جامع المسائل لابن تيمية ط عالم الفوائد - المجموعة السادسة

ابن تيمية

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة جديدة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية التي لم تُنشَر ضمن "مجموع الفتاوى"، وقد اعتمدتُ في تحقيقها وإخراجها على أصولٍ خطية موجودة في مكتبات مختلفة كما سيأتي وصفها، وهذه الأصول تتفاوت في الصحة والجودة، وبعضها كثيرة التصحيف والتحريف تطلَّب استخراجُ النصّ الصحيح منها جهدًا كبيرًا. وقد كنت أقف أحيانًا ساعاتٍ لإصلاح الأخطاء والتحريفات في بعض الرسائل، وأقرأ الفقرة مرات، وأراجع كلام المؤلف في الموضوع نفسه في كتاباته الأخرى، حتى أهتدي إلى الصواب أو ما يقاربه ويستقيم السياق. ومنهجي فيها هو الذي التزمتُ به في المجلدات السابقة، من ضبط النص وتقسيمه إلى فقرات واستخدام علامات الترقيم، والتخريج المختصر للأحاديث، وتوثيق النقول، وعدم استعمال الأقواس إلاّ عند إضافة ما لا بدَّ منه على الأصل، وعدم الإشارة إلى التحريفات والأخطاء الواضحة. أما التعريف بالأعلام والأماكن والقبائل، وشرح المسائل الفقهية والكلامية واللغوية، وجمع طرق الأحاديث واستقصاء الكلام حولها، فليس مكانه التعليق على النصّ المحقق، بل ينبغي أن يُفرد لكل غرضٍ منها كتابٌ مستقل كما فعلَ ذلك سلفُنا رحمهم الله.

تحتوي هذه المجموعة على رسائل مهمة لشيخ الإسلام في موضوعات مختلفة، وهي ثابتة النسبة له، وقد نُسِب كثير منها له في النسخ الخطية، والبقية التي ليس عليها اسمه مكتوبة بأسلوبه المتميز في العرض والنقد والإحالة إلى مواضع أخرى من كتاباته، وتتناول الموضوعات التي عُرِف بالكتابة فيها والاحتجاج لها. ويتفق رأيه فيها هنا مع رأيه في كتبه الأخرى. وقد بحثت في فهرس مؤلفاته عن عناوين رسائل هذه المجموعة، فلم أجد إلاّ ثلاثة منها، وهي: "قاعدة في مواقيت الصلاة" و"قاعدة في الجمع بين الصلاتين" (العقود الدرية ص 46) و"قاعدة في ضمان البساتين هل يجوز أم لا؟ " (العقود الدرية ص 48). ولعل الرسالة الثانية عشرة (فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين) هي المذكورة في "العقود" بعنوانين منفصلين، ويمكن أن تكون غيرها، لكثرة المؤلفات والقواعد التي كتبها الشيخ في هذه الموضوعات الفقهية، حتى عجز المترجمون له عن إحصائها. والرسالة الثامنة عشرة (مسألة في ضمان البساتين والأرض) هي المذكورة بعنوان "قاعدة في ضمان البساتين" في "العقود"، وقد نُشِر منها جزء في "مجموع الفتاوى" (30/ 220 وما بعدها)، وينقصه الثلث الأخير، وفيه زيادات في أوله عما هنا، لأن الناسخ هنا اختصر. أما بقية الرسائل والمسائل فلم أجد لها عناوين محدَّدة في كتب التراجم، فاعتمدت في إثباتها على النسخ الخطية، واستنبطت بعضها من أوائل هذه الرسائل.

وصف الأصول المعتمدة

* وصف الأصول المعتمدة اعتمدت في إخراج هذه الرسائل على عدة مجاميع ورسائل مفردة من مكتبات مختلفة، وفيما يلي وصفها مرتبةً حسب ورودها في المجموعة: (1) "قاعدة في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحدَه لا شريك له هي حقيقة الدين ... ": توجد نسخته الخطية ضمن مجموعة في مكتبة جار الله بإستانبول برقم [1729] (ق 1 - 18 أ)، وعنوان هذه المجموعة مطموس في الصفحة الأولى منها، وقد كُتِب في أعلاها "فهرست ما في هذه المجموعة ... " ثم ذكرتْ عناوين بعض الرسائل. وعليها تملكٌ بخط مالكه ظهر منه: "تزايدت نعمُ الله على أبي عبد الله ولي الدين جار الله سنة 1143". والمجموعة في 122 ورقة، كتبتْ بخط نسخي جيّد، وآخرها ناقص، فلم يظهر لنا تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع، وفي الصفحات الأولى منها طمس ذهب بكثير من الكلمات. ومع كونها مجوَّدةً في الخط فهي كثيرة التصحيف والتحريف، وغالبًا ما يرسم الناسخ الكلمةَ ويُعجِمها فيُبعِد النجعة، وفيها غير قليل من الأخطاء اللغوية والنحوية. وتحوي المجموعة تسع رسائل للشيخ، نشرتْ ثلاث منها ضمن "مجموع الفتاوى"، والبقية تُنشَر ههنا. (2) "فصل في حق الله على عباده، وقسْمِه من أم القرآن، وما

يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك": هي الرسالة الثانية ضمن المجموعة السابقة (ق 18 أ-28 أ). وفي آخرها: "تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد لله وحده". (3) "فصل في صفات المنافقين": هي الرسالة الثالثة ضمن المجموعة السابقة (ق 28 ب-35 أ). وينتهي الكلام في النسخة دون الإشعار بنهايتها، فلعل آخرها ناقص. (4) "فصل في التوحيد": هي الرسالة الرابعة ضمن المجموعة السابقة (ق 35 ب-56 ب). (5) "فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح": ضمن المجموعة السابقة (ق 56 ب-100 ب). (6) "قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به ونحو ذلك": أصلها ضمن المجموعة السابقة (ق 101 أ-106 ب). (7) "فصل في الإسلام وضدِّه": يُوجد أصله ضمن مجموعة خطية في مكتبة جامعة أم القرى بمكة المكرمة برقم [1491] (ق 13 ب-22 ب)، وهي بخط نسخي جيّد، كتبها أحمد بن أبي بكر الطبراني الكاملي، وجمع فيها مختارات من كتب مختلفة، ومنها بعض رسائل شيخ الإسلام. ولعل الناسخ من القرن التاسع، وقد بحثتُ عن ترجمته في المصادر، فوجدت في "شذرات الذهب" (7/ 212): شهاب

الدين أحمد بن أبي بكر بن علي المعروف ببواب الكاملية الحنبلي (ت 835)، قال العليمي في طبقاته: عُني بالحديث كثيرًا وسمع، وكان يتغالى في حبّ الشيخ تقي الدين، ويأخذ بأقواله وأفعاله، وكتب بخطه تاريخ ابن كثير، وزاد فيه أشياء حسنة. فليُنظَر هل الناسخ هو المترجم له هناك؟ ونسخة هذه الرسالة ناقصة الآخر، والورقة التي تليها في المجموعة ليست متصلة بما قبلها. والنسخة صحيحة، يندر فيها وجود الخطأ، فإنها بخط عالم. (8) مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد: توجد نسخته ضمن مجموعة خطية بعنوان "المسائل والأجوبة" في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم [4 فقه حنبلي] (ق 14 ب-25 أ). وقد كتبت بخط نسخي جميل، وفي آخرها ذكر الناسخ وتاريخ النسخ بقوله: "وكتب في سادس عشر من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، على يد الفقير محمد بن عيسى بن أبي الفضلى الشافعي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين". وعدد أوراق هذه المجموعة 85 ورقة، وأولها ناقص، ولا ندري مقدار النقص، فقد بدأت بالأسطر الأخيرة من فتوى لشيخ الإسلام ضمن "مجموع الفتاوى" (24/ 10 - 13). والمجموعة تحتوي على مسائل مهمة للشيخ لم يُنشر بعضها ضمن "مجموع الفتاوى". (9) "مسألة في الاستغفار": وصلت إلينا قطعة منها ضمن المجموعة الموصوفة سابقًا برقم (7)، (الورقة 12 أ- 13 ب). ولا

ندري مقدار ما ضاع من أولها. (10) "مسائل في الصلاة": هي ضمن المجموعة السابقة برقم (7)، (ق 23 أ-26 ب)، وهي مجموعة فصول في مسائل من الصلاة، لم يَصل إلينا أولها، ولا نعرف مقداره، ولم نجد منها نسخة أخرى تكمِل النقص. (11) "فصل في الصلاة الوسطى": ضمن المجموعة السابقة برقم (7)، (ق 26 ب-30 ب)، وآخرها ناقص، ولم نجد في المجموعة ما يكمل النقص. (12) "فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين": وصلت إلينا نسختان منه، إحداهما: ضمن "الكواكب الدراري" (المجلد 83) نسخة دار الكتب الظاهرية برقم [578] (ق 9 ب-21 ب)، وليس عليها تاريخ النسخ، ولكنها كتبت حوالي سنة 830 كما يظهر من تاريخ نسخ الأجزاء الأخرى الموجودة من الكتاب، وهي نسخة جيدة قليلة الأخطاء. والثانية: مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم [7921 فلم] عن مصدر مجهول، ولعلها كانت في مصر، فقد كتب أحد القراء في أسفل الصفحة الأولى منها: "طالعه ورقم أوراقه الفقير إلى عفو ربه أبو نهلة أحمد بن عبد المجيد بن هريدي بالقاهرة المحمية في الخامس من ربيع الأول سنة 1400 من الهجرة النبوية". ويبدو من دراستها أنها حديثة الخط، وقد جاء في آخرها: "بلغ

مقابلةَ على الأم المنقول منها، وهي نسخة مضطربة". ولعل الأم المنقول منها هي النسخة الموجودة ضمن "الكواكب"، فلا فرقَ بين النسختين إلاّ نادرًا، وكان الثانية طبق الأولى. (13) "مسألة في رجل فقير وعليه دَيْن، هل لأخيه الغني دَفْعُ الزكاةِ إليه؟ ": أصلها ضمن "أجوبة عن مسائل فقهية" في مكتبة شهيد علي بإستانبول برقم [2751] (ق 143 أ-145 أ)، والنسخة بخط نسخي جيد، كتبها محمد بن كامل الشافعي كما في الورقة (173 ب). ولعلها من خطوط القرن التاسع. (14) "مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد": هي ضمن المجموعة السابقة (ق 161 أ-170 أ)، ويبدو أن الناسخ لم ينسخها بتمامها، فقد اختصر كلام الشيخ وحذف منه، كما أشار إلى ذلك في آخرها بقوله: "واستشهد بغير ذلك، حذفتُه اختصارًا لضيق الوقت"، ودلَّ عليه بقوله: "ثم قال" في أثناء المسألة مرارًا. وليتَه نسخَها على وجهها! (15) "مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنَّور البرّ وابن آوى وجلودها": نسختها في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب ضمن دار الكتب الوطنية بتونس برقم [18567]، وهي مكتوبة بخط نسخي قديم، والمسألة في صفحة واحدة، وقبلها "فتوى فيمن يؤخر الصلاة عن وقتها" (= ضمن "مجموع الفتاوى" 22/ 27 - 38 ثم 24/ 27 - 28)، وفي أولها ذِكْر الشيخ والدعاء له بقوله: "أطال الله بقاءه" مما يدلُّ على أنها كتبت في حياته.

(16) "مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعُها دون الجلد؟ ": توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة الموصوفة برقم (13)، (ق 160 ب-161 ب). (17) "مسألة في إجارة الإقطاع": هي ضمن المجموعة التي وُصِفت برقم (8)، (ق 1 أ-3 ب). (18) "مسألة في ضمان البساتين والأرض": أصلها ضمن المجموعة الموصوفة برقم (13)، (ق 145 أ-157 أ)، وجاء في آخرها: "قال الناقل لنفسه -عفا الله عنه-: اختصرتُ جواب الشيخ تقي الدين، وحذفتُ منه المكرر وغيره، والله أعلم". وليتَه نقلها بتمامها، ولم يحذف منها شيئًا! وبعد فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة، وأرجو أنني وُفّقتُ في قراءتها وإخراجها في هذه المجموعة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وله الحمد في الأولى والآخرة، عليه توكلتُ وإليه أنيب. محمد عزير شمس

(1) قاعدة في الإخلاص لله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسِّر ولا تعسِّر قال [الشيخ الإمام] (1) العالم الزاهد العابد الورع أبو العباس أحمد ابن الشيخ [الإمام العالم] عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم أبي البركات ابن تيمية رضي الله [عنه] وأرضاه: الحمد لله الأحد الصَّمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى كل أحد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا بلا عدد. أما بعد، فهذه قاعدةٌ في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحده لا شريكَ له، هي حقيقة الدين، ومقصود الرسالة، وزبدة الكتاب، ولها خُلِقَ الخلقُ، وهي الغاية التي إليها ينتهون، وبذكرها تَحصُل السعادةُ لأوليائه، وبتركها تكون الشقاوةُ [لأعدائه]، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وعليها اتفقت الرسل، ولها قامت السموات والأرض. وقد تكلمتُ على هذا الأصل بأنواع من القواعد المتقدمة، مثل: قاعدة الشهادتين، وقاعدة المحبة والإرادة، وقاعدة الأعمال بالنيات. والمقصود هنا أن كل عمل يعمله عامل فلا بدَّ فيه من شيئين: من مرادٍ بذلك العمل هو المطلوب المقصود، ومن [حركةٍ إلى] المراد وهي الوسيلة، فلا بد من الوسائل والمقاصد ... (2) المطلوبة بالوسائل،

_ (1) ما بين المعقوفتين مطموس في الأصل، وكذا فيما يأتي. (2) هنا طمس في الأصل، وكذا في المواضع الآتية.

- تشبيه النية والعمل بالروح والجسد

والإرادة في الباطن ... الظاهر، فتقوم بالجسم. فنسبة النية إلى العمل الظاهر نسبةُ الروح إلى الجسد، ... أرواح أجسامها أجسام أرواحها النيات، ولا بدّ لكل جسم حي من روح، ولا بدّ لكل جسم حي من إرادة ونية. ثم إن الروح إن كانت (1) طيبةً كان الجسم طيباً، وإن كانت خبيثة كان الجسم خبيثاً، فكذلك العمل والنيّة، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المشهور: "إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نَوَى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2). فهذا اللفظ عام (3) في كل عمل كائنًا ما كان، هو بنيَّته، سواء كانت صورته صورة العبادات، كالطهارة والصلاة والحج، أو صورة العادات، كالسفر والاكل والشرب وغير ذلك. وسبب الحديث كان مما صورتُه صورةُ العادات من وجه، [وصورة العبادات من وجه، فالعادة] من جهة كونه سفراً، وهو السفر من مكة إلى المدينة، والدين (4) من جهة كونِ السفرِ كان إلى دار الإسلام ومُقامِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن معه من المؤمنين المجاهدين، وبهذا الاعتبار سمي هجرة، ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعله نوعين: أحدهما: ما كان

_ (1) غير واضحة في الأصل. (2) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب. (3) في الأصل: "عاما". (4) الكلمة غير واضحة في الأصل.

- الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية

إلى الله ورسوله، والثاني: ما كان لغير ذلك، مثل السفر (1) للنكاح. وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يُوجب أنه ليس للعامل من العمل إلا ما نواه، وهو المقصود المراد بالعملَ. وهذا الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية كما جعله بعض الفقهاء، وهو كلام تام لا يحتاج إلى إضمار قَبول الأعمال أو غير ذلك، كما يُضمِره بعضُ الفقهاء، وإنما حَمَلَهم على ذلك توهُّمُهم أن النية المراد بها النيةُ المقبولةُ، أو الصحيحةُ المأمور بها، فزادوا في لفظ الحديث ما لم يُذكَر، ونَقَصُوا من معناه ما أريد. والحديث من جوامع الكلم، ومن أمهات الدين، والأصل في الكلام عدم الإضمار وعدم التخصيص. ثمَّ إنّ هذا (2) ممتنع، لأنه قال في تمام الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها"، فقد جمعَ في العمل الذي هو الهجرة بين الثنتين: المقبولة والمردودة، والمحمودة والمذمومة، والصحيحة والفاسدة، وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يَعُمُّ من نوى المقصود المحمود، وهو من أراد الله ورسوله، ومن نَوَى غير ذلك، وهو المرأة والمال، فكيف يجوز أن يقال مع ذلك: إنه أراد قبولَ الأعمال وصحتَها بالنيات، أو صحة الأعمال الدينية؟ ثم ما أضمروه يَرِدُ عليه نوعٌ من الفساد ليس هذا موضعه.

_ (1) الكلمة مطموسة في الأصل. (2) في الأصل: "هنا".

- الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود

ثم الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود. أما الأول: فكلُّ حيٍّ يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك العمل مطلوب مَّا، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ أصدقَ الأسماء الحارثُ وهمَّام" (1)، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: صاحب الهمّ الذي يكون له إرادة وقصد. وقد بينتُ فيما تقدم أن طلبَ المخلوقِ لا بدَّ أن يتعلق بغيره، فكما أنه لا يكون فاعلَ نفسه، لا يكون مطلوبَ نفسه، وبينتُ أن المخلوق كما لا يكون فاعلاً، لا يكون مطلوبًا، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. والغرض هنا أن المخلوق لا بدَّ له في كل عمل من مطلوب ومرادٍ، وحظ ونصيب، لا يمكن غير ذلك، فاعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ، سواءً كاًن من الملائكة أو النبيين أو الصدِّيقين أو الشهداء أو الصالحين أو الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين، فما نسمعه من الكلمات المأثورة عن بعض المشايخ مما ينافي هذا فأحد الأمرين

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 345) والبخاري في الأدب المفرد (814) وأبو داود (4950) من حديث أبي وهب الجشمي، وفي إسناده علة بيَّنها ابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 312،313)، مفادها أن أبا وهب هو الكلاعي التابعيّ لا الجشمي الصحابي، وعلى هذا فالحديث مرسل. وأخرجه ابن وهب في "الجامع" (ص 7) عن عبد الوهاب بن بخت مرسلاً، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عامر اليحصبي مرسلاً. وصححه الألباني في الصحيحة (1040) بمجموع هذه الطرق.

- ما ينافي هذا عن بعض المشايخ لفظ مجمل أو صاحبه غالط

فيه لازم: إما أنه لفظ مجملٌ لم يفهم مراد صاحبه، أو صاحبه غالِطٌ فيما أمر به أو أخبر به. مثالُ ذلك قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل. فهذا الكلام إذا أريد به في جانب الله أن يكون مفوّضاً إليه أموره فيما يقدر عليه مما ليس فيه ترك واجب ولا مستحب، فهذا معنى صحيح، لكن دلالة اللفظ عليه بعيدة، وظاهرُه يُعطي أنه لا يكون له من نفسه حركة قط حتى تُحرَّك تحريكًا جبرياً، فهذا باطل ممتنع. ثم إن الممكن منه محرَّم في الدين على الإطلاق، وذلك أن الميت لا تقوم به حركةٌ ببدنه ولا إرادة تحرك بدنه، والحي ليس كذلك، فإن جسده يتحرك حركة اختيارية (1)، وهذا أمر لا بد منه، فلا بد من الحركة الاختيارية، ويمتنع أن يُحرّكَ حركةً ينتفي حكمُ إرادتِه فيها، فالأمر فيه عكس الميت من وجهين: الوجود والعدم، فإن الميت لا يتحرك بدنه في العادة باختياره، وهو يُحرَّك دائمًا بغير اختياره، وقول المطلق احتراز على المقيد ونحوه ممن غسّل، فذاك لا فعلَ له بحالٍ، فهذا بطلانُه وامتناعُه. وأما مخالفتُه للدين والشريعة، فإن الله لم يأمرنا بعدم الإرادة والحركة، ولا مراده في دينه منا أن نكون مسلوبي (2) الاختيار والحركة

_ (1) في الأصل: "اختياره". (2) في الأصل: "مسلوبين".

- المطلوب منا الاستسلام لله وإخلاص الدين له

والعمل، وإنما المراد منا أن نكون مطيعين له ولرسوله، وأن تكون حركتُنا واختيارنا تبعاً لأمره الذي بعث به رسوله، فعلينا أن نختار ونعمل ما أوجب علينا عمله واختياره، وهو يحب لنا ويرضى أن نختار ونعمل ما يستحب لنا في دينه، ويعاقبنا على عدم الإرادة والعمل المستحب. وهنا قد تغلط طائفة من المتصوفة فيقولون: ما المراد؟ (1) قد يستعملون ذلك فيما فيه ترك مستحبات، وقد يتعدَّون إلى ما فيه ترك واجبات، فيقال: ليس المراد منا الانقياد لكل حكم قاهر، ولا الاستسلام لكل ذي سلطان قادر، وإنما المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له، وطاعة أمره ونهيه: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (2)، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)) (3). فإن الدين: الإيمان والبر والتقوى وطاعة الله ورسوله والإحسان والعمل الصالح ونحو ذلك هو المطلوب منا والمراد بنا في دين الله تعالى وكتابه، فأما الحوادث التي تكون بغير أفعالنا فالأقسام فيها ثلاثة: تارةً نُؤمَر بدفعها بالباطن أو الظاهر، كما يُؤمَر بجهاد الأعداء عن الدين.

_ (1) كذا في الأصل. (2) سورة النساء: 69. (3) سورة النساء: 13.

- تارة نؤمر بدفعها، وتارة نؤمر بالصبر عليها، وتارة يخير بين الأمرين

وتارةً نُؤمَر بالصبر عليها، وهو ما قُضي من المصائب ولا فائدةَ في الجزع عليه، كالمصائب في الأنفس والأموال والأعراض، والرضى بهذه أعظم من الصبر. وهل هو واجب أو مستحب، على قولين أصحُّهما أنه مستحب. وتارة نُخيَّر بين الأمرين بين دفعِها وقبولها، وإن كان قد يترجح أحدُهما، كدفع الصائل عن المال، وكالتداوي أحيانًا ونحو ذلك، وقد فصَّلنا مسائل هذا الباب في غير هذا الموضع. وكذلك الأمور التي ليست حاصلةً عندنا، منها ما نُؤمَر بطلبه واستعانة الله عليه، كأداء الواجبات، ومنها ما نُنهَى عن طلبه كالظلم، ومنها ما نُخيَّر بين الأمرين، فكيف يقال مع هذا: إن العبدَ ينبغي له أن يكون كالميِّت بين يدي الغاسل؟ هذا مع الله. وأما كونه كذلك مع الشيخ ففيه تنزيلُ الشيخ منزلةَ الرسول، وهذا على إطلاقه باطل، لكن فيه تفصيل ليس هذا موضعه. ومما يُغلَط فيه ما يُذكَر عن الشيخ أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال في بعض مناجاته لما قيل له: ماذا تريد؟ فقال: أريد ألاَّ أريدَ، لأني أنا المراد وأنت المريد. ويتحذلقُ بعضُهم على أبي يزيد (1)، فيقول: فقد أراد بقوله "أريد". وهذا الاعترض خطأ لوجهين: أحدهما: أنه من قيل له: ماذا تريد لم يُطلَب منه عدم الإرادة، وإنما

_ (1) في الأصل: "أبو يزيد".

