على المنطق والفلسفة ويذكر أن الله قد عوضه عنهما بعلم الحديث الذي هو أشرف العلوم، كما يذكر بعد أن استحصدت قوته أن مجدد القرن لا بد أن يكون مقيما للسنة ناصرا لها ولن يتسنى لمن لا يكون عالما بالسنة إقامتها، ثم نراه يهتم بمسألة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم فيكتب فيها ستة رسائل دفاعا عنهما، وهكذا نلاحظ أن ميوله منذ وقت مبكر كانت تتجه نحو علوم الحديث، وكانت هذه العلوم تحظى من وقته بالنصيب الأوفر. وتطلعنا مقدمة كتابه «اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة» على طول اشتغاله بعلوم الحديث فقد ابتدأ تأليف هذا الكتاب كما ذكر في عام 870 هـ، أي حين كان في الحادية والعشرين من عمره، وأتمه بعد خمسة أعوام، ثم عاود تأليفه مرة ثانية مع بعض الاضافات عام 905 هـ، أي قبل وفاته بستة أعوام فقط «1»، كما أخذ السيوطي يملي الحديث منذ عام 873 هـ بالجامع الطولوني؛ وظل مداوما على هذا الدرس العام إلى أن اعتكف في بيته عام 906 هـ، وكان يذكر عن نفسه أنه أحيا سنة الاملاء بعد دروسها إذ انقطع الاملاء بالديار المصرية بعد وفاة الحافظ ابن حجر (عام 852 هـ) عشرين سنة. وقد بلغ درجة الاجتهاد في الحديث، وقد قال المحدثون: إن أقل مراتب الحافظ أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم، وكان بعض المحدثين لا يعدّ من أصحاب الحديث من لم يكتب عشرين ألف حديث، وكان الحافظ ابن حجر يقول: الشروط التي

_ (1) اللئالئ المصنوعة ج 1 ص 2، 3.

اجتمعت فيّ الآن اسم الحافظ وهي الشهرة بالطلب والأخذ من أقوال الرجال والمعرفة بالجرح والتعديل، والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون، فمن جمع هذه الشروط استحق اسم الحافظ، وقد ذكر السيوطي أن ابن حجر كان يحفظ مائتي ألف حديث أو ما يزيد، وأن الحافظ الديمي كان يحفظ عشرين ألف حديث وذكر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث، وأنه لو وجد أكثر من ذلك لحفظ وقال: لعله لا يوجد على وجه الأرض الآن أكثر من ذلك «1». وقائمة الآثار التي تركها وذكر الجانب الأكبر منها في ترجمته لنفسه تشهد للرجل بأن اهتمامه الأول كان بعلوم الحديث، ولست أحب أن أسرد ما ألفه في الحديث تجنبا للتكرار حيث سنعرض لذلك عند الحديث عن آثاره «2». على أن نظرتنا في الفتاوى الحديثية التي جمعت في كتابه «الحاوي» تطلعنا على قدراته الخارقة في علم الحديث وحفظه الجم، ومعرفته التي لا تقتصر على نقل آراء الحفاظ السابقين وإنما تتناول الإسناد ورواته بالنقد، وتبين رتب الأحاديث المختلفة وكونها صحيحة أو حسنة أو ضعيفة أو موضوعة، وله قدرة عجيبة على إيراد الطرق المختلفة من شتى الكتب للحديث الواحد مما يدل على الجهد الشاق الذي بذله، وطول المراس الذي أكسبه قدرة على السير في المسالك الوعرة لهذا العلم بمختلف فروعه. وكان له عين فاحصة ناقدة في علم الحديث، وكثيرا ما حكم على كثير من الأحاديث التي شاعت على ألسنة الناس في عهده ببطلانها إذا لم يثبت لديه إسناد بصحتها كحديث «لا تسوّدوني في الصلاة» الذي قال إنه لم يرد «3»، وحديث «التكبير جزم» الذي أفتى بأنه من قول إبراهيم النخعي وليس من قول

_ (1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 10 ص 19، 20. (2) حسن المحاضرة ج 1 ص 191، 192. (3) الحاوي للفتاوي ج 1 ص 533.

النبي صلى الله عليه وسلم «1»، وقد أفتى غير ذلك ببطلان بعض الأحاديث التي سئل عنها، وأجاب بصحة غيرها «2»، وكان يستفتي في تفسير بعض الأحاديث ويجيب عن التعارض بين الأحاديث ويبين، كيفية الاستنباط منها والعمل بها بأجوبة حسنة تدل على تمكنه في ناحيتي السند والمتن وسعة اطلاعه التي شملت كتب الحديث والرجال المختلفة. على أن ما أبغي الوصول إليه من اهتمام السيوطي البالغ بعلم الحديث وإفناء جلّ وقته فيه هو أن عقليته قد تأثرت تأثرا كبيرا بعلم الحديث بحيث أستطيع القول بأنه أولا وقبل كل شيء محدّث من النوع الأول، والأثر الذي تركه التمرس بعلوم الحديث في عقله تجلى في عنايته بالنقول والنصوص، واتضح تشربه بعلم الحديث، وتأثير ذلك في عقليته في سائر فروع المعرفة التي تناولها، كما استعلن في كثير من كتاباته المتنوعة، ونجد في غالب آثاره شواهد لما نقول حيث تشيع فيها ظاهرة النقل والاهتمام بذكر المنقول عنهم، وهكذا فلقد أثر منهج المحدثين الخاص بالرواية في التأليف عند السيوطي بحيث إنه كان حريصا في كل مؤلفاته على أن ينسب كل قول إلى قائله، والكتاب الذي نقل عنه وسنشير إلى هذه الفكرة عند الحديث عن دراساته اللغوية التي طبق عليها منهج المحدثين. ويؤكد هذه الفكرة أيضا ما نلحظه في كتاباته الأدبية التي كان عليه أن يتحرر فيها من النقل، بيد أن روح المحدث وعقليته وطريقته تبدو ظاهرة في أقواله وأسلوبه بين حين وآخر، ففي المقامة المسكية في أنواع الطيب- مثلا- يتحدث عن الموازنة بين أنواع الطيب وهي المسك والعنبر والزعفران وغيرها، حيث يتحدث كل واحد منها عن نفسه مبينا فضيلته، ويتبع السيوطي فيها ما شاع في عصره من محسنات لفظية، ويهمنا هنا أنه ظهرت فيها ثقافته الحديثية بحيث يدرك قارئها أن صاحبها قد تشرب بهذه الثقافة أكثر من أي شيء آخر «3»، وفي

_ (1) المصدر السابق ج 1 ص 535. (2) انظر:- مثلا- الحاوي للفتاوي ج 1 ص 556، 557. (3) المقامة المسكية في أنواع الطيب (ضمن مقامات السيوطي ص 1 - 11).

مقامة أخرى نجد نفس الظاهرة التي تدل على ما نقول إذ يبدأ المقامة بقوله: «حدثنا الريان عن أبي الريحان عن أبي الورد أبان عن بلبل الأغصان عن ناظر الانسان عن كوكب البستان عن وابل الهتان قال مررت يوما على حديقة ... الخ» «1»، فليست هذه المقدمة للمقامة الوردية في الزهور إلا انعكاسا وتأثرا بما عاناه في دراساته الجادة لعلوم الحديث، فجاءت بما فيها من عنعنة معبرة عما بباطن عقله، كما أن المقامة لا تخلو من كثير من الأحاديث التي يحرص صاحبها على ذكر أسانيدها والكتب التي خرجتها برغم أن المقام ليس مقام استنباط شرعي أو استدلال علمي وإنما هو مقام نزوح أدبي، وسائر مقامات السيوطي تشهد لما قلناه، وتشيع فيها نفس الظاهرة وتؤكد نفس الفكرة، بل إن منظوماته الشعرية لم تخل- في بعض الأحيان- من هذه الروح كقوله: لم لا نرجي العفو من ربنا ... وكيف لا نطمع في حلمه وفي الصحيحين أتى أنه ... بعبده أرحم من أمه وقوله: حدثنا شيخنا الكناني ... عن أبه صاحب الخطابة أسرع أخا العلم في ثلاث ... الأكل والمشي والكتابة «2» وفي غير ما ذكرنا من شعر له نجد في بعض الأحيان مصداق ما قلناه. نستطيع أن نخلص مما تقدم إلى أن عقلية السيوطي عقلية الرجل المحدّث الذي يصب اهتمامه الأول على الأسانيد ويهتم بالرواة والنقلة، وأن نظرته إلى العلوم هي نظرة المحدّث وقد كان لذلك أثره في طريقة تأليفه وعنايته البالغة بالنقول وإيراد أسماء أصحابها وأسماء الكتب التي نقل عنها، وحرصه الشديد على عدم إغفال ذلك. بيد أن ثمة أمرا لا ينبغي أن نغفله لصلته بالرواية ومدى التشدد والتسامح في قبولها، هذا الأمر هو أن السيوطي كان رجلا متصوفا انخرط في سلك

_ (1) المقامة الوردية (ضمن مقامات السيوطي ص 11). (2) شذرات الذهب ج 8 ص 55.

السيوطي والتصوف:

الصوفية، فهل كان لانخراطه أثر في منهجه في الرواية تشددا وتحرجا أو تسامحا وتساهلا؟، للإجابة على ذلك لا بد أن نتناول تصوف السيوطي بشيء من الحديث نستجلي به أبعاده ونستوضح به غوامضه. السيوطي والتصوف: سبق أن أشرنا إلى أن التصوف في عصر السيوطي كان يتخذ شكل ظاهرة اجتماعية واضحة في البيئة المصرية، وأن تياره كان من القوة بمكان، وقد ساعد على ذلك عوامل متنوعة أهمها وجود المنشآت الصوفية التي سميت بالخوانق أو الزوايا والربط. نشأ في هذه البيئة، وكان للتصوف أثر كبير في توجيه حياته، فجده الأعلى همام الدين كان من مشايخ الطريق، وكان لوالده ميل إلى التصوف، والكمال بن الهمام أحد الأوصياء عليه كان من المتصوفة وقد ولى مشيخة الشيخونية. كما أن والد السيوطي قد حمله بعد مولده كما سبق أن رأينا إلى أحد كبار الأولياء ليباركه ويدعو له، وإذا كانت بيئة السيوطي الخاصة التي تتمثل في أسرته والمحيطين به وبيئته العامة التي تتمثل في المجتمع، كلتاهما يجد التصوف فيها منبتا حسنا، فلا عجب أن نشأ السيوطي ميالا منذ صغره إلى سلوك طريق المتصوفة. ومنذ وقت مبكر نصب السيوطي نفسه للدفاع عن الصوفية ورجالها، وقد رأينا اشتراكه في المعركة حول ابن الفارض وقيامه بنصرته، وإفراده لذلك مؤلفا سماه «قمع المعارض في نصرة ابن الفارض» وقد دافع كذلك عن ابن عربي وأفرد للدفاع عنه مؤلفا سماه «تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي». وله مؤلفات أخرى في التصوف تشهد بحبه العميق لطريق المتصوفة ودفاعه عنهم، وقد ولي منذ وقت مبكر من حياته مشيخة التصوف بتربة برقوق، وقد سبق أن رأينا اتجاهه العلمي في التصوف أواخر حياته، إذ اعتزل الناس واعتكف في بيته وتجرد إلى الله، وأكب على العبادة والتأليف. بيد أن الذي يهمنا الآن من هذا كله هو النظر في الآثار التي تركها في

التصوف، وهل لها دلالات معينة على عقله ومنهجه في التفكير؟. لقد ترك السيوطي في التصوف عددا لا بأس به من الرسائل، وأفتى ببعض الفتاوى فيه ونرى في فتاواه تعمقه في فهم التصوف ومصطلحاته ومذاهب أهله، كما نرى دفاعه عن رجال التصوف المبرّزين وانتصاره لهم، كذلك نرى دفاعه عما يصدر عن المتصوفة من أفعال ينكرها عليهم أهل الظاهر، ويعد ذلك من الأحوال التي تعرض لهم، وعلى غيرهم أن يسلم بها «1». والذي نلاحظه على كتاباته في التصوف حبه العميق للمتصوفة وحسن ظنه بهم، وتساهله في إيراد الأحاديث التي تدعم أقوالهم، ولو كانت هذه الأحاديث تروي غرائب أو أشياء قد ينكرها العقل، ولا يقر بقبولها. فهو مثلا يكتب رسالة يسميها «المنجلي في تطور الولي» «2»، يحاول أن يثبت فيها نقلا وعقلا إمكان وجود الولي في أكثر من مكان في الوقت الواحد، ويفيض في الأقوال المثبتة لما يقول وبالرغم من ذلك فإنه في كلامه عن حديث «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة»، والذي عقد له رسالة سماها «القول الجلي في أحاديث الولي» «3»، لم يزد على إيراده بأمانة جميع الطرق التي ورد بها الحديث وكلام أصحاب الحديث عن رجال هذه الطرق وتضعيف بعضهم، والحكم على الحديث بالضعف أو بالغرابة، ولم يعلق على ما نقله بشيء، وهذا يدلنا في الحقيقة على أمانته وتحرجه، بيد أنه لميله إلى التصوف يرجح ما يسند أقوالهم، فهو يرجح- مثلا- كون الحسن البصري قد لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى عنه، مع نص ابن حجر وغيره من كبار المحدثين على أنه لم يلقه، وذلك لأن المتصوفة يروون أن عليا قد ألبس الحسن خرقة التصوف، فإثبات عدم اللقاء يهدم قولهم ولذلك كتب السيوطي رسالة سماها «إتحاف الفرقة برفو الخرقة» حاول فيها إثبات رواية الحسن عن علي وبالتالي إثبات الباسه إياه خرقة

_ (1) انظر الحاوي للفتاوى ج 2 ص 405 وما بعدها، بعض الفتاوى المتعلقة بالتصوف. (2) الحاوي ج 1 ص 335. (3) الحاوي ج 1 ص 560.

التصوف «1». ورجح كون الخضر وإلياس عليهما السلام على قيد الحياة، وأجاب عن ذلك بأنه يرتضي القول الذي يذهب إلى أنهما من الأحياء فقال: والمرتضى قول الحياة فكم له ... حجج تجل الدهر عن إحصاء خضر وإلياس بأرض مثل ما ... عيسى وإدريس بقوا بسماء «2» بيد أنه يلاحظ عليه التساهل في إيراد الأحاديث التي تدعم ما يذهب إليه الصوفية، وبالرغم من أنه لا يصف طرق هذه الأحاديث بغير ما وصفها به المحدثون فإنه يحاول أن يتلمس أكبر عدد من الطرق التي وردت للحديث الواحد لتقوية ما يورده، ويتضح ذلك فيما أورده عن وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال، وهو ما اشتهر عند الصوفية، وقد قوبل بالانكار فألف في ذلك رسالة سماها «الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال» «3»، ذكر فيها جميع الأسانيد التي روى بها الحديث وبالرغم من نصه على أن جميع ما ورد كان مرفوعا أو موقوفا فإنه يميل إلى اعتقاد ما ذكره لكثرة الطرق، وكثير من الأخبار التي أوردها عن التابعين وعن غيرهم في هذا المجال فيها تساهل يجعلنا لا نطمئن إليها. على أن التساهل في قبول الروايات الذي رأيناه عنده بصدد التصوف في بعض الأحيان قد ظهر لديه في أماكن أخرى حيث أورد كثيرا من الأخبار غير الصحيحة أو الموضوعة ولم ينبه على وضعها، ففي حديثه عن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان أورد بعض الاسرائيليات التي رواها كعب الأحبار ووهب ابن منبه وأضرابهما ولم ينبه عليها «4»، وفي الحديث عن أخبار المهدي «5»، أورد كثيرا من الروايات التي نقلها عن أبي نعيم وغيره، وكثير مما نقله تشهد متونه باستحالة صحته، ومع ذلك لم ينبه إلى حقيقة هذه الأخبار وإنما اكتفى بجمع ما

_ (1) الرسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 191 وما بعدها. (2) الحاوي ج 2 ص 250. (3) الرسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 417. (4) الاعلام بحكم عيسى عليه السلام، رسالة بالحاوي ج 2 ص 277 وما بعدها. (5) العرف الوردي في أخبار المهدي، رسالة بالحاوي ج 2 ص 123 - 166.

يتصل بالمهدي، وبعض هذه الأخبار يبدو عليه مسحة الوضع في العصر العباسي لا سيما الأخبار التي وردت فيها الاشارة إلى الرايات السود التي تخرج من قبل المشرق، وبعض هذه الأخبار يجعل خروج المهدي انتقاما من أهل الشام وظلمهم، وأن المهدي سينتقم منهم، ويعدل بين المسلمين ويتضح من روح هذه الأخبار أنها من الموضوعات زمن الأمويين، وجانب من الأخبار يذكر فيه السفياني الذي يهاجم الكوفة ويطلب أهل خراسان، والمعروف في التاريخ أن السفياني كان أحد الخارجين على الدولة العباسية، إلى كثير من الأخبار التي تمتزج بأحداث التاريخ المتعاقبة التي مرت بالأمة الاسلامية والتي يتضح فيها أنها لم تخل من حشو كثير وتزيد، كما أن بعضها تقطع ببطلانه ووضعه، كذلك فإن من الضعيف أو الموضوع الذي قبله السيوطي الأحاديث التي تتصل بعمر الدنيا، وأنه سبعة آلاف سنة «1»، على أن قبوله لبعض هذه الأحاديث كان نتيجة لما شاع في عصره من اعتماد الناس على حديث باطل هو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يمكث في قبره ألف سنة، وقد بين السيوطي بطلان هذا الحديث، وبين أن مقدمات الساعة وأشراطها وما ورد في ذلك من آثار تقضي بمجاوزة الأمة الألف، وذكر أن الأمة لن تجاوز بعد الألف خمسمائة عام، وقد كان غير موفق في هذا التقدير لأن أشراط الساعة من خروج الدجال والمهدي وغيره تستلزم أكثر من مائتي عام- كما نص على ذلك- وهذا ما لم يحدث إلى الآن، والحق أنه كان عليه أن يتوقف في مثل هذا الموضوع وأن يبتعد عن التقدير في مثل هذه الغيبيات «2». ومن قبيل ما ذكرناه جملة كثيرة من الأحاديث التي ساقها في كتابه «الخصائص الكبرى» أو «كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب» فقد تساهل في إيراد وقبول كثير من الآثار في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأورد كثيرا مما نص أئمة الحديث على وضعه وبطلانه. نخلص من ذلك إلى أن السيوطي برغم معرفته التامة بالحديث وعلومه ونقده فإنه كان يميل إلى التساهل في قبول المرويات التي تتصل بالتصوف والمسائل الغيبية، والأمور المستقبلية وقد كان هذا التساهل ناتجا عن انخراطه في

_ (1) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 168 - 171. (2) الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف، رسالة بالحاوي ج 2 ص 166.

السيوطي الفقيه:

سلك الصوفية، وقد عرف الصوفية بالتساهل في رواية الحديث، وفي رواية أخبار صلحائهم وكراماتهم، ولم يعتد الفقهاء بما يشتهر على ألسنة العامة من كرامات الأولياء أو بما يشتهر على ألسنة الصوفية فكثير منهم يجهل شروط صحة النقل، وكثير منهم يروي ما يسمعه ويحسن الظن بناقله، ولقد كان ذلك سببا في قول بعض علماء الحديث «إن من إخواننا من نرجو بركة دعائه، ولو شهد عندنا بشهادة ما قبلناها» «1». وقد حذر رجال الحديث منذ القدم من الرواية عمن عرف بالصلاح إذا لم يكن من أهل الضبط والدراية وقال قائلهم: «ما رأيت الصالحين في شيء أشدّ فتنة منهم في الحديث» «2». بيد أنه للانصاف فإننا ينبغي أن نأخذ أنفسنا بشيء من التحفظ في وصف السيوطي بالتساهل في قبول بعض المرويات، فهو ينقل ما ينقله بأمانة وينص على كونه ضعيفا أو مرفوعا أو موقوفا أو أن بعض النقلة غير موثق، ولا يخفي شيئا من هذه الأوصاف، فهو من ناحية البحث العلمي يقدم لنا الوصف الصحيح، ولكنه تأثرا بتصوفه يميل بقلبه إلى قبول ما يرويه والدفاع عنه في بعض الأحيان برغم أن كثيرا من هذه الأخبار في مرتبة الضعيف أو الغريب ولم ترتق إلى الحسن أو الصحة كما أن كثيرا منها موضوع. وهو يحاول- أحيانا- أن يجد لبعض الموضوعات مدّخلا في قسم الضعيف. السيوطي الفقيه: بلغ السيوطي درجة الاجتهاد في الفقه، وقد طبقت فتاواه الفقهية أرجاء العالم الاسلامي في حياته، وتشهد آثاره الفقهية بمقدرته، وقد كان شافعي المذهب، وبالرغم من بلوغه درجة الاجتهاد المطلق فإنه كان في فتاواه يفتي بمذهب الشافعي، وقد تولى تصدير الفقه بالجامع الشيخوني مكان أبيه منذ وقت مبكر في حياته. ودراسة الفقه ومعاناته تربط صاحبه بالبيئة التي يعيش فيها، وتجعله على

_ (1) الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية ص 158. (2) المصدر السابق ص 158، انظر ص 158 - 161.

السيوطي والأدب:

اتصال دائم بحاجات الناس ومشكلاتهم وما يجد من مستحدثات يطلبون فيها حكم الله فيعمل الفقيه عقله واستنباطه فيما عنده من نقول ويجتهد لينقل حكما يناسب ما جدّ من حادثات، أو يستنبط هذا الحكم، وحياته بالرغم من كونه فقيها متأخرا كانت مثالا لما نقول، فطالما استفتى في كثير من المسائل التي فتش عن إجاباتها ونقلها، أو استنبطها مما لديه من نقول وأدلة. وبالرغم مما وصل إليه من درجة عالية في الفقه أهلته للاجتهاد المطلق كالأئمة المجتهدين فإنه كان في اجتهاده- كما قال- مجتهدا مطلقا منتسبا أي أنه لم يخرج في غالب اجتهاده عن مذهب الامام الشافعي، وقد دافع عن فكرة الاجتهاد وبين أن كل عصر لا ينبغي أن يخلو من مجتهد، وهذا اتجاه نحمده له، فهو يدل على عقليته المتحررة التي ثارت على بعض ما بعصره من جمود. ولا يعنينا هنا التعرض لفتاوى السيوطي فهي من الكثرة بمكان، ولا يعنينا التعرض لمصنفاته الفقهية وجهوده فيها، وإنما نكتفي مما ذكرناه بأن نستدل على أن عقليته قد صبغها الفقه بصبغته وأثر فيها تأثيرا كبيرا، والفقه يستلزم من صاحبه إعمال عقله فيما لديه من نقول، ونقد النقول وفهمها الفهم الجيد، ثم تطبيقها العملي على الحوادث. وتأثر السيوطي بالفقه ودراساته، وإقباله على ما كتب فقهاء عصره، وما تركه السلف من كتب سنرى أثره عند الحديث عن الجانب اللغوي عنده حين يدرس مسائل العربية على غرار دراسة الفقهاء للفقه. وجدير بالذكر أن نذكر اهتمامه بعلم أصول الفقه الذي سيطبق منهجه على اللغة حين يحاول إنشاء علم يسمى بعلم أصول النحو، وحسبنا هذا القدر في الحديث عنه فقيها لأنا لا نبغي سوى تبين ثقافاته المتنوعة وجوانب عقليته والمؤثرات فيها لكونها أصولا ترفد منهجه في التفكير وتعين على تحديده. السيوطي والأدب: جدير بنا في ختام الحديث عن عقله ومنهجه في التفكير أن نتناول لغته في التعبير، ويقتضي ذلك منا أن ننظر في إنتاجه الأدبي، إذ تعيننا كتاباته جميعها على

الحكم على طريقة التعبير عنده، كما ينبغي ألا نغفل تعبيره الشعري، فله من الإنتاج الشعري ما يجدر أن نقف عنده بعض الوقت. ومن العجيب أنه قد جعل الترسل والانشاء في أواخر قائمة الفنون التي أجادها «1»، ولكن هذا في الحقيقة يعني أن إجادته لهما دون إجادته وعنايته بغيرهما، وإن كان ذلك لا يعني أنه لم يدل في هذين الفنين بدلوه. وقد عني بالإنشاء والترسل الكتابة الأدبية لا العلمية أو كتابة الدواوين ورسائلها، وهو أقل إنتاجا فيها، بيد أن له عددا كبيرا من المقامات والرسائل الأدبية والافتتاحات الأدبية الجميلة التي تعطينا صورة عن حياته الأدبية وأسلوبه لا سيما أنه قد عاش غضوبا سيال القلم تكلفه الغضبة رسالة يكتبها انتصارا لنفسه ومن هذه الرسائل نستطيع التعرف عليه أديبا معبرا عن نفسه مصورا مشاعره. وقد كانت الكتابة الأدبية في عصره- كما سبق أن بينا- يطغى عليها البديع، وأصبح ذلك التسابق في استخدام المحسنات اللفظية على اختلاف ضروبها شغل الكتاب الشاغل، وهو ما دعا السيوطي إلى الاعتراف بأنه لم ينبغ النبوغ الكافي في الانشاء والترسل، فهو حقا لم يبلغ ما بلغه كبار كتاب العصر السابقين له الذين برزوا في مدرسة البديع، وطول الاشتغال بالعلم وممارسة التأليف لا تترك لصاحبها فرصة لاتباع البديع والتزام المحسنات. على أن السيوطي قد جرى على نفس المنهج وسابق رجاله، فصدرت عنه رسائل ومقامات وكتب كثيرا من مقدمات كتبه ملتزما الأسلوب البديعي، ولكنه له بعض الرسائل التي تحرر فيها من بعض قيود اللفظ إلى حد ما، ولم تأسره الصناعة اللفظية. وقد كان أسلوبه في هذه وتلك تبدو فيه السهولة والوضوح والتجافي عن الغموض والتعقيد وهو متصل بما قدمنا من مميزات شخصيته التي تأثرت بالبيئة المصرية التي تميل إلى الاستقامة والسهولة والوضوح. وقد كتب السيوطي مقامات متنوعة اتبع في بعضها نهج الحريري وبديع

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 190.

الزّمان في ابتداع شخصية طريفة تدور حولها القصة، وتحرر في أكثرها من هذا المنهج فضمن بعض مقاماته موازنات ومنافرات وضروبا من الجوار التمثيلي كما في مقامته المسكية في أنواع الطيب، ومقامته الوردية في أنواع الرياحين، والتفاحية في أنواع الفواكه، والفستقية في أنواع النقول وغيرها، وبعض مقاماته يعتبر مقالات أو رسائل تعرض لموضوع معين ونتناوله بالمعالجة وذلك كمقامته اللازوردية في التعزية عن فقد الأولاد، ومقامته في وصف الروضة والمقامة الطاعونية وغير ذلك. فالمقامة المسكية يفترض فيها المؤلف اجتماع أمراء الطيب ومنافرتها وقيام أحد الحكام بإعطاء كل منهم أوصافه وحقوقه، وقد حكم بين المسك والعنبر والزعفران فقدم المسك وجعل العنبر ثانيا والزعفران في المرتبة الثالثة، وصرح لكل بفضله «1»، وقد التزم السيوطي المحسنات اللفظية في سائر المقامة، وفي المقامة الوردية «2»، افترض أن الأزهار قد اجتمعت عساكرها واتفقت على عقد مجلس لاختيار من هو أحق بالملك فصعد كل منها المنبر ليبدي فضيلته وحجته، وهو يلتزم فيها أيضا الأسلوب البديعي فيقول فيها: « ... واتفقت على عقد مجلس حافل، لاختيار من هو بالملك أحق وكافل، وها أكابر الأزاهر، قد صعدت المنابر، ليبدي كل حجته للناظر، ويناظر بين أهل المناظر، في أنه أحق أن يلحظ بالنواظر، من بين سائر الرياحين النواضر، وأولى بأن يتأمر على البوادي منها والحواضر ... الخ» «2». أما المقامتان التفاحية والفستقية فهما وصف لأنواع الفواكه والنقول وفوائدها المتنوعة، وما ورد فيها من الآثار مع العناية بالتزام الأسلوب البديعي الذي يتسم بالتكلف في غالب الأحيان. وتمتلئ مقامات السيوطي بالآيات والأحاديث التي يضمنها عباراته كما تشيع فيها الحكم والأمثال والأشعار الكثيرة، واختياره للأشعار يدل على ذوق أدبي جميل، وفي مقامته التي خصصها للتعزية عن فقد

_ (1) المقامة المسكية، مقامات السيوطي ص 1 - 11. (2) المقامة الوردية، المقامات ص 11 - 24.

الأولاد «1»، بدأها بقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ثم بين أن المصاب بفقد الأولاد من أعظم المصاب، وتحدث عن الصبر وما فيه من الأجر، وأورد الأحاديث التي تتحدث عن أجر الصبر على فقد الولد وأخذ يسرد الآثار والأخبار بأسلوب مقنع واضح، وبين ما للأطفال عند ربهم، ثم ختمها بقوله: «فيا أيها الوالد الجريح، والواله القريح، ماذا البكاء والصريخ، بعد هذا الخبر الصريح، وماذا العويل والضجيج بعد ما ثبت في الحديث الصحيح، وماذا التلهف والتأسف بعد هذا القضاء المريح المريح». فإن كنت تبكيه طلابا لنفعه ... فقد نال جنات النعيم مسارعا وإن كنت تبكي أنه فات عوده ... عليك بنفع فهو قد صار شافعا فطب نفسا بهذا الفضل العظيم، وقرّ عينا بنزول ولدك في جوار الرب البر الرحيم وأنشد عن نفسك قول شاعر حكيم: جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري وإن تلوت «يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم»، فاتل تلوها «إنما أموالكم وأولادكم فتنة، والله عنده أجر عظيم ... الخ» «2». على أنه قد تطرق في مقاماته إلى موضوعات فيها شيء من المجون والأدب المكشوف فمن مقاماته «رشف الزلال من السحر الحلال» «3»، وتسمى مقامة النساء، وقد تحدث فيها بلسان عشرين عالما يصف كل منهم ما جرى بينه وبين عروسه ليلة دخوله بها موريا باصطلاحات علمه وفنه، وبالمقامة تعبير مكشوف وميل إلى المجون برغم أنه بدأها بمقدمة استحث فيها على الزواج والابتعاد عن المحرمات، وقد التزم فيها المحسنات اللفظية وأكثر من إيراد الأشعار، وإذا كان

_ (1) المقامات ص 76، مخطوط بدار الكتب برقم 22729 ب. (2) مقامات السيوطي ص 84. (3) رشف الزلال من السحر الحلال (طبعت بالقاهرة طبع حجر بدون تاريخ).

السيوطي الشاعر:

قد انزلق إلى هذا الضرب من الأدب الماجن مع ما عرف عنه من زهد وتقوى وجد فلعل له عذره في ذلك، فهو أديب والأديب طروب، والنفس تمل من طول الجد وتميل إلى التروح، ولم يكن لدى الرجل من أسباب التروح غير ما يقرأه أو يكتبه. أما أسلوبه في مقدمات كتبه وفي رسائله الأدبية الأخرى فقد التزم فيه النهج البديعي واستعمل المحسنات اللفظية، أما في كتاباته العلمية فقد تحرر من البديع وأرسل قوله على عواهنه وتميز أسلوبه العلمي بالسهولة والوضوح والاستقامة وحسن العرض، ولولا تجنب الاطالة لمثلنا لجميع ذلك بأمثلة توضح ما نذهب إليه. السيوطي الشاعر: وليس غريبا أن يكون الرجل شاعرا فقد رأيناه أديبا يجيد فن القول النثري كما عرفه عصره، وقد كان بالاضافة إلى ذلك شاعرا، وقد ذكر أن له ديوان شعر، وقد رأينا له بعض الأشعار الجيدة، أما منظوماته العلمية فهي من الكثرة بحيث يعسر إحصاؤها وله كثير من الأجوبة الفقهية التي أجاب بها نظما، وله عديد من المنظومات التي تعرض فيها لموضوعات علمية دقيقة. وهكذا فإن الغالب على شعر الرجل الطابع العلمي حتى في أشعاره التي أنشأها في غير الأغراض العلمية، ولكن هناك أمرا يدل على ذوقه الشعري يتضح في اختياراته الشعرية التي أوردها في بعض كتبه ورسائله، وهي تدل على حسن تذوقه وفطرته السليمة. وقد نظم في الأغراض الشعرية المختلفة فله في المدح والرثاء والمديح النبوي، والاخوانيات والأحداث العامة، غير أنه كما قلنا ذو باع طويل في نظم العلوم والفنون، وله في المنظومات العلمية إنتاج كبير نذكر منه ما يلي: 1 - التبري من معرة المعري، وهي أرجوزة في أسماء الكلب «1». 2 - الخلاصة نظم كتاب الروضة في الفقه.

_ (1) طبعت مع كتاب تعريف القدماء بأبي العلاء.

3 - الفريدة: ألفية في النحو والصرف والخط «1». 4 - قطف الثمر في موافقات عمر «2»، أرجوزة فيما وافق فيه سيدنا عمر التنزيل. 5 - مختصر ملحة الاعراب للحريري في مائة وعشرين بيتا. 6 - موشحة في النحو «3»، أولها: إلى إله الأنام من نحلا ... أفضاله كل آمل أملا أرغب 7 - التثبيت عند التبييت «4»، وهي أرجوزة في سؤال الميت في القبر نحو مائة وخمسين بيتا. 8 - تحفة المجتهدين في أسماء المجددين «5»، منظومة في الحديث عمن يبعثه الله على رأس كل مائة. 9 - تعريف الفئة بأجوبة الأسئلة المائة «6»، وهي إجابة على نحو مائة من الأسئلة والألغاز أجاب عنها نثرا، ثم نظم إجاباتها. على أن له كثيرا من المنظومات غير ما قدمنا، وله مقطوعات نظمية كثيرة أجاب بها عن الأسئلة التي كانت ترد إليه نظما، وكتاب الحاوي ملىء بأمثال هذه الأسئلة والفتاوى التي أفتى بها نظما، إلى جانب فتاواه النثرية في جميع فروع المعرفة التي أجادها. ومن أمثلة شعره في الرثاء قوله في شيخه الشمنيّ المتوفي عام 872 هـ «7»: رزء عظيم به تستنزل العبر ... وحادث جلّ فيه الخطب والخبر رزء مصاب جميع المسلمين به ... وقلبهم منه مكلوم ومنكسر

_ (1) لها طبعة مستقلة. (2) طبعت ضمن كتاب الحاوي ج 2 ص 5. (3) مخطوط بدار الكتب برقم 191 نحو تيمور. (4) طبعت بالقاهرة. (5) مخطوط بدار الكتب برقم 8260 ح. (6) الحاوي ج 2 ص 502 وما بعدها، والنظم ص 547. (7) بغية الوعاة ص 165، حسن المحاضرة ج 1 ص 271.

ما فقد شيخ شيوخ المسلمين سوى انهدام ركن عظيم ليس ينعمر رزيئة عظمت بالمسلمين وقد ... عمت وطمت فما للقلب مصطبر تبكيه عين أولى الاسلام قاطبة ... ويضحك الفاجر المسرور والغمر ومن أمثلة منظوماته قوله في موافقات عمر رضي الله عنه «1». الحمد لله وصلى الله ... على نبيه الذي اجتباه يا سائلي والحادثات تكثر ... عن الذي وافق فيه عمر وما يرى أنزل في الكتاب ... موافقا لرأيه الصواب خذ ما سألت عنه في أبيات ... منظومة تأمن من شتات ففي المقام وأسارى بدر ... وآيتي تظاهر وستر وذكر جبريل لأهل القدر ... وآيتين أنزلا في الخمر وآية الصيام في حل الرفث ... وقوله نساؤكم حرث يبث وقوله لا يؤمنون حتى ... يحكموك إذ بقتل أفتى ... إلى آخر المنظومة. ومن الأسئلة التي وردت إليه نظما وأجاب عنها نظما، وهي كثيرة مبثوثة في كتابه ما سئل عنه في ضبط كلمة «يطلع» فسئل «2»: يا عالما فاق أهل العصر والأثر ... وزان أهل النهي في الخبر والخبر هل لام يطلع مضموم ويضبطها ... بذاك ذاكرها في البدو والحضر أو ينصبوها وضم اللام ذا خطأ ... كما تفوه شخص من أولي الفكر فأجاب بقوله: الحمد لله مزجي السحب بالمطر ... ثم الصلاة على المختار من مضر بالضمّ يطلع منقول وشاهده ... تطلع على قوم المقروء في الزبر والواقع أن المنظومات العلمية للسيوطي من الكثرة بحيث يدهش المرء من

_ (1) الحاوي ج 2 ص 5. (2) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 469.

تنوعها وتناوله فيها مختلف المسائل من مختلف ألوان المعرفة. ولعلنا بذلك نكون قد مثلنا لما عنده من الشعر وأعطينا صورة واضحة له. وإذ كنا قد بينا معالم ثقافته، وألقينا الضوء على عقله ومنهجه الفكري وحددنا أصول هذا المنهج واتجاهاته بما أثر فيها من مؤثرات علمية وبيئية، فليس أمامنا الآن سوى الحديث عن الآثار التي خلفها السيوطي والتي كانت تتناول جمع فروع المعرفة.

آثار السيوطي

آثار السيوطي عرف السيوطي بكثرة مؤلفاته، وقد أعانه على القيام بتأليف العدد الكبير من الكتب المنسوبة إليه ما طبع عليه من حب للتأليف وصبر عليه، وما عرف عنه من سرعة الكتابة، فقد روى عنه تلميذه شمس الدين الداوديّ أنه عاين أستاذه «وقد كتب في يوم واحد ثلاثة كراريس تأليفا وتحريرا» «1». على أن هذه الكثرة الكاثرة من الكتب المنسوبة له تجعل من العسير علينا أن نقوم بإحصائها على وجه الدقة، وأكثر عسرا أن نتتبعها لنعرف الموجود منها والمفقود، وما طبع وانتشر وما لا يزال مخطوطا، وقد عانيت في هذه المحاولات كثيرا من الجهد، وتكلفت كثيرا من المشقة. واحصاء هذه الكتب متفاوت بين من حاولوا إحصاءها، فالسيوطي قد ذكر في ترجمته لنفسه نحو ثلاثمائة مصنف، بيد أن قائمة الكتب التي سردها ليست الفيصل في آثاره التي خلفها إذ يبدو أنه قد ألف بعد كتابتها كثيرا من الكتب التي لم يذكرها فيها، كما يبدو أن هذه القائمة قد سقط منها على أيدي النساخ أسماء بعض الكتب، أو نسي هو ذكره، كما تغافل عن ذكر بعض الكتب التي قال إنه رجع عنها، والذي يؤكد لي هذه الفكرة أنه لم يذكر بين قائمة كتبه كتابا يعد من أهمها وهو كتاب المزهر، وليس هناك أدنى شك في نسبة الكتاب إليه فقد صرح باسمه في بعض كتبه الأخرى وأشار إليه، فوردت إشارته إليه أكثر من مرة في كتابه «النكت على الألفية لابن مالك والكافية لابن الحاجب ... »، وهذا الكتاب قد أتم السيوطي تأليفه عام 895 هـ «2»، مما يؤكد تأليف المزهر أو

_ (1) الشعراني ذيل الطبقات الكبرى ورقة 12 ص 23. (2) النكت على الألفية لابن مالك والكافية والشافية لابن الحاجب وشذور الذهب ونزهة الطرف لابن هشام (مخطوط بدار الكتب المصرية) انظر ورقة 327 ص 655.

الشروع فيه على يده قبل ذلك التاريخ، ونرجح أن إغفال ذكره جاء سهوا من المؤلف والأرجح أنه سهو من الناسخ. والجدير بالملاحظة أن بعض كتب السيوطي قد مكث يعمل في تأليفها ردحا من الزمن، يكتب حين يفرغ لها بعض أجزائها، ثم يشغل بأخرى أو تجرفه أحداث الحياة، ثم يعاود بعد حين ما بدأه منذ وقت بعيد، وقد حكى عن نفسه ذلك في بعض كتبه، فالكتاب السابق «النكت» ذكر أنه شرع فيه عام 867 هـ، وصنفه على ترتيب الألفية فكتب فيه إلى المعرب والمبني، ثم عاود الكتابة عام 876 هـ، فكتب جزء آخر، ثم عاود الكتابة عام 885 هـ، فانتهى إلى حروف الجر ثم أنهى تأليفه عام 895 هـ «1». وفي مقدمة «اللئالئ المصنوعة» يبين أنه شرع في تأليفه عام 870 هـ وفرغ منه عام 875 هـ وكتب منه عدة نسخ، بيد أنه بدا له في عام 895 هـ أن يعيد كتابته مرة أخرى مع بعض التغييرات والزيادات التي رآها لازمة لمؤلفه، فأعاد تأليف الكتاب مرة أخرى «2». كما توضح مقدمته لكتابه «بغية الوعاة» أنه شرع في جمعه والاعتداد له منذ عام 868 هـ، وأنه لم يخرجه على صورته الأخيرة إلا بعد عام 899 هـ، بعد أن كان بمكة واطلع على ما جمعه صديقه الحافظ نجم الدين بن فهد «3». والملاحظة الثانية أن الجانب الأكبر من مؤلفاته يتمثل في رسائل صغيرة أو كتيبات ما بين صفحة واحدة وبضع عشرات من الصفحات، وما هو دون العشر كثير فله نحو ثلاثين مقامة لا يتجاوز أكثرها عشر صفحات، وقد طبع من رسائله في كتاب «الحاوي للفتاوي» ثمانون رسالة، كما أن هناك مخطوطا قد عثرت عليه بدار الكتب يحوي نحو 114 رسالة له تكرر بعضها بكتاب الحاوي، وكثير من رسائله لا يزال مخطوطا، وبدار الكتب المصرية عدد كبير منها، بعضها في مخطوط مفرد، وبعضها ضمن مجاميع له أو مجاميع لأكثر من

_ (1) المصدر السابق ورقة 327. (2) اللئالئ المصنوعة ص 2، 3. (3) بغية الوعاة ص 2، 3

مؤلف، وبالرغم من ذلك فإن كتبه المطولة تمثل عددا كبيرا، وقد طبع من آثاره إلى الآن عدد لا بأس به، إلا أن قدرا كبيرا من هذه الآثار لا يزال مخطوطا، كما أن جانبا من آثاره قد ضاع وفقد على ما أرجح. والملاحظة الثالثة تتصل بوثاقة هذه المؤلفات وصحة نسبتها أو نسبة ما بها إلى السيوطي وهذه النقطة تستلزم دراسة لكل مؤلف منها منفردا، وهذا ما يستحيل القيام به تجاه أربعمائة أثر أو أقل أو أكثر، بيد أن كثرة المطالعة في كتبه جعلتني أستوضح شخصيته وأسلوبه وفكره الذي أستطيع تبينه ومعرفته في مؤلفاته، بالاضافة إلى ما يكتبه من إشارات متناثرة في داخلها عن بعض الأحداث التي تعرض لها في حياته أو إشاراته إلى كتبه الأخرى بما يجعلنا نطمئن إلى صحة نسبة أكثر هذه الكتب إلى السيوطي، ولكن ذلك لا يمنع أن بعضها قد دخله في بعض الأحيان حشو من قبل بعض تلاميذه أو من غيرهم، غير أن ذلك- على ما أرجح- قليل جدا، وقد استطعت أن أعثر في كتابيه «حسن المحاضرة»، و «الكنز المدفون»، على نصين قطعت بأنهما مما زيد على كتبه بعد موته فقد تحدث السيوطي في حسن المحاضرة عن سلاطين مصر من المماليك وسردهم سردا سريعا حتى انتهى إلى قانصوه الغوري، وإلى هنا يمكن أن نقول: إن ما كتب كان على يد السيوطي، إذ إن الغوري كان آخر السلاطين الذين عاصرهم، وقد توفي السيوطي عام 911 هـ واستمر حكم الغوري إلى عام 922 هـ، ونجد في الكتاب بعد ذلك مباشرة أن الغوري: «أقام في الملك إلى أن خرج من مصر في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة في جيش كبير إلى البلاد الحلبية لملاقاة السلطان سليم بن عثمان فوقع المصاف بينهما بمرج دابغ في خامس عشري رجب من السنة المذكورة، فمات في ذلك حتف أنفه ولم توجد جثته، ثم في يوم الجمعة رابع عشر شهر رمضان من السنة المذكورة تولى طومان باي الدوادار ابن أخي الغوري ولقب بالأشرف، ثم ان السلطان سليم بن عثمان دخل مصر في يوم الخمس سلخ الحجة سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وأقام بمصر إلى أن رحل عنها في رابع عشري شعبان من السنة المذكورة، وخلف عليها خاير بك المحمدي، ثم إن ابن عثمان مات ببلاد الروم في ليلة السبت تاسع شوال سنة ست وعشرين، وقام بعده في الملك ولده

سلطان العصر سليمان نصره الله تعالى، ثم مات خاير بك في ثالث عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وتسعمائة، ثم ولي بعد خاير بك مصطفى أحد وزراء السلطان سليمان، ثم في شهر رمضان قدم من الروم أمير لنيابة مصر يسمى قاسم، ثم جاء من بعده أحمد باشا، ثم من بعده سليمان باشا خسرو، ثم من بعد خسرو أعيد سليمان باشا ثم من بعده الزيني داود باشا متوليها الآن أدامه الله تعالى» «1». وواضح أن النص السابق قد وضع بعد السيوطي فأحداثه جميعا قد وقعت بعد وفاته، والنص كما يبدو يستمر في الحديث عن أحداث وقعت بعده إلى أكثر من ثلاثين سنة، بل إنني أرجح أن الحديث عن بعض السلاطين قبل هذا النص قد أضيف أيضا إلى الكتاب ولم يكن السيوطي قد كتبها، فمن المرجح أنه انتهى في ذكر السلاطين إلى محمد بن قايتباي الذي انتهى حكمه عام 904 هـ، والذي يرجح ذلك المنظومة التي ذكرت في نهاية هذا الفصل ونسبت للسيوطي فقد انتهت إليه، وعلى ذلك فمن المرجح أن ذكر السلاطين بعده إلى الغوري- وهم من معاصريه- مما أضيف إلى الكتاب أيضا. وقد تكررت هذه الاضافة نفسها في كتاب «الكنز المدفون والفلك المشحون» فقد ذكر السيوطي أن السادس من الخلفاء يكون مصيره الخلع ثم ابتدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدد الخلفاء بعده وذكر أن الحسن بن علي سادسهم قد خلع، واستمر في سرد أسماء الخلفاء الأمويين ثم العباسيين ثم الفاطميين بمصر ثم الأيوبيين بها ثم سلاطين المماليك حتى وصل إلى قايتباي فقال: «ثم الملك الأشرف قايتباي أيده الله ونصره وحكمه في رقاب الكفرة الفجرة ببركة محمد وحببه في الفقراء والمساكين»، ويبدو من هذا الدعاء أن الكتاب قد ألّف في عهد قايتباي (901 هـ) ولكن نجد بعد ذلك وهو ما نرجح كونه مدسوسا العبارة التالية: «فمات ثم ولده الملك الناصر فقتل، ثم الملك الظافر قانصوه فخلع ثم الملك الأشرف جانبلاط فخلع وقتل، ثم الملك الأشرف قانصوه الغوري» «2».

_ (1) حسن المحاضرة ج 2 ص 106، 107. (2) الكنز المدفون ص 81.

وبالرغم من أن هؤلاء قد عاصرهم السيوطي أواخر حياته إلا أننا نرجح أن هذا النص مدسوس عليه، ثم إننا نقطع بأن بقية النص مزيدة على كتاب السيوطي بعد وفاته إذ نذكر أن الغوري: «سار بعسكره إلى مرج دابغ لملاقاة السلطان الملك المظفر سليم بن عثمان فلما التقيا خر ميتا وجهل أمره ولم يوجد، ثم مات الملك المظفر سليم بن عثمان بجمرة في ظهره وولي ولده السلطان الملك المظفر سليمان شاه أدام الله تعالى أيامه وأصلحها وأبعد عنه قرناء السوء» «1»، ويتضح أن كاتب هذا النص كان يعيش في عصر السلطان سليمان القانوني (926 هـ- 972 هـ)، ولعله أحد تلاميذ السيوطي، وقد رجحت أن يكون ابن إياس المؤرخ إذ إنه ينتهي في تاريخه إلى هذا الوقت، وهو من تلاميذ السيوطي، ويتحدث عنه دائما بقوله «شيخنا». على أن ذلك لا يطعن في وثاقة مؤلفات السيوطي وصحة نسبتها إليه، ولكن ما أريد أن أصل إليه هو أن هذه المؤلفات لم تسلم من قليل من الزيادات، كما أنها لم تسلم من بعض النقص، وقد سبق عند الحديث عن شيوخ الخانقاه الشيخونية أن رجحت سقوط بعض الأسماء التي ذكرها السيوطي، كما رجحت من بعد سقوط بعض أسماء مؤلفاته التي ذكرها في ترجمته لنفسه. وإذا حاولنا العودة إلى مصنفاته واحصاءها فإننا نذكر أنه قد سمّى نحو ثلاثمائة مصنف منها ولم يستوعب جميعها، وأغلب الظن أن بعض ما ذكره قد سقط من أيدي النساخ، وأرجح أن يكون من بين ما سقط مصنفات اللغة كالمزهر وأسماء الذئب والأسد والكلب وغيرها، وقد ذكر الشعراني أن مصنفاته بلغت أربعمائة وستين مصنفا «2»، وقد أحصيت ما أورده له صاحب كشف الظنون فبلغ نحو أربعمائة وسبعة وستين مصنفا «3»، ثم أحصيت ما أورده صاحب كتاب هدية العارفين فبلغ نحو خمسمائة وستة وثمانين مؤلفا «4»، وقد

_ (1) المصدر السابق ص 81. (2) الشعراني ذيل الطبقات الكبرى ورقة 5 ص 9، 10. (3) حاجي خليفة: كشف الظنون، في أماكن متعددة. (4) إسماعيل البغدادي: هدية العارفين بأسماء المؤلفين وآثار المصنفين ص 535 - 544.

أحصى فلوجل أعماله العلمية فبلغت 561 عملا «1»، وقد ذكر بروكلمان قائمة مؤلفات السيوطي بيد أنه اقتصر على ما أورده السيوطي في ترجمته ولم يزد عليه «2». وقد كنت أود أن أورد هنا ثبتا أستوفي به الحديث عن جميع آثار السيوطي، بيد أني رأيت ذلك يستغرق صفحات كثيرة فضلا عن خروجه عما نقصد إليه من بحثنا إلى مجرد القيام بالفهرسة لهذه الكتب، ولذلك فإنني تجنبا للاطالة والاستطراد رأيت أن أجعل هذه الفهرسة في آخر الرسالة بمشيئة الله ضمن مسرد المصادر، فأتجنب بذلك تكرار ذكر هذه الآثار، وهناك سأبين ما قد رجعت إليه ووقفت عليه من هذه الآثار، وما لم أتمكن من الوقوف عليه.

_ TheEncy clopaediaofIslam «Suyuti» (1) 178 -198) .G echichteDerArabi schenlitteraturV.II 178 -198. (2) جز 2 ص)

الباب الثاني جهوده اللغوية

الباب الثاني جهوده اللغوية

تقديم:

تقديم: بعد أن عرضنا للحديث عن عصر السيوطي وحياته وثقافته وتعرفنا على شخصيته وعقليته ومنهجه، وعرفنا بآثاره، نريد أن ننتقل هنا إلى دراسة الجانب اللغوي لديه وأريد بالجانب اللغوي جميع ما يتصل بالدراسة اللغوية التي تصنف الآن إلى مستويات دراسية خمسة هي المستوى الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والدلالي وأقصد من التعرض لها ودراستها استيضاح جهود السيوطي وبيان أثره في هذه الدراسات، وأسلوبه في تناولها، ومميزاته الشخصية التي تميزه في هذا الميدان من ميادين المعرفة الانسانية عن غيره من اللغويين، فهل كان للسيوطي أثر في هذه الدراسات؟ وهل كان له مميزات خاصة تفرد بها عن غيره، وما قيمته بالنسبة لتاريخ هذه الدراسات عند العرب؟، ذلك ما نحاول في هذا الباب أن نحدد معالمه وأن نقطع فيه برأي. على أن السيوطي بالرغم من تنوع الميادين التي طرقها فإنه قد برّز في ثلاثة منها كما ذكرنا من قبل هي الحديث والفقه والعربية والمقصود بها النحو بما يشمل في معناه العام من الأبحاث الصرفية، وقد حكى عنه الشعراني بلوغه درجة الاجتهاد المطلق في هذه العلوم الثلاثة «1»، كما حكى عنه قوله عن نفسه فيما يخص الاجتهاد في العربية إنه «لم يكن بعد ابن هشام من يصلح أن يوصف به غيري» «2»، وقد حدد آلات الاجتهاد ومؤهلاته بقوله: «وأما الاجتهاد في العربية فهو أن يحيط بنصوص أئمة الفن من سيبويه إلى زمانه هذا، ويحفظ غالب شعر العرب الذين يحتج بأشعارهم في العربية، ولا يضر خفاء بعض ذلك عليه، وليس المراد حفظه عن ظهر قلب، وإنما المراد أن يكون له اطلاع على دواوينهم

_ (1) ذيل الطبقات ورقة 6 ص 12. (2) المصدر السابقة ورقة 8 ص 16.

بحيث يعرف محل الاستدلال بذلك من الكتب، ويكون مع ذلك محيطا بقواعد النحاة التي بنوا تصرفاتهم عليها غير القواعد المذكورة في واضحات الكتب، فإن تلك كالأصول لهذه القواعد، وهذا لا يعرفه الآن إلا متبحر في الفن» «1». والحق أن صلة السيوطي باللغة ودراستها جد مبكرة فقد كانت أول إجازة علمية حصل عليها في حياته بتدريس العربية، وقد تتلمذ كما رأينا على يد أشهر رجال عصره في النحو وهم الكافيجي والشمني وسيف الدين الحنفي، وقد أتاحت له ظروفه أن يقف على كثير من الكتب التي لم تكن في متناول غيره من خزانة محمود التي كانت تحت نظره، وقد وضح صلته بالدرس اللغوي قائلا: «ولم أزل من زمن الطلب أعتني بكتبها قديما وحديثا، وأسعى في تحصيل ما درس منها سعيا حثيثا إلى أن وقفت منها على الجم الغفير، وأحطت بغالب الموجود مطالعة وتأملا، بحيث لم يفتنى سوى النزر اليسير، وألفت فيها الكتب المطولة والمختصرة وعلقت التعاليق ما بين أصول وتذكرة، واعتنيت بأخبار أهلها وتراجمهم وإحياء ما دثر من معالمهم، وما رووه وروّوه، وما تفرد به الواحد منهم من المذاهب والأقوال، ضعفه الناس أو قووه، وما وقع لهم مع نظرائهم وفي مجالس خلفائهم وأمرائهم من مناظرات ومحاورات ومجالسات ومذاكرات ومدارسات ومسامرات وفتاوى ومراسلات، ومعاياة ومحاجاة، وقواعد ومناظيم، وضوابط وتقاسيم، وفوائد وفرائد، وغرائب وشوارد، حتى اجتمع عندي من ذلك جمل ودونتها رزما لا أبالغ وأقول وقر جمل» «2». وقد حاول أن يسلك مسلك اللغويين القدماء في إملاء اللغة كما يملي الحديث في مجالس، ولكنه لم يجد من يحمل ذلك عنه «3». وتدل آثاره في الدراسات اللغوية على أنه لم يكن مبالغا في أقواله السابقة، فكثرة ما جاء بها من أفكار وأخبار وترتيبها وتنسيقها يستلزم مجهودا ضخما وإحاطة واسعة ودراية بالغة بهذه الفنون.

_ (1) نفس المصدر ورقة 9، 10 ص 18، 19. (2) مقدمة الأشباه والنظائر ص 3. (3) المزهر ج 2 ص 314.

وإذا كان السيوطي قد تناول في أبحاثه المتنوعة كثيرا من المباحث التي تدرس في المستويات الصوتية والمعجمية والدلالية، كما أنه خلف عددا ضخما من المصنفات النحوية التي تضمّ أبحاث الصرف فليس أمامنا غير أن نعرض لكلتا الناحيتين من دراساته، ولذلك رأيت أن أجعل الفصل الأول لبحث جهوده في المستويات اللغوية التي تتصل بالأصوات والمعاجم والدلالة والقضايا اللغوية العامة، وأن أخصّص الفصل الثاني لتناول ما يتصل بجهوده النحوية بما تشمله بالطبع من أبحاث صرفية، أي ما يتصل بدراسة التراكيب والصيغ، وقد رأيت أن يكون عنوان الفصل الأول الخاص بالجانب غير النحوي «فقه اللغة» وأعني به جميع مستويات الدرس اللغوي يضاف إليها القضايا العامة، وجعلت عنوان الفصل الثاني: «النحو» وعنيت به مدلوله الواسع الذي يشمل الصرف.

الفصل الأول

الفصل الأول فقه اللغة أو: «الدراسات اللغوية غير النحو والصرف» تقديم: لا بد لنا لكي نقوم الدور الذي أداه السيوطي في ميدان فقه اللغة من أن نعرض لجهود سابقيه التي نظر فيها واعتمد عليها لكي نقارن ما قام به بما قام به غيره، ومن ثم نستطيع الحكم له أو عليه ونستطيع أن نتبين مقدار الجهد الذي بذله في هذا الميدان وقيمته، كما أن هذه المقدمة ضرورية لبيان تطور الدراسة اللغوية عند اللغويين العرب الذين يعد السيوطي من متأخريهم، أي أنه لغوي شهد آخر مراحل هذا التطور في الدراسة وعلى يديه وصلت الدراسة اللغوية إلى مرحلة أرقى مما كانت عليه عند سابقيه كما سنتبين ذلك فيما بعد. ونريد هنا بالدراسة اللغوية أو «فقه اللغة» ما يعنيه المحدثون بفقه اللغة وعلم اللغة فأبحاثهما متداخلة مشتركة بحيث إن كثيرا من المؤلفين المحدثين في علم اللغة يرون أبحاثهم داخلة في ميدان فقه اللغة، ولا نريد بالدراسة اللغوية في هذا الفصل ما يتصل منها بعلم النحو لأننا سنخصص- كما ذكرنا- للدراسة النحوية، فصلا مستقلا نبحث فيه جهود السيوطي فيها. وقد بين بعض المحدثين أن خير ما توصف به أبحاث اللغويين القدماء هي أن تسمى بفقه اللغة، ذلك أن فقه الشيء هو كل ما يتصل بفلسفته وفهمه والوقوف على ما يسير عليه من نواميس «1».

_ (1) د. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة ص 14.

فما المراحل التي مر بها الدرس اللغوي قبل السيوطي؟ وما الأدوار التي اضطلع بها رجال اللغة على مر الأحقاب المتوالية؟ ثم ما هي الآثار التي خلفها هؤلاء في ذلك الفرع من فروع المعرفة الانسانية؟. الحقيقة أن الاجابة على ذلك تستلزم بحثا طويلا يخرج بنا عما نقصد إليه من بحثنا وهو تحديد دور السيوطي في الدرس اللغوي لا سيما أن الآثار التي خلفتها القرون الطويلة من الكثرة بحيث يصعب مجرد حصرها فضلا عن تناولها بالدراسة، وليس يعني ذلك التقاعس عن التعرض لهذا الموضوع، وإنما يعني أننا سنتناوله بالقدر الذي نراه موفيا لما نقصد إليه من بحثنا الأساسي ولذلك فلا لوم علينا إذا اقتصرنا على تناول المعالم الرئيسية لهذا الموضوع أو اقتصرنا على الاشارة إلى أهم رجال اللغة، مغضين النظر عن بعض التفصيلات التي لا تحدث تغييرا في الصورة العامة التي نرسمها ونحددها. والبحث في اللغة ينشأ لدى أي أمة من الأمم نتيجة لقيام تضاد بين لغتين أو مرتبتين من لغة واحدة «1»، فحينئذ يمكن ملاحظة بعض الخصائص اللغوية، وقد كانت العربية منذ وقت مبكر حافلة بصور الخلاف بين لهجاتها المتعددة التي تمثل مستوى معينا في الاستعمال العادي بعضها مع بعض من ناحية، وبين جميع هذه اللهجات وبين اللغة المثالية التي هي لغة القرآن والأشعار والتي كان العرب جميعا يستطيعون فهمها من ناحية أخرى. بيد أن الدافع القوي الذي دفع إلى البحث في الدرس اللغوي والعناية بالألفاظ اللغوية هو نفس ما حدث بالنسبة للنحو من انتشار اللحن نتيجة لاختلاط العرب بغيرهم من الأمم، فلم يعد اللحن يقتصر على عدم القدرة على ضبط أواخر الكلمات بل تعداه إلى استعمال الألفاظ وتحريفها في الاستعمال عن مواضعها التي تعارفت العرب عليها، أو عدم القدرة من قبل المستعربين على حفظ هذه الألفاظ وضبطها والنطق بها على هيئاتها الصحيحة الصوتية والصرفية مما هدد بضياع كثير من الفاظ اللغة، وحفز بالتالي العلماء على تدوينها

_ (1) بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ترجمة الدكتور محمد عبد الحليم النجار ج 2 ص 123.

وضبطها والبحث عن معانيها الدقيقة، لتعين فيما بعد على تفهم معاني القرآن الكريم والحديث والشعر، وقد عبر عن هذه الحقيقة ابن خلدون بقوله: انه «لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالاعراب واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه، ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنة المستعمرين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتابة والتدوين خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين» «1». ومن هنا فإن العناية بدراسة ألفاظ اللغة وتحديد مدلولاتها وضبطها قديم، وربما كان هذا النوع من الدراسة أقدم في نشأته من العناية بالاعراب، لأن نشأته قد بدأت في الظهور منذ العناية بالنص القرآني وتفسير بعض ألفاظه. ولعلّ فيما ينسب إلى ابن عباس رضي الله عنه من المسائل المعروفة بمسائل نافع بن الأزرق لعل فيها دلالة على هذه العناية منذ وقت مبكر سواء صحّت نسبة جميعها أو بعضها. على أننا ندخل في دائرة الدراسة اللغوية الجادة التي بقي لأصحابها آثار تدل على نوعية دراساتهم، أو أثر عنهم قيامهم بأنواع من الدراسات اللغوية حين تصل إلى أبي عمرو بن العلاء «2»، ونكون بذلك قد تخطينا من المشتغلين بالبحوث اللغوية طبقة أبي الأسود وتلاميذه الذين غلب عليهم الاشتغال بالنحو، وقد كان أبو عمرو معاصرا لعبد الله بن أبي إسحاق صاحب الشهرة الكبيرة في تاريخ النحو والقياس وكان «عبد الله يقدّم على أبي عمرو في النحو، وأبو عمرو يقدّم عليه في اللغة، وكان أبو عمرو سيد الناس وأعلمهم بالعربية والشعر ومذاهب العرب» «3». وقد ولد أبو عمرو بمكة عام 70 هـ تقريبا وعاش بالبصرة، وتحدثنا تراجمه العديدة في كتب الطبقات بقيامه بجمع أشعار العرب القدماء والدءوب على

_ (1) ابن خلدون: المقدمة ص 548. (2) راجع مقدمة تهذيب اللغة للأزهري ج 1 ص 8. (3) المزهر ج 2 ص 398، 399.

شرحها وإجراء الملاحظات اللغوية عليها، بيد أن شيئا من كتبه لم يصل إلينا «1»، وقد ذكر القدماء أنه أحرق هذه الكتب قبل وفاته، ولكن أثره قد ظهر واضحا في تلاميذه الذين برزوا في ميدان اللغة وقد توفي أبو عمرو عام 145 هـ. وأهم اللغويين الذين نجدهم في هذه الفترة هم تلامذة أبي عمرو وطبقتهم «2»، وقد قام هؤلاء بأجل الأعمال اللغوية فقد اضطلعوا بعملية شاقة تتمثل في جمع اللغة والرحلة إلى البادية تحقيقا لهذا الغرض، وقد ظلت الرحلة إلى البادية والسماع من الأعراب الذين لم تديف ألسنتهم بالعجمة سنة متبعة بين اللغويين حتى منتصف القرن الرابع الهجري، وفي ذلك الحين توقف اللغويون عن الأخذ عن أعراب البادية، وانتهى بذلك عهد السماع اللغوي، وانقطع المدد اللغوي المنطوق الذي كان يعتمد عليه اللغويون بالاضافة إلى ما لديهم من مصادر مقررة ومعروفة تتمثل في القرآن الكريم بقراءاته وأشعار الجاهليين والاسلاميين والأمويين الذين يختتمون بابن هرمة، وأقوال فصحاء الحواضر حتى منتصف القرن الثاني. وبذلك فإن المرحلة الأولى في التأليف اللغوي قد تأثرت بما يهم اللغويين في ذلك الحين وهو عملية الجمع، ونلاحظ على آثارهم التي خلفوها عنايتها بجمع الألفاظ التي تدور حول موضوع معين دون أن يكون هناك اهتمام كبير بدراسة الفلسفة اللغوية لهذه الألفاظ أو تعمق في دراسة الخصائص اللغوية المتنوعة المتصلة بها. وأقدم المؤلفات في اللغة هي ما خلفه هؤلاء فقد ترك الأصمعي (215 هـ) عددا كبيرا من الكتب ضاع عدد منها ووصل إلينا عدد لا بأس به، والنظرة في كتب الأصمعي تؤيد الملاحظة السابقة عن اتجاه المؤلفين إلى جمع الألفاظ التي تتصل بموضوع ما بعضها إلى جانب بعض، فله من الكتب خلق الانسان، الأجناس والأنواء، الهمز، المقصور والممدود، الصفات، الميسر والقداح، خلق الفرس، الابل، الشاء، الأخبية والبيوت، الأمثال، الأضداد، الألفاظ،

_ (1) بروكلمان: تاريخ الأدب العربي الترجمة العربية ج 2 ص 129. (2) الأزهري: مقدمة تهذيب اللغة ج 1 ص 11.

اللغات، الاشتقاق ... إلى آخره «1». ويتضح من ذكر بعض مؤلفاته دراساته لبعض الظواهر العامة في اللغة كالاشتقاق والأضداد، وأن معظم كتبه معاجم متنوعة ترمي إلى بيان المفردات الموضوعة لمختلف المعاني. وكان معاصرا للأصمعي اللغوي الكبير أبو زيد الأنصاري (214 هـ) وكان من رواة اللغة الموثوق بهم، وقد ترك من الكتب: الإبل والشاء، المطر، خلق الانسان النبات والشجر واللغات والنوادر والجمع والتثنية، وتحقيق الهمزة والوحوش ... إلى آخر ما صنف من كتب «2»، وقد بقي من كتبه عدد لا بأس به، ونفس ما قلناه عن الأصمعي وآثاره يمكن أن نحكم به على أبي زيد من ناحية توزع مباحثه اللغوية بين الاهتمام بالمعاجم المتنوعة للمعاني المختلفة وبين بعض الظواهر اللغوية، وقد قيل عنه إنه كان شديد العناية بجمع اللغات أي اللهجات، وقد ترك أبو عبيدة معمر بن المثنى (210 أو 211 هـ) عددا كبيرا من الكتب منها غريب القرآن ومعاني القرآن وكتاب الموالي وكتاب الضيفان ومرج راهط والمنافرات والقبائل والعقارب والحيات والنوائح والخيل والابل والمصادر والأضداد «3». وهذه كما يتضح تعنى بالمعاجم المتنوعة للمعاني المختلفة، أو بألفاظ القرآن بالاضافة إلى اهتمامه بالأخبار والتاريخ. وكذلك كان النضر بن شميل (204 هـ) وهو ممن أخذ عن الخليل وكان معاصرا لهذه الطبقة، يهتم بنفس ما اهتمت به طبقته من جمع الألفاظ، ويتناول بعض الظواهر اللغوية، وقد ذكر له من الكتب كتاب الصفات الذي احتوى مباحث تدل على ما قلناه «4». بيد أن أهم الأعمال اللغوية التي صدرت عن هذه

_ (1) ابن النديم: الفهرست ص 82، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 147 - 149. (2) الفهرست ص 81، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 145، 146. (3) الفهرست ص 79، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 142 - 144. (4) ابن النديم: الفهرست ص 77.

الفترة تمثل في معجم «العين» الذي نسب إلى الخليل والذي يوضح الاتجاه إلى جمع مفردات اللغة جميعها وترتيبها ومحاولة استقصائها، وبيان المستعمل منها والمهمل. ثم توالت جهود اللغويين بعد ذلك ووضعت بعض المعاجم على غرار كتاب العين، وأهم المعاجم العربية بعد كتاب العين «تهذيب اللغة» الذي وضعه الأزهري (370 هـ)، وقد اتبع فيه ترتيب مواد اللغة على نفس الترتيب الذي وضعه الخليل وهو: ع ح هـ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م ى وا. والأزهري من رجال اللغة القدماء، وقد وقع في أيدي القرامطة، واختلط بقوم منهم من عرب هوازن وتميم وسمع عنهم كثيرا من اللغة، وقد كتب الأزهري مقدمة قيمة لكتابه أرخ فيها تطور الدرس اللغوي عند العرب إلى عصره فذكر ثلاث طبقات من اللغويين سمع هو من رجال الطبقة الثالثة وأخذ عنهم. وقد وضعت كتب تهتم بجمع الألفاظ التي تتصل بمعنى من المعاني أو بجملة من المعاني المتقاربة، ووضعت بعض البحوث اللغوية المتناثرة حتى ظهر أبو الفتح عثمان بن جني (392 هـ) فأنتج كتابه الخصائص واهتم فيه بأبحاث عديدة تتصل بالقضايا اللغوية العامة والخاصة فتناول أصل اللغة ونشأتها، وبحث ظواهر الاشتقاق والقياس، وتناول اختلاف اللهجات، وضمّن كتابه عديدا من البحوث القيمة بالإضافة إلى الدراسة الصوتية المتميزة التي وضعها في كتابه «سر صناعة الإعراب» وفي غيره. كما ظهر ابن فارس (395 هـ) وتناول في كتابه «الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها» أصل اللغة ونشأتها كما تناول نظم العرب في مخاطباتها، وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا، وقد ذكر أن مثل هذه الأبحاث من الأبحاث التي تهتم بالأصول «1»، وهو يقصد ما كان يعنيه ونعنيه بفلسفة اللغة أو فقهها، وقد

_ (1) الصاحبي في فقه اللغة: المقدمة.

تضمن كتابه بعض المباحث الهامة في خصائص العربية، كالاشتقاق والقياس والترادف والمجاز والمشترك والنحت، واختلاف اللغات واللهجات. كما وضع ابن فارس معجما هاما جمع فيه كثيرا من المواد اللغوية وحاول ردّ مفردات كل مادة من مواد اللغة إلى أصولها المعنوية المشتركة، فلجميع مفردات المادة عنده أصل أو أصلان، ثم يتفرع الأصل أو الأصلان إلى فروع كثيرة، تربطها بالأصل صلة المعنى، وهذا هو الاشتقاق الدلالي الذي حاوله من قبل ابن دريد (321 هـ) في كتابه «الاشتقاق» الذي حاول فيه رد أسماء قبائل العرب وأفخاذها وبطونها وأسماء ساداتها وأعلامها إلى أصول لغوية اشتقت منها هذه الأسماء، وقد عبر ابن جني عن هذا الاشتقاق بالاشتقاق الأكبر بيد أنه لم يطبقه إلا على قلة من الكمات وأيا ما كان الأمر فمعجم ابن فارس فريد في نوعه لم يسبقه مثله، ولم يخلفه من نسج على منواله وقد سماه بمعجم مقاييس اللغة، وهو يعني بالمقاييس ما يسميه اللغويون بالاشتقاق الكبير الذي يرد مفردات كل مادة إلى معنى أو قلة من المعاني تشترك فيها هذه المفردات. وقد وضع الجوهري (398 هـ) معجما ضخما سماه «الصحاح» رتبه على أحرف الهجاء وراعى في ترتيبه أواخر الكلمات، وهي الطريقة التي اتبعها المتأخرون من المعجميين في العصر المملوكي كابن منظور والفيروزآبادي، وقد حصر الجوهري اللغة مقتديا بحصر الخليل وبين منهجه في مقدمته بقوله: «قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة التي شرف الله تعالى منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطا بمعرفتها على ترتيب لم أسبق إليه وتهذيب لم أغلب عليه، في ثمانية وعشرين بابا، وكل باب منها ثمانية وعشرون فصلا على عدد حروف المعجم وترتيبها إلا أن يهمل من الأبواب جنس من الفصول بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دراية ومشافهتي بها العرب العاربة في ديارهم بالبادية، ولم آل في ذلك نصحا ولا ادخرت وسعا». ثم ألف أبو منصور الثعالبي (439 هـ) كتابا بعنوان «فقه اللغة»، بيد أنه لم يضمنه إلا بعض المباحث القليلة التي تتصل بهذا العلم، حيث تحدث في آخره عن بعض الألفاظ العربية التي نسبت إلى الرومية، وبعض الأسماء المشتركة في

الوضع بين العرب والفرس، وبعض ما تفرد به الفرس من الأسماء مما اضطر العرب إلى تعريبه أو تركه، أو الأسماء التي ماتت فارسيتها ولا تزال عربيتها مستعملة. والكتاب يصب عنايته في الغالب على إصابة مواضع الاستعمال الصحيحة للألفاظ العربية، والتفرقة بين ما وضع منها على العموم وما وضع على الخصوص، وذلك لتجنب اللحن اللغوي الذي ينشأ من تحريف استعمال الألفاظ عن مواضعها التي وضعتها العرب لها، فالعرب مثلا تضع الأبيض لكل ما فيه بياض، ثم تخص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الانسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح، فلا يجوز تحريف هذه الألفاظ باستعمال الأزهر للخيل مثلا، والتحريف في الاستعمال كما يقولون «أشد من اللحن في الاعراب وأفحش» «1». فالكتاب في جملته معجم للمعاني، يراعي اختلاف الدلالات والفروق الدقيقة بينها وينبه على مواضع الاستعمال الصحيحة للألفاظ. أما ابن سيدة (المتوفي سنة 458 هـ) فقد تناول في كتابه «المخصص» بعض البحوث المتعلقة بنشأة اللغة العربية والترادف والتضاد والاشتقاق والاشتراك والتعريب ويقع كتابه في سبعة عشر جزء، وهو حسن التنسيق، بيد أنه في غالبه يمثل معجما كبيرا للمعاني، ففيه- مثلا- الألفاظ الخاصة بخلق الانسان ثم أوائل الحمل والولادة، ثم أسماء ما يخرج مع الولد، والرضاع والفطام ... وهكذا. وفي القرن السادس الهجري وضع الزمخشري (531 هـ) معجمه المسمى «أساس البلاغة» مرتبا كالمعتاد على أحرف الهجاء، وقد عنى فيه بذكر المعنى الحقيقي للكلمة والمعنى المجازي لها. وتوفر الجواليقي من علماء القرن السادس على دراسة «المعرب من الكلام الأعجمي» وقد رتب كتابه على حروف المعجم. ثم كان عصر المماليك الذي قدمنا خصائصه التي من أهمها اهتمام رجاله

_ (1) ابن خلدون: المقدمة ص 550.