- معنى هذا الكلام

طُلِب منه تعيينُ المراد. الثاني: أن انتفاء الإرادة ممتنع، وهو محزَمٌ، بل عليه أن يريد ما أراده منه، ولا بدَّ له من ذلك. وأما قوله: "أريد أن لا أريد، لأنِّي أنا المراد وأنت المريد"، فلا ينبغي أن يفهم من قوله: "أن لا أريد" أن لا تكون لي إرادة، فإن هذا باطل محرم، وإنما أراد أن لا يكون ابتداءُ الإرادة مني، بل إرادتي تابعة لك لأنك أنت مرادي، فأريد أن لا أريد إلا إياك. وهذا حقيقة الحنيفية والإخلاص، فإذا كنتُ لا أريد إلا إياك لم أحب (1) ولا أفعل إلا ما أمرتني به، فكان حقيقة قوله: أريد أن لا أعبد إلا إياك، ولا أريد شيئًا قطّ إلا وجهَك الكريم، وهذا عين ما أوجبه الله لكل عبد، وهي الإرادة الدينية الشرعية. وأيضاً فقد يقول: أريد ألاَّ تكون لي إرادة إلا ما أمرتَني أن أريده، وأردتَه لي إرادةَ محبةٍ ورضًى، لجهلي وعجزي. وأريد أن أكون عبدًا محضًا، فلا أريد إلا ما تريده أنت، بحيث يكون المرادُ (2) المختار أمرًا دينيًّا وقضاءً كونيًّا لا يخالف الأمر الديني. فهذا الكلام يكون إخلاصًا وتفويضًا، وكلاهما إسلام وجهه لله. وأيضًا فإنه قد يقول هذا في مقام الفناء والاصطلام، إذا غلبَ على قلبه، حتى غاب به عن شهود نفسه وإرادته، فهو يُحب هذا الفناء، لأنه

_ (1) الكلمة غير واضحة في الأصل. (2) في الأصل: "المريد".

- مما يغلط فيه قول طوائف: إن من طلب شيئا بعبادته لله كان له حظ، وإنما الإخلاص أن لا تطلب بعملك شيئا

متى رجع إلى نفسه أرادت بهواها، فهو يريد أن يَفنَى عن نفسه حتى يكون الحق هو الذي يريد له وبه. ثم إنه مع الفناء في نوع من الإرادة لله التي هي أعظم الإرادات، لكنه غائبٌ كغيبته عن نفسه مع وجودها. وهذا كله حسن، وإن كان البقاء أفضل ما لم يُفْضِ (1) الأمرُ إلى ترك مأمور به جريًا مع الكوني. ومما (2) يَغلَطُ فيه بعضُهم قولُ طوائفَ منهم: إن من طلب شيئًا بعبادته لله كان له حظ، وكان يَسْعَى لحظه، وإنما الإخلاصْ أن لا تطلب بعملك شيئًا، ولا يكون لك حظٌّ ولا مرادٌ. ثم يقولون: لا يريد إلا اللهَ، ولا يطلب إلا وجهَه، هذا في الدنيا، وفي الآخرة لا يَطلُب إلا رؤيته. وبعضهم قد يقول: إذا طلبتَ رؤيته كنتَ في حظِّك، بل لا يكون لك مطلوب. ويُنشِد قول بعضهم (3): أحبُّك حبَّينِ: حبُّ الهوى وحب لأنكَ أهلٌ (4) لذاكا فأما الذي هو حبُّ الهوى فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا وأما الذي أنت أهل (5) له فحبِّي خُصِصْتَ به عن سواكا

_ (1) في الأصل: "لم يفضي". (2) في الأصل: "وما". (3) الأبيات في حلية الأولياء (9/ 348). (4) في الأصل:"أهلاً". (5) في الأصل: "أهلاً".

- بيان ما في هذا الكلام من حق وغلط

فما الفضلُ في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الفضل في ذا وذاكا وهذا الكلام فيه حقٌّ، ويقع فيه غلطٌ، فأما [الحق] (1) فهو ما اشتمل عليه من الإخلاص لله وإرادة وجهه دون ما سواه، وطلب النظر إلى وجهه، والشوق إلى لقائه، كما في الحديث المأثور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجهين، أحدهما من حديث عمار بن ياسر، و [الثاني] من حديث زيد بن ثابت، فيه: "أسالك النظرَ إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائِك في غير ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضِلَّة" (2). وأما الغلط فتوهُّم المتوهمِ أن إرادة وجه الله والنظر إليه ليس فيها حظٌّ للعبد ولا غرض، وأن طالبها قد ترك مقاصده ومطالبه، وأنه عامل لغيره لا لنفسه، حتى قد يُخيَّل أن عمله لله بمنزلة كسب العبد لسيده وخدمة الجند لمَلِكِهم. وهذا غلط، بل إرادة وجه الله أعلى حظوظ العبد، وأكبر مطالبه وأعظم مقاصده، والنظر إلى وجهه أعظم لذَّاته، ففي الحديث الصحيح عن أهل الجنّة قال: "فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة"، رواه مسلم (3) عن صهيب.

_ (1) زيادة يستقيم بها السياق. (2) أخرجه أحمد (4/ 264) والنسائي (3/ 54) من حديث عمار بن ياسر، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/ 191) والطبراني في المعجم الكبير (4932) والحاكم في المستدرك (1/ 516) من حديث زيد بن ثابت، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: "أبو بكر ضعيف فأين الصحة؟ ". (3) برقم (181).

- العبد له حظان: حظ من المخلوق، وحظ من الخالق

وإنما العبد له حظانِ: حظ من المخلوق (1)، وحظٌّ من الخالق، وله لذتان: لذة تتعلق بالمخلوق، ولذة تتعلق بالخالق. فتركَ أدنى الحظين واللذتين لينال أعلاهما، وما عملَ إلا لنفسه ولا حَطَبَ إلا في حَبْلِه، قال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) (2). وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسألك لذة النظر" كما تقدم. وقال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (3)، وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (4)، وقال: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (5) وقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (6). والله سبحانه أمره بما يحتاج إليه في سعادته، وأحب له أعلى السعادات وأعظم اللذات، وإن كان لمحبة الرب عبده ولعمله الصالح تعلُّق بالله ليس هذا موضعه، فالعبد إذا لم يتصرف إلا بأمر الله ورسوله فهو بمنزلة من لا يتصرف إلا بأمر مالكه العالم بحاله، والناصح له، لا بأمر المالك الذي ينتفع به في حياته، قال الله تعالى (7): "يا عبادي إنكم لن تَبلُغوا ضُرّي فتضروني، ولن

_ (1) الكلمة غير واضحة في الأصل. (2) سورة فصلت: 35. (3) سورة فصلت: 46. (4) سورة الإسراء: 7. (5) سورة البقرة: 286. (6) سورة النمل: 40. (7) في الأصل: "يقول".

- الكلام على قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا ...)، وبيان ما فيه من المعاني.

تَبلُغوا نفعي فتنفعوني" (1)، وقد كتبت فيما تقدم العمل لله والعمل للمالك، وبهذا تزول جهالاتٌ كثيرة من بعض العابدين المحبين. قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)) (2)، فأخبر أنه هو الذي منَّ بهدايتهم للإيمان، إلا أنهم يمنُّون على رسوله إسلامهم، فتدبَّرْ هذا، فإن فيه معانيَ (3) لطيفةً، منها: أنه إنما منَّ بهدايتهم للإيمان التي هي دعوتهم إليه بالرسالة، وإنعامُه عليهم بالاهتداء، لم يكن مجرد الدعوة إليه ولا مجرد الإسلام الظاهر، ولأنه يشركهم في الأول الكافر، وفي الثاني المنافق، ولهذا قال: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا. ومنها: أن (4) مَنَّهم على رسوله الإسلامَ الظاهر الذي قد ينتفع به الرسول في نصره وموافقته وغير ذلك، فكان ذلك تنبيهًا على إنكارِه مَنَّهم على الله الغني الحميد، الذي لا يبلغون ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، فالله هو الذي أنعم على عبده المؤمن بأمره وتعبيده له، وهو الذي منَّ عليه بهدايته وإرشاده، فله الحمد في كونه هو المعبود، وفي كونه هو المستعان، وهو الأول والاَخر، وهو بكل شيء عليم، والعبد إنما عمل في مطلوبه مراده الذي هو معبوده وإلهه، وإذا أحبَّه (5) ربه،

_ (1) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر. (2) سورة الحجرات: 17. (3) في الأصل: "معان". (4) في الأصل: "أنه". (5) في الأصل: "وإذا حبه".

- شرح الشعر السابق: "أحبك حبين ... "، وبيان معناه

وأحبّ عبادته ودينه (1) ورضي ذلك، فما للعبد من ذلك فهو نعمة من الله عليه، وما للرب في ذلك فهو منه وإليه، وهو الغني عن خلقه. والعبادُ أعجز من أن يبلغوا ضره فيضروه، أو يبلغوا نفعه فينفعوه من وجهين: من جهة الأسماء والصفات، وهو أنه سبحانه أحد صمد قيومٌ لا تأخذه سِنة ولا نوم، ويمتنع عليه أضداد أسمائه الحسنى التي وجبت له بنفسه. ومن جهة القضاء والقدر، وهو أنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاؤه ويريده، ولا حول ولا قوة إلا به، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به. وأما قول العابدة المحبة القائلة: أحبُّك حبَّينِ: حبّ الهوى وحبٌّ لأنك أهلٌ لذاكا فأما الذي هو حبُّ الهوى فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا وأما الذي أنت أهلٌ له فشيء (2) خُصِصْتَ به عن سواكا فلكلامها وجهان: أحدهما: أن تريد بالحب الأول من جهة إنعامه على عباده، وهو الحب المأمور به. وبالثاني محبته لذاته. والأولى متفق عليها، والثانية

_ (1) كذا في الأصل. (2) في ص 13: (فحبي).

حق عند أهل السنة والجماعة، وفيهم أهل العلم والمعرفة واليقين، فإنهم متفقون على محبته لذاته، وقد قررتُ هذه المسألة في غير هذا الموضع. الوجه الثاني: أن تريد بالحب الأول: الحب الذوقي الذي لا يتقيد بالأمر المحض، فإن من عرف الله ولو بعقله ونظره أحبه وعظمه، حتى المشركون فيهم محبة الله، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (1) أي كحبهم الله، لا كحب المؤمنين لله، فإن الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، ثم إن المحبين (2) من الأنبياء عليهم السلام، وأهل العلم والايمان كثيرًا ما يستعملهم الحب في أشياء ويدعوهم إلى أشياء من طلب، وسؤال عبادة، واجلال، ونعوت، لابتغاء الوسيلة، وطلب نيل الفضيلة، وإن لم تكن تلك الأشياء قد أُمِروا بها، لكن إذا لم يكونوا نُهُوا عنها، بل وغير الحب من الأحوال المحمودة قد يَفعل مثلَ ذلك، من الرحمة للخلق، والرجاء لرحمة الله، والخوف من عذابه، فإن الأفعال ثلاثة: مأمور به، ومنهي عنه، وما ليس مأمورًا به ولا منهيُّا عنه. فكثير من المحبين يفعل ما يراه محصلاً لمقصوده من محبوبه إذا لم يكن منهيًّا عنه، حتى إن منهم من يُنهى أويُمنع كما مُنِعَ موسى عليه السلام عن النظر لما ساله، وانما دعاه إليه قلق الشوق والمحبة، كما أن نوحًا لما سال في ابنه قيل له: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (3)،

_ (1) سورة البقرة: 165. (2) في الأصل: "المحبون". (3) سورة هود: 46.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) (1). وأما نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يفعل إلا ما أمر به (2) من دعاء وعبادة، فإن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العبد المحض الذي لا يفعل إلا ما أمرَه به ربُّه، فلهذا أمره بالدعاء فقيل له: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)) (3)، وقيل له: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (4)، وإذا كان يوم القيامة وردَّ الأنبياء إليه الشفاعة العظمى، وجاءته الأمم، يجيء إلى (5) ربه، ويخرُّ ساجدا، ويحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، فيقول له: "أي محمد! ارفعْ رأسَك، وقلْ يُسمَعْ، واشفَعْ تُشَفَّع" (6)، فلا يشفع إلا بعد أن يؤمر بالشفاعة، فلا يقال له: أعرض عن هذا، ولا يقال له: لاتسألني ما ليس لك به علم. وقد أوجب الله على أهل المحبة متابعته بقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (7)، فهؤلاء المتَّبعون لأمره، المستمسكون بسنته في الباطن والظاهر، هم خالص أمته، وأما من كان من أهل المحبة أو الخوف أو الرجاء أو الإخلاص، استعمله

_ (1) سورة هود: 74 - 76. (2) في الأصل: "فلا يفعلون إلا ما أمروا به". (3) سورة طه: 114. (4) سورة محمد: 19. (5) في الأصل: "اليه" تحريف. (6) أخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) من حديث أنس في حديث الشفاعة المشهور. (7) سورة آل عمران: 31.

حاله في أعمال لم يؤمر بها، ولم تُسمَح له، مثل كلام المكاء والتصدية التي تحرك حبه أو حزنه أو خوفه أو رحمته أو رجاءه، ومثل الشدة في عقوبة (1) الفساق حتى يدعو عليهم، أو يعاقبهم بقوة عظيمة لله، من غير أمر منه بذلك، ومثل فرط الرحمة لهم حتى يشفع فيمن يحب الله، ويرضى عقوبته والانتقام له، أو تركه، بترك عقوبته، ولهذا يقول الله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا) (2)، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (3)، وقال تعالى: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر) (4)، ومنهم من يَحمِلُه حبُّ أقاربه حتى يدعو لهم بدعوة لم يؤمر بها، وغير ذلك. وهذا كثير في أرباب الأحوال المتأخرين من هذه الأمة، وهم في هذه الأمور خارجون عن سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنة خلفائه الراشدين، بمنزلة خروج من خرجَ من ولاة الأمور في السياسات الظاهرة عن طريقة الخلفاء إلى نوع من الملك في العقوبات وفي الولايات وفي الأعطية، فإن تصرف هذا وهذا ببُغضِه للحرمات من جنس واحد، لكن هذا بباطنه وهذا بظاهره، وكذلك عطاء هذا وهذا برحمته للعباد من جنس واحد، ثم كل منهما قد يكون مقصوده الرئاسة إما الباطنة وإما

_ (1) في الأصل:"عونه". (2) سورة المائدة: 8. (3) سورة المائدة: 2. (4) سورة النور: 2.

- الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل

الظاهرة، وقد يكون مقصوده الديانة، وإنما تصرف بحاله لا بالأمر. وهذا باب عظيم ننبِّه عليه في مواضع، وإنما أشرنا إليه هنا لما ذكرنا محبة الهوى التي لم تتقيد بالعلم والأمر، وإن كانت محبة الله إذا لم تكن منهيًّا عنها، ولهذا قالت: فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا أي هذا الحب يستدعي طلب الرؤية كما طلبها من طلبها في الدنيا. وأما المحبة الثانية فهي العبودية المحضة للذي يحبه لذاته، فلا يفعل إلا ما أمر به، ولا يطلب إلا ما أمر به، ولا يستحق شيء أن يُحَبَّ لذاته إلا الله، فإنه لا إله إلا الله، والإله هو الذي يُعبد لذاته، فلذلك قالت: لأنك أهلٌ لذاكا، وقالت: فشَيْءٌ خُصِصْتَ به عن سواكا. الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل. أما المقصود المطلوب لذاته، وهو المعبود، فلا يجوز أن يعبد إلا الله لا إله إلا هو، وهذا أصل الدين وأساسه ودِعامتُه، وأوله وآخره، وباطنه وظاهره. والوسيلة هي الأعمال الصالحة الحسنة، إذ ليس كل عمل يصلح لأن يُعبَد به الله، ويُرادَ به وجهُه، وليس كلُّ ما كان في نفسه حسنًا وصلاحًا يُراد به وجهُ الله وليس بصالح، مثل عبادات المبتدعة المخلصين، كرهبانية النصارى التي قال الله فيها: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) (1)، ومثل ما في هذه الأمة من أنواع المقالات والعبادات التي فعلها صاحبها لله، لكن بغير

_ (1) سورة الحديد: 27.

- عبادات اليهود والنصارى

إذنٍ من الله، مثل بدع الخوارج، واستحلالهم (1) ما استحلُّوه من مفارقة السنة والجماعة، حتى قال شاعرُهم (2) في قاتل علي بن أبي طالب- وهو أشقى الآخرين عبد الرحمن بن مُلجم قاتل علي-: ياضربةً من تَقيٍّ ما أرادَ بها إلا ليَبلُغَ من ذي العرشِ رضوانَا إني لأذكره حينًا فأحسبُه أو فَى البريةِ عند الله ميزانَا وكذلك ما عليه كثير من القدرية والمرجئة والجهمية والرافضة، وغيرهم من أهل البدع الاعتقادية إذا كانوا فيها مخلصين مُريدينَ التقربَ بها إلى الله. وكذلك ما عليه كثيرٌ من المبتدعة في العبادات والأحوال، من الصوفية والعبَّاد والفقهاء والأمراء والأجناد والولاة والعمال، فكثير من هؤلاء قد يُزيَّن له سوءُ عملِه فيراه حسنًا، ويتقرب إلى الله بشيء يظنه حسنًا، وهو شيء مكروه، وهذا باب واسع. ومن هذا الباب عبادات اليهود والنصارى التي يتقربون بها إلى الله ويُخلصون فيها، قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (3)، وسئل عنهم سعد بن أبي وقاص فقال: "هم أهل الصوامع والديارات" (4). وسُئل عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالى: "هم أهل

_ (1) في الأصل: "ولاستحلالهم". (2) هو عمران بن حطّان، كما في الكامل للمبرد (3/ 1085). (3) سورة الكهف: 103، 104. (4) أخرجه البخاري عنه (4728).

- ما يكون صالحا ولا يريد به فاعله وجه الله

حَرُوراءَ" (1) ولا منافاةَ بين القولين، فإن مثل هذا الكلام قد لا يكون للتحديد، وإنما يكون للتمثيل، كمن سُئل عن الخبز فأخذ رغيفًا وقال: هو هذا. ففسروا الضالِّين من عبَّاد الكفار وعبَّاد أهل البدع، وقد أخبر الله أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأخبر أنهم يرون أعمالهم السيئة حسنةً، فهم مع رأيٍ وحسبانٍ غيرِ مطابقٍ للحقيقة. القسم الثالث: ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله، وهذا أيضًا كثير، مثل ما يعمله العاملون من الأعمال الظاهرة المشروعة من إقراء العلم والقرآن، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وعدل بين الناس، وإحسان إليهم من صدقة ومعروف وإصلاح بين الناس، ولهذا قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)) (2)، وقال عن المتصدقين: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)) (3) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله" (4). وقد ثبت في صحيح مسلم (5) حديثُ أبي هريرة في متعلم العلم

_ (1) رواه الطبري في تفسيره (15/ 426). (2) سورة النساء: 114. (3) سورة الإنسان: 9. (4) أخرجه البخاري (123) ومسلم (1904) من حديث أبي موسى الأشعري. (5) برقم (1905).

- الذي لا يكون عمله خالصا لله، وهذا شر الأقسام

والمقتول في الجهاد وفي المتصدق إذا لم يكونوا مخلصين، وأنهم أول ثلاثةٍ تُسَجَّرُ بهم النارُ. - القسم الرابع: الذي لا يكون عملُه خالصًا لله، وهو شرُّ الأقسام، مثل جهاد المشركين للمسلمين ينصرون بذلك آلهتهم، فلم يعبدوا به ولا أحسنوا، حيث أهلكوا أهل الإيمان. وكذلك كل ما كان من هذا الجنس من الأعمال التي يفعلها الكفار لغير الله وليست خيرًا في نفسها، من نَصْرِ (1) أهل الكفر، وكذب على الله، وتكذيبٍ برسله، واعتقادٍ للباطل. وكذلك اتِّباع قوم مُسَيلِمةَ لمُسَيلِمةَ، وقتالهم معه، وكذلك أهل البدع والضلال التي يقصدون بها نصر أهوائهم. وكذلك الفجور والمعاصي التي تفعلها النفوس لأجل العُلوِّ في الأرض والفساد، وهذا الضرب كثير جدًّا. وإذا كانت الأقسام الأربعة، فالقسم الأول هو المحمود، وأهله هم السعداء من جميع بني اَدم من الأولين والاَخرين، وبذلك جاء الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) (2)، فإن أهل الكتاب تَمنَّوا هذه الأمنية

_ (1) هذه الكلمة في الهامش، ولم يظهر منها إلا الحرف الأخير. (2) سورة البقرة: 111، 112.

التي قالوا بألسنتهم، وقدروها بقولهم، وجمعوا فيها بين النفي- وهو دخول الجنة- عن غير اليهود والنصارى، وبين الإثبات لمن كان هودا أو نصارى، وهذا من باب الَّلفِّ والنَّشر. أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)) فطالبهم بالبرهان على هذه القضية والدعوى الجامعة بين النفي والإثبات. وكان في ذلك ما دلَّ على أن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل، كما طالب المثبت في قوله: (أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (1)، ومعلومٌ أنْ ليس مع اليهود والنصارى لا برهان شرعي ولا عقلي يدل على ذلك، فإن الرسل لم تخبرهم بهذا النفي، ولا هو مُدْركٌ بالعقل، ولهذا قال الله تعالى: (تلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)، ثم قال تعالى: (بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فلة اجرة عند ربه). وهذا حصول الخير والثواب والنعيم واللذة، ثم قال: (ولا خوف عليهم) والخوف إنما يتعلق بالمستقبل، (ولا هم يحزنون) والحزن يتعلق بالحاضر والماضي، فلا هم يخافون ما أمامهم، ولا هم يحزنون على ما هم فيه وما وراءهم، ثم إنه قال في الخوف: (وَلَا خوف عليهم) ولم يقل: يخافون، فإنهم في الدنيا يخافون مع أنه لا خوف عليهم، وقال: (وَلَاهُم يحزنون) َفلا يحزنون بحال، لأن الحزن إنما يتعلق بالماضي، وهم (2) فأنواع الألم منتفية بانتفاء الخوف

_ (1) سورة النمل: 64. (2) كذا في الأصل، ولعلها زائدة.

- معنى إسلام الوجه لله عند المفسرين

والحزن، فإن المتألم لا يخلو من حزنٍ، فإذا انتفى الحزن انتفى كل ألم. وقال في عملهم: (بلى من اسلم وجهه لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن)، فإسلام وجهه كما قاله أئمة التفسير: هو إخلاص دينه وعمله لله، وقيل: تفويض أمره إلى الله (1). وهو (2) يَعُمُّ القسمين، كما سنبينه إن شاء الله، فإن إسلام وجهه يقتضي أنه أسلم نيته وعمله ودينه لله، أي جعله لله خالصًا سالمًا، والإحسان هو فعل الحسنات، فاجتمع له أن عمله خالص، وأنه صالح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا" (3). وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (4)، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وبهذا البيان يُعرَف بالعقل أن هذا الدين الحق هو أفضل الأديان، لأن الدين هو الخضوع والانقياد والعمل، فلا بد له من شيئين، من

_ (1) انظر تفسير الطبري (2/ 432) وابن كثير (1/ 663). (2) في الأصل: "وهم" تحريف. (3) أخرجه أحمد في الزهد (ص 147). (4) سورة الملك: 2.