بالجمع والتنسيق والنظر فيما تقدم من الكتب، وكثرة المؤلفات التي أرادوا بها إحياء الحركة العلمية التي قوضت دعائمها ببغداد، وأشهر من ظهر بهذا العصر من اللغويين ابن منظور الافريقي (711 هـ)، والفيروزآبادي (816 هـ). أما ابن منظور فقد عاش بمصر وتوفي بها، وله أعمال علمية كثيرة، بيد أن أهمها وأبقاها معجمه «لسان العرب» وهو معجم واسع المادة جمع فيه ستة كتب سبقته هي تهذيب الأزهري وصحاح الجوهري وحواشي ابن بري عليه، والمحكم والمخصص لابن سيدة، ونهاية ابن الأثير، وقد بلغت مواد المعجم ثمانين ألفا، ويمتاز بالبسط في تناول كل مادة، وقد ظهر بالمعجم أثر الموسوعية التي كانت من خصائص العصر كما سبق أن أشرنا، فهو كثير الاستطراد في شرح المواد اللغوية، وإذا كان لهذه الطريقة بعض العيوب فإن لها بعض المزايا، فقد احتوى المعجم على كثير من الفنون في الحديث والنحو والصرف والتفسير والأشعار والأراجيز وغيرها، وترتيب اللسان- كما هو معروف- بحسب أواخر المواد بعد تجريدها وهو ترتيب لم يعرف من قبل إلا عند الجوهري في كتابه «الصحاح». والفيروزآبادي عالم من علماء اللغة ولد بفيروزآباد إحدى قرى شيراز، وقد طوف بالشام ومصر وغيرها، وأخذ عن مشاهير علماء عصره، وقد صنف عديدا من المصنفات أربت على أربعين مصنفا، بيد أن أهم كتبه أيضا معجمه الشهير «القاموس المحيط»، وهو مختصر كتاب كان قد ألفه من قبل وسماه «اللامع المعلم العجائب الجامع بين المحكم والعباب»، وترتيبه كترتيب اللسان، ويمتاز بالاختصار مع كثرة مواده فقد احتوى نحو ستين ألف مادة، وقد استعمل مؤلفه الرموز التي تدل على الجمع والموضع واللفظ المعروف ليستعين بذلك على الاختصار، بيد أن هذا الاختصار قد جعل المعجم محل انتقاد بعض المتأخرين والحق أن بالمعجم بعض العيوب التي ترجع إلى الاختصار وبعض العيوب التي ترد إلى غير ذلك، فصاحبه لا يذكر أسماء الذين ينقل عنهم ولا ينبه- كما هو شأن اللغويين- على الفصيح والغريب والحوشي والمهمل والمذموم ... إلى آخره، بالاضافة إلى خلطه بين الأفعال الثلاثية والرباعية والخماسية، كما أنه لا

ينبه في أحيان كثيرة على الفروق الدلالية أو النحوية بين الألفاظ التي يفسر بها وبين الألفاظ المفسرة. بعد هذا العرض لتطور الدراسة اللغوية قبل السيوطي- في بيئة اللغويين- وبيان أبرز معالمها نستطيع أن نخلص إلى أن جميع ما سبقه من دراسات لغوية تتصل بالمستويات اللغوية غير النحو والصرف، أو بعبارة أخرى تتصل بفقه اللغة كما سبق أن حددنا مقصودنا بهذا المصطلح، وهي التي تأثر بها واعتمد عليها في دراساته، يمكن أن تندرج تحت أنواع أربعة من الدراسات: 1 - دراسات تهتم ببعض مسائل فقه اللغة، كدراسة الأصمعي للاشتقاق، وكتاب «الصاحبي» لابن فارس الذي تحدث فيه عن نشأة اللغة وتناول بعض مسائل فقه اللغة، وكتاب «الخصائص» لابن جني الذي بحث فيه أصل اللغة وتناول عددا من الموضوعات التي تهم فقه اللغة، وبعض الموضوعات التي ضمنها ابن سيدة في المخصص وبعض موضوعات كتاب «فقه اللغة» للثعالبي، وبعض موضوعات كتاب «المعرب» للجواليقي، وهناك عديد من الكتب التي تضمنت بعض البحوث اللغوية الهامة في طياتها كأمالي القالي وأمالي ثعلب وأمالي الزجاجي، وهناك طائفة أخرى اقتصرت على جانب من جوانب دراسات فقه اللغة ككتاب «الأضداد» لأبي عبيد، والأضداد لابن الأنباري، والمقصور والممدود لابن السكيت، والمقصور والممدود لابن سيدة، وكذلك للقالي، والإلماع في الاتباع لابن فارس، وأمثال هذه الكتب. 2 - معجمات تهتم بجمع الألفاظ وحصرها رامية إلى شرحها وترتيب موادها ترتيبا خاصا يتسنى معه إمكان الرجوع إليها لمن يبغي ذلك في سهولة ويسر، وأول من عمل على تدوين معجم شامل هو الخليل الذي وضع «العين» أو وضع فكرته ومنهجه وأساسه وأكمله بعض تلامذته، وقد ظهر بعده «معجم الجمهرة» لابن دريد، وقد خالف في ترتيبه سابقه، وهناك من أمثال هذه المعاجم الشاملة التهذيب للأزهري، والمجمل لابن فارس، والصحاح للجوهري، وأساس البلاغة للزمخشري، والعباب للصغاني، واللسان لابن منظور، والقاموس للفيروزآبادي.

3 - معجمات ترمي إلى بيان الألفاظ الموضوعة لمختلف المعاني والموضوعات فترتب المعاني والموضوعات بطريقة خاصة، وتذكر الألفاظ التي تستعمل في كل منها، وأهم هذه المعجمات «الألفاظ» لابن السكيت (243 هـ)، و «الألفاظ الكتابية» للهمذاني (227 هـ)، و «فقه اللغة» للثعالبي، وأكثرها جمعا وأضخمها كتاب المخصص لابن سيدة. 4 - معاجم خاصة تقتصر على ذكر ألفاظ موضوع من الموضوعات أو تهتم بطوائف معينة من الألفاظ، وهذه أقدم مؤلفات اللغة ظهورا، ويمثلها كتاب الأنواء والنبات لأبي حنيفة، وكتب الأصمعي التي أشرنا إليها وكذلك كتب أبي زيد في الابل والمطر وغيرها، وكتب أبي حاتم وأمثال هذه المصنفات. هذه جوانب الدراسة اللغوية التي سبقت السيوطي وأهم ما وضع فيها من الكتب، بيد أننا ينبغي ألا نغفل ما كان يحدث خارج البيئة اللغوية من تناول للغة، ونقصد بذلك دراسة الأصوليين (علماء أصول الفقه) للغة، فالحق أن السيوطي لم يقتصر على النظر في أبحاث اللغويين بل تجاوز ذلك إلى النظر في أبحاث الأصوليين التي تهتم باللغة، والحق أن «المقدمة اللغوية عند الأصوليين من أدق وأوفى ما كتب ويكتب عن الحياة اللغوية منذ نشأة اللغة إلى أن أصبحت كائنا معقد البناء والتركيب» «1». وقد ألم الأصوليون في هذه المقدمة بمباحث لم يستوفها الدارسون اللغويون، ولا نكون مبالغين إذ قلنا: إن تتبع ما عند الأصوليين من البحث اللغوي كثيرا ما يكون أجدى من تتبع بحوث أصحاب اللغة أنفسهم «2». كما كان للمتكلمين نصيب كبير في التوفر على دراسة نشأة اللغة والقول بمواضعتها واصطلاحها أو توقيفها، وقد اختلفوا فيما بينهم حول ذلك، وتعدّ هذه المسألة من أهم أبحاث علم الكلام.

_ (1) د. سيد خليل: التصور اللغوي عند العرب ص 184 (مقال بمجلة كلية الآداب- جامعة الاسكندرية). (2) أمين الخولي: مشكلات حياتنا اللغوية ص 27.

آثاره اللغوية ومكانها من حياة الدرس اللغوي

آثاره اللغوية ومكانها من حياة الدرس اللغوي توفر السيوطي على جميع هذه الدراسات التي سبقته، وقبل أن نحدد قيمة عمله بالمقارنة بأعمال السابقين وخصائص هذا العمل ومميزاته يحسن أن نعرف أولا بآثاره اللغوية لنتمكن من تحديد أبعاد جهوده في الدرس اللغوي. وأهم هذه الآثار التي تركها السيوطي في اللغة كتابه الشهير «المزهر»، الذي سنتناوله بالدراسة ونعتمد عليه في بيان منهج مؤلفه في الدرس اللغوي، وموقفه من الدراسات اللغوية السابقة، ومكانه بين هذه الدراسات، وقبل أن نفيض في ذلك نشير إلى أن للسيوطي بعض الرسائل الصغيرة في اللغة، والعجيب أن قائمة كتبه التي أوردها بحسن المحاضرة لم تذكر «المزهر» بينها كما لم تذكر رسائله اللغوية الأخرى، مما رجح عندي أن قائمة المؤلفات التي تخص اللغة قد سقطت من الترجمة ربما منه وربما من ناسخي الكتاب بعد ذلك وقد سبق أن ذكرت إشارته إلى المزهر في كتابه «النكت على الألفية ... » الذي لا يزال مخطوطا «1»، وقد ذكر كتاب «النكت» بين ما ذكره بحسن المحاضرة مما يرجح تأليف المزهر قبل كتابة الترجمة. والرسائل التي تركها في اللغة غير المزهر هي: 1 - المتوكلي فيما ورد في القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية، وهو كتيب صغير، وقد طبع بدمشق في عام 1348 هـ، وقد ألفه للخليفة العباسي المتوكل على الله صديقه، وكان قد طلب إليه ذلك «2»، وقد بين السيوطي أنه سماه بالمتوكلي اقتداء بأبي بكر الشاشي الذي ألف كتابا في الفقه بأمر الخليفة المستظهر وسماه المستظهري،

_ (1) النكت ورقة رقم 299. (2) المتوكلي ص 2.

وبإمام الحرمين الذي ألف في الفقه كتابا لغياث الدين نظام الملك وسماه الغياثي، وسمى رسالة أخرى الرسالة النظامية، وغيرهم ممن فعل ذلك «1». وقد تتبع السيوطي في كتابه ألفاظ القرآن التي نقل عن المفسرين من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أنها مما دخل العربية من اللغات الأخرى، والسيوطي بذلك يوافق القائلين بوجود ألفاظ معربة في القرآن الكريم، وهو الرأي الذي هاجمه الشافعي من قبل في رسالته «2»، حيث نفى تأثر العربية بغيرها من اللغات وأفرد صفحات طوالا لذلك، واتجه إلى القول بالاتفاق في الوضع اللغوي إذا وجدت مشابهة بين ألفاظ عربية وأخرى غير عربية، وموقف السيوطي من هذه القضية يبدو أكثر جلاء في كتابه الاتقان «3» حيث يتناول القضية فيذكر أن أكثر الأئمة يذهبون إلى عدم وقوع ألفاظ غير عربية في القرآن ومنهم الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة، والقاضي أبو بكر بن الطيب وابن فارس، وذلك لقوله تعالى: «قُرْآناً عَرَبِيًّا»، وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، وحكى السيوطي إنكارهم وقوع ألفاظ أعجمية في القرآن وميلهم إلى القول بالاتفاق في الوضع بين العربية وغيرها من اللغات، وقد بالغ بعض هؤلاء فذهب إلى أن اتساع العربية وكثرة ألفاظها جعلت أمثال هذه الألفاظ تخفى على أمثال ابن عباس وغيره ممن عزوها إلى ألسنة غير العرب، ويبدو من عرض السيوطي كثرة أنصار الرأي القائل بعربية هذه الألفاظ وتعليل ذلك باتساع لسان العرب حتى خفي على بعض الناس حقيقة هذه الألفاظ، بيد أن ثمة رأيا حاول صاحبه التوسط بين المنكرين والمثبتين وهو في الحقيقة أصوب هذه الآراء وأكثرها إدراكا للواقع اللغوي وما ينتج عن اختلاط اللغات بعضها ببعض من وقوع التأثير والتأثر في الألفاظ، واستعمال كل لغة بعض ألفاظ الأخرى بعد تهذيبها وصقلها وصوغها بصيغها المألوفة وهو ما يعرف في العربية بالتعريب، وقد وقع هذا التعريب في العربية،

_ (1) المصدر السابق ص 2. (2) رسالة الشافعي ص 41 - 51. (3) الاتقان في علوم القرآن ج 1 ص 136، 137.

ووجدت ألفاظ أجنبية استعملها العرب قبل الاسلام في لغتهم نتيجة الاختلاط بينهم وبين غيرهم من الأمم، وقد كان بمكة جاليات أجنبية من الحبشة والروم والفرس ممن اشتغلوا بالتجارة وأقاموا بها، وقد دخلت إلى العربية بعض ألفاظهم بعد شيء من التحوير في أصواتها وصيغها لتناسب الأصوات والصيغ العربية، كما أن اختلاط العرب بالأمم المحيطة بهم وهم طريق التجارة وأداتها بين الشرق والغرب معروف، ونلاحظ مصداق ذلك في أشعار الجاهليين لا سيما من أكثر منهم دخول بلاد الفرس والروم أو البلاد المجاورة لها. فنلاحظ لديهم استعمال الألفاظ الأجنبية بعد تعريبها، والقول الذي يشير إلى هذه الحقيقة ويرى استعمال الألفاظ المعربة في القرآن الكريم بعد أن عربتها العرب هو ما نسب إلى أبي عبيد القاسم بن سلام، وقد نقل عنه السيوطي قوله: «والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال عجمية فصادق» «1». وقد حكى السيوطي رأيا مشابها لهذا، ولكنه لم يحدد قائله، وهو أكثر وضوحا ودقة، إذ يرى أصحابه أنه «كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظا، غيرت بعضها بالنقص من حروفها، واستعملتها في أشعارها ومحاورتها، حتى جرت مجرى العربي الفصيح، ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن» «2». والقرطبي ينسب هذا القول إلى ابن عطية في عبارة أكثر تفصيلا- لخص عنها السيوطي عبارته السابقة- توضح تماما هذه الفكرة إذ يقول: «فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها، فهي عربية بهذا الوجه، وقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات، وبرحلتي قريش، وكسفر مسافر بن أبي عمرو

_ (1) المصدر السابق ج 1 ص 138. (2) الاتقان في علوم القرآن ج 1 ص 137.

إلى الشام، وكسفر عمر بن الخطاب، وكسفر عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة ومحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها، ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الصحيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، فان جهلها عربي، فكجهله الصريح بما في لغة غيره» «1». بيد أن المنكرين لوجود ألفاظ أعجمية في القرآن لا يقبلون الأقوال التي حاولت التوسط بينهم وبين خصومهم الذين يذهبون إلى وجودها، فابن فارس يرى خلوّ القرآن من الألفاظ الأعجمية، وينكر على أبي عبيد رأيه فيقول: «فإن قال قائل: فما تأويل قول أبي عبيد فقد أعظم وأكبر؟ قيل له: تأويله أنه أتى بأمر عظيم، وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شيء لتوهم منه متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها، وفي ذلك ما فيه» «2». ويتضح أن حجة ابن فارس لا يسندها الواقع اللغوي الصحيح، لأن العرب القدماء قد وقع في أشعارهم ألفاظ معربة كالسجنجل في شعر امرئ القيس وشهنشاه في شعر الأعشى، وغير ذلك كثير، ولم يخرجهم ذلك عن النمط العربي السليم، والأساليب العربية الصحيحة، فوقوع ألفاظ معربة في القرآن لا يعني أنه نزل بجملة من اللغات، وإنما نزل بالعربية بما احتوته من ألفاظ ذات أصول أجنبية تمثلتها العربية وصقلتها وفقا لخصائصها الصوتية والصرفية وأصبحت تستعمل بها، وهذا أمر معروف في جميع اللغات. والسيوطي يذهب مع القائلين بوجود ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم، وقد دلّ على رأيه وضعه الكتاب الذي نتحدث فيه، وسنرى له بعد قليل كتابا آخر يؤكد هذه الفكرة بيد أننا- في الحقيقة- لا نجد له- في هذا الكتاب المسمّى

_ (1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 68، 69. (2) الصاحبي في فقه اللغة ص 29، 30.

بالمتوكلي- رأيا فيما ذهب إليه أبو عبيد وابن عطية وغيرهما من الذين قالوا بتعريب هذه الألفاظ واستعمال العرب لها ثم استعمال القرآن لهذه الألفاظ بعد ذلك، وإن كان ما ذهبوا إليه لا يتنافى مع اختيار السيوطي لوقوع ألفاظ أعجمية في القرآن، وقد حاول نتيجة لطبيعة عقليته الحديثية النقلية أن يدعم رأيه ببعض الآثار والأحاديث فقال: «وأقوى ما رأيته للوقوع، وهو اختياري ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعي الجليل قال: في القرآن من كل لسان» «1». وقد أورد بعض النقول غير هذا ثم أكد احتواء القرآن على ألفاظ من مختلف اللغات بقوله «فالنبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كل أمة، وقد قال الله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو» «2». وعلى هذا الأساس وضع السيوطي كتابين أو رسالتين في هذا الموضوع غير تناوله له في كتابه الإتقان، وإذا عدنا إلى «المتوكلي» فإننا نستطيع أن نخرج بعد قراءته بالملاحظات التالية على منهجه: أولا: من ناحية تنظيم الكتاب، رتب السيوطي الألفاظ المنسوبة إلى كل لغة من اللغات على انفراد، فبدأ بذكر الألفاظ التي جاءت بلغة الحبشة، ثم ما جاء بالفارسية فالرومية، فالهندية، فالسريانية، فالعبرانية، فالنبطية، فالقبطية، فالتركية، فالزنجية، فالبربرية، فكأن بالقرآن ألفاظا من إحدى عشرة لغة، وهي اللغات التي كانت معروفة وقت نزوله. ثانيا: جميع ما أورده من الألفاظ حوالي 91 لفظا موزعة بين اللغات التي

_ (1) الإتقان ج 1 ص 137. (2) المصدر السابق ج 1 ص 137، وحجّة السيوطي واهية في نظرنا فليس وجود ألفاظ من لغة ما أو لفظة واحدة في العربية يعني أن الناطق للعربية ينطق بهذه اللغات جميعا، ومن البديهيّ أن المخاطبين بالقرآن الكريم من غير العرب لا يمكن لهم فهمه إلا بتعلم اللسان العربي، وليست اللغة مجرد ألفاظ إنما هي نظام له خصائص صرفية وصوتية وتركيبية ودلالية بالإضافة إلى ذلك.

ذكرها، بيد أن بعض هذه الألفاظ قد تكرر أكثر من مرة فيما أورده، لكونه منسوبا إلى أكثر من لغة، وبالرغم من ذلك لم يلفت السيوطي إلى شيء بصدد هذه الملاحظة وهي اختلاف النقول في نسبة بعض الألفاظ إلى اللغات، فهو بصدد الحديث عن السريانية يورد لفظة «الفردوس»، وذلك بإسناد عن ابن عباس عن كعب الأحبار «1»، ثم لا يلبث أن يوردها بين ما ورد بالنبطية ويعزو ذلك إلى السدّي «2»، وقد أوردها من قبل بين الكلمات التي جاءت بالرومية ونقل ذلك عن مجاهد «3»، وكثير من الألفاظ أورد السيوطي فيها نقولا مختلفة من هذا القبيل، ولم يعلق بشيء على ذلك، بل اكتفى بتنظيم رسالته على النحو الذي شرحناه، وسرد هذه الألفاظ موردا النقول التي تعزوها إلى لغة من اللغات، وهكذا يتضح في كتابه غلبة الطابع النقلي والعقلية الحديثية التي فصلنا من قبل خصائصها، وقد حدد في مقدمته ما يبين أنه سيذكر الألفاظ التي «ذكر الصحابة والتابعون أنها بلغة الحبش أو الفرس أو غيرهم مما سوى العرب» «4» فكأنه بذلك يصرح بحرصه على اتباع المنهج النقلي. وقد نسب السيوطي للحبشية 28 لفظا، وللفارسية عددا قريبا من هذا، وللرومية تسعة ألفاظ، وللهندية ثلاثة ألفاظ، وللسريانية تسعة عشر لفظا، وللعبرانية ثلاثة عشر وللنبطية ثلاثة وعشرين، وللقبطية سبعة ألفاظ، وللتركية لفظا واحدا، وللزنجية ثلاثة ألفاظ وللبربرية سبعة ألفاظ. ثالثا: نلاحظ أنه اجتهد في إيراد كل ما نقل القول عن نسبته إلى غير العربية ويبدو أنه نتيجة لوجهة نظره السابقة قد حاول أن يصل بهذه الألفاظ إلى عدد كبير، فتسامح في النقل إلى حد كبير، برغم أن بعض هذه الألفاظ يمكن القطع بعربيته، وأن بعضا آخر لا يقوم دليل على وجوده في بعض اللغات- لا سيما السامية منها- قبل العربية، ولذلك فلا حجة في نسبته إليها دون العربية، وكثير

_ (1) المتوكلي ص 9. (2) المصدر السابق ص 11. (3) نفس المصدر ص 8. (4) نفس المصدر ص 2.

من ألفاظ هذه اللغات لا تزال واحدة، أو متشابهة لكونها من عائلة لغوية واحدة، فلا داعي لنسبة بعض ألفاظ القرآن إليها دون العربية. وليس من الانصاف أن نؤاخذ السيوطي بإغفال بعض الحقائق التي لم نصل إليها إلا في عصرنا الحديث ففكرة العائلات اللغوية وليدة أبحاث علماء اللغة المحدثين، وقد ظهرت أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر «1»، وعلى أساس من هذه الفكرة التي ترد اللغات الحبشية والعبرية والعربية والسريانية بالاضافة إلى ما قيل من انتماء اللغة القبطية إلى نفس العائلة، على أساس من هذه الفكرة التي ترد هذه جميعا إلى أصل واحد، وفصيلة لغوية واحدة هي فصيلة اللغات السامية «2»، نستطيع أن نرد كثيرا من الألفاظ التي نقل السيوطي عن القدماء نسبتها إلى هذه اللغات لأن وجودها بها إنما هو من قبيل التشابه بين هذه اللغات التي تنتمي إلى أصل واحد وليس فيه دليل على حدوث التأثير، والمعروف أن كلمة مثل «نهر» لا تزال موجودة ومستعملة في جميع اللغات السامية، فليس لنا أن ننسبها إلى إحداها وندعي أنها دخيلة في غيرها من أخواتها الساميات، ومن هذه الألفاظ التي نستطيع القول بعربيتها مع نقل السيوطي نسبتها إلى غيرها كلمة «شطر» التي نقل أنها حبشية ومعناها تلقاء، وقد أكد الشافعي في رسالته عربيتها وأورد شواهد لذلك منها قول خفاف بن ندبة: ألا من مبلغ عمرا رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمرو وقول ساعدة بن جؤية: أقول لأم زنباع أقيمي ... صدور العيش شطر بني تميم وغير ذلك من الشواهد، فكثرة دوران الكلمة على ألسنة الشعراء القدماء يرجح أصالة عربيتها، وأنها ليست من المعرب الذي دخل إلى اللغة، فنسبة

_ (1) د. علي عبد الواحد وافي: فقه اللغة ص 5. (2) المصدر السابق ص 19.

مثلها إلى الحبشية أمر غير مقبول «1». وكلمة «ابلعي» التي قال إن معناها: ازدردي بالحبشية، ثم ذكر نسبتها مرة أخرى إلى الهندية، مع أن الكلمة باشتقاقاتها مستعملة ومعروفة في العربية فنسبتها إلى الحبشية تحكم بغير دليل مقبول، فقد ذكر صاحب اللسان «بلع الشيء بلعا وابتلعه وتبلّعه ... جرعه، وبلع الطعام وابتلعه لم يمضغه، وأبلعه غيره»، وذكر غير ذلك من المشتقات التي تفيد استعمال المادة بمشتقاتها في العربية مذ عصور قديمة، ولا دليل على نسبة الكلمة إلى لغة سامية أخرى. وكلمة «منسأة»، التي معناها «العصا» نسبها إلى الحبشية مرة وأخرى إلى الزنجية، وليست الحبشية بأولى من العربية في نسبة الكلمة إليها، فمادة «نسأ» مستعملة في العربية منذ القدم، وقد ذكر صاحب اللسان أن معناها الأول التأخير، وقال إن «المنسأة» العصا يهمز ولا يهمز، ينسأ بها، وأبدلوا إبدالا كليا فقالوا «منسأة» وأصلها الهمز ولكنها بدل لازم حكاه سيبويه وقد قرئ بهما جميعا، قال القراء في قوله عز وجل: تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ: هي العصا العظيمة التي تكون مع الراعي يقال لها المنسأة، أخذت من نسأت البعير أي زجرته ليزداد مسيره، وقد أورد صاحب اللسان جملة من الشواهد الشعرية المنسوبة إلى الجاهليين في استعمال هذه اللفظة. بل إن السيوطي قد نقل أن كلمة «كفّر» من «كفّر عنا سيئاتنا»، بمعنى «امح» عبرانية أو نبطية «1»، مع أن استعمالاتها العديدة بالعربية والتي ترجع معناها إلى الستر والتغطية كما هو مذكور بكتب اللغة بالإضافة إلى وفرة اشتقاقات مادتها يدحض القول بنسبتها إلى غير العربية، وإنما كل الاستعمالات التي تتفرع عن الأصل الأول يمكن أن يلحقها بعض التغيير عن الأصل تبعا لقوانين التطور الدلالي بأنواعه العديدة «3». وكذلك كلمة «يحور» من قوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ نقل السيوطي نسبتها إلى الحبشية لأنها بلغة الحبشة معناها يرجع، ونحن لا ننكر هذا المعنى أو وقوعه في الحبشية، ولكنا ننكر نسبة اللفظة إلى الحبشية فهي مستعملة منذ القدم

_ (1) الشافعي: الرسالة ص 34، 35. (3) لسان العرب «مادة كفر».

في العربية، قال في اللسان: «الحور: الرجوع عن الشيء أو إلى الشيء، حار إلى الشيء وعنه حورا، ومحارا، ومحارة وحؤورا رجع عنه وإليه، قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع» فالكلمة مستعملة بهذا المعنى في العربية، ووجودها في الحبشية بنفس المعنى أمر طبعي لكونها لغة سامية كالعربية، ولكن ذلك لا يعنى أن إحدى اللغتين قد نقلت الكلمة عن الأخرى، وإنما كلتاهما قد أخذتها من اللغة الأم. وكلمة «اليم» المستعملة في القرآن والتي نقل أنها معربة عن السريانية أو عن العبرانية ليس هناك ما يؤكد أن العربية قد أخذتها عن إحدى هاتين اللغتين، وإنما وقعت المشابهة نتيجة لاتحاد الأصل الذي تنتمي إليه اللغات الثلاث، والذي يجعلنا نرجح أن أكثر هذه الألفاظ أو جانبا منها لم تنقلها العربية عن هذه اللغات أن اللغات السامية لم يكن لها ما يدفع إلى تأثر العربية من غلبة المتكلمين بها أو كثرتهم أو تحضرهم باستثناء الحبشية التي كان لها شيء من التأثير بالمجاورة للعرب في وقت من الأوقات قبل الإسلام. وأمام هذه الكلمات المنسوبة إلى اللغات السامية نستطيع القول بأن وجهة نظر الذين نفوا دخول ألفاظ أعجمية في القرآن وذهبوا إلى القول بالاتفاق في الوضع اللغوي أقرب إلى الصواب من وجهة نظر الذين قالوا بوجود هذه الألفاظ، وإن كانت كلتا النظرتين غير دقيقة في جملة ما ذهبت إليه. ولا يقف الأمر عند الحدود السابقة، بل إن كثيرا من الألفاظ التي نسبها إلى لغات أخرى غير سامية نستطيع أن نحكم بعربيتها لوجود الأدلة التي تدلنا على ذلك، فقد نقل أن كلمة «مقاليد» كلمة فارسية ومعناها المفاتيح، مع أن مادة «قلد» ومشتقاتها مستعملة في العربية بكثرة ومنذ القدم وقد ذكر صاحب اللسان «قلد الماء في الحوض واللبن في السقاء والسمن في النّحي يقلده قلدا، جمعه فيه، والقلد جمع الماء في الشيء، ورجل مقلد: مجمع، والمقلد: عصا في رأسها اعوجاج يقلد بها الكلأ ... والجمع المقاليد، والمقلد: المنجل يقطع به القت قال الأعشى:

لدى ابن زياد أو لدى ابن معرّف ... يقت لها طورا وطورا بمقلد والمقلد: مفتاح كالمنجل .. وقوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يجوز أن تكون المفاتيح، ومعناه له مفاتيح السموات والأرض، ويجوز أن تكون الخزائن، قال الزجاج: معناه أن كل شيء من السموات والأرض فالله خالقه، وفاتح بابه». كما نقل نسبة بعض ألفاظ إلى القبطية لا يمكننا أن نقره عليها لوجودها في العربية واستعمالها منذ وقت بعيد، من ذلك كلمة «تحتها» في قوله تعالى: فَناداها مِنْ تَحْتِها إذ نقل أن معناها «بطنها» بالقبطية، وكلمة «بطائن» في قوله تعالى: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ حيث نقل أنها بالقبطية معناها «ظواهر» كذلك كلمة «الأولى» وهي اللفظة العربية الصريحة نقل أنها بالقبطية معناها «الآخرة» وذلك في قوله تعالى: الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وكذلك كلمة «الآخرة» العربية الصريحة نقل أنها بالقبطية بمعنى «الأولى» وذلك في قوله تعالى: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ. ونخلص مما تقدم إلى القول بأن مذهب المانعين لوجود ألفاظ أعجمية بالقرآن والذين يقولون بالاتفاق في الوضع اللغوي يجافي الصواب في أكثر نواحيه، وأن الذين يذهبون إلى وقوع هذه الألفاظ بالقرآن قبل أن تعربها العرب أو تستعملها لا يطابق الحقيقة وأن الذين توسطوا بين الفريقين وقالوا بوقوع هذه الألفاظ بعد أن عربتها العرب واستعملتها يبدو رأيهم أكثر صوابا، وإن لم يكن قد أصاب كبد الحقيقة، فليس من المقطوع به أن جميع هذه الألفاظ المنسوبة إلى اللغات الأخرى قد استعملتها العرب من قبل، أو عربتها، بل إن بعضها قد استعمله القرآن على الصيغ العربية لأول مرة. أما ما نأخذه على السيوطي فهو أنه قد انساق وراء مذهبه وحاول نسبة أكبر عدد من الألفاظ التي وردت بالقرآن إلى لغات غير العربية، وجانب كبير منها تصح نسبته إلى هذه اللغات مع القول بأنه معرب، وجانب ليس بالقليل لا يمكن القطع بأنه من هذا المعرب والقول بنسبته إلى هذه اللغات نظرا لوجوده بها- كما بينا- تحكم من غير دليل إذ ليس مجرد التشابه في الصيغ والأصوات في

2 - المهذب فيما ورد في القرآن من المعرب:

اللغات التي ترجع إلى أصل واحد دليلا على نقل إحداها عن الأخرى. 2 - المهذّب فيما ورد في القرآن من المعرّب: وهو مؤلف آخر للسيوطي في نفس الموضوع الذي كنا بصدده آنفا، بيد أن هذا المؤلف يتميز عن سابقه بعدة مميزات سنوضحها فيما يأتي، وقبل بيان مميزات هذا المؤلف نذكر أنه لم يطبع إلى الآن، وقد اعتمدت على نسختين مخطوطتين بدار الكتب المصرية بالخزانة التيمورية أولاهما برقم 285 لغة، وهي في 15 ورقة أي أن صفحاتها 29 صفحة، وصفحاتها من القطع الكبير وليس بهذه النسخة اسم كاتبها ولا تاريخ كتابتها، والنسخة الأخرى برقم 286 لغة، وعدد أوراقها 18 ورقة أي أنها تقع في 36 صفحة، وخطها أكثر وضوحا من الأولى، كتبها علي بن سالم ابن أحمد الشافعي في شوال سنة 1299 هـ. وقد أشار السيوطي إلى مؤلفه هذا في كتابه الاتقان بصدد الحديث عما وقع في القرآن بغير لغة العرب حيث قال: «قد أفردت في هذا النوع كتابا سميته المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب» «1»، وما ذكره بالاتقان في هذا الموضوع ليس غير تلخيص لما بالمهذب. ويمتاز هذا المؤلف عن سابقه بالبسط والايضاح وكثرة النقول، وقد ذكر فيه 117 لفظة نقل نسبتها إلى غير العربية من اللغات المختلفة فهو بذلك قد زاد على ما بالكتاب السابق نحو ثمانية عشر لفظا، كما أنه- في هذا الكتاب- قد بسط القول عما نقل عن نسبة كل لفظ، بينما أجمل القول واختصر في كتابه السابق. ويختلف ترتيب ألفاظ «المهذب» عن ترتيب الكتاب السابق، فقد رتب هذه الألفاظ حسب الحروف الأبجدية فبدأ بكلمة «أباريق»، ثم «أبّ» ثم «ابلعي» ثم «أخلد» وهكذا حتى نهاية ما أورده من الألفاظ التي انتهت بلفظتي «اليم» ثم «اليهود».

_ (1) الاتقان ج 1 ص 136.

وقد قدم لمؤلفه بمقدمة مستفيضة تحدث فيها بوضوح عن اختلاف العلماء حول وقوع المعرب في القرآن، وعرض هذه الآراء جميعها، وبيّن أن اختياره هو وقوع ألفاظ من جميع اللغات بالقرآن الكريم، وقد أورد عددا من النقول التي تؤيد رأيه وأكثر منها فروى عن إسحاق بن أبي ميسرة قوله: «في القرآن من كل لسان»، ونقل بإسناد عن الضحاك نفس القول، وعن غيره أنه قال: «ليس لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن ... » إلى آخر ما أورده، وقد تحدث محاولا التعليل لاحتواء القرآن على ألفاظ من اللغات الأخرى ونقل عددا من وجهات النظر التي ترى أن ذلك إحدى مناقب القرآن وفضائله، وقد عرضنا لهذا الموضوع فلا حاجة بنا إلى إعادته. وقد ختم السيوطي مؤلفه بقوله: «فهذا ما وقفت عليه من الألفاظ المعربة في القرآن بعد الفحص الشديد سنين، وسعة النظر والمطالعة، ولم تجتمع في كتاب قبل هذا، وقد نظم القاضي تاج الدين السبكي منها سبعة وعشرين لفظا في أبيات، وذيّل عليه الحافظ أبو الفضل بن حجر بأبيات فيها أربعة وعشرون، وعدة ما استدركته عليهما اثنان وسبعون لفظا، ستة كالمكررة ... فتمت بدونها مائة لفظ وسبع عشرة لفظة، وقد ذيلت عليهما بالست والستين» «1». وهكذا يتضح مدى الجهد الذي بذله في الاحاطة بجوانب الموضوع، وقد غلبت عليه الطبيعة التي امتاز بها عصره وهي الجمع والترتيب والتنسيق- والمنهج النقلي الذي وضحنا خصائصه- في هذه المرحلة. وقد ختم السيوطي مؤلفه بمنظومة للتاج السبكي يذكر فيها الألفاظ المعربة التي وقعت في القرآن والتي يقول فيها: السلسبيل وطه كورت بيع ... روم وطوبى وسجيل وكافور إلى آخر ما أورده، ثم أتبعها بما استدركه الحافظ ابن حجر الذي نظم فيه قوله: وزدت حرّم ومهل والسجل كذا ... السّرى والأب ثم الجبت مذكور

_ (1) المهذب ورقة 17 ص 34.

3 - بعض الأبحاث اللغوية المتصلة بالقرآن الكريم:

ثم أورد بعد ذلك نظما له في الألفاظ التي زادها في أحد عشر بيتا أولها: وزدت يس والرحمن مع ملكو ... ت ثم سينين شطر البيت مشهور والجدير بالذكر أن هذه المنظومات التي أوردها بآخر كتابه قد أوردها آخر النوع الذي تحدث فيه عما وقع في القرآن بغير لغة العرب في كتابه الاتقان «1». وبالرغم من أن السيوطي قد اختار كما بينا مذهب القائلين بوقوع ألفاظ أعجمية في القرآن فإنه يعقد في كتابه المزهر مبحثا عن «توافق اللغات» «2»، يذكر فيه أن الجمهور قد ذهبوا إلى أنه ليس في كتاب الله سبحانه شيء بغير لغة العرب، وينقل في ذلك أقوال أبي عبيدة وابن فارس والفخر الرازي التي تذهب إلى القول بالموافقة في الوضع اللغوي بين العربية وبين اللغات الأخرى، ثم ينقل بعض الأمثلة لألفاظ أخرى منها ما وقع في القرآن، ومنها ما لم يقع، ذهب اللغويون إلى القول بأنها مما وافقت فيه العربية غيرها من اللغات، ولم يعقب بشيء على هذه النقول التي تخالف وجهة نظره. 3 - بعض الأبحاث اللغوية المتصلة بالقرآن الكريم: تناول السيوطي في كتابه الاتقان بعض المباحث اللغوية سنقتصر منها على الأبواب التي تناول فيها غريب القرآن وما وقع فيه بغير لغة الحجاز، وحديثه عن الخاص والعام والمطلق والمقيد. وقد تناول غريب القرآن «3» فبدأ ببيان ما صنف في الموضوع من قبل ونص على ضرورة معرفته بالنسبة للمفسر، وأن علم ذلك يحتاج إلى كتب اللغة ومعاجمها، ثم بين أن أولى ما يرجع إليه في ذلك ما ثبت عن ابن عباس وأصحابه الآخذين عنه، ثم ساق بعد ذلك جميع ما ثبت عنده عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة لأنها من أصح الطرق عنه وهي التي اعتمد عليها

_ (1) الإتقان ج 1 ص 141، 143. (2) المزهر ج 1 ص 266. (3) الإتقان ج 1 ص 115 - 134.

البخاري، وبعد سرد جميع هذه الألفاظ التي ثبتت رواية تفسيرها عن ابن عباس تحدث السيوطي عن الاحتجاج لغريب القرآن بالشعر ونبه إلى أن ذلك كثير غير منكر، وأن ابن عباس قد أمر به، ثم نقل عن ابن عباس مسائل نافع بن الأزرق. ويتمثل جهد السيوطي في جمع هذه المسائل من مختلف المظان وتمحيصها وإيرادها في كتابه بتمامها، وهذه المسائل تتناول أسئلة عن ألفاظ غريبة في القرآن وبيان تفسيرها والاستدلال عليها بما روى عن العرب من الشعر، وقد استغرقت صفحات طوالا، والحق أنها ذات قيمة جليلة في بيان كثير من ألفاظ القرآن الكريم. ويتضح من عرض السيوطي لهذا الموضوع تأكيد ما قلناه عن منهجه النقلي في التأليف الذي يتمثل في الاشارة إلى المؤلفات السابقة وجمع الأقوال المتنوعة، واستقصاء الموضوع استقصاء تاما، ثم إن منهجه الحديثي النقلي يتضح في تمحيصه للروايات وايراده ما ثبت عن ابن عباس من تفسير هذه الألفاظ الغريبة، وتتضح لديه القدرة على الجمع والتنسيق. وحين تناول ما وقع في القرآن بغير لغة الحجاز «1»، نقل كثيرا من الألفاظ التي وردت في القرآن ونسبت إلى لهجات القبائل المختلفة متبعا نفس منهجه النقلي، وقد أورد عددا كبيرا من هذه الكلمات، بيد أن هذا المنهج وإن ظهرت مزاياه في جمع أطراف الموضوع فإنه كان له بعض العيوب المتمثلة في قلة التمحيص أو قلة العناية بالمتون نفسها فقد نقل نسبة بعض الألفاظ إلى لهجات بعض قبائل العرب، وكان قد نقل من قبل نسبتها إلى لغات غير العربية، كالسريانية والعبرية وغيرها، وبرغم ذلك لم يبد أية ملاحظة، اكتفاء منه بأن يقف موقف الناقل الأمين دون أن يذكر شيئا وكأن مهمته تنحصر في النقل والاحاطة والجمع وحسب، فهو ينقل أن كلمة «ربيون» معناها رجال بلغة حضرموت «2»، بينما ذكر

_ (1) الاتقان ج 1 ص 134 - 136. (2) المصدر السابق ج 1 ص 136.

عند الحديث عن الألفاظ المعربة التي دخلت القرآن أنها سريانية «1»، و «منسأة» معناها «عصا» في لغة حضرموت «2»، في حين ينقل أنها «العصا» بالزنجية أو بالحبشية في مكان آخر «3»، وألفاظ أخرى من هذا القبيل لا نرى موجبا لسردها نقل نسبتها إلى بعض لهجات العرب بصدد حديثه عما وقع في القرآن بغير لغة الحجاز ثم لا يلبث أن ينقل نسبتها إلى بعض اللغات غير العربية حين يتحدث عما وقع في القرآن بغير لغة العرب. وقد تناول «الخاص والعام» «4»، في القرآن بالبحث فبدأ بذكر صيغ العموم، ثم ذكر أن أقسام العام ثلاثة: أولها الباقي على عمومه ونص على أن مثاله قليل، ولم يمثل له دارسو هذا المبحث من قبل بحكم من الأحكام الفرعية أي بنص من النصوص لم يدخله التخصيص بينما مثل له السيوطي بقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ، والقسم الثاني: العام المراد به الخصوص والثالث العام المخصوص، وقد تناول الشافعي من قبل هذه المباحث في رسالته وبين أن من سنن العرب في كلامها أن تطلق العام وتريد به الخاص إلى آخر ما ذكره، وقد تناولها الأصوليون في مقدماتهم اللغوية، ومبحث السيوطي هنا من نوع مباحث الأصوليين وقد أفاد منهم، فتعريفه للعام هو نفس التعريف الذي تواضعوا عليه «5»، والجدير بالذكر أنه قد اختصر ما أطال فيه الأصوليون، كما أنه جمع وهذب أقوالهم بالاضافة إلى بعض الملاحظات والأمثلة التي ابتكرها، وسنرى بعد قليل أن بحث العام والخاص قد تعرض له في كتابه المزهر، بيد أنه هناك مختلف في بعض الوجوه عنه هنا وسنبين ذلك في موضعه. وهناك أبحاث أخرى لغوية تناولها السيوطي في كتابه ترسّم فيها خطى الأصوليين من قبل كالبحث في المطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم والمجمل،

_ (1) المهذب ورقة 8 ص 16. (2) الاتقان ج 1 ص 136. (3) المهذب ورقة 15 ص 29. (4) الاتقان ج 2 ص 16. (5) راجع: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت ج 1 ص 255.

4 - رسالة في أصول الكلمات:

ونظرا لأن هذه الموضوعات قد استفاضت دراستها عند الأصوليين فإننا لا نكاد نجزم بآراء مبتكرة فيها للسيوطي، بيد أن أبحاثه تتسم بما تميز به من السهولة والوضوح وعرض الموضوع عرضا يتناول جميع أطرافه مع استيعاب لأكثر الأقوال السابقة، وإعراض عن نواحي الاسهاب التي يمكن الاستغناء عنها. 4 - رسالة في أصول الكلمات: رسالة صغيرة للسيوطي تستغرق بضع صفحات، وقد طبعت ضمن مجموعة مع كتابه السابق «المتوكلي»، وهذه الرسالة تهم البحث في التطور الدلالي للغة فهي تهتم بالتغير الذي يلحق معنى الكلمة نفسه «كأن يخصص معناها العام فلا تطلق إلا على بعض ما كانت تطلق عليه من قبل، أو يعمم مدلولها الخاص فتطلق على معنى يشمل معناها الأصلي، ومعاني أخرى تشترك معه في بعض الصفات، أو تخرج عن معناها القديم فتطلق على معنى آخر تربطه علاقة ما، وتصبح حقيقة في هذا المعنى الجديد بعد أن كانت مجازا فيه أو تستعمل في معنى غريب كل الغرابة عن معناها الأول» «1». وبالرغم من أن هذا البحث لا يتتبع التطور الدلالي تتبعا مفصلا إذ إنه يقتصر على تحديد الدلالة الأولى للكلمة فإنه يعين الباحث في التطور الدلالي، وقد تناول هذا الموضوع من قبل الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن، وتعرض ابن فارس لتحديد الدلالات الأولى لبعض الكلمات في الفصل الذي عقده عن أصول أسماء قيس عليها وألحق بها غيرها حيث قال: «كان الأصمعيّ يقول: أصل «الورد» إتيان الماء، ثم صار إتيان كل شيء وردا، و «القرب» طلب الماء ثم صار يقال لكل طلب فيقال هو يقرب كذا أي يطلبه، ولا تقرب كذا، ويقولون: «رفع عقيرته» أي صوته، وأصل ذلك أن رجلا عقرت رجله فرفعها وجعل يصيح بأعلى صوته فقيل بعد ذلك لكل من رفع صوته رفع عقيرته» «2».

_ (1) د. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة ص 287. (2) الصاحبي في فقه اللغة ص 64.

بيد أن ابن فارس لم يفصل القول في هذا المبحث، ويتضح مما ذكره أن التطور الدلالي قد أدركه اللغويون القدماء مثل الأصمعي، ولكننا لا نكاد نجد من أفرد لهذا الموضوع بحثا مستقلا، وقد استطاع السيوطي أن يجمع في رسالته عددا كبيرا من الكلمات وأن يحدد دلالاتها الأولى. ويتضح من سرده لهذه الكلمات وتقصي دلالاتها الأولى أنها لا تخرج عما ذكرنا من تخصيص معنى عام، أو تعميم مدلول خاص، أو خروج عن الدلالة السابقة إلى دلالة أخرى لعلاقة رابطة بين الدلالتين أو الخروج عن ذلك كله إلى معنى جديد في قليل من الأحيان. والحق أن رد الكلمة إلى استعمالها الأول، أو ما يمكن أن نسميه بالتاريخية في دلالات الألفاظ يتصل بمادية اللغة أو الدلالات الحسية الأولى للألفاظ باعتبارها أسبق من الدلالات المجردة، وقد كانت هذه المادية موضع مشاحة بين اللغويين وقد تتبعها من القدماء الراغب الأصبهاني في مفرداته، ومن المحدثين الذين أخذوا بها الأستاذ أمين الخولي إذ يصر على هذه البدايات المحسوسة في تحديده لمعاني الألفاظ وتدرجها عبر العصور التاريخية، كما يطبق هذه الفكرة على الألفاظ التي صارت فيما بعد مصطلحات في العلوم والفنون المختلفة، والقول بهذه البداية المادية يلائم- في الحقيقة- بين حياة اللغة وبين حياة الانسان منذ كان طفلا لا تتسع مداركه لغير المعاني المحسوسة، ثم تدرجت حياته وارتقت لغته وأصبحت مداركه تتسع شيئا فشيئا للمعاني المجردة وللمعقولات. ويبدو مما أورده السيوطي برسالته أنه قد فطن لهذه المادية أو لبعض جوانبها ولذلك حدد كثيرا من الدلالات الأولى للكلمات على هدى من هذه الفكرة فمن ذلك «أصل العبادة الخضوع والتذلل، أصل الطغيان الانقباض، أصل الفسق الخروج عن الشيء أصل التلاوة الاتباع ... أصل الظلم وضع الشيء في غير محله، أصل الجهر الظهور ومنه المجاهرة بالمعاصي أي إظهارها، أصل البعث إثارة الشيء من محله، أصل المصر الحد، ... أصل الصوم في اللغة الامساك، أصل اللحن في كلام العرب الطرد والابعاد، أصل القنوت القيام، أصل الصبر الحبس، أصل الصفا الحجر الأملس، أصل الحج القصد، أصل السبب الحبل

5 - التبري من معرة المعري:

يشد بالشيء فيجذب ثم جعل كل ما جر شيئا سببا، أصل الاعتكاف: الملازمة ... إلى آخره» «1». ونلاحظ على رسالة السيوطي السابقة أنه لم يذكر فيها المصادر التي نقل عنها على عكس منهجه الذي نعرفه عنه، ولعله أراد بذلك الاشارة إلى ما بذله من جهد في تحديد الدلالات الأولى للكلمات وهو ما لم يحظ باهتمام كبير من اللغويين من قبله حيث إن المعاجم قليلا ما تشير إلى هذا التطور الدلالي، وإنما تذكر جميع المدلولات دون مراعاة تدرجها. 5 - التبري من معرّة المعري: وهي منظومة للسيوطي في أسماء الكلب، لها نسختان خطيتان بدار الكتب المصرية إحداهما في مجموعة برقم 1657 أدب، والأخرى في مجموعة برقم 32 معارف عامة، وقد طبعت في كتاب تعريف القدماء بأبي العلاء «2»، وقد رجعت إليها مطبوعة. وترجع تسمية هذه المنظومة بهذا الاسم إلى ما رواه السيوطي في مقدمتها من أن أبا العلاء المعري «دخل يوما على الشريف المرتضى فعثر برجل فقال الرجل: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما، قلت وقد تتبعت كتب اللغة فحصلتها ونظمتها في أرجوزة وسميتها «التبري من معرة المعري» «3». وقد ابتدأ السيوطي نظمه بحمد الله والصلاة على نبيه وحكى نفس القصة ثم أخذ في نظم أسماء الكلب، وجميع أبيات المنظومة سبعة وثلاثون بيتا، استغرق نظم المقدمة ثمانية أبيات ونظم الخاتمة بيتين وبقية النظم في الأسماء التي أحصاها. وهذه المنظومة تدل على اهتمام السيوطي بألفاظ اللغة وقدرته على الجمع والاستيعاب، وهي تدخل في مبحث هام من مباحث العربية هو الترادف،

_ (1) رسالة في أصول الكلمات ص 14. (2) تعريف القدماء بأبي العلاء ص 429 - 433 (نشر الدار القومية 1385 هـ). (3) المصدر السابق ص 429.

ويبدو أن السيوطي من اللغويين الذين يؤيدون وقوع الترادف في اللغة، وإن لم يعبر صراحة عن رأيه في منظومته فإن تسميته لما أورده «بأسماء الكلب» تدل على ما نذهب إليه لأنه لو كان من مانعي الترادف لأطلق عليه اسما واحدا واعتبر الباقي صفات، والجدير بالذكر أنه قد عرض للترادف بالتفصيل في كتابه المزهر، بيد أني لا أكاد أقف له على رأي صريح ينسبه إلى نفسه نستطيع أن نحدد به موقفه من الترادف في صراحة ووضوح. وقد بدأ مبحث الترادف بتعريفه نقلا عن الرازي بأنه «الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد» «1»، ثم تحدث عن إنكار الترادف ومن ذهب إلى أن كل ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات كما في الانسان والبشر فالأول موضوع له باعتبار النسيان أو باعتبار المؤانسة، والآخر باعتبار أنه بادي البشرة «2»، وممن أنكر الترادف في اللغة ابن فارس وقد أشار إليه السيوطي ونقل عنه ذلك، كما أنكره الفارسي، وقد لخص السيوطي أقوال الأصوليين في الترادف، ثم اختتم مبحثه بالاشارة إلى المؤلفات التي وضعت فيه ومن تناوله بالتأليف وأهمهم الفيروزآبادي الذي ألف كتابا سماه «الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف»، وابن خالويه من قبل الذي ألف في أسماء الأسد وأسماء الحية، ثم أورد أمثلة للمترادف فأورد أسماء العسل نقلا عن الفيروزآبادي وغيره «3»، ثم مثل لأسماء السيف وغير ذلك من الأمثلة. ومن ثم فإن السيوطي من الذين يقولون بوقوع الترادف في اللغة برغم أنه لم يوضح مذهبه بقول صريح وإنما تناول الموضوع بمنهجه المعتاد، فبعض اللغويين يقول بالترادف مطلقا ويجعل ما قيل في أسماء السيف من المهنّد والحسام والقضيب والمشرفي وغيرها من المترادفات، وآخرون ينكرون الترادف ويرون أن للسيف اسما واحدا وجميع ما عدا ذلك صفات، ويتوسط قوم بين الفريقين فيقولون بالترادف مع وجود الصفات، وذلك لاختلاف الوضع اللغوي بين

_ (1) المزهر ج 1 ص 402. (2) المصدر السابق ج 1 ص 403. (3) المزهر ج 1 ص 407 - 408.

القبائل المختلفة فيمكن أن يوجد مترادفان أو أكثر ثم يعد ما عدا ذلك من الصفات، وقد نقل السيوطي عن الراغب الأصفهاني ما يشير إلى ذلك في قوله: «وينبغي أن يحمل كلام من منع على منعه في لغة واحدة، فأما في لغتين فلا ينكره عاقل» «1». والسيوطي بما أورده في منظومته من الذين يقبلون الترادف ويتوسعون فيه، ويرون جميع الألفاظ التي تتحد دلالاتها على ذات معينة من قبيل المترادف، دون اعتبار لما يختص به بعض الألفاظ من زيادة في المعنى عن بعضها الآخر أو من اختلاف نوعية الدلالات أو جهاتها، ولذلك أورد في منظومته كثيرا من الأسماء التي هي من قبيل الصفات وإطلاقها على الذات لا يقع إلا تجوزا من قبيل حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وليس لهذه الصفات شهرة في إطلاقها على المسمّيات بل هي مفتقرة إلى القرائن، ولذلك لا تعد من الأسماء، من ذلك تسميته بداعي الضمير وهانئ الضمير، وداعي الكرم، ومشيّد الذكر، ومتمم النعم «2»، كذلك أوصاف الكلب باعتبار نسبته جعلها من بين الأسماء التي يحفظها وهي «القلطيّ» وهو لفظ يقال للقصير من الناس والسنانير والكلاب، و «السلوقيّ» نسبة إلى سلوق قرية باليمن، والصيني نسبة إلى الصين. وبديهي أن إطلاق إحدى هذه الصفات دون ذكر الموصوف أو وضوحه بالقرائن لا يستقيم في اللغة ولذلك فاعتبارها من الأسماء أمر غير مقبول من الذين يتوسعون في الترادف فلا يفرقون بين الاسم وصفته رغبة في استكثار ما يحفظونه. وأصح الأقوال وأقربها هنا أوسطها وهو الرأي القائل بوجود الترادف نتيجة اختلاف اللهجات أو حين تبلغ بعض الصفات المختصة ببعض الأسماء شهرة بين الناطقين تجعلهم يدركون المسمّى دون حاجة إلى قرائن تحدد الموصوف. وحين تعرض الأستاذ الرافعي لمبحث الترادف ذكر أن من ألفاظ المترادف

_ (1) المصدر السابق ج 1 ص 405. (2) تعريف القدماء بأبي العلاء (المنظومة) ص 432.

الأسماء التي ترجع إلى وضع القبائل المتعددة، أو الصفات التي تصرف في وضعها أفراد كل قبيلة ثم نزّلت منزلة الحقائق العرفية بعد أن فشت في الاستعمال «1»، وإلى هنا فإن كلامه مقبول، بيد أنه مثل لذلك بما ورد من أسماء العسل وأنها ثمانون وأسماء الأسد التي بلغت ثلاثمائة وخمسين وأسماء الكلب التي بلغت سبعين ... إلى آخر هذه الأمثلة وهذا ما لا نقبله لأن كثيرا من هذه المترادفات من قبيل الصفات التي لم تنزل في اللغة منزلة الحقائق العرفية، وإنما الدافع إلى اعتبارها من المترادفات عند اللغويين هو الرغبة في بيان اتساع الحفظ اللغوي والدراية بأكبر عدد من الألفاظ، دون التنبيه على ما يمكن أن يسمى بالمترادف وما هو من قبيل الصفات التي لا يمكن بحال أن تطلق وحدها ويفهم منها مسماها، ولقد كان المنهج النقلي المفتون أحيانا بالحفظ والاستكثار هو الدافع لهؤلاء بما فيهم السيوطي إلى أن يقوموا بمباحثهم التي يحاولون فيها إظهار حفظهم لأكبر عدد من الألفاظ. والذين توسطوا بين إنكار الترادف مطلقا وإثباته مطلقا يراعون ما راعاه منكر والترادف من الفروق الدقيقة بين الألفاظ المختلفة الموضوعة لشيء واحد، وهو ما تبلغ فيه العربية حد الإعجاز، وقد تتبع الثعالبي هذه الفروق وبينها في كتابه فذكر- مثلا- أن الكأس لا يقال لها كأس إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي قدح، ولا يقال مائدة إلا إذا كان عليها طعام وإلا فهي خوان، ولا كوز إلا إذا كانت له عروة وإلا فهو كوب «2». وللانصاف فإن القائلين بوجود الترادف لا ينكرون هذه الفروق الدقيقة بين الألفاظ الموضوعة لشيء واحد وقد عقد لها السيوطي مبحثا سماه بالمطلق والمقيد «3»، ولكنا نأخذ عليهم أنهم لم يضعوها في اعتبارهم عند بحث الترادف. ونجد من الباحثين المحدثين من يؤيد المذهب المعتدل في الترادف «4»، وهو

_ (1) مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب ج 1 ص 192. (2) فقه اللغة ص 321. (3) المزهر ج 1 ص 499. (4) صبحي الصالح: دراسات في فقه اللغة ص 346.

6 - التهذيب في أسماء الذيب:

الذي ذهب إليه من قبل كثير من الأصوليين وبعض اللغويين. وقد ترك السيوطي عددا من الرسائل الأخرى التي تشبه رسالته السابقة حول نفس موضوع الترادف وهذه الرسائل هي: 6 - التهذيب في أسماء الذيب: لم أقف عليه، وقد ذكره صاحب كشف الظنون وغيره وهو كما يتضح من اسمه رسالة جمع فيها أسماء الذئب، ونستطيع أن نتكهن بأنه قد اعتمد على ما جمعه اللغويون السابقون، ثم زاد عليه من كتب اللغة بعض الأسماء التي فاتتهم وتلك هي طريقته في كثير من رسائله وكتبه، ولعله قد اعتمد على كتاب الروض المسلوف، وإن كنا لا نستطيع أن نجزم بذلك لأن الكتاب الأخير لم يصل إلينا والحديث عن هذه الرسالة لن يخرج عما قدمنا في حديثنا المسوق آنفا. 7 - فطام اللسد في أسماء الأسد: لم أقف عليه وقد ذكره صاحب كشف الظنون، والقول فيه كالقول في سابقه كما أن أسماء الأسد قد جمعها من قبل السيوطي ابن خالويه حيث جمع له خمسمائة اسم «1». وإلى هنا نكون قد فرغنا من بحث الترادف والآثار المتصلة به عند السيوطي. 8 - الافصاح في أسماء النكاح: لم أقف عليه وقد ذكر صاحب كشف الظنون أنه في مجلد بشواهده ونقوله ويبدو أن المؤلف من قبيل ما أشرنا إليه من المعجمات اللغوية التي تهدف إلى جمع الألفاظ الموضوعة لمختلف المعاني والموضوعات مثل كتاب «الألفاظ» لابن السكيت وفقه اللغة للثعالبي، والمخصص لابن سيدة، وقد أشار الرافعي إلى هذا الموضوع وبين أن العربية تعد أحكم اللغات نظاما في أوضاع المعاني وسياستها بالألفاظ، وأكثرها رقيا وتمدنا حيث لم يدع ناطقوها معنى من المعاني إلا رتبوا أجزاءه وأبانوا عن صفاته بألفاظ متباينة تعين تلك الأجزاء والصفات على

_ (1) المزهر ج 1 ص 325، 407.

9 - الافصاح في زوائد القاموس على الصحاح:

مقاديرها «1». ونحن لا نستطيع هنا أن نقوم ما قام به السيوطي في مؤلفه السابق لعدم وقوفنا عليه ولكنه يطلعنا على مشاركته في مبحث هام من المباحث المتعلقة بدلالة الألفاظ. 9 - الافصاح في زوائد القاموس على الصحاح: ذكره صاحب كشف الظنون وغيره ولم أقف عليه، ويتضح من اسمه أن تأليفه يقتضي من السيوطي استقراء جميع مواد الصحاح للجوهري ومواد القاموس لكي يستخرج الزيادات التي يذكرها، بيد أننا لا نستطيع أن نحدد مقصوده بهذه الزيادات هل يريد بها جميع المواد التي وردت بالقاموس ولم ترد بالصحاح؟ أم أن مراده بعض الزيادات التي تخص جانبا من الجوانب؟. 10 - الالماع في الاتباع كحسن بسن في اللغة: ذكره صاحب كشف الظنون وغيره، كما أشار إليه السيوطي في حديثه عن الإتباع في كتابه المزهر حيث ذكر أن ابن فارس قد ألف فيه تأليفا مستقلا ثم قال: «وقد رأيته مرتبا على حروف المعجم، وفاته أكثر مما ذكره، وقد اختصرت تأليفه وزدت عليه ما فاته في تأليف لطيف سميته «الالماع في الاتباع» «2». ويمكن أن نعتمد على هذه العبارة في حكمنا بصفة مجملة على الكتاب، فالسيوطي قد اعتمد فيه على ابن فارس، كما زاد عليه وأضاف بعض الاضافات، واتبع فيه على ما يبدو نفس ترتيب ابن فارس، والكتاب كما تبين عبارة السيوطي صغير الحجم. ونستطيع تبين موقف السيوطي من موضوع الإتباع من الفصل الذي عقده لدراسته في كتابه المزهر، فهو كما تبين من بعض ما عرضنا من قبل يكتب في الموضوع الواحد أكثر من مرة وفي أكثر من موضع كما رأينا عند حديثنا عن الألفاظ المعربة في القرآن ولا يختلف عرضه للموضوع

_ (1) الرافعي: تاريخ آداب العرب ج 1 ص 232، (2) المزهر ج 1 ص 414.

الواحد في الأماكن المتفرقة إلا إيجازا أو بسطا، ومن ثم فإنني أستطيع أن أذهب إلى أن ما ذكره بالمزهر عن الإتباع هو إيجاز لما بسطه في كتابه الذي لم أقف عليه. بدأ السيوطي بتعريف الإتباع- على نفس منهجه النقلي- فنقل عن ابن فارس أنه «أن تتبع الكلمة الكلمة على وزنها أو رويها إشباعا وتأكيدا» «1». وفي هذا الفصل نقل عن أحد عشر كتابا من كتب اللغة وأورد عنها بعض النقول والأمثلة، وهذه الكتب هي فقه اللغة والماع الإتباع لابن فارس، وغريب الحديث لأبي عبيد، وشرح منهاج البيضاوي للسبكي، وأمالي القالي وأمالي ثعلب، والجمهرة لابن دريد وتذكرة ابن مكتوم، وديوان الأدب للفارابي، والصحاح للجوهري، والغرة لابن الدهان. وبعض هذه الكتب لم يصل إلينا، والجدير بالذكر أن السيوطي راعى فيما جمعه من أمثلة للإتباع من هذه المصادر المختلفة أن يذكر من كل منها ما لم يذكره الآخرون وكأنه بذلك يحاول استقصاء هذه الأمثلة التي وردت للاتباع ويحاول أن يصل بها على عادته في الجمع إلى أكبر عدد، وفي هذا دلالته على مبلغ الجهد الذي عاناه في ذلك، وبراعته في التنسيق والجمع. ومن أمثلة الإتباع قولهم: عطشان نطشان، وجائع نائع، وحسن بسن، وأمثال ذلك ما كانت فيه الكلمة الثانية على رويّ الأولى، وتابعه لها على وجه التوكيد، ولا يمكن أن يؤتى بالكلمة التالية (التابعة) وحدها «2». وليس الاتباع من قبيل الترادف، بل هو مختلف عنه لإفادة المترادفين فائدة واحدة والتابع لا يفيد وحده شيئا، والفرق بينه وبين التوكيد أن شروط التابع أن يكون على زنة المتبوع ورويه، وليس كذلك التوكيد. وبعض الكلمات التي ورد استعمالها في الاتباع لم يعرف لها بعض أهل اللغة

_ (1) المزهر ج 1 ص 414. (2) المصدر السابق ج 1 ص 415.

11 - حسن السير فيما في الفرس من أسماء الطير:

معنى واعتبروها لمجرد الإتباع، على حين وجد لها آخرون دلالات معينة، ومع ذلك قرروا أن كثيرا منها لا يصح إفراده وإنما يلزم الاتباع، وأن بعضها يصح أن يفرد. تلك خلاصة المبحث الذي أورده السيوطي، وقد ساق كثيرا من الأمثلة لكثير من الألفاظ التي جمعها من كتب اللغة السابقة، بيد أنني لم أجد للسيوطي قولا صريحا ينسبه إلى نفسه نستطيع أن نتبين به مذهبه في صراحة، وإذا كان الأمر كذلك فإن ما قدمناه يعد ما أقر به، وتعبر اختياراته للنقول عن رأيه ومذهبه في هذا الموضوع. 11 - حسن السير فيما في الفرس من أسماء الطير: ذكره صاحب كشف الظنون وغيره منسوبا إلى السيوطي، ولم أقف عليه، بيد أني وجدت السيوطي قد تناول هذا الموضوع عند ما تحدث عن المشترك اللفظي «1»، وهو دلالة اللفظ الواحد على معنيين فأكثر، وقد لخص السيوطي في دقة أقوال الأصوليين في المشترك اللفظي، وقد ذهب أكثرهم إلى وقوعه في اللغة نتيجة لتعدد الوضع، وذلك مبني على القول بأن اللغة غير توقيفية أو ليست من وضع واحد عند القائلين بالتوقيف، وحجتهم في وقوعه نقل أهل اللغة ذلك في كثير من الألفاظ «2». ويبدو أن جميع اللغويين قد ذهبوا إلى وقوع المشترك اللفظي، ويبدو بديهيا لمن ينظر في كثير من ألفاظ اللغة ويرى اختلاف معانيها وتنوعها أن يرجع ذلك إلى الاشتراك اللفظي. وقد أورد السيوطي نقلا عن أهل اللغة وأصحاب المعاجم عددا كبيرا من الأمثلة لوقوع اللفظ الواحد لمعان كثيرة، ثم أخذ يسرد الألفاظ المشتركة بين الفرس والطير فنقل عن أمالي القالي جملة منها «الهامة: العظم الذي في أعلى رأسه، والفرخ: وهو الدماغ، والنعامة: الجلدة التي تغطي الدماغ، والعصفور: العظم الذي تنبت عليه الناصية .. إلى آخره» «3».

_ (1) المزهر ج 1 ص 377 - 380 (الحديث عما في الفرس من أسماء الطير). (2) المصدر السابق ج 1 ص 369. (3) نفس المصدر ج 1 ص 377.

12 - غاية الاحسان في خلق الانسان:

ثم نقل عن شرح الكامل للبطليوسي بعد ذلك شعرا لجرير ذكر الأصمعي أن فيه عشرين اسما من أسماء أعضاء الفرس وهي من أسماء الطير ومنه «1»: وأقبّ كالسّرحان تم له ... ما بين هامته إلى النسر رجعت نعامته ووفّر لحمه ... وتمكن الصّردان في النحر فالهامة: اسم طائر خرافي زعم العرب أنه يخرج بعد قتل القتيل ويصيح فوقه حتى يؤخذ ثأره، وفي الفرس: الهامة: أعلى الرأس، والنسر: طائر معروف، وفي الفرس: ما ارتقى من بطن الحافر، والنعامة: طائر معروف وفي الفرس: الجلدة التي تغطي الدماغ، والصّرد: طائر ضخم يصطاد العصافير والصّردان في الفرس: عرقان يكتنفان اللسان. وقد أتبع السيوطي هذا الشعر بنص آخر في هذا الموضوع عن كراسة لم يذكر اسمها، ثم نقل عن الصحاح وأمالي الزجاج بعض الأمثلة الأخرى. وطبيعة الموضوع جعلته يقتصر على حصر الألفاظ المشتركة بين الطير وأعضاء الفرس دون إبداء ملاحظات أو تعليقات على نقوله، ونستطيع القول بأن مؤلفه جاء محصيا لهذه النقول وغيرها في نفس الموضوع. أما عن بحث المشترك فلقد لخص فيه السيوطي بعبارة موجزة آراء الأصوليين وهم خير من درس المبحث، كما أفاض في ذكر الأمثلة بحيث إن المحدثين في بحوثهم عيال على نقول السيوطي، وإن تضمنت أبحاثهم بعض الزيادات في النقول أو الأفكار على ما أورده «2». 12 - غاية الاحسان في خلق الانسان: ذكره صاحب كشف الظنون ورجح نسبته للجلال السيوطي، وذكر أنه جمع فيه كتب خلق الانسان للنحاس ولأبي محمد ثابت وللزجاج ولأبي القاسم عمر

_ (1) نفس المصدر ج 1 ص 378. (2) انظر الرافعي: تاريخ آداب العرب ج 1 ص 194، صبحي الصالح: دراسات في فقه اللغة ص 350.

13 - شرح قصيدة بانت سعاد:

بن محمد العصامي ومحمد بن حبيب، وقد ذكره صاحب هدية العارفين، ولم أقف عليه مخطوطا أو مطبوعا. والحديث عن «خلق الانسان» أي محاولة تسمية جميع أعضائه، وجمع ما يتصل بذلك من الأشعار أو المأثورات الواردة عن العرب من أقدم الموضوعات التي تناولها اللغويون، فللأصمعي كتاب في خلق الانسان، ولأبي زيد مثله، وألف النضر بن شميل كتابا سماه «الصفات» احتوى على ذكر هذا الموضوع. وقد حظي هذا الموضوع بكثير من مؤلفات علماء اللغة، ففضلا عن الكتب التي ذكرناها توجد كتب أخرى تناولت الموضوع، فقد تناوله ابن سيدة في المخصص وقد سبق القول بأن هذه المؤلفات تعد من قبيل المعاجم الخاصة، أي التي تقتصر على ذكر ألفاظ موضوع من الموضوعات، ونرجح أن السيوطي قد جمع في مؤلفه هذه الألفاظ نقلا عن الكتب السابقة واستطاع أن يستدرك ما فات غيره وأن يصل فيما أحصاه إلى ما لم يصل إليه أي مصنف من المصنفات التي سبقته. 13 - شرح قصيدة بانت سعاد: يسمى: «كنه المراد في شرح بانت سعاد»، وقد وقفت فيه على مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 16656 ز، وهو مخطوط متوسط الحجم يقع في سبعين ورقة أي 140 صفحة. وقد قدّم السيوطي لشرحه بمقدمة طويلة بين فيها أن الشروح السابقة عليه، والتي وقف عليها تقتصر على شرح غريبها وإعراب ألفاظها المؤدية إلى حل تركيبها دون التعرض لمعانيها، وأن قصده من شرحه بيان المعاني فضلا عن حل الألفاظ «1». والحق أن شرح السيوطي يمتاز عن سواه من الشروح بأنه تعرض لبيان المعنى في أسلوب واضح سلس، كما أنه يهتم بشرح الغريب من الألفاظ، ثم يورد

_ (1) كنه المراد في شرح بانت سعاد ورقة 2 ص 3.

أشعارا وأقوالا تناسب المعنى الذي يتناوله، ونلاحظ أنه نقل عنده في هذا الشرح النقول التي تعود في مؤلفاته الاكثار منها، فهو يتكلم بأسلوبه شارحا ومفصلا، ثم يستشهد أو ينقل عن غيره بحيث تندمج النقول في حديثه على عكس ما تعودنا في مؤلفاته من اختفاء رأيه وراء النقول التي تمثل معظم كتابته، وهو كثير الاستطراد والاطناب في الشرح بحيث يتناول الكلمة من نواح متعددة قد يبدو أنه لا صلة لها بما نحن فيه. ويدل الشرح- في الواقع- على مدى تمكن السيوطي ومعرفته بالأدب، وله فيه لمحات بديعة وابتكارات لطيفة، واشارات قد لا يتنبه لها كثير من دارسي الأدب، فضلا عن دقته ومعرفته الواسعة بطرائق الشعراء وأسرار البلاغة. وفي بعض الأحيان يورد السيوطي في المناسبة أشعارا له فيذكر بصدد شرحه للبيت: لكنها خلّة قد سيط من دمها ... نجع وولع واخلاف وتبديل يورد بصدد الحديث عن الوشاة والرقباء قوله: احرص على طرد الرقيب وبعده ... ان تغتنم وصل الحبيب تلاعبه كم ليلة بات الحبيب بجانبي ... لكنني خوف الرقيب أجانبه ويكثر من الاستشهاد في شرحه بالقرآن الكريم والحديث الشريف وأشعار السابقين، ولا تفوته طبيعته الحديثية في بعض الأحيان حيث تظهر في حرصه على إيراد الأسانيد، وبيان أوجه ضعف الأحاديث أو صحتها، وقد لاحظنا ذلك في أحاديث القدر التي ساقها بصدد شرحه للبيت: فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم ... فكل ما قدّر الرحمن مفعول وبعض الأحاديث التي أوردها بصدد شرح البيت: أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول وهي الأحاديث الخاصة بعفو النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا قارنا هذا الشرح بشرحين أحدهما سابق له وقد نشأ صاحبه في نفس بيئة السيوطي وهو شرح ابن هشام، والآخر لاحق له وهو شرح الشيخ إبراهيم الباجوري لتبينا اهتمام ابن هشام بالملاحظات النحوية واللغوية وذكر الأوجه المختلفة في إعراب الألفاظ والجمل، والتعرض للألفاظ ببيان نوعها أو اشتقاقها أو غير ذلك من هذا القبيل، وهو بذلك يغفل ذكر المعنى الاجمالي، والشرح اللاحق للسيوطي أكثر إيجازا من شرح ابن هشام من الناحية اللغوية والنحوية بيد أنه لا يغفل ذكر المعنى العام للبيت. ونستطيع أن نصف شرح السيوطي بعد هذه الموازنة بأنه شرح لغوي أدبي، فهو شرح لغوي لأنه يعني بتفسير معاني الألفاظ وذكر المعنى العام لكل بيت، وهو شرح أدبي لتناوله الأفكار والأساليب الأدبية بالتعليق والتمثيل وإبداء الملاحظات القيمة فحين يتناول السيوطي بيت كعب: وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول يقول: «أي وما سعاد غداة البين إذ رحلوا وهي معهم إلا ظبي أغن الصوت غضيض الطرف مكحول العين، وسعاد هي محبوبته التي أشار إليها في البيت الأول، والغداة: اسم لمقابل العشي، قال تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، وقد يراد بها مطلق الزمان ... إلى آخره» «1»، ويستمر في شرح الألفاظ وبيان معانيها واستعمالاتها المتنوعة وما يترتب على ذلك من وجوه متنوعة في فهم النص، ثم لا يلبث أن يعود إلى تفصيل المعنى الذي أوجزه في أول الشرح فيقول: «وحاصله أنه لما ذكر حال نفسه، وما أعقبه الفراق من الضنك شرع في ذكر وصف محبوبته التي يهواها وما اشتملت عليه من المحاسن التي لا يقدر معها على الأسف على فراقها ... فشبهها بظبي موصوف بأحسن الصفات» «2»، ثم يتعرض بعد ذلك إلى الجوانب الأدبية فيتحدث عن عادة الشعراء في التشبيه ويذكر أمثلة لذلك «3». ونحن إذا قارنا شرح هذا البيت بما

_ (1) شرح السيوطي ورقة 10 ص 19. (2) المصدر السابق ورقة 10 ص 20. (3) نفس المصدر ورقة 10، 11.

14 - الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة:

أورده من قبله ابن هشام لرأينا اختلافا بينا في المنهج، فابن هشام يذكر بصدد البيت: «قوله: وما سعاد: الواو عاطفة على الفعلية لا على الاسمية وإن كانت أقرب وأنسب لكون المعطوفة اسمية لأن هذه الجملة لا تشارك تلك في التسبب عن البينونة، وسعاد: مبتدأ لا اسم لما، لانتقاض النفي بالا، والأصل: وما هي، فأناب الظاهر عن المضمر» «1» ، ويستمر في دراسة النص دراسة نحوية لغوية خالصة ويتناول النص كلمة كلمة أو جملة جملة دون أن يعبأ بالمعنى العام للبيت. أما الشرح اللاحق للسيوطي «2»، فقد حاول الافادة من سابقيه فهو يبدأ بشرح البيت ثم يعقب ببعض الملاحظات اللغوية والنحوية عليه، ويبدو أثر شرح السيوطي في هذا الشرح، وقد أشار إليه صاحبه في بعض الأحيان، والتشابه بين المقدمة التي قدم بها السيوطي لشرحه وبين مقدمة الباجوري يشهد بذلك. 14 - الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة: وقفت فيه على مخطوط بدار الكتب برقم 23316 ب، وهو مخطوط متوسط الحجم يقع في 52 ورقة، أي أن صفحاته تبلغ 104 صفحة بيد أنه بخط غير جيد. وقد قصد السيوطي في هذا المؤلف أن يجمع أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مستوفيا ما جمعه السابقون في مختلف المظان كتهذيب الأسماء للنووي. وقد ابتدأ بمقدمة طويلة تحدث فيها عن كثرة أسمائه صلى الله عليه وسلم، وعددها ونوعيتها، وما انتهى إلى الوقوف عليه منها سابقوه، ثم ما زاده واستدركه عليهم وأخذ بعد ذلك يسرد هذه الأسماء والحديث عنها، فبدأ «بمحمد» ثم رتب بقية الأسماء فيما بعد على حروف المعجم إلا في بعض الحالات التي يستدعي المعنى أن يأتي فيها باسم في غير موضعه لمناسبة تستلزم ذلك حيث قرن «الناهي» «بالآمر»، والمنير بالسراج، والمستقيم بالصراط، فاستدعى هذا وضع بعض الأسماء في غير مواضعها الأبجدية.

_ (1) شرح ابن هشام على قصيدة بانت سعاد ص 12. (2) إبراهيم الباجوري: حاشية الاسعاد على بانت سعاد (بهامش شرح ابن هشام).

15 - الشماريخ في علم التاريخ:

وبالرغم من أن المؤلف يغلب عليه الطابع الحديثي الذي يهتم بالآثار فإن به دراسة لغوية لا بأس بها لكثير من هذه الأسماء، فهو يتعرض لشرحها وبيان اشتقاقاتها وضبطها وتصريفها، وفي بعض الأحيان يتعرض لبعض الدراسات النحوية «1» ويتناول في أحيان أخرى أصل المعنى في اللغة على نحو ما رأينا في رسالته عن أصول الأسماء كبيانه لأصل الصدق في اللغة وأنه الثبوت والقوة بصدد حديثه عن اسم «الأصدق» «2»، وهكذا يمكننا اعتبار هذا المؤلف من آثاره اللغوية التي توضح مقدرته اللغوية وتحدد قدرته على تناول النصوص، بيد أنه ليس له فيه من الآراء ما يستحق الوقوف عنده وإنما له بعض الاستدراكات أو الزيادات أو التعليقات. واستيفاء لآثار السيوطي اللغوية قبل شروعنا في دراسة كتابه الهام في اللغة وهو المزهر، يجدر أن نشير إلى أن كثيرا من مؤلفات السيوطي في شتى الموضوعات لم تخل من دراسات لغوية قيمة أو ملاحظات تشهد بطول باعه في هذا المجال، وسأمثل بأحد هذه المؤلفات على سبيل التمثيل لا الحصر، وهو مؤلف قد ذكره بين كتب التاريخ وهو كتاب: 15 - الشماريخ في علم التاريخ: (طبع في مدينة ليدن سنة 1312 هـ- 1894 م): كتاب صغير الحجم طبع مع مقدمة له باللغة الألمانية، وقد تحدث السيوطي في الباب الأول منه عن مبدأ التاريخ، وفي الثاني من فوائد التأريخ من معرفة الآجال وحلولها وانقضاء العدد، ووفيات الشيوخ ومواليدهم، والرواة عنهم فيعين ذلك على تبين صدق الرواة من كذبهم، ويعين في ضبط الأسانيد «3». وفي الباب الثالث تعرض لموضوعات شتى تتصل بالتأريخ، بيد أن الذي يهمنا في الكتاب عنايته ببعض المسائل اللغوية المتصلة بالتأريخ.

_ (1) انظر مثلا «أحيد» ورقة 10، ص 19، وأحاد ورقة 21. (2) المصدر السابق ورقة 12. (3) الشماريخ ص 7.

فقد ذكر السيوطي أنه: «يقال أول ليلة في الشهر كتب لأول ليلة منه، أو لغرته أو لمهلة، أو لمستهلة. وأول يوم لليلة خلت ثم لليلتين خلتا ثم لثلاث خلون إلى العشر، فخلت إلى النصف، فللنصف من كذا وهو أجود من لخمس عشرة خلت أو بقيت، ثم لأربع عشرة بقيت إلى العشرين، ثم لعشر بقين إلى آخره، ولآخر ليلة أو لسلخه أو لانسلاخه، وفي اليوم بعدها لآخر يوم أو لسلخه أو لانسلاخه وقيل: إنما يؤرخ بما مضى مطلقا ... » «1»، ثمّ يبين أن قولنا في بعضها: خلون، لأن تمييزه جمع، وما يقال فيه، «خلت» فهو ما تميزه مفرد إلى آخر ما ذكره، كما بين أنه يقال في العشر الأواخر والأول ولا يقال الأواخر والأوائل لأن الأولى أن يجمع على فعل قياسا مطردا. ولا يجمع على الأوائل إلا أول الذكور، والأواخر جمع آخرة وهو المراد هنا، أما الأخر فجمع أخرى، وقد نقل ذلك عن ابن الحاجب. كما تحدث عن حذف التاء من لفظ العدد فذكر أنه يقال: «إحدى واثنتان إن أرخت بالليلة أو السنة وتؤنث، ويقال أحد واثنان إن أرخت باليوم أو العام فان حذفت المعدود جاز حذف التاء ومنه الحديث» وأتبعه ستا من شوال «إلى العشر فيذكر مع المذكر ويؤنث مع المؤنث» «2». وتناول أسماء الأيام وجموعها، واشتقاقها ومعناها وما كان لهذه الأيام من أسماء عربية قديمة أميتت واستعملت محلها هذه الأسماء «3». ثم ذكر أسماء الشهور وجموعها ومعانيها واشتقاقاتها وأسماءها العربية السابقة التي هجرت باستعمال هذه الأسماء «4»، متعرضا لبيان تسمية الشهور وأسباب هذه التسمية وذلك بعد بيان المعنى. وما نريد أن نخلص إليه هو أن هذا الكتاب على صغره واهتمامه بالتأريخ لم يخل من نظرات وملاحظات لغوية، ونظرات أسلوبية ونحوية ضمنها صاحبه فيه

_ (1) المصدر السابق ص 9. (2) الشماريخ ص 10. (3) المصدر السابق ص 10 - 12. (4) نفس المصدر ص 13 - 15.

16 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها:

مما يدل على مقدرته اللغوية وتشربه بروح اللغوي، ونلاحظ أن هذه النظرات اللغوية لم يسقها السيوطي بمنهجه النقلي المعتاد وإنما بسط القول بعض البسط وتحلل من الأسانيد واضطلع بالقول والعرض وبيان ما يريده. 16 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها: «طبع الكتاب عدة طبعات أدقها الطبعة التي حققها محمد أحمد جاد المولى وزميلاه وهي في جزءين وقد اعتمدنا عليها». يعد أجلّ مؤلفات السيوطي في فقه اللغة ويعد أجمع المؤلفات العربية وأوفاها وأشملها في تحديد معالم الدرس اللغوي. وقد عرضت آنفا لتدرج أبحاث فقه اللغة عند العرب، وذكرت أهم آثارهم، وقد رأينا اهتمام كبير منها بناحية من النواحي واقتصارها عليها، كما أن الكتب التي وضعت في خصائص العربية أو في فقه اللغة لم تتعرض في الحقيقة إلا لبعض جوانب فقه اللغة، ولم يكن من هدفها شمول جميع الجوانب، فالكتب السابقة عليه كما بينا إما معجمات عامة تهدف إلى جميع مواد اللغة، أو معاجم خاصة تقتصر على ألفاظ موضوعات معينة كالشجر والابل والمطر ... إلى آخره، أو معاجم خاصة مطولة للمعاني كالمخصص لابن سيدة، أو دراسات تهتم ببعض مسائل فقه اللغة كالخصائص لابن جني والصاحبي لابن فارس، أو دراسات تهتم باللغة وألفاظها ومعانيها وبكثير من القضايا اللغوية العامة خارج البيئة اللغوية كدراسات الأصوليين وأبحاثهم. ولم يكن هناك قبل السيوطي من جمع هذه الألوان المتنوعة في مؤلف واحد، ولم يكن قبل المزهر كتاب للسيوطي أو لغيره يمكن أن يمثل بحق دراسة العرب لفقه اللغة، أو بعبارة أخرى «يمكن أن يكون ألصق المؤلفات بفقه اللغة كعلم قائم بنفسه» «1». والسيوطي على حق في قوله: «وقد كان كثير ممن تقدم يلمّ بأشياء من ذلك، ويغنني في بيانها بتمهيد المسالك، غير أن هذا المجموع لم يسبقني إليه سابق، ولا

_ (1) د. صبحي الصالح: دراسات في فقه اللغة ص 10.

منهج السيوطي في المزهر:

طرق سبيله قبل طارق» «1». وبالرغم من أن جميع الأبحاث التي تناولها السيوطي درست عند العرب من قبله وتناولها اللغويون أو الأصوليون، فإن أحدهم لم يتصدّ لدراسة هذا الفن كله، ولم يستوعب أحدهم نظريات العلم ويتناولها بحديث جامع منظم الأبواب، بل تكلم هذا في ناحية أو بعض النواحي وذاك في أخرى، فلم يجتمع شتات هذا الفن ولم يلتئم شمله. وقد حاول السيوطي في كتابه أن يجمع هذا الشتات، وقد امتاز عن سابقيه من اللغويين باهتمامه الكبير بأبحاث الأصوليين السابقين في دراسة اللغة، وهذا يدل على بعد نظره ودقة منهجه فبحث الأصوليين للغة أدق وأوفى من بحث اللغويين أنفسهم، وكانت كتب اللغويين تغفل في أحيان كثيرة جهود الأصوليين، فجاء كتاب السيوطي جامعا لأبحاث الفريقين يلائم بين أجزاء الشمل، ويقيم مما تفرق أبوابا ومباحث لها كيانها المستقل ثم ينتهي به الأمر إلى أن يجعل من هذه المباحث علما له كيانه المستقل، وهذا بغير شك جهد عظيم وابتكار لا ينكر، وجرأة على ما أحجم عنه السابقون، وقد نجح في عمله نجاحا يغبط عليه وسيتضح لنا بعد مصداق ما قدمنا. منهج السيوطي في المزهر: أريد هنا أن أتناول باجمال كتاب المزهر، وأهم الجوانب التي تحدد منهج صاحبه هي مصادر الكتاب، ثم طريقته في النقل والعرض وكيفية تقسيم الكتاب، وذلك يحدد لنا معالم منهج المؤلف وينتهي بنا إلى الحديث عن منهج المحدثين ومحاولة السيوطي تطبيقه على اللغة ودراستها من خلاله وسنبين ذلك فيما بعد. وقد عرضت من قبل لتدرج الدراسات اللغوية قبل السيوطي وبينت أنواع المصنفات التي سبقته، وأستطيع القول بأن معظم كتب اللغة السابقة سواء نتجت عن البيئة اللغوية أو عن بيئة الأصوليين فقهائهم ومتكلميهم كل أولئك

_ (1) المزهر ج 1 ص 1.

قد وقف عليه السيوطي واتضح أثره في كتابه الذي بين أيدينا، ويبلغ ما ذكره السيوطي من الكتب التي نقل عنها مائة وثلاثة وسبعين كتابا وهي جميع ما نقل عنه تقريبا لأنه- في الواقع- يمتاز بمميزة هامة وهي الأمانة الشديدة التي تجعله لا يذكر نصا إلا معزوا إلى قائله ومذكورا معه اسم الكتاب الذي نقل عنه وذلك ما جعل سبيل إحصاء الكتب واضحا، وقد كان من أهم خصائص منهجه في التأليف، وهو ما جعله يحرص في ذكر النقول على ذكر أصحابها وأسماء الكتب التي نقل عنها لأنه يعد ذلك من شكر العلم وبركته التي ينبغي أن تكون من آداب المحدّث واللغوي وقد قال: «ولهذا لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفا إلا معزوا إلى قائله من العلماء مبينا كتابه الذي ذكر فيه» «1». والنقول التي شغلت حيزا كبيرا في كتابه هي النقول عن المعاجم سواء أكانت معاجم عامة أم معاجم خاصة، فقد أكثر من النقل عن الصحاح للجوهري في مواضع متفرقة وعن الجمهرة لابن دريد، والمجمل لابن فارس والمحكم لابن سيدة والغريب المصنف لأبي عبيد، وفقه اللغة للثعالبي، وديوان الأدب للفارابي وأدب الكاتب لابن قتيبة، وإصلاح المنطق لابن السكيت وتهذيبه للتبريزي، وكتاب ليس لابن خالويه، والفصيح لثعلب والتهذيب للأزهري. ويلي هذه المصادر في حجم النقول الكتب التي عنيت كالمعاجم بالألفاظ، وضمت إليها أبحاثا لغوية أخرى كالأمالي لثعلب، وأمالي القالي والزجاجي وابن دريد، وشروح الفصيح لابن درستويه، ولابن خالويه وللبطليوسي. أما أهم الكتب التي تناولت بعض أبحاث فقه اللغة وشغلت حيزا كبيرا بين نقول السيوطي فهي الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس والخصائص لابن جني، يليهما الكامل للمبرد ولمع الأدلة في أصول النحو لابن الأنباري. وسائر الكتب بعد ذلك تشغل النقول عنها حيزا أقل، ولا يفوتنا أن نذكر أن بينها كتبا هامة ككتاب سيبويه والقاموس للفيروزآبادي، ومجموعة من كتب النوادر لأبي زيد ولابن الأعرابي ولأبي عمرو الشيباني وللنجيرمي واليزيدي

_ (1) المزهر ج 2 ص 319.

ويونس وبعضها قد وصل إلينا وبعضها لم يصل. وقد اعتمد السيوطي على مجموعة لا بأس بها من كتب الأصوليين ونقل عنها وأهمها البحر المحيط للزركشي والبرهان لإمام الحرمين، والتلخيص له أيضا، وشرح منهاج البيضاوي للتاج السبكي، وجمع الجوامع للسبكي، وشرح المحصول للقرافي، وشرح منهاج الأصول للاسنوي، والمختصر لابن الحاجب، والملخص في أصول الفقه للقاضي عبد الوهاب المالكي، والوصول إلى الأصول لابن برهان. ولم يقتصر اعتماد السيوطي على هذه الكتب بصدد بحث نشأة اللغة الذي يهتم به المتكلمون والأصوليون وحسب وإنما اعتمد عليها في كثير من الأبحاث الأخرى لا سيما التي تتصل بالمعنى كالخاص والعام والمشترك والمترادف والاشتقاق والحقيقة والمجاز وغير ذلك بحيث يبدو النقل عنها متناثرا في سائر كتابه. ونلاحظ قلة الكتب النحوية بين مصادر السيوطي فما ذكره بعضه في أصول النحو كلمع الأدلة في أصول النحو لابن الأنباري، وبعضه في الفروع وهو قليل ككتاب سيبويه وأصول ابن السراج والتسهيل ونظم الفرائد لابن مالك، وشرح التسهيل لأبي حيان، وهذا يدل في الحقيقة على تفرقته بين دراسة اللغة وبين دراسة النحو، وأن اعتماده على الكتب النحوية في المجال اللغوي غير النحوي لا يكون إلا بمقدار ما يخدم الموضوعات التي يتناولها، والحق أن التفرقة واضحة منذ القدم في أذهان اللغويين والنحاة، ومن الطبيعي ألا تكثر المصادر النحوية لكتاب في فقه اللغة أما كتب الطبقات فقد رجع السيوطي إلى عدد من الكتب التي وضعت في طبقات اللغويين والنحويين وهذه الكتب لا تفرق بين الفريقين لما أن كثيرا ممن اشتغل بأحد العلمين كان له اشتغال بالآخر، ومن هذه المصادر مراتب اللغويين لأبي الطيب اللغوي وطبقات النحويين للزبيدي، وطبقات النحويين للسيرافي، وتبعا لاهتمام الكتاب بالرواية بصفة عامة فقد اعتمد صاحبه أيضا على طبقات الشعراء لابن سلام وأكثر نسبيا من النقول عنه. وعامة ما تبقى من المصادر بعضه كتب في التاريخ كتاريخ ابن عساكر وغيره، وبعضه في التفسير، وبعضه في فروع الفقه، وبعضه أراجيز أو أشعار أو أخبار

كالترقيص للأزدي والأغاني لأبي الفرج، وغالبه كتب في اللغة اختصت بموضوع واحد أو عدة موضوعات ككتب الأضداد لأبي داود ولأبي عبيد ولابن الأنباري، وشجر الدر لأبي الطيب اللغوي، وكتاب العسل للفيروزآبادي، والمقصور والممدود للأندلسي ولابن ولاد ولابن سيدة ولابن السكيت وللقالي، وقد أكثر نسبيا من النقل عن هذه الكتب الثلاثة الأخيرة، والمؤتلف والمختلف للآمدي، والفروق لأبي الطيب، وغيرها من الكتب. ولا حاجة بنا بعد ما قدمناه إلى استقصاء جميع مصادره وذكرها فقد ذكرت جانبا كبيرا منها كما حددت المعالم العامة لهذه المصادر وأنواعها. وقد شاع لدى عامة الدارسين أن السيوطي ناقل لا غير، وملخص لأقوال الأقدمين بحيث إن المقدمين لكتابه كادوا يشوهونه بقولهم: «إن هذا الكتاب على ضخامته ليس للسيوطي فيه إلا الجمع والترتيب عدا بدوات قليلة نجدها مبعثرة في ثنايا الكتاب، وفقرات يقدم بها بين يدي الباب أو يختتمه» «1». وبالرغم من صدق هذه العبارة إلى حد كبير فإن ذلك لا يغض من شأن الكتاب ولا من شأن مؤلفه فحسبه أنه المؤلف الذي تنبه إلى وجوب جمع هذه الأبحاث وضمها جميعا في مؤلف واحد، كما أن نقوله واختياراته تدل على مقدرة كبيرة على الجمع والترتيب واختيار أنسب النصوص وأخصرها وأوفاها بالغرض، ويبدو أن جنوح السيوطي إلى الاختفاء بشخصيته وراء النقول قد أتاه كما بينا من تأثير منهج المحدّثين، وطبع عقليته بالطابع النقلي الحديثي بحيث إنه حينما يريد الحديث عن فكرة معينة يبحث لها عن نقول تعبر عما يريد قوله، وكأنه بذلك لا يرى ثبوت الفكرة إلا بقوة إسنادها واتصالها بعالم من علماء السلف المشهورين، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نعتمد على كثير من النقول التي يوردها ويختفي وراءها في تبين آرائه اللغوية وسنذكر ذلك بعد. وإذا كان اهتمام السيوطي بالنقول إلى هذا الحد فيحسن بنا أن نتناول أسلوبه في عرض أفكاره وترتيب هذه النقول وكيفية اعتماده على المصادر.

_ (1) المزهر ج 1 ص أمن المقدمة.

والسيوطي حريص على أن يبدأ بذكر اسم المؤلف ثم اسم الكتاب عند بداية كل نص يورده، كما ينبه عند نهاية كل نص على تمامه بحيث نستطيع في يسر أن نتبين في كل مبحث من المباحث التي تعرض لها عدد النقول التي أوردها ومقاديرها. وحينما يتناول موضوعا من موضوعات كتابه بالبحث يبدأ بتعريفه فينقل هذا التعريف عن غيره إن كان ثمة نقول تفيد ذلك، وإلا فإنه يبدأ بتحديده بألفاظ من عنده، ففي النوع الرابع مثلا عن المرسل نقل عن ابن الأنباري تحديده بأنه الذي انقطع سنده «1»، بينما حدد بألفاظه النوع الخامس: الأفراد بقوله «وهو ما انفرد بروايته واحد من أهل اللغة ولم ينقله أحد غيره» «2». وبعد تحديد الموضوع يتناول السيوطي بعض أجزائه أو الملاحظات عليه من قبل اللغويين فيورد النقول للتي تشير إلى ذلك، وإن كان ثمة خلافات بين اللغويين أو الأصوليين في المبحث فهو يهتم بذكرها، وإذا لم يكن ثمة شيء من ذلك وكان المبحث في ألفاظ تحتاج إلى الأمثلة فإنه يكثر من النقول التي يمثل بها لما ذكر. أما ترتيب هذه النقول فيتبع فيه ما تفرضه عليه طبيعة الموضوع، فهو يرتب كل موضوع وفق ما يراه ثم يورد النقول متراصة في الاطار الذي حدده لموضوعه، ولا يلتزم بالتدرج التاريخي للكتب المنقول عنها وإن بدا ذلك في بعض الأحيان، فالاعتبار الأول لطبيعة الموضوع وتخطيطه العام فإذا كانت جملة من النقول دائرة في غرض واحد من أغراض البحث فإنه غالبا ما يراعى التدرج بأن يذكر السابق فاللاحق، وإن كان هذا غير ملتزم في سائر الكتاب وإنما هو غالب عليه. على أن الناظر لأول وهلة في الكتاب قد لا يلاحظ ما نذكره بل يرى كل باب من الأبواب مجموعة من النقول رصّ بعضها إلى جانب بعض.

_ (1) المزهر ج 1 ص 125. (2) المصدر السابق ج 1 ص 129.

والواقع أن هذا الترتيب يراعى فيه طبيعة ترتيب الموضوع، ثم إلى حد ما التدرج التاريخي للنقول، فإذا نظرنا إلى أول مبحث في كتابه وهو «الصحيح» وجدناه قد بدأ بتعريف اللغة، وتحت هذا الغرض أورد نقولا ثلاثة راعى فيها التدرج التاريخي فأولها نص لابن جني والثاني لامام الحرمين والثالث لابن الحاجب «1». ثم انتقل إلى غرض آخر من أغراض الموضوع وهو كون اللغة توقيفا أو اصطلاحا، فبدأ بنقل نص عن ابن فارس أتبعه بنقل عن ابن جني ثم تعرض بعد ذلك لآراء الأصوليين فلخصها عن المحصول لفخر الدين الرازي (606 هـ) ثم أورد نقولا بعد ذلك عن كتب في الأصول لابن برهان (520 هـ)، ثم عن إمام الحرمين فالغزالي فابن الحاجب فتاج الدين السبكي، وهكذا نرى عدم التزامه الدقيق بالتدرج التاريخي في ترتيب هذه النقول، وإن كان هذا التدرج قد التزمه في إيراد أقوال إمام الحرمين فمن بعده، وهناك بعض نقول له يراعى في ترتيبها التدرج التاريخي، فحين يتحدث عن الحكمة في وضع اللغة ينقل عن الكيا الهرّاسي (504 هـ)، ثم يتبعه بالنقل عن الفخر الرازي (606 هـ)، ويكاد لا يلتزم بهذا التدرج حين حديثه عن ثبوت اللغة بالقياس التي أفاض في بحثها الأصوليون فبدأ بالنقل عن الكيا الهراسي (504 هـ)، فابن برهان (520 هـ)، فامام الحرمين (478 هـ)، فالغزالي (505 هـ). بيد أن السيوطي لا يلتزم بدقة في أحيان غير قليلة بالتدرج التاريخي للكتب التي نقل عنها فهو ينقل مثلا في فعّيل فعّيلى أمثلة من الجمهرة لابن دريد (310 هـ)، ثم ينقل عن ديوان الأدب للفارابي وهو متأخر عنه، ولكنه يعود فيورد أمثلة عن الصحاح للجوهري (400 هـ)، وهو سابق على الفارابي، ثم ينقل مرة أخرى عن جمهرة ابن دريد، ثم عن ابن فارس (395 هـ)، ثم عن الصحاح للجوهري، ثم عن أمالي القالي (356 هـ)، وطبيعة هذه النقول لا تحتاج إلى التزام التدرج التاريخي التزاما دقيقا فليس ذلك مما يؤخذ عليه. والحق أن ما يجب مراعاة التدرج التاريخي فيه هو النقول التي تعرض لفكرة

_ (1) نفس المصدر ج 1 ص 7، 8.

من الأفكار أو نظرية من النظريات، أما ألفاظ اللغة فعامة كتب اللغة تروى عن رواتها الأولين، ويزيد بعضها على بعض، فلا يلزم حين النقل عنها مراعاة التدرج التاريخي مراعاة دقيقة، لأن هذه المصادر لم تحرص على هذا التدرج. أما عن كيفية النقل فهو حريص على أن يورد القول بنصه، فإن لخصه نبه على ذلك، وأحيانا يلخص جملة أقوال فلا يذكر حينئذ اسم كتاب نقل عنه وهنا ينبه على أن ما يورده هو ملخص أقوال الأصوليين أو البلاغيين أو غيرهم بصدد موضوع من الموضوعات. أما عن نقل ألفاظ اللغة فهو حريص على أن ينقل عن كل كتاب ما لم يرد في غيره من الأمثلة حتى تجتمع من ذلك حصيلة من الأمثلة لم يحصلها قبله غيره منفردا. وأهم الكتب التي نقل عنها السيوطي ونستطيع أن نتبين منها منهجه في النقل الخصائص لابن جني والصاحبي لابن فارس ولمع الأدلة لابن الأنباري. وطريقته في النقل عنها تمثل لنا طريقته في النقل عن سائر الكتب التي اهتمت ببعض أبحاث فقه اللغة، أما المعاجم وكتب اللغة التي من قبيلها فلا تحتاج نقوله عنها إلى تمثيل لأن نقله في ذلك الحين جمع لما تفرق وتنسيق لما تشعث. وحين ينقل السيوطي عن الصاحبي لابن فارس يورد ما ينقله نصا دون أن يغير فيه وكثير من نقوله تشهد بذلك «1»، فإذا أراد تلخيص ما يذكره ابن فارس صرح في عبارته بما يشعر بأنه يلخص ولا ينقل نصا «2».

_ (1) انظر المزهر ج 1 ص 4 حيث نقل مقدمة الصاحبي، وانظر الصاحبي ص 2، انظر المزهر ج 1 ص 64 حيث نقل بابا عن الصاحبي هو «القول على لغة العرب وهل يجوز أن يحاط بها»، انظر الصاحبي ص 18، وانظر ج 1 ص 137 من المزهر حيث ينقل في معرفة من تقبل روايته ومن ترد نصا عن ابن فارس أورده في مأخذ اللغة بالصاحبي ص 30، وهناك نقول شتى غير ذلك تدل على حرص السيوطي على إيراد نصوصه بدقة وأمانة دون تغيير. (2) انظر المزهر ج 1 ص 222، 223 حيث لخص عن ابن فارس اللغات المذمومة في بضعة سطور، وانظر الصاحبي حيث تحدث ابن فارس عن ذلك ص 24 - 27 وقد

وقليلا ما يختصر السيوطي دون أن تشعر عبارته بأنه قد حذف شيئا من النص، والواقع أنه في اختصاره إنما يحذف ما لا حاجة إليه أو ما يغني التمثيل له عن الكلام فيه «1». وقد أكثر من النقل عن الخصائص لابن جني، ونهج في نقله نهجا يدل على فهمه العميق لأقوال السابقين وحسن تلخيصها، والمعروف عن ابن جني إسهابه في أقواله وتوليده للمعاني واستطراده الكثير أثناء حديثه عن الفكرة الواحدة، ولذلك يعمد السيوطي كثيرا حين النقل عنه إلى اختصار أقواله وتلخيصها بما يشهد له بدقة الفهم واستقامته وميله إلى الوضوح والايجاز والبعد عن الاطناب حيث يغني الايجاز حتى إن بعض نقول السيوطي عن ابن جني تبدو في كتاب المزهر أكثر وضوحا منها لدى صاحبها. وفي بعض الأحيان ينقل السيوطي نصوص ابن جني بألفاظها دون أن يتصرف فيها كنقله عنه حدّ اللغة وتصريفها «2»، والقول على أصلها: إلهام أم اصطلاح حيث نقل بابا بأكمله «3»، وهناك أمثلة أخرى لخص فيها السيوطي أقوال ابن جني منها حديثه عن وضع اللغة: في وقت واحد أم في أوقات متلاحقة «4»، وقد نقل عنه بابا بأكمله في المطرد والشاذ وقد تحدث ابن جني عنه تحت نفس العنوان «5»، بيد أن السيوطي قد زاد على ابن جني ما أورده من أمثلة متنوعة نقلا عن كتب اللغة الأخرى «6»، وقد حرص السيوطي على اداء نص ابن جني بألفاظه إلا أنه في آخر النص

_ استغرق حديثه أربع صفحات. (1) انظر المزهر ج 1 ص 255 «معرفة مختلف اللغة» حيث نقل عن ابن فارس من باب «القول في اختلاف لغات العرب» فذكر نصوص ابن فارس كاملة بيد أنه حذف جانبا ذكره ابن فارس بصدد الاختلاف بين اللهجات في الاعراب، المزهر ج 1 ص 256، الصاحبي ص 20، ثم أتم النقل بعد ذلك بنصه إلى ختام الباب، انظر الصاحبي ص 19 - 22. (2) المزهر ج 1 ص 7، الخصائص ج 1 ص 33. (3) المزهر ج 1 ص 10 - 16، الخصائص ج 1 ص 40 - 47. (4) المزهر ج 1 ص 55 - 57، الخصائص ج 2 ص 28 - 33. (5) المزهر ج 1 ص 226 - 230، الخصائص ج 1 ص 96 - 100. (6) المزهر ج 1 ص 230 - 233.

أغفل بعض فقرات لابن جني «1»، وما أغفله تخريج لبعض الأمثلة الشاذة لا يمثل إغفالها نقصا في عرض الموضوع أو بيانه. على أن السيوطي في تلخيصه لأقوال ابن جني لا يغير فيها وإنما ينتقي منها ما يراه مفيدا للغرض ويغفل بعضها دون الاخلال بفكرتها العامة، وخير مثال لذلك ما نقله عنه بصدد «المستعمل والمهمل» «2»، حيث أورد نصوص ابن جني وأغفل كثيرا من الفقرات التي مثل بها المنقول عنه أو التي أوردها على سبيل الاستشكال، ولذلك فاغفال السيوطي لها لم يخل بما نقله، وقليل من عبارات السيوطي تختلف في اللفظ عن عبارات الخصائص ولكنه اختلاف لا يخلّ بالمعنى، ولعل مرده إلى اختلاف النسخة التي بين أيدينا من الخصائص عن النسخة التي نقل عنها السيوطي. ويمكن أن نلاحظ اختلاف بعض العبارات فيما نقله عنه بصدد اختلاف اللغات «3»، كما نلاحظ ما قلناه عن اختصاره لعبارات ابن جني، وهناك نقول أخرى تشهد لما أردنا بيانه. أما كتاب لمع الأدلة لابن الأنباري فهو كتاب في أصول النحو نقل السيوطي عنه ثلاثة نقول، وسنرى اعتماده عليه كثيرا في كتابه «الاقتراح»، وقد نقل عنه هنا في الحديث عن المتواتر والآحاد «4»، ما تحدث عنه ابن الأنباري في الفصلين الرابع والخامس من كتابه وهما انقسام النقل «5» وشروط نقل المتواتر «6»، ونلاحظ

_ (1) المزهر ج 1 ص 229، 230، الخصائص ج 1 ص 99، 100 حيث حذف من أول قول ابن جني: «فأما قول أبي الأسود: ليت شعرب البيت، إلى قوله: وإن لم يكن قبيحا ولا مأبيا في القياس» نحو أحد عشر سطرا. (2) المزهر ج 1 ص 240 - 242، الخصائص ص 54 - 68، أغفل السيوطي فقرة لابن جني من أول قوله ص 55 «وأنا أرى أنهم إنما يقدمون الأقوى من المتقاربين ... إلى قوله: فهذا واضح كما تراه»، ثم نقل بالنص عنه من أول: وأما ما رفض أن يستعمل، وبعد قليل نراه يترك فقرات أخرى. (3) المزهر ج 1 ص 257، 258 نقل عن الخصائص ج 2 ص 10 - 12. (4) المزهر ج 1 ص 113. (5) لمع الأدلة ص 83. (6) لمع الأدلة ص 84.

أنه قد حرص على إيراد ألفاظه بدقة كاملة ولم يغفل إلا عبارة يسيرة هي مثال من الأمثلة التي أوردها ابن الأنباري، كما أن نص السيوطي في كتابه يشعر بأنه قد أغفل شيئا أراد التنبيه عليه إذ أورد عبارة «ثم قال» بعد الفقرة التي أغفل من نهايتها ذلك الجزء اليسير. وحين تحدث السيوطي عن المرسل والمنقطع في كتابه بدأ بالحديث عن المرسل نقلا عن ابن الأنباري، ولما كان الأخير قد تناول المرسل والمجهول معا فإن السيوطي قد نقل ما يخص المرسل وأغفل العبارات التي تحدث فيها ابن الأنباري عن المجهول دون أن يبتر ألفاظه أو يغير منها «1». وحين نقل عنه في النوع السادس «من تقبل روايته ومن ترد» أورد ما كتبه ابن الأنباري في شرط نقل الآحاد، وقد التزم السيوطي بألفاظ ابن الأنباري وعباراته بيد أنه في آخر النص أغفل بضع عبارات لم يوردها وهي في الحقيقة لا تنقص المعنى ولا تخل به، وإنما أوردها ابن الأنباري زيادة في توضيح فكرته فاستطاع السيوطي الاستغناء عنها دون أن يختل المعنى مع حرصه على عدم تغيير عبارات المنقول عنه «2». يتضح مما قدمناه، ومن غيره مما تتبعناه أن السيوطي كان يمتاز بالأمانة البالغة في نقوله، ويبدو حرصه الشديد على إيراد هذه النقول بألفاظها في طريقة اختصاره حيث يغفل العبارات التي لا تخل بالمعنى أو التي يرى فيها استطرادا وتشتيتا للفكرة، ويقتصر على عبارات المنقول عنه التي يرى فيها إيضاحا للفكرة التي ينقلها دون أن يغير من اللفظ ويبدّله، على أن جانبا كبيرا من هذه النقول لم يقسم باختصارها بل أورد النصوص كاملة كما هي لدى أصحابها، ومن ثم فإنه يمكن الاعتماد على نقول السيوطي في استنباط آراء السابقين ومذاهبهم، والاطمئنان إلى وثاقتها.

_ (1) انظر المزهر ج 1 ص 125 النوع الرابع، وانظر: لمع الأدلة: الفصل الثامن «المرسل والمجهول» ص 90، 91. (2) انظر المزهر ج 1 ص 138، لمع الأدلة ص 85، 86.

وضع أصول لنقد الرواية اللغوية

وضع أصول لنقد الرواية اللغوية بينت بالباب الأول من البحث أن السيوطي أولا وقبل كل شيء محدّث من النوع الأول يهتم بالبحث في الأسانيد ويحرص على الأمانة، ويهتم بالبحث فيما يتصل بالأحاديث من صحة وضعف وعلل وبالرواة من توثيق وتعديل، أو تجريح وتضعيف، كما قلت إن عنايته بالحديث قد طبعت منهجه وعقله بحيث ظهر تأثره به في شتى نواحي دراسته. وفي كتاب «المزهر» نجد محاولة من السيوطي لدراسة اللغة بتطبيق منهج المحدّثين عليها، وقد صرح بذلك في مقدمته حيث قال: «هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه، واخترعت تنويعه وتبويبه، وذلك في علوم اللغة وأنواعها، وشروط أدائها وسماعها، حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، وأتيت فيه بعجائب وغرائب حسنة الابداع» «1». والواقع أن رواية الحديث قد حظيت منذ وقت مبكر بعناية المسلمين، ونالت من الاهتمام لاتصالها بالأحكام الشرعية التي تمس عبادات الناس ومعاملاتهم ما لم يتح مثله للرواية اللغوية. وقد اشتغلت طائفة كبيرة من المسلمين بنقل الحديث وروايته، كما ابتدأ تدوين الحديث منذ وقت مبكر ووضعت فيه المصنفات التي اعتمدت- في الغالب- على ما دون في عهد عمر بن عبد العزيز، وقد صنف في الحديث من رجال القرن الثاني الهجري الربيع بن صبيح (160 هـ)، وسعيد بن أبي عروبة (156 هـ)، وتبعهم الامام مالك الذي صنف الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، وصنف ابن جريج بمكة والأوزاعي بالشام وسفيان الثوري

_ (1) المزهر ج 1 ص 1.

بالكوفة وحماد بن سلمة بالبصرة وهشيم بواسط وغيرهم، ثم تلاهم كثيرون ممن نسج على منوالهم، ثم صنف بعض الأئمة المسانيد كمسند أسد بن موسى الأموي (212 هـ)، ومسند نعيم بن حماد الخزاعي (228 هـ)، ثم بعد فترة ظهر مسند الامام أحمد بن حنبل (341 هـ)، وتلا هذه الطبقة طبقة أصحاب الكتب الستة «1». وإذا كانت العناية قد اتجهت إلى جمع الأحاديث وتدوينها فإن طريق ذلك كان الرواية الشفوية التي اعتمد عليها الحديث فترة من الزمن، ثم كان أصحاب الكتب يعتمدون أيضا على الرواية الشفوية ويهتمون بالنقل عن حفاظ الحديث ونقلته بعد التدوين وقد استدعى ذلك البحث عن الوسائل التي تضمن سلامة وصول الأحاديث إليهم. وقد عرف عن الصحابة تشددهم وتحرجهم في رواية الحديث، كما عرف عن بعضهم نقدهم لبعض الروايات، فلما حدثت الفتنة وظهر أهل الأهواء الذين لم يؤمن كذبهم في الحديث، ثم ظهر القصاص وأصحاب الأخبار بعد ذلك يحدثون الناس بأحاديث عن الكتب السابقة تفيض بالكذب والأساطير، كما ظهر التزيد عند بعض الرواة، أصبحت الحاجة ماسة إلى الاهتمام بنقد رواية الحديث، وقد اتجه هذا النقد في غالبه إلى الأسانيد ويتمثل في بحث الرواة جرحا وتعديلا وما يستتبعه من بحث أحوالهم، والبحث في الأسانيد لمعرفة عللها واتصالها أو انقطاعها، ومن هنا كانت بداية ظهور علم أصول الحديث الذي عرف عند المتأخرين بعلم مصطلح الحديث. ولكي نعطي صورة مجملة عن تدرج مصطلح الحديث حتى وصل إلى ما وصل إليه عند المتأخرين نذكر أن الاهتمام بهذا العلم كما بينا كانت له جذوره الموغلة في القدم، وقد تكلم في الجرح والتعديل كثير من العلماء منذ وقت مبكر، وكان منهج الرواية في ذلك الحين عرفا بين المحدثين. ويبدو أن ابن شهاب الزهري، وشعبة بن الحجاج (160 هـ) قد صنفا في

_ (1) السيوطي: تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ج 1 ص 5، 6.

نقد الرواية، وقد ظهر بعد حين مسلم (261 هـ)، الذي صنف في علل الحديث، ثم صنف أبو محمد الرامهرمزي (260 هـ) كتاب المحدث الفاصل بين الراوي والواعي وتبعه الحاكم النيسابوري (405 هـ) فتصدى للتأليف في ذلك، لكنه لم يهذب ولم يرتب، وتبعه أبو نعيم الأصبهاني، ثم جاء من بعدهم الخطيب البغدادي (463 هـ) فصنف في قوانين الرواية كتاب «الكفاية»، كما صنف في آدابها، وفي جميع فنون الحديث بحيث قيل: إن المحدثين بعده عيال على كتبه. ويمكن أن نجد في كتاب الكفاية مصداق ما نقول من قدم الكلام في أصول الحديث والاهتمام به حيث يورد الخطيب البغدادي نقولا بأقوال كثير من المتقدمين تتصل بأصول الحديث ونقد الرواية فهو يذكر مثلا في «الخبر المتصل» نقلا يصل إلى قتادة وهو من التابعين وفيه يقول: «لا يحمل هذا الحديث عن صالح عن طالح، ولا عن طالح عن صالح، حتى يكون صالح عن صالح» «1»، ومعظم الكتاب نقول كهذا نثبت لنا كثيرا من أسماء الذين اعتنوا بنقد الحديث منذ القدم وإن لم يصنفوا فيه. وأشهر الذين صنفوا في المصطلح من المتأخرين ابن الصلاح (642 هـ)، ومقدمته أشهر ما كتب في المصطلح بحيث حظيت بعدد من الشروح والمختصرات، وقد لخص ابن حجر هذه المقدمة في كتابه نخبة الفكر، ويمكن أن نعتبر هذه المقدمة نهاية التدرج الذي وصل إليه مصطلح الحديث بعد استقرار مصطلحات هذا العلم ولذلك سنحاول المقارنة بينها وبين كتاب السيوطي باعتباره نهاية التدرج في الرواية اللغوية ونقدها. اتضح لنا ما حظيت به رواية الحديث من اهتمام بالغ، وما حظي به نقد روايته من توفر كثير من الباحثين في الحديث منذ فترة مبكرة على التعرض لها وتناولها، ثم توفر كثرة منهم على التصنيف فيها، والدافع إلى ذلك- كما هو معروف- هو اتصال الأحاديث بالدين واعتماد التشريع عليها، وظهور أهل

_ (1) الكفاية في علم الرواية ص 20.

الأهواء، ووجود الدواعي إلى الكذب التي حاول المحدثون الابتعاد عنها وتنقية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من شوائب الوضاعين والكذابين. ذلك كان شأن رواية الحديث وشأن أصوله ونقد روايته حتى وصلت إلى مصطلح معروف لدى القوم حاول السيوطي أن يدرس اللغة وروايتها وأن يقسمها على نمطه فماذا كان من أمر رواية اللغة ونقدها قبل السيوطي؟ ثم ما هو الجهد الذي قام به السيوطي؟ وإلى أي مدى من النجاح بلغت محاولته؟ وقد حظيت رواية الأدب واللغة بعناية الرواة منذ القدم، ورواية الأشعار في الجاهلية والاسلام، وكثرة الرواة وقوة حفظهم أمور معروفة ومشهورة، أما نقد هذه الرواية فقد حدث بشكل ملحوظ في عصور التدوين فقد لاحظ الخليل أن «النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس في كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت» «1»، كما لاحظ القدماء افتعال الشعر من قبل بعض الرواة ونسبته إلى غير قائليه، ويعطي ابن سلام في مقدمته صورة للانتحال في الشعر وما قام به محمد بن إسحاق من تحمله لكثير من المصنوع المفتعل «2»، وقد بين ابن سلام في مقدمته دوافع انتحال الشعر وذكر أن أهل البصيرة بالشعر يستطيعون أن يميزوا صحيحه من المصنوع الذي افتعله الرواة، ويعد ابن سلام بذلك من أقدم من تكلم في نقد الرواية اللغوية. والواقع أن الذي يهم اللغويين بعد حديث الافتعال والانتحال في الشعر وكذب بعض الرواة هو أن يثبتوا أن ما يحتجون به منسوب إلى الفترة التي يحتج بأشعار شعرائها وبأقوال متكلميها، وليس من الضروري عند اللغويين بعد ذلك تعيين القائلين بأعيانهم، وإنما ذلك بغية دارسي الأدب، وهذه الفترة قد استقر العرف بين اللغويين على أن تمتد إلى منتصف القرن الثاني في الرواية عن فصحاء الحواضر، وإلى منتصف القرن الرابع في الرواية عن أهل البادية. والواقع أنه إلى ذلك الحين لم يحظ نقد الرواية اللغوية وما يتصل بها من

_ (1) ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة ص 30. (2) ابن سلام: مقدمة طبقات فحول الشعراء ص 5، 8، 9.

بحث الرواة وأحوالهم لمعرفة حقيقتهم جرحا وتعديلا، ولم تحظ أسانيد اللغة بدراسة اللغويين، ولم يكن نقد الرواية إلا عرفا متبعا غير مدوّن لا يبين عنه إلا نصوص متناثرة وملاحظات قليلة في كتب الأقدمين، فابن فارس يشير إلى اشتراط عدالة الرواة بقوله: «فليتحر آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة والصدق والعدالة، فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد ما بلغنا» «1». وابن جني يتناول بعض ما يتصل بنقد الرواية في كتابه الخصائص فيتحدث عما انفرد به واحد من أهل اللغة وحكمه «2»، وسقطات العلماء يعني أغلاط رواة اللغة «3»، وما يتصل به من تصحيف وتحريف، وصدق النقلة وثقة الرواة والحملة «4»، وهو بمثابة تعديل لبعض ناقلي اللغة كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وأبي حاتم وأبي الحسن الأخفش والكسائي، وما عدا ذلك فهو ملاحظات قليلة جدا تتصل بالرواية ونقدها. وقد حاول ابن الأنباري (577 هـ) أن يضع أصولا لنقد الرواية اللغوية فاعتمد في محاولته على مصطلح أهل الحديث مقسما اللغة كتقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد «5»، ثم تحدث عن شرط المتواتر فاشترط فيه نفس شروط المحدّثين، وتحدث بنفس عباراتهم «6» وتناول الآحاد فاشترط عدالة ناقل اللغة كما يشترط في الحديث «7»، وتناول بالبحث قبول نقل أهل الأهواء «8»، وتناول الأسانيد فتحدث عن المرسل والمجهول «9»، كما تناول الاجازة، ثم تحدث عن معارضة النقل بالنقل أي الترجيح بين الروايات «10» ونلاحظ أن ابن الأنباري قد اعتمد على ما وضعه المحدّثون من مصطلح بيد أنه لم يحاول أن يطبق ذلك على اللغة تطبيقا دقيقا حيث لم يكثر من الأمثلة لما وضع من أصول.

_ (1) الصاحبي في فقه اللغة ص 30. (2) الخصائص ج 2 ص 21. (3) الخصائص ج 3 ص 158. (4) المصدر السابق ج 3 ص 309. (5) ابن الأنباري: لمع الأدلة في أصول النحو ص 83. (6) ابن الأنباري: لمع الأدلة ص 84، 85، انظر الكفاية للبغدادي ص 16، 17، ونخبة الفكر لابن حجر ص 5. (7) لمع الأدلة ص 85. (8) المصدر السابق ص 86. (9) المصدر السابق ص 90. (10) نفس المصدر ص 136.

ولا نكاد نجد بعد ابن الأنباري من تناول نقد الرواية اللغوية علما له أصوله وأقسامه المحددة غير السيوطي، وكل ما قيل فيها قبل السيوطي عدا ما بيناه إنما هو أبحاث قليلة لبعض الأصوليين تناولوا فيها بعض الموضوعات، أو إشارات متناثرة للغويين مبثوثة في ثنايا كتبهم، لذلك يعد ما قام به السيوطي عملا مبتكرا فقد استطاع أن يجمع شتات ما سبق به وأن يضم متفرقات شتى ويقيم منها أقساما لها كيانها، ويضع للغة منهجا متكاملا في نقد الرواية لا يكتفي فيه بالجانب النظري وحده بل يقوم بتطبيقه على ألفاظ اللغة وما نقل منها بحيث يمكن أن نعد كتابه أهم كتاب وضع في نقد الرواية اللغوية علما له أصوله ومصطلحاته، وتصنيف اللغة على أساس هذا العلم، فهي محاولة جمع فيها بين النظر والتطبيق. حاول السيوطي أن يضع مصطلحا للغة يضاهي مصطلح الحديث، وقد طبق أقسامه على اللغة، وسنبين إلى أي حد كان هذا المنهج مطابقا لواقع الدرس اللغوي. ويتضح لنا مقدار الجهد الذي بذله من نظرتنا في المباحث التي تناولها محاولا دراسة اللغة في إطار منهج لنقد روايتها يضاهي منهج المحدثين بحيث إن الناظر في مسرد عناوين الأقسام التي قسمها السيوطي ومسرد موضوعات كتاب في مصطلح الحديث كمقدمة ابن الصلاح ليدرك مدى التشابه بينهما في كثير من الأقسام. وقد قسم السيوطي كتابه إلى خمسين قسما، كل مجموعة منها تتناول اللغة من جانب معين، فثمانية أنواع تناول فيها اللغة من حيث الإسناد وهي: الصحيح الثابت، وما روي ولم يصح ولم يثبت، والمتواتر والآحاد، والمرسل والمنقطع، والأفراد، ومن تقبل روايته ومن ترد، وطرق الأخذ والتحمل، والمصنوع وهو الموضوع. ثم تناول اللغة من ناحية ألفاظها في ثلاثة عشر نوعا بيد أنه لم يحاول أن يدرج أبحاثها تحت مصطلحات المحدثين، ولذلك فبعض الأنواع يضاهي مباحث للمحدثين، وبعضها ليس لهم مباحث من قبيله، ثم تناول اللغة وألفاظها من حيث المعنى في ثلاثة عشر نوعا ونلاحظ في دراسته لبعض هذه

الأنواع اعتماده الكبير على الأصوليين نظرا لاهتمامهم ببحث المعنى. وقد تناول لطائف اللغة وملحها في خمسة أنواع، وقد استغرقت الأبحاث السابقة الجزء الأول من الطبعة التي نعتمد عليها، وقد درس السيوطي ألفاظ اللغة وحاول ضبطها وحصر أبنيتها فيما سماه بالأشباه والنظائر، ثم عاد بعد ذلك لاكمال المنهج الذي وضعه لنقد اللغة على نمط منهج أهل الحديث، فتحدث عن آداب اللغوي في مقابلة آداب المحدث عند أهل المصطلح «1»، ثم كتابة اللغة وقد تحدث فيه عن تاريخ الكتابة عند العرب وفضل تعلمها ... إلى آخره، ثم تناول التصحيف والتحريف في اللغة كما يفعل أهل الحديث «2»، ثم الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء وقد ألف المحدثون في ذلك المطولات والمختصرات وبحثوه في مصطلحهم «3»، ثم الأسماء والكنى والألقاب والأنساب التي تتصل أيضا بنقلة اللغة كما يفعل أهل الحديث «4»، والمؤتلف والمختلف المتصل بنقلة اللغة كما يدرسه أهل الحديث متصلا بنقلتهم «5»، والمتفق والمفترق «6» والمواليد والوفيات «7»، وهذه المباحث تتصل برجال اللغة ورواتها. وقد خصص السيوطي بعد ذلك قسما للحديث عن الشعر والشعراء باعتبار الشعر يمثل جزء من مادة اللغة التي تنقل، وباعتبار الشعراء من قائلي اللغة الذين ينقل عنهم، ولم ينس أن يتناول أغلاط العرب في آخر مباحثه. وجدير بنا أن ننبه على أن كتاب السيوطي لم يقتصر على تقسيمات اللغة حسب منهج نقد الرواية الذي يحاكي مصطلح الحديث، بل إن كثيرا من الأقسام تتناول موضوعات لا تتصل بهذا المنهج لا سيما الموضوعات الثلاثة عشر التي تدرس اللغة من حيث المعنى وغيرها، كما أن بعض الموضوعات التي تناول فيها اللغة تحت أقسام أهل المصطلح احتوت كثيرا من الأبحاث اللغوية الهامة لا ينبئ عنوان البحث عنها كما في القسم الأول: الصحيح من اللغة. وعدم

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ص 118. (2) مقدمة ابن الصلاح ص 140. (3) المصدر السابق ص 193. (4) نفس المصدر ص 164. (5) نفس المصدر ص 172. (6) نفس المصدر ص 179. (7) نفس المصدر ص 7، 8.

المرحلة الأولى: النقد الخارجي:

التقيد بالتزام جميع عناصر منهج المحدّثين في دراسة اللغة من الأمور التي نحمدها للسيوطي، إذ إنه يحاول أنه يعبر بذلك عن واقع الدّرس اللغوي الذي يختلف في كثير من المواضع بلا شك عن دراسة الحديث الشريف. وليس التشابه بين منهج المحدثين وبين عمل السيوطي بحاجة إلى التدليل عليه أكثر مما ذكرنا، فقد صرح به في مقدمته، بالإضافة إلى ما رأيناه من تشابه بين تقسيماته وبين تقسيمات أهل المصطلح. بعد هذا التعريف بالمنهج الذي وضعه السيوطي ليكون مصطلحا لعلوم اللغة يجدر بنا أن نقوم الجهد الذي قام به في تكوين منهجه وإقامة دعائمه وتطبيقه على اللغة، فإلى أي مدى وفق في ذلك؟ وما مدى مناسبة منهجه للواقع اللغوي؟. ونقد الرواية في الحديث أو في غيره من العلوم النقلية يتعرض لمرحلتين من النقد أولاهما: النقد الخارجي أو نقد السند، وهذه أهم المرحلتين، وقد حظيت ببحث مستفيض لدى المسلمين، وهي بالتالي يمكن أن يندرج البحث فيها تحت قسمين رئيسيين ترتد إليهما فروع البحث في النقد ومصطلحاته، وأولهما: البحث في الرواة جرحا وتعديلا وما يتبع ذلك من معرفة تواريخهم وأحوالهم، والآخر: البحث في الأسانيد واتصالها وعللها وما يدخل في ذلك من فروع. أما المرحلة الثانية فهي النقد الداخلي أو نقد المتن، وهي تعنى بالترجيح بين الروايات المختلفة، وتتناول متون النصوص بالنقد، ولم يغفل تناولها أصحاب أصول الحديث، بيد أن العناية بها من عمل البيئات الاسلامية المختلفة التي تناولت النصوص لا سيما بيئات الفقهاء. ولكني نحدد دور السيوطي في وضع منهج لنقد الرواية اللغوية سنبحث الموضوع حسب التقسيم السابق. المرحلة الأولى: النقد الخارجي: أ- رواة اللغة: اشترط اللغويون منذ وقت مبكر العدالة في راوي اللغة، وقد نقل عن

الخليل ما يشير إلى ذلك «1»، كما كان لابن سلام ملاحظات نقدية هامة في رواية الشعر اهتم فيها بوجوب تحري من ينقل عنه واشترط فيه العدالة والضبط حيث أنكر على محمد بن إسحاق تحمله لكثير من الشعر، وعدم بصره به «2»، وله ملاحظات هامة فيها يخص رواة الشعر، وقد حكى ابن سلام التزيد الذي أصاب رواية الشعر ودوافعه وبين أن أهل البصر بالشعر يستطيعون أن يميزوا صحيحه من منحوله، وإنما يشكل عليهم تميز ما زاده الرواة من أهل البادية. وإذا كان هناك ما يحمل المولدين على الكذب لسبب أو لآخر فلقد صار من اللازم على اللغويين- وهم يبحثون عن الصحيح من اللغة- أن يشترطوا عدالة ناقل اللغة فابن فارس ينصح بذلك قائلا: «فليتحر آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة، والصدق والعدالة، فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد ما بلغنا» «3». ويوضح ابن الأنباري ذلك بقوله: «اعلم أنه يشترط أن يكون ناقل اللغة عدلا رجلا كان أو امرأة، حرا كان أو عبدا، كما يشترط في نقل الحديث، لأن بها معرفة تفسيره وتأويله فاشترط في نقلها ما اشترط في نقله، وان لم تكن في الفضيلة من شكله، فان كان ناقل اللغة فاسقا لم يقبل نقله، ويقبل نقل العدل الواحد، ولا يشترط أن يوافقه في النقل غيره» «4». وبالرغم من أن ابن الأنباري قد اشترط عدالة ناقل اللغة ونص على أن ذلك مماثل لما يشترط الحديث فان موقف اللغويين بالنسبة لما يرويه أهل الأهواء أكثر تساهلا من موقف المحدّثين إذ يقرر ابن الأنباري نفسه أن «نقل أهل الأهواء مقبول في اللغة وغيرها إلا أن يكونوا ممن يتدين بالكذب كالخطابية من الرافضة، وذلك لأن المبتدع إذا لم تكن بدعته حاملة له على الكذب فالظاهر

_ (1) الصاحبي في فقه اللغة ص 30. (2) مقدمة طبقات فحول الشعراء لابن سلام. (3) الصاحبي في فقه اللغة ص 30. (4) لمع الأدلة في أصول النحو ص 85.

صدقه، ولهذا قال بعض أكابر العلماء: إذا قبلنا رواية أهل العدل وهم يرون أن من كذب فسق فكيف لا يقبل رواية الخوارج وهم يرون أن من كذب كفر، والذي يدل على قبول نقلهم أن الأمة أجمعت على قبول صحيح مسلم والبخاري، وقد رويا عن قتادة وكان قدريا، وعن عمران بن حطان وكان خارجيا وعن عبد الرزاق وكان رافضيا» «1». ويتضح من هذا أن اللغويين يحاولون أن تكون شروطهم مماثلة لشروط المحدثين حيث يحتج ابن الأنباري لقبول نقل أهل الأهواء في اللغة بما فعله البخاري ومسلم، بيد أن هذا في الحقيقة لا يطابق الواقع، إذ المحدثون أكثر تشددا في الرواية وتحري الرواة من اللغويين نظرا لطبيعة نقولهم التي تتصل مباشرة بالدين، ولتوفر الدوافع إلى الكذب في الحديث أكثر من توفرها في اللغة، وهناك أمر ثالث وهو طول الاسناد في الحديث وكثرة الرجال الذين يحتاج نقاد الحديث إلى ضبطهم ومعرفة أحوالهم، والأمر في اللغة يختلف عن ذلك فقد تساهل اللغويون في البحث عن أحوال نقلة اللغة جرحا وتعديلا كما فعل المحدثون، ولا نكاد نجد محاولة جادة في ذلك إلا عند أبي الطيب اللغوي في كتابه «مراتب النحويين»، وإن كان هذا الكتاب في ظاهره يبدو تعريفا بأئمة اللغة ورواتها. وقد أنكر الرازي على اللغويين هذا الاهمال، وبرغم تعقب الأصبهاني له فإنه وافقه في أنه كان من الواجب على اللغويين أن يبحثوا عن أحوال الرواة «2»، ويحاول القرافي أن يجد عذرا لمسلك اللغويين بقوله: «إنما أهملوا ذلك لأن الدواعي متوفرة على الكذب في الحديث بأسبابه المعروفة الحاملة للواضعين على الوضع، وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب فيها في غاية الضعف ... ولما كان الكذب والخطأ في اللغة وغيرها في غاية الندرة، اكتفى العلماء فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المتداولة فإن شهرتها وتداولها يمنع من ذلك مع ضعف الداعية له، فهذا هو الفرق» «3».

_ (1) المصدر السابق ص 86 - 88. (2) المزهر ج 1 ص 118، 119. (3) المصدر السابق ج 1 ص 119، 120.

والواقع أن طبيعة اللغة تخالف طبيعة الحديث كما تبين، ولقد كان من الطبيعي أن يكون المحدثون أكثر تشددا في الرواية، وقد كانوا أكثر بحثا في أحوال الرواة من اللغويين برغم ما يزعمه بعض اللغويين من أن شروطهم في نقلة اللغة مماثلة لشروط أهل الحديث، فلكل بيئة ميزانها النقدي الخاص بها، فحيث لا يقبل المحدثون أهل الأهواء الذين لا يؤمن كذبهم ينقل اللغويون عنهم لعدم توفر دواعي الكذب في اللغة. كما أن نقد الرجال أنفسهم يختلف في بيئة عنه في الأخرى، ووضع نقلة اللغة في ميزان أهل الحديث قد يجرّح أكثرهم، ولم يكن عجيبا ما قاله إبراهيم الحربي المحدث: «كان أهل العربية كلهم أصحاب أهواء إلا أربعة فإنهم كانوا أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب البصري والأصمعي» «1»، ذلك أنه قد وزن ناقلي اللغة بميزان ناقلي الحديث. تلك خلاصة الأبحاث التي سبقت السيوطي وتناولت رواة اللغة، وقد اتضح منها محاولة الباحثين فيها وضع شروط مماثلة لشروط المحدثين بيد أن الرواية اللغوية- في واقع الأمر- كانت تجد تساهلا في قبولها أكثر من رواية الحديث، والأمر الثاني أن اللغويين لم يبحثوا في أحوال نقلتهم جرحا وتعديلا كما فعل أهل الحديث باستثناء ما قام به ابن جني، ومع ذلك فلم يتناول غير طائفة قليلة منهم بالتوثيق وأغفل الحديث عن سائر الرواة. وقد أنكر عليهم الرازي ذلك كما سبق، واعترف بهذا التقصير القرافي بالرغم من تعقبه للرازي واعتذاره عن اللغويين. ومن ثم فقد نصب السيوطي نفسه مدافعا عن اللغويين محاولا أن يجد لديهم ما هوجموا بالتقصير فيه من بحث أحوال رواة اللغة فأجاب عن ذلك بأن «أهل اللغة والأخبار لم يهملوا البحث عن أحوال اللغات ورواتها جرحا وتعديلا، بل فحصوا عن ذلك وبينوه كما بينوا ذلك في رواة الأخبار، ومن طالع الكتب المؤلفة في طبقات اللغويين والنحاة وأخبارهم وجد ذلك، وقد ألف أبو الطيب اللغوي

_ (1) ابن الأنباري: نزهة الألباء ص 17.

كتاب «مراتب النحويين» بين فيه ذلك، وميز أهل الصدق من أهل الكذب والوضع، وسيمر بك في هذا الكتاب كثير من ذلك في نوع الموضوع ونوع معرفة الطبقات والثقات والضعفاء وغيرها من الأنواع» «1». والواقع أن المعتذرين عن تقصير اللغويين في بحث أحوال الرواة بالنسبة لما فعله أهل الحديث قد أغفلوا أمرا هاما هو الفرق بين أسانيد الحديث وبين أسانيد اللغة، فأسانيد الحديث لا بد أن تصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلزم البحث عن رواتها ابتداء من التابعين فمن دونهم حتى يصل الخبر إلى طبقة جامعي الأحاديث ومدوّنيه، وهذه الأسانيد كثيرة ومختلفة ونقلتها متعددون وطبقاتهم كثيرة مما يجعل رجال الحديث من الكثرة بحيث يلزم النقدة ضبطهم ومعرفة أحوالهم، بينما الأمر في اللغة يختلف، إذ إن أسانيد روايتها أقصر، بل ربما تقتصر على راو واحد نقل عن الأعراب أو عن غيرهم من الفصحاء الذين يوثق بعربيتهم كالأصمعي وأبي زيد وغيره أو رواية راو عن الأصمعي، وبالجملة فإن سلسلة الاسناد قصيرة في الروايات اللغوية تجعل الرواة الذين ينبغي البحث عن أحوالهم عددا قليلا، وذلك لأن المادة اللغوية الموثوق بها كانت إلى عهد التدوين لا تزال قائمة حية بالبادية كما أن الاحتجاج بفصحاء الحاضرة قد استمر إلى وقت متأخر نسبيا وهو منتصف القرن الثاني حيث ظهر التدوين، وقد وضع الخليل- في ذلك الحين- أو شرع في وضع كتاب العين ليجمع فيه المادة اللغوية. وعلى أية حال فقد اتجه السيوطي- دفاعا عن اللغويين- إلى استدراك ما فاتهم من البحث عن أحوال الرواة محاولا ضمّ ما تناثر من ملاحظات لهم في ذلك وجمع أخبارهم من كتب الطبقات وغيرها ووضع ذلك في أقسام تحمل نفس الأسماء التي بحث تحتها أهل الحديث رجالهم. وأول هذه الأقسام التي تتناول الرواة الحديث عن آداب اللغوي وهو بحث لم يسبق السيوطي إليه في بيئة اللغويين، وقد ترسم فيه خطى المحدثين فهم

_ (1) المزهر ج 1 ص 120.

يذكرون أن على المحدّث تصحيح النية وإخلاصها «1»، وكذلك يبدأ السيوطي حديثه بأن يذكر أن أول ما يلزم اللغوي الاخلاص وتصحيح النية ثم التحري في الأخذ عن الثقات، ويمكن تلخيص ما ذكره السيوطي من هذه المبادئ التي يراها واجبة على اللغوي فيما يلي «2»: 1 - الاخلاص وتصحيح النية. 2 - الدءوب والملازمة. 3 - كتابة كل ما يراه ويسمعه فذاك أضبط له. 4 - الرحلة في طلب الفوائد والغرائب كما رحل الأئمة. 5 - العناية بحفظ أشعار العرب. 6 - التثبت في الرواية. 7 - الرفق بمن يأخذ عنهم. 8 - عدم الافتاء بما لا يعلم وليقل «لا أدري». 9 - سؤال من هو أعلم إذا تعرض للسؤال الذي لا يعرفه. 10 - عزو العلم إلى قائله. 11 - الرجوع إلى الصواب. 12 - الرد على العلماء إذا أخطئوا. 13 - التثبت في تفسير غريب القرآن والحديث. 14 - التنبيه على الروايات المختلفة. 15 - الامساك عن الرواية عند الطعن في السن. 16 - امتحان القادم لمعرفة درجته في العلم. وقد تحدث في هذا الفصل أيضا عن الحافظ في اللغة ووظائفه التي ينبغي عليه القيام بها وهي الاملاء وهي أعلاها، وقد أملى اللغويون القدماء أمثال ثعلب وابن دريد وابن الأنباري والقالي وغيرهم وطريقتهم في الاملاء كطريقة المحدثين.

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ص 119. (2) المزهر ج 2 ص 302 - 341.

وهذا الفصل- في الواقع- يعد من مبتكرات السيوطي في ميدان اللغة فقد استطاع أن يستنبط مما جرى عليه عرف اللغويين وما أفادته ملاحظاتهم المتناثرة وما حكى عن أئمتهم من أخبار، مترسما خطى أهل الحديث، استطاع أن يستنبط مجموعة من المبادئ تكون بمثابة القوانين التي ينبغي أن يأخذ اللغوي بها نفسه، وهي جزء من المنهج الكبير الذي وضعه، ولذلك نلاحظ عليه في هذا الفصل صوغ هذه الأحكام بقلمه ثم ذكر ما يعضدها أو يسندها من آثار أو أخبار. ثم تحدث عن كتابة اللغة «1»، لصلتها بما يجب على الرواة، بيد أنه بحثها من حيث تاريخها والأخبار التي وردت فيها، وتناول بعد ذلك مباشرة «التصحيف والتحريف» «2» وبحثه بحثا متقنا، وقد وضعه بين ما يخص رجال اللغة لأن سبب التصحيف والتحريف أساسا هو أخذ اللغة عن الصحف والمنهج الصحيح في تلقي اللغة أن تؤخذ سماعا ويحفظها الناقل عن شيخه، ويستعين بالكتابة في ضبط ما حفظ، ولا يجب أن يستغني بالكتابة عن الحفظ. وقد عني بهذا المبحث المحدّثون لكثرة ما عرض لهم من التصحيف حتى أفرده بعضهم بالتأليف منذ القدم، ونبه عليه ابن الصلاح في مقدمته «3»، ومن ثم فقد بحثه السيوطي مطبقا إياه على نصوص اللغة معتمدا على ما ورد بالكتب السابقة من أقوال تخص الموضوع، وقد أورد عددا كبيرا من الأمثلة لما صحفه رواة اللغة شعرا ونثرا، والواقع أن هذا المبحث من أهم المباحث التي تتصل بنقد الرواية اللغوية، وقد وفاه السيوطي حقه لما له من خطورة في إمكان دخول ألفاظ غير صحيحة إلى اللغة لا سيما إذا كان التصحيف في الألفاظ الغريبة التي ينفرد بروايتها بعض اللغويين. ثم تناول بعد ذلك: الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء «4»، أما الطبقات

_ (1) المزهر ج 2 ص 341. (2) المزهر ج 2 ص 353. (3) مقدمة ابن الصلاح ص 140 - 143، انظر ابن حجر: شرح نخبة الفكر ص 5. (4) المزهر ج 1 ص 395.

فقد سبق لكثير من اللغويين أن صنفوا فيها، وقد نص السيوطي على ذلك، بيد أن البحوث السابقة لم تتناول الطبقات من زاوية النقد للرواية اللغوية فلم تهتم بالحديث عن رجال اللغة جرحا وتعديلا بقدر ما كانت تهدف إلى التعريف المجمل بهم، كما أن بحث السيوطي للرواة مقسمين إلى حفاظ وثقات وضعفاء لم يسبق إليه في ميدان اللغة ببحوث مستقلة، وإنما كان ما سبقه عرفا جاريا بين اللغويين غير مكتوب، أو شذرات متناثرة وأقوالا متفرقة باستثناء ما قام به أبو الطيب اللغوي في كتابه الذي وثق فيه كبار رجال اللغة كأبي عمر بن العلاء وأبي زيد وأبي عبيدة وغيرهم، ولذلك اعتمد السيوطي في بحثه اعتمادا كبيرا على كتاب المراتب فنقل كثيرا من صفحاته الخاصة بتوثيق كبار الرواة وهي التي تناول فيها أبو الطيب التعريف بأئمة اللغة ونقلتها ابتداء من أبي الأسود وتلامذته وأبي عمرو إلى ابن قسطنطين، وقد وثق أبو الطيب جماعة كثيرة من رجال اللغة وضعف آخرين، وقد لخص عنه السيوطي بطريقته التي سبق بيانها أخبار عدد منهم ينيف على الستين من رجال اللغة على ترتيبهم الزمني الذي راعاه أبو الطيب. وقد أتبع ما نقله عن كتاب المراتب بنقل آخر عن الخصائص لابن جني الذي تحدث فيه تحت عنوان «صدق النقلة وثقة الرواة والحملة» «1»، حيث وثق رواة اللغة الأولين وأثنى عليهم، فبين صدق أبي عمرو بن العلاء وتحرجه في الرواية، وصدق الأصمعي وما عرف عنه من شدة تحرج في الرواية، وكذلك حال أبي زيد وأبي عبيدة وأبي الحسن والكسائي وأضرابهم، وقد أفاض ابن جني في الحديث عنهم نافيا كل ظنة ومبينا ما اتصفوا به من خلق قويم، وما كانوا عليه من الثقة والأمانة والصدق. وقد نقل السيوطي هذا المبحث بفصه ونصه هنا وقرنه بما نقله عن أبي الطيب، فهذا الفصل اعتمد فيه على هذين النقلين، وليس له فيه غير ما علق به على عبارة لأبي الطيب في نقد أبي عبيد صاحب الغريب المصنف حيث ذكر

_ (1) الخصائص ج 3 ص 309.

الأول أنه لم يسمع من أبي زيد، فذكر السيوطي أن صاحب الغريب المصنف قد صرح بسماعه من أبي زيد في كتابه «1». ويبدو أنه باقتصاره على ما نقل عن سابقيه كان يريد أن يبين كما بين من قبل في دفاعه عن اللغويين أنهم قد اهتموا ببحث رجال اللغة جرحا وتعديلا كما فعل المحدّثون، وبالرغم من أن السيوطي لم يضف إلى سابقيه شيئا يذكر فإن وضعه لهذين النقلين تحت عنوانه السابق الذي يضاهي مباحث المحدثين فيه شيء من الجدة والابتكار. وكان على السيوطي إكمالا للمنهج الذي يحاول إقامته وترسما لخطى أهل الحديث في بحث رجالهم أن يخصص للأسماء والكنى والألقاب والأنساب جانبا من كتابه، وكذلك فعل في النوع الخامس والأربعين «2»، ولم يقتصر على رواة اللغة ونقلتها بل جعل قسما لهم وآخر لشعراء العرب الذين يحتج بهم في العربية، ولم يسبق السيوطي بمثل هذا المبحث في ميدان اللغة فهو من مبتكراته فيها، إذ إن البحث في الأسماء والألقاب والكنى قد عنى به المحدثون فيما يتصل برواة الحديث، ولهم في ذلك مصنفات وقد بينوا أهميته في نقد الرواية وتمحيصها، كما تناولوه في كتب أصول الحديث «3» أما في اللغة فلا نعرف من سبق السيوطي بافراد هذا الموضوع بالبحث، وقد قسم السيوطي هذا المبحث إلى أربعة فصول تحدث في أولها عمن اشتهر بكنيته أو لقبه أو نسبه، وقسم الأول إلى قسمين أولهما يتصل بأئمة اللغة والنحو فأخذ يسردهم ابتداء من أبي الأسود حتى انتهى إلى رضى الدين الصغاني وعدتهم تنيف على سبعين علما من أشهر رجال اللغة، ثم تناول في القسم الثاني شعراء العرب الذين يحتج بهم في العربية فبدأ بامرئ القيس وانتهى بالعجاج فذكر أربعة عشر ممن غلبت عليه كنيته أو لقبه أو نسبه، وخصص الفصل الثاني لبيان كنية من اشتهر باسمه أو لقبه أو نسبه، وتناول فيه رجال اللغة ثم شعراء العرب، وفي الثالث بحث

_ (1) المزهر ج 1 ص 412. (2) المزهر ج 1 ص 418. (3) انظر مقدمة ابن الصلاح ص 162 - 172.