مقصودٍ هو المعبود، ووسيلةٍ هي الحركة، فأي معبود يُسَامِي الله؟ وأي قصدٍ للمعبود خيرٌ من أن يكون القاصد ذليلاً له مخلصا له، لا متكبرا ولا مشركًا به؟ وأيُ حركةٍ خيرٌ من فعل الحسنات؟ فبهذا تبين أن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فإنه مستحق للثواب، كما تبين أنه لا أحسن منه. وبيان ذلك أن الوجه إما أن يكون هو القصد والنية كما قال: أستغفر الله ذنبا لستُ مُحصِيَه ربّ العباد إليه الوجْهُ والعملُ (1) والوجه مثل الجِهَة، مثل الوعد والعِدَة، والوزن والزِّنَة، والوصل والصِّلَة، وقد قررت هذا في غير هذا الموضع، وهذا مقتضى كلام أئمة التفسير، وهو مقتضى ظاهر الخطاب لمن كان يفقه بالعربية المحضة من غير حاجة إلى إضمار ولا تكلف، ومثل هذه الاَية قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (2). روى الإمام أحمد في مسنده (3) عن أبي أمامة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

_ (1) البيت بلا نسبة في كتاب سيبويه (1/ 17) ومعاني القرآن للفراء (2/ 314) والمقتضب للمبرد (2/ 321) ومصادر أخرى. (2) سورة النساء: 123 - 125. (3) 5/ 266. وفي إسناده علي بن زيد الألهاني، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد=

- لفظ "أسلم" يتضمن شيئين: الإخلاص والاتباع

"إني لم أُبْعَثْ باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة". فبين الله أنه لا دينَ أحسنُ من دينِ مَنْ أسلم وجهه لله، وهو محسن غير مسيء، واتبع ملة إبراهيم حنيفًا. وقال: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (1)، فدل بذلك على متابعة إبراهيم في محبته لله، ومحبة الله له، ولفظ "أسلم" يتضمن شيئين: أحدهما الإخلاص، والثاني الاتباع (2) والإذلال. كما أن "أسلم" إذا استُعْمِل لازمًا مثل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (3)، وقوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)) (4)، يتضمن الخضوع لله والإخلاص له. وضدّ ذلك إمّا الكبرُ وإمّا الشركُ، وهما أعظم الذنوب، ولهذا كان الدين عند الله الإسلام، فإن دين الله أن نعبده وحده لا شريك له، وهذا حقيقة قول لا إله إلا الله، وبه بُعِثَتِ الرسلُ جميعُها، ومن عبادته وحده أن لا نشرك به، ولا نتكبر عن أمره، فلا بدَّ من الإيمان بجميع كتبه،

_ (6/ 116، 233) من طريق عبد الرحمن بن أبي زياد عن أبيه عن عروة عن عائشة بلفظ: "إني أرسلتُ بحنيفية سمحة". قال السخاوي في "المقاصد الحسنة") (ص 109): سنده حسن، وفي الباب عن أبي بن كعب وأسعد بن عبد الله الخزاعي وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وغيرهم. (1) سورة النساء: 125. (2) في الأصل: "الاجماع" تحريف. (3) سورة البقرة: 128. (4) سورة البقرة: 131.

- الإسلام الذي في القلب لا يتم إلا بعمل الجوارح

وجميع رسله، وإلا لم يكن العبد مسلمًا له، ولا مسلمًا وجهه لى، إذا امتنع عن الإيمان بشيء من كتبه ورسله، وهذا هو الإسلام العام الذي دخل فيه جميع الأنبياء والمرسلين، وأممهم المتبعين غير المبدِّلين. ثم إن الإسلام في كل ملة قد يكون بنوع من الشرع والمناهج والوجه والمناسك، فلما بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وختمَ به الرسلَ كان الإسلام لله لا يتمُّ إلا بالدخول فيما جاء به من الشرع والمناهج والمناسك، وهو الإسلام الخالص، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بنيَ الإسلامُ على خمسٍ " الحديث (1). فإن الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح، فكُنَّ مَبَانِيَ له ينبني عليها، فالمباني الظاهرة تَحمِلُ الإسلامَ الذي في القلب كما يحمل الجسدُ الروحَ، وكما تَحمِلُ العُمُدُ السقفَ، والقبةَ الأركانُ، فالإسلام الذي هو دين الله بنيَ بمبعثِ محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه الأركان، وإن كان بُني بمبعثِ غيره على أركان أخرى، إذ الإسلام الخاص المستلزم للإسلام العام الذي بعث به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُني على هذه الخمسة. وقد تنازع أصحابنا هل يُسمَّى ما سوى ديننا هذا إسلامًا، والنزاع لفظي. كما أخبر عن حقيقة الإسلام بقوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ

_ (1) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) من حديث ابن عمر.

مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (1)، فأمرهم بعد أمره لهم باتباع ملة إبراهيم أن يقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا، إلى آخر الآية، ففي ذلك الإيمان بما أنزله الله، وما اوْتيَه النبيون من ربهم، والإيمان بجماعتهم من غير تفريق بينهم، وهو الَإيمان ببعض والكفر ببعض، كما قال عن الكفار حيث قالوا: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) (2)، وكان نصيب خالصة الأمة من ذلك أن تؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة، لا تُفرّق بين النصوص فتتَّبع بعضها وتترك بعضها، فبذلك يصيرون من أهل السنة، دون الذين تركوا السنن والآثار أو بعضها، أو تمسكوا ببعض آي القرآن دون بعض، من أصناف المبتدعة. وكذلك لا يُفرّقون بين أولي الأمر من الأمة من علمائها وأمرائها، بل يُعطُون كلَّ ذي حق حقَّه، ويقبلون منه ما أمر الله بقبوله منه، ويتركونه حيث تركه الله، فيكونون أهلَ جماعةٍ لا أهلَ فُرقةٍ، وهذا فيه جمع عظيم يحتاج إلى تفصيل، وذلك أن الله أمرنا بطاعة أولي الأمر منا، وأمرنا أن نعتصم بحبل الله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وَبرَّأَ نبيَّه من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا.

_ (1) سورة البقرة: 135 - 138. (2) سورة النساء: 150.

- الكلام على قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)

فصل وقوله: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (1) هذه القراءة العامة التي في المصحف الإمام، وقد كان ابن عباس يقرأ: "بما آمنتم به "، ويقول: إن الله لا مثل له (2). وتلك قراءة صحيحة المعنى، لكن قراءة العامة أحسن وأجمع، فإنه لو قيل: بما آمنتم به، وقيل: إنه أريد به الله، لقالوا: قد آمنا بالله، فإنهم لا يكفرون بأصل وجود الخالق، وإنما يكفرون ببعض كتبه ورسله وأسمائه وصفاته ودينه، ولذلك استحقوا اسم الكفر. وأيضًا فلو آمنوا بما آمنَّا به من غير أن يؤمنوا بمثل ما آمنَّا به، لم يكونوا مهتدين وإن آمنوا بجميع الأشياء، وذلك أنه سبحانه قال في المائدة لما أباح نساء أهل الكتاب وطعامهم، قال: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (3)، والإيمان هو: الإيمان الذي هو الدين، الذي هو الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، فإن الإيمان الذي يجب على العباد اتباعُه يجب الإيمانُ به، فمن كفر بما يفعله المؤمنون من الإيمان، فقد كفر بالله. وهذا الإيمان الذي في القلوب هو مثلٌ مطابقٌ للحقيقة الخارجة، وما في القلوب [من]، (4) الإيمان متماثل أيضًا، فنحن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وما أوتي النبيون من ربهم،

_ (1) سورة البقرة: 137. (2) أخرجه الطبري (2/ 600) وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 244). (3) سورة المائدة:5. (4) زيادة يستقيم بها السياق.

فإذا آمنوا هم بمثل ما آمنا به- وهو ما في القلوب- فقد اهتدوا، كما أنهم لو كفروا بالإيمان الذي في القلوب لحَبِطَ عملُهم. وهنا وجهان، أحدهما: إذا صار في قلوبهم مثل ما في قلوبنا، وآمنوا به، فقد آمنوا بمثل ما آمنا به، فإنا آمنا بما في القلوب من الإيمان، فإذا صار مثله في قلوبهمِ وآمنوا به فقد اهتدوا. ويكون فائدة الإيمان بالإيمان مثل ما يقال: أَعلمُ وأَعلَم أني أعلم، وأعتقدُ أن زيدًا في الدار، وأعتقد أن اعتقادي حق، فهم مؤمنون بالإيمان غير مرتابين (1) فيه، جازمون أن جَزْمَهم حق، وأيضًا فإن هذا مستلزم، وهو كمال وتمام، لأنه إذا حصل هذا الإيمان بالإيمان، وجب حصول الأول ووجوبه، مع أنهما متلازمان من وجه آخر، فإن الوجود العملي الإرادي مع الوجود ... (2)، لكن على هذا الوجه (3) الضميرُ فيه يعود إلى إيماننا بما أنزل، لا إلى نفس ما أنزل. الوجه الثاني (4): أن الإيمان الذي في القلب مثلٌ مطابق للمؤمن به، كما تقدم، وقد قررت هذا في مواضع، فإذا آمنوا بهذا المثل فقد اهتدوا، والضمير هنا عائد على "ما" كما هو الظاهر، ويكون المثل كما قد قيل في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) (5).

_ (1) في الأصل: "مرتابون". (2) هنا بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات. (3) في الأصل: "هذا على الوجه". (4) في الأصل:"الثالث"، تحريف. (5) سورة الشورى: 11.

وقد يقال: المعنى، فإن آمنوا مثل ما آمنتم. والتقدير: فإن جاؤوا بإيمانٍ مثلِ الإيمانِ الذي جئتم به، ويكون "الذي" هنا صفة للمصدر الذي هو الإيمان، لا للمفعول به الذي هو المُؤمَن به، لكن هذا يفتقر إلى أن يقال: آمنت بمثل إيمانك، أي مثل إيمانك، وهذا يكون إذا ...) (1). وقد يقال: "المثل" مُقحَمٌ ليتبين الكلام والتوحيد، كما قد قيل مثل ذلك في نظائره لأسباب قد تكون هناك. وقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (2)، صَبَغَ القلوبَ والأشياءَ بهذا الإيمان حتى أنارت به القلوب، وأشرقت به الوجوه، وظهر الفرقان بين وجوه أهل السنة وأهل البدعة، كما قال في المؤمنين: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (3)، وفي الكفار: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)) (4)، وفي المنافقين: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (5)

_ (1) بعدها بياض في الأصل بمقدار سطر. (2) سورة البقرة: 137، 138. (3) سورة البقرة: 273. (4) سورة القلم: 16. (5) سورة محمد: 30.

- الإحسان مع إسلام الوجه شرط في استحقاق الجزاء الموعود للمؤمنين

فصل وإذا كان الله قد شرط في من له أجرُه عند ربه ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون أن يكون محسنا مع إسلام وجهه لله، دلَّ بذلك على أن الإحسان شرط في استحقاق هذا الجزاء، وهذا الجزاء لا يقف إلا على فعل الواجب، فإن كل من أدى الواجب فقد استحق الثواب، ودرأَ العقاب، وذلك يدل على أن الإحسان واجب، وقد قال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (1) والأمر يقتضي الوجوب. وقال تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (2)، ومن فَعلَ الواجبَ فما عليه من سبيل، إنما السبيل على من أساء بتركِ ما أمِرَ به، أوفِعْلِ ما نُهِيَ عنه. وقال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) (3) ونظائره كثيرة. وفي الصحيح (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فاحسِنوا القِتْلةَ، وإذا ذَبحتم فاحسِنوا الذِّبحةَ"، ففي هذا الحديث أن الإحسان واجب على كل حال، حتى في حال إزهاق النفوس، ناطقها وبهيمتها، فَعَلَّمَهُ أن يُحْسِن القتلةَ للَادميين والذبحة للبهائم. والإحسان الواجب هو فعل الحسنات،

_ (1) سورة البقرة: 195. (2) سورة التوبة: 91. (3) سورة النمل: 89. (4) مسلم (1955) عن شداد بن أوس.

- الظلم ضد الإحسان، وأصله قصد الإضرار

وهو أن يكون عمله حسنًا، ليس المراد بذلك فعل الإحسان التطوع، وهذا الإحسان في حق الله، وفي حقوق عباده، فأما في حق الله ففعل ما أمره به من غير أن يتعلق المأمور [به]، وأما في حق عباده ففعل ما أوجب لهم من الإحسان، وترك ما لا يجوز من الإساءة. وأصل ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولهذا ثنَّى الله ذكر هذين الأصلين في القرآن في مواضع كثيرة جداً، وقال: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) الاَية (1). وإذا كان الإحسان إلى الخلق واجبًا، وإن كان قد يكون مستحبًّا أيضًا، فالإحسان إليهم جَلْبُ ما ينفعهم ودَفْعُ ما يضرهم. والظلم ضد الإحسان الذي يدخل فيه العدل وغيره، فإن العادل محسن من جهة عدله، وأما حيث يكون العدل هو الواجب، فالعادل أي بكمال الإحسان كالعدل بين الناس في القَسْم والحكم، بخلاف عدل الإحسان في حق نفسه في استيفاء حقوقه من غير زيادة، فإن هذا محسن من جهة أنه لم يَعْتدِ ولم يظلم. وقد قررنا في مواضع كثيرة أن الظلم حرام كله، لم يُبَحْ منه شيء، وأصله قصد الإضرار، فإن الظلم إضرار غير مستحق، لكن الإضرار المستحق جائز تارة، وواجب أخرى، وإنما أبيح إضرار الحيوان للحاجة، والحكم المقيد بالحاجة مقدَّرٌ بقدرها، فليس للعبد أن يكون مقصوده بالقصد الأول إضرار بني اَدم، بل الضرار محرم بالكتاب والسنة، قال الله

_ (1) سورة النساء: 36.

تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) (1)، وقال في المطلقات: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) (2)، وقال: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (3). وأما السنة فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" مَن شَقَّ شَقَّ الله عليه، ومَن ضَارَّ أضرَّ اللهُ بهِ" (4)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ضررَ ولا ضِرارَ" (5). ومعلوم أن المُشاقَّة والمُضارَّة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر لا يحتاج إليه في قصد الإضرار، ولو بالمباح، أو فعل الإضرار من غير استحقاق، فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به، لا لقصد الإضرار، فليس بمضار، ومن هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث النخلة التي

_ (1) سورة النساء: 12. (2) سورة البقرة: 231. (3) سورة الطلاق: 6. (4) أخرجه أحمد (3/ 453) وأبو داود (3635) والترمذي (1940) وابن ماجه (2342) من حديث أبي صرمة الأنصاري. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (5) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/ 326) وابن ماجه (2340) من حديث عبادة بن الصامت. قال البوصيري في الزوائد: إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع. وأخرجه أحمد (1/ 255، 313) وابن ماجه (2341) من حديث ابن عباس. وفي إسناده جابر الجعفي، متهم. وفي الباب عن غيرهما من الصحابة. والحديث صحيح لشواهده. انظر "إرواء الغليل" (896).

- على الإنسان أن يكون مقصوده نفع الخلق والإحسان إليهم مطلقا

كانت تضرُّ صاحبَ الحديقة، لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق، فلم يفعل، فقال: "إنما أنت مُضارّ" (1) ثم أمرَ بقَلْعِها. فدلَّ ذلك على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه، فعلى الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا، وهذا هو الرحمة التي بُعث بها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)) (2)، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"إنما أنا رحمة مُهدَاةٌ" (3). والرحمة يحصل بها نفع العباد، فعلى العبد أن يقصد الرحمة والإحسان والنفع، لكن للاحتياج إلى دفع الظلم شُرعت العقوبات، وعلى المقيم لها أن يقصد بها النفع والإحسان، كما يقصد الوالد بعقوبة ولده، والطبيب بدواء المريض. والمقصود بهذه النكتة أن الدين والشرع لم يأمر إلا بما هو نفع وإحسان ورحمة للعباد، وأن المؤمن عليه أن يقصد ذلك ويريده، فيكون مقصوده الإحسان إلى الخلق ونفعهم. واذا لم يحصل ذلك إلا بالإضرار ببعضهم فَعَلَه على نية أن يدفع به ما هو شرٌّ منه، أو يحصل به

_ (1) أخرجه أبو داود (3636) من حديث سمرة بن جندب. قال المنذري في "مختصر السنن" (5/ 240): في سماع الباقر من سمرة بن جندب نظر، وقد نُقل من مولده ووفاة سمرة ما يتعذر معه سماعه منه، وقيل فيه ما يمكن معه السماع منه. والله أعلم. (2) سورة الأنبياء: 157. (3) أخرجه الطبراني في الصغير (1/ 95) والحاكم في المستدرك (1/ 35) والقضاعي في مسند الشهاب (1160) من حديث أبي هريرة. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

- الأمر بالعدل والإحسان

ما هو أنفع من عدمه، فهاهنا أصلان: أحدهما: أن هذا هو الذي أمر الله به ورسوله. والثاني: أن هذا واجب على العبد، عليه أن يفعله، وفاعله هو البار والبرُّ، وهو المحسن المذكور في الاَية. وقد أمر الله في كتابه بالعدل والإحسان، والأمر يقتضي الوجوب، وقد يكون بعض المأمور به مندوبًا، والإحسان المأمور به ما يمكن اجتماعه مع العدل، فأما ما يرفع العدل فذاك ظلم، وإن كان فيه نفع لشخص، مثل نفع أحد الشريكين إعطاءً أكثر من حقه، ونفع أحد الخصمين بالمحاباة له، فإن هذا ظلم، وإن كان فيه نفعٌ قد يُسمى إحسانًا. والعدل نوعان: أحدهما: هو الغاية، والمأمور بها، فليس فوقه شيء هو أفضل منه يؤمر به، وهو العدل بين الناس. والثاني: ما يكون الإحسان أفضل منه، وهو عدل الإنسان بينه وبين خصمه في الدم والمال والعِرْضِ، فإن الاستيفاء (1) عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانًا إلا بعد العدل، كما قدمناه، وهو أن لا يحصل بالعفو ضررٌ، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلمًا من العافي، إما لنفسه، وإما لغيره، فلا يشرع.

_ (1) في الأصل: "استيفا".

- العدل واجب في جميع الأمور، والإحسان قد يكون واجبا وقد يكون مستحيا

فالعدل واجب في جميع الأمور، والإحسان قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبا، ففي الحكمِ بين الناس والقَسْمِ بينهم مَا ثَمَّ إلا العدلُ، والعدل بينهم إحسان إليهم، وفيما بين الناس وبينهم مستحبّ له الإحسان إليهم، بفعل المستحبات من الابتداء بالإحسان الذي ليس بواجب، والعفو عن حقوقه عليهم، ويدخل في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)) (1). ونكتة هذا الكلام أن يفرق الإنسان بين العدل الذي هو الغاية، وليس بعده إحسان، وهو العدل بين الناس، وبين العدل الذي فوقه الإحسان، وهو العدل مع الناس. الأول: حقُّ الخلقِ عليه، والثاني: حقّ له عليهم. فلِكلٍّ منهما على صاحبه العدلُ، فعليه أن يُوفِّيهم العدل الذي عليه، وليس عليه أن يستوفي العدل (2) منهم، بل قد يستحب له الإحسان بتركه. ومن العدل الواجب- كما قررته في غير هذا الموضع- أن الظالم لا يجوز أن يُظلَم، بل لا يُعتدَى عليه إلا بقدر ظلمه، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) (3)، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (4)، وقال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا

_ (1) سورة الأعراف: 199. (2) في الأصل: "عدل". (3) سورة البقرة: 193. (4) سورة البقرة: 194.

- الظلم نوعان: ظلم في الدين وظلم في الدنيا

تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)) (1) وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (2)، وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (3). وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القتلةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنوا الذبحةَ". فتبين أن الإحسان واجب حتى في القتل المستحق بإحسان القتلة والذبحة، ومعلوم أن الظلم الذي يستحق به العقوبة- سواء كان في حق الله أو حقوق عباده- لا يخرج عن ظلم في الدين، وظلم في الدنيا، وقد يجتمعان، فالأول كالكفر والبدع، والثاني كالاعتداء على النفوس والأموال والأعراض. والغالب أن الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا، وقد لا ينعكس، ولهذا كان المبتدع في دينه أشدَّ من الفاجر في دنياه، وعقوبات الخوارج أعظم من عقوبات أئمة الجور، كما قررتُ هذا في قاعدة "بيان أن البدع أعظم من المعاصي بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وبما يعقل به ذلك من الأسباب". ثم مع هذا لا يجوز أن يعاقب هذا الظالم ولا هذا الظالم إلا بالعدل بالقسط، لا يجوز ظلمه.

_ (1) سورة البقرة: 190. (2) سورة المائدة: 8. (3) سورة المائدة: 2.

- التفرق الموجود في هذه الأمة بسبب البغي بينها

فهذا موضع يجب النظر فيه، والعمل بالحق، فإن كثيرًا من أهل العلم والدين والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، إما في نظرائهم أو غير نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركّبٌ منهما، فأخذوا يعاقبونهم بغير القسط، إما في (1) أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا (2) لهم حقاً واجبًا، أو يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك متأولون، معتقدون أن عملهم هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون (3) بباب قتال أهل العدل والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعاً باغيتين بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع، ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة بين الأمة، كما قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (4)، فأخبر أن التفرق بينهم كان بغيا، والبغي: الظلم. وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا بغياً بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، والباغي قد يكون متأولاً وقد لا يكون متأولاً، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم.

_ (1) في الأصل: "من". (2) في الأصل: "ان يذكر" تحريف. (3) في الأصل: "ويتعلق". (4) سورة الشورى: 14.

- المطلوب العدل والاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور

فتدبَّرْ العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغٍ يعلم أنه باغٍ لهانت القضيةُ، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بُغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يُعرِضون عن تصور بَغْيِهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متاولين، بل كانوا ظلمةً ظلمًا صريحًا، وهم البغاة الذين لا تاويل معهم. وهذا القدر من البغي بتاويل (1)، وأحيانًا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى، وقوم قعدوا اتباعًا لما جاء من النصوص في الإمساك في الفتنة. والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتنٌ، وإن لم تَبلُغِ السيفَ، وكل ذلك تفرق بغيًا، فعليك بالعدل والاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، وردّ ما تنازعت فيه الأمة إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون (2) أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة، والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. تمت القاعدة

_ (1) في الأصل: "تاويل". (2) في الأصل: "المتنازعين".

(2) فصل في حق الله على عباده وقسمه من أم القرآن

فصل في حق الله على عباده وقِسْمِه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك

- المقصود من الخلق عبادته سبحانه

فصل في حق الله على عباده، وقِسْمِه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه، ونحو ذلك. قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) وقوله: (ما أريد منهم من رزق) هو نكرة في سياق النفي، تعم كل رزق، فيعمُ اللفظ: مِن رزقٍ لي، ومن رزقي لهم، ومن رزقٍ من بعضهم لبعض، لكن قوله بعد ذلك: (وما أريد ان يطعمون (57)) والإطعام هو رزق له، فقد يقال: هو تخصيص بعد تعميم، وقد يقال: الأول رزق المخلوق والثاني [يتعلق] بالخالق، فيكون المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدون، لا ليطعمون، ولا ليرزقوا (2) أحداً، فإن الله هو الرزاق الذي يرزق الخلق، وهو ذو القوة المتين. فبيَّن الله بهذه الاَية أنه خلقهم لعبادته التي أرادها منهم، فهي مراده ومطلوبه، لا يريد منهم أن يرزقوه، ولا أن يطعموه، لأنه لما نفى الإرادة عن الرزق وإطعامه، دلَّ على إثباتها للعبادة، وفي إثباتها للعبادة ونفي إرادة الرزق والإطعام دليلٌ (3) على أن له حقاً عليهم

_ (1) سورة الذاريات: 56 - 58. (2) في الأصل بإثبات النون، والصواب حذفها، أو إثباتها وحذف "أحدَا". (3) في الأصل: "دليلاً".