الألقاب وأسبابها فتناوله أيضا في قسمين أولهما لرجال اللغة والنحو والآخر لشعراء العرب، وفي الفصل الرابع تحدث عن الأنساب وأنواعها فالمنسوب إلى القبيلة صريحا كأبي الأسود أو ولاء كسيبويه، أو إلى بلد أو وطن أو إلى جد له، أو إلى لباسه، أو إلى اسمه أو اسم أبيه، ونحو ذلك. والحق أن السيوطي قد أحسن في ترتيب هذا البحث وتصنيفه، وقد كان البحث اللغوي بعامة والبحث في نقد الرواية بخاصة مفتقرا إلى ما قام به. ثم تناول «المؤتلف والمختلف» «1»، من الأسماء، وهو ما يعنى به أهل الحديث زيادة في التعريف بأسماء الرواة، واحتياطا من اللبس، وقد حظي في بيئة المحدثين بعناية بالغة، وصنفت فيه مصنفات مفردة منذ وقت مبكر، وقد عقد له ابن الصلاح فصلا في كتابه حدده فيه بأنه «ما يأتلف في الخط صورته ويختلف في اللفظ صيغته» «2»، ونبه على أهميته قائلا إن «من لم يعرفه من المحدّثين كثر عثاره، ولم يعدم مخجلا» «2». وقد تناول السيوطي هذا المبحث في أقسام ثلاثة أولها في أسماء رجال اللغة حيث سرد ثمانية أمثلة تتضمن ستة عشر رجلا يتشابه كل اثنين في صورة الاسم ويختلفان في صيغته ونطقه مثل الأبذى والأندى، والأنباري والأبياري، والزجّاجي والزّجاجي ... إلى آخره وقد ضبط هذه الأسماء وذكر أسماء أصحابها، ولا نكاد نظفر بمن اهتم قبل السيوطي ببحث أسماء اللغويين من هذه الزاوية، وإنما حدث ذلك فيما يخص رجال الحديث والشعراء والقبائل، ولهذا فإنه لم ينقل في ذكره لهؤلاء الرجال عن كتب سبقته، وقد كان حريصا كعادته على ذلك إذا وجد من سبقه إلى طرق هذا الميدان، وحين تناول شعراء العرب في هذا المبحث نقل عن كتاب «المؤتلف والمختلف» للآمدي مثالا واحدا، وفيما يتعلق بالقبائل نقل كثيرا من الأمثلة عن كتب السابقين كأمالي القالي وصحاح الجوهري، وأكثر من النقل عن كتاب «متشابه القبائل» لمحمد بن حبيب الذي

_ (1) المزهر ج 1 ص 447. (2) ابن الصلاح المقدمة ص 172 - 179.

استوفى صاحبه بحث الموضوع من قبل، والبحث في الأسماء وتشابهها واختلافها ومحاولة ضبط ذلك قد جعل المحدثين يعنون إلى جانب ما سبق مما يتصل بضبط الأسماء وصورتها بشيء قريب من ذلك وهو الاشتراك في الأسماء والألقاب والكنى والأنساب، في جميعها أو في بعضها، وهنا تبحث الأعلام التي تتفق في الاسم وتختلف في الأشخاص، أو الذين تتفق كناهم أو ألقابهم أو مجموع ذلك مع افتراق أشخاصهم، وهو يختلف عن سابقه لأن الاتفاق هناك في صورة الخط والافتراق في اللفظ فهو يأتلف شكلا ويختلف لفظا أو نطقا، أما هذا فيتفق خطا ولفظا ويفترق من ناحية المسمّى أو المكنّى أو الملقب وقد اصطلح على تسمية هذا البحث «بالمتفق والمفترق» «1». ولم يسبق السيوطي في ميدان اللغة بالعناية بهذا المبحث إلا فيما يتعلق بأسماء القبائل التي أفرد لها ابن حبيب من قبل كتابا، وقد تناول السيوطي ما يتعلق بأئمة اللغة والنحو ثم شعراء العرب ثم القبائل فذكر- مثلا- أن الأخفش اسم يطلق على أحد عشر نحويا، عدّد أسماءهم، وأن سيبويه أربعة عددهم، ... إلى آخر ذلك «2». وقد اختتم هذا الفصل ببعض الملاحظات منها أن النحاة إذا أطلقوا أبا عمرو فمرادهم ابن العلاء، وأن البصريين إذا أطلقوا أبا العباس فالمراد به المبرد، وإذا أطلقه الكوفيون فمرادهم ثعلب، وحيث أطلق النحويون الأخفش فالمراد الأوسط فإن أرادوا الأكبر أو الأصغر قيدوه «3». ثم تحدث عما يتعلق بشعراء العرب فذكر جماعة كثيرة من الشعراء يسمون بامرئ القيس، وذكر النوابغ الأربعة، ومن يشترك في لقب الأعشى، ومن اسمه الطرماح ونصيب، وقد اعتمد فيما أورد عما يتعلق بالقبائل على كتاب متفق القبائل لمحمد ابن حبيب. والتعرف على الرجال يقتضي معرفة تواريخهم في الميلاد والوفاة لما لذلك من أهمية كبيرة في معرفة طبقاتهم ورواية بعضهم عن بعض، وتمييز ما قد يحدث في

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ص 179. (2) المزهر ج 1 ص 453 - 455. (3) المصدر السابق ج 1 ص 455 - 456.

ب - الأسانيد:

بعض الأسانيد من سقط أو إرسال، وإظهار كذب بعض الرواة، وقد قال نقاد الرواية من المحدثين: «إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين» «1»، أي سنه وسن من كتب عنه، وقد تبين لبعض نقاد الحديث زيف بعض الرواة بحساب التواريخ، ولذلك نبهوا على ضرورة العناية بمعرفة مواليد ووفيات رجالهم «2». وكما بحث رجال الحديث تواريخ رواتهم فإن السيوطي الذي يطبق منهجهم على اللغة قد تناول هذا الموضوع إتماما منه لعمله السابق الخاص برجال اللغة حتى يكون بذلك قد تناول هؤلاء الرجال من جميع الجوانب التي يتناولها أهل الحديث في بحث أحوال رواتهم، وعلى ذلك الأساس أفرد فصلا لبحث «المواليد والوفيات» «3»، من رجال اللغة سرد فيه أسماء خمسة وسبعين من أئمة اللغة والنحو، واقتصر على بيان ميلاد كل منهم ووفاته، أو وفاته فقط إن لم يكن ميلاده معروفا أو متفقا عليه، وقد ابتدأ بأبي الأسود الدؤلي (69 هـ)، وانتهى بالفيروزآبادي صاحب القاموس (816 هـ). وبالرغم من أن كتب الطبقات قد بينت ذلك من قبل السيوطي فإن تناول الرجال من هذه الزاوية التي تهدف إلى ضبط تواريخهم يعد أمرا جديدا فيما يخص الدرس اللغوي حاول به السيوطي أن يستكمل ما فات اللغويين من قبل حتى يتكون من مجموع هذه الأبحاث منهج متناسق متكامل في نقد الرواية اللغوية يضاهي منهج أصحاب الحديث. وإذا كنا قد بحثنا ما قام به السيوطي من دراسات تتصل برجال اللغة ورواتها فإن علينا أن نتناول القسم الثاني وهو الخاص بالأسانيد لنرى ما قام به. ب- الأسانيد: والبحث في الأسانيد يشكل الشق الآخر لمنهج نقد الرواية سواء أكان في الحديث أم في اللغة أم في غيرهما من العلوم النقلية، وجوانب البحث في

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ص 190. (2) المصدر السابق ص 189 - 193. (3) المزهر ج 1 ص 461.

الأسانيد عديدة، منها ما يعنى باتصال السند ويتفرع عن ذلك المرسل والمجهول والمنقطع، أو ما يعنى بالترجيح بين الروايات وبيان عددها ويتفرع عن ذلك المتواتر والآحاد والأفراد، أو ما يعنى بكيفية الرواية وهو ما يعرف بطرق الأخذ والتحمل ويتفرع عن هذه بعض البحوث الأخرى. والواقع أن البحث في الأسانيد قد حظي لدى المحدّثين بعناية بالغة، وعرفت مصطلحات متنوعة لكل قسم من الأقسام منذ وقت مبكر بحيث قسموا الحديث باعتبار الاسناد إلى صحيح وحسن وضعيف، وقسموا الأسانيد باعتبار اتصالها إلى متصل ومرفوع وموقوف ومقطوع ومنقطع ومرسل ومعضل، وباعتبار مقارنة الأحاديث بعضها ببعض نجد الشاذ والمنكر إلى غير ذلك، ثم هناك البحث في طرق الأخذ والتحمل وصيغها، وبيان من تقبل روايته ومن ترد وغير ذلك من المصطلحات. أما في اللغة فإن الأمر لم يكن يتجاوز عرفا بين اللغويين غير مكتوب، وليس ذلك بغريب فقد وضعت أصول الفقه بعد ظهور أئمة الفقهاء وكان منهجهم عرفا يحرصون عليه وهو عرف غير مكتوب، وكذلك وضعت أصول رواية الحديث بعد فترة غير قليلة ظهر فيها كثير من أئمة الرواة الذين حرصوا على آداب خاصة في الرواية والتزموا منهجا محددا وإن لم يكن مكتوبا، واستطاع واضعو الأصول بعد ذلك أن يستخلصوا من أقوالهم وأفعالهم منهجا محددا انتهى به الأمر إلى أن أصبح مصطلحات دقيقة محددة المعالم، وطريقا بينا واضحا، وكذلك الأمر في الرواية اللغوية، كانت أصولها عرفا لدى أئمة اللغة لم يعمد أحدهم إلى بحثها ووضعها في قواعد محددة، وإنما هي أصول راعوها في التطبيق إلى حد كبير بحيث يمكن أن تستخرج الأطر النظرية من واقع مسلكهم العملي، ذلك أن القدماء بصفة عامّة تقلّ عنايتهم بالتنظير، ولذا كانت البحوث النظرية عن الرواية اللغوية ونقدها لديهم قليلة، وقد بينت من قبل ما كان لديهم فيما يتصل بالرواة قبل السيوطي، وفيما يخص الأسانيد وبحثها لا نجد إلا بعض ملاحظات متناثرة لدى ابن فارس وأخرى لدى ابن جني ولا نجد من عني بها عناية فعلية غير ابن الأنباري الذي بحث اتصال الاسناد فعقد فصلا تحدث فيه

عن المرسل والمجهول «1»، والمرسل «هو الذي انقطع سنده كأن يروي ابن دريد عن أبي زيد، والمجهول هو الذي لم يعرف ناقله نحو أن يقول أبو بكر بن الأنباري حدثني رجل عن ابن الأعرابي» «1»، وقد اشترط ابن الأنباري اتصال السند، ولذلك فهو يرفض قبول المرسل والمجهول، وبالرغم من ذلك فإن حديثه يوضح ميل غيره إلى قبوله، كما تناول المتواتر والآحاد «3»، وتحدث عن شروط المتواتر «4»، وشروط الآحاد «5»، وتناول الاجازة وجواز قبولها «6». ونجد من الأصوليين من تناول التواتر والآحاد في اللغة، وعلى ذلك فإن البحث في الأسانيد في ميدان اللغة لم يحظ باهتمام كبير قبل السيوطي، وقد حاول من خلال الأنواع الثمانية التي تناولها في أول كتابه ووضع لها نفس مصطلحات أهل الحديث أن يستدرك ما فات البيئة اللغوية من هذه الأبحاث التي عني بها أصحاب أصول الحديث، والتي تلزم لبناء منهج متكامل لنقد الرواية اللغوية. وأول هذه الأنواع: «الصحيح أو الثابت والمحفوظ» «7»، وقد وضع المؤلف هذه التسمية محاكيا ما يريده المحدثون عند تناولهم الصحيح حيث يذكرون الكتب التي عنيت بصحيح الحديث وغير ذلك، ولما كان الصحيح من اللغة يمثل غالبها فإن السيوطي قد فرع هذا النوع إلى عديد من الأبحاث اللغوية التي تتناول اللغة ونشأتها والطريق إلى معرفتها، مما يبدو بعيد الصلة عن العنوان الذي وضعه لهذا الفصل إلا إذا كان اعتباره بحث ما صحّ من اللغة من وجوه متنوعة، ونأخذ عليه أيضا أنه لم يبدأ بتعريف الصحيح في اللغة كما يفعل المحدثون في تعريف الصحيح عندهم إذ إن الصحيح من اللغة في رأينا أعم من أن يشمله تعريف أهل الحديث المقيد بالشروط وقد أحس السيوطي بأنه لم يضع حدا للصحيح في اللغة عند بداية الموضوع ولذلك فقد وضع هذا الحد في ثنايا حديثه عن مأخذ اللغة فعرف الصحيح بأنه «ما اتصل سنده بنقل العدل

_ (1) لمع الأدلة في أصول النحو ص 90. (3) المصدر السابق ص 83. (4) نفس المصدر ص 84. (5) نفس المصدر ص 85. (6) نفس المصدر ص 92. (7) المزهر ج 1 ص 7.

الضابط عن مثله إلى منتهاه على حد الصحيح من الحديث» «1». وتناول في النوع الثاني «ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت»، وذكر أنه «يقابل النوع الأول الذي هو الصحيح الثابت، والسبب في عدم ثبوت هذا النوع عدم اتصال سنده لسقوط راو منه أو جهالته أو عدم الوثوق بروايته لفقد شرط القبول فيه» «2»، وقد مثل له بعدد من الأمثلة التي نقلها عن جمهرة ابن دريد والغريب لأبي عبيد والصحاح والتهذيب وغيرها، مما يتبين منه ما قلناه من أن المنهج النقدي للرواية كان عرفا متبعا لدى اللغويين وإن لم يحظ بتنظير كاف، وقد حاول السيوطي في هذا المبحث وغيره أن يضع الأصول النظرية إلى جوار التطبيق العملي. وحين بحث المتواتر والآحاد مسبوقا كما ذكرنا بابن الأنباري اعتمد في الجانب النظري على سابقه، ثم نقل الاشكالات على التواتر عن الرازي، والأجوبة عليها للرازي وشراحه كالأصبهاني والقرافي، وقد سبق أن أشرنا إلى بعض ما ناقشه هؤلاء حين تحدثنا عن إهمال اللغويين البحث في رواتهم جرحا وتعديلا، ودفاع السيوطي عنهم، وتجنبا للإطالة فإنني أكتفي بالاحالة إلى ما نقله السيوطي من إشكالات على التواتر والآحاد فيما يخص اللغة وروايتها والاجابة عن هذه الاشكالات «3»، وتعد هذه المناقشات التي نقلها السيوطي عن الأصوليين من أهم ما كتب في نقد الرواية اللغوية، وقد ختم السيوطي مبحثه بذكر عدد كبير من الأمثلة «مما تواتر على ألسنة الناس من زمن العرب إلى اليوم وليس هو في القرآن» «4». وبهذا المجهود يعد الفصل الذي عقده السيوطي أكمل البحوث اللغوية في الموضوع حيث استوفى فيه أقوال السابقين وطبقها على اللغة بالأمثلة وزاد عليها بإدلاء رأيه في بعض الأحيان. وكان على اللغويين نتيجة اشتراط اتصال السند أن يبحثوا الأسانيد التي سقط

_ (1) المزهر ج 1 ص 58. (2) المزهر ج 1 ص 103. (3) المزهر ج 1 ص 115 - 120. (4) المصدر السابق ج 1 ص 120 - 124.

من رواتها راو أو أكثر، وقد تناول المحدثون من قبل هذا المبحث فذكروا أن الارسال «هو رواية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه» «1»، ولم يفرق الخطيب البغدادي بين المرسل والمنقطع بيد أن بعض المحدثين قد فرقوا بينهما حيث جعلوا المرسل خاصا بالتابعي أي ما سقط الصحابي من إسناده «2»، والمنقطع «الذي فيه قبل الوصول إلى التابعي راو لم يسمع من الذي فوقه» «3»، وهو نوعان: ما لم يذكر الساقط فيه معينا ولا مبهما، وما ذكر فيه بعض الرواة بلفظ مبهم كرجل وشيخ أما ما سقط من رواته اثنان فصاعدا وهو من أنواع المنقطع فيسمونه المعضل «4». وقد تناول أهل المصطلح هذه الأنواع بالبحث وحدث بينهم الخلاف في قبول الأخبار التي ترد وفي إسنادها نوع من أنواع الانقطاع السابقة، وذهب أكثرهم ومنهم الخطيب إلى عدم قبول المرسل، أي كل ما به انقطاع في إسناده، ولو كان الذي أرسله ثقات التابعين أو من الصحابة أنفسهم «5». ومن قبل السيوطي تناول ابن الأنباري اتصال السند في بحثه للمرسل والمجهول «6»، والجدير بالذكر أن السيوطي تحدث عن المرسل منفصلا عن حديثه عن المجهول على نحو ما يفعل أهل الحديث الذي يذكرون المجهول بصدد بحثهم فيمن تقبل روايته ومن ترد «7»، ويبدو من بحث ابن الأنباري أن اللغويين يقفون موقفا يبدو فيه الاضطراب والتردد بالنسبة للمرسل وإن جزم ابن الأنباري بعدم قبوله، وقد تناول السيوطي هذا المبحث تحت عنوان «المرسل والمنقطع» «8»، ونلاحظ أنه لا يفرق بين المرسل والمنقطع كما حدث عند بعض

_ (1) الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية ص 384. (2) مقدمة ابن الصلاح ص 25. (3) المصدر السابق ص 27. (4) المصدر السابق ص 28. (5) الكفاية في علم الرواية ص 387. (6) لمع الأدلة في أصول النحو ص 90. (7) مقدمة ابن الصلاح ص 53 ضمن مبحث من تقبل روايته ومن ترد روايته ص 49 وما بعدها، المزهر ج 1 ص 141 ضمن مبحث من تقبل روايته ومن ترد. (8) المزهر ج 1 ص 125.

المحدثين، وإنما هما عنده اسمان لمسمى واحد حيث لم ينقل غير تعريف المرسل عن ابن الأنباري ولم يعرف المنقطع، وكأنه بذلك يتبع الخطيب البغدادي وبعض المحدّثين الذين لم يفرقوا بينهما، وقد أورد السيوطي أقوال ابن الأنباري في المرسل ثم أتبعها بكثير من الأمثلة لمراسيل الروايات عن كتب اللغة، ولم يطل في هذه الأمثلة، ولم يبد تعليقات على أقوال ابن الأنباري وكأنه بذلك يكتفي بأن يقف مثل موقف سابقه. ثم أفرد بعد ذلك مبحثا للأفراد «1»، كما يفرد المحدثون له في كتبهم «2»، وقد حدّه وبين حكمه بقوله: «وهو ما انفرد به واحد من أهل اللغة، ولم ينقله أحد غيره، وحكمه القبول إن كان المتفرد به من أهل الضبط والاتقان كأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم، وشرطه ألا يخالفه فيه من هو أكثر عددا منه» «3». ولا نكاد نظفر لدى اللغويين قبل السيوطي بمثل هذا التحديد للأفراد، وبيان حكمها وشرط قبولها وإنما الذي نجده هو ما ينصون عليه في كتبهم من تفرد أحد الرواة بلفظة معينة أو بعبارة من العبارات. فللسيوطي في هذا المبحث فضل السبق في تحديده وبيانه، ثم له فضل جمع ما تفرق في كتب اللغة من أمثلة ما تفرد به الرواة وذكرها مجموعة منسقة، فهو يمثل لأفراد أبي زيد ثم لأفراد الخليل ثم يونس، وهكذا. وينبغي أن نشير إلى ملاحظة هامة هي أن اعتبار الأفراد إنما يكون بالنسبة إلى رواة اللغة كأبي زيد والأصمعي والخليل وأضرابهم، وهذا يخالف ما يتفرد به بعض القائلين الذين هم حجة في اللغة، فهذا النوع الأخير هو ما تناوله ابن جني ممثلا له بما انفرد به ابن أحمر الباهلي من ألفاظ لم تسمع من غيره من العرب «4»، وعلى هذا فإن بحث الأفراد باعتبار الاسناد لم يتناوله ابن جني.

_ (1) المزهر ج 1 ص 129، النوع الخامس. (2) مقدمة ابن الصلاح ص 41. (3) المزهر ج 1 ص 129. (4) الخصائص ج 2 ص 21 - 28.

وفي الفصل التالي تناول السيوطي- على طريقة أهل الحديث- بحث من تقبل روايته ومن ترد «1»، ونلاحظ أنه تناول نفس العناصر التي يبحثها أهل الحديث في هذا الموضوع «2». ولما كان مسبوقا هنا ببعض الملاحظات والدراسات التي قام بها اللغويون السابقون كابن فارس وابن الأنباري وغيرهما فإنه قد جمع في هذا الفصل ما سبقه من هذه الأقوال، وضم إليها ما رآه مناسبا من الأمثلة التي استخرجها من كتب اللغة. ويعد هذا الفصل من أقيم الفصول التي كتبها السيوطي فيما يتصل بنقد الرواية اللغوية بصفة عامة فقد بين أن العدالة شرط في نقد اللغة، وأن نقل العدل الواحد يقبل ولا يشترط أن يوافقه في النقل غيره، ونجد بعد ذلك ملاحظة هامة لاحظها بعض اللغويين وأكدها وبينها السيوطي وهي التفرقة في اللغة بين ناقلها وبين قائلها، فالعدالة تشترط في الناقل ولا تشترط في القائل ولذلك اعتمد على أشعار العرب الجاهليين وهم كفار، كما أخذت اللغة عن الصبيان بل وعن المجانين ممن خلصت عربيتهم. وقد وقف اللغويون من المجهول موقفا يماثل موقف المحدثين في عدم قبوله، والمجهول هو الذي لا يعرف ناقله، أما الذي لا يعرف قائله فيختلف عن ذلك حيث يصح قبوله إذا نقله العدل، ومن أمثلته خمسون بيتا أوردها سيبويه لا يعرف قائلوها وليست من قبيل المجهول باعتبار الناقل، وقد وقع بعض اللغويين في هذا الخلط بين المجهول ناقله وبين المجهول قائله «1». كما عرض السيوطي لمسألة التعديل على الابهام التي لم يقبلها كثير من أهل الحديث «2»، حيث اشترطوا ضرورة تسمية الرواة حتى يمكن معرفتهم جرحا وتعديلا ولا يكتفي بتعديل من يروي عنهم، بيد أن التعديل على الابهام قد وقع كثيرا في كتب أئمة اللغويين كسيبويه الذي كثيرا ما يذكر: «أخبرني الثقة، أو حدثني من أثق بعربيته دون أن يسمي المنقول عنه، وكتاب سيبويه مقبول موثق عند الجمهور، وهذا يدل على ما سبق أن لاحظناه من وجود بعض

_ (1) المزهر ج 1 ص 141، 142. (2) الخطيب البغدادي: الكفاية ص 373، 374، مقدمة ابن الصلاح ص 52.

التساهل في الرواية اللغوية. ويذكر السيوطي أن الشك في المنقول عنه يسقط الاحتجاج بالمنقول، وكذلك جهل عدالة أحد الراويين إذا قال: أخبرني فلان وفلان. وهكذا فقد استطاع السيوطي ترسما لخطى المحدثين واستقصاء لأقوال اللغويين السابقين أن يعرض هذا البحث عرضا واضحا وأن يمثل بالأمثلة المناسبة من اللغة، وأن ينبه على بعض الملاحظات الدقيقة التي تراعى في اللغة ولا نجدها لدى أهل الحديث. ويتصل ببحث الأسانيد عند أهل الحديث بيان كيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه «1» ويتفرع عنه بيان طرق نقل الحديث وتحمله، وقد بحث الخطيب هذه الطرق والصيغ فذكر أن «سمعت» هي أرفع هذه العبارات، وبين كيفية استعمال النقلة لهذه الصيغ ودلالاتها عندهم، وعرضه يبين إلى حد كبير تطور هذه العبارات إلى أن كادت تستقر مصطلحات لها حدودها المعلومة في بيئة المحدثين «2»، وقد حصرها ابن الصلاح في ثمانية أقسام أولها السماع من لفظ الشيخ بما ينقسم إليه من إملاء أو تحديث بغير إملاء وتناول هنا صيغ التحمل مرتبة حسب التمكن في السماع، فأعلاها «سمعت» ثم «حدثنا» و «حدثني» ثم يتلو ذلك «أخبرنا» ثم يتلوه «أنبأنا» و «نبأنا» وأقل العبارات «قال فلان أو ذكر فلان». وفي ترتيب هذه الصيغ والاحتجاج بها بعض الخلاف بين أهل الحديث بيد أن العرف الذي يكاد يستقر عليه غالب المحدثين هو ما ذكرنا «3». والقسم الثاني القراءة على الشيخ أو ما يسمى بالعرض «4»، وما يتصل به من صيغ تقال فيه «4»، والثالث الاجازة بأنواعها «6»، خاصة كانت أو عامة والخلاف

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ص 60. (2) الكفاية في علم الرواية ص 282 وما بعدها. (3) مقدمة عين الصلاح ص 62 - 64. (4) مقدمة ابن الصلاح ص 65، الكفاية ص 302. (6) الكفاية ص 311، المقدمة لابن الصلاح ص 72.

حول قبولها والعمل بها، فالخطيب ممن يرون قبولها بجميع أنواعها، وقد حكى بعض الخلاف في قبولها، بينما أورد ابن الصلاح كثيرا من الأقوال في عدم قبولها من قبل كثير من علماء الحديث. والقسم الرابع المناولة «1»، وما يقال فيها من عبارات، والخامس المكاتبة «2»، والسادس الاعلام من الشيخ للطلب بأن هذا الحديث أو الكتاب سمعه من فلان «3»، والسابع الوصية «4»، من الشيخ برواية كتاب عند موته أو سفره لشخص معين، والثامن الوجادة «5». وقد أفاض المحدثون منذ القدم في بحث هذه الطرق من جميع وجوهها وأحكامها في القبول أو الرد، وكل ذلك يحدد أهلية الراوي الذي يحق له أن ينقل الحديث عن غيره إلى سامعيه. وقد حاول السيوطي أن يطبق هذا المبحث برمته على اللغة، ولم يكن قد سبق به من قبل اللغويين، فكل ما تحدثوا فيه مما يتصل بالموضوع هو مأخذ اللغة الذي تناوله ابن فارس «6»، بيد أنه أجمل القول فيه، ثم نجد حديثا موجزا عن الاجازة عند ابن الأنباري يهدف به إلى القول بصحة قبولها والرواية بمقتضاها «7»، ولا نكاد نظفر ببحوث نظرية لدى اللغويين عن أصول الأخذ والتحمل وصيغه ومراتب عباراته في اللغة غير ما قدمنا، بيد أن كتب اللغويين تحرص على إيراد هذه الصيغ بما يبين أنهم عرفوا منهجا في التحمل مفرقين بين أقسامه حيث تدل على ذلك عباراتهم في الرواية، أي أنهم في مجال التطبيق قد اتبعوا هذا المنهج إلى حد كبير، ولكنهم أهملوا البحث النظري في هذا الموضوع

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ص 79، الكفاية ص 330. (2) مقدمة ابن الصلاح ص 83. (3) المصدر السابق ص 84. (4) الكفاية ص 352، المقدمة ص 85. (5) الكفاية ص 353، المقدمة ص 86. (6) الصاحبي في فقه اللغة ص 30. (7) لمع الأدلة في أصول النحو ص 92.

بينما عني به أهل الحديث عناية بالغة والسبب في ذلك يرجع أيضا إلى الفارق الطبيعي بين المنقول في اللغة وبين المنقول في الحديث، وتوفر الدواعي إلى الكذب في الحديث وعدم توفرها في اللغة إلا بقلة، واستمرار الرواية عن الفصحاء إلى زمن متأخر، واستمرار الأخذ عن الأعراب إلى زمن أكثر تأخرا وهو ما جعل أسانيد اللغة- في كثير من الأحيان- أقصر من أسانيد الأحاديث، بالاضافة إلى الأسباب التي سبق بيانها عند الحديث عن العناية ببحث الرواة جرحا وتعديلا. وعلى أية حال فلقد أغفل اللغويون بحث طرق الأخذ والتحمل في رواية اللغة، وقد حاول السيوطي أن يستدرك هذا النقص لديهم في المبحث الذي خصصه لهذا الموضوع «1»، وترسم فيه خطى المحدثين فقد ذكر أن هذه الطرق ستة أولها السماع من لفظ الشيخ أو العربي وقد أورد ما قاله ابن فارس عن مأخذ اللغة في هذا الموضع، ثم بين صيغ الأداء والرواية، فأعلاها «أملى»، وقد مثل لها ببعض الأمثلة التي وردت بكتاب اللغة ككتاب القالي، ويليها «سمعت»، ويليها «حدثني فلان وحدثنا فلان»، ويليها «أخبرني وأخبرنا» ثم «قال لي» ثم «قال» ثم «زعم» و «عن» وقد مثل لكل صيغة ببعض ما ورد في كتب اللغة من استعمالاتها، وذكر أن الشعر يقال فيه: «أنشدنا وأنشدني» وقد يستعمل فيه «حدثنا وسمعت». والطريق الثانية هي القراءة على الشيخ ويقول عندها: «قرأت على فلان». وثالثها السماع على الشيخ بقراءة غيره، ويقول عندها: «قرئ على فلان وأنا أسمع»، والرابع الاجازة وذلك في رواية الكتب والأشعار المدونة وقد نقل السيوطي قول ابن الأنباري فيها وتجويزها، وخامسها المكاتبة، وسادسها الوجادة. وقد مثل لكل من هذه الطرق ببعض ما وقع لها في كتب اللغة من أمثلة حيث استعملت عبارات من قبل اللغويين تنم عن مراعاة لطرق الأخذ والتحمل ودراية بها، ونرى أن هذه الطرق التي أوردها السيوطي هي نفس

_ (1) المزهر ج 1 ص 144، معرفة طرق الأخذ والتحمل.

الطرق التي يذكرها المحدثون، وإن يكن ابن الصلاح قد حصرها في ثمانية فإنها ترتد في الواقع إلى ست طرق لأن المناولة فرع من الاجازة والاعلام يندرج ضمن الوصية أو الوجادة. ونظرا لطرافة هذا البحث النظري في ميدان اللغة فإن السيوطي لم يطل- لطبيعته النقلية- في الجانب النظري لقلة ما كتب فيه من قبل، واكتفى في غالب الأحيان بذكر كل عنصر ممثلا له بعديد من الأمثلة اللغوية، وبعبارة أكثر بيانا فلقد انتزع السيوطي الهيكل العام لطرق الأخذ والتحمل من بيئة المحدثين ووضعه في اللغة قالبا أجوف ثم صب فيه الأمثلة العديدة صبا، وكان الجدير به أن يعنى بالجانب النظري أكثر من ذلك، ولكن حسبه أنه السابق إلى تناول هذا الموضوع في اللغة. والهدف من بحث الرجال وبحث الأسانيد تمييز الصحيح من المفتعل والمصنوع، وقد عني المحدثون بالموضوع من الأحاديث ونبهوا عليها، وألفوا فيها المؤلفات، وقد ألف فيها السيوطي كتابه «اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة» وألف فيها قبله عدد من أهل الحديث، ونبه عليه ابن الصلاح في مقدمته وبين كيفية الوضع والأسباب الداعية إليه، ومثل لذلك بما وضع على لسان ابن عباس وعلى لسان أبي بن كعب عن أحاديث فضائل القرآن سورة سورة «1». وإذا كان الوضع قد عرف في الحديث للأسباب الداعية إليه، فإن هنالك أسبابا قد توفرت وحملت على الوضع والكذب في اللغة، ولا سيما في الشعر والأخبار، وقد حظي نقد الشعر والأخبار وتمييز صحيحها من زائفها بعناية أئمة اللغويين والعلماء منذ وقت مبكر وقد كتب ابن سلام الجمحي مقدمة قيمة في نقد الشعر وتمييز صحيحه من زائفه والتنبيه على المصنوع من الأشعار «2»، كما أشار كثير من العلماء في كتبهم إلى ما وضع من الأشعار والأخبار، ونبهوا في

_ (1) مقدمة ابن الصلاح: الموضوع ص 47، 48. (2) طبقات فحول الشعراء لابن سلام: المقدمة.

المرحلة الثانية: النقد الداخلي أو نقد المتن:

روايتهم للشعر على المصنوع منه، حتى روى عن يحيى بن سعيد القطان المحدث أنه قال: «رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يروون مصنوعا كثيرا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون هذا مصنوع» «1». ونظرا لما قدمنا فقد جعل السيوطي خاتمة المباحث المتصلة بالاسناد عنده في معرفة المصنوع «2»، وقد نقل فيه عن ابن فارس ما روى عن الخليل من أن: «النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس في كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت»، ثم نقل نقولا مستفيضة في هذا الموضوع عن ابن سلام وعن أمالي القالي وطبقات الزبيدي، ثم أتبع ذلك على عادته بكثير من الأمثلة للمصنوع من الأشعار، وله فضل جمع هذه المتفرقات ووضعها في مبحث يحمل اسمها، والواقع أن بحث المصنوع والتنبيه عليه أمر هام يخص اللغويين والنحويين الذين يحتجون بالروايات اللغوية في اللغة أو في النحو، فإذا ثبت لديهم كون بعض ما يحتجون به مصنوعا سقط الاحتجاج به. ولم يفت السيوطي أن يجمع كذلك عددا من الألفاظ التي نبه اللغويون على أنها مصنوعة فمنها «عفشج» بمعنى ثقيل وقد ذكر الخليل أنها مصنوعة وغيرها من الأمثلة «3». وبختام هذا الفصل نكون قد عرضنا للمنهج العام الذي رسمه السيوطي لنقد الرواية اللغوية، وإذا كان ما عرضه يتناول الرواة والأسانيد فانه بذلك يتصل بالمرحلة الأولى والأهم من النقد وهي نقد السند أو ما سميناها بالنقد الخارجي، فماذا كان موقفه من نقد المتن؟ المرحلة الثانية: النقد الداخلي أو نقد المتن: حظي نقد السند كما بينا بعناية بالغة من المحدثين ثم من اللغويين، وهذه

_ (1) المزهر ج 1 ص 175. (2) المصدر السابق ج 1 ص 171. (3) المزهر ج 1 ص 182.

العناية كفيلة بأن توفر الثقة في المنقول إلينا بعد اجتيازه لمرحلة النقد السابقة، بيد أن كلتا البيئتين لم تقتصر- في الواقع- على هذه المرحلة، بل أتبعتها بمرحلة أخرى من النقد تتناول المنقول نفسه، وهي ما نسميه بنقد المتن. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن المسلمين قد اقتصروا في نقدهم على الأسانيد ولم يتناولوا المتون، وقد جازت هذه الفكرة إلى الشرق وتبعها أحمد أمين في كتابه ضحى الاسلام، وقد رد أمين الخولي على هؤلاء مبينا أن المسلمين اهتموا بنقد المتن كما اهتموا بنقد السند، ومن الأدلة على ذلك اعطاؤهم الحديث ألقابا اصطلاحية من صفات خاصة بالمتن دون السند كتسميتهم «الشاذ» و «المقلوب» و «المضطرب» و «مدرج المتن» و «المحرف» و «المصحف». وكذلك وصفهم قواعد لنقد المتن تصل من الحرية العقلية إلى حد بعيد، وقد مثل لقيامهم بنقد متون بعض الأحاديث، ثم بين أن علم الحديث قسمان: علم الحديث دراية وهو أصول الحديث، وعلم الحديث رواية وهو دراسة الحديث عند الفقهاء والمتكلمين والمفسرين، ولدى هذه البيئات نجد قيامهم بنقد المتن «1». إذا كان هذا أمر نقد المتن في بيئة المحدثين فماذا كان من أمره في بيئة اللغويين وقد تبين لنا في المرحلة الأولى ترسم اللغويين- لا سيما السيوطي- لخطى أهل الحديث في قواعد النقد وأصوله؟ ثم ما الدور الذي قام به السيوطي في دراسة نقد المتن؟. وقد حظي النظر في النصوص اللغوية ونقدها بعناية اللغويين والنقاد منذ وقت مبكر، وقرر ابن سلام أنه «ليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الأشكال» «2».

_ (1) انظر مادة «أصول» في دائرة المعارف الاسلامية (الترجمة العربية)، والتعليق عليها للأستاذ أمين الخولي. (2) طبقات فحول الشعراء ص 40، وقد نقله صاحب المزهر ج 1 ص 174.

وهو بهذا يعني نظر النقاد في المتون اللغوية ونقدها نقدا داخليا بعد فحص الأسلوب وخصائصه فحصا يتبين لهم منه صحيحها من زائفها، وابن سلام يقرر أن ذلك إنما يدركه أهل البصر بالشعر «وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان» «1». وقد تناول النحاة المادة اللغوية بالنقد، ونقدهم لها شبيه بصنيع علماء الحديث رواية من الفقهاء وغيرهم فيما يتصل بالحديث. ويتمثل نقد النحاة في الترجيح بين الروايات، فإذا وردت روايتان مختلفتان لنص واحد فإن النقد يتناول حينئذ النص المروي وذلك بعرضه على الظواهر اللغوية المطردة والأصول المعروفة، فتقبل الرواية التي توافق المطرد، وترفض الأخرى، وذلك مثل أن يستدل الكوفي على إعمال «أن» مع الحذف من غير عوض بقول الشاعر: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فيقول له البصري: الرواية أحضر بالرفع وهو القياس «2». ويتناول اللغويون بالنقد الداخلي ما ينفرد به عربي ممن يحتج بقولهم، وفي هذه الحال ينظر فيما تفرد به القائل بعد التأكد من فصاحته وصحة الاحتجاج بقوله: 1 - «فإذا كان ما تفرد به مما يقبله القياس إلا أنه لم يرد به استعمال فان الأولى أن يحسن الظن به وأن يقبل» «3». 2 - «إن لم يكن القياس مسوغا له كرفع المفعول وجر الفاعل ورفع المضاف إليه فينبغي أن يرد، وذلك لأنه جاء مخالفا للقياس والسماع جميعا، فلم يبق له عصمة تضيفه، ولا مسكة تجمع شعاعه» «4».

_ (1) طبقات فحول الشعراء ص 6. (2) ابن الأنباري: الاغراب في جدل الاعراب ص 67. (3) الخصائص ج 1 ص 385. (4) الخصائص ج 1 ص 387.

ونستطيع أن نجد أمثلة لهذا النقد الداخلي في حديث ابن جني عن أغلاط العرب ونجد إشارات كثيرة لدى غيره كلها يصف بعض المروي من الشعر وغيره من النصوص المعتمدة بالخطإ في اللفظ أو في التركيب أو في المعنى، وقد جمع السيوطي معظم هذه النصوص عند حديثه عن أغلاط العرب «1». يتضح مما تقدم أن اللغويين قد عرفوا نقد المتن الذي يتناول المادة اللغوية نفسها بالنقد ويستطيع بوسائله المختلفة والمتنوعة أن يثبت صحة نسبتها إلى قائليها أو زيف هذه النسبة ويحدد بالتالي إمكان قبولها أو رفضها. ولا نجد من اللغويين من خصص لهذه المرحلة من النقد بحثا نظريا منفصلا نستطيع منه وحده معرفة أصوله وقواعده، ولكن صدرت عنهم نصوص كالتي قدمناها يمكن منها التعرف على معالم هذا النقد وأصوله. أما السيوطي فلم يفرد لهذا الموضوع بحثا منفصلا في كتابه، وإنما تضمنت مباحثه في بعض الأنواع التي قدمناها ما يتصل به، فقد نقل في حديثه عن المصنوع من اللغة بعض ما يتصل بالنقد الداخلي، وحين تناول المفاريد «2» نقل عن ابن جني ما قدمناه من قبل فيما يتصل بهذه المرحلة من مراحل النقد. ويبدو أن السيوطي قد اكتفى بالتعرض ضمنا لهذه المرحلة فلم يفرد لها قسما مستقلا لأنها متصلة بعدد من المباحث التي تناولها، والحقيقة أن تناول السيوطي لألفاظ اللغة في بعض المباحث التي سنتناولها فيما بعد كالفصيح والضعيف والمنكر والمتروك ونحوها، والغرائب والشواذ والنوادر، كل أولئك له صلة بالنقد الداخلي للرواية حيث أورد ما يتصل بفحص المنقول وبيان درجته من الفصاحة والاستعمال ومرتبته في اللغة، وتجنبا للاطالة فإننا سنشير إلى ذلك فيما بعد أثناء حديثنا عن ألفاظ اللغة عنده.

_ (1) المزهر ج 2 ص 494. (2) المزهر ج 1 ص 248.

مفهوم اللغة عند السيوطي

مفهوم اللغة عند السيوطي نقل السيوطي حد اللغة في كتابه عن ابن جني الذي حدها بأنها «أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم» «1»، ونقل عن ابن الحاجب في تحديدها أنها «كل لفظ وضع لمعنى» «2»، وعن الاسنوي أنها «الألفاظ الموضوعة للمعاني» «2»، ولم يعقب بشيء على هذه الحدود ونحن نعتبر ذلك إقرارا منه لجميعها. وليس هناك اختلاف بين هذه الحدود الثلاثة فليس اللفظ إلا مجموعة من الأصوات المتآلف بعضها إلى جانب بعض، ويبدو أن هذا التحديد للغة الذي عبر عنه ابن جني هو الذي يعكس لنا التصور الشائع للغة عند العرب فهو «أشد التصورات تأثيرا في نفوس الدارسين وفيما كتبوه عن طبيعة اللغة، بل كان الموجه فيما بعد لتطور التأليف اللغوي وتنوعه، وما عسى أن يكون فيه من شمول يربط بين اللغة وبين الاتجاهات المختلفة في دراستها» «4». وقد فهم السيوطي اللغة على أنها الألفاظ أو الأصوات الدالة على المعاني، وهو يشرح اللفظ بأنه «صوت معتمد على مقطع الفم» «5»، وقد حاول أن يدرس العنصرين اللذين تتكون منهما اللغة وهما اللفظ والمعنى أو الأصوات والدلالات فتناول الألفاظ في ثلاثة عشر نوعا من كتابه ذكر أنها تبحث اللغة من حيث الألفاظ وتناول المعنى في ثلاثة عشر نوعا كذلك ونبه على أنها راجعة إلى اللغة من حيث المعنى.

_ (1) المزهر ج 1 ص 7. (2) المصدر السابق ج 1 ص 8. (4) د. سيد خليل: التصور اللغوي عند العرب: مقال بمجلة كلية الآداب- مجلد 14 ص 179. (5) السيوطي: شرح ألفية ابن مالك، بداية الكتاب.

واللغويون المحدثون يرون وظيفة اللغة في «أنها حلقة في سلسلة النشاط الانساني المنتظم، هي أنها جزء من السلوك الانساني، أنها ضرب من العمل وليس أداة عاكسة للفكر» «1»، وهم بذلك ينتقدون ما كان يراه اللغويون القدماء وبعض المحدثين أمثال سابير من أن اللغة وسيلة للاتصال أو التوصيل أو النقل أو التعبير عن طريق الأصوات الكلامية، وأن ما توصله اللغة أو تنقله أو تعبر عنه هو الفكر بما يحتويه من انفعالات ورغبات وغير ذلك «2». على أن انتقاد الرأي الشائع الذي يذهب إلى أن اللغة وسيلة لتوصيل الفكر لا يعتمد إلا على بعض المظاهر التي يرى فيها أصحابه أن الغرض الأساسي من استعمال اللغة ليس توصيل الفكر، أو بعبارة أكثر دقة لا يكون توصيل الفكر هو هدف اللغة، ويمثلون لذلك بالكلام الانفرادي وبلغة الصلاة والعبادة ولغة التحية واللعب بالأصوات وغير ذلك «3»، بيد أن هذه المظاهر لاستعمال اللغة لا تخرج في حقيقة الأمر باللغة عن كونها ألفاظا متعارفا عليها تعبر عن معان متعارف عليها، فالذي يتحدث إلى نفسه يتحدث بلغة يفهمها وكأنه بذلك يعبر عن نفسه ويوصل أفكاره إليها، فالمتكلم والسامع هنا شخص واحد، وليست اللغة التي نستعملها في الصلاة أو العبادة أو التحية إلا ألفاظا معبرة عن معان معينة ومعروفة في جملتها، كما أنه ليس في تحديد اللغة بأنها أصوات أو ألفاظ معبرة عن المعاني ما يفهم منه اغفال وظيفتها الاجتماعية وهي ما حاول المحدثون التنبيه عليه والظهور بمظهر المستدركين له، فماذا كان مفهوم وظيفة اللغة عند اللغويين العرب ومنهم السيوطي؟. لقد قدر اللغويون القدماء وظيفة اللغة في المجتمع وصلتها به حتى اعتبر المعتزلة وغيرهم أصل اللغات اصطلاحا بمعنى أن المجتمع هو الذي اصطلح وتعارف على اللغة، وحتى هؤلاء الذين قالوا بالتوقيف لا يطردون في كثير من المسائل مع مذهبهم الذي نادوا به ويرون أن التوقيف ليس معناه الحجر عليهم

_ (1) د. محمود السعران: اللغة والمجتمع ص 7. (2) المصدر السابق ص 5. (3) نفس المصدر ص 8 - 10.

حتى لا ينطق بسواه «1»، وهم بذلك يرون جواز الاصطلاح، وبعض من قال بالتوقيف يراه في بداية نشأة اللغة، أما في مراحل نموها فهي اصطلاح، والمحققون من القدماء يتوقفون في هذه المسألة فلا يقولون بالتوقيف ولا بالمواضعة. وقد نقل السيوطي في بيان الحكمة الداعية إلى وضع اللغة ما يفيد تقدير المسلمين للوظيفة الاجتماعية للغة وإقراره لذلك فهو ينقل عن الكيا الهراسي أن اللغة إنما تنشأ في المجتمع وأن الانسان مدني بطبعه، والتوحش دأب السباع، وهو ينتهي إلى ما تنتهي إليه البحوث الحديثة من أن اللغة وظيفة انسانية وظاهرة اجتماعية «2»، وهذا ما أكده بوضوح الفخر الرازي فيما نقله عنه السيوطي إذ يقول «السبب في وضع الألفاظ أن الانسان الواحد وحده لا يستقل بجميع حاجاته، بل لا بد من التعاون، ولا تعاون إلا بالتعارف، ولا تعارف إلا بأسباب كحركات أو إشارات أو نقوش أو ألفاظ توضع بإزاء المقاصد، وأيسرها وأعمها وأفيدها الألفاظ ... فلما كانت الألفاظ أيسر وأفيد وأعم صارت موضوعة بازاء المعاني «3». والرازي بهذا يصل بين تحديد اللغة بالألفاظ الموضوعة للمعاني وبين وظيفة اللغة في المجتمع وصلتها به. أما عن طبيعة اللغة فقد فهم اللغويون العرب لغتهم على أنها كائن حي متطور ولذلك فقد قدروا حاجتها إلى الاختراع والتوليد والاشتقاق بتجدد الحياة وتجدد المعاني، كما تحدثوا عن الممات من الألفاظ والمولد منها وما ذلك إلا تقديرا لهذه الحياة الدافقة في اللغة، ودراستهم للمجاز تمثل إدراكا واعيا للتغير الدلالي، وهكذا فإنهم قد تناولوا مظاهر التغير اللغوي المتنوعة بما يعني إدراكهم لطبيعة اللغة. وقد كان للمسلمين عناية تامّة بالدرس الصوتي باعتباره عاملا من أهم عوامل المحافظة على الأداء القرآني، ولقد تطورت هذه الدراسة على أيدي

_ (1) المزهر ج 1 ص 26. (2) المزهر ج 1 ص 36. (3) المصدر السابق ج 1 ص 38.

القراء الذين كانوا نحاة في نفس الوقت، وكان للخليل أثر في تقدّم هذه الدراسة، ونتيجة لعنايته بالأصوات ومخارجها رتب معجمه «العين» ترتيبا صوتيا بحسب مخارج الحروف وتبعه في هذا الترتيب الصوتي صاحب التهذيب. ولعلّ من آثار العناية بالدرس الصوتي ما ظهر عند السيوطي في محاولته الفصل في الدراسة بين الألفاظ والمعاني وإن كان هذا الفصل غير موفق في بعض الأحيان وسنبين ذلك في دراستنا للألفاظ والمعاني كما وضعها السيوطي.

الألفاظ

الألفاظ تناول السيوطي اللغة من حيث ألفاظها في ثلاثة عشر قسما أولها عن الفصيح وقد تناول الفصيح في قسمين أولهما باعتبار الألفاظ والثاني باعتبار المتكلم. وأهم ما يستلفت النظر في بحث الفصيح هو الآراء الصوتية القيمة التي عرفها اللغويون القدماء وتناولوا بها لغتهم، فقد حدّ البلاغيون الفصاحة في اللفظ بأنها «خلوصة من تنافر الحروف ومن الغرابة ومن مخالفة القياس اللغوي» «1»، ويبدو في عرض السيوطي لهذا المبحث أنه يميل إلى اختيار هذا الحد للفصاحة الذي ينظر إلى اللغة باعتبار صوتيتها، ولذلك نقل معنى التنافر وبينه كما نقل أن من شروط الفصاحة خلوص اللفظ من الكراهة في السمع «فإن اللفظ من قبيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذ النفس بسماعه، ومنها ما تكره سماعه» «2». وهناك بالاضافة إلى ذلك شروط أخرى للفصاحة، وقد حاولت نقول السيوطي استيفاء هذا المبحث فعرض للضرائر وصلتها بالفصاحة، وللابتذال والغرابة، بيد أنه اعتنى بالآراء الصوتية عناية توضح ما سبق ذكره عن مفهومه للجانب الصوتي من اللغة، فهو ينقل عن ابن دريد آراء في ثقل الحروف وخفتها وصلة ذلك بمخارجها «3»، فالحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت، وفي هذه النقول ما يمكن اعتباره قوانين صوتية في العربية فمنها أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة، وأن أصعب ذلك حروف الحلق، ولا يمكن ائتلاف العين والحاء ... إلى آخره، ويبدو أن السيوطي قد أحس بأنه يريد الاستدراك على ما سبق في

_ (1) المزهر ج 1 ص 185. (2) المصدر السابق ج 1 ص 187. (3) نفس المصدر ج 1 ص 191.

التآلف والتنافر فنقل عن صاحب عروس الأفراح أن التنافر إما أن يكون لتباعد الحروف جدا أو لتقاربها، وقد بنى قائل ذلك على الملاحظة الوصفية للغة حيث إن هناك ألفاظا حروفها متقاربة ولا تنافر فيها كلفظ الشجر والجيش والفم، وقد يوجد البعد ولا تنافر كلفظ العلم والبعد. ثم ينقل عن ابن جني تقسيمه لتآلف الحروف ودرجات التآلف، وهو تقسيم دقيق إلى حد كبير، ثم ينقل عن ابن الأنباري ما يتصل بتآلف الحروف حسب مخارجها والمفاضلة بين الألفاظ في ذلك، ثم يتناول الحروف ويذكر أن أكثرها استعمالا الواو والياء والهمزة ثم يبين أن أخف الحروف ما استعملته العرب في أصول أبنيتهم من الزوائد لاختلاف المعنى، ثم ينقل السيوطي نقلا مستفيضا عن صاحب عروس الأفراح يبين فيه رتب فصاحة اللفظ باعتبار صوتي يتمثل في تآلف حروفه، فإن الكلمة تخف وتثقل بحسب الانتقال من حرف إلى حرف، ثم يعدد اثني عشر قسما للكلمة الثلاثية أولها الانحدار من المخرج الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو «ع د ب»، ويعدد بقية أنواع التآلف ثم يصل من ذلك إلى ما يشبه القوانين الصوتية فيذكر أن أحسن التراكيب وأكثرها استعمالا ما انحدر فيه من الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى، ثم ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى ثم من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط، ثم يبين صلة بعض هذه التآليف بكثرة الاستعمال وقلته «1». وهناك غير ما قدمنا من النقول التي استطلنا أن نتناولها بالعرض والدراسة، فما أقصد إليه هو بيان أن العرب قد فهموا اللغة كما قدمنا على أساس أنها أصوات تعبر عن المعاني وأن النظام الصوتي للغة له أحكام وقوانين تنتظمه، وأن لكل لغة خصائص صوتية مميزة، وعرض السيوطي لهذا البحث يدل على عنايته الكبيرة بالناحية الصوتية في دراسة الألفاظ، ويؤيد ما ذكرنا عن مفهومه الصوتي للغة. ويتضح الاهتمام بالناحية الصوتية في الحديث عن فصاحة الناطقين باللغة،

_ (1) المزهر ج 1 ص 197 - 198.

فقد فضلت قريش على غيرها من القبائل بخلو لغتها مما اعتبره اللغويون عيوبا صوتية فليس في كلامهم «عنعنة تميم ولا عجرفية قيس ولا كشكشة أسد ولا كسكسة ربيعة ولا كسر أسد وقيس» «1». وإذا كانت هناك درجات للفصاحة في الألفاظ فلا بد أن يكون من الألفاظ ما لم يبلغ درجة الفصاحة، وقد تناول السيوطي هذه الألفاظ في المبحث التالي تحت اسم «الضعيف والمنكر والمتروك من اللغات»، فالضعيف ما انحط عن درجة الفصيح، والمنكر أضعف منه وأقل استعمالا بحيث أنكره بعض أئمة اللغة، ولم يعرفه والمتروك ما كان قديما من اللغات ثم ترك واستعمل غيره» «2». وقد أورد لكل منها أمثلة عديدة، ويعنينا هذا المبحث في تأكيد ما سبق أن قلناه عن النقد الداخلي للنصوص وهو النظر في المنقول نفسه وقبوله أو رده أو تضعيفه حسب بعض الاعتبارات اللغوية، وتناول المتروك يدل على فهم اللغة على أنها كائن حي متطور تتعرض ألفاظها لعوامل الحياة والفناء التي تعتري الكائن الحي. وقد نبه في آخر الفصل على الفرق بين الضعيف من حيث اللفظ وبين الضعيف من حيث الاسناد وهو الذي تناوله من قبل بما يدل على تمييزه بين نقد السند وبين نقد المتن واحتفاله أيضا بنقد المتن حيث يقول: «الفرق بين هذا النوع وبين النوع الثاني أن ذاك فيما هو ضعيف من جهة النقل وعدم الثبوت، وهذا فيما هو ضعيف من جهة عدم الفصاحة مع ثبوته في النقل، فذاك راجع إلى الاسناد وهذا راجع إلى اللفظ» «3». ثم يظهر الاعتبار الصوتي مرة أخرى حين يتحدث عن الرديء المذموم من اللغات، فالعيوب الصوتية التي تظهر لدى بعض القبائل العربية في الأداء اللغوي والتي خلت منها لغة قريش جعلت اللغويين يستكرهون ما يظهر منها في الأداء ويعدونه مذموما، وقد عقد ابن فارس من قبل فصلا عن اللغات المذمومة «4»، قاصدا بها العيوب الصوتية التي تظهر في الأداء كالعنعنة عند تميم

_ (1) المزهر ج 1 ص 210. (3) نفس المصدر ج 1 ص 220. (2) المصدر السابق ج 1 ص 214. (4) الصاحبي في فقه اللغة ص 24.

وهي قلب الهمزة عينا، والكشكشة عند أسد وهي إبدال الكاف شينا كإنشادهم: فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... ولونش إلا أنها غير عاطل وغير ذلك من العيوب الصوتية المعروفة التي نبه عليها ابن فارس ودرج اللغويون منذ وقت مبكر على التنبيه عليها. عد السيوطي ما يظهر من هذه العيوب في الأداء من اللغات الرديئة وقد أورد حديثا مفصلا عن هذه العيوب عن اللغويين السابقين يتضمن أمثلة توضح هذه العيوب، وقد تضمن الفصل الذي عقده إشارة إلى حديث ابن فارس الذي بيناه. بيد أن جانبا آخر من الرديء يقوم اعتباره وضعه في هذا القسم على ما سبق أن أشرنا إليه صدد النقد الداخلي للنصوص أو للألفاظ، فيوصف اللفظ بأنه رديء إذا كان في لغة قليلة وقد شاع لفظ من قبيله ونطق به عدد كبير من المتكلمين، وقد ذكر السيوطي عددا كبيرا من الأمثلة لهذا القسم جمعها من شتى مصنفات اللغة السابقة فمنها يقال: هو أخير منه في لغة رديئة، والشائع هو خير منه بلا همز، وقال الخليل: أغلطني لغة تميمية قبيحة في أفلتني، وتقول رابني الرجل، وأما أرابني فإنها لغة رديئة «1». وعلى ذلك وضع السيوطي رتبا للألفاظ وتناولها تحتها وهي بالتدريج الأفصح فالفصيح ثم الضعيف فالمنكر ثم الرديء، وهذا التصنيف يقوم على اعتبارات تتصل بالأصوات أو بالنقد الداخلي للألفاظ، ويأتي في رتبة الضعيف ما تناوله السيوطي في قسم آخر تحت عنوان «الحوشي والغرائب والشواذ والنوادر» «2»، فقد ذكر أن «هذه الألفاظ متقاربة وكلها خلاف الفصيح» «2»، والواقع أن اللفظ يمكن أن يوصف بأكثر من واحد من هذه الأوصاف فيمكن أن يوصف الحوشي بأنه غريب وبأنه نادر أيضا، فهذه الأقسام متداخلة والتفرقة بينها لا تكاد تتميز، وقد

_ (1) المزهر ج 1 ص 224. (2) المزهر: النوع الثالث عشر ج 1 ص 233.

مثل السيوطي لكل من هذه الأقسام بعدد من الأمثلة ويبدو أن محاولته محاكاة أهل الحديث في مصطلحاتهم هي التي دفعته إلى التمييز بين هذه الأقسام على نحو ما يفعل المحدثون، على حين أن اللغويين في تعبيراتهم لم يراعوا على ما يظهر الفرق بين بعضها وبين بعض، ونلاحظ خلطهم بين هذه الأوصاف أو المصطلحات إلى حد كبير، فمنهم من يسمى الشاذ نادرا ومنهم من يسميه قليلا ومنهم من يسميه منكرا والحوشي والغريب بمعنى واحد كما نص على ذلك السيوطي وقد بين أن الحوشي هو ما نفر عن السمع فحده يرجع إلى اعتبارات صوتية، والشوارد بنفس المعنى. ويبدو الاعتبار الصوتي واضحا في دراسة «المستعمل والمهمل» «1»، فقد نقل السيوطي في أوائل كتابه عن ابن دريد والخليل والزبيدي عدة أبنية الكلام التي أحصاها اللغويون بطريقة رياضية في تآلف الحروف ثم أحصوا بعد ذلك المستعمل منها والمهمل «2»، وقد أشار في حديثه عن المستعمل والمهمل إلى ما أورده من قبل، ثم أخذ يورد النقول التي تدرس الاستعمال والإهمال فنقل عن ابن فارس وابن جني ما يعلل الاهمال في جملته بالاستثقال، وقد تناولت نقوله بعض الظواهر الصوتية التي تسود العربية فهناك حروف لا يجوز ائتلافها كالجيم مع الكاف، والعين مع الغين والحاء مع هاء أو غين .. إلى غير ذلك من التفصيلات التي أوردوها وعللوا بها ما أهمل من الألفاظ والأبنية. وقد تناول السيوطي «المعرب» «3» وهو الألفاظ الأعجمية التي استعملها العرب الفصحاء في لغتهم في مبحث مستفيض نقل فيه خلاصة أقوال السابقين من اللغويين التي تتحدث عن وقوع المعرب في القرآن الكريم، ثم تناول الألفاظ المعربة بالتقسيم فمنها ما غيرته العرب وألحقته بكلامها كدرهم، ومنها ما غيرته ولم تلحقه مثل آجر وسفسير، وهناك ملاحظات يمكن بها الحكم على اللفظ بأنه غير عربي تتصل بتآلف الحروف، أي أنها من الخصائص الصوتية التي تنفرد بها

_ (1) المزهر ج 1 ص 240 النوع الرابع عشر. (2) المزهر ج 1 ص 71 - 76. (3) المزهر ج 1 ص 268 - 294، النوع التاسع عشر.

العربية وتميزها عن غيرها من اللغات، فاجتماع الجيم والقاف في لفظ يفيد أنه غير عربي كالمنجنيق، وخلو الخماسي والرباعي من أحرف الذلاقة وهي الباء والراء والفاء واللام والميم والنون يفيد أنه غير عربي، وأمثال هذه الملاحظات، ثم تناول طريقة العرب في تعريبها وكيفية نقلها للأعلام الأعجمية والألفاظ إلى لغتها، والحروف التي يطرد إبدالها والتي لا يطرد ابدالها، ثم مثل بعديد من الأمثلة للمعرب الذي ليس في لغة العرب ألفاظ مماثلة له، ثم للمعرب الذي له اسم في لغة العرب، ثم للألفاظ التي شك في أنها معربة أو عربية الأصل كما نقل أن المعرب غير مشتق، بينما يصح الاشتقاق منه كما وقع في كلمة «لجام» واشتقاقاتها العديدة، هذا في غير الأعلام، أما الأعلام فلها أحكام تختص بها في الجمع والتصغير. وقد حاول المجمعيون أن يفيدوا من مسلك القدماء في التعريب فيما يبغونه من التوسع اللغوي ونقل بعض الألفاظ الأعجمية التي نستعملها إلى العربية بعد تغييرها على طريقة التعريب عند القدماء، وانتهوا من ذلك إلى قرار باجازة استعمال «بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم» «1». ولاتصال هذا الموضوع بحياة اللغة وزيادة ثروتها، ونظرا للحاجة الماسة إليه فيما يتصل بالمصطلحات العلمية، فقد دارت في الحديث حوله بحوث عديدة ومن أهم ما وضع فيه كتاب المصطلحات العلمية، فقد دارت في الحديث حوله بحوث عديدة ومن أهم ما وضع فيه كتاب المصطلحات العلمية لمصطفى الشهابي، وقد قدم له بمقدمة ذكر فيها طريقة القدماء في تعريب المصطلحات ودعا إلى اتباعها في وضعه المصطلحات الحديثة «2». وإذا كانت الألفاظ الدخيلة التي حظيت باستعمال العرب الفصحاء في لغتهم قد عرفت بالألفاظ المعربة فإن جانبا من هذا الدخيل قد استحدث بعد عصر

_ (1) مجلة مجمع اللغة العربية ج 1 ص 33، انظر الاحتجاج للقرار للأستاذ الاسكندري ص 200. (2) مصطفى الشهابي: المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث.

الاحتجاج على ألسنة المولدين فنعته اللغويون باسم «المولد» تمييزا له عن النوع السابق الذي لم يدفعوا صحة استعمال ما ورد منه في اللغة، وهذه التفرقة تبين لنا أن جمهور اللغويين يذهبون إلى أن المعرب سماعي، أي يصح استعمال ما استعمله منه الفصحاء، ولا يجوز القياس عليه وقد تبين أن هذا الموقف المتشدد قد خرج عليه كثير من الكتاب والمترجمين في العصر العباسي، وأجاز المجمع أخيرا القياس فيه على طريقة العرب في التعريب. وقد تناول السيوطي «المولد» في مبحث مستفيض وحده بأنه «ما أحدثه المولدون الذين لا يحتج بألفاظهم» «1»، وعلى ذلك فهو يعم الألفاظ الدخيلة ويعم غيرها مما استحدث على ألسنة المولدين ولم تستعمله العرب، أي ما أصابه تحريف صوتي أو دلالي، كما يدخل فيه ما نقله المولدون بطريق التجوز أو الاشتقاق عن معناه الوضعي اللغوي الذي عرف به عند العرب الخلص إلى معنى آخر تعورف عليه إما بين عامة الناس وإما بين خاصة منهم كطوائف أرباب العلوم وغيرهم. وبحث الألفاظ المولدة من أهم البحوث التي شغلت اللغويين العرب على مر العصور ذلك أن اللغة بطبيعتها كائن حي متطور، وهذا التطور يحدث في الألفاظ من ناحيتي الصوت والدلالة، وقد حاول اللغويون العرب أن يقفوا في وجه هذا التطور الذي كان يحدث آثاره في لغة الأمصار الاسلامية بعد اختلاط العرب بالأعاجم، حيث أخذت الألفاظ المحرفة عن الفصحى في الظهور، وبدا أثر التطور الدلالي في جانب آخر من الألفاظ، حتى غدت الأمصار الاسلامية في منتصف القرن الثاني تنطق بلغة بعيدة ومتميزة عن لغة أهل البادية، وعن اللغة التي نطق بها العرب الأولون. حاول اللغويون جاهدين أن يقفوا في وجه هذا التطور حفاظا على لغتهم التي نزل بها القرآن الكريم فكان التحديد المكاني والزماني للاحتجاج الذي كان مبعثه الأول تطرق الخلل إلى التصرف الاعرابي المتكامل الذي احتفظت به

_ (1) المزهر ج 1 ص 304.

العربية، ثم كان تطرق الخلل إلى الألفاظ والأساليب عاملا آخر، ويكفي أن نحيل هنا إلى دراسة فكرة تنقية اللغة العربية لدى اللغويين التي بسطها يوهان فك، وعرض فيها لتطور هذه الفكرة مبينا مواقف اللغويين من هذه الألفاظ التي أخذت في الظهور «1». ونعود إلى السيوطي فنراه قد نقل عديدا من الأمثلة عن كتب اللغة تشمل أنواع الألفاظ المولدة فمنها ألفاظ أعجمية، ومنها ألفاظ عربية محرفة في أدائها الصوتي أي في ألفاظها ومنها ألفاظ عربية محرفة في معناها، ومنها بعض اشتقاقات وتصرفات في ألفاظ لم يسمع من العرب نطقهم بها، ويبدو من هذا أن السيوطي يتوسع في إطلاق صفة «المولد» على كثير من الألفاظ، وقد دلل على رأيه بما نقله عن ثعلب في أماليه من أن التغيير هو كل شيء مولد، وعلى ذلك فقد استنتج ضابطا هاما هو أن «كل لفظ كان عربي الأصل ثم غيرته العامة بهمز أو تركه أو تسكين أو تحريك أو نحو ذلك مولد» «1»، ثم قال: «وهذا يجتمع منه شيء كثير» «3». وعلى هذا فقد ألحق بالمولد ما يهمز من الأفعال والعامة تدع همزه نحو: طأطأت رأسي وأبطأت .. إلى آخره، وما يهمز والعامة تبدل الهمز فيه أو تسقطه نحو آكلت فلانا ولا يقال واكلته، وما لا يهمز والعامة تهمزه نحو رجل عزب، وخير وشر، وما يشدد والعامة تخففه مثل الأترجّ والإجّاص، وما يخفف والعامة تشدده كالرباعية للسن والكراهية، وما ورد ساكنا والعامة تخففه، أو ما يبدلون فيه حرفا بحرف إلى غير ذلك من الأمثلة التي نقلها عن السابقين. ويتضح مما تقدم أن الأخطاء الشائعة في الألفاظ سواء في دوائر المثقفين أم غيرهم مما يدخل في هذا المبحث، ونظرا لأهميته في اللغة وصلته بتطورها وحياتها فقد تناوله المجمعيون بالبحث وانتهوا فيه إلى أنه قسمان: قسم جرى فيه

_ (1) يوهان فك: العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار. (3) المزهر ج 1 ص 311.

المولدون على أقيسة كلام العرب من مجاز أو اشتقاق أو نحوهما كاصطلاحات العلوم والصناعات وغير ذلك، وحكمه أنه عربي سائغ، وقسم خرجوا فيه عن أقيسة كلام العرب إما باستعمال لفظ أعجمي لم تعربه العرب،- وقد صدر عن المجمع في شأن هذا القسم قرار خاص-، وإما بتحريف في اللفظ أو في الدلالة لا يمكن معه التخريج على وجهه صحيح، وإما بوضع اللفظ ارتجالا، والمجمع لا يجيز النوعين الأخيرين في فصيح الكلام «1». ومما يدخل في مباحث التطور الدلالي ما تناوله السيوطي في اللغة من حيث ألفاظها وهو الألفاظ الاسلامية «2»، ذلك أن الاسلام قد شاع فيه استعمال بعض الألفاظ في معان خاصة تتعلق بالعبادة أو المعاملات أو غير ذلك من شئون الدين كالصلاة والزكاة والصوم والحج، والمؤمن والكافر والمنافق والفاسق، والركوع والسجود وأمثالها من الألفاظ التي كانت تحمل دلالات عامة ثم خصص الاسلام دلالاتها. فالصلاة في الأصل الدعاء، ثم شاع استعمالها في الاسلام للعبادة المعروفة لاشتمالها على الدعاء حتى أصبح اللفظ عند إطلاقه لا يدل على غير هذا المعنى الخاص والحج معناه القصد ثم خصص بقصد البيت الحرام لتأدية الفريضة المعروفة في الاسلام. وقد قدر اللغويون منذ القدم هذا النوع من أنواع التطور الدلالي الذي يخصص مدلولات الألفاظ، فتحدث عنه ابن فارس حين تناول الأسماء الاسلامية، ومثل للألفاظ التي خصصت مدلولاتها، وذكر أن هذه الألفاظ مثلها مثل مصطلحات المعلوم كالنحو والعروض والشعر، وقد نقل السيوطي عن ابن فارس ما يتصل بهذا الموضوع كما نقل عنه حديثه عن الألفاظ التي هجر استعمالها بمجيء الاسلام، ذلك أن الاسلام قد أبطل كثيرا من نظم الجاهلية وأفكارها وتقاليدها فأمات بذلك كثيرا من الألفاظ التي كانت مستعملة في الدلالة عليها، كما كره استعمال ألفاظ أخرى أو حرم استعمالها لتنافيها مع روح الاسلام ومبادئه وقد قدر اللغويون القدماء ذلك وهو من قبيل ما يتناوله

_ (1) مجلة مجمع اللغة العربية ج 1 ص 33، 34. (2) المزهر ج 1 ص 294.

المحدثون حين يدرسون التغييرات الدلالية التي تصاحب الثورات «1»، وبالرغم من صلة البحث هنا بالمعنى أكثر من اللفظ فقد وضعه السيوطي في قسم الألفاظ ونظرته إلى هذه الألفاظ وهي نتاج التغيير الدلالي بعوامله المعروفة نظرة تكتفي بجانب واحد دون البحث فيما يتصل به من جوانب أخرى. وقد نقل ما يتصل ببحث هذه الألفاظ عن الأصوليين، ثم اجتهد في نقل أمثلة كثيرة لها مخصصا جانبا من هذه النقول للألفاظ التي استحدثها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم بها أحد من قبله كقوله: «مات حتف أنفه» و «لا ينتطح فيها عنزان» و «حمى الوطيس» وأمثال هذه العبارات التي لم تسمع من أحد قبله، كما نقل بعض العبارات التي سمعت عن بعض الصحابة أو التابعين ولم تسمع قبل ذلك، وهذا يدل على ما قلناه من تقديرهم للتطور اللغوي. وقد تناول السيوطي في مبحثين منفصلين ما يتصل باللهجات العربية، فضلا عما يتصل ببحثها من نقول متناثرة في غيرهما، وأولهما عن مختلف اللغة حيث عرض أنواع الائتلاف بين اللهجات التي سبق لابن فارس أن حصرها في سبعة عشر وجها «2»، وقد نقلها عنه السيوطي «3»، ثم نقل ما يتصل بحجية اللهجات في الاحتجاج اللغوي عن ابن جني وابن فارس وغيرهما، ثم ما يتصل بمن تنتقل لغته حيث يكون الاحتجاج بعد النظر فيما انتقل إليه لسانه من اللغة، فإن كان فصيحا مثل لغته أخذ بها وإن كان فاسدا لم يؤخذ وأخذ بالأولى. كما نقل عن ابن فارس ما يتصل بالصور التي يمكن أن ترد بها الألفاظ تبعا لاختلاف اللهجات، فمن الألفاظ ما فيه لغتان كالحصاد والحصاد بالكسر والفتح في الحرف الأول، وفيها ما فيه ثلاث كالزجاج بالفتح والضم والكسر في الحرف الأول، ومنها ما فيه أربع كالصّداق بكسر الصاد وفتحها والصّدقة بفتح الأول والثاني في لغة وضمهما في أخرى، ومنها ما فيه خمس أو ست نحو

_ (1) د. محمود السعران: اللغة والمجتمع ص 47. (2) الصاحبي في فقه اللغة ص 19 - 23. (3) المزهر ج 1 ص 255.

قسطاس، ولا تكون الزيادة عن ست لغات في اللفظ الواحد، ثم نقل السيوطي عن ابن فارس تقسيمه للألفاظ بحسب ما ورد فيها من اختلاف أو عدمه إلى أقسام أربعة: أولها المجمع عليه الذي لم يرد فيه اختلاف كالحمد والشكر وهو الأكثر، والثاني ما فيه لغتان وأكثر إلا أن إحدى اللغات أفصح، والثالث ما فيه لغتان أو ثلاث أو أكثر وهي متساوية، والرابع ما فيه لغة واحدة إلا أن المولدين غيروه وشاع فيه استعمال المحرف. والمبحث الآخر تناول فيه تداخل اللغات «1» وهو يبحث ما يرد على ألسنة من يحتج بهم من اختلاف في اللفظ الواحد، ومرد ذلك إلى التوسع في القول أحيانا، والغالب أن يرجع إلى اختلاف لهجات العرب التي اعتبر اللغويون أن جميعها حجة في الأخذ عنها، والتي ذكروا أن الناطقين قد تعاوروها بعد انتشارها، وهذا المبحث هام في تفسير ما يرد على غير القياس في بعض التصريفات والاشتقاقات التي يستعملها الناطقون، ومرجع ذلك إلى تداخل اللغات فنحو قلى يقلى بفتح اللام في الماضي والمضارع ماضيه من لغة ومضارعه من لغة أخرى تخالف الأولى في النطق بالماضي فمن يقول قلي بالكسر في الماضي يقول يقلي بالكسر في المضارع والذي يقول يقلى بفتح اللام يقول قلى في الماضي، وكذلك الأمر في سلا فحدث تداخل بين اللغات نشأ عنه لغة ثالثة «2». وقد اعتمد السيوطي على ابن جني في عرض الفكرة السابقة ثم أورد أمثلة للتداخل في اللغة الناتج عن اختلاف اللهجات نقلا عن بعض كتب اللغة الأخرى.

_ (1) المزهر ج 1 ص 262. (2) المزهر ج 1 ص 263، وقد نقل عن الخصائص انظر ج 1 ص 370 - 374.

المعنى أو الدلالة اللغوية

المعنى أو الدلالة اللغوية بعد أن عرضت لمفهوم السيوطي للغة وتطبيقه هذا المفهوم في دراسة الألفاظ نحاول هنا بيان تطبيقه لهذا المفهوم فيما يتصل بالمعنى، وقد تناول السيوطي اللغة من حيث المعنى في ثلاثة عشر نوعا سبق لنا تناول بعضها وبقي جانب آخر نحاول تناوله في هذا المبحث. وقضية المعنى وتحديده قد شغلت المفكرين من اللغويين وغيرهم منذ عصور بعيدة في كثير من اللغات، ولعل من أوفى ما يتعلق بالمعنى اللغوي من حيث تحديده ودراسته ما أنتجته بيئة الأصوليين. وفي العصر الحديث عرفت دراسة المعنى باسم علم الدلالة Semantics , وهو فرع من فروع علم اللغة يعد كما يقولون: «غاية الدراسات الصوتية والفونولوجية والنحوية والقاموسية» «1»، ودرس هؤلاء التطور الدلالي وعوامله، وظهرت مناهج لدراسة المعنى اتجهت أخيرا إلى محاولة إدراك الظروف الخارجية التي تعين على تغير المعنى، بيد أنه من الانصاف أن نؤكد القول بأن كثيرا مما توصل إليه علم الدلالة «لم يصل بعد في دقته وضبطه وعمومه إلى المستوى الذي يستحق فيه اسم القوانين» «2». ولما كان اللغويون المحدثون يفصلون في بحث اللغة بين الظواهر المتعلقة بالأصوات وبين الظواهر المتعلقة بالمعنى، بالإضافة إلى الظواهر البنيوية والتركيبية على نحو ما هو معروف في مستويات الدرس اللغوي الحديث، ولما كان القدماء لا يحددون البحث في اللغة هذا التحديد القاطع فقد حدث عندهم

_ (1) د. محمود السعران: علم اللغة ص 285. (2) د. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة ص 20.

خلط في بعض الأحيان بين موضوعات هذه المستويات بالرغم من إدراكهم للفروق بين هذه الأفرع الدراسية، وقد اقترب السيوطي من هذا التقسيم حين تناول الأبحاث المتصلة باللفظ في أقسام محددة، والمتصلة بالمعنى في أقسام أخرى ونبه على هذا التقسيم، بيد أننا وجدناه في بعض الأحيان يتناول ما يتصل بالدلالة في مباحث الألفاظ، ونراه هنا يورد بعض الأقسام التي كان من واجبه أن يضمها إلى مباحث الألفاظ، لا سيما تلك الأقسام التي تتعلق بالأصوات، فقد عد من الأنواع التي تبحث اللغة من حيث المعنى الابدال والقلب في حين أنهما مبحثان يتصلان بصوتية اللغة أي بألفاظها، كذلك تناول تحت اسم المعنى البحث في خصائص اللغة وفيه ما يدخل في المعنى، وما هو خارج عنه وقد أشرنا إلى تناوله لبعض المباحث التي كانت ألصق بالمعنى في قسم الألفاظ فيما سبق. تحدث السيوطي عن «خصائص اللغة» «1»، وهو حديث عام يشمل كثيرا من ظواهر العربية ويصفها وصفا دقيقا، ويعرض خصائصها التي تميزت بها، وهي خصائص صوتية ودلالية وإعرابية وصرفية وأسلوبية وتركيبية، وقد نقل هذه الخصائص عن الصاحبي لابن فارس فأورد عدة أبواب منها ما سماه ابن فارس بسنن العرب في كلامها، ونقل عن غيره بعض الأمثلة للمحاذاة في الألفاظ أو ما يسمى بالازدواج كقولهم الغدايا والعشايا فإذا أفردوا لم يقولوا الغدايا، وكذلك هنأني ومرأني إذا أفردوا قالوا: أمرأني، فالمزاوجة في الكلام هي سب بعض التغيير الذي يطرأ في بعض الألفاظ. كما نقل بعض الخصائص عن ديوان الأدب للفارابي وأضاف إليها حديث الزمخشري عن الكنى باعتبارها مما اختص به العرب. وفي «الابدال» «2»، وقد بينا أن صلته باللفظ أكثر من صلته بالمعنى إذ لا يعدو أن يكون ظاهرة صوتية تعتري الألفاظ فيرد اللفظ منطوقا بحرفين متقاربين

_ (1) المزهر ج 1 ص 321. (2) المزهر ج 1 ص 460.

كقولهم مدحه ومدهه، وجذوت وجثوت، وفرس رفّل ورفّن للذي طال ذنبه .. إلى غير ذلك، وقد ألف فيه أبو الطيب اللغوي وابن السكيت، وقد ذهب أبو الطيب إلى أن الابدال لغات مختلفة لمعان متفقة تتقارب اللفظتان في لغتين لمعنى واحد، واستدل على ذلك بأن القبيلة الواحدة لا تتكلم بكلمة طورا مهموزة وطورا غير مهموزة ولا بالصاد مرة وبالسين أخرى وهلم جرا على حين أن غيره من اللغويين لا يرى منشأ الابدال في اختلاف القبائل، وإنما قد يقع في القبيلة الواحدة، وهناك من الحروف ما يتعاقب في بعض الألفاظ مثل الراء واللام، وسواء أكان الأمر هذا أم ذاك فإن هذه الألفاظ من اللغة الصحيحة التي يتعاورها الجميع ولا يخطأ أحد في استعمالها لأنهم قرروا اختلاف اللغات مع كونها حجة، ومن ثم فقد أورد السيوطي عددا كبيرا من أمثلة الابدال بين الحروف، وقد نقل جلها عن كتاب الابدال لابن السكيت، ثم نقل ما يشير إلى أن بعض اللغويين قد حاول أن يصل إلى بعض القوانين التي تحكم ظاهرة الابدال، ثم أشار إلى الخلاف بين اللغويين والنحويين إزاء هذه الظاهرة حيث يعمم اللغويون الابدال في معظم الحروف بينما يقصر النحويون الابدال على حروف «طال يوم أنجدته». ويتصل ببحث الابدال ما تناوله السيوطي باسم «ما ورد بوجهين بحيث يؤمن فيه التصحيف» «1»، كالذي ورد بالباء والتاء أو بالباء والثاء أو بالتاء والثاء إلى آخره، وقد مثل له بأمثلة تحيط بصنوف هذا الابدال فمما ورد بالباء والتاء قولهم: رجل صلب وصلت بمعنى واحد، وبالباء والثاء البرى والثرى: التراب إلى غير ذلك من أمثلة. ويتصل به كذلك «ما ورد بوجهين بحيث إذا قرأه الألثغ لا يعاب» «2»، كالذي ورد بالراء والغين أو بالراء واللام، أو بالزاي والذال، أو بالسين والثاء ... إلى آخره، ومعظم أمثلته يتردد ناقلوها في كونها لغة أو لثغة، فهي قد

_ (1) المزهر ج 1 ص 537 النوع السابع والثلاثون. (2) المزهر ج 1 ص 460.

صح نقلها عن العرب وسمعت منهم، ولكن التردد ناتج عن عدم التمكن من بحث حال القائل، فمن أمثلته اللهث لغة في اللحت أو لثغة، وفلان من جنتك ومن جنسك أي من أصلك لغة أو لثغة وهكذا، وقد اجتهد السيوطي في كلا النوعين في ذكر عدد كبير من الأمثلة وكأن مراده استقصاؤها. ويتناول موضوع «القلب» «1»، الذي نراه ألصق بمباحث الصوت واللفظ منه بمباحث المعنى، فينقل عن ابن فارس أنه من سنن العرب كقولهم جذب وجبذ ثم نقل كثيرا من الأمثلة عن الجمهرة لابن دريد مثل ربض ورضب، وصاعقة وصاقعة وسحاب مكفهر ومكرهف، وطريق طامس وطاسم وهلم جرا، كما نقل عن غير الجمهرة أمثلة يستزيد بها على ما سبق نقله، ويختتم حديثه عن القلب بما يشبه القانون الذي حاول النحاة وضعه لمعرفة المقلوب من غيره، فينقل عن السخاوي في شرح المفصل أنهم: «إذا قلبوا لم يجعلوا للفرع مصدرا لئلا يلتبس بالأصل، بل يقتصر على مصدر الأصل ليكون شاهدا للأصالة نحو يئس يأسا، وأيس مقلوب منه ولا مصدر له، فإذا وجد المصدران حكم النحاة بأن كل واحد من الفعلين أصل وليس بمقلوب عن الآخر نحو جبذ وجذب، وأهل اللغة يقولون إن كل ذلك مقلوب» «2». وما يذهب إليه اللغويون من القول بأن جميع ذلك مقلوب هو ما تسنده الملاحظات الصوتية الحديثة في علم الأصوات اللغوية فيما يعرف بتفاعل أصوات الكلمة «3». ومما يتصل باللفظ أكثر من اتصاله بالمعنى وتناوله السيوطي في مباحث المعنى «النحت»، وقد تناوله مقدرا على ما يبدو ما قدره بعض المحدثين- فيما بعد- الذين جعلوه قسما من أقسام الاشتقاق فتلك صلته بالمعنى. وقد عرض هذا المبحث ناقلا عن الصاحبي باب النحت ثم أشار إلى ما ألفه الظهير العماني الفارسي في النحت وأورد نقولا أخرى بها أمثلة وحديث عن النحت، ويتضح من هذه النقول أن أكثر المتوسعين في القول بالنحت ابن

_ (1) المصدر السابق ج 1 ص 476. (2) المزهر ج 1 ص 481. (3) د. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة ص 272.

فارس الذي يعد أكثر الزائد عن الثلاثي من المنحوت كقولهم للرجل الشديد ضبطر من ضبط وضبر. بيد أن ابن فارس بالرغم من ذلك لم يؤثر عنه القول بقياسية النحت موافقا في ذلك مذهب جمهور اللغويين والنحاة الذين يقفون عند الوارد عن العرب ولا يجيزون القياس في غيره. وقد أورد ابن فارس كثيرا من الأمثلة لما زاد على ثلاثة أصول وقال فيه بالنحت في كتابه معجم المقاييس، وبالرغم من ذلك فقد اكتفى السيوطي بما نقله عنه من كتاب الصاحبي مؤثرا ذكر ما شاع في بيئة اللغويين من عدم التوسع في القول بالنحت والتمثيل له بأمثلة إن كثرت فهي لا تزيد على ستين مثالا، بينما أورد ابن فارس في مقاييس اللغة نحو ثلاثمائة مثال «1». ويتناول السيوطي ظواهر اللغة المتصلة بالمعنى ويتحدث عن كل منها في مبحث مستقل فيتحدث عن «الاشتقاق» «2»، ويتضح من نقوله التي أوردها عن ابن فارس أحد معاني الاشتقاق المتمثلة في كونه ظاهرة لغوية مؤداها أن هناك صلة في المعنى بين الألفاظ المشتركة في الحروف وهيئة التركيب فالجن مشتق من الاجتنان، وهذه الفكرة هي التي بنى عليها ابن فارس معجم المقاييس حيث يورد أصلا أو أصلين للمادة اللغوية ثم يرد إلى هذين الأصلين جميع المشتقات من هذه المادة ويبين المناسبة في المعنى بين المشتق والأصل وهو ما يسميه بالفرع والأصل، ويعد ابن فارس هذا الاشتقاق غير قياسي. والمعنى الثاني للاشتقاق هو ما تناوله ابن جني في مقدمة الخصائص أيضا حيث حاول أن يرد الكلمات المشتركة في مادة واحدة دون مراعاة لهيئتها إلى أصل واحد، ولم يطبقه ابن جني إلا في أمثلة محدودة لا يمكن طردها في سائر مواد اللغة ولذلك فهو غير معتمد عند اللغويين.

_ (1) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، انظر دراسات في فقه اللغة لصبحي الصالح ص 277. (2) المزهر ج 1 ص 345، النوع الثالث والعشرون.

والمعنى الثالث للاشتقاق هو «أخذ صيغة من أخرى مع اتفاقهما معنى ومادة أصلية وهيئة تركيب لها ليدل بالثانية على معنى الأصل بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفا أو هيئة، كضارب من ضرب وحذر» بكسر الذال «من حذر» «1». وقد نقل السيوطي ما حاوله صاحب شرح التسهيل من الوصول إلى بعض القوانين التي تحكم الاشتقاق بمعناه الأخير، فالتغييرات بين الأصل المشتق منه والفرع المشتق خمسة عشر، وهناك وجوه يرجح بها رد الكلمة إلى أصل دون أصل إذا ترددت بينهما، ثم هناك ملاحظات أخرى تتصل باشتقاق الأعلام والأصل في الاشتقاق وغير ذلك فضلا عن الخلاف حول تقسيم الكلام إلى مشتق وغير مشتق وذهاب الجمهور إلى صحة هذا التقسيم. والواقع أن البحث في الاشتقاق بأنواعه المختلفة إنما هو بحث في الدلالة اللغوية المعبر عنها بالأصوات، وتقدير لمناسبة الأصوات للمعاني، فالزيادة في الصوت أي اللفظ يقابلها زيادة في المعنى، وقد فهم اللغويون القدماء ذلك وقدروه وراعوه في مباحثهم. ويتصل بالتطور الدلالي الذي يلحق معنى الكلم ما بحثه السيوطي في ثلاثة أنواع هي الحقيقة والمجاز، والخاص والعام، والمطلق والمقيد. وبحث الحقيقة والمجاز من الموضوعات التي عني بها الأصوليون واللغويون والبلاغيون بيد أن السيوطي قد اعتمد فيه على أقوال اللغويين والأصوليين فحسب، وكان اعتماده أكثر على الأصوليين. والواقع أن النظر في أقوالهم عن الحقيقة والمجاز يمكن أن يوضح لنا تقديرهم للتغير الدلالي وعوامله ومظاهره، وتقديرهم كذلك لحياة اللغة ونموها واتساعها حتى يمكن التعبير بألفاظها عن دلالات لم تكن معروفة من قبل فالرازي يذكر فيما ينقله عنه السيوطي أن سبب العدول عن الحقيقة إلى المجاز يكون لأجل اللفظ أو المعنى أو لأجلها «فالذي لأجل اللفظ أما لأجل جوهره بأن تكون الحقيقة ثقيلة على اللسان إما بثقل الوزن، أو تنافر التركيب، أو ثقل الحروف،

_ (1) المزهر ج 1 ص 346.

أو عوارضه بأن يكون المجاز صالحا لأصناف البديع دون الحقيقة، والذي لأجل المعنى إما لعظمة في المجاز أو حقارة في الحقيقة، أو لبيان في المجاز، أو للطف فيه، أما العظمة فكالمجلس، وأما الحقارة فكقضاء الحاجة بدلا عن التغوط، وأما زيادة البيان فإما لتقوية حال المذكور كالأسد للشجاع، أو للذكر وهو المجاز في التأكيد» «1». ثم يبين التلطف بقوله إن «التعبير بلوازم الشيء الذي هو المجاز لا يفيد العلم بالتمام فيحصل دغدغة نفسانية فكان المجاز آكد وألطف» «2»، وقد بين أن التعبير بالحقيقة يفيد العلم بالتمام وأن التعبير بالمجاز مثير للتشوق إلى معرفة الحقيقة، ثم نقل السيوطي حديث اللغويين والأصوليين عن الحقيقة والمجاز وبين مواقفهم منها واتضح أن ابن جني من الذين يتوسعون في إطلاق المجاز على كثير من تعبيرات اللغة وعنده أن المجاز يعدل إليه عن الحقيقة «لمعان ثلاثة وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه فإن عدمت الثلاثة تعينت الحقيقة»، بيد أنه يعد أكثر اللغة مجازا لا حقيقة. وينقل السيوطي عن الرازي محاولة حصر معظم وجوه المجاز في اثني عشر وجها، ثم ينقل كيفية التفرقة بين الحقيقة والمجاز. ومن الآراء الغريبة ما نسب إلى الأسفراييني من إنكاره وقوع المجاز في اللغة، وقد تعقبه ابن برهان في الأصول فيما نقله عنه السيوطي، كما رجح إمام الحرمين والغزالي نفى هذا الرأي عن الأسفراييني، وقد نسب إلى أبي علي الفارسي إنكار المجاز وهنا علق السيوطي بأن هذا «لا يصح أيضا، فان ابن جني تلميذ الفارسي وهو أعلم الناس بمذهبه، ولم يحك عنه ذلك، بل حكى عنه ما يدل على إثباته» «3». ويتضح من هذا موقف السيوطي فهو من القائلين بوقوع المجاز في اللغة شأن

_ (1) المزهر ج 1 ص 360. (2) المزهر ج 1 ص 361. (3) المزهر ج 1 ص 366.

جمهور الأصوليين واللغويين، وهو الرأي الصائب، وقد اتضح من نقوله تهافت حجج المنكرين للمجاز الذين يرون أن جميع اللغة حقائق، ويتضح موقف السيوطي من الحقيقة والمجاز بصراحة فيما أجاب به على سؤال ورد إليه في «العام المراد به الخصوص» هل هو حقيقة أو مجاز؟ فأجاب بأنه مجاز قطعا «1». ولما كان مبني المجاز على النقل والمناسبة، ونظرا لأهميته في حياة اللغة واتساعها فلقد لجأ إليه المجمعيون في محاولة إمداد اللغة ببعض ما تحتاج إليه في عصرها الحديث من ألفاظ عن طريق النقل مع مراعاة المناسبة كما حدث في إطلاق اسم «القطار» و «البرق» وغيرهما مما كان له دلالة قديمة خاصة على بعض المخترعات الحديثة «2». وفي مبحث «العام والخاص» «3» حاول السيوطي تصنيف ألفاظ اللغة بحسب عموم الدلالة أو خصوصها مقدرا تغير المعنى الذي يعتري الدلالات فينتقل بها من العموم إلى الخصوص أو من الخصوص إلى العموم، وقد قسم هذا المبحث إلى فصول خمسة وهو تقسيم لم يسبق إليه أولها ما وضع عاما واستعمل عاما كالسماء لكل ما علا والصعيد لكل أرض مستوية، وذكر أن ما يسميه اللغويون بالكليات من الألفاظ فهو من هذا القبيل. وفي الفصل الثاني تناول ما وضع عاما ثم خصص في الاستعمال ببعض أفراده وقد مثل له بلفظ «السبت» الذي يعني في اللغة الدهر ثم خص بأحد أيام الأسبوع، وأورد عديدا من الأمثلة غير ذلك، ثم تناول من الألفاظ ما اعتراه تغيير نحو التعميم أي ما وضع في الأصل خاصا ثم استعمل عاما، فالنجعة- مثلا- أصلها طلب الغيث ثم كثر فصار كل طلب انتجاعا، والقرب طلب الماء ثم صار يقال لكل طلب، والوغى اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كثر فصارت الحرب وغى، وهناك كثير من الأمثلة التي جمعها السيوطي من كتب

_ (1) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 555، الأسئلة الوزيرية وأجوبتها. (2) انظر مقال المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة للشيخ محمد الخضر حسين مجلة مجمع اللغة العربية ج 1 ص 291. (3) المزهر ج 1 ص 426 النوع التاسع والعشرون.

اللغة بما يبين فهمه وإدراكه لهذا النوع من التغير الدلالي. وتناول في الفصل الرابع ما وضع عاما واستعمل خاصا، ثم أفرد لبعض أفراده اسم يخصه ومثل له بما أورده الثعالبي تحت عنوان العموم والخصوص، فالبغض عام، والفرك فيما بين الزوجين خاص، والتشهّي عام والوحم للحبلى خاص وغير ذلك. وفي الفصل الخامس أورد ما وضع خاصا واستعمل خاصا فالتتايع التهافت ولم تسمع إلا في الشر، وأولى له: تهديد ووعيد وهلم جرا. ويدل المبحث السابق على حسن تقسيم السيوطي، وتقديره لتغير الدلالة، وجهده الصائب في وضع الأمثلة في مواضعها الصحيحة. وهناك جانب من الأسماء في اللغة نص اللغويون على أن مسمياتها لا بد أن تتوفر فيها شروط معينة حتى تستحق اطلاق هذه الأسماء عليها، وقد تناولها السيوطي باسم «المطلق والمقيد» «1»، فنقل عن ابن فارس الفصل الذي عقده للأسماء التي لا تكون إلا باجتماع صفات، فالمائدة لا يقال لها مائدة حتى يكون عليها طعام وإلا فاسمها خوان والظعينة لا تكون ظعينة حتى تكون امرأة في هودج على راحلة ... ونحو ذلك من الأمثلة، ونقل عن الثعالبي ما سماه بأشياء تختلف أسماؤها وأوصافها بحسب أحوالها فلا يقال كأس إلا إذا كان فيها شراب وإلا فهي زجاجة ونحو ذلك، كما نقل أمثلة أخرى من هذا القبيل. وعلى الرغم من أن كثيرا من هذه الأمثلة يسندها الاستعمال اللغوي الفصيح الذي عول عليه هؤلاء اللغويون فإن جانبا غير قليل منها لم يستعمل مشروطا بهذه الشروط التي وضعوها، ولم يراع المتكلمون هذه القيود فيه، فالكأس تستعمل سواء أكان فيها ماء أم كانت فارغة، والظعينة تطلق على المرأة ولو فارقت هودجها، وهناك دلائل في الاستعمال الفصيح تسند ما نذهب إليه، وكان ينبغي على هؤلاء مراعاة التغير الدلالي الذي يعتري الألفاظ فينتقل بها من الخصوص إلى العموم أو العكس وألا يهملوا عامل التطور وأثره في اللغة.

_ (1) المزهر ج 1 ص 449.

الأضداد:

وقد أشار السيوطي إلى مبحث يعد من طرائف اللغويين يتصل بدلالات الألفاظ ويعتمد على المشترك اللفظي هو «المشجر» «1»، الذي أفرد له أبو الطيب اللغوي كتابا سماه «شجر الدر» «2»، وقد اعتمد السيوطي في مبحثه على كتاب أبي الطيب، وقد نقل عنه ممثلا ما سماه الأول بشجرة العين بفروعها، واختتم السيوطي نقوله بقوله «ان هذا النوع يناظر من علم الحديث نوع المسلسل» «3». وقد تناول السيوطي عددا من المباحث المتصلة بالدلالة أشرت من بينها إلى المشترك اللفظي حين الحديث عن كتاب «حسن السير فيما في الفرس من أسماء الطير» الذي مر ذكره، كما أشرت إلى الاتباع صدد دراسة كتابه «الإلماع» وإلى الترادف صدد الحديث عن منظومة «التبري من معرة المعري» فلا حاجة بنا إلى أن نكرر ما سبق ولنعد إلى تناول بقية مباحث الدلالة التي لم يسبق الاشارة إليها. الأضداد: والتضاد من الملاحظات الصادقة على أكثر اللغات إن لم يكن على جميعها، وقد تناول السيوطي هذه الظاهرة في أحد فصول كتابه، ومرد التضاد في اللغة إلى أننا نفكر في كل صفة مع ما يقابلها فعند ما أقول «أبيض»، فأنا أفكر غير واع في غير الأبيض وفي ضده أي في الأسود، وقد عبر عن هذه الحقيقة جوسست تراير الألماني بقوله: كل كلمة تلفظ تثير معناها المضاد «4». وأكثر اللغويين على أن الكلمة التي تستعمل بمعنيين متضادين سبق لها أن استعملت في أحدهما فقط ثم استعملت للدلالة على المعنى الآخر في عصر تال، فعرف لها الاستعمالان، فكأن الكلمة بذلك قد اعتراها تغير دلالي فيما آلت إليه.

_ (1) المصدر السابق ج 1 ص 454. (2) اسم الكتاب: شجر الدر في تداخل الكلام بالمعاني المختلفة (مطبوع). (3) المزهر ج 1 ص 459. (4) د. محمود السعران: علم اللغة 311.

والبحث في التضاد وحصر الألفاظ الدالة عليه من أقدم البحوث اللغوية عند العرب وقد ألف في الأضداد غير واحد من اللغويين القدماء، كما أدلى فيه أهل الأصول بدلوهم، وقد عقد له السيوطي كما قلناه مبحثا مستقلا «1». والأضداد نوع من المشترك اللفظي ولذلك أشار إليه بعض الأصوليين ضمن مبحث المشترك، وقد نقل السيوطي عنهم وعن اللغويين ما يتصل بالأضداد، وقد عد ابن فارس الأضداد من سنن العرب التي تحدث عنها فالجون للأسود والجون للأبيض، وقد نقل بعض محاولات القدماء في تصنيف الألفاظ باعتبار دلالتها على المعاني واتفاقها أو اختلافها وتقاربها أو تباعدها وهو ما تحدث عنه في كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه وسماه ابن فارس أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق، حيث صنف الألفاظ إلى ثمانية أقسام بهذا الاعتبار، وقد أورد السيوطي عددا كبيرا من الأمثلة للتضاد نقلا عن كتب اللغة، وقد نبه السيوطي على أن ابن درستويه ممن أنكر الأضداد، ثم نقل كثيرا من الأقوال في مبحثه عن كتاب الأضداد لأبي بكر بن الأنباري. أما وقد انتهينا من عرض مباحث الدلالة التي تناولها السيوطي فإننا نختتم بملاحظة نلاحظها على دراسة المعنى وهي أن الأصوليين قد اهتموا بهذا النوع من الدراسة وكانت عنايتهم به بالغة، وقد أفاد السيوطي من دراساتهم ومن دراسات اللغويين، وأخرى أن هؤلاء وهؤلاء كان منهجهم في دراسة اللغة أصواتا أو دلالات منهجا وصفيا يعتمد على النظر في اللغة ونصوصها وألفاظها ويدرس دلالاتها، ثم يستخرج بعد ذلك ملاحظاته أو قوانينه، ويصنف الظواهر المدروسة، وهذا هو المنهج الذي ينادي به اللغويون المحدثون، وهو المنهج الذي حاول السيوطي عن طريق نقوله وعرضها أن يبرزه.

_ (1) المزهر ج 1 ص 387.

ضبط اللغة

ضبط اللغة وهو مبحث صرفيّ معجميّ دلاليّ يهدف إلى حصر أبنية اللغة وتصنيفها، والخروج ببعض الضوابط والتفسيرات والملاحظات الخاصة بهذا الشأن تناوله السيوطي بعنوان «الأشباه والنظائر» «1»، وقد قسمه السيوطي تقسيما مبتكرا صب فيه مواد اللغة التي جمعها من شتى المظان فبدأ بحصر أبنية الأسماء مقسما إياها إلى ثلاثي ورباعي وخماسي، والثلاثي ينقسم بدوره إلى مضعف وغير مضعف، ثم هناك مزيد من الثلاثي المضعف ومزيد من الثلاثي غير المضعف، ثم تحدث عن الرباعي المجرد والمزيد، والخماسي مجرده ومزيده ذاكرا في كل من هذه الأنواع الأبنية التي وردت في اللغة، ثم تناول الأسماء التي ألحق بها في الوزن غيرها، وعمد بعد ذلك إلى الأفعال وأبنيتها، وبعد أن فرغ منها تناول بعض الظواهر العامة في أبنية اللغة باسم «ضوابط واستثناءات في الأبنية» ونقل هنا الملاحظات التي لاحظها اللغويون من قبل على هذه الأبنية، فمن ذلك- مثلا- قول سيبويه: «ليس في الأسماء ولا في الصفات فعل» بضم الفاء وكسر العين «ولا تكون هذه البنية إلا للفعل» «2». وقد ذكر غير سيبويه أنه لم يأت على هذه البنية إلا: الدّئل اسم دويبة صغيرة وزاد غيره لفظين، وقد عرض السيوطي تحت هذا العنوان لعدد كبير من الأبنية التي وردت بقلة في اللغة أو التي كان ورودها على وتيرة ما قليلا، وهنا يتضح تفتيش اللغويين القدماء في اللغة واستدراك بعضهم ما فات على بعض. كما تناول عددا من الضوابط والملاحظات اللغوية التي تتصل بالأبنية والجموع والمصادر والصفات، وما يستعمل من الألفاظ معرفة لا يدخله الألف

_ (1) المزهر ج 2 ص 3. (2) المزهر ج 2 ص 49.

واللام، وما لا يستعمل إلا في النفي، وما ورد في اللغة بالتثنية، وغير ذلك من الملاحظات والضوابط التي جمعها واستخرجها من متفرقات شتى، والتي أراد بها اللغويون أن يخرجوا بجملة من الأحكام يحتذيها الاستعمال اللغوي ولا يحيد عنها. والواقع أن جملة كبيرة من هذه الملاحظات تعد وصفا لما هو كائن في اللغة لا ضبطا لما ينبغي أن يكون بعد، واللغويون بذلك ينهجون في لغتهم منهجا وصفيا يعتمد على النظر في أبنيتها واستعمالاتها، ولذلك فليس ما يلاحظه أحدهم بملزم لغيره إذا لاحظ الآخر ما يعدل الملاحظات السابقة أو ينفيها، والمتتبع لحصرهم لبعض الأبنية والاستعمالات يرى خير دليل على ما نقول. وتشهد هذه الدراسة التي قام بها السيوطي بتبحره في النظر في اللغة التي حاول بعقليته الجامعة المستقصية المنسقة أن يحصر أبنيتها ويصنف شواردها ويضبط متفرقاتها، ونستأنس على هذا القول بما ذكره عن نفسه بعد عرضه للمعاجم العربية وحديثه عن القاموس بقوله: «ومع كثرة ما في القاموس من الجمع للنوادر والشوارد فقد فاته أشياء ظفرت بها في أثناء مطالعتي لكتب اللغة حتى هممت أن أجمعها في جزء مذيلا عليه» «1».

_ (1) المزهر ج 1 ص 103.

نشأة اللغة

نشأة اللغة لعل أول ما ينصرف إليه ذهن الباحث اللغوي قديما وحديثا هو أن يتساءل كيف تكون للانسان لغة؟ أتوصل الانسان إلى هذا النظام العجيب عن طريق الوحي؟ أم توصل إليه بنفسه؟. هذه الأسئلة وأمثالها عرفها الناس في القديم والحديث، وانتهى علم اللغة أخيرا إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية كسائر الظواهر الاجتماعية ومعنى ذلك أنها من صنع المجتمع. ولكن علم اللغة على الرغم من كثرة ما كتبه علماؤه حول هذا الموضوع لم يستطع أن يصل إلى رأي قاطع في كيفية نشأة اللغة، وما هي أول لغة كانت؟ وهل ترجع اللغات كلها إلى أصل واحد أم إلى أصول متعددة، ومن ثم تنادى كثير من اللغويين المحدثين بنتيجة البحث في نشأة اللغة عن أبحاث علم اللغة لأنه أقرب إلى الميتافيزيقا منه إلى العلوم، وعلى الرغم من ذلك فكثير من كتب اللغويين المحدثين لا تنفك تحفل بهذا الموضوع وبحثه وإن كانت توقن سلفا بنتائجه السلبية، بل وتحرص على تأكيدها «1». كان طبيعيا أن يتناول السيوطي بحث هذا الموضوع وأن يجعله أول موضوعات كتابه فيعرضه بطريقته النقلية الغالبة عليه. والنظر فيما أورده من نقول مختلفة عن اللغويين والأصوليين تدلنا على حيرة

_ (1) انظر: اللغة لفندريس تعريب الدواخلي والقصاص، ص 29 - 42، علم اللغة للدكتور محمود السعران ص 55 - 57، د. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة ص 88 - 97. OttoJespersen: Language: ItsNatureDevelop mentandOrigin: «TheOrigin ofSpeech» 412- 434.

القوم جميعا في تحديد نشأة اللغة، وباستثناء ابن فارس من اللغويين نستطيع أن نقول إن جميعهم لم يجزموا بكون اللغة وحيا وتوقيفا، وبالرغم من أن القول بالتوقيف قد نسب إلى الأشعري فإن رأيه لم يحظ بتأييد أتباعه فإمام الحرمين ينقل عنه «أن العقل يجوز ذلك كله» «1»، أي كون اللغة توقيفا أو اصطلاحا، والغزالي يرى جواز القول بالتوقيف والاصطلاح، ولا يرى حجة قاطعة للقائلين بالتوقيف في قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «2»، ومن ثم فالرازي يذكر أن المحققين لا يقولون بالتوقيف ولا بالاصطلاح وإنما هم «متوقفون في الكل» «3». وابن جني الذي رجح كون اللغات اصطلاحية، وذكر بعض النظريات في تفسير نشأة اللغة من كونها من أصوات المسموعات كدوي الريح وحفيف الأشجار ونحوها لا يستطيع أن يدلي برأي قاطع، بل ينتهي إلى التوقف وعدم ترجيح أي قول من هذه الأقوال. ويتضح أن المعتزلة يقولون بالمواضعة والاصطلاح ويحاجون عن مذهبهم، وأن القول بالتوقيف لم يصرح بنسبته إلى أهل السنة «4»، بل أنكر بعضهم نسبته إلى الأشعري «5». استطاع السيوطي أن ينقل خلاصة ما يتصل بهذا الموضوع عن اللغويين والأصوليين وأن يعرضه عرضا يتضح منه جميع المذاهب، وإذا كان المحدثون كما رأينا قد مالوا بعد طول البحث والدرس إلى تنحية هذا الموضوع عن أبحاثهم، فقد توصل بعض القدماء من قبل إلى نفس النتيجة، وقد نقل السيوطي عن صاحب رفع الحاجب «أنه لا فائدة لهذه المسألة، وهو ما صححه ابن الأنباري وغيره، ولذلك قيل ذكرها في الأصول فضول» «6». بيد أن السيوطي- لطبيعته النقلية- لم يصرح بموقفه من هذا المعترك، ولم

_ (1) المزهر ج 1 ص 21. (2) المزهر ج 1 ص 23. (3) المزهر ج 1 ص 16. (4) المصدر السابق ج 1 ص 20. (5) نفس المصدر ج 1 ص 24. (6) نفس المصدر ج 1 ص 26.

ينتصر لفريق على غيره، ولم يعقب على هذه النقول بما يبوح بموقفه، وقد أورد عقب هذه النقول بعض المرويات التي نذهب إلى أن الله تعالى علم آدم اللغات ومعظمها ينتهي إلى ابن عباس بصدد تفسير قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، ولم يعقب السيوطي بشيء على هذه النقول تصحيحا أو تضعيفا أو توجيها، فإذا قلنا: إن اختيارات الرجل في نقوله جزء من عقله، والسمة الغالبة التي يدركها الناظر في هذه النقول هي روح التردد أو التوقف عن القول بالتوقيف أو الاصطلاح، وهو كما عبرت عنه كثير من نصوصهم مذهب المحققين، فلعل السيوطي كان يختار التوقف، مع ميل إلى القول بالتوقيف، ونراه في موضع آخر يلخص هذه الأقوال الثلاثة في نشأة اللغة وينسب إلى ابن جني استحسان بعضها والميل إلى بعض، ولا يصرح عن موقفه بشيء «1»، والذي يجعلنا نذكر ميله إلى القول بالتوقيف بعض الميل ما أورده من نقول بصدد تفسير الآية السابقة، وهذه النقول ترجح كون اللغة توقيفية.

_ (1) الاقتراح ص 6، 7.

الصلة بين اللفظ والمعنى

الصلة بين اللفظ والمعنى قدر اللغويون العرب أن هناك مناسبة طبيعية بين اللفظ ومدلوله، أي بين الأداء الصوتي للكلمة وكيفية هذا الأداء وبين معنى الكلمة، وقد بينا عند حديثهم في الاشتقاق ربطهم الزيادة في حروف اللفظ أو حركاته أو النقص فيها بالزيادة أو النقص في المعنى، وهنا تبدو هذه الفكرة التي تهتم بصوتية اللغة أكثر جلاء حيث يتناولها ابن جني موضحا الصلة بين أصوات الكلمة وبين معناها وذاكرا سبق الخليل وسيبويه إلى التنبيه إلى هذه الفكرة «1»، وقد أشار سيبويه من قبل إلى أن المصادر التي اشتركت في معنى واحد، وهو الحركة والاضطراب قد اشتركت في مقال واحد هو الفعلان، ويتضح من حديث سيبويه أن التقارب في المعنى يؤدي إلى الاشتراك في المثال الذي يأتي عليه المصدر «2». وقد نقل ابن جني عن سيبويه بعض ما ذكره، وتوسع في إيراد الأمثلة التي تعضد هذا التصور فذكر أن الأفعال الرباعية المضعفة تأتي للتكرير كالزعزعة والقلقلة وغيرها، فالمثال المكرر للمعنى المكرر، وبين المناسبة بين استعمال صيغة «استفعل» للطلب وبين معنى الطلب، والمناسبة بين تضعيف العين في مثل فرّح وبشّر وبين تقوية المعنى فكأنهم جعلوا قوة اللفظ لقوة المعنى، بالاضافة إلى الأمثلة العديدة التي استعملت فيها الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فالخضم لأكل الرطب، والقضم لليابس ... إلى آخر ما أورده. وقد نقل السيوطي خلاصة هذا الباب عن ابن جني، ويبدو لديه الميل إلى هذه الفكرة التي تذهب إلى وجود المناسبة بين اللفظ ومدلوله، ولذلك فقد أتبع ما نقله عن ابن جني بذكر مجموعة كبيرة من الأمثلة التي تؤيد ما ذهب إليه

_ (1) الخصائص ج 2 ص 152 - 168، امساس الألفاظ أشباه المعاني. (2) كتاب سيبويه ج 2 ص 228، 229 (طبعة باريس).

سابقه وقد ذكر نسبة هذا القول إلى عباد بن سليمان من المعتزلة، وبين أن جمهور اللغويين يكادون يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ وبين المعاني، والفرق بين مذهبهم وبين مذهب عباد أنه يراها ذاتية موجبة بخلافهم «1». والقائلون بهذه النظرية وزعيمهم ابن جني يذهبون إلى وجود هذه الصلة في جميع ألفاظ اللغة فهو يقول: «فإن أنت رأيت شيئا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه، ولا يتابعك على ما أوردناه فأحد أمرين: إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك فكرك عنه، أو لأن لهذه اللغة أصولا وأوائل فقد تخفى عنا، وتقصر أسبابها دوننا كما قال سيبويه» «2». وهذا القول يعني وجود مناسبة بين اللفظ والمعنى قد تقرب فيمكن إدراكها لكونها ظاهرة، وقد تبعد فيمكن إدراكها بالتأمل، أو لا يمكن إدراكها لإمكان تطور هذه الألفاظ عن أصول كانت تتضح فيها هذه المناسبة بين اللفظ ومدلوله وأحدث التطور فيها بعض التغيير الذي جعل إدراك هذه المناسبة بعيدا. وهذه النظرية تتصل في الواقع بالقول بنشأة اللغة عن الأصوات الطبيعية، ولكن ذلك لا يعني أن القائلين بوجود المناسبة بين اللفظ ومدلوله يقولون بنشأة اللغة عن هذه الأصوات، فجمهور اللغويين يرون هذه الصلة بين اللفظ ومدلوله بينما يذهبون في نشأة اللغة مذهبا آخر، وابن جني نفسه الذي حكى نظرية نشأة اللغة على هذا النحو لم يقطع بقبوله لها وإنما ذكر أنه «وجه صالح ومذهب متقبل» وأتبع ذلك مستدركا بما يبين توقفه وعدم ترجيحه أحد القولين «3». ويتضح مذهب السيوطي فيما عقب به على الأمثلة التي نقلها إذ يقول: «فانظر إلى بديع مناسبة الألفاظ لمعانيها، وكيف فاوتت العرب في هذه الألفاظ المقترنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس لما هو أدنى وأقل وأخف عملا أو صوتا، وجعلت الحرف

_ (1) المزهر ج 1 ص 47. (2) الخصائص ج 2 ص 164. (3) الخصائص ج 1 ص 47.

الأقوى والأشد والأظهر والأجهر لما هو أقوى عملا وأعظم حسا، ومن ذلك المدّ والمطّ، فان فعل المط أقوى، لأنه مدّ وزيادة جذب، فناسب الطاء التي هي أعلى من الدال» «1»، ثم اختتم الأمثلة الكثيرة التي نقلها للتدليل على المناسبة بين اللفظ والمعنى بقوله: «فانظر إلى هذه الفروق وأشباهها باختلاف الحرف بحسب القوة والضعف وذلك في اللغة كثير جدا، وفيما أوردناه كفاية» «2». نستخلص من هذا أن السيوطي قد استوعب نظرات السابقين في هذا المبحث أيضا، وقد ذهب إلى إثبات المناسبة بين اللفظ والمعنى، على النحو الذي بينه ابن جني، أي أنّ ثمة صلة بين الألفاظ والمعاني لكنها ليست ذاتية أو طبيعية، وأقوال الأصوليين (علماء أصول الفقه) والتي نقل السيوطي جانبا منها تتخذ موقفا واضحا من هذه القضية، إذ يرون أن هذه الصلة عرفية اعتباطية بحيث لو أطلق لفظ الكفر على الإيمان ولفظ الإيمان على الكفر لكان ذلك ممكنا. والواقع أن فكرة الصلة بين اللفظ والمعنى قد شغلت الباحثين في اللغة- ذلك النظام الصوتي العجيب- في القديم والحديث، فقد تصور بعض اليونانيين القدماء وجود صلة طبيعية ذاتية بين اللفظة ومعناها، وذهب آخرون إلى أنها لا تحدو أن تكون صلة اصطلاحية عرفية «3». وقد رأينا من انتصر- في العربية- لفكرة الصلة الذاتية وهو عباد بن سليمان الصيمري. ويكاد جميع اللغويين العرب يطبقون على ثبوت نوع من المناسبة بين اللفظ والمعنى على النحو الذي بيّن مظاهره ابن جني بيد أنهم يخالفون عبادا في كون هذه الصلة موجبة وهو مرتبط بقول المعتزلة بمراعاة الأصلح في أفعال الله تعالى وجوبا، وأهل السنة يقولون بمراعاة الأصلح في أفعال الله تعالى منا منه وفضلا وليس وجوبا «4»، كما ينكرون كون هذه المناسبة ذاتية لأن اللفظ لو دل بذاته

_ (1) المزهر ج 1 ص 53. (2) المزهر ج 1 ص 55. (3) د. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ ص 58. (4) المزهر ج 1 ص 47، 48.

لفهم كل واحد كل اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية، واللازم باطل فالملزوم كذلك «1». وكثير من أبحاث القدماء تسير على هدى من هذه الفكرة التي يتلمس أصحابها المناسبة والصلة بين اللفظ ومدلوله، فأبحاثهم في الاشتقاق بنوعيه وبحث الاشتقاق الكبير الذي تناوله ابن جني، والذي توسع فيه ابن فارس في معجم المقاييس وحاول إرجاع المواد المشتركة في الحروف على الرغم من هيئاتها المختلفة وفروعها المتنوعة إلى أصل واحد أو إلى أصلين لاشتراكها أصلا في مجموعة من الأصوات المعينة، وقد بدا في كثير من هذه المواد كثير من التعسف في محاولة ردها إلى أصول مشتركة، كذلك ما قام به ابن دريد الذي حاول في كتابه الاشتقاق تعليل الأسماء العربية كأسماء القبائل والأمكنة وإيجاد المعاني التي ترجع إليها هذه الألفاظ، وكثير من الأبحاث غير ما قدمنا تراعي هذه المناسبة وتحاول إثباتها أو تلمس بعض جوانبها أو مظاهرها. وفي الحديث نجد يسبرسن يتناول هذه الفكرة «2»، فيعرض رأي همبلت الذي يذهب إلى أن اللغات بوجه عام تؤثر التعبير عن الأشياء عن طريق ألفاظ أثرها في الآذان يشبه أثر تلك الأشياء في الأذهان، ويتضح من عرض يسبرسن وحديثه ميله لفكرة المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، إلا أنه حذر من المغالاة في هذا إذ إن هذه الظاهرة لا تكاد تطرد في لغة من اللغات، كما أن بعض الكلمات تفقد هذه الصلة على مر الأيام. وقد تناولها إبراهيم أنيس فعرض أفكار السابقين من اليونان والعرب وعلماء اللغة من الأوربيين المحدثين، وذكر ممن عارضها بشدة دي سوسير إذ رأى هذه الصلة اعتباطية لا تخضع لمنطق أو نظام مطرد، وقد بين الباحث الأسباب التي تدفع إلى التفكير في وجود الصلة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، ومال إلى القول ببطلان هذه النظرية، وأورد بعض

_ (1) المزهر ج 1 ص 16. (2) OttoJespersen: Language: ItsNatureDevelop mentandOrigin, chapterXX: SoundSymbolism, P 396.

الأدلة التي تدعم وجهة نظره وبين أن ما تثيره الألفاظ في أذهان السامعين من دلالات إنما يرجع إلى اعتبارات كثيرة متنوعة، وليست هناك صلة طبيعية كما يقولون «1».

_ (1) د. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ ص 58 - 70.

الوضع اللغوي

الوضع اللغوي يرتبط بحث القدماء في الوضع اللغوي بأفكارهم عن نشأة اللغة، ولذلك بحث السيوطي نشأة اللغة والقول بكونها توقيفا أو اصطلاحا تحت اسم «بيان واضع اللغة». وسواء أكانت اللغة إلهاما أم اصطلاحا أم مزيجا منهما معا بطريقة أو بأخرى،- عندهم- فلا بد من وضع يجعل لفظ كذا بإزاء معنى كذا، وقد تناول بعض المسائل المتصلة بالوضع اللغوي في كتابه وهي بحوث نظرية أفاض فيها الأصوليون بيد أنها تقوم- في غالبها- على الاحتمالات الفرضية، والصور الذهنية الامكانية، ولكن بعض هذه المسائل يمس جوانب هامة في البحث اللغوي. فقد تحدث عن الحكمة الداعية إلى الوضع فنقل عن الكيا الهراسي وعن الفخر الرازي ما يبين فهمهما للغة وصلتها بالمجتمع، وأن حاجة الانسان إلى غيره من بني جنسه هي التي دفعت إلى وضع اللغة «1». ثم تحدث عن حدّ الوضع فنقل عن السبكي أنه «تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أطلق الأول فهم منه الثاني» «2»، وتناول بعد ذلك الخلاف الذي نشأ ومؤداه: هل وضع الواضع المفردات والمركبات الاسنادية أو المفردات خاصة دون المركبات الاسنادية؟ وقد نقل السيوطي عن الأصوليين والنحويين واللغويين أقوالهم واختلافهم في ذلك، فذكر أن الرازي وابن الحاجب وابن مالك وغيرهم يذهبون إلى أن الواضع قد وضع المفردات دون المركبات الاسنادية وحجتهم في ذلك أنه لو كان الواضع قد وضع المركبات الاسنادية لتوقف استعمال الجمل على النقل عن العرب كالمفردات.

_ (1) المزهر ج 1 ص 36 - 38. (2) المزهر ج 1 ص 38 - 40.

ورجح القرافي والتاج السبكي أن المركبات موضوعة كالمفردات. ولم يوضح السيوطي موقفه من هذا الخلاف، والواقع أن بحوث النحويين في الجملة وترتيبها وجواز التقديم والتأخير وما يتصل بنظام الجملة وتركيبها استنادا إلى ما نقل عن العرب يدل على أن القول بأن المركبات موضوعة كالمفردات أقرب إلى الصواب، وهو ما ترسمه النحاة في بحث نظام الجمل وتركيبها. وقد نقل السيوطي عن أبي حيان في شرح التسهيل ما يؤكد هذه الفكرة حيث يقول: «العجيب ممن يجيز تركيبا ما في لغة من اللغات من غير أن يسمع من ذلك التركيب نظائر، وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية، فكما لا يجوز إحداث لفظ مفرد، كذلك لا يجوز في التراكيب، لأن جميع ذلك أمور وضعية والأمور الوضعية تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان، والفرق بين علم النحو وبين علم اللغة أن علم النحو موضوعه أمور كلية وموضوع علم اللغة أشياء جزئية، وقد اشتراكا معا في الوضع» «1». ويشتد الجدل حول كون المركبات موضوعة أم لا، وسبب الخلاف- كما يبدو- عدم تحديد المعنى المراد بالوضع وما يترتب عليه، فبعض من لا يرى أن المركبات موضوعة إنما ينفي ذلك لأن القول بكونها موضوعة يعني أن استعمالها وفهم معناها متوقف على النقل عن العرب كالمفردات، وقد نقل السيوطي عن صاحب البحر المحيط هذه الخلافات، وقد حاول الزركشي أن يتوصل إلى قول يحسم به الخلاف حيث ذهب إلى أن العرب إنما وضعت أنواع المركبات، أما جزئيات الأنواع فلا «2». ويكاد ابن جني يقف على الجادة حين يتصور تطور اللغة وأثر كثرة الاستعمال في تطور الصيغ، ولكن رغبته في نسبة الحكمة إلى العرب واضعي اللغة ترجعه عن ترجيح هذه النظرية الصادقة ليقول بأن «ما غير لكثرة استعماله، إنما تصورته العرب قبل وضعه، وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها إياه فابتدءوا بتغييره علما

_ (1) المزهر ج 1 ص 42، 43. (2) المزهر ج 1 ص 45.

بأن لا بد من كثرة الداعية إلى تغييره وهذا في المعنى كقوله: رأى الأمر يفضى إلى آخر ... فصير آخره أولا وقد كان أيضا أجاز- أي أبو الحسن- أن يكون «قد كانت قديما معربة، فلما كثرت غيرت فيما بعد، والقول عندي هو الأول لأنه أدل على حكمتها وأشهد لها بعلمها بمصاير أمرها» «1». هذا عن بحث الوضع اللغوي وتطور هذا الوضع. وتأسيسا على هذا فهم يفسرون ظاهرة اختلاف اللهجات العربية باختلاف الوضع الأول فما وضع في الأصل وضع مختلفا ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما وضع في الأصل مختلفا «2»، ونجد السيوطي حين يتحدث عن هذه الفكرة ينقل بعض حديث ابن جني ولا يعقب بشيء فكأنه يتابعه في فكرته «3». وقد أنكر أمين الخولي على القدماء بحثهم في الوضع بهذا المنهج، وأنكر فكرة ابن جني وغيره التي دفعت اللغويين إلى أن يردوا كل شيء في «اللغة» إلى الوضع الذي وضعه الواضع الأول بحكمة استقبلت من أمر الحياة ما استدبر، وتعرفت المستقبل فصيرت الآخر أولا» «4». وقد انتهى من حديثه في الوضع اللغوي وما عرف عند القوم بعلم الوضع إلى نتائج مضمونها عدم التسليم بأن العربية قد تكونت بالوضع على النحو الذي بينوه، وأن علم الوضع يقوم على أساس مناقض لطبيعة اللغة الاجتماعية، فهو عمل عقلي صناعي لا لغوي، وأن التطور أصل أصيل في حياة اللغة «5». وقد رأينا إدراك القدماء لهذا التطور في حياة اللغة، بيد أنه قد شابه عندهم وألقى عليه كثيرا من الظلال ما أرادوه من نسبة الحكمة إلى العرب، بالإضافة إلى بعض الأفكار غير الصحيحة التي حالت دون ظهور التصورات الواقعية وسيادتها.

_ (1) الخصائص ج 2 ص 31. (2) الخصائص ج 2 ص 29. (3) المزهر ج 1 ص 55، 56. (4) مشكلات حياتنا اللغوية ص 34. (5) المصدر السابق ص 41، 42.

المعاجم اللغوية

المعاجم اللغوية عنى السيوطي بالحديث عن جمع اللغة، وعرض في هذا الحديث بدراسة لأهم المعاجم اللغوية، بحيث تعد دراسته أقدم دراسة للمعاجم العربية، وقد اعتمد عليها بعض من تناول الموضوع من بعده «1». وقد بدأ السيوطي بالحديث عن كتاب العين فهو أول معجم لغوي، وقد أورد انتقادات اللغويين له، وإنكار نسبته إلى الخليل لما تخلله من خلل أو تصحيف، وقد قام السيوطي كما حكى عن نفسه بمطالعة كتاب العين فرأى «وجه التخطئة فيما خطئ فيه غالبه من جهة التصريف والاشتقاق كذكر حرف مزيد في مادة أصلية أو مادة ثلاثية في مادة رباعية ونحو ذلك، وبعضه ادّعى فيه التصحيف، وأما أنه يخطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذب أو لا تعرف فمعاذ الله، لم يقع ذلك» «2». ونحن هنا نلحظ اهتمام السيوطي نظرا لطبيعته النقلية الحديثية بناحية الثبوت الصحيح للغة، ومن هنا فهو يوثق كتاب العين من هذه الناحية، وهذه النظرة هي التي تحكم دراسته لجمع اللغة، وقد تحدث عن كتاب العين وترتيبه، واهتم بالحديث عن رواته ومن تحمله عن الخليل، ثم خلص بعد ذلك إلى تناول معجم الجمهرة لابن دريد وقد نسج صاحبه على منوال العين، وقد نقل السيوطي بعض مقدمة الكتاب التي يبين فيها صاحبه هدفه من مؤلفه، ثم أورد انتقاد ابن جني لكتاب الجمهرة لاضطرابه من حيث أبنية التصريف، ونبه السيوطي على أن مقصود ابن جني أن الاضطراب «من حيث أبنية التصريف وذكر الموادّ في غير محالّها كما تقدم في العين» «3»، وهو بذلك يريد أن يدفع توهم

_ (1) د. حسين نصار: المعجم العربي نشأته وتطوره ص 4. (2) المزهر ج 1 ص 86. (3) المزهر ج 1 ص 93.

الاضطراب من حيث وثاقة المادة اللغوية، ولذلك نجده يدافع عن ابن دريد ويرد على هجوم الأزهري الذي رماه بافتعال اللغة قائلا: «معاذ الله هو بريء مما رمى به، ومن طالع الجمهرة رأى تحرّيه في روايته ... ولا يقبل فيه طعن نفطويه لأنه كان بينهما منافرة عظيمة .... وقد تقرر في علم الحديث أن كلام الأقران في بعضهم لا يقدح» «1». والسيوطي بذلك يصب عنايته على وثاقة المادة اللغوية وصحتها، وقد جره ذلك إلى الحديث عن نسخ الجمهرة، وذكر أنه ظفر بنسخة منها قرئت على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دريد، والسيوطي بذلك قد وقف على نسخة صحيحة من الجمهرة «2». ثم أشار السيوطي إلى كتب اللغة: ما كان عاما في أنواع اللغة وما كان خاصا في نوع منها كالأجناس للأصمعي والنوادر واللغات لأبي زيد، والنوادر للكسائي والتهذيب للأزهري والمجمل لابن فارس، وقد ذكر عددا كبيرا من هذه الكتب، ثم ذكر أن أول من التزم الصحيح من اللغة مقتصرا عليه هو الجوهري في كتابه الصحاح وقد ذكر السيوطي أنه في اللغة يقابل الصحيح في الحديث للبخاري «3»، وقد تحدث السيوطي عن هذا الكتاب وما قيل فيه، وما وضع عليه من الحواشي، ثم ذكر أن ابن فارس معاصر الجوهري قد اقتصر أيضا على الصحيح في المجمل «4»، ثم ذكر أن أعظم ما ألف في اللغة بعد عصر الصحاح كتاب المحكم لابن سيدة يتلوه كتاب العباب للصغاني، يليهما القاموس «5» للفيروزآبادي وقد نقل السيوطي بعض مقدمة القاموس. وقد عرض السيوطي بذلك- على طريقته- للمعاجم اللغوية وتدرجها التاريخي حتى عصره، وقد حاول أن يجمع في حديثه بين الترتيب الموضوعي

_ (1) المصدر السابق ج 1 ص 93، 94. (2) نفس المصدر ج 1 ص 95. (3) المزهر ج 1 ص 97. (4) المزهر ج 1 ص 99. (5) المزهر ج 1 ص 100.

والترتيب الزمني كما أنه كان يعني العناية الكبرى بوثاقة المادة اللغوية وصحتها نظرا لطبيعة منهجه النقلي الحديثي الذي يصب عنايته على النقول وصحة الأسانيد، وهذه النظرة إلى اللغة إنما أتتها من كونها لغة يعتمد عليها في تفسير القرآن والحديث واستنباط الأحكام الشرعية، ونظرا لصلتها الوثيقة بالدين بصفة عامة، مما جعل القوم يهتمون بالحديث عن صحتها وثبوتها ووثاقاتها.

اثبات الأسماء بالقياس

اثبات الأسماء بالقياس تناولت في بحثي عن ظاهرة القياس هذا الموضوع بشيء من التفصيل وقد بينت أنه من مباحث الأصوليين الهامة، كما وجدت له إشارات هامة لدى اللغويين، وهو يقوم على أمرين: أولهما النظر في بعض الأسماء لمعرفة المعنى الذي اشتق منه الاسم أو وضع له، وثانيهما إذا ما تحقق هذا المعنى في اسم غير الاسم السابق أمكن إطلاق الاسم الأول على الاسم الثاني على اعتبار أن هذه التسمية حقيقية وليست من قبيل المجاز. وهم يمثلون لهذا القياس باثبات اسم الخمر للنبيذ على أساس أنها تسمية حقيقية لغوية، وليست تسمية مجازية، ذلك أن الخمر إنما سميت خمرا لأنها تخمر العقل، وقد تحقق هذا المعنى في النبيذ فأمكن إطلاق اسم الخمر عليه «1». وقد تبين لي أن جمهور الأصوليين واللغويين ينكرون ثبوت اللغة بالقياس على النحو السابق حتى ابن فارس- الذي حاول أن يطرد الاشتقاق في اللغة وأن يرد ألفاظها إلى معان مشتركة، فقرر أن «للغة العرب قياسا وأن العرب تستق بعض الكلام من بعض .. إلى آخره» «2»، وطبق هذه الفكرة في معجمه مقاييس اللغة-، لم يجز هذا النوع من القياس بل قرر أنه «ليس لنا اليوم أن نخترع في اللغة ولا أن نقول غير ما قالوه ولا أن نقيس قياسا لم يقيسوه لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها، ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسا نقيسه الآن نحن» «3». وقد أورد السيوطي في الحديث عن هذا الموضوع نقولا عن بعض الأصوليين توضح إنكارهم لثبوت اللغة بالقياس وهجومهم على من يقول بهذا الرأي،

_ (1) المستصفى ج 1 ص 322. (2) الصاحبي في فقه اللغة ص 33 (3) الصاحبي في فقه اللغة ص 33.

فنقل عن الكيا الهراسي وابن برهان وإمام الحرمين والغزالي نقولا ينكر فيها أصحابها ثبوت اللغة على هذا النحو. والواقع أن موقف هؤلاء صحيح تماما، وهو ما كانت له السيادة في البيئتين الأصولية واللغوية، ذلك أنهم لاحظوا أن اللغة لا يطرد فيها تسمية الأشياء بحسب المعاني، فالبنج لا يسمى خمرا وإن كان يخامر العقل، والدار لا تسمى قارورة وإن كانت الأشياء تستقر فيها، كما أن الواقع اللغوي الذي يرى اللغة ظاهرة اجتماعية قائمة على الاصطلاح والمواضعة بين أبناء المجتمع يثبت أن معاني الألفاظ إنما حددها ما تعارف عليه المجتمع، وأن تطور الدلالات أو تغيرها تعميما أو تخصيصا أو تضادا يخضع لقوانين معينة ليس من بينها هذا القياس العقلي النظري المجرد، ولذلك فلقد أصاب القدماء في إنكارهم ثبوت اللغة على النحو السابق لأنه تعميم للدلالة أو تغيير لها دون وضع اعتبار لما تعارف عليه المجتمع الناطق لها من تعيين كل لفظ بازاء دلالة معينة، ودون أن يكون هذا التغيير حادثا عن طريقه الطبيعي، ولذلك فقد نص هؤلاء المنكرون على أن اللغة إنما تثبت نقلا عن العرب. وليس هذا المبحث كما يبدو مبحثا نظريا عقليا تماما، بل هو مبحث عملي يهتم به الأصوليون لصلته بالحكم الشرعي واحتمال تغيره تبعا لتغير مدلول اللفظ أو تعميم هذا المدلول أو تخصيصه، فمن يسمي النبيذ خمرا لتحقق معنى المخامرة فيه يدخله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «حرمت الخمر لعينها»، ولذلك فانكارهم ضروري لتفسير نصوص القرآن والسنة المتصلة بالأحكام الشرعية بحسب الدلالات التي كانت لألفاظها أوان البعثة وقبل أن يطرأ تغير أو تطور لهذه الدلالات، ذلك أن هذا القياس مبناه على تعميم دلالات خاصة فكأنه يعطي بعض الألفاظ ما لم يكن لها وما لم يعرفه المجتمع الناطق لها، وفي ذلك خطورة على النص الشرعي. ويتصل بحث هذا الموضوع بنشأة اللغة فقد يتصور أن من يقول بكونها مواضعة واصطلاحا يمكن أن يجيز هذا النوع من القياس، ومن يقول بالتوقيف لا يجيزه، ولكنّ الحقيقة أننا لا نرى من بين القائلين بالمواضعة أو المتوقفين في

نشأة اللغة من ينتصر لهذا القياس ويرى ثبوت الألفاظ به، وهو ما عبر عنه السيوطي بانكار جواز قلب اللغة «1»، وفي هذا دلالة على النظرة الواقعية إلى حد كبير في اللغة، ذلك أن حقيقة إنكار هذا النوع من القياس فضلا عن صلته بالأحكام الشرعية تكمن في أن هذه الألفاظ لم يتح لها من تعارف مجتمع الناطقين بها ما يسوغ استعمالها، فاللغة مواضعة بين جميع الناطقين وهي من صنع المجتمع، وليست من صنع فرد أو مجموعة من الأفراد. إنّ بحث القدماء لا سيما الأصوليين لهذا الموضوع يؤكّد إدراكهم الصحيح لعرفية اللغة، وأنّ دلالات ألفاظها عرفية لا يجوز للعقل أن يتدخل في تغييرها أو تبديلها ولذلك يكثر عند الأصوليين أن يقولوا «لا مجال للعقل في اللغات» أو «لا قياس في اللغات» وهم يعنون ما بيناه من تأكيد هذه العرفية، ويدحض ما يتوهمه بعض الدارسين المحدثين الذين يتصورون أن المعنى عند الأصوليين عقلي.

_ (1) الاقتراح في علم أصول النحو ص 7.

الفصل الثاني

الفصل الثاني النحو أريد بهذا الفصل أن يكون إكمالا لحديثنا السابق عن لغوية السيوطي، فالصلة بين اللغة والنحو جد وثيقة، وقد فهم النحاة العرب هذه الصلة التي يتضح منها أن النحوي يبدأ عمله من حيث ينتهى اللغوي، ولكنهما يلتقيان في مرحلة من المراحل، ويكاد يكون بحثهما واحدا، وقد حدد عبد اللطيف البغدادي الفرق بينهما بقوله: «اعلم أن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه، وأما النحوي فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه، ومثالهما المحدّث والفقيه، فشأن المحدث نقل الحديث برمته، ثم ان الفقيه يتلقاه ويتصرف فيه، ويبسط فيه علله، ويقيس عليه الأمثال والأشباه» «1». وقد أغفل هذا التحديد جانبا هاما من عمل اللغوي، وهو وصف الظواهر اللغوية المتعلقة بالأصوات والدلالات والأبنية وغيرها مما سبق لنا بيانه والحديث عنه، كما أن مهمة النحوي تبدأ بالتثبت من صحة المنقول من اللغة، وكأنه بذلك يشارك اللغوي نفس مهمته، وقد عرف عن كثير من النحاة مشاركتهم في رواية اللغة وبصرهم بها فضلا عما قاموا به من جهود نحوية كبيرة. وإذا كان ثمة تداخل بين ما يقوم به اللغوي وبين ما يقوم به النحوي، وإذا كان مفهوم الدراسة اللغوية في عصرنا قد أصبح أعم وأوسع من مفهوم هذه الدراسة عند القدماء، حيث أصبح اللغويون المحدثون يتناولون نحو معظم اللغات تحت موضوعين أساسيين هما المورفولوجيا Morphology والنظم، Syntax وهما فرعان أو مستويان من مستويات الدراسة اللغوية التي تضم

_ (1) المزهر ج 1 ص 59.

إليهما الدراسات الصوتية والمعجمية والدلالية، بالإضافة إلى القضايا اللغوية العامة، إذا كان هذا هو مفهوم الدراسة اللغوية الحديثة فإننا نريد بهذا الفصل دراسة المستوى النحوي الذي يشمل أيضا الدراسة الصرفية. وسنبدأ بالتعريف بآثاره النحوية بصفة عامة لنصل بعد ذلك إلى دراسة جهوده في النحو وأهمها دراسته لأصول النحو التي كان له فيها جهد كبير وفضل لا ينكر، ثم نحاول تبين مذهبه النحوي من خلال آرائه المتناثرة في كتبه فضلا عما نسترشد به من أفكار تتصل ببيئته وشيوخه وتكوين منهجه مما عرضنا له من قبل.

آثاره النحوية

آثاره النحوية عدد السيوطي لنفسه ثلاثين مصنفا في فن العربية وتعلقاته «1»، بيد أنه لم يستوف بذلك جميع ما نسب إليه، وقد وقفت على جملة صالحة من هذه الآثار ما بين مطبوع ومخطوط، ولا أرى بأسا في أن أتناول هذه الآثار بالتعريف، ويبدو أن ما لم يذكره مما نسب إليه قد أتمه بعد كتابة ترجمته التي سرد فيها أسماء كثير من مصنفاته. ويضرب السيوطي بمؤلفاته النحوية أمثلة لجميع أنواع التصنيف التي عرفت في عصره، فقد نظم النحو في ألفية أراد بها أن يفوق ألفية ابن مالك، وله موشحة في النحو، وجملة من الحواشي والشروح بعضها على متون أو منظومات له، وبعضها على منظومات أو متون لغيره، بالاضافة إلى جملة من المصنفات والرسائل في بعض المسائل الجزئية. وقد حاول بمؤلفاته أن يطرق جميع الجوانب النحوية، وأن يسد الفراغ الذي رآه في بعض هذه النواحي، فقد صنف في الأصول، وفي نشأة النحو، وحاول أن يجاري سابقيه في بعض المصنفات كشرح الألفية، وأن يستقل عنهم في بعضها كجمع الجوامع وشرحه همع الهوامع، كما وضع مصنفا نحويا على نمط مصنفات الفقه وهو الأشباه والنظائر وسنعرض فيما يلي لهذه الآثار: 1 - الأخبار المروية في سبب وضع علم العربية: (طبعت مع مجموعة التحفة البهية والطرفة الشهية من ص 49 - 53). رسالة صغيرة له أورد فيها الروايات التي تتحدث عن بداية اللحن في زمن الصحابة، وبداية التفكير في وضع أصول لضبط القراءة والكلام، وهذه النقول

_ (1) حسن المحاضرة ج 1 ص 193 - 194.

2 - الأشباه والنظائر في النحو:

بعضها ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بداية التفكير في وضع النحو، وبعضها ينسب هذه النشأة إلى أبي الأسود أو إلى غيره من طبقة تلاميذه، وقد اختتما بالحديث عن وضع الصرف ونسبة أوليته إلى معاذ بن مسلم الهراء. وتبدو في هذه الرسالة عناية السيوطي بمحاولة تحديد نشأة النحو، بيد أنه يطبق منهجه النقلي في هذه الرسالة فهو لا يبدي تعليقا على أحد هذه النقول، ولم ينتقد سوى الوهم الذي وقع فيه شيخه الكافيجي من نسبة الصرف إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه، حيث ذكر السيوطي أن صحة هذه النسبة أن تكون إلى معاذ بن مسلم الهراء. 2 - الأشباه والنظائر في النحو: (مطبوع: حيدرآباد 1318 هـ). بين السيوطي في مقدمة كتابه أن السبب الحامل له على وضع هذا الكتاب هو أن يسلك بالعربية سبيل الفقه على مثال ما صنفه المتأخرون من الفقهاء من كتب الأشباه والنظائر، وقد تحدث السيوطي عن أنواع الموضوعات الفقهية التي تناولتها المصنفات الفقهية، وبين أن هذه الأنواع قد اجتمعت في كتاب «الأشباه والنظائر» لتاج الدين السبكي، وقارنه بغيره من مصنفات الفقهاء التي لم تستوف جميع الموضوعات. وقد أراد السيوطي لكتابه هذا أن يسير على منهج كتاب السبكي الموضوع في الفقه وقد صرح بذلك في قوله: «وهذا الكتاب الذي شرعنا في تحديده في العربية يشبه كتاب القاضي تاج الدين الذي في الفقه فإنه جامع لأكثر الأقسام، وصدره يشبه قواعد الزركشي، من حيث إن قواعده مرتبة على حروف المعجم» «1». وقد رتب السيوطي كتابه على سبعة فنون الأول: فن القواعد والأصول التي تردّ إليها الجزئيات والفروع وهذا مرتب على حروف المعجم، وهو معظم الكتاب، وقد تناول فيه كثيرا من مباحث النحو كالاشتقاق والشرط والاضافة وغير ذلك، وهذا القسم يستغرق الجزء الأول من الكتاب. وقد وضع لكل قسم من هذه الأقسام السبعة عنوانا مستقلا قدم له بخطبة

_ (1) الأشباه والنظائر ج 1 ص 5.

فسمى القسم الأول «بالمصاعد العلية في القواعد النحوية» وقد اكتفى في التقديم له بالخطبة الأولى للكتاب. والثاني: فن القواعد الخاصة والضوابط والاستثناءات وهو مرتب على الأبواب لاختصاص كل ضابط ببابه فبدأ بباب الكلمة ثم باب الاسم فباب الفعل وهكذا، ووضع له اسما هو «التدريب» وقد استغرق- في هذه الطبعة- من بداية الجزء الثاني إلى صفحة 103 من الجزء نفسه. والثالث: بناء المسائل بعضها على بعض وقد سماه «بسلسلة الذهب في البناء من كلام العرب»، ويستغرق هذا القسم من ص 153 بالجزء الثاني إلى ص 171 وقد أشار في المقدمة إلى أنه ألف من قبل في هذا الموضوع تأليفا لطيفا سماه «السلسلة» مقتفيا أثر الجويني الذي صنف في الفقه في هذا الموضوع بنفس الاسم والزركشي الذي صنف في الأصول باسم «سلاسل الذهب»، ولا نشك في أن ما أورده السيوطي هنا هو نفس مصنفه القديم مع بعض زيادات قد أضافها. وقد بدأ السيوطي هذا الفن بالكلام على بناء فعل الأمر فهو مبني عند البصريين ومعرب مجزوم بلام محذوفة عند الكوفيين، والخلاف هنا مبني على الخلاف في ثلاث مسائل الأولى: هل الاعراب أصل في الفعل؟، والثانية: هل يجوز إضمار لام الجزم؟ والثالثة: هل الأمر صيغة مستقلة بنفسها مرتجلة ليس أصلها المضارع أو هي صيغة مغايرة وأصلها المضارع؟. الرابع: في الجمع والفرق وقد سماه «اللمع والبرق في الجمع والفرق»، ويستغرق من ص 171 من الجزء الثاني إلى ص 264 من نفس الجزء، وقد بين فيه جملة فروق كالفرق بين ضمير الشأن وسائر الضمائر. الخامس: الألغاز والأحاجي والمطارحات والممتحنات وقد سماه «الطراز في الألغاز»، ويشمل من ص 265 إلى آخر الجزء الثاني ص 323. السادس: في الأفراد والغرائب، وقد سماه «التبر الذائب في الأفراد والغرائب» ويستغرق من بداية الجزء الثالث إلى ص 14 منه.

3 - الاقتراح في علم أصول النحو:

والسابع: المناظرات والمجالسات والمذاكرات والمراجعات والمحاورات والفتاوى والواقعات والمكاتبات والمراسلات، ويشمل من ص 15 بالجزء الثالث ثم جميع الجزء الرابع إلى نهاية الكتاب. والذي يعنينا مما سبق بيان تأثر السيوطي بالعلوم الاسلامية تأثرا كبيرا بحيث تركت هذه العلوم أثرها في عقله ومنهجه في التفكير والتأليف، وقد سبق أن بينت أن الحديث والفقه والعربية هي الفنون الثلاثة التي أجادها السيوطي وبلغ فيها درجة الاجتهاد، وقد تبين لنا من قبل أثر الحديث ومناهج المحدثين في كتابه المزهر الذي حاول فيه وضع أصول لنقد الرواية اللغوية تحاكي أصول الحديث، وهنا يتبين جانب آخر من آثار هذه العقلية الاسلامية الخالصة التي تمثلت العلوم الاسلامية في محاولة تصنيف المسائل النحوية على نمط المسائل الفقهية. ولقد كان السيوطي يدرك الصلة بين النحو والفقه وسنتحدث بعد قليل عن جهوده في أصول النحو التي تحاكي أصول الفقه، وهو هنا يطبق هذه الصلة بين فروع النحو وبين فروع الفقه، وقد نقل عن ابن الأنباري ما يؤكد هذه الفكرة، وهي أن «النحو معقول من منقول كما أن الفقه معقول من منقول» «1». وتطبيق السيوطي منهج المحدثين في رواية اللغة، ومنهج الأصوليين في وضع أصول للنحو، ومنهج الفقهاء في تصنيف فروع اللغة ومسائلها وربطه في جميع ذلك بين اللغة وبين علوم الحديث والفقه والأصول يلفتنا إلى فكرة هامة سبق أن أشرنا إليها وهي أن نظرته ونظرة القوم إلى اللغة كانت تحمل في طياتها كثيرا من التحرج والعناية والتحقيق الذي نجده في نظرتهم إلى العلوم الدينية، وكان تناول اللغة يتخذ منطلقه من هذه الزاوية. 3 - الاقتراح في علم أصول النحو: (مطبوع، رجعت إلى الطبعة الثانية حيدرآباد 1359 هـ). يعد أهم مصنفات السيوطي في النحو، ومن أهم مصنفاته على الاطلاق،

_ (1) الأشباه والنظائر ج 1 ص 5.

4 - الفريدة:

وسنتناوله بشيء من الدرس المفضل بعد قليل حين نتحدث عن علم أصول النحو لنتبين دور السيوطي في إقامة دعائم هذا العلم. 4 - الفريدة: (وهي الألفية النحوية للسيوطي، طبعت بالقاهرة عام 1332 هـ)، وبصدرها عبارة منسوبة للسيوطي وهي «هذه الألفية لخصت فيها ما في ألفية ابن مالك في ستمائة بيت وزدتها أربعمائة بيت من القواعد والزوائد ما لا يستغني طالب العلم عنه»، وقد وضح ما زاد، في منظومته على ابن مالك بوضعه بين قوسين، ويبدو أن ذلك الترقيم منقول عن النسخة الأولى التي كتبها السيوطي، وقد وقفت على صحة نسبة العبارة السابقة إليه «1». أراد السيوطي لمنظومته أن تزيد على منظومة ابن مالك التي قدّر لها من الشيوع والشهرة ما لم يقدر لغيرها من المنظومات النحوية، وقد قدم لها بمقدمة منظومة حمد الله فيها وصلى على نبيه وأشار إلى أهمية علم النحو ثم قال: فهذه ألفية فيه حوت ... أصوله ونفع طلاب نوت فائقة ألفية ابن مالك ... لكونها واضحة المسالك وجمعها من الأصول ما خلت ... عنه وضبط مرسلات أهملت ترتيبها لم يحو غيري صنعه ... مقدمات ثم كتب سبعة وهكذا صرح بأنه أراد أن يفوق ما قام به ابن مالك ثم بين ترتيب المنظومة في مقدمات ثم سبعة أبواب يشمل كل منها جملة من الفصول، ويتفق هذا الترتيب مع ترتيب ألفية ابن مالك في كثير من الأحيان، ولا يتخلف إلا في أحيان قليلة، ففي المقدمات تناول السيوطي الكلام وما يتألف منه، والمعرب والمبني، والنكرة والمعرفة، والعلم وأسماء الاشارة، والمعرف بالأداة، والموصول، ثم الموصول الحرفي، وهذه الفصول هي نفس ما تناوله ابن مالك في الألفية بيد أنه تحدث عن الموصول قبل المعرف بالأداة، كما أنه لم يتناول الموصول الحرفي، فهو من زيادات السيوطي على ابن مالك في ألفيته.

_ (1) ذكر السيوطي هذه العبارة أثناء شرحه على الألفية: المطالع السعيدة (مخطوط) ورقة 5 ص 10.