يريده منهم، وهو محبّ له، راضٍ به. وقال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (1) وقال: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (2)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)) (3)، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) (4)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)) (5)، وقال: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (6)، وقال: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (7)، وقال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) في مواضع (8). وقد جاءت السنة بذكر حقه عليهم، في الصحيح (9) عن معاذ بن جبل قال: كنتُ رديفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا معاذُ! أتدري ما حق الله على عباده؟ " قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم". وروى الطبراني في كتاب الدعاء (10) مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يقول

_ (1) سورة الحج: 37. (2) سورة فاطر: 10. (3) سورة البقرة: 222. (4) سورة الصف: 4. (5) سورة المائدة: 42. (6) سورة المائدة: 54. (7) سورة آل عمران: 31. (8) سورة المائدة: 119، سورة التوبة: 100، سورة البينة: 8. (9) البخاري (128 ومواضع أخرى) مسلم (30). (10) برقم (16) من حديث صالح المريّ عن الحسن عن أنس. وصالح ضعيف.

- الكلام على حديث "قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين"

الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي، فتعبدني لا تشرك بي شيئَا، وأما التي هي لك، فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك، فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأتِ إلى الناس ما تُحِبُّ أن يأتوه إليك ". وفي صحيح مسلم (1) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول الله تعالى: "قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفهاِ لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين (2))، يقول الله: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم (3))، يقول الله: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين (4))، يقول الله: مجَّدني عبدي- وفيِ رواية: فوَّض إليَّ عبدي- وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) قال: فهذه الاَية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال الله: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل". ففي هذا الحديث أن النصف الأول- وهو الحمد والثناء والتمجيد والعبادة- لله تعالى، والنصف الثاني- وهو الاستعانة والمسألة- للعبد، هذا مع العلم بان العبد يثاب على حمده وثنائه وعبادته، وقد يحصل له بذلك من الثواب أكثر مما يحصل بالاستعانة والسؤال، [و]

_ (1) برقم (395).

- بيان أن الشرك ظلم عظيم

لا بدَّ أن تكون للنصف الذي هو للرب خاصيةٌ تعود إلى الرب، تميزها عن نصف العبد، وإلا فإذا كان للعبد في كلاهما أجر وثواب، فتخصيص أحدهما بأنه للرب، لا بدَّ فيه من خاصية للرب. وأيضًا فإن الله أخبر (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (1)، وقال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية (2)، وقد ورد في الصحيحين (3) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: أيُّنا لم يَظلِمْ نفسَه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيمٌ " أو كما قال. وفي الحديث عن طائفة من السلف، ورُوي مرفوعًا (4): "الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشرك، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا. فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا، فهو الشرك، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا، فهو ظلم العبد نفسه، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا، فهو الظلم للعباد بعضهم بعضًا". وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ

_ (1) سورة لقمان: 13. (2) سورة الأنعام: 82. (3) البخاري (32) ومسلم (124). (4) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 240) والحاكم في "المستدرك" (4/ 575) من حديث عائشة مرفوعاً. وإسناده ضعيف. قال الذهبي في تلخيص المستدرك: صدقة ضعفوه، وابن بابنوس فيه جهالة.

يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)) (1)، فجعل الظلم في حق الله تعالى قسمًا خارجًا عن ظلم العبد نفسه، وعن ظلم العباد، وهذا يقتضي أن لله فيه حقًّا قد ضيَّعه العبد، لا أنه مجرد ظلم العبد نفسه كالمعاصي، وإن كانت المعاصي مخالفةً لأمر الله وتركًا لما أوجبه، وجنايةً على دين الله. وأيضًا فإن الله قد أخبر أنه يحب الحسنات المأمور بها، من الإيمان والعمل الصالح، وأنه يرضاها، ويحب أهلها، ويرضى عنهم، والحب مستلزم للإرادة، وهو مع ذلك فقد شاء جميع الكائنات، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قررتُ هذه القاعدة في غير هذا الموضع، وبينتُ الفرقَ بين كلماته الكونيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وإذن وحكم وبعث وإرسال وغير ذلك، وبين كلماته الدينيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وحكم وبعث وإرسال، قررت هذا الأصل الفارق في غير موضع، وأن منه تزول الشبهات الحاصلة في مسائل الدين والقدر وتعارضهما. وحقيقة ذلك تعود إلى أن الدين الذي أمر الله به شرعًا من بين سائر الكائنات، له من الله مزية واختصاص بذلك صار محبوبًا مأمورًا به، وذلك من وجهين: أحدهما: من جهة عوده إلى الخلق، لما في الدين من مصلحتهم ومنفعتهم في الدنيا والآخرة بالثواب والنعيم المقيم المتعلق بالمخلوق، والمتعلق بالخالق، كالنظر إلى وجهه الكريم.

_ (1) سورة البقرة: 254.

- علة خلق الله للخلق وأمره بالدين

والثاني: من جهة عوده إلى الخالق، حتى يصح أن يكون محبوبًا لله مرضيًّا محمودًا مفروحًا به، وإلا فنفسُ تَنعُّم هذا العبد وتعذب هذا العبد، وصلاح هذا وفساد هذا، سواءٌ بالنسبة إلى الله من جهة الخلق والمشيئة والتكوين، فلابد أن يكون لأحدهما إلى الله إضافة وتعلق ونسبة بها يكون محبوبًا له، مرضيًّا مفروحًا به، محمودًا مثنيًّا على أصحابه، ويكون الآخر مسخوطًا عليه، ممقوتًا مبغضًا، ونحو ذلك، وراء ما يلحقه من العذاب. وهذا الفرق هو حقيقة الدين، وسرّ الأمر والنهي، وغاية التكليف الشرير، ومقصود الرسالة والكتاب، ولهذا تكلم الناس في علة خلقه للخلق، ثم أمره بالدين. فقال فريق: إنه فعل ذلك لنفع الخلق ومصلحتهم، وزعموا أن هذا وجه حسن الفعل والأمر، وإن لم يكن هذا واقعًا بالجميع ولا عائدًا منه حكم إلى الفاعل، وهذا قول المعتزلة وغيرهم من القدرية، ثم التزموا على هذا مسائل التعديل والتجوير، والتحسين والتقبيح بالقياس الفاسد على الخلق، واضطربوا فيه اضطرابًا لا ينضبط. وقد يوافق بعض أهل السنة- من أصحابنا وغيرهم- هؤلاء في بعض المسائل التي لا تخالف الأصول المشهورة في السنة، وعارضهم كثير من متكلمة الإثبات للقدر، الذابين عن السنة في مواضع كثيرة، فقالوا: لا يجوز تعليل شيء من ذلك، بل خلقَ وأمرَ لمحض المشيئة، وصِرْف الأرادة، ولا يجوز تعليل ذلك بمصلحة العباد ونفعهم، ولا غير ذلك.

- الرد على منكري التعليل من الأشاعرة

ثم إن كثيرًا من العلماء يعتقدون أن ليس في هذا الأصل العظيم الجامع- المتعلق بأصول الدين والتوحيد، وبأصول الفقه وبالشريعة- إلا هذان القولان (1)، إما التعليل بنفع العباد وصلاحهم، وإما ردّ ذلك إلى محض المشيئة والإرادة الصرفة، وهذا القول الثاني يلزمه من اللوازم الفاسدة- التي تتضمن التسوية بين محبوب الله ومكروهه، ومأموره ومنهيه، وأوليائه وأعدائه- أشياء فيها من البطلان والشناعة ما يُعلَم به تفريط هؤلاء وغلطهم، كما فرط الأولون. ويقارب هؤلاء من يقول من الفلاسفة وغيرهم: إن هذه المخلوقات لازمة لذاته، وإن قالوا: إنها صادرة عن عنايته، وإن تضمنت ما تضمنت من منافع الخلق ومصالحهم بطريق اللزوم. ويجعلون ذلك علة غائية. ثم إنهم يتناقضون فلا يجعلون ذلك مقصودًا للفاعل ولا مرادًا له بالقصد الأول، وإلا لزمهم ما لزم الأولين من التعليل، فيثبتون في أفعاله من الحِكَم والعِلَل الغائية والمنافع ما لا يصدر إلا عن قصد وإرادة، ثم يتكلمون عن الإرادة بما يناقض ما قالوه. ومما يبين ذلك أن يقال لمنكري التعليل- الذين لا يثبِتون وراء العلم والإرادة لا حكمةً، ولا رحمةً، ولا لطفًا، ولا محبةً، ولا رضًى، ولا فرحًا، ولا غضبًا، ولا مقتًا، ولا غير ذلك، بل يجعلون لذلك إرادة أو فعلاً-: معلومٌ أن الإرادة المحضة خاصتها التخصيص

_ (1) في الأصل: "هذين القولين".

والتمييز، كتخصيص بعض الأعيان بنوع من المقادير والصفات والحركات وغير ذلك، مما يمكن ضده وخلافه. أما التخصيص بالخير دون الشر، والنفع دون الضر، والنعيم دون العذاب، وجَعْلُ هذا محبوبًا، وهذا مودودًا مرضئا، وهذا ممقوتًا مبغضًا مسخوطًا، فلا يجوز أن يكون معنى هذا الإرادة المحضة، لأن الإرادة متعلقة (1) بكل حادث، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وحكمُها في سائر أنوٍ اع الحوادث حكم واحد، فلِمَ سُمِّيَتْ هنا محبة وهنا بُغضًا؟ وهنا رضى وهنا غضبًا؟ وهنا مودةً وهنا مقتًا؟ ألا ترى أن الإرادة المتعلقة بغير المأمور به والمنهي عنه لا تتنوع إلى ذلك، فلا يقال في حق الجائع والشبعان والصحيح والمريض والاَمن والخائف والناكح والمحتلم والغني والفقير والرئيس والمرؤوس: هذا محبوب مرضيٌّ مودود، وهذا مبغض مسخوط ممقوت، وإن كان أحدهما متنعمًا بما هو فيه، والاَخر معذَّبًا بما هو فيه. فإذا كان قد أثاب قومًا بعملهم الصالح في الدنيا والآخرة، وعاقب قومًا بعملهم السيء في الدنيا والآخرة، والجميع بمشيئته، كما أن التفريق بين الجائع والشبعان، وبأنه بمشيئته، فلم يجعل في هؤلاء محبوبًا ومكروهًا، ولم يجعل في باب الشبعان والجائع محبوبًا ومكروهًا، حيث لا يتعلق به أمر شرعي، فتعلُّقُ الحبِّ والرضى والبغض والسخط بالأمر الديني الشرعى، دون مالم يتعلق به ذلك- مع

_ (1) في الأصل: "المتعلقة".

- الرد على مثبتي التعليل من القدرية

أن الإرادة عامةُ التعلُّقِ بجميع الكائنات- دليل على أن باب أحدهما ليس هو باب الآخر. وهذا بَيِّنٌ معقولٌ ببرهانٍ لمن تأمله، وهو دليل عقلي على ثبوت هذه الصفات، كما كان أصلُ التخصيصِ دليلاً على ثبوت الإرادة. ويُقال لمثبتي التعليل من القدرية: عندكم أن جميع هذه الصفات تعود إلى معنى النفع والإضرار، فإن مصلحة العباد والإحسان إليهم وغير ذلك هو عندكم نفعهم، وضد ذلك إضرارهم، فعَطَّلتم صفاتِ الله من هذا الوجه، ولكم في الإرادة من الاضطراب ما هو مذكور في غير هذا الموضع. ثم تزعمون أنه إنما خلق وأمر لنفع الخلق، فيقال لكم: وأي فرق بالنسبة إليه، نَفَعَهم أو لم ينفعهم؟ فإن جعلتم ذلك قياسًا على الخلق، فالخلق إنما يحسُنُ منهم نفع بعضهم لبعض، لأن النافع يعود إليه من نفعه مصلحة له، وإلا فحيث لا مصلحة له في ذلك، لا يكون نفعه حسنًا. ويقال لكم أيضًا: النافع من الخلق يختلف حاله، بين ما قبلَ أن ينفع وبعدَ ما ينفع، فيُكسِب نفسَه بذلك صفةَ كمالٍ له، يُدرِك ذلك من نفسه، ويُدرِك ذلك الخلقُ منه، فنفسُ السخي الجواد أكمل وأشرف وأعظم من نفس البخيل الجبان، كما قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) (1)، وقال: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ

_ (1) سورة الشمس: 9، 10.

- عدم إطلاق اللذة والألم في حق الله

بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)) (1)، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة. ويقال لكم: إذا كان المقصود مجرد النفع، والفاعل قادرٌ، فهلاَّ حصل؟ ففي انتفائه في صُوَرٍ كثيرة وحصول الضرر دليلٌ على أن هناك مقصودًا آخر. ويُورَد عليهم ما في المخلوقات من أنواع المضار، وما في المأمورات من ذلك، وقد عُرفَ اعتذارُهم عن ذلك، وما فيه من التناقض والفساد. ويُقال لهم: ما الموجبُ لما وقع من أنواع المضرَّات بالكفار والفساق؟ إذا كان المقصودُ نفعَهم بالتكليف، وهم لم يقبلوا هذا النفع، فما الموجب لمقابلتهم بأنواع من العقاب والسخط والمقت إذا لم يصدر منهم إلا مجرد عدم قبول نفعهم؟ لولا أن هناك أسبابًا أخرى وحكمةً أخرى لم يعلموها، ولم يتكلموا بها، فهذا هذا. وأيضًا فالكتاب والسنة إنما أطلق الحب والبغض والودَّ والمقت والرضا والغضب والفرح والأذى، دون لفظ اللذة والألم، لأن هذين الاسمين كثيرًا ما يطلقان في خصائص المخلوق التي تنفعه وتضره، مثل الاكل والشرب والنكاح، ومثل المرض الذي هو الوَصَبُ والنَّصَبُ والجوع والعطش والعذاب بالنار ونحو ذلك، قال الله تعالى: (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ

_ (1) سورة الليل: 5 - 10.

مُصَفًّى) (1)، وقال: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (2)، وقال تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)) (3)، فالالتذاذ والانتفاع متقاربان، والتألم والتضرر متقاربان، وإن كان المنفعة والمضرة أعمَّ في الاستعمال، ولهذا قيل: إن المنفعة قرينة الحاجة، فإنما ينتفع الحي بما هو محتاج إليه، ويتضرر بما يؤلمه، وقد قال الله تعالى- فيما يُروى في الحديث الصحيح (4) -: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضرّي فتضروني "، وهذا الحديث ينفي بلوغَ الخلقِ لذلك، وعجزهم عن ذلك، وما فعله الخلقُ فإنما فعلوه بقوة الله ومشيئته وإذنه، ولا حول ولا قوة إلا به. وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (5)، وقال: (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) (6)، وقال في الحديث الصحيح (7): "يؤذيني ابن آدم". وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما أحدٌ أصبرَ على أذى يسمعه من الله " (8)، كما قال: "ما أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ من الله " (9)، وقال: "ما

_ (1) سورة محمد: 15. (2) سورة الزخرف: 71. (3) سورة الانشقاق: 24. (4) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر. (5) سورة الأحزاب: 57. (6) سورة الزخرف: 55. (7) عند مسلم (2246) من حديث أبي هريرة. (8) أخرجه البخاري (6099) ومسلم (2854) من حديث أبي موسى. (9) أخرجه البخاري (4634) ومسلم (2765) من حديث ابن مسعود.

- المذهب الرابع أنه خلق الخلق ليحمد ويشكر

أحدٌ أغيرَ من الله، وما أحدٌ أحبَّ إليه العذرُ من الله" (1)، فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ليس أحد يحب أن يُمدح ويعذر مثل ما يحب الله ذلك، ولا أحد أصبر على أذاه وأغير على محارمه من الله، فالممدوح بإزاء المعذور يمدح على إحسانه، ويعذر على عدله وعقوبته، والصبر بإزاء الغيرة، يصبر على أذى خلقه له، ويَغَارُ أن تُرتكب محارمه. وعن هذا خُلُق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قالت عائشة: "ما انتقمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطُّ لنفسه، إلا أن تُنتَهك محارمُ الله، فإذا انتُهِكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله" (2). فهذا صبر الرسول على ما يؤذي، وهذا غيرته وانتقامه لمحارم الله. وفريق رابع يقولون: إنه فعل ذلك ليُحمَد ويُشكَر ويُمجَّد، أعني خَلْقَه سبحانه للخلق، كما دلت عليه النصوص في مثل قوله تعالى: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (3)، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (4)، وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (5)، وقوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (6)، وقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (7)، وقوله: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ

_ (1) أخرجه البخاري (7416) ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة. (2) أخرجه البخاري (6853) ومسلم (2327). (3) سورة الذاريات: 56. (4) سورة البقرة: 21. (5) سورة المائدة: 89. (6) سورة البقرة: 152. (7) سورة لقمان: 14.

- ما يرد على هذا المذهب من الأسئلة، والأجوبة عنها

وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)) (1)، وقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)) (2). وفي الأحاديث كثير، مثل قوله ... (3). لكن هؤلاء [يَردُ] عليهم سؤالان عظيمان، سؤال متعلق بالأفعال والقدر، وسؤال متعَلق بالأسماء والصفات. أحدهما: أنه فعل ذلك، فلمَ لا حصلَ مراده مع قدرته عليه؟ فإذا كان مراده العبادة، فلِمَ لا حَصلت من جميعهم؟ وهذا السؤال لما استشعر الناس وُرُوْدَه، أجابوا عنه على أصولهم، فقال كثير ممن ينصر السنة: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) (4): إلا ليعرفُون، يعني المعرفة العامة الفطرية الموجودة في المؤمن والكافر. وهذا الَقول ضعيف جدّا، لأنه ذمهم على ترك ذلك، ولأن ذلك لم يوجد من المجانين ولا من الجاحدين، ولأنه أيُّ مقصود له في ذلك حتى ينفيَ إطعامَهم ويُثبِتَ ذلك، إذا كان الكلُّ سواء؟ ومنهم من جعل الجنَّ والإنس هنا خاصّا لمن عبدَه، وهو ضعيف لوجوه. ومنهم من قال: إلا لآمُرَهم بالعبادة. وهو قريب إذا تمّم.

_ (1) سورة المائدة: 6. (2) سورة إبراهيم: 37. (3) بعده في الأصل:"في الأصل مكان خال مقدار سبعة أسطر". (4) سورة الذاريات: 56.

- اللام في قوله تعالى: (ولذلك خلقهم) لام العاقبة أو لام الغرض

وقالت القدرية: ما أراد منهم كلهم إلا العبادة، لم يُرِدْ غيرَ ذلك، لكن منهم من خالف مرادَه كما عصى أمرَه، ومنهم من لم يخالف. فقيل لهم: ولِمَ خلقَهم للعبادة؟ فقالوا: لنفعهم. قيل لهم: فقد أراد ما علم أنه لا يحصل. وقيل لهم: لأيِّ شيء أراد نفعَهم؟ فاضطربوا. ثم قيل لهم: فلِمَ لا أعانَهم على مراده؟ فقالوا: استفرغ وسعه، ولم يُمكِنه أن يجعل لهم إرادة، وإنما أمكنه أن يجبرهم ويضطرَّهم إلى الإيمان والعبادة، وتلك لا تنفعهم. وأما العبادة الاختيارية فلا يقدر عليها إلا هم، ولا يفعلها إلا هم. والتزموا من اللوازم الفاسدة ما يطول وصفه، وردّ الناس عليهم ردودًا يطول وصفها. وقيل لهم: وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (1)، وقال: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (2)، قال جمهور السلف: ما دلَّ عليه الخطاب: خلقَ فريقًا للرحمة، وفريقًا للاختلاف. فقالوا: هذه لام العاقبة والصيرورة، لا لام الغرض والقصد

_ (1) سورة الأعر اف: 179. (2) سورة هود: 118، 119.

- افتراق القدرية فرقتين

والإرادة، فإن الفاعل الذي يَقصِدُ غايةً تكون اللام في فعله للتعليل والإرادة، إذ هي العلة الغائية، والذي لا يقصدها تكون اللام في فعله لام العاقبة. فيقال لهم: لام العاقبة إما أن تكون من جاهل بالعاقبة، كقوله: (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (1)، أو من عاجز عن دفع العاقبة السيئة، كقولهم (2): لِدُوا للمَوتِ وابْنُوا للخَرابِ وقولهم (3): وللموتِ مَا تَلِدُ الوالِدَهْ فأما العالم القادر فعلمه بالعاقبة وقدرتُه على وجودِها ودفعِها، يبتغي أن لا يكون مريداً لها. فافترق القدرية فرقتين: منهم من اختار أنه لم يكن عالمًا بما يؤولُ إليه الأمرُ من الطاعة والمعصية.

_ (1) سورة القصص: 8. (2) هذا صدر بيت عجزه: فكلكم يصير إلى ذهابِ. واختلف في نسبته، فهو لأبي نواس في ديوانه (ص 250)، ولأبي العتاهية في الأغاني (3/ 155) وديوانه (ص 23 - 24)، وبلا نسبة في الحيوان (3/ 51). (3) وقع هذا الشطر في شعر عدد من الشعراء، انظر "شرح أبيات مغني اللبيب" (4/ 296، 297).

- التحقيق أن اللام في قوله (ليعبدون (56)) ولام إرادة المحبة والرضا، وفي قوله (ولذلك خلقهم) لام الإرادة العامة الشاملة

ومنهم من اختار أنه لا يقدر على أن يَفعلَ بهم غيرَ ما فعل من الإعانة، وهؤلاء أكثر القدرية. ولا بدَّ من بيان الكلام في ذلك على أصول العربية التي نزل بها القرآن، فإن هذه اللام التي يُنصَبُ بها الفعلُ تسميها النحاةُ لام [كَيْ]، وهي في الحقيقة لام الجرّ، أُضمِرَ بعدها "أنْ" فانتصب الفعل، ولهذا تليها الأسماء المجردة، كما في قوله: (لِجَهَنَّمَ). والمجرور بها تارةً يكون سببًا فاعليًّا، كما تقول: فعلتُ هذا لأني اشتهيتُه وأحببتُه. وقد يكون سببًا غاليًّا، كما تقول: فعلتُ هذا ليُرضي زيدًا وليُحسن إليَّ. وأما المنصوب على المفعول له فلا يكون إلا لسبب الفاعل، كقوله: (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (1) ونحو ذلك، والفرق بينهما مذكور في غير هذا الموضع. وأما الذين أَجْرَوا الآيةَ على مقتضاها مع الإيمان بالسنة، وقالوا: المراد أن يُعبد ويُحمد ويُشكر، فمنهم من يقول: قد وُجدَ ذلك من بعضهم. ومنهم من يقول: مقصوده أمرهم بذلك، لا نفس وجودَ المأمور به. والتحقيق أن اللام هنا لام إرادة المحبة والرضا والأمر، لا لام الإرادة العامة الشاملة للكائنات. واللام في قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (2) (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ) (3) لام الإرادة العامة الشاملة، فتلك الإرادة

_ (1) سورة البقرة: 207. (2) سورة هود: 119. (3) سورة الأعراف: 179.