5 - المطالع السعيدة في شرح الفريدة:

وخصص السيوطي الكتاب الأول للعمد وهي المرفوعات والمنصوبات بالنواسخ، والثاني للفضلات، والثالث للمجرورات والمجزومات وما يتبعها، والرابع للعوامل، والخامس للتوابع، والسادس للأبنية، والسابع للتصاريف، واختتم الألفية بخاتمه في الخط، ونلاحظ أن هذا الترتيب هو نفس ما وضعه السيوطي في كتابه جمع الجوامع الذي شرحه بهمع الهوامع. وقد اقتضى هذا الترتيب من السيوطي ألا يتبع نفس ترتيب ألفية ابن مالك، بيد أنه تناول نفس الأبواب التي تناولها ابن مالك في منظومته مع اختلاف يسير في تسمية بعضها، وزيادة فصول قليلة. وقد أراد السيوطي بمنظومته أن يستدرك ما فات ابن مالك أو أن يفصل ما أجمله فهو يزيد على ما أوضحه ابن مالك في حديثه عن أقسام الكلمة إلى اسم وفعل وحرف يقول: فان على معنى بها قد دلت ... واقترنت بأحد الأزمنة فعل وإلا فهي اسم والتي ... بغيرها حرف وسم بالفضلة وليس السيوطي سابقا بهذا فكثير من شروح الألفية التي سبقته قد نصت عليه، ولكن منظومة ابن مالك لم تنص على هذا المعنى. والحق أن هذه المنظومة تدل على شخصية السيوطي النحوية وقد عنى هذه الزيادات والاستدراكات أو التغييرات التي قام بها عناية تامة واعية، وقد نبه على ذلك في شرحه الذي وضعه لهذه الألفية، كما نبه عليه في كتابه «النكت»، وإكمالا للقول في ألفية السيوطي يحسن أن نعرف بشرحها الذي وضعه لها وعنوانه: 5 - المطالع السعيدة في شرح الفريدة: (مخطوط ضخم الحجم بالخزانة التيمورية برقم 581 نحو، بدار الكتب المصرية). بدأ السيوطي شرحه بحمد الله والصلاة على نبيه ثم بين أنه تعليق على ألفيته المسماة بالفريدة ووصفه بأنه «كثير الفوائد العديدة وجم الفرائد المفيدة» «1»، ثم

_ (1) المطالع السعيدة ورقة 1 ص 2.

أورد البيتين اللذين افتتح بهما ألفيته وهما: أقول بعد الحمد والسلام ... على النبي أفصح الأنام النحو خير ما به المرء عني ... إذ ليس علم عنه حقا يغتني ثم أتبعهما بشرح مستفيض للبيت الأخير تناول في هذا الشرح ثلاثة موضوعات أولها في فضل النحو والحث على تعلمه فأورد جملة من الآثار في ذلك، ثم تحدث عن نشأة النحو وأول من نسب إليه وضع النحو، وقد نقل كثيرا من الروايات وذكرها بأسانيدها، وكثير منها هي نفس النقول التي أوردها في رسالته السابقة عن سبب وضع علم العربية، ثم تحدث عن الحاجة إلى تعلم النحو، وأن المفسر يشترط أن يكون مجيدا لعلم النحو وكذلك المحدث والفقيه والأصولي والبلاغي والأديب، واستشهد على ذلك بجملة من النقول، وعقب عليها بقوله: وبهذا الذي بيناه عرف تقدير قولي: «إذ ليس علم عنه حقا يغتني»، وقد استغرقت هذه الموضوعات التي تعد مقدمة لشرحه النحوي نحو عشر صفحات تميز أسلوبه فيها بالوضوح والسلاسة، وتميزت نقوله بالتعبير المصيب المناسب. وأخذ السيوطي يورد أبيات الألفية مجزأة، وأتبعها بالشرح والبيان، والحق أن أسلوبه في شرحه أسلوب سهل شديد الوضوح ليس فيه جفاف أساليب بعض النحاة، مع عناية بالحصر والتفصيل والاستدراك على السابقين، وتنسيق الأقوال المختلفة، وقد نص في شرحه على ما سبق ذكره من تلخيصه جميع ما في ألفية ابن مالك في ستمائة بيت وزاد عليها بأربعمائة بيت: «فيها من القواعد والفوائد والزوائد ما لا يستغني طالب النحو عنه، فبذلك فاقت ألفية ابن مالك، وفاقتها أيضا بالتنبيه على قيود أهمل ابن مالك ذكرها، وبكونها أوضح عبارة من عبارة الألفية» «1». والواقع أن السيوطي ليس مدعيا فيما يذهب إليه، فقد زادت ألفيته تفصيل بعض ما أغفله ابن مالك، كما أن نظمه أقرب إلى الفهم من نظم ابن مالك.

_ (1) المطالع السعيدة ورقة 5 ص 10.

والشرح- بطبيعة الحال- يتبع الأصل المنظوم في تقسيمه إلى مقدمات وسبعة كتب، وقد جنح السيوطي إلى هذا التقسيم تيمنا بالحديث: «إن الله وتر يحب الوتر، أما ترى السّماوات سبعا والأيام سبعا والطواف سبعا» «1»، وسنراه يكرر نفس التقسيم في كتابه جمع الجوامع الذي شرحه بهمع الهوامع. ويميل السيوطي في هذا الشرح إلى البسط والاطناب في القول فحين يشرح عبارته «كلامنا لفظ مفيد يقصد» يبدأ ببيان الدلالة اللغوية للكلام فيذكر أن الكلام يطلق على ستة أشياء هي الخط والاشارة المفهمة، وما يفهم من الحال، والتكليم، وما في النفس من المعاني، واللفظ وإن كان غير صالح للسكوت عليه، وبازاء كل عنصر من هذه العناصر يفيض في الشرح والاستشهاد بالأقوال شعرا ونثرا، ثم يحدّ الكلام في الاصطلاح ويذكر أن أحسن الحدود أنه «قول مفيد مقصود»، ويناقش ما يتصل بهذا الحد بأسلوبه كما يستشهد بغيره «2»، وكل ذلك يتصل بتعريف الكلام في اللغة والاصطلاح، أما تعريف الكلمة فيتناوله بعد أن يذكر قوله: «وعندنا الكلمة قول مفرد»، ويذكر بيتين بعده نص على أنهما وهذا الشطر من زياداته على الألفية، وهنا يبدأ ببيان ما تطلق عليه «الكلمة» في اللغة والاصطلاح، ثم يشرح البيتين اللذين يحد بهما الاسم والفعل والحرف. ولا تفتأ بين حين وآخر ترى مزج السيوطي الدرس النحوي الذي يعنى بوضع القواعد والضوابط ومناقشة الحدود والمصطلحات والعلل بما أفاده من درس اللغة والنظر في صيغها وأبنيتها ووصف ظواهرها، ومحاولة حصر بعض الفصائل اللغوية، فحين يتحدث عما يلزم البناء على الكسر يذكر من بين ذلك ما كان على وزن «فعال» وهو اسم فعل أمر كنزال ودراك، أو فعال وهو علم مؤنث كحذام وقطام، وفعال وهو نسب للمؤنث مثل يا خباث، حين يتحدث عن هذه الصيغة يذكر أن الصغاني قد ألف كتابا فيما ورد من فعال المبنى على الكسر من الأنواع الثلاثة في اللغة، وأنها بلغت مائة وثلاثين لفظة، وقد أوردها

_ (1) المطالع السعيدة ورقة 5 ص 10. (2) المطالع السعيدة ورقة 5، 6 ص 10 - 12.

السيوطي مصنفة بحسب الأقسام السابقة «1». وهذا الاتجاه نحو الحصر اللغوي في مثل هذه الحالات لا نكاد نجده في كتب النحو المعروفة لدينا، وهناك عديد من الأمثلة يلاحظها القارئ بالشرح تفيد وتؤكد هذا الاتجاه عنده من ذلك ما ذكره في المثنى من ألفاظ التغليب التي تصلح للتجريد ولا يصح عطف مثلها عليها كالقمرين للشمس والقمر، والعمرين لأبي بكر وعمر، والعمرين لعمرو بن جابر وبدر بن عمر ... إلى آخر ما أورده محاولا حصره في اللغة «2»، وحين تحدث عن الأعلام الأعجمية تطرف إلى كيفية معرفة عجمة الاسم وهو ما سبق أن عرضه بالمزهر ببحث المعرب «3». ويتضح في هذا الشرح تأثره بالنحاة المتأخرين لا سيما نحاة مصر الذين سبقوه بقليل فقد تأثر بأبي حيان ونقل عنه كثيرا، كما تأثر غاية التأثر بابن هشام، وله اختيارات يميل فيها إلى ما ينسب لهما، وهذا يدلنا على تأثر نحاة مصر المتأخرين بمذهب الأندلسيين، واتجاه النحو في مصر وجهة ذات طابع خاص يحس بها من ينظر في كتب هذه الطائفة من النحاة، وسنبين ذلك بعد. وقد أفاد في شرحه بما قام به ابن هشام في مصنفاته فنراه مثلا يتبعه في تقسيم المبنى ويصرح بذلك قائلا: «اعلم أني سلكت في هذه الألفية أحسن المسالك، وأوردت فيها محاسن كل كتاب، وقد قسم ابن هشام في الشذور المبنى تقسيما غريبا لم يسبق إليه وجعله على أقسام، وقد تبعته على ذلك الباب» «4»، بيد أن أسلوب السيوطي فيما عرضه يتميز بالوضوح والسلاسة والإيجاز وكثرة الأمثلة، على حين يكثر ابن هشام في هذا الباب من الاستطراد. وبالرغم من كثرة النقول التي تعود السيوطي أن يوردها في مصنفاته فاننا

_ (1) المطالع السعيدة ورقة 10 ص 19. (2) المطالع السعيدة ورقة 13 ص 25. (3) المطالع السعيدة ورقة 18 ص 36. (4) المطالع السعيدة ورقة 8 ص 16، شذور الذهب ص 68 وما بعدها.

6 - شرح ألفية ابن مالك،

نحس هنا بصفة خاصة انتقاءه لهذه النقول وانتقاده لها، ووضوح موقفه منها، أو نقدها من حيث صحتها، فحين ينقل عن البدر الدماميني رأيا في «غير» منسوبا للسيرافي لا يلبث أن يذكر أنه رأى في كلام السيرافي ما يخالفه «1». وإذا كان ضيق المكان يحتم علينا أن نجمل حكمنا على هذا الشرح، فانه لا يسعنا بعد ما قدمنا من أوصافه إلا أن نقرر أنه من أبسط الشروح النحوية وأوفاها، وأكثرها وضوحا واستيفاء، مع ما يتميز به من تناول كثير من المسائل التي أغفلها النحويون وبالرغم من حرصه على ذكر كثير من العلل النحوية فانه يوردها بأسلوب واضح قريب المأخذ. 6 - شرح ألفية ابن مالك، يسمى «النّهجة المرضية في شرح الألفية» سبق لنا أن بينا في حديثنا عن الحياة الثقافية في مصر عناية القوم بالمتون والشروح، وذكرنا أن مما حظى بتوفر الشراح عليه منظومة ابن مالك المعروفة بالألفية، وقد ترسم السيوطي خطى هذا العرف السائد في عصره، فتناول هذه المنظومة التي شرحها من قبل كبار النحاة، وأشهر شراح الألفية قبل السيوطي ابن عقيل (769 هـ) ويمتاز شرحه بالسهولة والوضوح والبعد عن التعقيد، وقد تتبع في شرحه نظم ابن مالك بالبيان منبها في قليل من الأحيان على ما يخالفه، وفي أكثر الأحيان يوافق ابن مالك ويدفع عنه هجوم ابنه عليه، وقد عاصره ابن هشام (761 هـ) الذي ألف كتابه «أوضح المسالك» ولم يلتزم فيه بنص الألفية بل تناول موضوعاتها، ونبه في حديثه على ما يوافق ابن مالك فيه وما يخالفه، وقد نص في مقدمته على ذلك في قوله: «وربما خالفته في تفصيله وترتيبه» «2». وثمة شروح أخرى سبقت السيوطي وشروح لحقته كشرح الأشموني (929 هـ)، ولولا ضيق المقام لتناولنا بعضها بالمقارنة بشرح السيوطي، وإنما نكتفي بأن نبين ما تميز به شرحه، ويمتاز هذا الشرح بالتوسط بين الايجاز والإطناب، ويعمد فيه صاحبه إلى بيان مقصود الناظم بعباراته الواضحة مع

_ (1) المطالع السعيدة ورقة 10 ص 20. (2) شرح أوضح المسالك المسمى بمنار السالك ج 1 ص 4.

7 - جمع الجوامع وشرحه همع الهوامع:

إكثار من الأمثلة، منبها في بعض الأحيان على بعض ما فات الناظم، ولكنه بصفة عامة لا يخالف الناظم إلا قليلا. وقد عبر السيوطي عن منهجه في شرحه بقوله: إنه شرح «يبين مراد ناظمها، ويهدي الطالب إلى معالمها، ولأبحاث منها ريح التحقيق تفوح، وجامع لنكت لم يسبقه إليها غيره من الشروح» «1». وقد كتب هذا الشرح قبل أن يكتب شرحه على ألفيته التي حاكى بها ألفية ابن مالك وحاول فيها الاستدراك عليه، ولذلك نلاحظ التشابه الكبير بين الشرحين، ويمكن أن نقول إنه في شرحه المتأخر قد أفاد من شرحه لألفية ابن مالك، ولهذا فان شرحه المسمى بالمطالع السعيدة جاء في صورة أقوى وأوضح وأكثر دقة من شرحه على ألفية ابن مالك، وسبب ذلك قيامه به بعد أن استحصدت قوته وقويت ملكته بحيث أفاد من جهوده السابقة، ولا يغض هذا من شأن شرحه على الألفية. 7 - جمع الجوامع وشرحه همع الهوامع: يعدّ أجمع كتب السيوطي في النحو، ومن أجمع الكتب النحوية على الاطلاق ان لم يكن أجمعها وأوفاها، فقد احتوى كثيرا من المسائل التي أغفلتها الكتب النحوية كما حرص على ذكر الآراء المختلفة والأقوال المتنوعة، ولا يكاد يترك موضوعا إلا بعد استيفائه وذكر جميع الآراء فيه، وبالرغم من حشده بكثير من الأقوال فشخصية صاحبه تبدو واضحة في عرض الموضوع وتلخيصه ونسبة الأقوال واختيار أرجحها وتعليلاته لاختياراته المتنوعة. ومما يدل على ما بذل السيوطي فيه من جهد قوله في مقدمته: «وجمعته من نحو مائة مصنف فلا غرو أن لقبته جمع الجوامع» «2». وقد قسم كتابه إلى مقدمات ثم سبعة كتب، وهو نفس التقسيم الذي اتبعه

_ (1) النّهجة المرضية ص 2. (2) همع الهوامع شرح جمع الجوامع ج 1 ص 2.

في «المطالع السعيدة»، وقد نص هنا أيضا على ما ذكره هناك من أنه حذا في هذا الترتيب حذو كتب الأصول، وفي جعله سبعة أقسام مناسبة لطيفة مأخوذة من حديث ابن حبان «إن الله وتر يحب الوتر ... الحديث» «1». وقد درج في كتابه على أن يورد نص متنه منبها عليه بأنه الأصل ثم يتناوله بالشرح، أي أنه يفصل بين المتن والشرح، واستمر على ذلك إلى بداية الكتاب الثالث في المجرورات «2»، فعدل عن هذه الطريقة إلى طريقة المزج وقد نبه على ذلك بما يوضح طريقة شرحه في سائر الكتاب بقوله: «واعلم أني لما شرعت في شرحه كنت بدأت أولا بشرح النصف الثاني فكتبت من أول الكتاب الثالث إلى أثناء جمع التكسير على طريقة المزج، ثم بدا لي أن أغير الأسلوب، فشرحت من أوله على النمط المتقدم، وكان في نيتي الاستمرار على هذه الطريقة إلى آخر الكتاب، والغاء القطعة التي كتبتها أولا ممزوجة، ثم لما ضاق الزمن عن ذلك أبقيت كل قطعة على حكمها، وضممت هذه القطعة إلى تلك ووصلت بينهما، ولا يضر كون الشرح على أسلوبين نصفه بلا مزج، ونصفه ممزوج، ونعود هناك إن شاء الله إلى تكملة بقية الكتاب من جمع التكسير إلى آخره على طريقة أوله» «3». وهذا الكتاب يمثل بحق نهاية التدرج في التأليف النحوي، فهو يعد مجسما لعلم النحو بما آل إليه أمره في البيئة المصرية في أواخر عهد ازدهارها ونشاطها، وقد احتوى جهود السابقين وأفاد من تجاربهم ودرسهم، وعرض به صاحبه محصلة الدرس النحوي بمدارسه السابقة ونحاته المتعددين عرضا متأثرا بالبيئة التي نشأ فيها، وبما آل إليه أمر الدرس النحوي فيها، وبطبيعة هذه البيئة وخصائصها، وما تفرضه من الوضوح والبسط وحسن التنسيق في التأليف وما تؤديه بوصفها وارثة علوم الأجيال السالفة، قائمة على حفظها وتمثلها وحسن تعهدها.

_ (1) همع الهوامع ج 1 ص 3. (2) المصدر السابق ج 2 ص 19. (3) نفس المصدر ج 2 ص 19.

8 - النكت على الألفية لابن مالك، والكافية والشافية لابن الحاجب، وشذور الذهب ونزهة الطرف لابن هشام:

8 - النكت على الألفية لابن مالك، والكافية والشافية لابن الحاجب، وشذور الذهب ونزهة الطرف لابن هشام: (مخطوط ضخم الحجم يقع في 328 ورقة أي يستغرق 656 صفحة، بدار الكتب برقم 5815 هـ). يعد هذا الكتاب دراسة نقدية لهذه المؤلفات النحوية، ولكن هذا النقد يتسم بروح العصر وطابعه، ولذلك فهو حريص على انتقاد التعريفات والحدود النحوية والمقارنة بينها في محاولة للوصول إلى أكثرها جمعا ومنعا، أو أصحها وأدقها وأنسبها من وجهة نظر السيوطي. وقد وصف السيوطي عمله ومنهجه ونظام كتابه بقوله: إنه «نكت حررتها على كتب في علم العربية عم النفع بها وكثر تداولها وهي ... أذكر ما يرد على العبارة مع جوابه إن كان، وأنبه على ما اختلف فيه كلام مصنفيها في سائر كتبهم المختصرة كالتسهيل والكافية الكبرى والعمدة وسبك المنظوم لابن مالك، والوافية لابن الحاجب والقطر الجامع لابن هشام، وأشيع في الكلام بأقصر عبارة، وألخص فيه متفرقات كلام شراح هذه الكتب، وما وقفت عليه من تعاليق ابن هشام على الألفية والتسهيل معزوا إليه، وأشير فيه إلى مقاصد الشرح الوجيز الذي وضعته على الألفية، واتبع فيه ترتيب الألفية في المسائل والأبواب» «1». ويتسم الكتاب بطابع الملاحظات الدقيقة التي ينبه عليها السيوطي، وتدل تسميته بالنكت على ذلك، فهو لا يفتأ يفضل عبارة مؤلف على عبارة مؤلف آخر، ولا يفتأ يفضل حدا من الحدود النحوية لمصنف على ما ذكره مصنف آخر معللا ذلك تعليلا يبين أوجه النقص والكمال، وتبدو شخصية السيوطي واضحة في مناقشة هؤلاء الأئمة من النحاة، وتظهر ثقته بعلمه وأقواله، فهو مثلا بعد أن تناول باب «الكلام وما يتألف منه» وانتقد حدود النحاة السابقين نقدا مفصلا لا يلبث أن يقول: «إذا علمت ما تقدم تقريره في هذا الباب علمت حسن قولي في ألفيتي التي سميتها الفريدة:

_ (1) النكت ورقة 1 ص 2.

كلامنا لفظ مفيد يقصد ... وعندنا الكلمة قول مفرد» «1» ثم يورد أبيات هذا الباب التي ذكرها هناك إلى آخرها منبها بذلك على ما تحراه من الدقة والصواب في الحد والعبارة الأمر الذي لم يتسنّ لأئمة النحاة من قبله. وفي بعض الأحيان يوجه السيوطي نقده إلى ابن الحاجب وابن مالك وابن هشام جميعا وفي أخرى يخص بالنقد أحدهم، فهو مثلا يضع فصلا باسم «أفعال المقاربة» ثم يقول: «هكذا ترجم الثلاثة وفيه أمران: أن في الترجمة بذلك تغليبا لأن من أفعال الباب ما هو للرجاء، وما هو للشروع، قلت: وان الأولى أن يترجم بكاد وأخواتها مناسبة لسائر النواسخ» «2»، والأمر الثاني ينتقد فيه وضع ابن مالك هذا الباب عقب بابي التعجب ونعم وبئس في كتابه العمدة، وكان الحق أن يوضع في النواسخ. ولا يقتصر نقده في كتابه على الحدود النحوية والعبارات بل يتجاوزه إلى تقسيمات هؤلاء المصنفين وآرائهم النحوية في أحيان كثيرة، فقد تعقب في باب أفعال المقاربة تصنيف هؤلاء المؤلفين لهذه الأفعال وانتقدهم في كثير من المواضع، وخص بالنقد صاحب الكافية، ومن بين ما وجهه إليه اعتباره «كرب» من أفعال الشروع، والمشهور خلافه، كما انتقده في كونه لم يذكر في أفعال الشروع سوى ثلاثة أو خمسة ... وغير ذلك من وجوه النقد «3». والواقع أن هذا المؤلف يدل على شخصية السيوطي النحوية واعتداده البالغ بآرائه، وحسن مناقشته وتعليله الذي لم ينس فيه أن يعتمد على النقول مؤيدا أفكاره ولكن هذه النقول لا تطغى على شخصيته كما عهد عليه كثيرا، بل يسوقها للاستدلال والاحتجاج لما يريده. وقد استغرق الكتاب جهدا كبيرا من صاحبه، وقد عبر عن ذلك في آخره

_ (1) النكت ورقة 26 ص 52. (2) المصدر السابق ورقة 99 ص 199. (3) نفس المصدر ورقة 100 ص 201.

9 - الفتح القريب على مغني اللبيب:

حيث ذكر أنه ابتدأه سنة 867 هـ، فكتب منه إلى نهاية المعرب والمبني، ثم عاود الكتابة عام 876 هـ، فكتب من حروف الجر إلى آخر عطف البيان، ثم فتر العزم عنه إلى سنة 885 هـ فكتب مما بعد المعرب والمبني إلى حروف الجر، وقد أتمه بصفة كاملة عام 895 هـ «1»، وقد اختتمه بمنظومة من سبعة أبيات تبين اعتداده به والجهد الذي بذله يقول فيها «2»: ثلاثين عاما ظلت أرقب جمعه ... وأجمع فيه ما تفرق في النقل يحرر كتبا عم في الناس نفعها ... وسارت بها الركبان في الوعر والسهل يقيد اطلاقا ويوضح مبهما ... ويفتح أغلاقا لما كان في قفل وكم فيه من نقل عزيز وجوده ... يعز على من رام إلا على مثلي فدونك تأليفا مفيدا محررا ... من الناس لم يسمح بذا أحد قبلي وقد عرف هذا الكتاب في عصر السيوطي ومن بعده، فالصبان في حاشيته ينقل عنه في بعض الأحيان «3»، ويستدرك بنقوله عنه أحيانا ما فات الأشموني شارح الألفية «4»، أو ما لم يوفق فيه الناظم «5». 9 - الفتح القريب على مغني اللبيب: حاشية له على المغني لم أقف عليها، وقد ذكرها بكتابه الذي خصصه لشرح شواهد المغني في قوله: «فإن لنا حاشية على مغني اللبيب لابن هشام مسماة بالفتح القريب، أودعتها من الفوائد والفرائد والغرائب والزوائد ما لو رامه أحد غيري لم يكن له إلى ذلك سبيل ولا فيه نصيب» «6». وقد ذكر السيوطي هذا المصنف بحسن المحاضرة، وذكره صاحب هدية العارفين وقد خلط سركيس في معجمه بين هذا الشرح أو هذه الحاشية وبين

_ (1) النكت ورقة 327 ص 655. (2) المصدر السابق ورقة 328 ص 656. (3) حاشية الصبان على شرح الأشموني ج 1 ص 53. (4) حاشية الصبان على شرح الأشموني ج 1 ص 62. (5) المصدر السابق ج 1 ص 96. (6) شرح شواهد المغنى ص 2.

10 - شرح شواهد المغني:

شرح الشواهد الذي سنعرف به بعد، وهما كما حدد السيوطي كتابان مستقلان، ولم أتمكن من الوقوف على هذا المصنف مطبوعا أو مخطوطا. 10 - شرح شواهد المغني: كان السيوطي في شرحه على المغني قد تناول الشواهد على وجه مختصر، ثم خطر له- كما حكى عن نفسه- أن يفرد الكلام على الشواهد، وهو يوضح منهجه ويحدده تحديدا واضحا اتبعه والتزم به في كتابه بقوله: «أورد أولا البيت المستشهد به، ثم أتبعه بتسمية قائله، والسبب الذي لأجله قيلت القصيدة، ثم أورد من القصيدة أبياتا استحسنها، إمّا لكونها مستشهدا بها في مواضع أخر من الكتاب، فأوردها ليعلم أن الجميع من قصيدة واحدة، أو لكونها مستشهدا بها في غيره من كتب العربية والبيان، أو لكونها مستعذبة النظر مستحسنة المعنى لاشتمالها على حكمة أو مثل أو نادرة أو وصف بليغ أو نحو ذلك، وإن كان البيت من مقطوعة وهي ما لم يزد على عشرة أبيات ذكرتها بكمالها، وقد أذكر قصيدة بكمالها لقلة أبياتها وكونها مما يستحسن كقصيدة السموأل التي أولها: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه، أو لكون المصنف استشهد بكثير من أبياتها كقصيدة الأعشى التي أولها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا، ثم أتبع ما أورده من الاستشهادات العربية والنكت الشعرية، وما يتعلق بها من فائدة ونادرة، وأتبع ذلك بالتعريف بقائلها وذكر نسبه وقبيلته وعصره، وهل هو جاهلي أو مخضرم أو إسلامي؟ مراعيا في كل ذلك الطريق الأوسط لا مجحفا في الاختصار، ولا مبالغا في الاطناب والاكثار» «1». وقد التزم السيوطي بهذا المنهج الذي اختطه لنفسه التزاما دقيقا، ونبه في مقدمته كذلك على جملة صالحة من شروح الدواوين وكتب الأدب واللغة التي اعتمد عليها في شرحه. والواقع أن هذا الشرح يعبر عن ذوق السيوطي الأدبي في اختيار ما يستحسنه من الأشعار، فهو حريص على إيراد الجيد من الشعر من القصائد التي تؤخذ

_ (1) شرح الشواهد المغنى ص 2، 3.

11 - الشمعة المضية في علم العربية:

منها الشواهد، وفي بعض الأحيان يدفعه كلفه الأدبي إلى إيراد قصة تتصل من قريب أو من بعيد بما هو فيه ليذكر بعض ما يستحسن من الشعر، ثم يأخذ في شرحه وبيان معانيه، أو نقل ما يتصل به من أخبار، ولذلك فالشواهد الأولى لا تخطى بعنايته وكأنه إنما يوردها لتكون سببا يتوصل به إلى إنشاد ما يستعذب من الشعر ويقع اختياره في أكثر الأحيان على أبيات النسيب والغزل الرقيق. وفضلا عن ذلك فهو دراسة لهذه المادة اللغوية التي استخرجت منها المقاييس النحوية وتناول لمعظم الشواهد التي وردت بكتب النحاة. 11 - الشمعة المضية في علم العربية: (مخطوط بدار الكتب بالخزانة التيمورية برقم 127 نحو، في ثماني صفحات بخط جميل). يعدّ هذا المصنف متنا موجزا يبدو أنه وضعه للمبتدئين في علم النحو، وكذلك فقد حاول أن يعرف فيه بكثير من المصطلحات النحوية موجزا بعض الأحكام، وقد فاته بالطبع كثير من المصطلحات دون أن يشير إليها، فهي لا تعدو أن تكون عجالة سريعة تمس بعض أطراف الأبواب النحوية، تناول فيها الكلام والاعراب والمعرفة والنكرة والأفعال ثم تحدث عن بقية الأبواب تحت اسم المرفوعات والمنصوبات والمجرورات ثم اختتم المتن بالحديث عن التوابع، ويبين لنا إيجازه الشديد الذي اتبعه في هذا المتن حديثه عن الأفعال وما يتصل ببنائها وإعرابها في قوله: «الأفعال ماض مفتوح، وأمر ساكن، ومضارع في أوله أحد حروف نأيت مرفوع إذا جرّد عن ناصب وهو لن وإذن وكي ظاهرة وأن كذا، أو مضمرة بعد اللام وحتى وأو، وجازم وهو لم ولمّا ولام الأمر ولا في النهي، وإن وإذ ما ومن ومهما وأيّ ومتى وأيان وأينما وأنى وحيثما وكيفما للشرط» «1». 12 - الموشح في علم النحو: (مخطوط بدار الكتب برقم 191 نحو بالخزانة التيمورية، وثمة نسخة أخرى، وعدد صفحاته سبع صفحات من المقطع الكبير).

_ (1) الشمعة المضية ص 4.

الفتاوى النحوية:

ابتدأ السيوطي موشحه النحوي بقوله: إلى اله الأنام من نحلا ... أفضاله كلّ آمل أملا أرغب ثم صلى على نبيه وبين فضل علم النحو، وشرع في حد الكلام بقوله: فحدنا للكلام قد نقلا ... قصد مفيد للقصد قد شملا كاشرب ثم تتبع في عجل المعرب والمبني والنكرة والمعرفة ثم تناول المرفوعات فالمنصوبات فالمجرورات فالمجزومات، ثم تحدث عن التوابع بنفس الايجاز الذي اتبعه في المتن السابق، بيد أنه هنا يتحدث عن المجزومات أكثر تفصيلا من حديثه في متن الشمعة، وهنا يحتم عليه النظم والايجاز الشديد أن يعرض لمعالم الموضوعات دون تفصيل كبير، كما يبدو نظمه غير مبين للمعنى في نفسه في بعض الأحيان. تلك أهم مؤلفات السيوطي في النحو ويتضح منها الجهد العظيم الذي أسداه إلى هذا العلم والمقدرة الفائقة على تمثل مسائله وتصنيفها ودراستها، كما توضح موقفه من المدارس النحوية السابقة ومن النحاة السابقين. وإذا كان النحو يعني بربط مسائله بالحياة العامة من نواحيها المختلفة حيث يستفيد منه المشرع والفقيه والمتناول للنصوص وكاتب الديوان، وقد اتضحت بعض مظاهر هذا المفهوم في مؤلفات السيوطي السابقة، فإن له مجموعة من الآثار تمثل هذا المفهوم، أي دراسة النصوص نحويا أو بعبارة أخرى العناية بالجانب التطبيقي في دراسة النحو، وتتمثل في إبراز وظيفة النحو في فهم النصوص باعتباره عنصرا من أهم عناصر المعنى الكلي، وهذه الآثار تتمثل في الفتاوى النحوية التي أفتاها، وفي ثلاث رسائل أوردها بكتاب الحاوي. الفتاوى النحوية: والفتاوى النحوية تطلعنا على تقدير السيوطي وأهل عصره لوظيفة النحو وأهميته في فهم النصوص أو ما يمكن أن نطلق عليه وصل النحو بالحياة، فهي مجموعة من الأسئلة التي وردت إلى السيوطي نثرا أو نظما وأجاب عنها معللا

أجوبته بعلل مقنعة وهي تنيف على عشرين مسألة «1»، توضح عناية السيوطي بدراسة النصوص وتوجيهها نحويا بحيث يتفق الإعراب أو التحليل النحوي للنصوص مع المعنى السياقي الذي يفهم من عناصر وقرائن متعدّدة، وكأنه ينبه على أهمية السياق في توجيه الإعراب حتى لا يكون التحليل الخاطئ سببا في توجيه خاطئ للمعنى. فمنها أحاديث طلب إليه ضبط نصوصها فضبطها ووجه ضبطه، أو طلب إليه إعرابها وتوجيه قوله، فقد سئل- مثلا- عن «الجنة» في قوله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والجنة حق والنار حق»، هل الجنة بالرفع أو النصب؟ فأجاب بأنه «بالنصب لا يجوز غيره لأنه الذي يستقيم به المعنى ولا ينافي هذا قول النحاة: يجوز الرفع بعد استكمال الخبر لأنه حيث جاز أن يكون مستأنفا، والاستئناف هنا يخل بالمعنى إذ يصير المراد الإخبار بأن الجنة حق، وليس مرادا، وإنما المراد إدخاله في المشهود به فتعين النصب» «2». ومن هذه المسائل أبيات من منظومات علمية في العروض، أو نصوص من كتب فقهية أو نصوص شعرية أو نصوص من خطب أو أقوال تفوه بها بعض أهل العلم في عصره. ولم تقتصر فتاواه على الناحية الاعرابية بل تناولت بنية الألفاظ وبعض المسائل الأخرى. ونلاحظ على إجابات السيوطي أنها أجوبة قاطعة- في الغالب- يقطع فيها بصحة رأي واحد ويعلل مذهبه تعليلا واضحا محكما يعتمد أولا على المعنى ويضع في الاعتبار الأصول النحوية، ولا يغرب في تعليلاته، ويحاول وضع قواعد دقيقة للنظر في النصوص وتوجيهها، حيث ينبغي أن يكون الإعراب مناسبا للمعنى الذي يفهم من عناصر وقرائن متعدّدة، فالإعراب أحد عناصر الوصول إلى المعنى وليس هو جميع العناصر. وتبين لنا هذه الفتاوى بعض معالم مذهب السيوطي النحوي، وقد تبينت في

_ (1) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 461 - 475. (2) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 461.

إحداها موقفه من الاحتجاج بالحديث في اللغة، والمعروف أن النحاة الأقدمين لم يستشهدوا بالحديث نظرا لوفرة المادّة اللغوية التي انصرفوا إليها ومنها البادية التي كانت معينا لا ينضب من اللغة المنطوقة الفصيحة إلى منتصف القرن الرابع الهجري، أما المتأخرون من النحاة فتنوعت مواقفهم، فمنهم من يجيز الاحتجاج مطلقا كابن مالك، ومنهم من يمنعه مطلقا كأبي حيان، ومنهم من يتوسط بين المذهبين كالشاطبي فيقيد الاحتجاج بأحاديث لها شروط معينة تضمن سلامتها. وقد وقف السيوطي موقفا وسطا يبدو منه أنه يبيح الاحتجاج بالحديث في نفس الوقت الذي يضع فيه اعتبارا لما حدث لبعض الأحاديث من تحريف من قبل الرواة يجعلها غير مقبولة في الاحتجاج، فقد أجاب عن حديث: «كما تكونوا يولي عليكم» حيث سئل عن حذف النون دون ناصب أو جازم بتخريجه على ثلاثة أوجه: «أحدها أنه على لغة من يحذف النون دون ناصب وجازم كقول الشاعر: أبيت أسري وتبيتي تدلكي، وخرج على هذه اللغة من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا»، الثاني: وهو رأي الكوفيين والمبرد أنه منصوب أورده شاهدا على مذهبهم أن «كما» تنصب وعدوها من نواصب المضارع وهو مذهب ضعيف، والثالث: أنه من تغيير الرواة» «1». وإذا كان السيوطي هنا يتردد بين تأويل هذا الحديث وتوجيهه وبين نفي صحة عربيته فهذا يعني أنه لا يحتج بالأحاديث مطلقا وإنما يقف فيها موقفا وسطا، ولو كان ممن يحتجون بها مطلقا لاكتفى بذكر الوجهين الأول والثاني أو بأحدهما، فالنحاة إنما يتأولون من النصوص ما هو معتمد عندهم في الاحتجاج. ونستطيع أن نلمح مظاهر الاتساق في مذهب السيوطي النحوي من اتفاق أقواله وتعاضدها في كتبه المتنوعة، وفي إحدى هذه الفتاوى ينتقد تعريف اللفظ بأنه «الصوت المشتمل على بعض الحروف» لأنه تعريف غير جامع يخرج عنه الحرف الواحد كواو العطف وفائه وباء الجر ولامه، والأحسن تعريف اللفظ بأنه

_ (1) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 470.

رسائل الحاوي:

«الصوت المعتمد على مقطع» «1» وقد ذكر هنا أنه عبر به في شرحه على الألفية، وقد سبق لنا الاشارة إلى هذا الحد. رسائل الحاوي: للسيوطي بكتابه «الحاوي» أربع رسائل نحوية ذكر منها ثلاثا بين أسماء مؤلفاته التي أوردها عقب ترجمته، والرسالة التي لم يذكرها هي «ألوية النصر في خصيصى بالقصر». وتتميز هذه الرسائل بأنها تعالج المشاكل النحوية المتصلة بالنصوص اللغوية المختلفة، فمثلها مثل فتاواه، بيد أنه هنا يتوسع في بسط البحث ومناقشة مسائله، ويعرض لكثير من الدقائق التي تتصل بالأصول النحوية، وطريقة فهم النصوص فهما سليما، وكيفية تخريجها على القواعد النحوية تخريجا يعين على إدراك المعنى ولا يكون سبيلا إلى إيهامه أو تغييره أو الاخلال به، وهذه الرسائل تؤكد ما قلناه من عناية نحاة البيئة المصرية بالربط بين النحو والحياة حيث يستعينون به على تفهم الأحاديث وكتب الفقه والعبارات المأثورة وسائر النصوص المختلفة التي تهمهم في حياتهم، وسنعرف هنا بهذه الرسائل باعتبارها أدلة على الفكرة السابقة، ولما بها من بعض الملاحظات التي سنتبينها. 1 - فجر الثمد في إعراب أكمل الحمد «2»: تعقب السيوطي في هذه الرسالة ما أفتى به شيخه الكافيجي عام 874 هـ، من ترجيح جرّ «أكمل» في قول القائل: «الحمد لله أكمل الحمد» على أن اللفظ وصف سببيّ محول أصله: أكمل حمده، فحول بالاضافة، وهو نظير قولك: «مررت بالرجل قائم الأب» فأصله «مررت برجل قائم أبوه»، وقد أفتى السيوطي بأن «المتعين في هذا التركيب النصب ولا يجوز الجر، ووجهه أنه نائب مناب المصدر المحذوف الذي هو في الأصل وصف له تقديره حمدا أكمل الحمد»، وقد علل رأيه بعلل نحوية واضحة تدعم صحة ما ذهب إليه، وبين

_ (1) المصدر السابق ج 2 ص 470. (2) طبعت بالحاوي ج 1 ص 476 - 478.

2 - ألوية النصر في"خصيصى" بالقصر:

أن ما مثل به الكافيجي وهو «مررت بالرجل قائم الأب» يخالف العربية من وجوه أربعة عدّدها، والذي يعنينا أن السيوطي في فتواه وتخريج النصوص على القواعد النحوية يضع المعنى والسياق الثقافي في اعتباره ويستدل به في إثبات رأيه فهو يقول: «وأما امتناع الجر فيكاد يكون بديهيا لا يقام عليه دليل فان «أكمل» صفة للحمد قطعا لا لله، أما أولا فلأن أوصافه تعالى توقيفية، ولم يرد هذا الوصف فيها، وأما ثانيا فلأن الأصل عدم إطلاق أفعل التفضيل في حق الله إلا ما ورد مثل أكبر، وأحسن الخالقين لما يشعر بالمشاركة، وأما ثالثا: فلأن المقصود وصف الحمد المثبت بالأكملية والبلوغ نهاية التمام، لا وصف الله بذلك، وأما رابعا فلأن العلماء عبروا بما يدل على أنه وصف للحمد لا لله، ألا ترى إلى قول النووي في المنهاج أحمده أبلغ حمد وأكمله وأزكاه وأشمله، فأتى بالجميع صفات للحمد ومصادر له». والذي نريد أن ننبه عليه من ذلك هو أن السيوطي كان يضع في اعتباره الأول استقامة المعنى وصحته إلى جانب الأصول النحوية، فلكل منهما اعتباره ولكنه كان يقدم اعتبار المعنى على غيره من الاعتبارات، وهذا مناسب لما سبق أن عرفناه عنه من ميله إلى الوضوح والبساطة والبعد عن التعقيد وما يستتبعه من الفلسفة العقلية المجردة التي تبعد عن الواقع اللغوي، كما نرى عنايته بربط النحو بالحياة عن طريق النظر في النصوص المختلفة. 2 - ألوية النصر في «خصيصى» بالقصر «1»: سبق أن أشرت إلى هذه الرسالة مثالا لما كان يحدث بين السيوطي وبين خصمه السخاوي، وهي تؤكد ما نقوله عن الربط بين النحو والحياة فهي تتصل بضبط كلمة «خصيصى» التي صححها السيوطي موجها القول إلى من قرأ عليه بالشيخونية «ويخصنا بخصيصى زمرة نبينا وجماعته» حيث قرأ القارئ بالياء الساكنة معتبرا الكلمة مثناة مضافة لما بعدها. وقد قرر السيوطي مؤكدا رأيه أن أئمة اللغة والعربية، قد أطبقوا على أن

_ (1) طبعت بالحاوي ج 2 ص 478 - 479.

3 - الزند الوري في الجوانب عن السؤال السكندري:

«خصيصى» بألف القصر، وقد تمد شذوذا فيقال «خصيصاء»، وقد أورد عددا كبيرا ممن نص على هذا القول من أئمة اللغة كسيبويه والسيرافي والقالي وابن دريد وغيرهم، وقرر أنه لم يرد «خصيص» البتة حتى يقال في تثنيته «خصيصان» وذكر أن ابن دريد قد قرر أنه ليس لمولد أن يبني «فعّيلا» إلا ما بنت العرب وتكلمت به، ولو أجيز ذلك لقلب أكثر الكلام. وهكذا يؤيد السيوطي الوقوف عند السماع في بناء «فعّيل»، ولا يبيح فيه القياس. 3 - الزّند الوري في الجوانب عن السؤال السكندري «1»: تتناول هذه الرسالة البحث في قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ أو نصرانيّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»، حيث يتضح بجلاء ما قلناه من تقدير السيوطي صحة المعنى واستقامته وتقديمها على بعض الأصول النحوية التي قد لا يفهم بواسطتها المقصود من العبارة وتكون سببا في تحريف المعنى، ذلك أن الإعراب الصحيح ينبغي أن يكون مناسبا للمعنى خادما له باعتباره أحد عناصره، وللمعنى عناصر كثيرة منها السياق المقامي والثقافي. والرسالة تعطي صورة للصراع بين فهم المعنى وأدائه وبين بعض الأصول النحوية، وقد عبر عن ذلك السيوطي في قوله: «وقد أشكل هذا الحديث على بعض الناس من جهة تنزيل المقصود منه على القواعد النحوية، فإن المقصود من الحديث أنه من سمع بنبينا عليه الصلاة والسلام ممن شملته بعثته العامة، ثم مات غير مؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار، وفي تنزيل لفظ الحديث على هذا المقصود قلق كما سيأتي، وهذا الاشكال يعرض كثيرا في غير لفظ الحديث أيضا». وهنا تتضح هذه الفجوة التي حدثت بين اللغة وبين بعض الأصول النحوية المجردة التي أقيم بعضها نتيجة فلسفة عقلية بعيدة عن الواقع اللغوي، وقد تنبه السيوطي لهذه الفجوة بصدد مجموعة من الأمثلة الأخرى التي ساقها في رسالته من باب الاستثناء أيضا، ويعرض لبعض التخريجات النحوية

_ (1) طبعت بالحاوي ج 2 ص 480.

4 - رفع السنة في نصب الزنة:

المحتملة في الحديث، وقد رجح كون الجملة الواقعة بعد «إلا» حالا، وعلل رأيه باطراد الحالية في جميع الأمثلة المشابهة، وقد حاول أن ينتصر للفكرة الصائبة التي ترى أن القواعد النحوية ينبغي أن تتصل باللغة وواقعها لا أن تنبثق عن العقل، فأنكر على من يخالفه فيما قرره قائلا: «وكم من قاعدة نحوية قدّرت ولم يبال بمخالفتها للقواعد العقلية فإن كلا من النحو والفقه معقول من منقول كما ذكر ابن جني، فتارة يلاحظ فيها الأمر العقلي وتارة يلاحظ فيها الأمر النقلي» «1». وهكذا فإن السيوطي قد توصل إلى ما تنادى به علماء اللغات في عصرنا الحديث من أن منطق اللغة يخالف منطق العقل، وأن في تحكيم العقل في اللغة ضروبا من التعسف، وأنّه قد بات من المقرر فساد إقامة الفلسفة اللغوية على أساس المنطق العقلي. 4 - رفع السنة في نصب الزّنة «2»: سئل السيوطي عن وجه النصب في قوله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله وبحمده زنة عرشه، ورضا نفسه، وعدد خلقه، ومداد كلماته»، فأجاب بأن هذه الكلمات الأربع منصوبات على تقدير الظرف، والتقدير: قدر زنة عرشه، وكذا البواقي فلما حذف الظرف قام المضاف إليه مقامه في إعرابه، ونص على أن هذا الاعراب هو المتجه المطرد السالم من الانتفاض. ولما كان السؤال يستفسر عن جواز النصب على المصدر أو الحال أو على حذف الخافض فقد بحث السيوطي هذه الحالات وبين عدم إمكانها لفساد التقدير، وذكر أن نزع الخافض قريب من المصدر، وحاول أن يعضد وجهة نظره بكثير من الأمثلة والشواهد المناظرة التي تدل على انتصاب كلمة «قدر»، أو ما في معناها على الظرفية، ثم جواز حذفها وإقامة المضاف إليه مقامها. ونلحظ أيضا سير السيوطي على نفس منهجه السابق في تقدير المعنى، فالمعنى هو الذي يحدد الاعراب ويوجهه، ولذلك يميل إلى ترجيح إعراب واحد به

_ (1) الرسالة السابقة ج 2 ص 484. (2) الحاوي ج 2 ص 485 - 493.

بقية الآثار:

يكمل المعنى ويستقيم ويتضح، وقد نبه على بعض الوجوه الممكنة في الاعراب غير ذلك بيد أنه وصفها بأنها «لا يعول عليها والعمدة الأول»، أي نصب هذه الكلمات على الظرفية. بقية الآثار: ثمة مجموعة من آثار السيوطي النحوية فضلا عما قدمناه جلّها لم يصل إلينا، وبعضها تضمنته آثاره السابقة، وكثير من هذه الآثار مسائل جزئية أو مختصرات، وبعضها توحي أسماؤه بضخامته، وأرى أن أسرد هذه الآثار لنختتم بها ما يتصل بهذا الموضوع، وننتقل إلى موضوع آخر. 1 - المصاعد العلية في القواعد النحوية: ذكره بين مؤلفاته في ترجمته بحسن المحاضرة، وهو نفس الباب الأول من كتاب الأشباه والنظائر الذي تحدث فيه عن القواعد والأصول التي ترد إليها الجزئيات والفروع وهو يشمل الجزء الأول من الكتاب، وقد نص عليه في حسن المحاضرة لأنه إلى ذلك الحين الذي كتب فيه الترجمة لم يكن قد أتم كتاب الأشباه والنظائر الذي ضمن فيه هذا المؤلف وغيره على ما يبدو، ويؤيد ما نقول أنه لم يذكر كتاب الأشباه والنظائر بين مؤلفاته، مما يدل على تأخر تصنيفه. 2 - مختصر الملحة في الاعراب: (ذكرت بحسن المحاضرة وكشف الظنون، وهي منظومة، ولم أقف عليها). 3 - شرح الملحة (ذكرت بحسن المحاضرة وهدية العارفين). 4 - شرح كافية ابن مالك (ذكرها بحسن المحاضرة). 5 - در التاج في إعراب مشكل المنهاج (ذكر بحسن المحاضرة وهدية العارفين). 6 - مسألة: ضربي زيدا قائما (ذكرت بحسن المحاضرة). 7 - المسلسلة الموشحة (ذكرت بحسن المحاضرة، وقد ضمنها في كتابه الأشباه والنظائر في الفن الثالث وهو بناء المسائل بعضها على بعض، والذي سماه هناك

سلسلة الذهب في البناء من كلام العرب، وقد قال في مقدمة الأشباه والنظائر: «وقد ألفت فيه قديما تأليفا لطيفا يسمى بالسلسلة») «1». 8 - شذا العرف في إثبات المعنى للحرف (ذكره بحسن المحاضرة). 9 - التوشيح على التوضيح (ذكره بحسن المحاضرة). 10 - السيف الصقيل في حواشي ابن عقيل (ذكره بحسن المحاضرة). 11 - حاشية على شرح الشذور (ذكرها بحسن المحاضرة). 12 - شرح القصيدة الكافية في التصريف (ذكره بحسن المحاضرة). 13 - قطر الندى في ورود الهمزة للندا (ذكره بحسن المحاضرة). 14 - شرح تصريف العزى (ذكره بحسن المحاضرة). 15 - تعريف الأعجم بحروف المعجم (ذكره بحسن المحاضرة). 16 - نكت على شرح الشواهد للعيني (ذكره بحسن المحاضرة).

_ (1) الأشباه والنظائر ج 1 ص 6.

السيوطي وعلم أصول النحو

السيوطي وعلم أصول النحو رأينا أن السيوطي قد وضع أصولا لنقد الرواية اللغوية تحاكي أصول المحدّثين وهو عمل يعد من مبتكراته، وقد حاول تصنيف المادة اللغوية تصنيفا يضاهي تصنيف المحدثين وقد استطاع أن يتناول بالبحث النظري في أصول اللغة بعض المسائل التي لم تكن قد استقرت الاستقرار الكافي، أو الأصول التي لم تحظ إلى ذلك الحين بأن توضع في إطار محكم منظم كما هو الحال لدى أهل الحديث. ونحن هنا بصدد محاولة رائعة قام بها السيوطي فيما يتصل بالنحو، فقد حاول في كتابه «الاقتراح» أن يقيم بناء شامخا يمثل أصول النحو، ويكون المنهج الذي يتبعه النحاة في استنباطهم واستقرائهم، ومعبرا عما سلكوه في درس النحو من قبل. والواقع أن المنهج النحوي أو مجموعة القواعد والنظم التي يتبعها النحويون في الاستقراء والاستنباط ظلت إلى وقت متأخر عرفا غير مكتوب، يلاحظه النحاة ويشيرون إلى التزامه واتباعه في عبارات قليلة مبتسرة، ولم يعمد أحد إلى وضع هذه النظم والقواعد في إطار علم معين. والبحث في الأصول وهو يعني البحث في المناهج يأتي متأخرا بعد استقرار العرف العلمي الذي يدرج عليه أوائل الباحثين في علم من العلوم، هكذا كان الحال في العلوم الاسلامية، فوضع أصول الحديث إنما جاء بعد أن قامت أجيال متعاقبة من العلماء برواية الحديث والتحرج في روايته، وكان لهم عرف ملتزم، وعبارات متداولة لم تلبث أن أخذت تتجمع شيئا فشيئا، حتى وضع منها المتأخرون علما في نقد الرواية.

وقد عرف الاجتهاد الفقهي منذ عصر الصحابة، ووجد كثير من الفقهاء الذين استنبطوا كثيرا من الأحكام، وعملوا بالقياس، وكانت لهم طرق متمايزة في الاستدلال والاستنباط، وكانت هذه الطرق والأصول بمثابة العرف الذي يحرص عليه الفقهاء ويشيرون إليه في عبارات مختصرة، ولم يتح لهذه الأصول أن تتخذ شكلها العلمي التنظيري الوافر إلا بعد أن أملى الشافعي (204 هـ) رسالته التي أحاط فيها بجوانب هذا العلم، ولذلك فقد اشتهر الشافعي بأنه واضع علم الأصول، وليس يعني هذا أنه مخترع هذه الأدلة أو الموضوعات، ولكن يعني أنه أول من استطاع أن يتجرد لصياغة هذه الأفكار المتعارف عليها في إطار نظري محدود يكون بمثابة تخطيط يترسمه الفقيه في اجتهاده الفقهي. إذا كان هذا ما حدث في علمي الحديث والفقه فهو نفس ما حدث في البيئة النحوية. لقد وجد النحاة منذ وقت مبكر، وتمت الملاحظات النحوية، واستطاع النحو أن يتخذ شكلا متكاملا في كتاب سيبويه، وقد تعارف النحاة في استقرائهم واستنباطهم ووضع مقاييسهم على عرف محدد التزموا به سواء فيما يتصل بمن يأخذون عنهم أم بالمادة اللغوية أم بطريقة استخراج القوانين، وبالرغم من وضع الضوابط النحوية منذ وقت مبكر فإن التجرد لبحث هذا المنهج النحوي لم يبدأ التفكير فيه إلا بعد وقت طويل. ذلك أن القدماء كانت عنايتهم بالتطبيق أغلب من عنايتهم بالتنظير، والعناية بالتطبيق أو الجوانب العملية من البحث هو ما تدعو إليه الحاجة في أول الأمر، ثم يأتي التنظير في المراحل التالية. وقد قدر لأصول الفقه أن توضع منذ وقت مبكر كما رأينا، وقد أخذ علم الأصول طريقه في التدرج شيئا فشيئا، ووضعت فيه التقسيمات والتفريعات المختلفة، بيد أننا ننظر في البيئة اللغوية فلا نرى من حاول وضع أصول للنحو، حتى إذا ما قدر لهذه البيئة أن تتجه إلى هذه الوجهة فإنها تقوم بصنيعها مترسمة خطى البيئة الفقهية في أصولها، فيأتي ابن جني في القرن الرابع الهجري ويحاول أن يضع بعض الأصول النحوية في كتابه الذي ذكر أنه وضعه نتيجة لأنه لم ير «أحدا من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام

والفقه» «1»، وقد أشار ابن جني إلى عمل قام به أبو الحسن الأخفش (210 هـ) يعد ممهدا لما قام به ابن جني. وقد ربط النحويون بين أصولهم وبين أصول الفقه، وعبارة ابن جني الآنفة، تدل على شروعه في إقامة الأصول النحوية على نمط الأصول الفقهية، وتأثره بأصول الفقه واضح في حديثه عن القياس والاستحسان والاجماع، وفي حديثه المسهب عن العلل النحوية وهل هي أقرب إلى علل المتكلمين أم إلى علل المتفقهين؟، وقد استمر تأثر أصول النحو بأصول الفقه بعد ابن جني فظهر هذا الأثر عند ابن الأنباري كما ظهر عند السيوطي. والواقع- وهو ما سبق أن نبهت إليه في بحثي عن القياس- أنه كان على هؤلاء النحاة حين حاولوا رسم منهج للنحو أي حين قاموا بوضع أصول للنحو أن ينظروا إلى القياس النحوي الذي قامت عليه الأحكام النحوية فيحددوا ما ينبغي أن يقاس عليه، ثم كان عليهم أن يرسموا للمجتهد في اللغة طريقا واضحة المعالم في استنباط الأحكام النحوية الناتجة عن الاستقراء اللغوي، وليس يهم بعد ذلك أن تجيء هذه الأصول موافقة في بعضها لأصول الفقه ومغايرة في بعض، فالأهم أن يكون المنهج معبرا عن الواقع الذي يتناوله ويعيش فيه ويخطط له، مراعيا طبيعته ومقرراته، وأهدافه، فما الذي حدث لأصول النحو نتيجة ربطه بأصول الفقه؟ لقد نتج عن هذا الربط أمران يتصل أولهما بموضوع أصول النحو التي روعي فيها أن تطابق التقسيمات المتعارف عليها عند الفقهاء، والثاني: تطور التأليف في أصول النحو تبعا لتطور التأليف في أصول الفقه، وهو ما سنلاحظه عند المقارنة بين وضع السيوطي لأصول النحو وبين ما قام به سابقوه وأهمهم ابن جني (392 هـ)، وابن الأنباري (577 هـ)، وقد استمر الربط بين أصول النحويين وأصول الفقه منذ بدايات الحديث في أصول النحو على يد ابن جني وقليل من سابقيه، إلى نهاية مراحل التأليف في أصول النحو عند السيوطي.

_ (1) ابن جني: الخصائص ج 1 ص 2.

وقد بينت في بحثي عن القياس معالم التأثير ودوافعه التي أدت إلى تأثر أصول النحو بأصول الفقه، ولا أرى لزاما أن أعيد هذا الحديث فإنما أبغي هنا شيئا آخر هو بيان الدور الذي قام به السيوطي في أصول النحو، وإذا كان هذا ما نهدف إليه فقد كان من الضروري أن نبين الارتباط بين أصول النحو وبين أصول الفقه وفيما قدمناه غناء، وضرورة ذلك تنبع من أن تدرج أصول الفقه وتطور التأليف فيه أحدث أثره في أصول النحو. ولبيان دور السيوطي نرى لزاما أن نتبين الجهود التي سبقته ليتضح بالمقارنة بين عمله وعمل السابقين معالم دوره وحدوده. وأهم من تحدث عن أصول النحو قبل السيوطي ابن جني في القرن الرابع، ويبدو أنه كان مسبوقا ببعض المحاولات التي قام بها أبو الحسن الأخفش في كتابه المقاييس. بالإضافة إلى الإشارات والعبارات الموجزة المتناثرة المبثوثة في كتب النحو وأهمّها كتاب سيبويه والشروح عليه، بيد أنها لا تمثل تنظيرا كافيا أو مناسبا لأصول النحو. ويظهر بعد ابن جني ابن الأنباري في القرن السادس، ولا نجد غيرهما من النحويين الذين سبقوا السيوطي من حاول أن يتناول أصول النحو بصفة عامة كصنيعهما وأهم ما هنالك غير ذلك طرق بعض الموضوعات التي تتصل بأصول النحو كبحث العلل النحوية وقد درسها الزجاجي (337 هـ)، في كتابه الايضاح ويبدو أنه أول من أفرد للتصنيف في العلل، وهو مسبوق بكثير من الأبحاث في العلة النحوية، فهم ينسبون إلى ابن أبي إسحاق أنه «أول من بعج النحو ومدّ القياس والعلل» «1» ثم بحث الخليل العلل النحوية وقرر أنه اعتلّ بما يرى أنه علة لما علل وربما يسنح لغيره ما هو علة أخرى أليق «2»، فهو بذلك يجعل العلل النحوية أمرا عقليا اجتهاديا، وقد انفسح المجال بذلك أمام النحاة في محاولة استخراج العلل النحوية إلى أن صنف فيها الزجاجي مؤلفه.

_ (1) ابن سلام: طبقات فحول الشعراء ص 13. (2) الزجاجي: الايضاح في علل النحو ص 66.

وفي حديث الزجاجي عن العلل نستطيع إدراك تطور دراسة العلل النحوية عند النحاة حيث يورد الزجاجي بصدد بعض المسائل ما احتج به أوائل النحاة كالخليل وسيبويه، ثم ما احتج به من بعدهم، ونلمس من هذا الحديث تعقد دراسة العلل شيئا فشيئا بعد بساطتها على ضوء ما ثقف النحاة من الفقه وعلم الكلام وما مارسوه من أساليب الجدل. وقد قسم الزجاجي في كتابه العلل النحوية إلى ثلاثة أقسام «1»: العلل التعليمية، والعلل القياسية، والعلل الجدلية، فالعلل التعليمية وتسمى بالعلل الأولى هي التي يتوصل بها إلى تعلم كلام العرب فعلة نصب «زيدا» في «إن زيدا قائم» هو مجيء «إن» قبلها لأنها تنصب الاسم وترفع الخبر ليس غير، وعلة رفع «زيد» في «قام زيد» أنه فاعل. والعلل القياسية هي العلل الثواني التي تأتي بعد العلل الأولى كأن يسأل سائل عن العلة في نصب «إن» لفظة «زيدا»، فيجيب النحاة بأنها هي وأخواتها أشبهت الفعل المتعدي إلى مفعول به واحد فعملت عمله، وتلاها منصوب كأنه مفعول مقدم ومرفوع كأنه فاعل مؤخر، فهي من هنا تشبه من الأفعال ما قدّم مفعوله على فاعله. والعلل الجدلية وتسمى بالعلل الثوالث هي كل ما يأتي من العلل بعد ذلك، فكل ما يعتلّ به في باب «إنّ» بعد ما قدمنا هو من قبيل العلل الثوالث، كأن يسأل سائل: بأي الأفعال شبهت «إن» وأخواتها: أبالماضية أم المستقبلة؟ أو يسأل آخر لماذا لم يجز في «إن» وأخواتها أن يتقدم مرفوعها على منصوبها كما يحدث ذلك في الفعل؟ فكل ما يعتلّ به النحاة جوابا عن هذه الأسئلة ونحوها هو من قبيل العلل الثوالث. ولا يخفى أن العلل التعليمية هي التي تمس الحاجات العملية لدارس النحو والناطقين باللغة، أما العلل الثواني والثوالث فليست إلا من قبيل الفلسفة اللغوية التي تحاول تعليل ما هو كائن بالفعل في اللغة بعلل يخترعها النحاة بعد

_ (1) المصدر السابق ص 64.

طول النظر والتأمل وهذه الفلسفة تحاول جاهدة تلمس وجوه الحكمة في أوضاع اللغة، ولذلك فهي لا تفيد الحاجات العملية للناطقين، وقد كانت سببا في ثورة ابن مضاء القرطبي الذي دعا إلى إسقاط هذه العلل من النحو «1». وقد تطور درس العلل النحوية بعد الزجاجي، فأسهب ابن جني في الحديث عنها وتبعه ابن الأنباري، ونجد في كتابه «الانصاف» كثيرا من الأمثلة لهذه العلل الثواني والثوالث التي تعقد درسها شيئا فشيئا، ونرى بعد ذلك صورة لما آل إليه أمر هذه العلل النحوية التي حاول بعض المتأخرين حصرها في أربع وعشرين علة «2»، وهي علل يقصد منها تعليل الصور النحوية بربطها بأسبابها وحمل بعضها على بعض على نحو ما يصنع الفقهاء «3». ونعود ثانية إلى تفصيل الجهد الذي قام به ابن جني وابن الأنباري، ثم ننظر في عمل السيوطي. الواقع أن ابن جني بالرغم من ضخامة كتابه الخصائص الذي ذكر في أوله أنه وضعه في أصول النحو فإنه خارج في أكثر أبوابه عن «الأصول» بالمعنى الذي تقرر فيما بعد وقد تناول فيه بعض أدلة النحو فتحدث عن السماع والاجماع والقياس، وتناول العلل النحوية بحديث مفصل، بيد أن كثيرا من مباحث الكتاب تخرج عن مباحث علم الأصول وتتناول موضوعات أخرى متصلة باللغة، بل إن حديث ابن جني عن الموضوعات التي أشرنا إليها لم يكن حديثا مركزا، وبالرغم من وقوفه على كثير من الحقائق الهامة في الأصول فإن كتابته تعد بداية لمن بعده، وتأتي أهميته من أنه أول من تناول بالبحث المسهب بعض المسائل التي عرفت في علم أصول النحو معتمدا على أوليات قام بها أبو الحسن الأخفش ومن قبله الخليل وسيبويه، ويعد وصف السيوطي لعمل ابن جني في الأصول أصدق الأوصاف حيث يذكر أنه «وضعه في هذا المعنى وسماه أصول النحو لكن أكثره خارج عن هذا المعنى، وليس مرتبا، وفيه الغث والسمين

_ (1) ابن مضاء القرطبي: الرد على النحاة ص 151. (2) الاقتراح ص 47، 48. (3) د. سيد خليل: مصر في تاريخ النحو، مقال بمجلة كلية الآداب مجلد 13 ص 67.

والاستطرادات» «1». ومن الطبيعي أن تكون أولية التأليف غير متكاملة وغير متناسقة، وهذا شأن جميع العلوم فلا عجب أن يختلف متناولو أصول النحو بعد ابن جني عنه، ويكتسب حديثهم نوعا من التقسيم والتنظيم الذي نلاحظه دائما في تدرج العلوم ونموها حيث تتدرج الملاحظات شيئا فشيئا لتأخذ شكل القوانين أو الأصول الثابتة المقررة، وتستقر للعلم بعض المصطلحات ويتحدد معناها. فإذا ما نظرنا في صنيع ابن الأنباري (577 هـ) ولا نعرف من تكلم بعد ابن جني في أصول النحو قبله وجدنا ذلك العلم قد أخذ يستقر شيئا من الاستقرار، وقد حمل ابن الأنباري النحو وأصوله على الفقه وأصوله، فتأثر بصنيع الفقهاء والأصوليين، وحاول تطبيق ذلك في اللغة، فإذا كانت هناك مسائل في الخلاف معروفة بين الفقهاء فإن ما يناظرها في البيئة النحوية هو مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين التي رتبها مؤلفها على نمط المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة، وهذه محاولة لا نشاء فن الخلاف في النحو كما هو معروف لدى الفقهاء، كما تأثر ابن الأنباري أيضا بعلمي الكلام والفقه في وضع فن «الجدل» الاعرابي في كتابه الاغراب في جدل الاعراب، وبعض مسائله تتصل بمباحث أصول النحو. أما علم أصول النحو فقد ترك ابن الأنباري فيه كتابه «لمع الأدلة» الذي حاول فيه وضع الأصول النحوية على نمط الأصول الفقهية، بيد أنه قد تكلم بايجاز شديد في جميع موضوعات أصول النحو، وقد قسم كتابه تقسيما أكثر ملاءمة للأصول، وأكثر مشابهة لتقسيمات أصول الفقه مما وجدناه عند ابن جني، وقد جعل كتابه في ثلاثين فصلا، ولا يهولنك ذلك فأغلب هذه الفصول لا يتجاوز صفحة واحدة وكان يحسن به أن يسميها مسائل بدلا من تسميتها بالفصول، وقد تناول في هذه الأقسام تعريف أصول النحو فحده بأنه «أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وأصوله، كما أن أصول الفقه أدلة الفقه التي

_ (1) الاقتراح ص 2.

تنوعت عنها جملته وتفصيله» «1»، كما بين فائدته، ثم قسم هذه الأدلة إلى أقسام ثلاثة هي النقل والقياس واستصحاب الحال، وتناول النقل وتقسيمه إلى متواتر وآحاد وشروط كل منهما، وما يتصل بنقد الرواية وعدالة الرواة، ثم انتقل إلى الحديث عن القياس في الفصل العاشر واحتج لثبوته في النحو، وسنتبين أن كثيرا من الحديث عن القياس إنما هو حديث نظري عقلي مستمد من الفقه وأصوله بعيد عن اللغة وطبيعتها ومقتضياتها، ثم تناول أقسام القياس وهي أقسام شابهت أقسام القياس الفقهي، ولم تحك الواقع اللغوي، ثم تحدث عن العلة وشروطها وجواز التعليل بعلتين وأمثال هذه المسائل التي نجدها عند الأصوليين، ثم تناول وجوه الاستدلال فذكر الاستدلال بالتقسيم والاستدلال الأولى والاستدلال ببيان العلة ثم تحدث عن الاستحسان وتعارض الأدلة، واستصحاب الحال، والاستدلال بعدم الدليل. ونلاحظ على تقسيمات ابن الأنباري أنها مستقاة مما وصل إليه علم الأصول الفقهي في عهده حيث تميزت هذه الأقسام، واتضحت وأفاض في الحديث عنها الأصوليون، وقد حاول ابن الأنباري نقلها من البيئة الفقهية إلى البيئة النحوية، فأفلح في كثير من الجوانب، وتعسف وأخفق في جوانب غير قليلة حيث بدت بحوثه غير معبرة عن الواقع اللغوي وغير مستقاة من المسلك النحوي الأصيل الذي اختطه أئمة النحو واللغة وسلكوه في العصر الأول، وحينئذ فإنها لا تعدو أن تكون حديثا نظريا عقليا يعتمد على منطق ذهني مجرّد بعيد عن اللغة. وأتى السيوطي ورأى انصراف القوم- في عصره- عن أصول النحو والتأليف فيه، كما أنه لم يسبقه على مدى قرون طويلة غير هذين الرجلين اللذين لم يتمكنا من إرساء بناء قوى لعلم أصول النحو يكون بالنسبة للنحو كأصول الفقه بالنسبة للفقه، وكل ما أثر عن غيرهما إنما هو شذرات متناثرة وعبارات مقتضبة في ثنايا كتب اللغة والنحو والأدب. وقد نظر السيوطي في صنيع القوم قبله وحاول الافادة منه بما يناسب علم الأصول نافيا عنه ما هو خارج عنه، ويصف عمله وصفا دقيقا بقوله: «واعلم أني قد استمددت في هذا الكتاب كثيرا من

_ (1) لمع الأدلة في أصول النحو ص 80.

كتاب الخصائص لابن جني فإنه وضعه في هذا المعنى، وليس مرتبا وفيه الغث والسمين والاستطرادات، فلخصت منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى بأوجز عبارة وأرشقها، وأوضحها معزوا إليه، وضممت إليه نفائس أخر ظفرت بها في متفرقات كتب اللغة والعربية والأدب وأصول الفقه، وبدائع استخرجتها بفكري ورتبته على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم» «1». ولم يغفل السيوطي الحديث عن ابن الأنباري الذي سبقه في هذا الميدان، فقد ذكر كتابيه في الأصول والجدل، وبين موضوعات الفصول التي تناولها الكتابان، ثم بين إفادته منهما بقوله: «وقد أخذت من الكتاب الأول- يقصد لمع الأدلة في أصول النحو- اللباب، وأدخلته معزوا إليه في خلل هذا الكتاب، وضممت خلاصة الثاني في مباحث العلة، وضممت إليه من كتاب الانصاف في مباحث الخلاف جملة ولم أنقل من كتبه حرفا إلا مقرونا بالعزو إليه ليعرف مقام كتابي من كتابه» «2». وتوضح لنا العبارة الأخيرة إدراك السيوطي أن أهم من تناول أصول النحو قبله ابن الأنباري، وأنه أراد بكتابه أن يفوق صنيع سابقه. ويتميز عمل السيوطي عن سابقيه بما يأتي: أولا: الفهم الدقيق والمحدد لعلم أصول النحو، وموضوعه وأهدافه، فقد حدّه بأنه «علم يبحث فيه عن أدلة النحو الاجمالية من حيث هي أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدلّ» «3»، وهو حد أكثر بيانا وتفصيلا من حد ابن الأنباري الذي ذكر أن «أصول النحو أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وفصوله» «4». وقد حدد ابن جني أدلة النحو بثلاثة أدلة هي السماع والاجماع والقياس، وحددها ابن الأنباري بأنها النقل والقياس واستصحاب الحال، فخلص السيوطي من ذلك إلى تحديدها بأربعة هي السماع والاجماع والقياس

_ (1) الاقتراح ص 2. (2) الاقتراح ص 4. (3) المصدر السابق ص 4. (4) لمع الأدلة ص 80.

والاستصحاب، وذكر أن هناك أدلة أخرى تأتي في مرتبة دون ذلك. وقد بين السيوطي معنى الأدلة الاجمالية وبين أن الأدلة الاجمالية هي التي يتناولها بالبحث علم الأصول، أما الأدلة التفصيلية كدليل جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وأمثال ذلك فمجاله علم النحو نفسه، وليس من مباحث أصوله. وبين أن قوله: من حيث هي أدلته «بيان لجهة البحث عنها أي البحث عن القرآن بأنه حجة في النحو لأنه أفصح الكلام سواء كان متواترا أم آحادا، وعن السنة كذلك بشرطها الآتي، وعن كلام من يوثق بعربيته كذلك، وعن اجتماع أهل البلدين كذلك، أي أن كلا مما ذكر يجوز الاحتجاج به دون غيره، وعن القياس وما يجوز من العلل فيه وما لا يجوز» «1». ثم شرح معنى كيفية الاستدلال مبينا أنه عند تعارض الأدلة ونحوه «كتقديم السماع على القياس واللغة الحجازية على التميمية إلا لمانع، وأقوى العلتين على أضعفهما، وأخف الأقبحين على أشدهما قبحا» «1»، ثم بين معنى قوله «وحال المستدل» بأنه يتناول البحث في المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة: صفاته وشروطه وما يتبع ذلك «1». ثانيا: ترتيب الكتاب بحسب ما يقتضيه علم الأصول، وهو ما لم يقم به ابن جني فكتابه يحوي ما يتصل بالأصول وما هو خارج عنها، كما أن ابن الأنباري لم يوفق في ترتيب كتابه، وأهم ما يميز كتاب السيوطي ترتيبه الموافق للموضوع، فإذا كان علم الأصول يبحث عن الأدلة الاجمالية وكيفية الاستدلال بها وحال المستدل، فقد تناول السيوطي كلا من هذه الأدلة في فصل مستقل سماه كتابا، فالكتاب الأول في السماع، والثاني في الاجماع، والثالث في القياس، والرابع في الاستصحاب والخامس في أدلة شتى، والسادس في التعارض والترجيح، والسابع في أحوال مستنبط النحو. ويعد هذا الترتيب على هذا النسق أو في ترتيب وأكثره دقة فيما يتصل بأصول

_ (1) الاقتراح ص 5.

النحو، وهو ما لم يتنبه إليه ابن الأنباري الذي ألف في الأصول من قبل. والواقع أن التدرج التاريخي واستقرار علم أصول الفقه بحيث درج الفقهاء على أن يبدءوا مؤلفاتهم بالمقدمات اللغوية التي تهم الأصوليين، ثم يتحدثون بعد ذلك عن الأصول الأربعة القرآن والسنة والاجماع والقياس ثم يتبعون ذلك ببقية الأدلة، هو الذي حدا بالسيوطي إلى أن يرتب كتابه على النحو الذي انتهى إليه الفقهاء في أصولهم، ولعل هذا الترتيب لم يكن قد استقر عند وضع ابن الأنباري كتابه، وقد عبر السيوطي عن سبقه وابتكاره في هذا الكتاب قائلا: إن «جمعه وترتيبه صنع مخترع، وتأصيله وتبويبه وضع مبتدع» «1». ثالثا: المقدمات التي قدم بها السيوطي لكتابه لم يتناولها ابن الأنباري، وقد تشتت وتفرق بعضها في مباحث ابن جني، بينما جمعها السيوطي وجعلها بمثابة المقدمات لهذا الكتاب، وقد تناول فيها باختصار شديد يبين فهمه أنها مقدمات لهذا العلم وليست من أصوله، تناول فيها حدود النحو واللغة والقول في نشأة اللغة ومناسبة الألفاظ للمعاني، والدلالات النحوية، كما تناول الحكم النحوي وقسمه كتقسيم الفقهاء للحكم الفقهي إلى واجب وممنوع وحسن وقبيح وخلاف الأولى وجائز على السواء «فالواجب كرفع الفاعل وتأخيره عن الفعل، وجر المضاف إليه وتنكير الحال والتمييز ونحو ذلك، والممنوع كأضداد ذلك، والحسن كرفع المضارع الواقع جزاء بعد شرط ماض، والقبيح كرفعه بعد شرط المضارع، وخلاف الأولى تقديم الفاعل في نحو «ضرب غلامه زيدا»، والجائز على السواء كحذف المبتدأ أو الخبر وإثباته حيث لا مانع من الحذف ولا مقتضى له» «1». وهذا التقسيم تحت هذه المصطلحات الأصولية لا نجده عند ابن جني ولا عند ابن الأنباري، وقد قسمه أيضا إلى رخصة وغيرها، فالرخصة ما جاز استعماله لضرورة الشعر وتتفاوت الضرورة حسنا وقبحا، وقد بين السيوطي مراتب الحسن والقبح في الضرورة الشعرية ممثلا بالأمثلة «3».

_ (1) الاقتراح ص 10. (3) الاقتراح ص 11، 12.

كما تحدث عن تعلق الحكم بشيئين فصاعدا، وهو نفس ما تحدث عنه ابن الأنباري في جواز تعليل الحكم بعلتين «1»، وقد بحثه السيوطي في مباحث العلة بيد أنه في المقدمات عنى بما يتعلق به الحكم من أشياء قد يجوز أن تجتمع كمسوغات الابتداء بالنكرة فكل منها مسوغ على انفراده، ولا يمتنع اجتماع اثنين فأكثر، ومنها ما لا يجوز اجتماعه كالتنوين مع الاضافة فهما خاصتان للأسماء ولا يجوز اجتماعهما، وقد أورد هنا أيضا بعض الأمثلة لكلا النوعين. ثم يتحدث عن العربي والعجمي من الكلام فيتضح من حديثه أنه يطلق على المعرب اسم العجمي متابعا أبا حيان الذي قال: «العجمي عندنا هو كل ما نقل إلى اللسان العربي من لسان غيره» «2»، ثم لخص السيوطي كيفية معرفة عجمة الاسم، ويعد ذلك خلاصة حديثه عنه في كتابه المزهر. ثم نقل السيوطي تقسيم الألفاظ إلى واجب وممتنع وجائز وهو تقسيم عقلي نظري لا تدفع إليه الحاجة اللغوية الحقيقية، وإنما يدفع إليه الكلف بتصنيف ظواهر اللغة أو ألفاظها تحت أقسام وبمصطلحات فقهية. رابعا: تناول السيوطي الأدلة النحوية بالبحث التفصيلي من الناحية التي حددها والتي يعنى بها علم الأصول وهي البحث في حجية هذه الأدلة وكيفية الاستدلال بها، فعقد الكتاب الأول للسماع وهو المصدر الذي اعتمد عليه النحاة وقد حدده بأنه «ما ثبت في كلام للسماع وهو المصدر الذي اعتمد عليه النحاة وقد حدده بأنه «ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته فشمل كلام الله تعالى وهو القرآن، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب قبل بعثته، وفي زمنه وبعده إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين نظما ونثرا عن مسلم أو كافر» «3». ثم أخذ في تفصيل الحديث عن حجية كل نوع من أنواع المادة اللغوية، ولم يقم ابن جني ولا ابن الأنباري بمثل هذا العمل، ولم نجده عند غير السيوطي إلا في بعض إشارات يسيرة ومقتضبة استطاع السيوطي أن يجمعها وأن يدخلها ضمن حديثه، فضم شملها بعد تفرق في كتب اللغويين، وقد نظّم هذا الفصل

_ (1) ابن الأنباري: لمع الأدلة ص 117. (2) الاقتراح ص 23. (3) الاقتراح ص 14.

تنظيما دقيقا ضم خلاصة المنقول عن القدماء فيما يتصل بالمادة اللغوية وكيفية الاحتجاج بها، ومن يوثق به ومن لا يوثق، وكيفية تصنيفها، وأحوال الناطقين، وما لا يجوز الاحتجاج به. وفي بقية فصول الكتاب نرى للسيوطي ابتكارات جديدة تنم عن فهم عميق لنصوص السابقين ومحاولة لتهذيب علم أصول النحو وتحديد مسائله تحديدا قاطعا فنراه يقرر القاعدة في أحيان كثيرة ثم يورد من النقول ما يدل عليها. وقد استطاع بعمله هذا أن يجمع خلاصة أقوال السابقين وأن يتمثلها ثم يرتبها ترتيبا يتناسب مع علم الأصول مضيفا إليها بعض أفكاره، كما استطاع أن يضم إليها مباحث جديدة أغفلها من تحدث في أصول النحو قبله، ومما أغفله ابن جني وابن الأنباري معا فضلا عما قدمنا البحث عن أحوال مستنبط النحو الذي عقد له السيوطي الفصل السابع من كتابة «1». ويعد كتاب السيوطي من هذه الناحية أهم الكتب التي تناولت أصول النحو، بل إننا لا نكون مغالين إذا قلنا إن أصول النحو بالمعنى العلمي الدقيق لم يوضع فيها غير كتاب السيوطي. ونستطيع من خلال هذا الكتاب تبين المنهج النحوي بصورة جلية، والفروق بين البصريين والكوفيين في المنهج. كما نستطيع تبين مواقف السيوطي من بعض القضايا الهامة في الأصول فله موقف حاسم تجاه الاحتجاج بالقرآن الكريم وقراءاته حيث ذهب إلى أن: «كل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية سواء كان متواترا أم آحادا أم شاذا، وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسا معروفا، بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجز القياس عليه، كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه ولا يقاس عليه نحو «استحوذ»، وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءات الشاذة لا أعلم فيه خلافا بين النحاة، وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه،

_ (1) الاقتراح ص 84.

ومن ثم احتج على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة: «فبذلك فلتفرحوا»، كما احتج على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترة: «ولنحمل خطاياكم»، واحتج على صحة قول من قال: ان «الله» أصله «لاه» بما قرئ شاذا: «وهو الذي في السماء لاه وفي الأرض لاه» «1». وقد خطأ السيوطي قوما من النحاة كانوا يعيبون على عاصم وحمزة وابن عامر قراءات بعيدة في العربية، وذلك لأن معول ثبوت القراءات إنما هو على الرواية وليس على موافقة الأصول النحوية «2». والذي نلاحظه أن موقف المتقدمين من النحاة فيه غير قليل من التعسف تجاه الاحتجاج بالقراءات القرآنية لا سيما ما خالف القواعد النحوية، ونلاحظ تغير النظرة عند المتأخرين الذين جوزوا بعض الاستعمالات مستندين إلى بعض القراءات كاعتماد ابن مالك على قراءة ابن عامر «قتل أولادهم شركائهم» في تقرير جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، وهي القراءة التي أنكرها البصريون والزمخشري «3» وقد تبع المتأخرين من النحاة ابن مالك فيما ذهب إليه، وهناك أمثلة أخرى تدل على تغير موقف المتأخرين من النحاة عن موقف المتقدمين على النحو الذي بيناه. ويتخذ السيوطي موقفا وسطا في الاحتجاج بألفاظ الحديث الشريف وتراكيبه بين المجيزين مطلقا والمانعين مطلقا وقد عبر عن ذلك بقوله: «وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جدا» «4». وقد نقل عنه هذا الرأي البغدادي في مقدمة خزانة الأدب «5»، وقد رأينا اتساق موقف السيوطي مع ما قرره في أصوله في تناوله لبعض الأحاديث وفي كتبه النحوية المختلفة. وفيما يتصل بكلام العرب الذين يحتج بهم تبع السيوطي

_ (1) الاقتراح ص 15، 16. (2) الاقتراح ص 16. (3) شرح الأشموني على ألفية ابن مالك ج 2 ص 276، حاشية الصبان ج 2 ص 27. (4) الاقتراح ص 16. (5) خزانة الأدب ج 1 ص 26.

التحديد المتعارف عليه عند اللغويين وهو اختتام الشعراء الذين يحتج بهم بابن هرمه، بيد أنه زاد على هذه المادة اللغوية مصنفات الامام الشافعي وهو ما لم يشر إليه أحد من النحاة قبله، وقد اعتمد في ذلك على قول ابن حنبل: كلام الشافعي في اللغة حجة «1»، وقد وجدنا محقق رسالة الشافعي في عصرنا يعتمد على هذا القول محاولا استخراج بعض الأقيسة النحوية الجديدة من استقراء أسلوب الشافعي وعباراته. ويتسم موقف السيوطي في بعض الأحيان بالتساهل في قبول المرويات فهو لا ينتقد موقف الزمخشري الذي احتج في تفسيره ببيت لأبي تمام بل يقره في ذلك «2»، حيث ذهب الزمخشري إلى أن أبا تمام وإن كان محدثا لا يحتج بشعره في اللغة إلا أنه من علماء اللغة فنجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ويبرر السيوطي ذلك بأن ما تقرر من إجماعهم على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين في اللغة والعربية خاص بغير أئمة اللغة ورواتها. وقد قوبل مسلك الزمخشري السابق بانكار شديد لدى النحاة، وقد ردّ البغدادي على تعليله بأن «قبول الرواية مبني على الضبط والوثوق، واعتبار القول مبني على معرفة أوضاع اللغة العربية والاحاطة بقوانينها، ومن البين أن إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية» «3». على أن ما ساد في البيئة النحوية هو عدم الاحتجاج بأقوال المولدين سواء أكانوا من رواة اللغة وعلمائها أم من غيرهم، وما أجازه السيوطي لم يطبقه أحد من النحاة. وقد اعتمد البغدادي في حديثه عن اللغة التي يصح الاستشهاد بها في كثير من الأحيان على ما أورده السيوطي بكتابه، وإن أغفل العزو في النقل إليه. بيد أننا للانصاف نأخذ على السيوطي وسابقيه ابن الأنباري وابن جني أن

_ (1) الاقتراح ص 20. (2) الاقتراح ص 26، 27. (3) خزانة الأدب ج 1 ص 21.

ربطهم أصول النحو بأصول الفقه قد ساقهم إلى بحث بعض المسائل بأسماء أي مصطلحات فقهية ليس لها واقع فعلي في اللغة، أو تناول أخرى بطريقة عقلية جدلية لا تتصل أيضا باللغة، وهم بذلك قد وضعوا في أصول النحو ما ليس منه، وأهم هذه المسائل التي دخلت أصول النحو أثرا من آثار أصول الفقه ما يأتي: 1 - بعض المسائل المتصلة بالقياس، والتي ضخم بها هؤلاء بحث القياس دون حاجة داعية إليه في اللغة، حيث أرادوا أن يكون للنحو قياس شبيه بالقياس الفقهي يحدونه بأنه «حمل فرع على أصل بعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع»، أو «إلحاق الفرع بالأصل بجامع»، أو «حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه» أو غير ذلك من الحدود التي تطابق حد القياس الأصولي «1». وإذا كان الأصوليون قد حددوا أركان القياس بأربعة أركان هي الأصل والفرع والعلة الجامعة والحكم فقد نقل ابن الأنباري وتبعه السيوطي هذا التحديد إلى القياس النحوي، ومثل ابن الأنباري لهذا القياس قائلا: «وذلك مثل أن تركب قياسا في الدلالة على رفع ما لم يسمّ فاعله فتقول: اسم أسند الفعل إليه مقدما عليه فوجب أن يكون مرفوعا قياسا على الفاعل، فالأصل هو الفاعل والفرع هو ما لم يسمّ فاعله، والعلة الجامعة هي الاسناد والحكم هو الرفع، والأصل في الرفع أن يكون للأصل الذي هو الفاعل، وإنما أجرى على الفرع الذي هو ما لم يسمّ فاعله بالعلة الجامعة التي هي الاسناد، وعلى هذا النحو تركيب قياس كل قياس من أقيسة النحو» «2»، وقد نقل السيوطي هذا النص عن ابن الأنباري خلال حديثه عن القياس «3»، ولم يعقب عليه بما يبين أنه نوع مخالف للقياس النحوي الحقيقي الذي تستخرج به الأحكام النحوية، فالواقع أن القياس بهذا المعنى حادث من العرب أنفسهم، ونحن لم نستخرج الحكم النحوي عن طريقه، فالرفع في نائب الفاعل إنما استفدناه عن طريق

_ (1) ابن الأنباري: لمع الأدلة ص 93، السيوطي: الاقتراح ص 38. (2) ابن الأنباري: لمع الأدلة ص 93. (3) الاقتراح ص 39.

استقراء المنقول عن العرب إذ استفاض عنهم رفع الاسم مع الفعل المبني للمجهول بصورة تبين أنهم يريدون لهذا الاسم الرفع في كل موضع، فالقياس السابق قياس متكلف مصنوع لا يفيد إثبات الحكم وإنما يحاول تعليل ما جاء عن العرب، فهو ليس إلا ضربا من ضروب التعليل التي تحاول تلمس الحكمة واستخراجها من صور اللغة وأوضاعها. وبالرغم من أن السيوطي لم يفض في الحديث عن هذا النوع من القياس فإننا نأخذ عليه وضع هذا النقل بين بحثه المستفيض الذي تناول به القياس اللغوي الحقيقي مبينا شروطه وأحكامه. ومما أدخله السيوطي في القياس اللغوي تأثرا بأصول الفقه وليس له ثمرة عملية تقسيمه القياس إلى أربعة أقسام: «حمل فرع على أصل، وحمل أصل على فرع، وحمل نظير على نظير، وحمل ضد على ضد، وينبغي أن يسمى الأول والثالث قياس المساوي، والثاني قياس الأولى والرابع قياس الأدون» «1»، وقد مثل له بأمثلة تدلنا على أنه لم يكن ينبغي أن يوضع مع مبحث القياس الحقيقي الذي تستنبط به الأحكام النحوية، وإنما مكانه الفلسفة النحوية التي تحاول تعليل الصور اللغوية وارتباطها بعضها ببعض، حيث يحاول هؤلاء النحاة التدليل على أن اللغة تسير في ذلك مراعية منهجا قياسيا معروفا. فهي ليست غير محاولات لإقامة أشكال قياسية مما هو كائن في اللغة، ولا تفيدنا أحكاما نلحق بها ما لم يسمع بما سمع أو نحو ذلك مما هو شأن القياس النحوي الحقيقي. واستخراج هذه الأشكال القياسية أشبه ما يكون بصنيع الفقهاء الذين يتلمسون ضروبا من هذه الأقيسة في نصوص الكتاب والسنة، ويستدلون بذلك على حجية استخدام القياس فيما بعد أصلا من أصول التشريع «2». 2 - بعض ما يتعلق بالعلل النحوية، ونلاحظ أن دراسة العلل النحوية عند

_ (1) الاقتراح ص 42. (2) ابن القيم: إعلام الموقعين ج 1 ص 114 - 172.

ابن جني وابن الأنباري والسيوطي متأثرة بالعلة الفقهية والعلة الكلامية، وقد طرقوا لذلك نفس الموضوعات التي طرقها الفقهاء من قبلهم، وبدا أن بعض ما يفيضون فيه لا يعبر عن واقع اللغة كحديث ابن الأنباري عن الحكم في محل النص وثبوته: أبالنص أم بالعلة «1»؟، وقد نقل عنه السيوطي ذلك، بينما لا نرى لهذا المبحث ثمرة عملية في اللغة، وحديث السيوطي عن مسالك العلة «2»، الذي أفاض في بحثه وترسم فيه خطى الفقهاء، وقد سبقه ابن جني ببحث مستفيض في العلل النحوية. 3 - اعتبار ابن جني الاجماع دليلا من أدلة النحو، وتابعه السيوطي في ذلك، وقد عده السيوطي الدليل الثاني بعد السماع، وهم يريدون به إجماع نحاة البلدين، وليس هنا برهان واقعي يمكن أن نستند إليه في اعتبار الاجماع حجة في اللغة، وبالرغم من شعور ابن جني والسيوطي بذلك فإنهما تأثرا بالفقه وترسما له قد اعتبراه من أدلة النحو، وزاد السيوطي بأن جعله الدليل الثاني، وخصص له الفصل الثاني من كتابه «3». وبالرغم مما شاب كتاب الاقتراح من الخلط بين نوعي القياس، ومن تناول بعض المسائل التي لا تعبر عن الواقع اللغوي السليم، ولا تؤدي إليه فائدة، فإننا نجد فيه كذلك تعبيرا عن المنهج النحوي بحيث يعد أهم الكتب التي تمثل علم أصول النحو في نهاية تدرجه عند القدماء. وقد تناوله ابن علان بشرح كبير نلاحظ فيه أنه لم يخالف السيوطي في غالب أقواله، بل يدل حديثه أثناء الشرح على إكباره الشديد له، فهو يذكر عن السيوطي أنه «مخض لبان علم العربية حتى أخرج بحسن صنيعه هذه الزيادة فجعلها أصلا لما تفرعت عنه وخرجت منه، وقد تدرك العناية الأخير فينال ما يجبر وصمة التأخير» «4». وهو يريد بقوله أن عمله قد فاق به المتقدمين، وأبدع فيه ما لم يبدعوا.

_ (1) لمع الأدلة ص 121، الاقتراح ص 51. (2) الاقتراح ص 58. (3) الاقتراح ص 35. (4) شرح ابن علان على الاقتراح (مخطوط) ص 5، 6.

مذهبه النحوي

مذهبه النحوي السيوطي نحوي متأخر نشأ في البيئة المصرية التي سبق لنا الحديث عن معالمها الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولقد كانت هذه البيئة. وارثة الحضارة الاسلامية بصفة عامة كما بينا، وقد آل إليها ذلك التراث الثقافي الذي ازدهر في الأمصار الاسلامية المختلفة، فقامت هذه البيئة على تمثله وحفظه ودراسته وتنميته. كان طبيعيا أن تتأثر دراسة النحو في مصر بهذا التراث الذي قامت على حفظه، ونحن نعرف أن هذه البيئة قد سبقتها بيئات أخرى توفرت على دراسة النحو. وقد درج الباحثون على تسمية هذه البيئات النحوية بالمدارس، بالرغم مما في هذه التسمية من بعض التجوز حيث نلاحظ الفروق الفردية في بعض الأحيان أكثر ظهورا من الفروق المدرسية، فالأخفش البصري مثلا نراه يوافق الكوفيين في كثير من آرائه، ويخالف البصريين سلفه وخلفه، كما نرى الفراء الكوفي يتابع سيبويه في أحيان غير قليلة، على حين يتابع المبرد الكسائي في أحيان أخرى، وبالرغم من ذلك فلا بأس أن نتناول هذه البيئات أو المدارس بالتعريف بمميزاتها العامة لنخلص إلى البيئة المصرية التي ورثت هذه الدراسات وكان السيوطي أحد نحاتها. وقد وضع النحو العربي بالبصرة، وكان للخليل وسيبويه الفضل في إرساء أركانه، ووضع أصوله، وليس من المبالغة أن نقول: ان جهود النحاة بعد سيبويه تدور في محوره أو مجاله وتعتمد عليه، والكوفيون الذين عاصروه واستمروا بعده قد أفادوا من جهوده التي نقلها إليهم تلميذه الأخفش، وربما يكون بحث هذه الطبقة من النحاة وتبين آرائها النحوية أكثر تشويقا وجدوى

من بحث المتأخرين الذين ورثوا علم النحو بعد أن نضج وكاد يحترق. ويمكننا أن نجمل ما امتازت به المدرسة البصرية التي وضع أوائلها النحو واستمرت جهودها متضافرة حقبة من الزمن حتى أواخر القرن الثالث الهجري فيما يأتي: 1 - التثبت في المادة اللغوية التي يحتج بها، وتحديد القبائل، فليس كل ما يروى يصح الاستشهاد به، وقد أنكروا على الكوفيين اعتمادهم على الأعراب المقيمين في سواد الكوفة وهجاهم اليزيدي البصري منكرا عليهم ما يحتجون به «1». 2 - يقيم البصريون أقيستهم على الكثير الشائع عن العرب، ويغفلون القليل والشاذ، ومن ثم وصفوا بأنهم «أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ» «2». 3 - أنهم لا يعولون على قياس التمثيل وهو القياس عند انعدام الشاهد أي انعدام المنقول وذلك بقياس باب على باب آخر الا فيما ندر. فمذهب البصريين يتسم بالتنظيم ومحاولة تعميم الأقيسة وطردها، وهو كذلك يمثل مذهب اللغويين المتشددين الذين لا يبيحون القياس إلا على ما ورد بكثرة ويمنعون القياس على الأمثلة القليلة، ويقفون فيما ورد منها على السماع، وتمثل العقلية البصرية العقلية العلمية الصحيحة التي تحاول وضع القوانين المطردة، ونجد لديها القدرة على التعميم والتعريف ووضع القواعد والمصطلحات العلمية، وهذا هو السر في سيطرة النحو البصري على المدارس النحوية التالية: فإذا ما اتجهنا نحو بيئة الكوفة ومذهبها رأينا نظرة أخرى في اللغة وأساليبها، فأهم خصائصهم: 1 - أنهم أقل تثبتا وتشددا في قبول المادة اللغوية التي تتخذ مصدرا للقياس،

_ (1) ابن الأنباري: نزهة الألباء ص 55. (2) الاقتراح ص 84.

كما أن الأعراب الذين سمعوا منهم متهمون في نظر البصريين، يضاف إلى ذلك أنهم وقفوا على قدر أكبر من المادة اللغوية لما عرف عنهم من عنايتهم القديمة برواية الأشعار فهم كما وصفوا «أوسع رواية» «1». كما أنهم كانوا أكثر عناية بالقراءات القرآنية وربما كان ذلك سببا في كونهم أكثر توسّعا في القياس. 2 - أنهم أكثر توسعا في القياس وإباحة له، ولذلك فهم يقيسون على القليل وعلى ما يعده البصريون شاذا لا يجوز القياس عليه، قال الأندلسي: «الكوفيون لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا، وبوبوا عليه بخلاف البصريين» «2». 3 - أنهم يعولون أكثر من البصريين على قياس التمثيل وهو القياس على ما لم يرد به نقل كإجازتهم «قام زيد لكن عمرو» مع أنه لم يرد به نقل قياسا على ما ورد في باب آخر وهو «بل» من نحو «قام زيد بل عمرو»، وقد منع البصريون ذلك «3». تلك أهم الخصائص التي ميزت كل مدرسة عن صاحبتها، ويتضح منها أن الاختلاف بين المدرستين ينحصر في كمية الاستقراء، وكمية المادة اللغوية، ثم في قبول هذه المادة تبعا لاعتبارات نقد الرواية، ثم الاختلاف في المذهب النحوي القياسي الذي يبيح القياس على القليل أو لا يرضى إلا بالكثير المستفيض، ويتضح من ذلك أن عقلية البصريين أكثر جنوحا إلى التنظيم وطرد الأقيسة. وقد عللت كلتا المدرستين ما استنبطته من أقيسة نحوية. وخالفت به المدرسة الأخرى بعلل عقلية ونقلية تدل في كثير من الأحيان على فهم عميق للأسرار اللغوية والتركيبية لا سيما ما نراه من هذه العلل في كتاب سيبويه قبل أن يتعقد التعليل وتتشعب به السبل، أي عند ما كان موصول الأسباب باللغة وظواهرها وخصائصها غير مشترط في التجريد العقلي.

_ (1) الاقتراح ص 84. (2) الاقتراح ص 84. (3) همع الهوامع ج 2 ص 137.

ولم يبق أمام المدارس التالية في الغالب سوى الترجيح بين المدرستين السالفتين واختيار ما يتجه منه في أنظار النحاة، أو استخراج بعض الأقيسة الجديدة بناء على إعادة النظر في بعض الاستقراءات، أو استحضار مادة لغوية جديدة. فإذا نظرنا في عمل البغدادين الذين عرفتهم بغداد منذ أواخر القرن الثالث الهجري وجدناهم يمزجون بين المذهبين السابقين بعد أن مرّ عليهم حين من الدهر ينتصر كل منهم لمذهب من المذاهب، ولذلك فالطبقة الأولى من البغداديين يغلب على رجالها التحيز إما إلى مدرسة البصرة أو إلى مدرسة الكوفة، وكأنها بذلك ليست غير امتداد لهاتين المدرستين، وقد كان ذلك نتيجة لانتقال رجال المدرستين السابقتين إلى بغداد، فقد انتقل إليها المبرد شيخ البصريين، وثعلب شيخ الكوفيين. وأشهر من عرف من البغداديين بممالأة البصريين ونصرتهم أبو إسحاق الزجاج (310 هـ) وقصته مع ثعلب وانتقاده كتاب الفصيح انتصافا لسيبويه مشهورة ومتناقلة في الكتب «1»، وابن السراج (316 هـ)، والزجاجي (337 هـ)، وممن غلبت عليهم النزعة الكوفية أبو موسى الحامض (305 هـ)، وأبو بكر بن الأنباري (327 هـ)، وهناك علماء جمعوا بين النزعتين كابن كيسان (299 هـ)، والأخفش الصغير (315 هـ). ولم يلبث أن قوي اتجاه الجامعين بين النزعتين دون تعصب، مما أدى إلى المزج بينهما والترجيح والتفضيل فنشأ مذهب جديد يعتمد على الترجيح والنظر في المذهبين السابقين مع زيادات وفروق قليلة وهو المذهب البغدادي، وقد كانت البادية إلى ذلك الحين لا تزال معينا لا ينضب للمادة اللغوية الأصلية مما أدى إلى استقراء مادة جديدة كانت ذات أثر في استخلاص بعض الأقيسة التي لم تعرف من قبل أو ترجيح بعضها على بعض. وهناك قواعد ركن فيها البغداديون إلى المذهب الكوفي، وأخرى ركنوا فيها

_ (1) السيوطي: المزهر ج 1 ص 202 - 207، وقد نقلها عن معجم الأدباء لياقوت.

إلى مذهب البصريين، وجانب ثالث استدركوه على المذهبين «1». ومن الملاحظ أن مذهب البغداديين في أول أمره كان ينزع منزع الكوفة لغلبة الكوفيين على بغداد وارتفاع شأنهم فيها، نظرا لصلاتهم القوية بالدولة في حين أن المتأخرين من البغداديين قد فضلوا المذهب البصري، ويتضح ذلك عند أبي علي الفارسي وابن جنى اللذين قد ينسبان نفسيهما في بعض الأحيان إلى البصريين كما يظل ذلك شأن من خلفهم كابن الشجري (542 هـ)، وتلميذه ابن الأنباري (577 هـ)، الذي يتضح في إنصافه تفضيله للمذهب البصري. فإذا ما يممنا وجوهنا ناحية المغرب وجدنا بيئة الأندلس التي بدأ النشاط النحوي فيها خافتا، وكان في أول أمره تابعا لما يحدث بالمشرق، ومعتمدا عليه، ولم تلبث دراسة النحو بالأندلس أن أخذت تستقل بطابع يميزها عن تبعيتها للمشرق فمنذ أواخر القرن الخامس ازدهرت هذه الدراسة، وعكف النحاة على ما لديهم من مادة لغوية يستقرءونها، وينظرون فيما أنتجته المدارس الثلاث السابقة فيرجحون بينها، ويختارون ما يتجه عندهم، ويزيدون ما تؤديه لهم استقراءاتهم الجديدة لا سيما أن المادة اللغوية قد أصبحت في ذلك الحين بالمشرق والمغرب مقصورة على ما روي وحفظ في بطون الكتب حيث نضب معين البادية منذ تنادي العلماء في منتصف القرن الرابع الهجري بوجوب ترك الأخذ عن أهل الوبر كما ترك الأخذ عن أهل المدر «2». وقد عرفت الأندلس كثيرا من الأعلام الذين حملوا لواء النحو بها كالأعلم الشنتمري (476 هـ)، وابن السيد البطليوس (521 هـ)، والسهيلي (581 هـ)، وغيرهم، وأهمهم على الاطلاق ابن مالك (672 هـ) وأبو حيان (745 هـ)، والشاطبي (790 هـ)، وقد رحل بعضهم إلى المشرق وأثر في نحاة البيئة المصرية إلى حد كبير. وقد توسع ابن مالك في الاستشهاد بالحديث وأباح ذلك مطلقا، وقد أنكر

_ (1) محمد الطنطاوي: نشأة النحو ص 146، 148. (2) ابن جني: الخصائص ج 2 ص 5.

عليه هذا الاتجاه، في حين أنكر أبو حيان الاستشهاد بالحديث مطلقا، وتوسط الشاطبي فأباح الاستشهاد في الأحاديث التي يعلم أن العناية فيها متجهة إلى نقلها بألفاظها. وقد أحدث ابن مالك لفتة نحوية شغلت القوم بمنظومته التي وضعها وتوفر على شرحها معظم النحاة من بعده، وكان له اختيارات من مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين وسابقيه من الأندلسيين، بالاضافة إلى اجتهاده الفردي، وقد وقف موقفا جديدا تجاه الشاذ الذي يجعله الكوفيون أساسا صالحا للقياس عليه، ويمنع البصريون القياس عليه ويعمدون إلى تأويله ولو كان في ذلك من التكلف غير قليل، أما ابن مالك فانه «يحكم بوقوع ذلك من غير حكم عليه بقياس ولا تأويل بل يقول إنه شاذ أو ضرورة ... قال ابن هشام: وهذه الطريقة طريقة المحققين وهي أحسن الطريقين» «1». لذلك لقي مسلك ابن مالك استحسانا من النحاة المتأخرين ومنهم السيوطي، وقد أثر الأندلسيون بصفة عامة، وابن مالك بصفة خاصة في البيئة المصرية حيث رحل كثير منهم إلى مصر أو إلى الشام، وأقاموا عاكفين على الدرس بعد أن أخذت دولة الأندلس في الذبول. ويهمنا الحديث عن البيئة المصرية في عصر المماليك الذي ظهر السيوطي في أواخره، والنشاط النحوي في هذا العصر متميز عنه في العصور السابقة، فبالرغم مما عرفته مصر من ألوان هذا النشاط قبل ذلك، ومن ظهوره كثير من النحاة بها فانهم في الغالب كانوا تابعين للمدارس الثلاث الأول مع ترجيح بين آرائها، وبعض اجتهادات خاصة. وقد وفد على مصر في القرنين السابع والثامن للهجرة بعض نحاة المغرب والأندلس الذين أحدثوا بالبلاد نشاطا كبيرا، ونبغ على أيديهم أئمة النحو في مصر، فمنهم ابن معط المغربي (628 هـ) صاحب المنظومة التي أشار إليها ابن مالك، وابن مالك وأبو حيان وغيرهم، ولا تلبث البيئة المصرية في ذلك الحين

_ (1) الاقتراح ص 86.

أن تصبح ملاذ علماء المشرق والمغرب بعد سقوط بغداد وايذان شمس الأندلس بالمغيب. وتنشط الدراسة النحوية، ويرى العلماء بالبلاد أن عليهم مسئولية القيام على تراث المشرق والمغرب. ونلاحظ أن بعض النّابهين من نحاة مصر قد جمع بين دراسة الأصول ودراسة النحو كابن الحاجب (646 هـ) وغيره، وقد وصل هؤلاء جميعا النحو بغيره من العلوم التي درسوها، وحاولوا الافادة منه في دراسة النصوص، وهذا الاتجاه وان كان أصيلا في طبيعة البحث النحوي فان المصريين قد توسعوا فيه «1». وأهم نحوي ظهر في مصر بعد ذلك ابن هشام (761 هـ)، وقد خلف مصنفات عديدة أهمها «المغنى»، وقد اختط منهجه معتمدا على الترجيح بين البصريين والكوفيين ومن تبعهم من النحاة، واختيار الأصلح في نظره، وكانت له قدرة كبيرة على التعليل والتخريج، وكثيرا ما يبتكر آراء جديدة لم يسبق إليها لا سيما في توجيهاته الاعرابية، والجدير بالذكر أن السيوطي كان يقول عن نفسه: إنه لم يظهر بمصر بعد ابن هشام من يستحق أن يوصف بالاجتهاد في العربية غيري. وكان ابن هشام يميل إلى المذهب البصري. وأكثر المتأخرين ترجيحا للمذهب الكوفي ومتابعة له ابن مالك، وقد خالفه أغلب نحاة مصر الذين ناصروا في كثير من الأحيان آراء سيبويه والمدرسة البصرية، ونلاحظ ذلك لدى ابن عقيل في شرحه على الألفية. ظهر السيوطي في أوج ازدهار النشاط النحوي مسبوقا بهذا الركام الضخم من المؤلفات النحوية، وقد آل إلى بيئته تراث البيئات السالفة، وقد تأثر السيوطي بالنحاة السابقين له لا سيما الذين أثروا في البيئة المصرية كابن مالك وأبي حيان، وبنحاة هذه البيئة كابن هشام، وقد تابع السيوطي عرف النحويين في عصره في تصنيف مؤلفاته، فقد درجوا على شرح منظومة ابن مالك فأفرد لها شرحا، كما راجت لديهم مصنفات ابن الحاجب وابن مالك وابن هشام وقد كان

_ (1) د. سيد خليل: مصر في تاريخ النحو ص 69، مقال بمجلة كلية الآداب مجلد 13.

كتاب «النكت» الذي وضعه السيوطي استجابة لهذا الاتجاه، بيد أن السيوطي قد ظهرت شخصيته الواعية وعقليته النحوية المحددة في هذا الكتاب إلى أكبر حد. ولم يكتف السيوطي بأن يعكف على دراسة كتب المتأخرين من الأندلسيين والمصريين، وينتقدها أو يشرحها، ولكنه أراد- كما هو شأن العصر- أن يصنف في النحو موسوعة تشمل جميع أبوابه ومباحثه، وقد فعل ذلك بنجاح في كتاب «جمع الجوامع» الذي شرحه «بهمع الهوامع»، ومصنفات السيوطي التي عرضنا لها آنفا تبين لنا جهوده الخصبة والوفيرة في الدرس النحوي. على أن هذه الكتب تمثل بحق ذلك العصر الذي عنى بالجمع والترتيب والتنسيق، وتنويع المصنفات ما بين مختصر ومطول ومتن وشرح ومنظوم ومنثور وموشح. ولكن ذلك لا يعني انصراف عنايته إلى النواحي الشكلية دون المضمون، ولا يغض ذلك منه نحويا كبيرا عرفته البيئة المصرية، وأسهم بدور كبير في العمل النحوي. والحقيقة أنه إنصافا لهؤلاء النحاة ينبغي أن نقول إن النحويين جميعا بعد الخليل وسيبويه لم يكن إبداعهم وابتكارهم إلا في حدود ضيقة إذا ما قورنت بصنيع الرجلين من قبل، ويمكن أن نقول: إن النحاة جميعا بعد مدرستي الكوفة والبصرة قد قلت لديهم الابتكارات النحوية وأصبحت مذاهبهم في غالبها ترجيحا لآراء احدى المدرستين السالفتين، ومع ذلك فلا يمنع هذا من تناول كل منهم منفردا لبيان مقدار جهوده واستيضاح منهجه والوقوف على اجتهاداته. ويتميز السيوطي بتقصي الموضوعات النحوية التي يعرض لها، ومحاولة استيفاء جزئياتها والاستدراك على النحاة بعض ما فاتهم، كما أنه في منهجه يتبع ما تميزت به المدرسة المصرية في التخير من آراء المدارس السابقة مع شيء من التغليب لمذاهب الأندلسيين، ويتخير من آراء النحاة السابقين عموما ما تتجه علله، وتستبين براهينه، ومن حين إلى آخر نظفر بآراء خاصة له أو مفاهيم جديدة تجاه بعض المسائل.

فمن اختيارات السيوطي أن الأسماء قبل تركيبها في الجمل لا مبنية ولا معربة، والبناء رأي ابن الحاجب وابن مالك، والاعراب رأي الزمخشري، والقول بالواسطة رأي أبي حيان واختيار السيوطي «1». وقد يخالف السيوطي سيبويه والجمهور ويرجح آراء غيرهم كاختياره إعراب «أيّ» الموصولة في جميع حالاتها في حين يذهب سيبويه والجمهور إلى بنائها على الضم إذا أضيفت وحذف صدر صلتها مستدلين بقوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا، وقد تبع في ذلك الأخفش والزجاج واحتج لرأيه يقول الجرمي: «خرجت من الخندق يعني خندق البصرة حتى صرت إلى مكة لم أسمع أحدا يقول: اضرب أيّهم أفضل بل كلهم ينصب ولا يضم»، وببعض القراءات التي نصبتها، ويؤكد قوة إعرابها ما ذهب إليه ابن مالك واحتج به السيوطي من أنها تعرب في باب الشرط والاستفهام «2»، وإعرابها أيضا استظهر السيوطي أنه قول الخليل ويونس «3» والكوفيين. ومن المتفق عليه في الممنوع من الصرف أنه يجر بالكسرة إذا أضيف أو دخلت عليه «ال» واختلف: هل هو مصروف في هذه الحالة أم أنه باق على منعه من الصرف؟، وقد رجح السيوطي رأي السيرافي والزجاج في كونه مصروفا لأنه دخله خاصية من خواص الاسم فضعف فيه شبه الفعل «4». ويختار السيوطي رأي الكوفيين الذي يتوسع في القياس وهو إجازة بناء سداس ومسدس وسباع ومسبع وثمان ومثمن وتساع ومتسع قياسا على المسموع من ذلك وهو أحاد وموحد إلى خماس ومخمس، وعشار ومعشر «5». وقد تبع السيوطي ابن هشام في تقسيم المبنيات وتناول البناء على الفتح وهو

_ (1) المطالع السعيدة (مخطوط) ص 16، همع الهوامع ج 1 ص 19. (2) المطالع السعيدة ص 21. (3) همع الهوامع ج 1 ص 91. (4) المطالع السعيدة ص 48. (5) المطالع السعيدة ص 29.

اسم «لا» النافية للجنس إذا كان مفردا، وعلى الياء إذا كان اسم «لا» مثنى أو جمع مذكر سالما «1»، ولكن السيوطي قد انفرد دون ابن هشام ودون النحويين بقوله: ان المثنى قد يبنى على الألف نيابة عن الفتحة على لغة بلحارث بن كعب كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وتران في ليلة» «1»، وقد احتج كما نرى بهذا الحديث وهو يتبع في ذلك منهج المتأخرين في إمكان اعتبار الحديث حجه، ويتفق مع مذهبه الذي سبق لنا أن شرحنا أصوله، وقد قوى السيوطي اللغة التي تلزم المثنى الألف في حالات الاعراب الثلاث فذكر أنها «لغة معروفة عزيت لكنانة وبني الحارث بن كعب وبني العنبر وبني الهجين وبطون من ربيعة، وبكر بن وائل، وزبيد وخثعم وهمدان، ومزدادة وعذرة وخرج عليها قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وتران في ليلة»، وأنشد عليها قوله: تزود منا بين أذناه طعنة، وقوله: قد بلغا في المجد غايتاها «3». ويتميز السيوطي بجمعه للآراء المختلفة وحكمه عليها في أحيان كثيرة مبينا أصحها وأشهرها وأضعفها، وينعت كل رأي بما يبين موقفه منه، فهو يورد أقوالا شتى في إعراب الأسماء الستة فيذكر أن أشهرها قول قطرب والزيادي والزجاجي من البصريين وهشام من الكوفيين بأنها معربة بالحروف، بينما يذكر أن أصح هذه الآراء رأي سيبويه وجمهور البصريين وبعض المتأخرين كابن مالك وأبي حيان وابن هشام الذين يذهبون إلى أنها معربة بحركات مقدرة في الحروف، وأنها أتبع فيها ما قبل الآخر للآخر، وقد ذكر السيوطي اعتلالهم لمذهبهم «4». وحين يضعف السيوطي رأيا من الآراء لغرابته وعدم إمكان اتجاهه فانه ينعته بالزعم كقوله: «زعم الزجاج أن المثنى مبني لتضمنه معنى الحرف وهو العاطف» «5»، وقوله: «وزعم الأخفش بناء جمع المؤنث نصبا وغير المتصرف جرا» «5».

_ (1) ابن هشام: شذور الذهب ص 83، 84، السيوطي: المطالع السعيدة ص 18. (3) همع الهوامع ج 1 ص 40. (4) همع الهوامع ج 1 ص 234. (5) همع الهوامع ج 1 ص 38، ج 1 ص 19.

وأنكر السيوطي على الكوفيين وجماعة من النحويين كالأخفش وأبي حاتم والنحاس وابن مضاء عدّهم «لا سيما» من أدوات الاستثناء لأن ما بعدها يشارك ما قبلها في الحكم ولعدم صلاحية «إلا» مكانها بخلاف سائر الأدوات «1». وقد خالف ما شاع عند كثير من النحويين من أن نفي «كاد» إثبات لخبرها، وإثباتها نفي للخبر مستدلين على ذلك بقوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وقد ذبحوا، وبقوله: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ولم يضيء، وذهب إلى أن «التحقيق أنها كسائر الأفعال نفيها نفي، وإثباتها اثبات، إلا أن معناها المقاربة لا وقوع الفعل فنفيها نفي لمقاربة الفعل ويلزم منه نفي الفعل ضرورة أن من لم يقارب الفعل لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل ولا يلزم من مقاربته وقوعه فقولك: «كاد زيد يقوم» معناه قارب القيام ولم يقم ومنه «يكاد زيتها يضيء» أي يقارب الاضاءة إلا أنه لم يضيء، وقولك: «لم يكد زيد يقوم معناه لم يقارب القيام فضلا عن أن يصدر منه» «2». وإذا كان ما يذهب إليه السيوطي في هذا الرأي متجها في الشواهد والأمثلة التي أوردها فانه لم يتجه في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وقد أجاب عنها بأنها محمولة على وقتين، أي فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك ولا قاربوا الذبح «2». وقد خطأ السيوطي ابن هشام وأبا حيان فيما نقلاه واقراه من أن «لو» التي ترد للتمني تحتاج إلى جواب، والأصح أنه لا جواب لها «4». وقد خالف معظم النحاة متقدميهم والمتأخرين فيما ذهب إليه من إعراب «الآن» لأنه «لم يثبت لبنائه علة معتبرة، فهو منصوب على الظرفية، وإن دخلته «من» جر «وخروجه عن الظرفية غير ثابت» «5». وعنده أن الأصح جواز تعدد الخبر والنعت وهو رأي الجمهور خلافا لابن عصفور وكثير من المغاربة «6».

_ (1) نفس المصدر السابق. (2) همع الهوامع ج 1 ص 132. (4) همع الهوامع ج 2 ص 66. (5) همع الهوامع ج 1 ص 208. (6) المصدر السابق ج 1 ص 108.

ويمضي السيوطي في التخير من آراء النحاة السابقين ما تستقيم حجته وتتضح علته مؤثرا من الآراء ما هو قريب من العقل بعيد عن التأويل والتقدير الذي يوغل أحيانا في الاغراب، كما يحرص قبل ذلك على دقة المعنى وسلامته فهو محك الصحة والخطأ عنده، فنراه مثلا يذهب في تخريج «لا أبا لك» إلى أن «أبا» مفردة جاءت على لغة القصر والمجرور باللام هو الخبر، وقد تبع في ذلك الفارسي وابن الطراوة، وقد اختار هذا الرأي «لسلامته من التأويل والزيادة والحذف وكلها خلاف الأصل» «1»، وهو بذلك يخالف رأي الجمهور الذي يذهب إلى أنها مضافة إلى المجرور باللام الزائدة. ويهتدي السيوطي باستقراء المادة اللغوية في بعض الأحيان إلى ما يخالف أقوال النحاة السابقين أو يصحح أحكامهم، فقد رد ما ذهب إليه ابن مالك وابن الصائغ من أن النداء بالهمزة قليل وذكر أنه وقف لذلك على أكثر من ثلاثمائة شاهد، وأنه أفردها بتأليف «2»، وهو ما سماه بقطر الندا في ورود الهمزة للندا. ويعلل السيوطي اختياراته وآراءه بعلل قوية واضحة تراعي سلامة المعنى، وهي علل قريبة المأخذ بعيدة عن التكلف، ويؤثر من الأحكام ما يدفع اللبس عن الأساليب فقد أجاز النحاة تنوين المنادى المبني في الضرورة ثم اختلفوا في أن الأولى بقاء ضمه أو نصبه والأول مذهب الخليل وسيبويه والمازني علما كان أو نكرة مقصودة، والثاني رأي أبي عمرو وغيره، واختيار ابن مالك بقاء الضم في العلم والنصب في النكرة المقصودة لأن شبهها بالمضمر أضعف، وخالف السيوطي ابن مالك واختار العكس أي «النصب في العلم لعدم الالباس فيه، والضم في النكرة المعينة لئلا يلتبس بالنكرة غير المقصودة إذ لا فارق حينئذ إلا الحركة لاستوائهما في التنوين «3»، وقد نبه السيوطي إلى أنه انفرد بهذا الرأي دون سائر النحويين، وهو كما ذكرنا يميل إلى دفع اللبس في الأساليب، والباسها ثوبا من الوضوح والجلاء، وتجنّب اللبس من الاعتبارات الهامّة التي تراعيها اللغة وتحرص عليها في كثير من أوضاعها، ولذلك فإن تعليل السيوطي لاختياره

_ (1) همع الهوامع ج 1 ص 145. (2) همع الهوامع ج 1 ص 172. (3) همع الهوامع ج 1 ص 173.

بتجنب اللبس يبدو مقبولا متفقا مع المنطق اللغويّ السليم. تلك نماذج من اختيارات السيوطي وآرائه الخاصة وتعليلاته أردت بها أن ألقي الضوء على مذهبه النحوي، وهو في الحقيقة نحوي مصري يجري في اتجاه مدرسته متخيرا من الآراء المختلفة ما تستقيم حججه وبراهينه، ونراه يستشهد في أحيان غير قليلة بالحديث الشريف، وموقفه كما ذكرنا موقف وسط في الاحتجاج بالحديث، ويورد في أحيان أخرى الأحاديث أمثلة يوضح بها الأحكام التي سبق تقريرها، وبالرغم مما قرره نظريا من أن ما يحتج به من الحديث نادر جدا فانه يميل إلى ذكر كثير من الشواهد الحديثيّة عند التطبيق ولكنه لا ينسى أن يعضدها بشواهد أخرى من المادة اللغوية المعتمدة في الاحتجاج قرآنا أو شعرا أو نثرا. ونستطيع أن نقول ان السيوطي في دراساته النحوية قد استطاع أن يلائم بين منهجه الذي غلب عليه الطابع النقلي وبين المنهج العقلي الاستنباطي، فهو يحشد معظم الآراء النحوية ولكنه يختار أحدها ويعلل اختياره بالحجج والبراهين المعتمدة على الأصول النحوية واللغوية المقررة، ولا يعبأ بمخالفة مشاهير النحاة إذا أداه اجتهاده إلى مخالفتهم، وقد كان صادقا حينما ذكر عن نفسه أنه بلغ درجة الاجتهاد في العربية وأنه ليس بعد ابن هشام نحوي مثله، هذا الحكم لا نستطيع بعد ما قدمنا أن ننكره على السيوطي.

خاتمة

خاتمة وبعد، فلقد عنيت في هذا البحث ببيان دور السيوطي في حياة الدرس اللغوي، ومكانه في تاريخ هذا الدرس، وأثره فيه، وقد فرض ذلك عليّ أن أتناول بالدراسة شخصيته وحياته ومنهجه الفكري وأصول هذا المنهج، وقد أردت أن أقيم هذه الدراسة على أساس من دراسة البيئة المصرية بعامة وبيئة القاهرة بخاصة في الفترة التي عاش فيها السيوطي، ومن هنا بدأت بتحديد الاطار السياسي والاجتماعي لهذه البيئة ونبهت إلى أهم الظواهر الاجتماعية التي تركت أثرها في حياة المجتمع وحياة أفراده وعقولهم كمظاهر نشاطها في هذه الفترة، ووصفت وصفا دقيقا نظم الدراسة ومثلت لأنواع المراكز العلمية بعد تقسيمها تقسيما دقيقا، ونبهت إلى عوامل نشاط هذه الحركة وبواعثها، ثم أشرت إلى جملة من الملاحظات الهامة التي لاحظتها فيما يتصل بالتأليف والمؤلفات، وقد بينتها بالتفصيل لأنها تفسر لنا ألوان مؤلفات السيوطي التي حاول فيها أن يجاري أشكال التأليف المتنوعة في عصره، كما تأثر بطابعها، وأهم ملاحظاتي على التأليف اتجاه جانب كبير من المؤلفات اتجاها موسوعيا فرضته ظروف البيئة السياسية والاجتماعية نتيجة الاحساس بقيامها على صيانة التراث وحفظه، وتقديرها ما منيت به من خسارة على أيدي الغزاة من المغول، ثم شيوع التقليد في المؤلفات وظاهرة المتون والشروح والمنظومات التعليمية والاكمالات والتذييلات. وبالرغم من أن النواحي الشكلية في التأليف قد حظيت بعناية بالغة فان ذلك لم يقض على العناية بالقيمة العلمية وان كان قد أثر فيها بطبيعة الحال. على أن هذا العصر يتميز إلى حد كبير بنضج العلوم واستقرار المصطلحات العلمية وتنسيق الأفكار والموضوعات وترتيبها، وقد تعاقبت جهود شتى خلال

هذه الفترة نلحظ لديها العناية التامة بالتنسيق والتنظيم، ولا ينفي ذلك درايتها التامة بالنواحي العلمية والموضوعية، وما أسهمت به في تدرج حياة العلوم المختلفة. وقد ظهرت العناية بالناحية الشكلية في الأدب بصورة جلية في حرص الشعراء والكتاب على البديع وإسرافهم في استخدام المحسنات اللفظية على حساب المعنى في كثير من الأحيان، وقد نبهت على أساليب التعبير في الشعر والنثر، والأنواع الأدبية النثرية التي وجدت أمثلة لها في انتاج السيوطي العلمي والأدبي فهو صورة لهذا العصر تشرب بثقافته، وامتزجت نفسه بروحه، فتأثر به بطريقة ما ثم أثر فيه. وقد تناولت حياة السيوطي بالدراسة، وكان قصدي تحديد المراحل المتميزة في حياته، وهي أربع مراحل تبدأ الأولى بولادته وتستمر فترة حفظه القرآن ودراسته بعض المختصرات والكتب المتعارف عليها في البيئة المصرية آنذاك في الفقه والنحو وغيرهما ثم تلقيه بعض العلوم وتنتهي بحصوله على إجازة بتدريس العربية حين كان في السابعة عشرة من عمره، والثانية تبدأ منذ ذلك الحين الذي أمكنه فيه أن يتخذ طريقه في الحياة العملية مع استمراره في الطلب والدرس إلى حين بلوغه السابعة والعشرين وحصوله على إجازة بالتدريس والافتاء وتصديره، ومنذ ذلك التاريخ تألق نجم السيوطي بالحياة العامة بالقاهرة، وتميزت حياته العلمية والعملية بحركة غير عادية ونشاط واسع، وقد تولى خلالها عددا من الوظائف، وفي المرحلة الثالثة يتجه الرجل إلى الهدوء وحب العزلة مع عكوف على البحث والانتاج، وعدم انقطاع عن المشاركة في الحياة العامة، وتتمثل هذه الفترة في المدة التي قضاها شيخا للبيبرسية كبرى الخوانق في عصره، والمرحلة الأخيرة في حياته تتسم بالعزلة التامة والانقطاع إلى العبادة والتأليف وتبدأ من عام (906 هـ) وتستمر خمسة أعوام إلى أن وافاه أجله، وقد نبهت في عرضي لمراحل حياته وتحديدها على بعض الأوهام التي وقعت للمترجمين له من القدماء والمحدثين. وقد ألقيت الضوء على صلته بالمجتمع ومكانه فيه لما وجدت له من آثار

وفتاوى تناول فيها مجتمعه بالنقد والعلاج وترك بها أثرا واضحا في حياة المجتمع، وقد جرت عليه مكانته العلمية والاجتماعية خصومات عنيفة لمست أثرها في كثير من كتاباته، وقد ألقيت الضوء عليها لما لها من صلة بتحديد شخصيته وخلقه، ثم تناولت بالدراسة شخصه وخلقه وأمانته العلمية، وكان ذلك مقدمة لما قصدت إليه من دراسة منهجه في التفكير وأصول هذا المنهج، وقد تبين لي أن الرجل بالرغم من تعدد جوانبه العلمية فان بعض العلوم قد طبعت عقليته ووجهتها، وأولها علوم الحديث التي استنفذت جلّ اهتمامه، وترك فيها أكبر قدر من آثاره، وعايشها أطول مدة من حياته حيث مكث بالشيخونية مدرسا للحديث مدة طويلة، وقد كان لعلوم الحديث أثرها في غلبة المنهج النقلي على طريقته في التأليف والبحث في معظم ميادين المعرفة فهو حريص على ذكر من ينقل عنه وعلى ذكر أسماء المصادر التي يستمد منها نقوله مع تحرج شديد وأمانة بالغة يدركها من يتتبع هذه النقول، وهو في تلخيصه أيضا حريص على أن يلتزم ألفاظ المنقول عنهم إلى أكبر حد. والجانب الثاني الذي أثر في السيوطي هو سلوكه مسلك التصوف علما وعملا، وقد عرف الصوفية بتساهل في قبول الرواية، وكأن منهجه كان يتنازعه مؤثران أحدهما ينظر إلى الرواية والنقول نظرة علمية جادة، والآخر يميل إلى قبولها والاستئناس بها وبذلك نستطيع تفسير جانب من النقول التي تساهل في قبولها. والعلم الثالث الذي ترك أثرا في منهجه هو الفقه، الذي بلغ فيه درجة الاجتهاد المطلق، والفقه يطبع عقل صاحبه بالطابع العملي الذي يلمس الواقع ويحس به، ويحاول إدراك حاجات الناس في الحياة ويبحث لهم عن حكم الله تعالى فيما يستجد من أحداث، وعلى الفقيه أن يعمل عقله وفكره في النصوص والأدلة في محاولة استنباط الحكم والوقوف عليه، فهو كما قالوا: «معقول من منقول». وقد تركت هذه العلوم أثرها في منهج السيوطي وطبعت عقليته بطابع يغلب عليه المنهج النقلي الذي يعنى أولا بالنقد الخارجي للنقول من حيث ثبوتها

وصحتها ثم يعنى بعد ذلك بترتيبها وتنسيقها، ثم يكون اهتمامه الأخير بنقدها والتعليق عليها ومخالفتها أو موافقتها، ثم إنه قد يتساهل في إيراد بعض الأخبار والروايات الضعيفة مع نصه على درجتها من الصحة والحسن والضعف، وفي بعض الأحيان يغفل حكمه عليها من حيث الوثوق. على أن منهج السيوطي الذي غلب عليه في معظم دراساته يمكن أن نصفه باجمال بأنه يقوم على محاولة استقصاء أكبر قدر من النقول التي بحثت الموضوع من قبل واختيار أخصرها وأوفاها، ثم جمعها وترتيبها ترتيبا يراعي التاريخية والموضوعية في كثير من الأحيان، وقد لا يلتزم بهما في بعض الأحيان، ثم يتبع نقوله بكثير من الأمثلة التي يجتهد في جمعها ويراها موافقة لما ساق من نقول، وقد يصرح باختياره لبعض الأقوال، وقد يسرد موضوعا بأكمله دون أن يصرح بمذهبه أو رأيه، وفي بعض الأحيان نجد له آراء مبتكرة، فان كان يميل إلى ترجيح أحد الآراء التي نقلها أو إلى اختياره اجتهد في ذكر النقول التي تسند مذهبه. ويعنى السيوطي في مصنفاته بالاستدراك على من قبله ممن طرق نفس الموضوعات ويحاول الاضافة إلى ما قدموا، وقد يكون ذلك سببا في التحكم أو التعسف في بعض الأحيان، كما يغفل في أحيان غير قليلة التنبيه على التعارض بين النقول التي يوردها. ويظهر بوضوح اجتهاده العقلي في دراسته للنحو والفقه وقد قالوا ان النحو معقول من منقول كما أن الفقه معقول من منقول. وقد حاولت أن ألقي الضوء على الجانب الأدبي عند السيوطي بغية تبين ملامح أسلوبه وخصائصه مع التعريف بالأنواع الأدبية التي ترك فيها آثارا، كما عرفت به شاعرا تبلغ مقدرته النظمية أوجها في نظم العلوم، فله منظومات في شتى ألوان المعرفة، وفي الموضوعات والمسائل الجافة. وقد بحثت آثار السيوطي بصفة عامة ووجدت اختلاف المصادر القديمة والحديثة في تقدير عددها، وقد حصرت منها ستمائة مصنف بها جانب من

المطولات وبعض المنظومات، وبعضها متوسط الحجم، وبينها عدد كبير من الرسائل الصغيرة، وله بعض المقامات، بعضها لا يتجاوز بضع صفحات، وقد وقفت على جانب كبير من هذه الآثار يمثل معظم ما وصل إلينا، ويمثل نماذج لجميع الأنواع السابقة. وبعض كتب السيوطي لا سيما المطولات ألفها في مراحل متفرقة يعاود النظر فيها بين الحين والحين ثم يصدرها بعد أعوام طويلة من بداية شروعه فيها، والجانب الأكبر منها لم يكن يستغرق وقتا طويلا، على أنه قد عرف بسرعة الكتابة والتأليف، ولم يكد يترك موضوعا دون أن يطرق أبوابه بقلمه، وقد نبهت على بعض النصوص التي زيدت على بعض كتب السيوطي، وان كان ذلك لم يضعف عندي من وثاقة نسبة هذه الآثار جميعها إليه. وبعد أن أرسيت في الباب الأول الأسس التي يمكنني الاعتماد عليها في بيان دور السيوطي في حياة الدرس اللغوي اتجهت إلى بحث جهوده اللغوية، وبدأت بالحديث عن جهوده في فقه اللغة وقصدت به تناول الجهود التي تتصل بمستويات الدّرس اللغوي غير النحوية، ولما كنت أهدف إلى بيان مكانه بين اللغويين، ومكان دراساته في تاريخ الدرس اللغوي، فقد بدأت بإجمال الملامح الرئيسية لتدرج الدرس اللغوي وأنواع الدراسات التي سبق بها اللغويون وكانت مصدرا اعتمد عليه السيوطي، ثم تناولت بالدراسة آثاره اللغوية، ورتبتها ترتيبا موضوعيا لتعذر الترتيب التاريخي، وبعض هذه الآثار يمس عربية القرآن وهي تطلعنا على موقف السيوطي الذي يقبل وجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم، بل يتوسع في إحصاء هذه الألفاظ، ويجتهد في نقل أكبر عدد منها، وهو مخالف لرأي الشافعي والطبري وأبي عبيدة وابن الطيب وابن فارس وغيرهم، وقد ناقشت فكرة عربية القرآن بين المنكرين لوجود ألفاظ أعجمية والقائلين بوجودها، ومن حاول التوفيق بين كلا المذهبين، وتبين لي أن أقرب هذه الآراء إلى الصواب رأي الموفقين بين المذهبين كأبي عبيد القاسم بن سلام وغيره، كما نبهت على أن كثيرا من الألفاظ التي نقل السيوطي نسبتها إلى لغات غير العربية هي ألفاظ عربية ولا دلالة على عجمتها لا سيما ما نسب منها إلى

بعض اللغات السامية، كما نبهت على عيوب منهجه النقلي الذي جعله ينسب بعض الألفاظ الواردة بالقرآن الكريم إلى بعض اللغات الأجنبية ثم لا يلبث حين يتناول «ما ورد في القرآن ببعض لغات العرب» أن ينسب هذه الألفاظ إلى بعض اللهجات العربية، وهكذا تتعارض نقوله دون أن ينبه على هذا التعارض أو يتناوله بالدراسة. وتناولت رسالته عن أصول الكلمات وبينت أهميتها في درس التطور الدلالي، وأشرت إلى جهود القدماء والمحدثين حول فكرة التطور، واستنتجت من هذه الرسالة تنبه السيوطي لفكرة مادية اللغة في نشأتها وهي الفكرة التي تجعل الدلالات الحسية أسبق في الوجود من الدلالات المجردة. ثم تناولت منظومة له في أسماء الكلب وبعض الآثار الأخرى المناظرة حول موضوع الترادف وقد وجهت النقد إلى صنيع السيوطي في بعض هذه الآثار ومحاولته الجمع والتقصي دون مراعاة لما تفرضه طبيعة الموضوع وواقعه، وقد كان ذلك أثرا من آثار المنهج النقلي. ودرست «الاتباع» في اللغة بصدد بعض الآثار، ورأيت أنه قد غلب عليه طابعه النقلي فلم يصرح بموقفه ولم يذكر تعليقا واحدا، وقد بينت أنه يقر هذه النقول وأنها تعبر عن رأيه، كما عرضت لموضوع «المشترك اللفظي» ثم قارنت شرحه لقصيدة كعب بن زهير بشرح ابن هشام وقد بينت ما امتاز به شرح السيوطي من عناية بالمعنى، وسهولة الأسلوب ووضوح العبارة، ويعد أفضل شروح هذه القصيدة، وتناولت بعض الآثار الأخرى بالدراسة، وقد بلغت جملة الآثار التي عرضتها ستة عشر تمكنت من الوقوف على تسعة منها تعد أهمها، وبعض الآثار الباقية حملت ما فيها على نظائره في آثاره الأخرى أو في كتابه المزهر، بعد أن تبين لي تشابه أبحاثه حول الموضوع الواحد إذا تناوله في أماكن متفرقة من كتبه بحيث لا تكاد تختلف إلا في مقدار الاسهاب أو الايجاز. وقد بينت قيمة أهم آثاره اللغوية وهو كتابه «المزهر» الذي جمع شتات مباحث فقه اللغة، ولم يسبق السيوطي بمؤلف جامع مثل مؤلفه، ويتميز بوقوفه على دراسات الأصوليين الهامة للغة والافادة منها، ويعد أجل الأعمال اللغوية التي

قام بها والتي أحجم عنها اللغويون من قبل بالرغم من غلبة الطابع النقلي عليه. على أن أهم ما تفرد به السيوطي في البحث اللغوي هو إقامة منهج لنقد الرواية اللغوية أو التنظير الوافر له، وهو ما أغفل اللغويون من قبل إفراده بالبحث، وما تنبه إليه السيوطي نتيجة لتأثره بعلوم الحديث، وقد شرحت هذه المحاولة وقارنت الأصول التي وضعها السيوطي لنقد الرواية اللغوية بما وضع من قبل من أصول لنقد رواية الحديث عرفت باسم أصول الحديث ومصطلحه. وبحثت مفهوم اللغة عند السيوطي، وهو المفهوم الذي حدده ابن جنى من قبل، والذي ساد عند العرب بصفة عامة، وقد بينت إدراكهم لماهية اللغة من حيث كونها أصواتا يعبر بها عن المعاني وتقديرهم لهذه الصوتية، وادراكهم لوظيفة اللغة في المجتمع، وأثر هذا المفهوم في دراساتهم. وقد عرضت لمجموعة من مباحث السيوطي تحت عنوان «الألفاظ» ونبهت فيها على الآراء الصوتية القيمة التي عرفها العرب في درسهم للغة بصدد دراسة الفصيح والمذموم من اللغات، والعيوب الصوتية، وقد رأيت محاولة السيوطي تصنيف ألفاظ اللغة على أساسين أولهما أساس صوتي، والآخر يتصل بالرواية وأصول نقدها. وبينت دور السيوطي في بحث المعرب والمولد من الألفاظ، ووصلته بما قام به المجمعيون في عصرنا، وأهم ما توصل إليه اللغويون القدماء في بحث المعرب ما نقله السيوطي في كيفية معرفة عجمة الاسم حيث يتصل ذلك بالخصائص الصوتية للغة العربية، فعجمة الاسم تعرف بخروجه عن أوزان الأسماء العربية نحو «ابريسم» أو أن يكون أوله نون ثم راء، أو أن يكون آخره زاي بعد دال، أو أن يجتمع فيه الصاد والجيم أو الجيم والقاف، أو أن يكون خماسيا أو رباعيا عاريا من حروف الذلاقة وهي الباء والراء واللام والميم والنون. وقد بينت أهمية دراسته لمختلف اللغات وتداخلها في الدرس اللغوي وتفسير بعض الظواهر اللغوية. ثم عرضت لمجموعة أخرى من مباحثه تحت عنوان «الدلالة اللغوية» وقد

نبهت إلى أن بعض ما عده السيوطي بحثا في اللغة من حيث المعنى، كان ألصق بمباحث اللفظ كالابدال والقلب والنحت، وقد أورد فيها آراء صوتية قيمة للغويين تشهد بصحتها الدراسات الحديثة. وتناول الاشتقاق ببحث لخص فيه أقوال السابقين وقسمه تقسيما جامعا حاول به أن يستوعب الدراسات السابقة. ويتصل بالتطور الدلالي بحثه في الحقيقة والمجاز والخاص والعام والمطلق والمقيد ويمتاز كتاب السيوطي باغترافه من منابع الأصوليين الذين درسوا هذه الموضوعات أدق وأوفى من درس اللغويين، وجمعه بين أقوالهم وأقوال اللغويين، وقد حاول أن يقسم ألفاظ اللغة باعتبار عموم الدلالة وخصوصها إلى خمسة أقسام، وهو تصنيف لم يسبق إليه، وهو يفيد إلى حد كبير في دراسة التغير الدلالي، فقد وضع قسما لما وضع عاما واستعمل عاما أي لما لم يحدث فيه تغير دلالي كالسماء لكل ما علا والصعيد لكل أرض مستوية، والثاني ما وضع عاما ثم خص في الاستعمال ببعض أفراده، والثالث الألفاظ التي اعتراها تغيير نحو التعميم أي ما وضع خاصا ثم استعمل عاما، والرابع ما وضع عاما واستعمل خاصا، وأفرد لبعض أفراده اسم يخصه، والخامس ما وضع خاصا واستعمل خاصا، ويدل هذا المبحث على ابتكار السيوطي في هذا التقسيم وعنايته بالتغير الدلالي، وجهده الصائب في جمع الأمثلة ووضعها في مواضعها، على أن مباحث الدلالة قد حظيت بعناية الأصوليين أكثر مما حظيت به عند اللغويين. وقد وضع السيوطي تصنيفا مبتكرا لأبنية اللغة حاول به حصرها وضبطها في المبحث الذي سماه بالأشباه والنظائر. والحقيقة أنني قد خلصت من هذه المباحث إلى أن عبقرية السيوطي تتجلى في الاستقصاء والتتبع الدقيق وحسن التصنيف والتقسيم والترتيب، وهو بذلك يعبر عن الروح السائدة في عصره ولكنه يبلغ مبلغا كبيرا. وقد حاولت تبين موقفه من بعض القضايا اللغوية كالبحث في نشأة اللغة، والمناسبة بين اللفظ والمعنى، وهو من اللغويين الذين يدافعون عن وجود مناسبة

بين اللفظ والمعنى لكنها عندهم مناسبة غير ذاتية، وقد وجدت هذه الفكرة من المحدثين من يميل إليها، كما أشرت إلى جهده في دراسة المعاجم اللغوية وعنايته فيها بناحية الثبوت والوثاقة، كذلك دراسته لفكرة إثبات الأسماء بالقياس التي أنكرها متابعا المحققين من الأصوليين واللغويين، وفيها دلالة على اتجاههم إلى أنّ الصلة بين اللفظ والمعنى عرفية وليست عقلية. وفي بحثي عن جهوده النحوية تبين لي أنه قد طرق بكتبه جميع أنوار الدراسات النحوية، فقد ألف في أصول النحو، كما ألف في سبب وضع علم النحو، كما كتب عددا من الكتب في الفروع النحوية، وله إلى جانب ذلك فتاوى ودراسات تطبيقية تتناول النصوص. وليس تنوع مباحثه النحوية مقصورا على ناحية الموضوع، بل تنوعت مصنفاته من ناحية الشكل حيث حاول فيها أن يستوعب جميع الأشكال التأليفية المعروفة، فله شرح على ألفية ابن مالك، وله ألفية مستقلة وشرح عليها، ثم له متن مطول هو جمع الجوامع وشرح عليه هو همع الهوامع، وله موشح في النحو، وشرح على المغنى وشرح لشواهده، وله دراسة نقدية نحوية قيمة لبعض الكتب النحوية التي اشتهرت في عصره وهي كتابه «النكت»، وقد تناولت بالدراسة أهم هذه الكتب، وجانب منها لا يزال مخطوطا. والواقع أن شخصية السيوطي في الدرس النحوي أكثر وضوحا منها في فروع الدّرس اللغوي الأخرى ويتميز بأنه تنبه إلى وظيفة النحو في الحياة وأهميته في فهم النصوص القرآنية والحديثية والفقهية والأدبية، وسائر النصوص، ويتضح ذلك في فتاواه النحوية وفي بعض رسائله، على أن أهم أعمال السيوطي النحوية تتمثل في كتابه «الاقتراح» الذي تناول فيه علم أصول النحو، وتأتي أهميته من أنه لم يحظ بعناية الباحثين في النحو، فأهم المحاولات التي سبقت السيوطي في ذلك ما قام به ابن جني، وما قام به ابن الأنباري وقد بينت قيمة عمليهما، وخلصت إلى أن السيوطي قد تميز عمله عن سابقيه بالفهم الدقيق لعلم أصول النحو وموضوعه وأهدافه، وبحسن الترتيب الذي يراعى به موضوع العلم، وبزيادة بعض المباحث التي أغفلها سابقاه، ومن ثم فان علم أصول النحو لم

يتحدد علما مكتوبا له أصوله وحدوده في البيئة النحوية إلا بعمل السيوطي، ولم أنس أن أنتقد صنيع السيوطي ومن سبقه من أصوليي النحاة وأنبه على بعض المآخذ التي أخذتها عليهم نتيجة ربطهم أصول النحو بأصول الفقه. ثم حاولت في ختام البحث تحديد المذهب النحوي له، وتبين لي أنه نحوي مصري تأثر بروح المدرسة المصرية التي كان أفرادها يتخيرون من أقوال النحاة ما تستقيم لهم حجته كابن مالك وأبي حيان، وللسيوطي اختيارات يرجح فيها مذهب البصريين في كثير من الأحيان، ومذهب الكوفيين في أحيان أخرى، أو يرجح آراء بعض النحاة المتأخرين تبعا لما يمليه عليه اجتهاده اللغوي، ويعد السيوطي- بحق- أفضل نحوي أنجبته مصر بعد ابن هشام. والحمد لله رب العالمين

ثبت المصادر والمراجع

ثبت المصادر والمراجع أولا: أسماء مؤلفات السيوطي أورد فيما يلي أسماء آثار السيوطي التي أشرت من قبل إلى أني سأذكرها ضمن مسرد المصادر، وما أشرت إلى أنه مطبوع أو مخطوط فهو من المصادر التي اعتمدت عليها في البحث وتمكنت من الرجوع إليها، وما لم أذكر ذلك فهو ما لم أتمكن من الوقوف عليه، وقد اعتمدت في سرد ما لم أقف عليه من آثاره على ما ورد بحسن المحاضرة له، وكشف الظنون لحاجي خليفة، وهدية العارفين لاسماعيل البغدادي. 1 - أبواب السعادة في أسباب الشهادة (مخطوط بدار الكتب برقم 21839 ب ضمن مجموعة مخطوطة). 2 - الابتهاج في مشكل المنهاج (ذكره صاحب الهدية). 3 - إتحاف الفرقة برغو الخرقة (طبعت بالحاوي ج 2 ص 191، ضمن مخطوط بدار الكتب برقم 25 قولة، ورقة 323). 4 - إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء (ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 241). 5 - الإتقان في علوم القرآن (رجعت إلى طبعة مطبعة حجازي بالقاهرة، نشر المكتبة التجارية، 1368 هـ). 6 - إتمام الدراية لقراء النقاية (بهامش كتاب مفتاح العلوم للسكاكي- مطبعة التقدم العلمية بمصر). 7 - إتمام النعمة في اختصاص الاسلام بهذه الأمة (طبعت بالحاوي ج 2 ص 213). 8 - الأجر الجزل في الغزل (ذكر بكشف الظنون). 9 - الأجوبة الزكية عن الألغاز السبكية (طبعت بالحاوي ج 2 ص 493).

10 - الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 11 - الأحاديث المنيفة في السلطنة الشريفة (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 12 - أحاسن الاقتياس في محاسن الاقتباس (ذكر بحسن المحاضرة والكشف والهدية). 13 - الاحتفال بالأطفال (طبعت بالحاوي ج 1 ص 311، مخطوط بدار الكتب برقم 23273 ب، ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 148). 14 - إحياء الميت بفضائل أهل البيت (ضمن مخطوط (رقم 25) قولة ورقة رقم 74). 15 - الأخبار المأثورة في الاطلاء بالنورة (طبعت بالحاوي ج 1 ص 524، ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 113). 16 - الأخبار المروية في سبب وضع علم العربية (رسالة طبعت ضمن مجموعة بعنوان التحفة البهية والطرفة الشهية، مطبعة الجوائب، القسطنطينية عام 1302 هـ). 17 - أخبار الملائكة (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 18 - آداب الفتوى (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 19 - آداب الملوك (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 20 - أدب القاضي على مذهب الشافعي (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 21 - أدب المفرد في الحديث (ذكر بهدية العارفين). 22 - اذكار الأذكار مختصر حلية الأبرار (ذكر بهدية العارفين). 23 - أربعون حديثا في رفع اليدين في الدعاء (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 24 - أربعون حديثا في فضل الجهاد (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 25 - أربعون حديثا من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر (ذكر بحسن المحاضرة وكشف الظنون). 26 - الأرج في الفرج (القاهرة، المطبعة الشرقية، 1318 هـ). 27 - إرشاد المهتدين إلى نصرة المجتهدين (ذكر بكشف الظنون وبالهدية).

28 - إزالة الوهن عن مسألة الرهن (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 29 - الازدهار فيما عقده الشعراء من الآثار (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 30 - أزهار الآكام في أخبار الأحكام (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 31 - أزهار العروش في أخبار الجيوش (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 32 - الأزهار الفائحة على الفاتحة (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 33 - الأزهار الغضة في حواشي الروضة (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 34 - الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 35 - الأساس في مناقب بني العباس (ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 73). 36 - أسباب الاختلاف في الفروع (ذكر بهدية العارفين). 37 - أسباب الحديث (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 38 - إسبال الكساء على النساء (مخطوط بدار الكتب برقم 20180 ب). 39 - اسجال الاهتداء بابطال الاعتداء (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 40 - إسعاف الطلاب من مختصر الجامع الصغير بترتيب الشهاب (ذكر بهدية العارفين). 41 - إسعاف المبطأ برجال الموطأ (حيدرآباد 1320 هـ). 42 - الأسئلة الوزيرية وأجوبتها (طبعت بالحاوي ج 2 ص 552). 43 - أسماء المهاجرين (مخطوط بدار الكتب برقم 4364 ج ضمن مجموعة). 44 - الأشباه والنظائر في الفقه (مطبوع، مكة 1331 هـ). 45 - الأشباه والنظائر في النحو (حيدرآباد، طبعة دائرة المعارف النظامية 1316، 1317 هـ). 46 - أطراف الأشراف بالاسراف عى الأطراف (ذكر بالهدية). 47 - الاعتماد والتوكل على ذي التكفل (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 48 - أعذب المناهل في حديث: من قال أنا عالم فهو جاهل (طبعت بالحاوي ج 2 ص 45، مخطوط بدار الكتب برقم 21839 ضمن مجموعة،

ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 311). 49 - الإعراض والتولي عمن لا يحسن أن يصلي (ذكر بهدية العارفين). 50 - إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 51 - الاعلام بحكم عيسى عليه السلام (طبعت بالحاوي ج 2 ص 277، مخطوط بدار الكتب برقم 22968 ب، ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 227). 52 - الأعلام الحسنى بمعاني الأسماء الحسنى (ذكر بالهدية). 53 - أعلام النصر في إعلام سلطان العصر بمسألة البروز على شاطئ النهر (يبدو أنه لا يزيد على رسالته: الجهر بمنع البروز على شاطئ النهر ومنظومته النهر، انظر الحاوي ج 2 ص 226). 54 - إعمال الفكر في فضل الذكر (طبعت بالحاوي ج 2 ص 20). 55 - إغاثة المستغيث في حل بعض إشكالات الحديث (ذكر بالهدية). 56 - الإغضاء عن دعاء الأعضاء (ذكر بكشف الظنون). 57 - إفادة الخبر بنصه في زيادة العمر ونقصه (ذكر بالهدية). 58 - الافصاح في أسماء النكاح (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 59 - الإفصاح في زوائد القاموس على الصحاح (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 60 - الافصاح على تلخيص المفتاح (ذكر بالهدية). 61 - الاقتراح في علم أصول النحو (رجعت إلى طبعة دائرة المعارف العثمانية حيدرآباد، الطبعة الثانية 1359 هـ). 62 - الاقتناص في مسألة التماص (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 63 - آكام العقيان في أحكام الخصيان (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 64 - الاكليل في استنباط التنزيل (مخطوط بمكتبة بلدية الاسكندرية برقم 3591 ج). 65 - التقاط لقط المرجان في أحكام الجان (ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 95).