الدينية، وهذه الإرادة الكونية، ويجب الفرق بين اللامين والعلتين والغايتين، كما فرق بين الأمرين والإرادتين والحكمين والبعثين والإرسالين. وليس كلُّ ما يحبه ويرضاه ويفرح به لخلقه يكون، وإنما كل ماشاء يكون. وقد رُوينا في كتاب القدر (1) عن ابن عباس: أن الأنبياء موسى وعزيرًا والمسيح سألوا عن هذه المسألة، فقالوا: أيْ رب! أنت رب عظيم، لو تشاء أن تُطاعَ لأطِعْتَ، ولو تشاء أن لاتُعصَى لما عُصِيْتَ، وأنت تُحِبُّ أن تُطَاعَ، وأنت مع ذلك تُعصى؟ فاوحى الله إليهم: "إنّ هذا سِرّي، فلا تسألوني عن سِرّي". وذلك أنه وإن أحث عبادتهم، فلا يجب في كل ما أحبه الحيُّ أن يفعله، بل قد يكون في حقنا من يترك محبوبه لمعارضٍ راجح، أو يتركه فلا يفعله لا لمعارض راجح، ولا نَقْصَ في ذلك، كالأفعال الحسنة التي تُستحبُّ لنا، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (2).وقال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (3).

_ (1) من الإبانة لابن بطة (2/ 314). وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 260)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 200): فيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها. ومصعب بن سوار لم أعرفه. وبقية رجاله رجال الصحيح. (2) سورة البقرة: 253. (3) سورة إبراهيم: 27.

- السؤال الثاني الوارد على من قال: إن علة خلقه للخلق حمده وعبادته

وأيضًا فإن الله يُحِبُّ هذه الأعيان والأفعالَ والصفاتِ بتقدير وجودها، كما يسمع المسموعاتِ ويُبصر المدركات بتقدير وجودها، وأما ما لم يُوجَد منها وقد عُلِمَ أنه لا يُوجد، فلا يقال: إنه يُحِبُّ العدمَ المحض والنفيَ الصرف، كما لم يتعلق به حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، والله خلق الجن والإنس، والغايةُ المحبوبة منهم التي بها يَكمُلُون ويصلحون وينالون الكرامةَ ويحبُّهم الحقُّ أن يعبدوه، فإذا لم يَبلُغوا هذه الغايةَ لم يبلغوا سعادتَهم، ولا محبوبَ الحقِّ منهم. ثم إن منهم من شاء كونَ العبادة أمنه، فأعانَه، ومنهم من لم يشأكونَ ذلك منه فلم يُعِنْه، ولكنه من ذَرْئه لجهنم. السؤال الثاني: أيُ مقصود له في أن يعبدوه ويحمدوه إذا كان غنيّا عن العالمين؟ وهو أحدٌ صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد. ثم إما أن يكون يحصل بالعبادة ما لم يكن حاصلاً، فيكون قبله ناقصاً، أو يكون قبل العبادة وبعدها سواء، فسِيَّانِ عبدوه أو لم يعبدوه. ويتصل ذلك الكلام في حلول الحوادث به، إذا حصل له بالعبادة ما لم يكن حاصلاً. وهذا السؤال هو الذي منع جمهور متكلمي أهل الإثبات عن التعليل وردّ الأصول إلى محض المشيئة، فيقولون في الجواب: غِناه عن العالمين لا يَمنع أن يحبَّ ويرضى ويفرح، والإيمان به، وعبادته، وشكره، والعمل الصالح، وأن يفرح بتوبة التائب (1)، لأن هذه الأشياء

_ (1) في الأصل: "الساب".

إذا وُجدَتْ فهو الذي خلقها وأوجدها، فلم يكن في ذلك فقرٌ إلى غيره بوجه مَن الوجوه. وأما تجدُّد هذه العبادات فهو بمنزلة تجدُّد المسموعات والمرئيات في كونه يسمعها ويراها، فما كان الجواب عن تلك فهو الجواب عن هذه. كما يقال: إما أن يكون بالسمع والبصر يَحصُلُ له إدراكٌ لم يكن، أو لم يَحصُلْ؟ فإذا لم يَحصُلْ فلا فرق بين وجودها وعدمها، وإن حصل لزم أن يكون قبل ذلك ناقصًا، ولزِمَ حلولُ الحوادث به. فإذا أُجيب عن ذلك بأن ذلك ليس بكمال بالنسبة إليه، أو أنَّ المتجدِّد هوَ أمر عدمي لا أمر ثبوتي، وقنع العقل بذلك الجواب، فهو الجواب هنا. وإن قيل: الكمال أن يكون بحيثُ يَسمع ويُبصِر كلَّ ما يحدث من مسموع ومرئي. قيل: والكمال أن يكون يحبّ ويفرح بكل ما يحدث من محبوبٍ ومرضيّ ومفروح به. وإذا قيل: ليس ثبوت هذا الإدراك بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق التي تستلزم حدوثَه وإمكانَه. قيل: وليس (1) ثبوت هذه الأحوال المتعلقة بالإدراك- من المحبة

_ (1) في الأصل: "وليست".

- العبارات المجملة لا نطلقها إلا مفسرة

والرضا والفرح والغضب- بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق، التي تستلزم حدوثه وإمكانه. وإن قيل: إن علمه وسمعه وبصره وإرادته تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدَّدُ من الأشخاص التي تندرج فيها. قيل: وكذلك محبته ورضاه وفرحه تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدد من الأشخاص التي تندرج فيها. فما كان جوابًا عن أحد البابين، وهو ما أُثْبِتَ من الصفات كالسمع والبصر والإرادة، فهو الجواب عن الباب الآخر، وهو المحبة والرضى والفرح ونحو ذلك. وإنما يتخيَّلُ الفرقُ لكثرة النظر والاعتبار في أفعال الربوبية، وتعلقِها بالصفات التي بها صدرتِ الأفعالُ ودلَّت الأفعالُ عليها، فإن أكثر نظر الكلاميين والبحاثين في هذا. وأما النظر في الغايات المطلوبة في العباد، وهو مقتضى الإلهية وما يتعلق بذلك من صفات الحب والبغض والرضا والغضب، فإن الرسل الذين دَعَوا إلى عبادة الله جاؤوا به، وإنما يحققه أهل العلم والإيمان من أهل ولاية الله تعالى وخاصته. فإن قيل: هذا يقتضي وصفَه باللذة، ومَن وصفَه بها وصفَه بالألم، وذلك يقتضي حدوثه أو إمكانه. قيل: العبارات المجملة لا نُطلِقُها إذا لم يجيء بها الشرعُ إلا مفسَّرةً، فالشرع جاء بالحب والرضا والفرح والضحكْ والبشبشة ونحو ذلك، وجاء أنه يُؤذى ويصبر على الأذى، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ

- اتباع الألفاظ الشرعية في باب الصفات هو المشروع لنا

ورسوله) (1)، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أحدٌ أصبرَ على أذًى يسمعُه من الله" (2). وقال الله تعالى: "يُؤذيني ابنُ آدمَ يَسُبُّ الدهرَ وأنا الدهرُ، بيدي الأمرُ أقلِّبُ الليلَ والنهارَ" (3)، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للباصقِ في القبلة: "إنك قد آذيتَ الله ورسوله" (4)، وقال: "مَنْ لكعب بن الأشرفِ، فإنه قد آذى الله ورسوله" (5). فهذه الصفات حقّ نطقَ بها الكتاب والسنة، واتفق عليها سلفُ الأمة وعامة أهل العلم والإيمان من أهل المعرفة واليقين، ودلَّ العقل القياسي والعقل الإيماني على صحتها، فلا خروجَ عن هذه الأدلةِ والسنةِ والجماعة وزمرةِ الأولياء والأنبياء. وأما إطلاق لفظ "اللذة" فقد أطلقه قومٌ من أتباع الأوائل ومن هذه الأمةِ المتفلسفة وغيرهم، كما أطلقوا لفظ "العشق"، وهو بالمعنى الذي فسروه به ليس بباطل، لكن اتباع الألفاظ الشرعية في هذا الباب من الأدب المشروع لنا، إما إيجابًا وإما استحبابًا، فإذا تركنا إطلاق هذا اللفظ مع صحة المعنى، فلعدم جواز الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب، أو لاستحباب ترك الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب.

_ (1) سورة الأحزاب: 57. (2) سبق تخريجه قريبًا. (3) سبق تخريجه قريبًا. (4) أخرجه أحمد (4/ 56) وأبو داود (481) من حديث أبي سهلة. (5) أخرجه البخاري (2510) ومسلم (1801) من حديث جابر.

وأما إذا كان اللفظ فيه إجمال، فإطلاقه بلا تفسيرٍ ممنوع منه، لما فيه من إضلال المستمع، وتنفير القلوب الصحيحة، ولعدم دلالته على المعنى المقصود إلا بعد مقدمات غير مذكورة، لكن هؤلاء يجعلون ذلك متعلقًا بنفسه فقط، فيقولون: هو عاشق ومحبّ لنفسه، ويلتذُّ ويبتهج بها، أو، الذي جاءت به الكتب والرسل أن حكم ذلك يتصل بعباده الصالحين، فيحبهم ويرضى عنهم ويفرح بتوبتهم، وإلى هذا دعت الرسل، وفيه نزلت الكتب. والقراَن والإيمان يفرِّقان بين من يحبه ويبغضه، ويرضاه ويسخطه، ويودُّه ويمقته، وبذلك حصل الفرق بين أولياء الله وأعدائه. وأولئك المتفلسفة لا يصعدون إلى هذا، فإنهم صابئة، وغالبهم عُبَّاد لغير ذلك من العلويات والسفليات إلا من هداه الله، فآمن بالله واليوم الآخر، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1). وأما كون ذلك مستلزمًا للحدث أو الإمكان فلا دليلَ عليه البتة، بل عامة الصفات الثابتة قد يقال فيها مثل ذلك. ومن أثبتَ شيئًا من الصفات مثل إرادة قائمة، يُورَدُ عليه مثلُ ذلك، بل نفس إثبات كونه خالقًا وآمرًا بالدين، يُورَدُ عليه مثلُ ذلك، وهو إيراد فاسد، لأن مبناه على قياس الله على ابن اَدم، الذي كان معدومًا ثم وُجِدَ، ولا وجودَ له

_ (1) سورة البقرة: 62.

- الإرادة نوعان: كونية ودينية، وبيان الفرق بينهما

من نفسه، وإنما وجوده بخالقه، والله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا يجوز ضربُ المثلِ له من مخلوقاته. وإذا تبيّن أن الإرادة نوعان: منها ما هو بمقتضى الربوبية، وهي الإرادة الكونية، ومنها ما هو بمقتضى الإلهية، وهي الإرادة الدينية، فالأولى إرادة فاعلية، والثانية إرادة غائية، الأولى من اسمه الأول، والثانية من اسمه الآخر، الأولى يكون الرب بها مريدًا والعبد مرادًا إرادةَ تكوين وربوبية، ولذلك قد يكون مريدًا، والثانية يكون الربُّ بها مريدًا إرادةَ حبّ ورضًى وإلهيةٍ، والعبد أيضًا مريدًا إرادةَ عبادةٍ وديانةٍ وإنابةٍ وإرادةٍ وقصدٍ، وقد يكون بها مرادًا إرادةَ ربوبيةٍ إذا حصل ذلك. تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد لله وحده.

(3) فصل في صفات المنافقين

فصل في صفات المنافقين

- تمثيلهم في سورة البقرة

(وهذا فصل من كلام الشيخ تقي الدين رضي الله عنه من غير الكلام الأول). فصل ذكر الله المنافقين في القرآن فوصفهم بصفاتٍ كقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)) (1). وهذا كما قال من قال من السلف المفسرين، كقتادة وغيره: عرفوا ثم أنكروا، وأبصروا ثم عَمُوا، واهتدوا ثم ضلوا، ونحو ذلك. فإنه أخبر أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وهذه حال من أخذ الضلالة التي لم تكن عنده، وأخرج الهدى الذي كان عنده، وإن كان قد يُقال: إن مثل هذا قد يُقال للقادر على الأمرين، إذا ترك هذا وأخذ هذا، لكن سياق الكلام يدل على الأول، فإنه قال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) أي طلب إيقادها وأوقدها، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) إلى آخر الاَية، فمثَّلَهم بالذي جعل لنفسه نارًا يُنتفع بضوئها، فلما أضاءت

_ (1) سورة البقرة: 16 - 20.

- وصفهم في سورة المنافقين

ذهب النور، وبقي في ظلمة لا يبصر، وأخبر أنهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)) إلى الحال التي كانوا عليها من الهدى والنور. وأما المثل الثاني وهو حال المطر الذي فيه ظلمات ورعد يُسمَع، وبرْق يرى، وأنهم يخافون من صوت الصواعق ومن لمعان البرق، فيمتنعون، فتحصل الاَفة في سمعهم وبصرهم، وأنهم مع ذلك إذا (أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) فهذه حال من يكون إدراكه الذي هو سمعه وبصره، وعمله الذي هو حركته، فيه خلل واضطراب وآفة ونقص وفساد، ولكن لم يعدم ذلك بالكلية. وهذه تُشبِه حالَ من فيه إيمان ونفاق، وفي قلبه مرض، والأولى حال من ارتد عن الهدى بالكلية. وقد قال أيضًا في سورة المنافقين (1): (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)) فأخبر أنهم آمنوا ثم كفروا كما ذكر نحو ذلك في سورة البقرة، وهذا يقتضي شيئين، أحدهما: أنه قد كان منهم ما هو إيمان، وأنهم رجعوا عنه، ومعلوم أنهم ليسوا كالمرتدين الظاهري الردة، فإن ذلك قسم آخر ذكره الله في القرآن في غير موضع، وله حكم آخر في الكتاب والسنة، بل هذه حال المنافقين المتناقضين، الذين يقولون قول المؤمنين،

_ (1) الآيات 1 - 3.

- الكلام على قوله تعالى: (*قالت الأعراب أمنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا) والفرق بين الأعراب والمنافقين

ويقولون ما ينقض قول المؤمنين، ولو كانوا صادقين محقِّقِين القولَ الأول لم يأتوا بما يناقضه. وليسوا أيضًا تاركين لكل ما يتركه المؤمنون ويفعلونه، بل يوافقونهم على شيء، ويوافقون شياطينهم على شيء، وهم وإن كانوا في الظاهر مع المؤمنين، ففي الباطن مع شياطينهم، وهذا هو النفاق، وقد فُسر بذلك إيمانهم وكفرهم، أي اَمنوا ظاهرًا ثم كفروا باطنًا. فالقراَن يدلّ على أنهم أولاً حصلَ لهم هدى، ثم رجعوا عنه، مع كونهم أظهروا خلاف ما يُبطِنون، وهذه حال طوائف من العباد، يُقِرون بالحق من بعض الوجوه، ولم يقروا به إقرارًا تامًّا، فهم كاذبون في دعواهم الإيمان به، ثم إنهم يتناقضون فيأتون بما ينافي الإيمان، وقد قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) (1)، فهذا يبين أنهم دخلوا في الإسلام الذي إذا عملوا فيه عملاً صالحًا لم يُنقَصوه، ومع ذلك لم يدخل حقيقةُ الإيمان إلى قلوبهم، فكثير من الناس يُقِر بالحق ابتداءً، وإن لم يكن في قلبه إذ ذاك تكذيبٌ به أو بغضٌ له، بل لا يكون في قلبه حقيقة التصديق والمحبة، وإن كان فيه بعض ذلك، مع إقراره بلسانه وظاهره. وفرق بين ان يقوم بقلبه نقيضُ ما أظهره، وبين أن لا يحقق بقلبه ما أظهره، فإن الأول قام بقلبه كفرٌ وجودي، وهذا لم يقم بقلبه كفر

_ (1) سورة الحجرات: 41.

- تقسيم النفاق إلى أكبر وأصغر، ووجوده في أئمة الضلال

وجودي، لكن لم يقم بقلبه حقيقة الإيمان، وإن كان قد دخل فيهم منادي الإيمان، إذ تكلموا به، وكان له أثر في قلوبهم، فهذا- والله أعلم- حال الموصوفين في سورة البقرة والمنافقين، فإنه قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)) (1) فأخبر أنهم في الحقيقة لم يؤمنوا، وأن في قلوبهم مرضًا، والمرض يكون ريبًا وشكًّا. وأخبر أنه إذا قيل لهم: (آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ) (2)، وأخبر أنهم يوافقون في الظاهر المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزؤون، ثم أخبر عنهم (3) بما يقتضي ردتهم عن هُدًى حصل لهم، فهذا- والله أعلم- يقتضي أنهم في أول الأمر حصل لهم أمر ناقص، لا يستوجبون به حقيقة الإيمان، كما ذكر عن الأعراب، ولكن لو استمروا على اتباع الحق قوي إيمانهم، فرجعوا عن ذلك الهدى ونافقوا المؤمنين. والنفاق ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومن تدبَّر حالَ كثير من أئمة الضلال- من المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ومن فيه شُعَبٌ من ذلك من الجهمية والرافضة ونحوهم- وجدَهم على ذاك الحال، فإنهم يتناقضون، فيقرون بالحق وينكرونه، ويعرفونه ثم ينكرونه، ولهذا يجمعون في كلامهم بين ما هو من قول المؤمنين، وبين ما هو من قول الكفار الجاحدين، كالذي يكون مسلمًا، ثم يتفلسف وينافق شيئًا بعد شيء، كالقرامطة الذين كان أولاً فيهم إسلام، وإن كانوا مبتدعة من

_ (1) سورة البقرة: 8. (2) سورة البقرة: 13. (3) في الأصل: "انهم".

- شرح المثل في قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها …)

الشيعة مثلاً، ثم إن النفاق قوي فيهم، حتى جحدوا ما كانوا أقروا به أولاً، وصاروا يقولون: لا نقول حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا سميع ولا أصمّ، ولا بصير ولا أعمى، ولا يتكلم ولا ساكت، ونحو ذلك، فيمتنعون أن يصفوا الله تعالى بالصفات الثبوتية أو السلبية. فهذا في الحقيقة ترك الإيمان الواجب، وإن كانوا قد تركوا أيضًا الكفر الوَجودي، فإن عدم الإيمان كفر، وبذلك يزول الهدى والنور الذي حصل لهم، وكذلك إذا قالوا: هو موجود، لكن ليس بعالم ولا قادر ولا حي، وكذلك إذا قالوا: لا داخلَ العالم ولا خارجَه. ولا ريب أن في هؤلاء طوائفَ فيهم إقرار وإنكار، وعلم وجهل، فهؤلاء لهم المثل الثاني. [والله] سبحانه وتعالى أعلم. فصل ثم إنه سبحانه ذكر هذين المثلين للمنافقين، أحدهما: المستوقد للنار. والثاني: الصيّب، هذا بالنار، وهذا بالماء، وهذا التمثيل نظير التمثيل بهما في سورة الرعد، بقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) (1)، فإنه ذكر أيضًا ما يعمله الماء والنار، وأن النار فيها إضاءة ونور وإشراق مع الحرارة، والماء هو مادة الحياة مع الرطوبة والحياة، والنور جماع الهدى، كما قال تعالى: (أوَ مَن كاَنَ مَيْتًا

_ (1) سورة الرعد: 17.

- ذكر نعمتي الخلق والهداية في القرآن

فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (1)، وقال: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) (2). والماء وإن كان مادة الحياة، فالنار أيضا كذلك، ولهذا فيها من الحركة والشوق والإرادة ما يستلزم الحياة، لكن الماء فيه برودة ورطوبة يحصل به الإحساس الذي لا بدَّ فيه من لين، والنار فيها الحرارة التي توجب العمل، والإرادة التي لا بدَّ فيها من حركة، فهذا مادة الإحساس، وهذا مادة الحركة الإرادية، والحياة مستلزمة لهذا ولهذا، فإن الحي المطلق لا يكون ... (3)، ولهذا يجمع الله بين حقيقة هاتين النعمتين والاَيتين اللتين بهما يكمل الموجود فيما ينزله على رسله، وما خاطبت به الرسل لقومها، بل أول ما يعرف به آياته أسباب الحياة والهداية، فأول ما أنزل الله على نبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (4)، فذكر الخلق والهداية عموماً وخصوصاً، وذكر خلق الإنسان من علق، إذ هو في هذا الطور يصير حيّا، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُجمَع خَلْقُ أحدِكم في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع

_ (1) سورة الأنعام: 122. (2) سورة فاطر: 19 - 22. (3) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة. (4) سورة العلق: 1 - 5.

كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح " (1). فهو بعد المضغة ينفخ فيه الروح، فلو قيل: خلقه من مضغة، لكان يُظَنُّ أن الروح خلقت من مضغة، بخلاف ما إذا قيل: خُلِقَ من علق، فإنه يعلم أن المخلوق منها هو المضغة، التي يُنفخ فيها الروح. وأيضًا فالعلق واسطة بين النطفة وبين المضغة، وأيضًا فمن يصير علقة يُخلَق فيُميَّز رأسه ويداه ورجلاه، كما قال الله تعالى في الاَية الأخرى: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) (2)، قال من فسّر ذلك من السلف: المخلَّقة ما تمَّ خلقها، وغير المخلَّقة ما أسقطها الرحم. ليبين الله لعباده مبداً خلقهم، وأنهم خُلِقوا من هذه المضغة. ولهذا تكلم الفقهاء فيما تُلقِيه المرأة، مما يثبت به حكم النفاس، وتنقضي به العدة والاستبراء، وتصير به المرأة أم ولد، فإنه إذا كان مضغة مخلَّقة فلا ريب فيه، وأما إذا كان مضغة غير مخلَّقة أو علقة ففيه نزاع، فلما قال: خلق من علق، دلَّ بذلك على أن تخليق البدن بتصوير الأعضاء كان من نفس العلقة، وهذا أخصّ من خلقه من نطفة، فإن ذلك تقدير جملته وتصويرها قبل التفصيل. وأيضًا فالعَلَق أول الاستحالات التي يُخلَق منها، فإنه قبل ذلك كان نطفة، والنطفة لا تتعين أن تكون مبدأ الإنسان بلا ريب. ولهذا يتنازع الفقهاء أنها لو ألقت نطفة، لم يثبت به شيء من أحكام الولد، لا

_ (1) أخرجه البخاري (3258) ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود. (2) سورة الحج: 5.

نفاس، ولا عدة، ولا استبراء، ولا استيلاد، ولا غير ذلك، بخلاف العلقة، والعلقة تنازعوا فيها، لأنه يجوز أن تكون مبدأ آدمي، ويجوز أن لا تكون، ولهذا قال من قال منهم: يرجع في ذلك إلى شهادة القوابل وغيرهن. وأيضًا فالعلق دم، والدم فيه الحرارة والرطوبة، وهما سبب الحياة، ولهذا كان الدم مادة حياة الإنسان، وفيه الأرواح البدنية التي تكون فيها القوى. وقد دل هذا الكلام على أن الإنسان الذي هو جوهر جسم قائم بنفسه وأنه صورة- مصورة، مخلوق من هذه المادة التي هي جسم أيضًا، وهي العلق. فبان بهذا أن الحادث بعد أن لم يكن جوهر قائم بنفسه، ليس كما يطلقه بعض المتكلمين والمتفلسفة أن الحادث إنما هو صفات في الجواهر، فإن الفرق بين الصور والأجسام، وبين الصفات والأعراض، فرق ظاهر كما قد بيناه في غير هذا الموضع. والفلاسفة يفرقون أيضًا بين الأمرين، ويقولون: الحال في المحل إن كان المحل مستغنيًا عنه فهو الموضوع، وهو الجوهر، والحال فيه هو العرض، وإن كان المحل محتاجًا إليه، فهو الهيولى، والحالّ فيه هو الصورة، ومجموعهما هو الجسم، ويقولون: إن الهيولى جوهر، والصورة جوهر، والجسم جوهر، والموضوع جوهر، بخلاف الحال في الموضوع فإنه عرض. والجواهر عندهم خمسة (1): المادة، والصورة، والجسم،

_ (1) في الأصل: "أربعة".