66 - إلقام الحجر لمن زكى سباب أبي بكر وعمر (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 67 - الإلماع في الإتباع (ذكر بكشف الظنون وبالهدية، وقد أشار إليه السيوطي في المزهر بصدد حديثه عن الإتباع). 68 - ألوية النصر في «خصيصى» بالقصر (طبعت بالحاوي ج 2 ص 478). 69 - أمالي على الدرة الفاخرة (ذكرت بكشف الظنون وبالهدية). 70 - الأمالي على القرآن (ذكرت بكشف الظنون وبالهدية). 71 - الأمالي المطلقة (ذكرت بكشف الظنون وبالهدية). 72 - الأناقة في رتب الخلافة (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 73 - إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء (طبعت بالحاوي ج 2 ص 264، بمخطوط قولة ورقة رقم 25، حيدرآباد 1316 هـ). 74 - الانتصار بالواحد القهار (ذكرت بكشف الظنون وبالهدية). 75 - إنجاز الوعد بالمنتقى من طبقات ابن سعد (ذكر بالهدية). 76 - انشاب الكثب في أنساب الكتب (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 77 - الانصاف في تمييز الأوقاف (طبعت بالحاوي ج 1 ص 240). 78 - أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب (مخطوط بدار الكتب برقم 21565 ب، نسخة أخرى برقم 23200 ب). 79 - الأنوار السنية في تاريخ الخلفاء والملوك لمصر السنية (ذكر بالهدية). 80 - الأوج في خبر عوج (طبعت بالحاوي ج 2 ص 573، ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 104). 81 - الآية الكبرى في شرح قصة الاسرا (دمشق- مطبعة الترقي 1350 هـ). 82 - الايضاح في علم النكاح (القاهرة، طبع حجر 1279 هـ). 83 - الباحة في السباحة (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 84 - البارع في اقطاع الشارع (طبعت بالحاوي ج 1 ص 198). 85 - البارق في قطع يد السارق (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 86 - الباهر في حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الباطن والظاهر (مطبعة حجازي بالقاهرة 1351 هـ، بمخطوط قولة ورقة رقم 49).

87 - بدائع الزهور في وقائع الدهور (ذكر بكشف الظنون وبالهدية ولم يذكر بحسن المحاضرة، وقد ذكر في دائرة المعارف الاسلامية أنه تاريخ عام مطبوع بالقاهرة عام 1282 هـ). 88 - البدر الذي انجلى في مسألة الولا (طبعت بالحاوي ج 1 ص 274). 89 - البدور السافرة في أمور الآخرة (مخطوط بدار الكتب برقم 23191 ب، وطبع بالهند 1311 هـ). 90 - البحر الذي زخر في شرح نظم الدرر (ذكر بالهدية). 91 - بذل العسجد لسؤال المسجد (طبعت بالحاوي ج 1 ص 138، وبمخطوط قولة ورقة رقم 275). 92 - بذل المجهود لخزانة محمود (ذكر بالهدية). 93 - بذل الهمة في طلب براءة الذمة (طبعت بالحاوي ج 1 ص 170، وبمخطوط قولة ورقة رقم 108). 94 - برد الظلال في تكرار السؤال (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 95 - البرق الوامض في يائية ابن الفارض (مطبوع). 96 - بزوغ الهلال في الخصال الموجبة للظلال (بمخطوط قولة رقم 287). 97 - بسط الكف في إتمام الصف (طبعت بالحاوي ج 1 ص 77، بمخطوط قولة ورقة رقم 203). 98 - بشرى الكئيب بلقاء الحبيب (المطبعة الميمنية بالقاهرة 1309 هـ، بمخطوط رقم «25» قولة ورقة رقم 124). 99 - بغية الرائد في الذيل على مجمع الزوائد (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 100 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة (الطبعة الأولى، القاهرة 1326 هـ). 101 - بلبل الروضة (ضمن مجموعة مقامات له، مطبعة الجوائب، القسطنطينية عام 1298 هـ). 102 - بلغة المحتاج في مناسك الحاج (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية).

103 - بلوغ الأمنية في الخانقاه الركنية (ذكر بكشف الظنون والهدية). 104 - بلوغ المآرب في قص الشارب (بمخطوط قولة ورقة رقم 112). 105 - بلوغ المآرب في أخبار العقارب (ذكر بكشف الظنون والهدية). 106 - بلوغ المأمول في خدمة الرسول (طبعت بالحاوي ج 2 ص 204). 107 - البهجة المرضية في شرح الألفية (رجعت إلى طبعة مؤرخة بعام 1272 هـ، ولم يذكر بها مكان الطبع)، ويبدو أن صحة العنوان «النّهجة» بالنون، وليس البهجة بالباء، وقد أوردته تبعا لعنوان المطبوع. 108 - بهجة الناظر ونزهة الخاطر (مخطوط بدار الكتب برقم 32 مجاميع). 109 - تأخير الظلامة إلى يوم القيامة (مخطوط بدار الكتب برقم 22729 ب، بمخطوط «25» قولة ورقة رقم 290). 110 - تاريخ الخلفاء (طبعة إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة 1351 هـ). 111 - تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية (ذكر بحسن المحاضرة وكشف الظنون والهدية). 112 - التبر الذائب في الأفراد والغرائب (ذكر بالهدية). 113 - التبري من معرة المعري (منظومة له في أسماء الكلب رجعت إليها مطبوعة ضمن كتاب تعريف القدماء بأبي العلاء، القاهرة 1385 هـ- 1965 م). 114 - تبييض الصحيفة بمناقب الامام أبي حنيفة (حيدرآباد 1317 هـ، الهند 1324 هـ ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 187). 115 - التثبيت عند التبييت (منظومة له في سؤال القبر، المطبعة الحسينية، القاهرة 1328 هـ). 116 - التحبير في علوم التفسير (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية، ويبدو أنه قد أدرجه في كتاب الاتقان). 117 - تحذير الخواص من أكاذيب القصاص (مطبعة المعاهد، القاهرة 1351 هـ، طبع بعد ذلك بتحقيق الأستاذ محمد لطفي الصّبّاغ). 118 - تحرير المنقول وتهذيب الأصول (ذكر بالهدية).

119 - تحفة الآثار في الأدعية والأذكار (ذكر بالهدية). 120 - تحفة الأبرار بنكت الأذكار (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 121 - تحفة الأنجاب بمسألة السنجاب (طبعت بالحاوي ج 1 ص 13). 122 - تحفة الجلساء برؤية الله تعالى للنساء (طبعت بالحاوي ج 2 ص 348). 123 - تحفة الحبيب بنحاة مغني اللبيب (ذكر بالهدية). 124 - تحفة الظرفاء بأسماء الخلفاء (ذكر بالهية وحسن المحاضرة وكشف الظنون). 125 - تحفة الكرام بأخبار الأهرام (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 126 - تحفة المجالس وأنس المجالس (مطبعة السعادة، القاهرة 1326 هـ). 127 - تحفة المجتهدين في أسماء المجددين (مخطوطة في ورقة واحدة برقم 8260 ح بدار الكتب). 128 - تحفة المذاكر في المنتفى من تاريخ ابن عساكر (ذكر بحسن المحاضرة والهدية). 129 - تحفة النابه بتلخيص المتشابه (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 130 - تحفة الناسك بنكت المناسك (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 131 - تحفة النجبا في قولهم: هذا بسرا أطيب منه رطبا (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 132 - تخريج أحاديث شرح العقائد (ذكر بحسن المحاضرة). 133 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (القاهرة المطبعة الخيرية، مخطوط برقم 7 مصطلح حديث- قولة بدار الكتب). 134 - تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 135 - التذنيب في الزوائد على التقريب (ذكر بالكشف وبالهدية). 136 - التذييل والتذنيب على نهاية الغريب (ذكر بالهدية). 137 - ترجمان القرآن في التفسير المسند (القاهرة 1314 هـ، عدة مجلدات). 138 - ترجمة النووي والبلقيني (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 139 - تزيين الأرائك بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملائك (طبعت بالحاوي ج 2

ص 251، بمخطوط قولة ورقة رقم 41). 140 - تزيين الممالك بمناقب الامام مالك (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 141 - تشنيف الأسماع بأحكام السماع (ذكر بالهدية). 142 - تشنيف الأسماع بأحكام الاجماع (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 143 - تشنيف السمع بتعديد السبع (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 144 - تشييد الأركان في ليس في الامكان أبدع مما كان (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 145 - التصحيح لصلاة التسبيح (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 146 - التضلع بمعنى التقنع (ذكر بالكشف وبالهدية). 147 - التطريف في التصحيف (ذكر بالكشف وبالهدية). 148 - تعريف الأعجم بحروف المعجم (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 149 - التعريف بآداب التأليف (مخطوط بدار الكتب برقم 32 مجاميع). 150 - تعريف الفئة بأجوبة الأسئلة المائة (طبعت بالحاوي ج 2 ص 509). 151 - التعظيم والمنة في أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة (الطبعة الأولى حيدرآباد 1317 هـ، بمخطوط قولة ورقة رقم 343). 152 - تعقبات السيوطي على موضوعات ابن الجوزي (طبع حجر لاهور 1886 م). 153 - التعلل والإطفاء لنار لا تطفأ (ذكر بالكشف وبالهدية). 154 - تعليقة على السنن الكبيرة (ذكر بالهدية). 155 - تعليق الشص في حلق اللص (ذكر بالهدية). 156 - تفسير الجلالين (أكمل السيوطي العمل الذي قام به شيخه المحلي في التفسير ففسر من أول البقرة إلى نهاية الإسراء، ثم وضع تفسير الفاتحة الطبعة الأولى القاهرة 1324 هـ). 157 - تقدير أيام الدجال (بمخطوط قولة ورقة رقم 119). 158 - تقريب القريب في الحديث (ذكر بحسن المحاضرة وكشف الظنون والهدية). 159 - تقرير الاسناد في تفسير الاجتهاد (ذكر بالهدية).

160 - تلخيص الأربعين لابن حجر في المتباين (ذكر بالهدية). 161 - تمهيد الفرش في الخصال الموجبة لظل العرش (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف). 162 - تناسق الدرر في تناسب السور (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 163 - التنبيه بمن يبعثه الله على رأس كل مائة (ذكر بالهدية، وفكرته نفس ما ورد بمنظومته تحفة المجتهدين بأسماء المجددين). 164 - تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي (ذكر بالهدية). 165 - تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد (طبعت بالحاوي ج 2 ص 236). 166 - تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء (طبعت بالحاوي ج 1 ص 359، حيدرآباد 1316 هـ، بمخطوط قولة ورقة رقم 87). 167 - التنفيس في الاعتذار عن ترك الافتاء والتدريس (تسمى المقامة اللؤلؤية، رجعت إليها مخطوطة بدار الكتب برقم 21174 ب). 168 - التنقيح في مسألة التصحيح (ذكر بكشف الظنون والهدية). 169 - تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك (طبعت بالحاوي ج 2 ص 437، بمخطوط قولة ورقة رقم 30). 170 - تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك (مطبعة الحلبي 1349 هـ). 171 - توجيه العزم في اختصاص الاسم بالجر والفعل بالجزم (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 172 - التوشيح على التوضيح (ذكر بحسن المحاضرة والكشف والهدية). 173 - التوشيح على الجامع الصحيح للبخاري (ذكر بحسن المحاضرة والهدية). 174 - توضيح المدرك في تصحيح المستدرك (ذكر بالهدية). 175 - تهذيب الأسماء (ذكر بالهدية). 176 - التهذيب في أسماء الذيب (ذكر بالكشف وبالهدية). 177 - الثبوت في ضبط ألفاظ القنوت (مخطوط برقم 23037 ب بدار الكتب). 178 - الثغور الباسمة في مناقب السيدة فاطمة (بمخطوط قولة ورقة رقم 78).

179 - ثلج الفؤاد في أحاديث لبس السواد (طبعت بالحاوي ج 1 ص 117، بمخطوط «25» قولة ورقة رقم 278). 180 - الجامع الصغير لأحاديث البشير النذير (الطبعة الثالثة بعنوان السراج المنير شرح على الجامع الصغير للشيخ علي العزيزي الشافعي، 1377 هـ- 1957 م القاهرة). 181 - جامع المسانيد (ذكر بالهدية). 182 - جامع الفرائض (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 183 - جرّ الذيل في علم الخيل (ذكر بالكشف وبالهدية). 184 - جزء في السلام على سيد الأنام (ذكر بالهدية). 185 - جزء في السلام من سيد الأنام (بمخطوط قولة ورقة رقم 30). 186 - جزء في صلاة الضحى (طبعت بالحاوي ج 1 ص 58، بمخطوط قولة ورقة رقم 207). 187 - جزء الوزير (ذكر بالهدية). 188 - جزء الهاشمي (ذكر بالهدية). 189 - جزيل المواهب في اختلاف المذاهب (مخطوط بدار الكتب برقم 35 مجاميع). 190 - جمع الجوامع في الحديث (كتاب ضخم قصد به السيوطي استيعاب الأحاديث النبوية، قسمه قسمين الأول ساق فيه لفظ الحديث بنصه يذكر من خرجه ومن رواه، والثاني جعل به الأحاديث الفعلية المحضة أو المشتملة على قول وفعل، وقد رتبه الشيخ علاء الدين الهندي على أبواب الفقه وأخرجه باسم كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، وقد شرع مجمع البحوث الاسلامية أخيرا في إخراج الكتاب، وقد صدر منه العدد الأول). 191 - جمع الجوامع في النحو (انظر همع الهوامع). 192 - الجمع والتفريع في أنواع البديع (ذكر بالكشف وبالهدية). 193 - جنى الجنان (ذكر بالكشف وبالهدية). 194 - الجهر بمنع البروز على شاطئ النهر (طبعت بالحاوي ج 1 ص 208).

195 - الجواب الأرشد في تنكير الأحد وتعريف الصمد (ذكر بالهدية). 196 - الجواب الحاتم عن سؤال الخاتم (طبعت بالحاوي ج 1 ص 114، بمخطوط قولة ورقة رقم 283). 197 - الجواب الحزم عن حديث: التكبير جزم (طبعت بالحاوي ج 1 ص 535). 198 - الجواب الزكي عن قمامة ابن الكركي (ذكر بالكشف وبالهدية). 199 - الجواب المصيب عن اعتراض ابن الخطيب (ذكر بالكشف وبالهدية). 200 - جواب في أسماء الملائكة (بمخطوط قولة ورقة رقم 277). 201 - جياد المسلسلات (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 202 - حاطب ليل وجارف سيل (كتاب جمع فيه شيوخه ورتبهم على حروف المعجم، وقد ذكره بحسن المحاضرة، وذكر بالكشف وبالهدية). 203 - الحاوي للفتاوى (الطبعة الثالثة بتحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السعادة- القاهرة- شوال 1378 هـ، 1959 م). 204 - الحبائك في أخبار الملائك (القاهرة مطبعة دار التأليف). 205 - الحبل الوثيق في نصرة الصديق (طبعت بالحاوي ج 1 ص 504، بمخطوط قولة ورقة رقم 199). 206 - الحجج المبينة في التفضيل بين مكة والمدينة (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 207 - حديقة الأديب وطريقة الأريب (ذكر بالهدية). 208 - الحرز المنيع في أحكام الصلاة على الحبيب (القاهرة 1325 هـ). 209 - حسن التخليص لتالي التلخيص (ذكر بالكشف وبالهدية). 210 - حسن التسليك في حكم التشبيك (طبعت بالحاوي ج 2 ص 48). 211 - حسن التصريف في عدم التحليف (طبعت بالحاوي ج 1 ص 385). 212 - حسن التعهد في أحاديث التسمية والتشهد (ذكر بالهدية). 213 - حسن السمت في الصمت (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 214 - حسن السير فيما في الفرس من أسماء الطير (ذكر بالكشف وبالهدية). 215 - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة (مطبعة إدارة الوطن، القاهرة

1299 هـ). 216 - حسن المقصد في عمل المولد (طبعت بالحاوي ج 1 ص 292، بمخطوط قولة ورقة رقم 1). 217 - حسن النية في خانقاه البيبرسية (ذكرت بالهدية). 218 - الحصر والاشاعة لأشراط الساعة (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 219 - حصول الرفق بأصول الرزق (مخطوط برقم 20146 ب بدار الكتب ضمن مجموعة، بمخطوط قولة ورقة رقم 217). 220 - حصول النوال في أحاديث السؤال (ذكر بالكشف وبالهدية). 221 - الحظ الوافر من المغنم في استدراك الكافر إذا أسلم (طبعت بالحاوي ج 1 ص 39، بمخطوط قولة ورقة رقم 93). 222 - الحكم المشتهرة من عدد الحديث من الواحد إلى العشرة (ذكر بالهدية). 223 - الحكم الواردة على الأعداد الزائدة (ذكر بالهدية). 224 - حلّ عقود الجمان في علمي المعاني والبيان (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 225 - حلية الأولياء في طبقاتهم (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 226 - الحماسة (ذكر في كشف الظنون أنها رسالة في تفسير الألفاظ المتداولة). 227 - خادم النعل الشريف (ذكر بالكشف والهدية). 228 - الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال (طبعت بالحاوي ج 2 ص 417، بمخطوط قولة ورقة رقم 303). 229 - الخصائص الكبرى أو كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (تحقيق الدكتور محمد خليل هراس، القاهرة 1386 هـ- 1967 م). 230 - الخلاصة في نظم الروضة (ذكرت بحسن المحاضرة وبالهدية). 231 - خمائل الزهر في فضائل السور (ذكرت بحسن المحاضرة وبالهدية). 232 - خواص الأسماء الحسنى (ذكر بكشف الظنون). 233 - داعي الفلاح في أذكار المساء والصباح (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 234 - الدراري في أبناء السراري (بمخطوط قولة ورقة رقم 165).

235 - درّ السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة (طبعت بكتاب حسن المحاضرة بالجزء الأول ص 99 - 142). 236 - الدر المنظم في الاسم الأعظم (طبعت بالحاوي ج 2 ص 31، بمخطوط قولة ورقة رقم 219). 237 - الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور (نشر مكتبة الجعفري، طهران 1377 هـ، 4 أجزاء في 4 مجلدات). 238 - الدرّ النثير في تلخيص نهاية ابن الأثير (بهامش النهاية، المطبعة العثمانية، القاهرة 1311 هـ). 239 - الدرّ النثير في قراءة ابن كثير (ذكر بالهدية). 240 - درة التاج في إعراب مشكل المنهاج (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 241 - الدرة التاجيّة على الأسئلة الناجية (طبعت بالحاوي ج 2 ص 107). 242 - الدرة الفاخرة (ذكرت بالهدية وكشف الظنون). 243 - درج المعالي في نصرة الغزالي على المنكر المتغالي (ذكرت بحسن المحاضرة). 244 - الدرج المنيفة في الآباء الشريفة (الطبعة الأولى بدائرة المعارف النظامية، حيدرآباد 1316 هـ). 245 - درر البحار في الأحاديث القصار (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 246 - الدرر الحسان في البعث ونعيم الجنان (المطبعة العثمانية بالقاهرة 1310 هـ). 247 - الدرر في فضائل عمر الغرر (ذكر بالهدية). 248 - درر الكلم وغرر الحكم (بمخطوط قولة ورقة رقم 170). 249 - الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (مخطوط بدار الكتب ضمن مجموعة برقم 23438 ب). 250 - دفع الأسى في تلخيص إسبال الكساء (ذكر بالهدية). 251 - دفع التشنيع في مسألة التسميع (طبعت بالحاوي ج 1 ص 52). 252 - دفع التعسف في إخوة يوسف (طبعت بالحاوي ج 1 ص 480،

بمخطوط قولة ورقة رقم 91). 253 - الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (مخطوط برقم 113 حديث قولة بدار الكتب). 254 - ديوان الحيوان (مختصر حياة الحيوان للدميري، مخطوط مصور برقم 83 ب بدار الكتب). 255 - ديوان الخطب (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 256 - ديوان الشعر (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 257 - الدوران الفلكي على ابن الكركي (ذكر بالهدية، من مقاماته). 258 - ذم القضاء (ضمن مخطوط قولة). 259 - ذمّ زيارة الأمراء (ذكر بحسن المحاضرة). 260 - الذوق السليم وضد ذلك المسلوب الذوق اللئيم (ضمن مخطوط بدار الكتب برقم 3487 ج). 261 - ذو الوشاحين (ذكر بالهدية). 262 - ذيل الإنباه عن قبائل الرواة لابن حجر (ذكر بالهدية). 263 - ذيل طبقات الحفاظ للذهبي (نشر مكتبة القدسي بدمشق 1347 هـ). 264 - ذيل اللئالئ المصنوعة (القاهرة 1317 هـ). 265 - الرحمة في الطب والحكمة (المطبعة السعيدية بالقاهرة). 266 - الرحلة الفيومية والمكية والدمياطية (ذكر بالكشف وبالهدية). 267 - الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض (طبعة المطبعة الثعالبية بالجزائر 1325 هـ- 1907 م). 268 - رسالة في أسماء المدلسين (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 269 - رسالة في الأحاديث الواردة في إثم من اغتصب شيئا من الأرض وطريق المسلمين (بمخطوط قولة ورقة 292). 270 - رسالة في سعادة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم (بمخطوط قولة ورقة رقم 343). 271 - رسالة فيمن يؤتي أجره مرتين (بمخطوط قولة ورقة 221). 272 - رسالة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ذكرت بكشف الظنون والهدية). 273 - رسالة تتعلق بالشمس وإلى أين تذهب بعد غروبها (بمخطوط قولة ورقة

364). 274 - رسالة هل البسملة في القرآن أم لا (بمخطوط قولة ورقة 271). 275 - رسالة في الخمر وأوصافها (ذكرت بالهدية). 276 - رسالة فيمن عاش من الصحابة مائة وعشرين (تسمى ريح النسرين، ضمن مجموعة مخطوطة برقم 4364 ج بدار الكتب). 277 - رسالة في أصول الفقه (طبعت ضمن مجموعة، بيروت 1324 هـ). 278 - رسالة في أصول الكلمات (طبعت ضمن مجموعة، مكتبة القدسي، دمشق 1348 هـ). 279 - رسالة في بيان مراتب الأرواح بعد الموت (وهي نفس الرسالة المسماة باللمعة في أجوبة الأسئلة السبعة، ضمن مجموعة مخطوطة برقم 3489 ج). 280 - رسالة في علم الخط (طبعت ضمن مجموعة التحفة البهية والطرفة الشهية، مطبعة الجوائب، القسطنطينية 1302 هـ). 281 - رسالة في موت فرعون على الاسلام (ضمن مجموعة مخطوطة برقم 3489 ج بدار الكتب). 282 - رسالة في ذمّ علم المنطق وتعلمه (ضمن مجموعة مخطوطة برقم 21606 ب بدار الكتب). 283 - رشف الزلال من السحر الحلال (يسمى مقامة النساء، القاهرة طبع حجر بدون تاريخ). 284 - رصف اللآل في وصف الهلال (طبعت ضمن مجموعة التحفة البهية والطرفة الشهية، مطبعة الجوائب، القسطنطينية، 1302 هـ). 285 - رفع الباس عن بني العباس (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية والكشف). 286 - رفع الحذر عن قطع السدر (طبعت بالحاوي ج 2 ص 117). 287 - رفع الصوت بذبح الموت (طبعت بالحاوي ج 2 ص 181). 288 - رفع السنة في نصب الزنة (طبعت بالحاوي ج 2 ص 485). 289 - رفع شأن الحبشان (مخطوط بدار الكتب برقم 9899 ح). 290 - رفع الخصاصة في شرح الخلاصة (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية).

291 - رفع الباس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس (طبعت بالحاوي ج 1 ص 399). 292 - رفع منار الدين وهدم بناء المفسدين (ذكرت بالهدية، وقد لخصها في رسالته هدم الجاني على الباني). 293 - الروض الأريض في طهر المحيض (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 294 - الروض الأنيق في مسند الصديق (ذكر بالكشف والهدية). 295 - الروض المكلل والورد المعلل (ذكر بالكشف والهدية). 296 - الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة (مخطوط بدار الكتب برقم 23316 ب). 297 - رياض الطالبين (ذكر بالهدية). 298 - زاد المسير في الفهرست الصغير (ذكر بالكشف وبالهدية). 299 - زيدة اللبق في النوادر (ذكر بالكشف والهدية). 300 - الزجر بالهجر (ضمن مخطوط قولة ورقة رقم 255). 301 - الزنجبيل القاطع في وطء ذات البراقع (منظومة ذكرها صاحب كشف الظنون، وذكرت بالهدية). 302 - الزند الوري في الجواب عن السؤال السكندري (طبعت بالحاوي ج 2 ص 480). 303 - الزهر الباسم فيما يزوج فيه الحاكم (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 304 - زهر الخمائل على الشمائل (ذكر بالهدية). 305 - زهر الربى على المجتبى (طبع مع كتاب سنن النسائي، القاهرة 1312 هـ). 306 - زوائد الرجال على تهذيب الكمال (ذكر يحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 307 - الزوائد على المال في معرفة الرجال (ذكر بالهدية). 308 - زوائد نوادر الأصول للحكيم الترمذي (ذكر بحسن المحاضرة).

309 - ساجعة الحرم (من مقاماته، ذكرت بالهدية). 310 - السبل الجلية في الآباء العلية (الطبعة الأولى، حيدرآباد 1316 هـ، وهو سادس مؤلف له في موضوع أبوي النبي صلى الله عليه وسلم). 311 - سبل الهدى في السير (ذكر بالكشف والهدية). 312 - السلاف في التفضيل بين الصلاة والطواف (ذكر بالكشف والهدية). 313 - السلالة في تحقيق المقر والاستحالة (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 314 - السلسلة الموشحة في العربية (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية، وأشار إليها في كتابه الأشباه والنظائر). 315 - سلوة الفؤاد في موت الأولاد (لعلها المقامة الولدية وهي مطبوعة مع مقامات السيوطي مطبعة الجوائب- القسطنطينية 1298 هـ). 316 - السماح في أخبار الرماح (ذكر بالكشف والهدية). 317 - سهام الاصابة في الدعوات المستجابة (القاهرة 1307 هـ). 318 - السهم المصيب في نحر الخطيب (ذكر بالكشف والهدية). 319 - السيف الصقيل في حواشي ابن عقيل (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 320 - السيف النظار في الفرق بين الثبوت والانكار (ذكر بالكشف والهدية). 321 - شافي العيى على مسند الشافعي (ذكر بالكشف والهدية). 322 - شدّ الأثواب في سدّ الأبواب (طبعت بالحاوي ج 2 ص 53). 323 - شدّ الرحال في ضبط الرجال (ذكر بالكشف والهدية). 324 - شدّ المطية للفضل بن غياث وعطية (ذكر بالهدية). 325 - شذا العرف في إثبات المعنى للحرف (ذكر بحسن المحاضرة). 326 - شرح أبيات تلخيص المفتاح (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 327 - شرح الاستعاذة والبسملة (أول مؤلفاته، ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 328 - شرح الاضافة في منصب الخلافة (ذكر بالكشف والهدية). 329 - شرح ألفية العراقي في الحديث (مخطوط بدار الكتب برقم

23234 ب). 330 - شرح حديث الأربعين (ذكر بالكشف وبالهدية). 331 - شرح الحوقلة والحيعلة (من أوائل مؤلفاته ذكر بالكشف والهدية). 332 - شرح الروضة للنووي في الفروع (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 333 - شرح الشاطبية (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 334 - شرح شواهد المغني (المطبعة البهية القاهرة 1322 هـ). 335 - شرح الصدور بشرح أحوال الموتى في القبور (القاهرة المطبعة الميمنية 1309 هـ). 336 - شرح على نظم البديع في مدح خير شفيع (القاهرة المطبعة الوهبية 1298 هـ). 337 - شرح عقود الجمان في علمي المعاني والبيان (القاهرة مطبعة شرف 1305 هـ). 338 - شرح ضروري التصريف لابن مالك (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 339 - شرح فرائض الرحبية (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 340 - شرح قصيدة الكافية (ذكر بالهدية). 341 - شرح لمعة الاشراق في الاشتقاق (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 342 - شرح ملحة الاعراب (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 343 - الشرف المحتم فيما من الله به على وليه سيدي أحمد الرفاعي من تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم (المطبعة الأميرية القاهرة 1301 هـ). 344 - شفاء العليل في ذم الصاحب والخليل (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف). 345 - شقائق الأترج في دقائق الغنج (مخطوط بدار الكتب ضمن مجموعة برقم 3490 ج). 346 - الشماريخ في علم التاريخ (ليدن 1312 هـ- 1894 م). 347 - الشمعة المضية في علم العربية (مخطوط بدار الكتب بالخزانة التيمورية برقم 127 نحو). 348 - الشهد في النحو (منظومة ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية).

349 - شوارد الفوائد في الضوابط والقواعد (ذكر بالهدية). 350 - شواهد الأبكار في حاشية الأنوار (ذكر بالهدية). 351 - الصارم الهندكي في عنق ابن الكركي (ذكر بالكشف والهدية، وهو من مقاماته). 352 - الصواعق على النواعق (ذكر بالكشف والهدية). 353 - صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام (تحقيق الدكتور علي سامي النشار الطبعة الأولى القاهرة 1946 م). 354 - ضرب الأسل في جواز أن يضرب في المواعظ والخطب من الكتاب والسنة والمثل (ذكر بكشف الظنون وبالهدية). 355 - ضوء البدر في إحياء ليلة عرفه والعيدين ونصف شعبان وليلة القدر (ذكر بالهدية). 356 - ضوء الثريا في مختصر طلوع الثريا (ذكر بالهدية). 357 - ضوء الشمعة في عدد الجمعة (طبعت بالحاوي ج 1 ص 99). 358 - الطب النبوي (مخطوط بدار الكتب برقم 3157 ل). 359 - طبقات الأصوليين (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 360 - طبقات البيانيين (ذكر بالكشف وبالهدية). 361 - طبقات التابعين (ذكر بالهدية). 362 - طبقات الحفاظ (جوتنجن 1838 م، مخطوط بالدار برقم 23262 ب). 363 - طبقات الخطاطين (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 364 - طبقات الشعراء (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 365 - طبقات الفرضيين (ذكر بالكشف والهدية). 366 - طبقات المفسرين (ليدن 1839 م). 367 - الطرثوث في فوائد البرغوث (ذكر بالكشف والهدية). 368 - طرح السقط في نظم اللقط (مخطوط بدار الكتب برقم 4364 ج ضمن مجموعة). 369 - طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة (ذكر بالكشف والهدية).

370 - الطلعة الشمسية في تبيين الجنسية (ذكر بالهدية). 371 - طلوع الثريا باظهار ما كان خفيا (طبعت بالحاوي ج 2 ص 316). 372 - طوق الحمامة (ذكر بالكشف والهدية). 373 - طي اللسان عن ذم الطيلسان (مخطوط بدار الكتب برقم 22535 ب). 374 - الظفر بقلم الظفر (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 375 - العجائب في تفضيل المشارق على المغارب (ذكر بالكشف والهدية). 376 - العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبية (طبعت بالحاوي ج 2 ص 81). 377 - العذب المسلسل في تصحيح الخلاف المرسل (ذكر بالكشف والهدية). 378 - العرف الوردي في أخبار المهدي (طبعت بالحاوي ج 2 ص 123). 379 - العشاريات (ثلاثة أحاديث عالية الاسناد، مخطوط بدار الكتب برقم 4364 ج ضمن مجموعة). 380 - عقود الجمان في علمي المعاني والبيان (مطبوع بولاق 1293 هـ). 381 - عقود الزبرجد على مسند الامام أحمد (مخطوط برقم 24125 ب بدار الكتب). 382 - العناية في معرفة أحاديث الهداية (ذكر بالكشف). 383 - العناية في تخريج أحاديث الكفاية (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 384 - عين الاصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة (ذكر بالكشف وبالهدية). 385 - عين الاصابة في مختصر أسد الغابة (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 386 - غاية الاحسان في خلق الانسان (ذكر بالكشف وبالهدية). 387 - غرر الأنساب في الرمي بالنشاب (ذكر بالكشف وبالهدية). 388 - الغنية في مختصر الروضة (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 389 - الفارق بين المصنف والسارق (ذكر بالكشف وبالهدية). 390 - الفانيد في حلاوة الأسانيد (ذكر بالكشف وبالهدية). 391 - الفتاش على القشاش (ذكر بكشف الظنون، وهو في الأحاديث الموضوعة). 392 - فائدة سورة الأنعام (ذكر بالهدية).

393 - فتح الجليل للعبد الذليل (في الأنواع البديعية المستخرجة من قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا .. الآية، ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 394 - فتح الحي القيوم بشرح روضة الفهوم (ذكر بالكشف وبالهدية). 395 - فتح المطلب المبرور وبرد الكبد المحرور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور (طبعت بالحاوي ج 1 ص 451). 396 - فتح المغالق من أنت تالق (طبعت بالحاوي ج 1 ص 329). 397 - فجر الثمد في إعراب أكمل الحمد (طبعت بالحاوي ج 2 ص 476). 398 - الفتح القريب على مغني اللبيب (حاشية له ذكرت بحسن المحاضرة وبالهدية). 399 - الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير (القاهرة 1320 هـ). 400 - الفريدة (الألفية النحوية للسيوطي، طبعت بمطبعة الترقي 1332 هـ). 401 - الفرائض الرحبية (ذكر صاحب الكشف أنها أرجوزة شرحها السيوطي شرحا ممزوجا). 402 - فصل الخطاب في قتل الكلاب (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 403 - فصل الكلام في حكم السلام (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 404 - فضل الأغوات (مطبوع). 405 - فضائل يوم الجمعة (يسمى اللمعة؛ بالحاوي ج 1 ص 93). 406 - فضائل ليلة النصف من شعبان (بمخطوط قولة ورقة رقم 331). 407 - فضائل المولد الشريف (مخطوط بدار الكتب برقم 21632 ب). 408 - فضل الجلد عند فقد الولد (ثالث مؤلف له في هذا الموضوع، ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 409 - الفضل العميم في إقطاع تميم (ذكر بالكشف والهدية). 410 - فضل القيام بالسلطنة (ذكر بالكشف والهدية). 411 - فطام اللسد في أسماء الأسد (ذكر بالكشف والهدية). 412 - الفلك الدوار في تفضيل الليل على النهار (ذكر بالكشف والهدية).

413 - الفلك المشحون في أنواع الفنون (قال في كشف الظنون: «هو تذكرته في خمسين مجلدا ذكره في مؤلفاته»، وقد أشار السيوطي إلى الكتب التي أفادها من تذكرته في مقدمة بغية الوعاة، كما ذكر اسم الكتاب بحسن المحاضرة). 414 - الفوائد البارزة والكامنة في النعم الظاهرة والباطنة (ذكرت بالكشف وبالهدية). 415 - الفوائد الكامنة في إيمان السيدة آمنة (ذكرت بحسن المحاضرة والكشف والهدية). 416 - الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة (ذكر بالكشف والهدية). 417 - الفوائد الممتازة في صلاة الجنازة (طبعت بالحاوي ج 1 ص 129). 418 - الفوز العظيم بلقاء الكريم (ذكرت بالكشف والهدية). 419 - الفيض الجاري في طرق الحديث العشاري (ذكر بالكشف والهدية). 420 - فيض القدير شرح الجامع الصغير (مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة 6 أجزاء في 6 مجلدات). 421 - القذاذة في تحقيق محل الاستعاذة (طبعت بالحاوي ج 1 ص 460، بمخطوط قولة ورقة رقم 273). 422 - قدح الزند في السلم في القند (طبعت بالحاوي ج 1 ص 146). 423 - قطر الندا في ورود الهمزة للندا (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 424 - قطع الدابر من الفلك الدائر (ذكر بالكشف والهدية). 425 - قطع المجادلة عند تغيير المعاملة (طبعت بالحاوي ج 1 ص 149). 426 - قطف الأزهار في كشف الأزهار (رسالة في متشابه القرآن، ذكرت بالكشف). 427 - قطف الثمر في موافقات عمر (منظومة له، طبعت بالحاوي ج 2 ص 5). 428 - قطف الزهر في الرحلة الجامعة بين البر والبحر والنهر (ذكرت بالكشفا والهدية).

429 - قطف الوريد من أمالي ابن دريد (ذكرت بالكشف والهدية). 430 - قلائد الفوائد (منظومة أودعها بعض الفوائد العلمية والنوادر ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 431 - قمع المعارض في نصرة ابن الفارض (من مقاماته، ذكرت بالكشف والهدية). 432 - قوت المغتذي على جامع الترمذي (مطبوع). 433 - القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه (طبعت بالحاوي ج 2 ص 412، بمخطوط قولة ورقة رقم 300). 434 - القول الفصيح في تعيين الذبيح (طبعت بالحاوي ج 1 ص 480، بمخطوط قولة ورقة رقم 6). 435 - القول الحسن في الذب عن السنن (ذكر بحسن المحاضرة). 436 - القول الجلي في أحاديث الولي (طبعت بالحاوي ج 1 ص 560، بمخطوط قولة ورقة 295، مخطوط برقم 20662 ب). 437 - القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق (طبعت بالحاوي ج 1 ص 393). 438 - القول المجمل في الرد على المهمل (ذكر بحسن المحاضر وبالهدية). 439 - القول المشيد في وقف المؤيد (طبعت بالحاوي ج 1 ص 258). 440 - القول المضي في الحنث في المضي (طبعت بالحاوي ج 1 ص 314). 441 - الكافي في زوائد المهذب على الوافي (ذكر بالهدية). 442 - الكاوي في تاريخ السخاوي (من مقاماته، ذكرت بالكشف والهدية). 443 - الكر على عبد البر (ذكر بالهدية). 444 - كشف التلبيس عن قلب أهل التدليس (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 445 - كشف الريب في الجيب (طبعت بالحاوي ج 2 ص 179، بمخطوط قولة ورقة رقم 281). 446 - كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة (ذكرت بحسن المحاضرة وبالهدية).

447 - كشف الضبابة في مسألة الاستنابة (طبعت بالحاوي ج 1 ص 244، مخطوط بدار الكتب برقم 32 فقه شافعي ضمن مجموعة). 448 - كشف الطامة عن الدعاء بالمغفرة العامة (ذكر بالهدية). 449 - كشف العمى في مسألة الحمى (ذكر بالهدية). 450 - كشف اللبس في حديث رد الشمس (ذكر بالهدية). 451 - كشف المغطى بشرح الموطا (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية، ولعله نفس كتابه تنوير الحوالك). 452 - كشف النقاب عن الألقاب (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 453 - الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف (طبعت بالحاوي ج 2 ص 168، مخطوط بدار الكتب برقم 23032 ب). 454 - كفاية المحتاج في معرفة الاختلاج (مطبوع بالقاهرة طبع حجر). 455 - كفاية المحسن في وصف المؤمن (بمخطوط قولة ورقة رقم 366). 456 - الكلام عن حديث ابن عباس: احفظ الله يحفظك) تصدير ألقاه لما ولى درس الحديث بالشيخونية، ذكر ذلك بحسن المحاضرة). 457 - الكلم الطيب والقول المختار في المأثور من الدعوات والأذكار (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 458 - الكنز المدفون والفلك المشحون (مطبعة الحلبي بالقاهرة 1939 م). 459 - كنه المراد في شرح بانت سعاد (مخطوط بدار الكتب 16656 ز، نسخة أخرى برقم 239 أدب). 460 - الكواكب الساريات في الأحاديث العشاريات (سبق ذكر العشاريات). 461 - الكوكب الساطع في نجم جمع الجوامع (ذكر بحسن المحاضرة بين كتب الأصول، وذكر بالهدية). 462 - الكوكب المنير في شرح الجامع الصغير (ذكر بالكشف والهدية). 463 - اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (الناشر المكتبة الحسينية، الطبعة الأولى، القاهرة 1352 هـ). 464 - اللئالئ المكللة في تفضيل الفلاة على المفضلة (ذكر بالكشف والهدية). 465 - لباب النقول في أسباب النزول (احدى طبعاته بهامش تفسير الجلالين،

وأخرى منفصلة بمطبعة الحلبي، القاهرة 1354 هـ- 1935 م). 466 - لباب النقول فيما وقع في القرآن من المعرب والمنقول (ذكر بالكشف والهدية). 467 - لب اللباب في تحرير الأنساب (مطبوع بأوروبا، هناك طبعة بالأفست بمكتبة المثنى ببغداد). 468 - لبس اليلب في الجواب عن إيراد حلب (طبعت بالحاوي ج 2 ص 7302 بمخطوط قولة ورقة رقم 23). 469 - اللفظ الجوهري في رد خباط ابن الجوجري (ذكر بالكشف والهدية). 470 - اللفظ المكرم بخصائص النبي المحترم (ذكر بالهدية). 471 - لقط المرجان في أخبار الجان (اختصار لكتاب آكام المرجان للشبلي مخطوط برقم 22989 ب، وبمخطوط قولة ورقة رقم 95). 472 - لم الأطراف وضم الأتراف (رسالة في الحديث ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 473 - اللمع في أسماء من وضع (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 474 - لمعة الاشراق في الاشتقاق (ذكر شرحها بحسن المحاضرة، وذكرت بالكشف والهدية). 475 - اللمعة في أجوبة الأسئلة السبعة (طبعت بالحاوي ج 2 ص 302، بمخطوط قولة ورقة رقم 181). 476 - اللمعة في تحرير الركعة لادراك الجمعة (طبعت بالحاوي ج 1 ص 93). 477 - اللمعة في خصائص يوم الجمعة (مخطوط بدار الكتب برقم 23110 ب، نسخة أخرى برقم 953 فقه شافعي ضمن مجموعة). 478 - اللوامع المشرقة في ذم الوحدة المطلقة (ذكر بالكشف والهدية). 479 - اللوامع والبوارق في الجوامع والفوارق (ذكر بحسن المحاضرة بكتب الفقه، وبالهدية). 480 - ما رواه الأساطين في عدم الدخول على السلاطين (ذكر بالهدية).

481 - ما رواه السادة في الاتكاء على الوسادة (بمخطوط قولة ورقة رقم 284). 482 - ما رواه الواعون في أخبار الطاعون (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية والكشف، وقد ألفه بعد طاعون عام 864 هـ). 483 - الماهد لمسائل الزاهد (ذكرت بالكشف والهدية، وهي تعليق على مقدمة من ستين مسألة في أحكام الدين للزاهد شهاب الدين أحمد). 484 - المباحث الزكية في المسألة الدوركية (طبعت بالحاوي ج 1 ص 253). 485 - مباسم الملاح ومناسم الصباح في مواسم النكاح (ذكرت بالكشف والهدية). 486 - المثابة في آثار الصحابة (ذكر بكشف الظنون). 487 - المتوكلي فيما ورد في القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية والتركية والزنجية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية (دمشق 1348 هـ مطبعة الترقي). 488 - مجمع البحرين ومطلع البدرين في التفسير (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 489 - مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن (ذكر بالهدية). 490 - المحاضرات والمحاورات (ذكرت بالكشف والهدية). 491 - مختصر الأحكام السلطانية للماوردي (ذكر بحسن المحاضرة وبالهدية). 492 - مختصر إحياء العلوم للغزالي (ذكر بالهدية). 493 - مختصر معجم البلدان لياقوت (ذكر بحسن المحاضرة). 494 - المدرج إلى المدرج (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 495 - مراصد الاطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع (مطبوع في 6 مجلدات). 496 - مراصد الطالع في تناسب المطالع والمقاطع (في فواتح السور وخواتيمها، ذكر بحسن المحاضرة والكشف والهدية). 497 - المردّ في كراهية السؤال والردّ (بمخطوط قولة ورقة رقم 276). 498 - مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (ذكر بحسن المحاضرة والهدية). 499 - المرقاة العلية في شرح الأسماء النبوية (مخطوط بدار الكتب برقم 23968 ب).

500 - مرّ النسيم إلى ابن عبد الكريم (في الفقه، ذكرت بالكشف والهدية). 501 - المزدهي في روضة المشتهي (ذكر بالهدية). 502 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها (تحقيق البجاوي وزميليه، القاهرة مطبعة دار إحياء الكتب العربية). 503 - المسارعة إلى المصارعة (رسالة في الحديث ذكرت بكشف الظنون وبالهدية). 504 - مسالك الحنفا في والدي المصطفى (طبعت بالحاوي ج 2 ص 353، طبعت بحيدرآباد 1316 هـ). 505 - مسامرة السموع في ضوء الشموع (بمخطوط قولة ورقة رقم 239). 506 - المستطرفة في أحكام دخول الحشفة (ذكرت بحسن المحاضرة والكشف والهدية). 507 - المستظرف في أخبار الجواري (ذكرت بالهدية). 508 - المسلسلات الكبرى (85 حديثا، ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف وبالهدية). 509 - مسند الصحابة الذين ماتوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر بالكشف والهدية). 510 - مشتهى العقول في منتهى النقول (مخطوط بدار الكتب برقم 4350 ج ضمن مجموعة، مطبوع بالقاهرة 1276 هـ). 511 - المشنف على ابن المصنف (تعليقه على شرح الألفية، ذكرت بالهدية). 512 - المصابيح في صلاة التراويح (طبعت بالحاوي ج 1 ص 537). 513 - المصاعد العلية في القواعد النحوية (أدرجه بكتابه الأشباه والنظائر، وهو يستغرق الجزء الأول من هذا الكتاب من طبعة حيدرآباد 1317 هـ). 514 - مصباح الزجاجة على سنن ابن ماجة (مطبوع بهامش السنن، مخطوط برقم 31094 بدار الكتب). 515 - المضبوط في أخبار أسيوط (ذكر بالكشف والهدية). 516 - المطالع السعيدة في شرح الفريدة (مخطوط ضخم بدار الكتب بالخزانة التيمورية برقم 581 نحو). 517 - مطلع البدرين فيمن يؤتى أجره مرتين (ضمن مجموعة مخطوطة برقم

20544 ب، بمخطوط قولة ورقة رقم 221). 518 - المعاني الدقيقة في إدراك الحقيقة (بمخطوط قولة ورقة رقم 258). 519 - معترك الأقران في مشترك القرآن (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية، طبع أخيرا). 520 - المعتصر في تقرير عبارة المختصر (ذكر بكشف الظنون والهدية، وهو تعليق على عبارات في مختصر الشيخ خليل لم توجد في غيره من كتب الفقه). 521 - مفاتيح الغيب (في التفسير من أول «سبح» إلى آخر القرآن، ذكر بحسن المحاضرة والكشف والهدية). 522 - مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة (ذكر بالكشف والهدية وحسن المحاضرة). 523 - مفحمات الأقران في مبهمات القرآن (الطبعة الأولى، مطبعة السعادة بالقاهرة 1326 هـ- 1908 م). 524 - مقاطع الحجاز (ذكر بالكشف والهدية وحسن المحاضرة). 525 - مقامات السيوطي (تسع وعشرون مقامة هي: ساجعة الحرم في مكة والمدينة، والمقامة السندسية في أبوي النبي- اللازوردية في موت الأولاد- الذهبية في الحمى- الكاوي في تاريخ السخاوي- الطاعونية- المستنصرية- مقامة أولي الألباب- الحلف- الوردية في الزهور- المسكية في الرياحين- التفاحية في الفواكه- الزمردية- الفستقية في النقول- الياقوتية- بلبل الروضة- اللؤلؤية- البحرية- الدرية- الفتاش على القشاش- الاستنصار بالواحد القهار- الدوران الفلكي على ابن الكركى- ساحب سيف عى صاحب حيف- الكلاجية في الأسئلة الناجية- قمع المعارض في نصرة ابن الفارض- الفارق بين المصنف والسارق- طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة- رشف الزلال من السحر الحلال- اللفظ الجوهري في رد خباط ابن الجوجري، وقد طبع بعض هذه المقامات بالجوائب، القسطنطينية 1298 هـ، وبعضها مخطوطات مفردة أو ضمن مجاميع، وبعضها طبع طبع حجر بالقاهرة

1275 هـ). 526 - المقامة الأسيوطية وتسمى الأحاجي النحوية (ضمن مجموعة برقم 32 مجاميع بدار الكتب). 527 - المكنون في ترجمة ذي النون (ذكر بالكشف والهدية). 528 - الملاحن في معنى المشاحن (بمخطوط قولة ورقة رقم 168). 529 - الملتقط من الدرر الكامنة (ذكر بالكشف والهدية). 530 - ملحة الاعراب (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف، وهي منظومة). 531 - مناقب السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها (ذكر بكشف الظنون). 532 - مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا (مطبوع طبع حجر بالقاهرة بدون تاريخ). 533 - منبع الفوائد في تركيب الضوابط والقواعد (ذكر بالكشف والهدية). 534 - منتهى الآمال في شرح حديث: إنما الأعمال (مخطوط بدار الكتب برقم 23238 ب). 535 - المنجلي في تطور الولي (طبعت بالحاوي ج 1 ص 335، بمخطوط قولة ورقة 296). 536 - المنجم في المعجم (ذكر بالهدية). 537 - المنحة في السبحة (طبعت بالحاوي ج 2 ص 36، مخطوط بدار الكتب برقم 4364 ج). 538 - منع الثوران عن الدوران (ذكرت بالكشف والهدية). 539 - المنقح الظريف في الموشح الشريف (ذكر بالكشف والهدية). 540 - منهاج السنة ومفتاح الجنة (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 541 - المنهج السوي في ترجمة النووي (مخطوط برقم 3157 ل بدار الكتب). 542 - منهل اللطائف في الكنافة والقطائف (ذكر بكشف الظنون). 543 - المنى في الكنى (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 544 - موائد الفوائد (ذكر بالكشف والهدية). 545 - المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب (مخطوط بدار الكتب بالخزانة التيمورية، نسختان برقم 285، 286 لغة).

546 - الموشح في النحو (مخطوط بدار الكتب بالخزانة التيمورية، نسختان برقم 191، 707 نحو). 547 - ميدان الفرسان في شواهد القرآن (ذكر بالهدية). 548 - ميزان المعدلة في شأن البسملة (مخطوط بدار الكتب برقم 21507، 16507 ب، بمخطوط قولة ورقة رقم 271). 549 - ناسخ القرآن ومنسوخه (ذكر بالهدية، وهو أحد مباحث كتابه الإتقان). 550 - النادريات من العشاريات (بمخطوط قولة ورقة رقم 302). 551 - نبذة في الكلام على حقيقة القرآن (مخطوط برقم 3490 ج ضمن مجموعة). 552 - نتيجة الفكر في الجهر بالذكر (طبعت بالحاوي ج 2 ص 23، بمخطوط قولة ورقة رقم 313). 553 - نثر الهميان في وفيات الأعيان (ذكر بالهدية). 554 - نثل الكنان في الخشكنان (ذكر بالكشف والهدية). 555 - النجح في الاجابة إلى الصلح (ذكر بالكشف والهدية). 556 - نزول الرحمة في التحدث بالنعمة (بمخطوط قولة ورقة رقم 273). 557 - نزهة الاخوان وتحفة الخلان (ذكر بالكشف الظنون والهدية). 558 - نزهة جلساء في أشعار النساء (ذكر بالكشف والهدية). 559 - نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسمر (دمشق 1349 هـ، بمخطوط قولة ورقة رقم 267). 560 - نزهة المتأمل ومرشد المتأهل (مخطوط بدار الكتب برقم 23528 ب). 561 - نزهة النديم (ذكر بالكشف والهدية). 562 - نشر العبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير (ذكر بالهدية وحسن المحاضرة). 563 - نشر العلمين المنيفين في إحياء الأبوين الشريفين (حيدرآباد الطبعة الأولى 1316 هـ). 564 - النصيحة فيما ورد من الأدعية الصحيحة (ذكر بالهدية). 565 - نظام البلور في أسماء السنّور (ذكر بكشف الظنون والهدية).

566 - النظم البديع في مدح خير شفيع (انظر شرح نظم البديع). 567 - نظم الدرر في علم الأثر (ألفية في الحديث ذكرها صاحب الكشف، وذكرت بالهدية، وشرحها بكتابه البحر الذي زخر). 568 - نظم العقيان في أعيان الأعيان (نشر فيليب حتى، المطبعة السورية الأمريكية 1927 م). 569 - نفح الطيب من أسئلة الخطيب (ذكر بالكشف والهدية). 570 - النفخة المسكية والتحفة المكية (ألفه بمكة في يوم واحد (ذكر بالكشف والهدية). 571 - النقاية في موضوعات العلوم (مختصر في أربعة عشر علما، شرحه وسمى الشرح إتمام الدراية). 572 - النقول المشرقة في مسألة النفقة (ذكر بالكشف والهدية). 573 - النكت البديعات على الموضوعات (ذكر بحسن المحاضرة والهدية). 574 - النكت على الألفية لابن مالك والكافية والشافية لابن الحاجب وشذور الذهب ونزهة الطرف لابن هشام (مخطوط بدار الكتب برقم 5815 هـ). 575 - النكت اللوامع على المختصر والمنهاج وجمع الجوامع (ذكر بالكشف والهدية). 576 - النكت على النزهة (ذكر بالهدية). 577 - نواضر الأيك في ال ... (مخطوط بدار الكتب برقم 3809 ج). 578 - نواهد الأبكار وشوارد الأفكار على تفسير البيضاوي (ذكر بالكشف والهدية). 579 - نور الحديقة (منظومة له، ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 580 - نور الشقيق في العقيق (ذكر بالهدية). 581 - النهجة السوية في الأسماء النبوية (مختصر للرياض الأنيقة، ذكره صاحب الكشف وذكر بالهدية). 582 - النهر لمن برز على شاطئ النهر (منظومة طبعت بالحاوي ج 1 ص 226).

583 - الوافي في شرح التنبيه (ذكر بالهدية). 584 - الوجه النضر في نبوة الخضر (ذكر بالكشف والهدية). 585 - الوجه الناضر فيما يقتضيه الناظر في الوقف (ذكر بالهدية). 586 - الوجيز في طبقات الفقهاء الشافعية (ذكر بالهدية). 587 - الوديك في فضل الديك (مخطوط بدار الكتب برقم 21620 ب). 588 - الورقات في الوفيات (ذكر بالكشف والهدية). 589 - الوسائل إلى معرفة الأوائل (ذكر بالكشف). 590 - الوشاح في معرفة النكاح (ذكر بالكشف والهدية). 591 - وصول الأماني بأصول التهاني (طبعت بالحاوي ج 1 ص 121، بمخطوط قولة ورقة رقم 109، مخطوط بدار الكتب برقم 21606 ب). 592 - الوفية في مختصر الألفية (ذكر بالكشف والهدية). 593 - وقع الأسل في ضرب المثل (بمخطوط قولة ورقة رقم 153). 594 - الهبة السنية في الهيئة السنية (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 595 - هدم الجاني على الباني (طبعت بالحاوي ج 1 ص 177). 596 - همع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربية (الطبعة الأولى بمطبعة السعادة القاهرة 1327 هـ). 597 - اليد البسطى في تعيين الصلاة الوسطى (ذكرت بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 598 - الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع (ذكر بحسن المحاضرة وبالكشف والهدية). 599 - اليواقيت الثمينة في صفات السمينة (مخطوط بمكتبة بلدية الاسكندرية برقم 32 ضمن مجموعة). 600 - اليواقيت في حروف «إذن» في قولهم لاها الله اذن (ذكر بالكشف والهدية).

ثانيا: المصادر العربية والمترجمة (لغير السيوطي)

ثانيا: المصادر العربية والمترجمة (لغير السيوطي) إبراهيم أنيس: 1 - دلالة الألفاظ (مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، القاهرة 1958 م). 2 - من أسرار اللغة (مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1370 هـ- 1951 م). ابن الأنباري (أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن الأنباري المتوفي عام 577 هـ) 3 - الاغراب في جدل الاعراب (تحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني، مطبعة الجامعة السورية، دمشق 1377 هـ- 1957 م). 4 - الانصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، الجزء الأول الطبعة الأولى 1364 هـ، الجزء الثاني الطبعة الثانية بمطبعة حجازي 1953 م). 5 - لمع الأدلة في أصول النحو (تحقيق الأفغاني، مطبعة الجامعة السورية دمشق 1377 هـ- 1957 م). 6 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء (تحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي، مطبعة المعارف- بغداد 1959 م). إبراهيم الباجوري: 7 - حاشية الاسعاد على بانت سعاد (طبعت بهامش شرح ابن هشام على بانت سعاد، مطبعة الحلبي- القاهرة 1349 هـ). ابن إياس (محمد بن أحمد بن إياس الحنفي المصري المتوفي عام 930 هـ) 8 - بدائع الزهور في وقائع الدهور، المعروف بتاريخ مصر (الأجزاء من

1 - 3 الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة 1311 هـ، الجزء الرابع: الطبعة الثانية تحقيق محمد مصطفى- القاهرة 1379 هـ). ابن بطوطة (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن بطوطة، المتوفي عام 779 هـ) 9 - رحلة ابن بطوطة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (نشر المكتبة التجارية، القاهرة 1377 هـ- 1958 م). ابن جني (أبو الفتح عثمان بن جني المتوفي ببغداد سنة 392 هـ) 10 - الخصائص (تحقيق الأستاذ محمد علي النجار، طبع دار الكتب، القاهرة 1371 هـ- 1952 م إلى 1376 هـ- 1956 م). ابن حجر العسقلاني (أحمد بن حجر المتوفي سنة 852 هـ) 11 - شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر (تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر). 12 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري (الناشر عبد الرحمن محمد، طبع المطبعة البهية، القاهرة 1348 هـ وما بعدها). ابن خلدون (عبد الرحمن بن خلدون المتوفي بالقاهرة سنة 808 هـ) 13 - المقدمة (مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة). ابن دريد (أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي المتوفي عام 311 هـ) 14 - جمهرة اللغة (الطبعة الأولى، حيدرآباد 1344 هـ- 1345 هـ). ابن دقماق (إبراهيم بن محمد بن ايدمر العلائي المتوفي عام 809 هـ) ابن دقماق (إبراهيم بن محمد بن ايدمر العلائي المتوفي عام 809 هـ) 15 - الانتصار لواسطة عقد الأمصار (الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية عام 1309 هـ). ابن سلام (محمد بن سلام الجمحي عام 231 هـ) 16 - طبقات فحول الشعراء (تحقيق الأستاذ محمود شاكر، دار المعارف بالقاهرة). ابن سيدة (أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المتوفي عام 458 هـ). 17 - المخصص (طبع المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1316 هـ، 17 جزء).

ابن الصلاح (أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المتوفي عام 642 هـ) 18 - المقدمة في علوم الحديث (طبع ونشر شرف الدين الكتبي، بمباي، الهند 1357 هـ). ابن عقيل (بهاء الدين عبد الله بن عقيل المتوفي عام 769 هـ) 19 - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر المكتبة التجارية، الطبعة الثانية عشرة، صفر 1381 هـ- يولية 1961 م). ابن علان (محمد علي بن محمد علان بن إبراهيم بن محمد بن علان المتوفي بالقاهرة عام 1057 هـ) 20 - شرح على الاقتراح للسيوطي (مخطوط بدار الكتب المصرية بالخزانة التيمورية برقم 666 نحو). ابن العماد (أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفي عام 1089 هـ) 21 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب (نشر مكتبة القدسي بالقاهرة عام 1351 هـ). ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس المتوفي عام 395 هـ) 22 - الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها (الناشر: المكتبة السلفية، القاهرة 1328 هـ- 1910 م). 23 - معجم مقاييس اللغة (تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، الطبعة الأولى، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1366 هـ). ابن القيم (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المتوفي عام 751 هـ) 24 - إعلام الموقعين عن رب العالمين (نشر إدارة الطباعة المنيرية). ابن مضاء القرطبي (أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد المتوفي عام 592 هـ) 25 - الرد على النحاة (تحقيق الدكتور شوقي ضيف، نشر دار الفكر العربي القاهرة 1366 هـ- 1947 م).

ابن منظور (أبو الفضل جمال الدين محمد بن المكرم بن منظور المتوفي عام 711 هـ) 26 - لسان العرب. ابن النديم (محمد بن إسحاق المتوفي سنة 385 هـ) 37 - الفهرست (الناشر المكتبة التجارية- المطبعة الرحمانية، القاهرة). ابن هشام (أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف المتوفي سنة 761 هـ) 28 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (شرح محمد عبد العزيز النجار بعنوان منار السالك إلى أوضح المسالك، مطبعة الفجالة، القاهرة 1953 م- 1954 م). 29 - شرح شذور الذهب (تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثامنة، 1380 هـ- 1960 م- نشر المكتبة التجارية). 30 - شرح على قصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير (مطبعة الحلبي- القاهرة 1349 هـ). 31 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر المكتبة التجارية، مطبعة السعادة). أبو الطيب اللغوي (عبد الواحد بن علي الحلبي المتوفي عام 351 هـ) 32 - شجر الدر في تداخل الكلام بالمعاني المختلفة (تحقيق محمد عبد الجواد طبع دار المعارف بالقاهرة). 33 - مراتب النحويين (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع ونشر مكتبة نهضة مصر، القاهرة 1955 م). أبو علي القالي (اسماعيل بن القاسم القالي البغدادي المتوفي سنة 356 هـ) 34 - الأمالي (الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق 1324 هـ). 35 - ذيل الأمالي والنوادر (المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة 1324 هـ). أبو الفداء (عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي المتوفي عام 774 هـ) 36 - مختصر تاريخ البشر (طبع القسطنطينية عام 1286 هـ).

أبو المحاسن (جمال الدين يوسف بن تغري بردي المتوفي عام 874 هـ) 37 - حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور (طبع جامعة كاليفورنيا 1930 م). 38 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (مطبعة دار الكتب المصرية 1349 هـ- 1930 م، وما بعدها). أحمد تيمور 39 - قبر الامام السيوطي وتحقيق موضعه (المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة 1346 هـ). أحمد أمين 40 - ضحى الاسلام (الطبعة الثانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1357 هـ- 1938 م). الأزهري (أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفي عام 370 هـ) 41 - تهذيب اللغة (تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة). إسماعيل البغدادي 42 - هدية العارفين: أسماء المؤلفين وآثار المصنفين (طبع وكالة المعارف المطبعة البهية، استامبول 1951 م). الأشموني (أبو الحسين علي بن محمد المتوفي عام 929 هـ) 43 - شرح الأشموني على ألفية ابن مالك (طبع ونشر دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة). أمين الخولي 44 - محاضرات عن مشكلات حياتنا اللغوية (مطابع دار الكتاب المصري، ألقيت عام 1958 م ونشرها معهد الدراسات العربية العالية). 45 - مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب (دار المعرفة، الطبعة الأولى، القاهرة 1961 م). 46 - تعليق على مادة «أصول» بدائرة المعارف الاسلامية «الترجمة العربية».

بروكلمان (كارل) 47 - تاريخ الأدب العربي (نقله إلى العربية الدكتور عبد الحليم النجار، الناشر جامعة الدول العربية، دار المعارف، القاهرة، 1961 م). البغدادي (عبد القادر بن عمر البغدادي المتوفي عام 1093 هـ) 48 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب (الناشر: المكتبة السلفية، القاهرة 1347 هـ- 1351 هـ). الثعالبي (أبو منصور عبد الله أو عبد الملك بن محمد المتوفي عام 429 هـ) 49 - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (القاهرة، مطبعة الظاهر عام 1326 هـ- 1908 م). 50 - فقه اللغة وسر العربية (نشر المكتبة التجارية، مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة). الجرجاني (القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفي سنة 366 هـ) 51 - الوساطة بين المتنبي وخصومه (تحقيق أبو الفضل إبراهيم والبجاوي، الطبعة الثالثة، دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة). جورجي زيدان 52 - تاريخ آداب اللغة العربية (طبعة دار الهلال، مراجعة الدكتور شوقي ضيف، القاهرة). الجواليقي (أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد المتوفي عام 539 هـ) 53 - المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم (تحقيق الأستاذ أحمد شاكر، مطبعة دار الكتب، القاهرة 1361 هـ). الجوهري (اسماعيل بن حماد المتوفي عام 393 هـ أو 400 هـ) 54 - الصحاح (بتصحيح الشيخ نصر الهوريني). حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله المتوفي عام 1067 هـ) 55 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (طبع وكالة المعارف الحلبية). الحريري (أبو محمد القاسم بن علي المتوفي عام 416 هـ) 56 - درة الغواص في أوهام الخواص (طبع ليبزج 1871 م).

حسين نصار (دكتور) 57 - المعجم العربي: نشأته وتطوره (طبع دار الكتاب العربي، القاهرة 1375 هـ- 1956 م). الخطيب البغدادي (أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المتوفي عام 463 هـ) 58 - الكفاية في علم الرواية (طبع دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد 1357 هـ). خليل بن شاهين الظاهري المتوفي عام 873 هـ) 59 - زيدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك (طبع باريس 1894 م). الداوديّ (محمد بن علي بن أحمد الداوديّ المالكي المتوفي عام 945 هـ) 61 - طبقات المفسرين (مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 168 تاريخ، متوسط الحجم يحتوي على 344 ورقة، فعدد صفحاته 688 صفحة). الذهبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان المتوفي سنة 748 هـ) 61 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال (تحقيق البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، القاهرة 1382 هـ- 1963 م). الزجاجي (أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق المتوفي سنة 337 هـ) 62 - الايضاح في علل النحو (الناشر مكتبة دار العروبة، القاهرة 1378 هـ- 1959 م). الزركلي (خير الدين) 63 - الأعلام (الطبعة الثانية 1373 هـ- 1378 هـ، مطبعة كوستاتسوماس). الزمخشري (جار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفي سنة 538 هـ) 64 - أساس البلاغة (طبع دار الكتب 1341 هـ- 1922 م بالقاهرة). 65 - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (الطبعة الأولى، القاهرة 1343 هـ). 66 - المفصل في علم العربية (تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة حجازي بالقاهرة).

السخاوي (شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفي عام 902 هـ) 67 - التبر المسبوك في ذيل السلوك (طبع المطبعة الأمبرية ببولاق سنة 1896 م). 68 - الذيل على رفع الإصر عن قضاة مصر (الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1966 م). 69 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (الناشر مكتبة القدسي، القاهرة 1353 هـ، 1354 هـ وما بعدها). سعيد عاشور (دكتور) 70 - العصر المماليكي في مصر والشام (الطبعة الأولى، دار النهضة العربية القاهرة 1965 م). 71 - المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك (الطبعة الأولى، نشر دار النهضة العربية، القاهرة 1962 م). السكاكي (أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي المتوفي عام 626 هـ) 72 - مفتاح العلوم (مطبعة التقدم العلمية بمصر). سليمان الجمل 73 - حاشية الجمل على الجلالين المسماة بالفتوحات الالهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية (طبعت مع تفسير الجلالين، مطبعة مصطفى محمد القاهرة 1352 هـ- 1933 م). سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر المتوفي حوالي 180 هـ) 74 - الكتاب (طبعة باريس 1881 م- 1885 م، طبعة بولاق 1316 هـ، طبعة هارون 1385 هـ، 1388 هـ). السيد خليل (دكتور) 75 - التصور اللغوي عند العرب (مجلة كلية الآداب- جامعة الاسكندرية المجلد الرابع عشر 1960 م). 76 - اللغة بين الأدب والتشريع (مقال بمجلة كلية الآداب- جامعة الاسكندرية، المجلد الثالث عشر 1959 م). 77 - مصر في تاريخ النحو (مقال بمجلة كلية الآداب- جامعة الاسكندرية،

المجلد الثالث عشر 1959 م). السيد خليل (دكتور) 78 - الليث بن سعيد فقيه مصر (الناشر دار المعارف بمصر 1969 م). الشافعي (الامام محمد بن إدريس الشافعي المتوفي عام 204 هـ). 79 - الرسالة (تحقيق الشيخ أحمد شاكر، مطبعة الحلبي، القاهرة 1358 هـ- 1940 م). الشعراني (أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي المتوفي عام 973 هـ) 80 - لواقح الأنوار في طبقات الأخيار أو الطبقات الكبرى (المطبعة العثمانية بالقاهرة سنة 1316 هـ). 81 - ذيل الطبقات الكبرى، مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 493 تاريخ متوسط الحجم، عدد أوراقه 139 ورقة، فصفحاته 258 صفحة). الشوكاني (القاضي محمد بن علي الشوكاني المتوفي عام 1250 هـ) 82 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1348 هـ). شوقي ضيق (دكتور) 83 - المدارس النحوية (دار المعارف بمصر 1968 م). الصبان (محمد بن علي الصبان المتوفي سنة 1206 هـ) 84 - حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك (طبع ونشر دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة). صبحي الصالح (دكتور) 85 - دراسات في فقه اللغة (مطبعة جامعة دمشق 1379 هـ- 1960 م). عبد اللطيف حمزة (دكتور) 86 - الأدب المصري من قيام الدولة الأيوبية إلى مجيء الحملة الفرنسية (مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة). 87 - الحركة الفكرية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي الأول (الطبعة الأولى، دار الفكر العربي).

عبد المتعال الصعيدي 88 - المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر (مكتبة الآداب بالجماميز). عبد الوهاب حمودة 89 - صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي (الدار المصرية للتأليف والترجمة القاهرة 1965 م). عبد الوهاب عزام (دكتور) 90 - مجالس السلطان الغوري في القرن العاشر الهجري (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1360 هـ- 1941 م). العيدروسي (شمس الشموس محيي الدين عبد القادر بن شيخ المتوفي عام 1038 هـ) 91 - تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر (تحقيق محمد رشيد الصفار المكتبة العربية ببغداد، 1353 هـ- 1934 م). علي عبد الواحد وافي (دكتور) 92 - علم اللغة (الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1363 هـ- 1944 م). الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد المتوفي سنة 505 هـ) 94 - المستصفى من علم الأصول (الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق القاهرة 1322 هـ- 1324 هـ). فك (يوهان) 95 - العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب (ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، نشر مكتبة الخانجي، القاهرة 1370 هـ). قندريس (جوزيف) 96 - اللغة (ترجمة د. عبد الحميد الدواخلي- محمد القصاص، نشر الأنجلو المصرية، 1370 هـ- 1950 م). الفيروزآبادي (محمد بن يعقوب بن محمد المتوفي سنة 817 هـ). 97 - القاموس المحيط (المطبعة والمكتبة الحسينية بمصر).

القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفي عام 671 هـ). 98 - الجامع الأحكام القرآن (الطبعة الثانية، مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة 1372 هـ- 1952 م). القلقشندي (أبو العباس أحمد المتوفي عام 821 هـ). 99 - صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (المطبعة الأميرية 1331 هـ وما بعدها). المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد المبرد المتوفي سنة 285 هـ) 100 - الكامل في اللغة والأدب (المكتبة التجارية بالقاهرة). مجمع اللغة العربية 101 - مجلة مجمع اللغة العربية (الأجزاء من 1 - 22). 102 - محاضر جلسات مجمع اللغة العربية (أدوار الانعقاد المختلفة). 103 - مجموعة القرارات العلمية من الدورة الأولى إلى الدورة الثامنة والعشرين (أخرجها: محمد خلف الله أحمد- محمد شوقي أمين، 1382 هـ- 1963 م). محمد صديق حسن خان 104 - البلغة في أصول اللغة (مطبعة الجوائب- القسطنطينية 1296 هـ). محمد الطنطاوي 105 - نشأة النحو تاريخ أشهر النحاة (الطبعة الرابعة- مطبعة وادي الملوك، القاهرة 1374 هـ- 1954 م). محمد بن نظام الدين الأنصاري 106 - فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت (طبع مع كتاب المستصفى للغزالي الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق، 1322 هـ- 1324 هـ). محمود السعران (دكتور) 107 - علم اللغة: مقدمة للقارئ الربي (دار المعارف بمصر، فرع الاسكندرية 1962 م). 108 - اللغة والمجتمع: رأي ومنهج (المطبعة الأهلية، بن غازي 1958 م).

محمود رزق سليم 109 - عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (الناشر مكتبة الآداب بالجماميز، المجلد الثاني 1366 هـ، المجلد الثالث 1368 هـ). مصطفى الشهابي 110 - المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث (نشر معهد الدراسات العربية العالمية، 1955 م). مصطفى صادق الرافعي 111 - تاريخ آداب العرب (تحقيق محمد سعيد العريان، المكتبة التجارية الطبعة الثالثة 1373 هـ- 1953 م). المقريزي (تقي الدين أحمد بن علي المتوفي سنة 845 هـ) 112 - البيان والاعراب عما نزل بأرض مصر من الأعراب (تحقيق د. عبد المجيد عابدين، طبع ونشر عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى 1961 م). 113 - الخطط المقريزية المسماة بالمواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (مطبعة النيل بالقاهرة عام 1326 هـ). 114 - السلوك لمعرفة دول الملوك (الطبعة الثانية القاهرة 1957 م).

ثالثا: المصادر الأجنبية

ثالثا: المصادر الأجنبية 1 - Bloomfield (Leonard) «Language» ,London 1962. 2 -Brockelmann: «GechichteDerArbi shchen Litteratur» ,Brill ,1938. 3 -DeSaussure (Fedenand) : «Course In General Linguistics» , Translated from the French by: WadeBaiskin, NewYork. 4 - The Encyclopaedia Britanica. 5 - The Encyclopaedia of Islam. 6 - Jespersen (Otto) : «Language: Its Nature Development and Origin» , London, 1959. 7 - Sapir (Edward) : «Language: An Introduction to the study of Speech.

§1/1