- فوائد إثبات الربوبية بطريقة القرآن

والعقل، والنفس، وإن كان الذي لا ريب فيه هو الجسم والصورة، فأما ما يقوله من المادة للجسم، ومن وجود موجود قائم بنفسه ليس بجسم، فهذا لاحقيقة له، كما قد بُيِّن في موضعه. والمقصود هنا أن الله سبحانه ذكر خلق الإنسان من علق، وهو الإنسان حيّ، فذكر خلق الحياة، ثم ذكر التعليم مطلقًا، والتعليم بالقلم، وهو الهداية التي هي النور، فذكر خلق الحي وهدايته، مبينًا بذلك أنه خالقه أول ما أنزل على نبيه، وكذلك قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)) (1)، فذكر أيضًا هذين النوعين. وكذلك قال موسى لفرعون: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) (2). وفي إثبات الربوبية بهذه الطريقة فوائد عظيمة يطول ذكرها هنا. منها: أن ذلك تعريف للإنسان بحال نفسه ونوعه وجنسه، وذلك أقرب الأمور إليه، فهي دلالة له لازمة له ذاتية. ومنها: أن ذلك يبين فقره وحاجته، وأنه مربوب مقهور مدبَر. ومنها: أن ذلك يثبت القدر، وأنه خالق الحيوان وأفعالهم، وذلك يدلّ بطريق التنبيه على خلق غير الحيوان، فإن كثيرًا من الناس عرضت لهم شبهة في خلق أفعال الحيوان، لما له من العلم والقدرة والإرادة.

_ (1) سورة الأعلى: 1 - 3. (2) سورة طه: 50.

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ما يستدل به على أن الله خالق غير العبد، يُستدل به على ذلك في العبد، وإن أشبهه ذلك، حتى إن مناظري القدرية لم يتفطن جمهور متكلميهم على ذلك. وذكرنا أن الخوض في القدر أصل كل شبهة في العالم، فبين سبحانه أنه خَلَقَ وعلَّم، وخلق فسوىَ، وقدَّر فهدَى، فإنه إذا كان هو المعلم الهادي إلى خلقه، فمعلوم أن مبدأ الحركات الإرادية هو جنس العلم، والتعليم ينطبق على تعليم الناطق والبهيم، كما قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) (1)، وذكر الكلب المعلَّم، والفرق بينه وبين غير المعلم ثابت بالسنة الثابتة واتفاق العلماء. ولهذا قال سبحانه: (قدر فهدى (3)) (2) فجعل التقدير قبل الهداية، كما جعل الخلق قبل التسوية، والتقدير يتضمن علمه بما قدره، وقد يتضمن تكلمه به وكتابته له، فدلَّ ذلك على ثبوت القدر، وعلى أن أصل القدر هو علمه أيضًا، فدلَّ ذلك على أنه بكل شيء عليم، ولهذا قال في السورة الأخرى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (3)، والكتابة بالقلم تتضمن القول، والقول يتضمن العلم، وهذه الثلاثة هي مراتب التقدير العلمي، وذلك مذكور بعد خلق العين، فذكر إحداثه لذاته وصفاته وأفعاله، فانظر كيف كانت الرسالة تتضمن الدلالة بهذين الأصلين: الخلق المستلزم للحياة، والهدى

_ (1) سورة المائدة: 4. (2) سورة الأعلى: 3. (3) سورة العلق: 4، 5.

- التمثيل بالماء والنار

والنور الذي هو كمال الحياة. وكذلك قال الخليل عليه السلام لما قال: (ربى الذى يحي ويميت) (1)، ذكر الأصل الأول، ثم ذكر أن الله يأتي بالشمس من المشرق، وفي الشمس الضياءُ والنور الذي يُعِيش الناس، فذكر الحياة والنور. فهذه المعاني في التمثيل بالماء والنار، وأيضا فالماء رطب، والنار حارة، والحياة إنما تحصل بالحرارة والرطوبة، ولما ذكر الله في سورة الواقعة خلقه للنسل والحرث للخلق والرزق بقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)) (2)، وقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)) (3)، فذكر النسل والحرث، وذلك يتضمن خلق الإنسان وخلق طعامه، كما قال: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)) (4) الآية، ثم ذكر بعد ذلك ما يتم به الحرث والنسل من الماء والنار، فقال: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)) (5)، (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)) (6). وأيضا فالتمثيل بالنار يقتضى الحركة، وحرارة الطلب والإرادة،

_ (1) سورة البقرة: 258. (2) سورة الواقعة: 58، 59. (3) سورة الواقعة: 63، 64. (4) سورةعبس: 24. (5) سورة الواقعة: 68. (6) سورة الواقعة: 71.

والشوق والمحبة، والنور والهدى مع ذلك، فتبين أن العلم لا يحصل إلا بعمل، والعمل مقارن للعلم، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبينَّا تلازم العلم والعمل، وذلك أنها مثل الحياة. وأيضًا ففي النار إنارة وحرارة وأشواق، ففي التمثيل بذلك إشارة إلى أن النور والهدى في القلب، لا يحصل إلا بنوع من الحرارة التي تكون عن الحركة والشوق والمحبة، فإن الحب والشوق والطلب يوجب للقلب أعظم من حرارة النار البسيطة، هكذا يقوله الطبيعيون، وكذلك يجربه العاشقون، كما قال بعضهم: إن لم تكن نار المحبين أعظم من نار جهنم، وإلا كان كذا وكذا. فإذا كان النور مع الحرارة المقارنة للحركة والمحبة والإرادة، دل ذلك على أن الهدى ينال بذلك، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (1)، قال معاذ بن جبل: والبحث في العلم جهاد. وقال تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (2) فعلق الهداية بالإنابة، وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) (3)، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (4).

_ (1) سورة العنكبوت: 69. (2) سورة الشورى: 13. (3) سورة المائدة: 16. (4) سورة النساء: 66 - 68. في الأصل بياض بعد "لاَتيناهم".

وأما الماء ففيه رطوبة وبرودة، وفيه إرواء وإغراق، وهذا يدفع ضررَه الحرارةُ التي في النار، كما أن العطشان يجد حرارة العطش، فإذا شرب الماء رَوِيَ، فكذلك طالب الهدى يكون عنده شوق وطلب وحرارة حين يكون طالبًا، فإذا أتاه الهدى، وأحيا قلبه بحياة العلم والإيمان، رَوِيَ بذلك، ووجد له اللذة، وأما إذا كان عنده الحرارة النارية التي توجب له الحياة المشوقة له ولم يشرب، فإنه يكون عذابًا له، كالذي يَصْلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيى، فإن حياته لم تحصل مقصودها من الهدى واللذة، وما لم يحصل مقصوده يصح نفيه، فإن الشيء إنما هو مطلوب لأجل مقصوده، كما يقال عما لا ينفع: ليس بشيء. وهذا باب مبسوط في موضعه، كقوله: "لا نكاح إلا بولي" (1)، "ولا بيعَ فيما لا يملك" (2)، ونحو ذلك. وهو لم يمت أيضًا، لأنه فيه حياة، وهذا باب واسع، قال الإمام أحمد في أول خطبته (3): "الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أحيَوْه، وكم من ضال

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 394، 413، 418) وأبو داود (2085) والترمذي (1101) وابن ماجه (8181) من حديث أبي موسى الأشعري. وصححه الترمذي وغيره. (2) أخرجه أحمد (3/ 402، 434) وأبو داود (3503) والترمذي (1232، 1233، 1235) والنسائي (7/ 289) وابن ماجة (2187) من حديث حكيم بن حزام. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. (3) في كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية".

تائهٍ قد هَدَوه ". وقد قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (1)، فسمَّاه روحًا ونورًا، ليبين أن به الحياة والهدى، والهدى يتضمن اهتداء الحي إلى ما ينفعه هو، الذي يوجب لذته وفرحه وسروره، وذلك كما قال الله تعالى: (أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (2)،ولهذا قالت الملائكة: حيَّاك الله وبيَّاك (3)، أي أضحكك، والضحك إنما يكون عند السرور.

_ (1) سورة الشورى: 52. (2) سورة آل عمران: 169، 175. (3) أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 325) في أثر لسالم بن أبي الجعد.

(4) فصل في التوحيد

فصل في التوحيد

- تفسير قوله تعالى: (لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا)

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وأصحابه أجمعين .. قال الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة المحقق أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العالم الورع عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم الورع الفاضل أبي البركات ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه: فصل في التوحيد قال الله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)) (1)، قد كتبنا فيما تقدم قواعد تتعلق بذلك في توحيد الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي أنه كما يمتنع أن يكون للخلق رَبان، يمتنع أن يكون له إلهان، وتكلمنا على العللِ والأسباب الفاعلية والغائية، وما يتعلق بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) وفي أن جميع الحركات ناشئة عن المحبة التي هي حقيقة العبادة، وبسطنا الكلام في هذه المواضع بسطًا شريفا نافعا كاشفًا، ولله الحمد. فنقول: إنه يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له، لما فيه من الدور القَبْلِيّ، ولا يمتنع شيئان كل منهما مع الآخر بشرط فيه، وهو الدور المَعِيّ. وقد بينَّا هذا في جواب مسائل الدَّور، وذلك أن العلة والسبب

_ (1) سورة الأنبياء: 22.

- بيان امتناع الدور القبلي في العلة الغائية

والفاعل يجب أن تتقدم المعلول والمسبب والمفعول، فإذا كان هذا علة ذاك، وجب أن يكون هذا قبله. وإذا كان ذاك علة هذا وجب أن يكون ذاك قبله، فيجب أن يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا، وهو ممتنع، إذ هذا إذا كان قبل ذاك، وذاك قبله، كان ذاك قبلَ قبلِ نفسِه، وهو لو كان قبل نفسه كان ممتنعًا، لالتزامه اجتماع النقيضين، إذ هو قبل نفسه معدوم، فإذا كان قبلها كان معدومًا موجودًا، فيلزم هنا اجتماعهما مرتين. وكذلك إذا قيل: يلزم أن يكون ذاك قبل هذا، وهذا قبله، يلزم مثل ذلك، فيلزم أن يكون ذاك قبلَ قبلِ نفسِه، وهذان الاجتماعان هما ذانك باعيانهما، وإنما فيه التقديم والتأخير، ومضمونه أن يكون الشيء موجودًا قبل أن يكون موجودًا بدرجتين، فإن كون الشيء فاعلاً لنفسه ممتنع، فكيف يكون فاعلاً لفاعل نفسه، وكذا كونه علة نفسه يعني أن نفسه وُجدَت فأوجدتْ نفسَه، وهذا الممتنع لازم في العلتين جميعًا، فيلزم اجَتماع النقيضين أربع مرات. وكذلك يمتنع في العلة الغائية، التي يقال لها الحكمة والعاقبة، سواءً كانت العلة جوهرًا أو عرضًا. وذلك أن الغائية يجب تأخرها عن المعلول في الوجود، كما يجب تقدم العلة الفاعلة التي هي السبب، فإذا كان هذا علة ذاك لزم تاخر هذا عن ذاك، وبالعكس، يلزم تاخر ذاك عن هذا، فيكون هذا متاخرًا عن نفسه بدرجتين، فيلزم هنا مثل ما لزم هناك، وهو اجتماع النقيضين أربع مرات، فإن امتناع تأخر هذا عن نفسه بدرجة أو درجتين، وهكذا ذاك.

- الفاعلان إذا تعاونا على فعل واحد لم يكن أحدهما فاعلا للمفعول ولا للفاعل الآخر

وكذا إذا قدر أن الغاية عرض من الأعراض، كاللذة مثلاً والتنغُم والانتفاع وغير ذلك، فإنه يجب تأخر هذا عن ذاك، وذاك عن هذا، فيلزم ما تقدم من التناقض أربع مرات. وأيضًا فالعلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية، لأنها متقدمة في العلم والقصد، فيجب أن يكون هذا متقدمًا على ذاك علمًا وقصدًا، فيكون هو المقصود بالقصد الأول، وأن يكون ذاك متقدمًا على هذا، فيكون هو المقصود بالقصد الأول، فيلزم تقدم هذا على ذاك، أو تقدم ذاك على هذا، وبالعكس، فيلزم تقدم كل منهما على نفسه بمرتبتين، فكما لا يفعل هذا لذاك، وبالعكس، لا يكون هذا هو المقصود من فعل ذاك وبالعكس. وهذا يبين في الفاعل الواحد الذي هو القاصد، قُدِّر كل منهما فاعلاً مفعولاً، والغاية غيرهما، وهنا قدِّر كل منهما مفعولاً وغايةً، والفاعل غيرهما، ويجوز أن يكون اثنان مفعولان لفاعل واحد معًا، ويكون وجود أحدهما مشروطًا بالاَخر، بحيث لا يوجد كل منهما إلا مع الآخر، كالمتضايفات، مثل: الأبوة والبنوة وغيرهما، فهما مقترنان متلازمان لفاعل ثالث، فكذلك يجوز أن تكون غايةً واحدةً مقصودةً من مفعولين، ويكون وجود أحدهما مشروطًا بوجود الآخر، لا يوجد إلا معه، والغاية أمر ثالث غيرهما، كالأجزاء المركبة، والأمور المتلازمة، والأعضاء ونحو ذلك. والفاعلان إذا تعاونا على فعل واحدٍ كتعاونِ المتناظرين والمتحاملين والجيش والسابين ونحو ذلك، لم يكن أحدهما فاعلاً

- الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين

للمفعول، ولا للفاعل الآخر، بل كل منهما فاعل بعض ذلك المفعول، ومفعول أحدهما مع مفعول الآخر وشرط فيه، فالفعلان معاً كالأخوين كالوالد والولد. وكذلك الفعلان، إذا كان لكل منهما غاية، والغايتان متعاونتان مشتركتان، بحيث يكون قصد إحداهما مع قصد الآخر، كالزوجين المتناكحين، وكالمتبايعين ونحوهما ممن يقصد كل منهما بفعله الآخر نظيرَ ما يقصد الآخر بفعله، فهنا ليست واحدة من الغايتين علة للأخرى، بل كل منهما علة فعل الآخر قاصدها، ولكن كل من العلتين المقصودتين الغائيتين معاونة للأخرى ومقارنة لها ودائرة معها دورًا معيَّا، والفاعلان المتعاونان كل منهما لفعله سبب غير المعاون، كذلك المقصودان الغايتان لكل منهما حكمة مقصودة غير الغاية المعاونة، وقد يكون سبب الفاعلين واحد، كالفاعلين بعضوين، كالذي يأمر رجلين بالتعاون، وكالذي يغسل إحدى اليدين بالأخرى. وقد يكون مقصود المقصودين وغايتهما واحدة، كالغاية من المتناكحين، وهو انعقاد الولد. فصل الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين، وكذلك المعلول الواحد في الحقيقة لا يكون عن علتين تامتين. وقول من قال من الفقهاء: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين، يعنون به تعليل الحكم الواحد بالنوع، كالملك وحلّ الدم، والحكم الواحد بالنوع له علة واحدة بالنوع، والواحد بالعين له علة واحدة

بالعين. وإذا تعددت أشخاص النوع من العلل تعددت أشخاص الأنواع من الأحكام، وإذا كانت هناك جنس من العلل له علل مختلفة كان لها أحكام مختلفة، وإن كان جنس من الأحكام له أنواع مختلفة كان له أسباب مختلفة، ومثل هذا يجوز، فلا نزاع، لكن هذا يُعلم بالنص والإجماع. وأما إذا وجدنا حكمًا واحدًا وهناك وصفان مناسبان له، فهل يجوز جعلهما علتين كل منهما مستقل بالحكم بدون الآخر، بدون أن نعلم ذلك بدليل غير الاستنباط؟ أو الواجب تعليق الحكم بهما جميعًا وجعلهما جزءا العلة؟ الصواب هو الثاني، وهو معنى قول من قال: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين لا مستنبطتين، وهو في الحقيقة واحد النوع، أي كل منهما مستقلة بالحكم في محل آخر. وبهذا يظهر الفرق وعدم التأثير، فإن الفرق معارضه في الأصل وفي الفرع بأن يُبدِي الفارق في الأصل وصفًا آخر غير وصف المستدل له مدخل في التعليل، أو يُبدِي في الفرع وصفًا مختصًّا به يمنع من إلحاقه بالأصل، فإذا عارض في الأصل بوصف آخر، فلو كان كل وصف مناسب يمكن جعله علةً مستقلةً لما أمكن الفرق قط، لإمكان أن يقول المستدل: وصفي علة، وهذا الوصف علة أخرى، فلا يقدح هذا في تعليل الحكم بوصفي. وهذا باطل لا ريب فيه عند الفقهاء، إلا أن يبيق المستدل استقلال ذلك الوصف بالحكم، وذلك إنما يكون باعتبار الشارع له وحده بدليل

اَخر، غير المناسبة ومجرد التأثير الذي لا يقتضي استقلاله بالحكم. وأما عدم التأثير فأن يُبيِّن المعترضُ ثبوت الحكم بدون الوصف، كما أن النقض إبداء الحكم بدون الوصف فإن ذلك يبين أن الحكم غني عن الوصف، فلا يكون مؤثرًا فيه، بل المؤثر في الحكم غيره. وهذا إنما يكون إذا لم يخلف ذلك الوصفَ وصفٌ آخر، فإن كان قد ثبت الحكم عند انتفاء هذا الوصف لعلة أخرى لم يقدح فيه، لكون الحكم له علتان، مع عدم إحداهما كان لوجود الأخرى. فالفارق يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، بل المؤثر هو والوصف الآخر، أو الوصف الآخر، فلا يكون هو العلة. ونافي التأثير يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، لأن الحكم ثابت بدونه، ففي كل من الوضعين قد بين استغناء الحكم عن كون الوصف علة، تارةً بوجوده دونه، وتارةً بأن معه غيره. فذاك وجود الحكم بدون وجوده، وهذا وجود الحكم بدون تأثيره واقتضائه، وكلاهما معارضة في عليَّة الوصف. كما أن النقض أيضًا معارضة، وإذا كان في الفرق مع قولنا: يصح تعليل الحكم بعلتين، ليس له دعوى ذلك، إذا لم يثبت العليَّة إلا بالاستنباط، بل الأصل أن تكون العلة جميع الأوصاف، لا أن كل وصف علة. كذلك في عدم التأثير، ليس له أن يقول: ثبوت الحكم بدون هذا الوصف كان لعلة أخرى إن لم يبين تلك العلة، لأن الأصل عدم علة

- الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب

أخرى، والأصل زوال الحكم لزوال علته. وأما إمكان أن تخلفها علة أخرى فتحتاج إلى ثبوت علة أخرى غيرها، وإلى بيان وجودها، وهذا لا يكون مجرد الاستنباط، فليس له أن يقول: إنما وجد الحكم هناك لوجود الوصف الآخر المناسب، وذاك علة أخرى، بل يقال له: ذاك جزء العلة، كما يقول الفارق سواء، فإن وجود الحكم بدون الوصف المعلل به كوجود الحكم بدون كونه علة، وكلاهما معارضة في كون الوصف المعلل به علة، لكن هذا بيّن ذلك بوجود الحكم مع غيره، فلم يكن هذا المقتضي له. وبهذا يتبيّن صحة سؤال عدم التأثير مع قولنا بجواز تعليل الحكم بعلتين وكذلك سؤال الفرق، فإنهما سؤالان مشهوران مستعملان عند أئمة الفقهاء القائلين بجواز تعليل الحكم بعلتين، وذلك أنهم قالوا: "يجوز في الجملة". لم يقولوا: إنا نحكم به حيث رأينا وصفين، ولا أنه يسوغ أن يُدَّعى تعليل الحكم بعلتين لمجرد ذلك، بل هم إنما أثبتوا ذلك في تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلل منصوصة، فهذا شرطان موجودان فيما ذكروه من الصور. وقد ظهر الكلام في أحد الشرطين، وهو النص، وأما الكلام في الشرط الثاني، وهو المناسب لهذا المقام، فإن الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب، فلا يخلو إما أن يكون كلّ منها مستقلاًّ به لو انفرد. أما الأول: فظاهر أنها علة واحدة، والأوصاف أبعاضها، لا أنها علل.

- الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان

وأما الثاني: مثل الردة والزنا والقصاص في حل الدم، ومثل الحيض والجنابة في إيجاب الغسل، ومثل المسّ والبول في نقض الوضوء. فهذا وان حصل نزاع في كون الحكم وإن حصل واحدًا أو متعددًا، فالصواب أنها أحكام متعددة، وعلى ذلك نص الأئمة، كما قال الإمام أحمد في بعض ما ذكره: هذا مثل لحم خنزير ميّت، حرام من وجهين، فلو كان الحكم واحدًا لم يفرق بين الخنزير الميت وبين الميتة من غير الخنزير، بل أثبت فيه تحريمين. وكذلك حلّ الدم بالأسباب المجتمعة هو حلّ متعدد، ولكن ضاق المحل، ولهذا إذا زال الواحد بقي الآخر، ولو كان الحلّ واحدًا لوجب إذا زال أحدها أن يكون قد زال بعضه، فيكون الباقي بعض حلّ، فلا يباح، لكن قد تتداخل هذه الأحكام، فتداخلها لا يمنع تعددها. وعلى هذا، فإذا وجبت عليه حدود، فالواجب عقوبات متداخلة من جنس، وقول الفقهاء: تتداخل، كمن سرق ثم سرق، أو شرب ثم شرب، دليل على أن الثابت أحكام، لكن لاتحاد الجنس في مثل هذا تداخلت، وإلا فالشيء الواحد لا يُعقلُ فيه تداخلٌ، وإنما التداخل مع التعدد. وهذا كله مما يبين أن الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان، وكذلك الفعل الواحد والمفعول الواحد، لا يتصور أن يصدر عن فاعلين تامَّين، فالشخصان المتعاونان على حمل شيء يقوم بذات كل

منهما من الفعل ما لا يقوم بذات الآخر، فليس فعلهما واحدًا بل متعددٌ. وأما المفعول، وهو أثر فعلهما، وهو ما قام بالمحمول من الحمل، فأثرُ فعلِ أحدهما الموجود في المحمول ليس هو أثر فعل الآخر، بل هو غيره، والمحمول لم يكن محمولاً بفعل هذا وحده وأثره، ولا بفعل هذا وحده وأثره، بل بالمجموع، فليس كل منهما فاعلاً بل جزء فاعل، والفاعل مجموعهما، وليس كل منهما مستقلأً بالحمل في مثل هذا، بل المعلوم بالاضطرار أن المفعول بين فاعلين لا يكون كل منهما مستقلاًّ به، فإن المستقل هو الذي يفعل الفعل وحده، فإذا قُدّر أن له فيه شريكًا وقيل مع ذلك: إنه مستقل، كان جمعًا بين النقيضين، وكان التقدير أنه ما فعله إلا وحده، وأنه ما فعله إلا هو وغيره، فيكون فيه إثبات فعل الغير، وهذا جمعٌ بين النقيضين. وإذا لم يكن أحدهما مستقلأّ بالفعل في صورة التعاون، فهل يقال: لو انفرد أحدهما لاستقلَّ به؟ هذا قد لا يمكن في صور كثيرة، وفي صورٍ يمكن، كأن يكون حينئذ الفعلُ الموجود من المستقل أكملَ منه إذا كان له معين وشريك. وأما أن يقال: فعله إذا كان له شريك معاون، مثل فعله إذا كان مستقلاًّ، فهذا باطل، وفيه جمعٌ بين النقيضين أيضًا، لأنه إذا كان له شريك معاون، وقُدِّر أن المفعول الموجود معه هو مثل الموجود في صورة الاستقلال سواء، فإن لم يكن لهذا الشريك تأثيرٌ فيه لم يكن شريكًا، وإن كان له تأثيرٌ فقد فعل بعض المفعول، فلا يكون إلا فاعلاً

لبعضه، وفي الاستقلال فعله كله. ومن الممتنع أن يكون بأنه يفعل الجميع وحده، مساويًا لما به يفعل البعض من القدرة والعمل إذا كان له شريك، بل هو أكمل معه، كما نجده في الواقع أن الإنسان إذا فعل عملاً وحده ما كان يفعله هو وشريكه بغير عمله، ولم يكن حالى الانفراد مثله حال الاشتراك، كما يظهر ذلك في الاشتراك المعوق، كازدحام الرؤساء، فإنه إذا زال الشريك حصل بانفراد الرئيس راحة له وتمكن. كما يتمكَّن الشريكُ من التصرف في الملك المشترك إذا صار له وحده ما لم يكن يتمكَّن حين كان معه شريكه، وقد يعجز عن أن يفعل وحده ما كان يفعل هو وشريكه، وقد يَقدِر لكن بنوع من زيادة العمل، وهذا كله موجود. والمقصود هنا أنه من البيّن في بدائه العقول عند وجود التصرف أن الفعل الواحد لا يكون من فاعلين، ولا المقدور من الواحد قادر بينهما، لما اشتركا فيه وُجدَ من كل منهما بعضُه لا كله، إذ صدوره من كل منهما جمع بين النقيضَين، وبذلك يتبين أن الاشتراك في الفعل في كل من الشريكين، فإنه إذا لم يكن قادرًا على الفعل وحده كان عاجزًا، وإن كان قادرًا على العمل وحده فوجود الآخر معه منعه عن نفاذ قدرته، إذ هو لا يمكن مع معاونة الآخر أن يفعل الفعل كله، بل بعضه، فإن كان الكل مقدورًا كان ممنوعًا، وإن لم يكن الكل مقدورًا كان عاجزًا، والممنوع كالعاجز، فالمشاركة في العمل تقتضي عجز كل منهما، وعدم كمال قدرته على ذلك العمل حين الاشتراك. وهذا تمانع بأن المنع من فعل البعض كالمنع من فعل الجميع، فظهر أن الاشتراك

- استنباط دليل التمانع من الآية غلط عظيم

نفسه مع التعاون والتناصر هو تمانع يقتضي عجز كل منهما. وأما التمانع الذي قدروه- أعني المتكلمين- فذاك تمانع الإرادتين، فهذا لا يكون إلا مفروضًا، لا يمكن أن يكون موجودًا، فلا يتصور صُدور العالم عن ربَّين متمانعين، بل المتمانعان لا يفعلان شيئًا. وظنهم أن هذه الآية هي دليل التمانع غلط عظيم، فإن التمانع لا يُقدّر في فعل موجود أصلاً، وقولهم: لو قدَّرنا ربَيْنِ لكان إذا أراد أحدهما تحريكَ جسم، وأراد الآخر تسكينه، إما أن ينفذ مرادهما، فيجتمع الضدان، أو لا ينفذ مرادهما، فيكونا عاجزين، أو ينفذ مراد أحدهما، فهو الرب القادر والاَخر مربوب عاجز= لا يدل (1) على امتناع الاشتراك فيما وجد، وإنما يدلّ على أن المتمانعين لا يفعلان شيئًا ما داما متمانعين، إذ حينئذ يلزم اجتماع الضدين أو عجز الربَّين، والعاجز لا يفعل، لكن ليس فيه ما يدلّ على أنهما إذا لم يتمانعا بل تعاونا أنهما لا يفعلان، فمن أين بدلّ هذا على أن الفعل الموجود لا يكون عن اثنين؟ لكن دَلُوا به من وجه اَخر، وهو أنهما لو وُجدَا لتمانعا في الفعل، فكان لا يوجد، وقد وُجدَ، فلم يتمانعا، فلم يوجَدا، فاستدلوا بوجود الفعل على انتفاء التمانَع. والتمانع إما أن يكون لازمًا لوجودهما أو ممكنًا، فإذا قُدّر لم يلزم محال، أو لا يكون ممكنًا، فيكون كل منهما غير قادر على منع الآخر من مراده، والعاجز لا يكون ربًّا، فثبت عجز

_ (1) السياق: "قولهم لو قدرنا .... لايدل "

كل منهما إذا لم يقدر على منع الآخر. وهذا بعينه هو العجز حال التعاون إذ كان كل منهما عاجزًا عن الفعل وحده، فظهر بما ذكرناه أن دليل التمانع إنما يصح إذا كان التمانع لازمًا لهما أو جائزًا عليهما، وأما إذا قدّر وجوب اتحاد الإرادتين، كان هو الدليل الأول المذكور في امتناع الفعل الواحد من فاعلين، ولزوم العجز للمتعاونين، لكن ذاك عجز عن الاستقلال بالفعل، وهذا عجز عن منع الآخر منه. وأيضا فإن المتعاونين لأنه لا يتميز مفعول أحدهما عن مفعول الآخر، فلا يكون الشيء الواحد الموجود في العالم واحدًا فِعْلَ أحدهما. ومعلوم أن العالم يتميز فيه هذا عن هذا، يدلّ عليه قوله: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) (1)، ولهذا قال الثنوية: بأن مفعول النور ليس هو مفعول الظلمة، بل زعموا باختلاط المفعولين وامتزاجهما مع التباين، كما زعم من زعم من الثنوية بأن نفس الأصلين امتزجا واختلطا ثم تميزا، فلم يقل أحد من العقلاء: إن المفعول الواحد صدر عن اثنين، وهذا توحيد الربوبية، وهو متفق عليه بين العقلاء، ولم يكن هو المقصود بالذكر ولا الاَية أنزلت لتقريره، كما يظنه من يظنه من المتكلمين، وإنما هي لتوحيد الإلهية المستلزم لتوحيد الربوبية، وهو الذي قصدناه في هذا الموضع.

_ (1) سورة المؤمنون: 91.

- يستحيل أن يكون إلهان كل منهما معبود لشيء، ويستحيل أن يكون ربان كل منهما فاعل الشيء

فصل فنقول: كما استحال أن يكون ربَّانِ كل منهما فاعل الشيء، فكذلك يستحيل أن يكون إلهان كل منهما معبودٌ لشيء، كما قدمنا أنه إذا استحال كون كل من الشئين فاعلاً للآخر وعلة له، فيستحيل أن يكون كل منهما هو المقصود للآخر، والعلة الغائية له، لمفعول لهما، سواء اشتركا في مفعول أو انفرد كل منهما بمفعول مباين. وكذلك يستحيل أن يكون الشيء فاعلاً لنفسه محدثًا لها، ويستحيل أن يكون هو الغاية المقصودة من فعل نفسه لفاعلها، فكما لا يكون شيء من الموجودات ربًّا لنفسه فاعلاً، فلا يكون شيء منها مقصودًا لنفسه، هي الغاية المطلوبة من وجوده، بل كما وجب أن يكون لجميع المصنوعات ربٌّ غيرُها فعلَها وأحدثَها، وجب أن يكون ثبوته بعد أن خلقهم، إذ الحاجة إلى المقصود قبل الافتقار إلى ألوهيته، وهو أعظم الوجهين، فقد يكون لفعلهما جميعًا مقصودًا مرادًا غيرها. والخارج عن الممكنات المحدثات هو الله الذي لا رب غيره، ولا إله إلا هو، فهو ربها كلها وخالقها ومليكها، وهو إلهها جميعًا، الذي يجب أن يكون هو المعبود المقصود المراد بها جميعها، فهو نفسه هو الفاعل لأجل نفسه، إذ لا يجوز أن تكون الغاية المقصودة له غيره، كما لا يجوز أن يكون الرب الفاعل غيره. ومعلوم أن كل واحد من العلتين- الفاعل والغاية- خارج (1) عن

_ (1) في الأصل: "خارجًا".

الشيء المفعول، وإنما جزاَه المادة والصورة، إذ المادة والصورة هما ماهيته وحقيقته، فلا يجوز أن يكون في المخلوقات ما هو فاعل لها. كذلك لا يجوز أن يكون فيها ما هو المقصود المراد لفاعلها، ومن هنا تندفع مسائل الإرادة الموجبة بالذات والتعليل والتجوير، وتعليل أفعاله، فإن المعللين أوجب ذلك عليهم رعاية الحكمة، والمانعين أوجب المنع عليهم رعاية الغنى، فإن الفاعل لأجل غيره مفتقر إلى ذلك الغير، فأما إذا فعل لأجل نفسه كان غاية ما يقال: إنه فعل لنفسه، كما يقال: واجب بنفسه. وهذا خيال باطل، إنما يتوهَّم صدقُه لأنه يظن أن نفسه منفصلة عن نفسه، وأن الشيء الفاعل نفسه هو شيء متقدم عليها، والشيء المطلوب المقصود هو شيء منفصل عن نفسه التي لها القصد والإرادة. وكل ذلك باطل، بل هو سبحانه القائم بنفسه الذي هو موجود بها، ومريد لها، ومحب لها، ومسبح لنفسه، ومُثني على نفسه، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا أُحصِيْ ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك" (1). ومن هنا يظهر الفرق بين ما يحبه ويرضاه، وبين ما يريده من غير محبته، فإن ذلك محبوب لنفسه مَرضِيٌّ لها، وهذا مراد من جهة الربوبية. لكن يُقال: هو فعل الأفعال بإرادته، فالوجود كله بمشيئته، لكنه

_ (1) أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة.

- معنى حديث "والشر ليس إليك"

يحب ويرضى شيئًا دون شيء، وذلك في مفعولاته وأفعال عباده، فهو فعل لوجود ما يحبه ويرضاه، ومراده وجود المحبوب المرضي، وهو ألوهيته وكونه هو المقصود المراد، وإن كان في ضمن ذلك قد فعل ما أراده، وهو لا يحبه ويرضاه، لأن فعله له وسيلة إلى ما يحبه ويرضاه، فهو مراد بالقصد الثاني. وقد بسطنا في غير هذا الموضع من كلامنا في القدر، وتكلمنا على أنواع تتعلق بذلك. ومن هنا يعرف قوله عليه الصلاة والسلام: "والشرّ ليس إليك" (1)، فإن الله إليه المنتهى من جهة إلهيته، والشر لا ينتهي إليه، ولا يصعد إليه، ولا يصل إليه، ولا يحبه، ولا يرضاه، فهو قطع له من جهة الألوهية، وهذا نحو قول من قال: لا يتقرب به إليك، ألا ترى كيف قال في الأضحية: "اللهم منك ولك" (2). لكن قد يُقال: المعروف إن قال: هذا العمل لله، فكان مناسبه أن يُقال: والشرّ ليس إليك. وأما "إلى" فيُعدَّى بها الفعل، كما قال الخليل عليه السلام: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)) (3)، وقال: (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) (4). فيقال: وقد قال (5):

_ (1) أخرجه مسلم (771) من حديث علي. (2) أخرجه أبو داود (2795) وابن ماجه (3121) من حديث جابر. (3) سورة الصافات: 99. (4) سورة الانشقاق: 6. (5) شطر بيت سبق ذكره وتخريجه.

ربّ العبادِ إليك الوجهُ والعملُ وأما من جهة الربوبية فهي مخلوقة، لكن بالقصد الثاني لأجل غيره، وليس هو أيضَا مرادًا بالإرادة الأولى، ولا مخلوقًا بالقصد الأول، فليس هو مضافَا إليه من جهة كونه شرَّا، إذ لم يقصده ويُرِدْه من هذه الجهة، ولكنِ من جهة ما هو وسيلة إلى الخير الذي هو يبدئه، كما قال تعالى: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (1)، وقال: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (2)، وهو لم يقل: الشر ليس بك ولا منك ولا من عندك، بل قد يُقال: كل من عند الله في الحسنات والسيئات، التي هي المسارّ والمصائب، كما قد بينته في غير هذا الموضع. وقد يُعترض على هذا فيقال: قد فرق بينهما في قوله: (فمن الله) و (فمن نفسك) (3) في هذه الاَية، وفي قوله: (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ) (4) الاَية، و (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ) (5)، وقد قال تعالى: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةً فَمِنَ الله) (6)، وقال: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) (7) ولم يقل في الشرّ مثل ذلك.

_ (1) سورة السجدة: 7. (2) سورة النمل: 88. (3) سورة النساء: 79. (4) سورة النساء: 72. (5) سورة النساء: 73. (6) سورة النحل: 53. (7) سورة هود: 9.

فالمقصود هنا أنه سبحانه كما أنه واجب بنفسه، فهو محبوب لنفسه، مَثنيّ على نفسه، ومن هذا صلواته بثنائه على نفسه وطلبه من نفسه، وهذا غير صلاته على عباده. 0. (1) يحب ما أمر به، ويحب عباده المؤمنين. وقد خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)) (2)، وفي الصحيحين (3) عن معاذ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أتدري ما حقّ الله على عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم ". وفي الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"يقول الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئًا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما الذي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأتِ إلى الناس ما تُحِبُّ أن يُؤتَى إليك". فهو سبحانه قد جعل عبادته حقاً له على عباده، كما بيّن أنه خلقهم

_ (1) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة. (2) سورة الذاريات: 56، 57. (3) البخاري (128، 129) ومسلم (30). (4) سبق تخريجه. وفي الأصل: "باب الدعاء".

- عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذل له

لعبادته، ومعلوم أن عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له، فهي متضمنة كونه هو المراد المقصود المحبوب المعبود. فإذا كان قد خلقهم لعبادته، وذلك يتضمن أنه أمرهم بها وأحبَّها ورضيَها وأرادَها إرادةَ شرعٍ، فمعلوم أنّ محبة الوسيلة تبعٌ لمحبة المقصود، فمن أحبَّ محبة محبوب ومُحِبِّي محبوب، كانت محبته لذلك المحبوب هي الأصل، وكانت ثابتة بطريق الأوًلى، وكان إنما أحبَّ أن يُحبَّ، وأحبَّ محبته لكونه محبوبًا له، وكان ذلك فرعًا لهذا الأصل. ولهذا كانت محبة المؤمنين لما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، والحب لله، والبغض دئه، والحب في الله، والبغض في الله، كل ذلك تبعٌ وفرعٌ على محبتهم لله، فإذا أحبوه أحبوا ما أحبه هو من الأعمال والأشخاص، إذ محبوب المحبوب محبوب، وبغيض المحبوب بغيض. وكذلك محب المحبوب محبوب، ومبغض المحبوب مبغض، فالمؤمنون يحبون ربهم، وكانت محبتهم لما يحبه الله ولما يحب الله فرعًا وتبعًا لمحبتهم له، والله تعالى يحبهم ويحب ما يحبونه وما يحبهم، حتى قال أبو يزيد: إن الله لينظر إلى رجال في قلوب رجال، وينظر إلى رجال من قلوب رجال. فالأول: حال من أحبه المؤمنون، فينظر الله إلى قلوبهم، فيجد فيها أولئك المحبوبين. والثاني: حال من أحب المؤمنين (1)، فينظر إليهم من قلوب

_ (1) في الأصل: "المؤمنون".

- بيان أن محبة الله لمن يحبه تبع لمحبته لنفسه، من أربعة وجوه

المؤمنين، فهو يرحم من يحبه أولئك، ومن يحبه أولياؤه، وإذا كان كذلك كانت محبته لما أحبه من الأعيان والأعمال ومحبته لمن يحبه تبعًا وفرعًا لمحبته لنفسه بطريق الأولى والأحرى، وذلك يتبيّن من وجوه: أحدها: أن كل محب فإما أن يحب الشيء لذات المحبوب أو لذات نفسه، فيحبه لمحبته لنفسه، والفرق بين الموضعين أن الأول يتنعم بنفس المحبوب، والثاني يتمتع بما يصل إلى نفسه من نفع المحبوب. فهذا أحَّط النفعَ الواصل، فكانت ذات ذلك وسيلة إليه لا غرض له فيها، بحيث لو حصل النفع بدونه لم يكن له بذاته محبة، وذاك أحبَّ نفسَ المحبوب، لا لأجل نفع يصل إليه سوى نفعه وانتفاعه بذاته، كما تنعَّم ذلك وانتفع بما وصل إليه من المحبوب، وهذا شبيه بمن يحب إحدى زوجتيه لتمتعه بجمالها، ويحب الأخرى لكونها تنفق عليه مالها، ويحب شخصًا لما فيه من العلم والدين، ويحب آخر لكونه محسنًا إليه. وقد جُبلَت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. وإذا تبيّن ذلك فالله سبحانه إذا أحب شيئًا، فإن أحبه لأجل نفسه تعالى وجب أن تكون نفسه هي المحبوبة، حتى يصح أن يحب الغير لأجلها، ولا يمتنع أن يحب شيئًا لأجل شيء إن لم تكن الغاية هي المحبوبة ابتداءً. وهكذا كل من فعل شيئًا لكذا، فإنه يحب أن يكون المفعول له هو المراد ابتداءً، وهذه هي العلة الغائية، وهي متقدمة في الإرادة

والقصد، ولكونها مرادة ابتداءً صار الفعل المؤدي إليها مرادًا، وإن قُدّر أنه تعالى يحب شيئًا لذات ذلك الشيء، فمن المعلوم أنه هو الذي خلق تلك الذات، وجعلها على الوجه الذي يحبه هو، فإذا كان محب المحبوب محبوب (1)، فكيف بفاعل المحبوب ومُبدِعه وخالقه؟ فقد وجب أن تكون محبته لنفسه هي الأصل في القسمين، في الأول من جهة الغاية، وفي الثاني من جهة السبب، من جهة الألوهية، ومن جهة الربوبية. الوجه الثاني: أنه يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بما يحبه، كما ثبت ذلك بنصوص الكتاب والسنة، ومحبة محبِّ الشيء ومحبة المتقرب إلى الشيء والساير في مراضي الشيء، تبع وفرع على محبة ذلك الشيء محبوبًا، امتنع أن يحب محبه (2)، ويحب من يتقرب إليه بمحابه، ويسعى في مراضيه، وإذا كان الله يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بمحابه ويسعى في مراضيه، كان هو أحقَّ بأن يكون هو المحبوب لنفسه المرضي، إذ هو المحبوب المقصود بالقصد الأول. الوجه الثالث: أنه يبغض ويمقت أعيانًا وأفعالاً، والموجود لا يُبغض إلا لكونه مانعًا من المحبوب. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع في "قاعدة المحبة" (3)، وبيَّنا أن البغض تبعٌ للحب، وأن الحب هو الأصل، فإذا كان بغضه لأمور مستلزمًا محبته لأضدادها، فمحبة تلك الأمور مستلزمةٌ محبتَه لنفسه، كما تقدم.

_ (1) كذا في الأصل مرفوعًا. (2) كذا في الأصل، ولعل هنا سقطا. (3) في "جامع الرسائل" (2/ 193 وما بعدها).

الوجه الرابع: أنه يحب من يبغض تلك الأمور، ويجاهد أهلها، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)) (1)، وإنما أحبهم لإعانتهم على حصول محبوبه، فتكون محبته لنفسه التي أحب من أعان على محبوبها أولى وأحرى. فإن قيل: فتلك الأمور التي يبغضها هو خلقها بإرادته، فكيف يريد مايبغضه؟ فيقال: الشيء الواحد [قد] يكون (2) مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، كما يوجد في حقنا شرب الأدوية الكريهة، فإنها مكروهة من جهة إيلامها لنا، مرادة من جهة تحصيلها للدنيا في المستقبل، وهو سبحانه إنما خلق الحوادث وأرادها لحكمة فيها، فتلك الغاية التي هي الحكمة هي محبوبة له مرضية، وإن كان بعض ما هو وسيلة إليها قد يكون مكروهًا مبغضًا مع كونه مرادًا، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. وأما المأمورات فهي كلها محبوبة بتقدير وجودها، إذ هي الغايات، لكن قد يريد أن تكون إذا كانت الغاية المترتبة عليها مما يحبه ويرضاه، وقد لا يريد أن تكون في بعض الصور، وإن كانت لو وقعت لأحبها، لأن وجودها قد يكون مستلزمًا لوقوع ما يبغضه ويكرهه، فكما أن المكروه قد يُراد وقوعُه لأنه وسيلة إلى المحبوب، فالمحبوب

_ (1) سورة الصف: 4. (2) في الأصل: "لا يكون".

لا يراد وقوعه [لأنه] وسيلة إلى مكروه، وإن كان لو تجرد عن تلك السيئة كان محبوبًا، كما قد يُقال في قوله: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) (1)، وإن كان ذلك الانبعاث هو المأمور به، وإلا فيكون مكروهًا لنفسه إذا لم يكن على الوجه المأمور به. لكن قوله: (فَثَبَّطَهُمْ) هو دليل على أنه كره وقوعه كونًا، لما فيه من الشرّ بالمؤمنين، وذلك يقتضي أنه لو تجرد عن هذه العاقبة لم يكن وقوعه مكروهًا له كونًا، ولم يكن يثبط عنه، بل غايته أن يكون بمنزلة ما يقع من المعاصي المكروهة، فإنه قد لا يثبط عنها إذا كانت مُفضِيةً إلى ما يحبه. وأما هذا فثبط عنه لإفضائه إلى ما يكرهه بالمؤمنين. وهذا باب فيه بسط وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع، وهو من المقامات الشريفة الهائلة، التي اضطرب فيها الأولون والاَخرون، مسألة اجتماع الشرع والقدر، وإنما المقصود هنا بيان أنه سبحانه هو المقصود المراد المحبوب لنفسه ممّا فعله خلقًا وأمرًا، وبهذا يتبين أن حقه على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، ويظهر الفرق بين ما أمر به لأنه حق له، وبين ما أمر به لينتفع به العامل، وإن كانا متلازمين، كما بيناه في غير هذا الموضع. ولكن يظهر الفرق بحسب القصد الأول، فإذا كان حقه على عباده أن يعبدوه، وهو يستحق ذلك عليهم، علم أنه يحب ذلك ويطلبه ويريده منهم إرادةً دينية. ومن أحب حقه على غيره، وأنه يعطيه حقَّه، فمن المعلوم أنه لولا أنه يحب نفسه التي

_ (1) سورة التوبة: 46.

- لا صلاح للخلق إلا بأن يكون الله هو المعبود المقصود

لها الحق وإلا لما تصور أن يكون له حق، ولهذا الإنسانُ إنما يطلب حقوقَه التي يحبها ويرضاها، ولولا تعلق المحبة والرضى بتلك الأمور لما عقل كونها حقوقًا. ومن هذا الباب أنه يفرح بتوبة عبده التائب أعظمَ من فرح الفاقدِ لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا وجدها بعد اليأس، فهذا المثال فيه أنه فقد ما يحتاج إليه وتقوم به نفسه من المنفعة التي لا بد له منها، وهي الطعام والشراب، وما يدفع به المضرة، وهو الركوب للخلاص من تلك المفازة. ومعلوم أنه لولا محبته لنفسه لما أحب ما يجلب إليها من المنفعة، ويدفع عنها من المضرة. فإذا كان فرح الرب بتوبة التائب أعظم من ذلك، وهو سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين، فمعلوم أن الفرح العظيم بحصول الشيء المحبوب فرع على المحبة العظيمة له، ومحبة المحبوب فرع على محبة النفس التي كان لها ذلك محبوبًا. فصل فإذا كان هو رب كل شيء ومليكه، ولا وجود لشيء إلا بقدرته ومشيئته، فهو إله الخلق كلهم، لا إله غيره، ولا صلاح للخلق إلا بأن يكون هو المعبود المقصود بالقصد الأول من جميع حركاتهم. فكما أن ما لا يريده ويشاؤه لا يكون، فما لا يراد لأجله ويقصد له فإنه فاسد لا صلاح فيه، فكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه. ومن المعلوم أن المخلوق لم يخلق نفسه، ولا وجد من غير

خالق، فلا بد له من خالق غيره خَلَقَه. كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1)، فكذلك المخلوق ليس هو المقصود بوجوده وفعله، ولا وجد من غير مقصود، فوجب أن يكون المقصود بوجوده وفعله شيئًا غيره، كما تقدم بيانه. ثم إنه في نفسه، كما أنه لا يكون شيء من أفعاله إلا بإعانة الله، فلا يصلح شيء من حركاته وِأفعاله إلا أن يكِون لله، ولهذا [كان سرُّ] (2) القرآن في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) كما قال بعض السلف: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمعَ سرَّها في الكتب الأربع، وجمعَ سرَّ الأربعة في القرآن، وجمع سرّ القرآن في المفصل، وجمع سرّ المفصل في الفاتحة. ففرق بالنسبة إلى خالقه بين ربوبيته له وخلقه- وهو السبب- وبين مقصوده ومراده- وهو الغاية-. وفرق بالنسبة إليه بين فعله أنه لا يكون إلا بحبه، وبين فعله أنه لا يصلح إلا لإلهه، فلا يجوز إلا بمعونة الله، ولا يصلح إلا لوجه الله. ويتبين ذلك فيه بالنسبة إلى نفسه، كما يتبين بالنسبة إلى خالقه، وذلك أن فعله وقصده يمتنع أن يكون وُجدَ من غير سبب، ويمتنع أن يكون وُجدَ بقصدٍ منه وفعل آخر، لأنه يفضَي إلى التسلسل والدور، فلا بد أن يكَون وجوده بسبب من غيره، وهو داخل في جملته التي تناولها

_ (1) سورة الطور: 35. (2) بياض في الأصل بقدر كلمة.

- افتقار المحدث إلى المحدث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجح

قوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1). وكل ما دلّ على أن الحوادث الممكنات مخلوقة لله، فهو يدلّ على أفعال العباد، إذ هي جزء من الحوادث الممكنات، فاستدلالُ بعضهم على ذلك لكونها ممكنة فتفتقر إلى مرجِّح- كما سلكه أبو عبد الله الرازي- ليس هو أبلغَ من الاستدلال على ذلك بكون ذلك محدَثًا بعد أن لم يكن، فيفتقر إلى مُحدِث، بل هو أبلغ وأكمل، فإن افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح، ولكن هو وطائفة من أهل الكلام قبله عكسوا الأمر في إثبات الصانع، فجعلوا طريقةَ الاستدلال بالمحدَث على المحدِث مبنيةً على طريقة افتقار الممكن إلى المرجح، وهذا غلط جدًّا، فإنه إذا قيل: إن تلك معلومة بالضرورة فالضرورة هنا أرجح بكثير، والمحدَث شيء موجود، كان بعد أن لم يكن، حدوثه أمر خارجي موجود في الخارج. وأما الممكن فإنما يقدَّر مستوي الطرفين في النفس، إذ هو في الخارج إما واجب بنفسه وإما ممتنع بنفسه، ولهذا منع طائفة من الفلاسفة أن يقال في الموجودات: إنها ممكنة بنفسها. وخالفوا ابن سينا في ذلك كما ذكره ابن رشد الحفيد. فالعلم بثبوت الممكن فيه من الصعوبة ما ليس في العلم بحدوث المحدث، فإن حدوث المحدثات مشهود بالحس، وهو صفة خارجية ثابتة ليست مقدرة في العقل. ثم افتقار المحدَث إلى مُحدِثٍ أظهر وأبين وأَبْدَهُ للعقل من كون

_ (1) سورة الطور: 35.

الممكن المستوي الطرفين مفتقرًا إلى المرجح، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وإنما المقصود هنا أن كل ما دلَّ في بعض الموجودات أنه مخلوق لله، فهو يدلّ على ذلك في أفعال العباد، فيعلم بذلك كثرة الأدلة وقوتها على هذا المطلوب. ولهذا قال من قال من أئمة السلف، كحماد بن زيد وغيره: من قال: أفعال العباد لم يخلقها [الله]، بمنزلة من قال: السماء والأرض لم يخلقها الله. والمقصود هنا أنه إذا كان قصده وفعله مخلوقًا لله مربوبًا له، لا يوجد إلا بمشيئته وقدرته وربوبيته وإعانته، إذ يمتنع أن يكون حادثًا بنفسه، أو حادثًا من غير مُحدِث، فكذلك أيضًا يجب أن يكون لله، مُبتَغى به وجهُ الله، لا يفعل إلا لمحبته ورضاه وإلهيته وعبادته، فإنه لا يجوز أن يكون ليس فيه مقصود مراد، إذ القصد والعمل لغير مقصودٍ مرادٍ ممتنعٌ، كما أن الحادث من غير محدِثٍ ممتنعٌ. ولا يجوز أن يكون هو المقصود المراد المحبوب بعمله، كما لا يجوز أن يكون هو الخالق له، لأنه يفضي إلى التسلسل والدور، فكما قلنا: لو كان قصده حادثًا بقصد آخر، فإن كان ذلك القصد الثاني حادثًا بالأول لزم الدور، وإن كان حادثًا بغيره لزم التسلسل. فيقال: لو كان هو المقصود بذلك، فإما أن يكون مقصودًا لنفسه أو لأمرٍ آخر، ويمتنع أن يكون مقصودًا لنفسه، كما يمتنع أن يكون مُحدِثًا لنفسه، لأن المقصود يجب أن يتأخر عن القاصد، كما يجب أن يتقدم الفاعل على المفعول، فإذا لم يجز أن تَفعَلَ نفسُه نفسَه لم يجز أن

تقصد نفسُه نفسَه، لوجوب تأخر نفسه عن نفسه، ولوجوب تقدم نفسه على نفسه في العلم والقصد، وهذا بيّن، إذ لا بد أن يتأخر هذا المقصود عن وجود ذاته، فتكون ذاته قبل وجود هذا المقصود، فإذا كانت ذاته هي المقصود وهي القاصد، لزم أن لا تكون إلا متقدمة، وأن لا تكون إلا متأخرة، فتكون موجودة معدومة أربع مرات، كما تقدم بيانه. وقد يُقال: إن هذا ظاهر فيما إذا كان نفس ذاته هي العلة الغائية من وجودها، وهذا تقدم، وإنما الكلام هنا في قصده لفعل نفسه الذي يفعله هو. فيقال: مقصوده بفعله كإحداثه لفعله، كما أن مقصود فاعله به كإحداث فاعله له، وقد تبيّن أن حدوث قصده لا يجوز أن يكون ابتداءً منه بل من الله، وأن كونه منه يفضي إلى التسلسل والدور. فكذلك لا يجوز أن يكون هو منتهى قصده وإرادته بعمله، بل ذلك يُفضِي إلى الفسادِ وكونِ العمل غيرَ نافع بل ضارًّا، لأن المراد المقصود بعمله إما أن يكون مصلحة لنفسه، أو لا يكون، فإن لم يكن فيه مصلحة لنفسه كان عمله فاسدا باطلاً، وإن كان فيه مصلحة لنفسه، فإن كانت تلك المصلحة حاصلةً في نفسه قبل قصده وعمله كان هذا القصد والعمل باطلاً لا فائدة فيه أيضًا، وإن لم يكن حاصلاً في نفسه لم يكن في مجرد كون النفس هي منتهى القصد ما يوجب مصلحة، فإن النفس موجودة قبل ذلك، بل لا بد أن يطلب المصلحة بالقصد من غير النفس، فيكون ذلك هو المقصود لمصلحة النفس، فإن المطلوب لها

إذا لم يكن فيها لا يطلب إلا من غيرها، وهذا مبين نظير ما قلناه في الأسباب، فإن المطلوب للنفس من المصلحة بهذا القصد والعمل إن كان حاصلاً فيها لم يكن في القصد والعمل فائدة، وإن لم يكن حاصلاً فيها لم يطلب حصوله بالقصد والعمل إلا من غيرها. فكما استدللنا على أن حدوث أفعال النفس لا تُوجَد بمجردها، بل لا بد من سبب منفصل، فكذلك نستدل على أن أفعال النفس لا تنفعها وتفيدها وتصلحها بمجرد النفس، بل لا بدَّ من غاية منفصلة يكون في قصدها صلاح النفس ومنفعتها وخيرها. ولهذا كل من عمل عملاً لنفسه كان طالبًا لمصلحتها من الأمور الخارجة عنها، مثل من يصنع الطعام للأكل، والثياب للباس، والكرسي للجلوس، فإن الغاية المقصودة للطعام هي الأكل، وغاية الأكل هي وجود اللذة والمنفعة بالاكل والشبع ودفع ألم الجوع، فهذه المنفعة واللذة المطلوبة للنفس لا تطلب من النفس، بل يُطلب حصولُها لها بسبب آخر غيرها، كما أن الإنسان لا تتحرك إرادته إلا بسبب منفصل، مثل أن يحس ما يوجب حركته أو يسمع بذلك، فإن الإرادة لا تتحرك إلا بشعور وإحساس، وذلك لا يكون ابتداءً إلا بأسباب منفصلة، إذ هي وحدها لا تقتضي الحركة والإرادة، كما أنها وحدها لا تحصل اللذة والمصلحة. يُبيِّن ذلك أنها إذا قصدت بفعلها أمرًا فالمقصود إن كان حاصلاً فيها كان ذلك تحصيلاً للحاصل، وهو محال، وإذا لم يكن المقصود فيها امتنع أن تكون هي منتهى القصد وغاية المراد، إذ المقصود المراد

يُطلَب حينئذٍ لها من غيرها، فإذا جعل الإنسان غاية مقصوده هو نفسه وهوى نفسه، لم يقصد ما يصلح نفسه وينفعها، بل ما يضره أو لا ينفعها، كما قال تعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) (1). وبيان ذلك بالبرهان المشابه لبرهان الإحداث أن يقال: هو إذا فعل فعلاً فإما أن يصلح أن يكون ذلك الفعل بمجرده مقصودًا لنفسه، أو لا بد أن يقصد به شيئًا آخر، فإن صلح أن يكون مقصودًا لنفسه وغاية الفاعل، جاز في كل فعلٍ مقصود أن يكون مقصودًا لنفسه، وحينئذ فيلزم أن يصلح للنفوس كل ما يحبه ويهواه، ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد، وإن لم يجز أن يكون مقصودًا لنفسه، بل وجب أن يقصد به شيئًا آخر، فإما أن يكون هوي نفسه ومراده أو أمرًا آخر، فأما الأول فيفضي إلى الدور، وذلك أنه إذا قصد بفعلِ أمرٍ لكون نفسه تهواه وتقصده وتحبه، فكونها تحب ذلك وتهواه وتقصده إما أن يجوز أن يكون غايةً مقصودةً بالفعل أو لا يجوز، فإن لم يجز ذلك بطل هذا، وإن جاز أن يكون غاية مقصودة بالفعل صلح في فعلها الأول الذي قصدت به هذا أن يكون لمجرد كونها تحبه وتقصده وتهواه. ومتى صلح ذلك لم يجب أن تكون لهذه الغاية ولا غيرها، فصار كون هذا مقصودًا لنفسه يمتنع أن يكون مقصودًا لنفسه، وذلك هو الدور. وصار كون الفعل يصلح أن يكون مقصودًا، وذلك يوجب أن لا يمنع متحرك من حركته التي يهواها، ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد،

_ (1) سورة الحج: 13.

فوجب أن يكون مقصودُه بذلك الفعل أمرًا آخر، لا مجرد ما تهواه نفسه وتحبه وتريده. وهذا يبيّن بالدليل العقلي أن اتباع الأهواء مطلقًا موجب للفساد، وأنه لا يصلح أن يعبد الإنسان مجرد ما يهواه، كما قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (1)، وأنه لا بد أن يكون المعبود المقصود يُعبَد لمعنًى فيه، لا لمجرد إرادة النفس وهواها، وحينئذ فذلك المعنى الذي اختص به وصار لأجله محبوبًا معبودًا إما أن يكون لنفع منه إلى المحب القاصد العابد، وإما أن يكون لذاته، بمعنى أن في قصده ومحبته صلاح القاصد العابد. أما الأول فقد تبين في المقام الأول أن الله هو رب، كل شيء وخالقه، فليس غيره مستقلاًّ بالنفع، وإن كان غيره سببًا فيه، فذلك النفع الذي يفعله إما أن ييسره الله أو لا يُيسِّره، فإن يسّره وصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، وإن لم يُيسِّره لم يصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، فلم يكن في عبادته ما يوجب وصول تلك المنفعة إليك. وأيضًا فذاك المعبود إما أن يَعلَم بعبادتك أو لا يَعلَم، فإن لم يعلم لم يجز أن يقصد إيصال النفع إليك، وإن علم فالعالم الشاعر لا يعمل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة. وكونك تعبده وتقصده وتجعله هو الغاية المطلوبة بعملك ليس له في هذا منفعة ولا مصلحة، لأنه لو جاز

_ (1) سورة الجاثية: 23.

أن تكون نفسه غاية له مقصودةً بعمل غيره، لكان أن تكون غاية له بعمل نفسه أولى وأحرى. وقد تبين أنه لا يجوز أن تكون نفسه غاية نفسه بعمل نفسه، فأن لا تكون غاية له بعمل غيره أولى وأحرى. وهذا كما نقول في جانب الربوبية: إذا [كان] كل من المخلوقات فقيرًا عن أن يقيم نفسه، ويكون وجودها به، فهو عن أن يكون مقيمًا لغيره وجوده به أولى وأحرى، إذ ذاته أقرب إلى ذاته من غيره، فإذا لم يجز أن يكون فاعلاً لنفسه، ولا يصلح أن يكون غاية مقصوده لها بعمله، لم يجز أن يكون فاعلاً لغيره ومقصودًا لغيره. وقد تبين أن المخلوق إذا لم يكن له في مجرد كونه معبودًا مصلحة، فإن حصل له بعبادة غيره له غرض آخر من غيره، مثل إقامة رئاسته وتعظيمه عند الخلق، ونحو ذلك مما يلتذ به، كان ذلك إحسانًا إليه، وكان ما يعطيه إياه من باب المعاوضة، فالمعبود من الخلق مفتقر إلى شيء غيرِه منفصلٍ عنه يحصل به مقصوده من عبادة غيره الذي يحسن إليه بقوة نفسه، وهذا فقير إلى غيره في هذا كفقره إلى غيره في هذا. وأما ما يكون محبوبًا معبودًا لذاته، بأن يكون في مجرد ذلك مصلحة ومنفعة لقاصده، مع تقدير أنه لا يقصد نفع قاصده، فهذا كما يتمتع الإنسان بالنظر إلى المناظر الجميلة، ويتمتع بسمع الأصوات المطربة، وهذا قد يكون من الجانبين، كما أن كلاًّ من الزوجين يتمتع بالاَخر، فهذا يقصد انتفاعه بهذا، وهذا يقصد انتفاعه بهذا، إذ في

مباشرة كل منهما للَاخر لذة وسرور. وكذلك المتعاونان على علم أو عبادة أو تجارة أو غير ذلك. ْوبالجملة فعامة أمور بني آدم إما معاوضة وإما مشاركة، وكل منهما يقصد ما ينتفع به من الآخر، لا يقصد نفع الآخر، لكن تارة يكون الانتفاع بذاته كما في الزوجين، وتارة بما منه كما في شريكي العنان. وكل من هذين النوعين لا يجوز أن يكون معبودًا محبوبًا لذاته، فإنه إنما يُحَبُّ لأمر عارض لذاته ليس بلازم لها، ثم ذلك المحبوب تنقضي محبته بحصول الغرض منه، كما ينقضي غرض أحد الزوجين من الآخر إذا انقضت المنفعة. وكذلك المتمتع بالنظر إلى منظر بهيج، وكلّ ما يُذكر عن عُشَّاق الصور والمال والرئاسة، فإنه لأمر عارض في المحبوب، وعارض في المحب، ليس لذات واحد منهما، ولهذا تكون المحبة في وقت دون وقت، وقد تتبدل بالبغضاء، وما كان الشيء فإنه باق ببقاء ذاته، وِإنما هذه المحبوبات تتناول لقضاء الحاجة، وإذا زادت على الحاجة ضرَّتْ على الإنسان وأفسدته. ولهذا يُقال: إنها في الحقيقة دفع آلام، ولا ريب أن لذَّات الدنيا متضمنةٌ دفعَ ألمٍ، بخلاف لذَّات الآخرة، فإنه يتمتع بها من غير دفع ألم، لكن مع هذا لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته في الأفعال الاختيارية، وذلك أن العلة أكمل من المعلول، سواءً كانت فاعلية أم غائية.

فكما أن الفاعل المبدع أكمل من المفعول، فالمفعول لأجله- الذي هو المحبوب المقصود المعبود- أكمل من الفاعل، بل العلة الغائية أكمل من العلة الفاعلية، فإنها هي التي جعلت الفاعل فاعلاً، ولولا ذلك لم يكن فاعلاً، وإن كان الفاعل مستغنيًا عنها من جهة نفسه، لا من جهة كونه فاعلاً، والغائية غير مفتقرة إلى، الفاعل من حيث كونها غاية ومطلوبة، بل هي في نفسها غاية ومطلوب، سواء قُدِّر وجود الفاعل أو عدمه، لكن لا ينال المقصود بها إلا بالفاعل، فحصول المقصود بها كحصول الفعل من الفاعل. فالفعل سبب ووسيلة إلى المقصود بها، ومعلوم أن المقاصد أشرف من الوسائل، ولهذا قدم سبحانه قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) لأن العبادة هي المقصود المطلوب، والاستعانة سبب ووسيلة إليها. وكونه سبحانه إلهًا معبودًا للخلق أكمل من جهة كونه ربًّا مُعِينًا لهم من جهتهم ومن جهته. أما من جهتهم فإن من لم يعبده منهم، فلم يؤمن به، ولم يطع رسله، يكون شقيًّا معذَّبًا، وإن كان مربوبًا مخلوقًا، وإنما سعادتهم إذا عبدوه فاَمنوا به وأطاعوا رسله. وأما من جهته فإنه يكون إلهًا يفتقرون إلى ذاته، ويكون ربًّا يفتقرون إلى ما منه، وكون الشيء مقصودًا لنفسه أشرف من كونه مقصودًا لغيره.

وبالجملة فمن المستقر في فِطَرِ الناس أنَّ ما يُطْلَب لغيره فذلك الغير أشرف منه، وأن المقاصد أشرف من الوسائل. ولهذا يقال: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإذا كان كذلك، فكل ما يُقدر أنه هو المقصود المعبود لذاته دون الله تعالى، فإنه محتاج إلى ما يكون مقصودًا معبودًا لذاته، فإن الحي لا بد له من إرادة، ولا بد لكل إرادة من مراد لذاته، فإن المراد إما مراد لنفسه وإما مراد لغيره، واذا أريد لغيره فذلك الغير إما أن يكون مرادًا لنفسه أو لغيره، فإن كان ذلك الغير هو الأول لزم الدور القبلي، وان كان غيرًا آخر لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع. وكل ما دل على أن كل محدَث فله محدِث، وكل ممكن فله واجب، وأن الممكنات المحدثات لا بد لها من قديم واجب بنفسه، قطعًا للدور القبلي والتسلسل في العلل، فإنه يدلّ على أن كل مريد فلا بد له من مراد، وكل متحرك بالإرادة فلا بد له من غاية، وأنه لا بد لجميع الإرادات والحركات الاختيارية من مراد لنفسه ينقطع به الدور القبلي في العلل، فإذن كل متحرك بالإرادة من المخلوقات، بل كل مريد فلا بد له من مراد لنفسه هي الغاية. والمراد لنفسه أكمل من المراد لغيره، فكل مريد من المخلوقات مفتقر إلى مراد لنفسه يكون أكمل منه، فلو كان شيء محبوبًا مرادًا لذاته لكان المحب له يحب محبوبه، لأن محبوب المحبوب محبوب، ومراد المراد مراد بطريق اللزوم. فإن استلزام الحب الأول للأول كاستلزام الحب الثاني للثاني، فكما أن المحبّ لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، فالمحبوب كذلك لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، ولا تتم مصلحة محبوبه إلا بحصول مصلحته، لأنه إذا فسد حال المحبوب فسد حال محبه، فإذا

قُدِّر أن من المخلوقات ما يحب لنفسه، وذلك مستلزم لمحبته محبوبه الذي هو أكمل منه، كان الاكمل محبوبًا مرادًا بطريق اللزوم والقصد الثاني، وكان الأنقص محبوبًا مرادًا بطريق الأصالة والقصد الأول. ومعلوم أن هذا فساد ينافي الصلاح، فإن الحب والإرادة إن لم يتعلق بالأشياء على ما تستحقه الأشياء، لزم حال الحب الفاسد. وأيضًا فالفطرة السليمة تنافي ذلك، ولا يقع مثل هذا إلا عند فساد الفطرة وتغيرها. وإلا فمن كان تلذذُه بالماَكل الرديئة دون تلذذِه بالمآكل التي هي أطيب منها، دلّ على نوع فساد فيه، وذلك يستلزم الفساد، كما يحصل للمريض من تلذذه بالماَكل الرديئة الضارة دون الجيدة النافعة. وكذلك القلوب فُطِرَتْ على الصحة، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل مولود يولد على الفطرة" (1)، فهي مع السلامة لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا تسكن إلا إليه، ولا تتألَّه إلا إياه، وافتقارها إلى معرفته وذكره وعبادته لا يشبهه شيء من الأشياء. فماذا قلنا: كافتقار الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الماء، والمغتلم إلى الجماع، كان ذلك كله تمثيلاً ناقصًا. وكما أن هذه المفتقرات إلى هذه الأمور تفسد إذا لم يحصل ما يصلحها، ففساد النفوس إذا لم تعرف الله وتحبّه وتعبده أعظم بكثير كثير، وهذا حال كل من في السموات والأرض من الملائكة والجن

_ (1) أخرجه البخاري (1358) ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة.

والإنس، لا يجوز أن يصلح حالهم إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمالَ محبته وكمالَ الذلّ له، فإن العبادة تجمع كمال الحب وكمال الذلّ، وهذا شأن المراد لذاته المقصود لذاته، وكلّ ما سواه فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا يكون هو مرادًا محبوبًا لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو أكمل منه، بل هو معبود له. والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبًا، والتابع لغيره محبوب لذاته، والمتبوع محبوب لغيره. وهذا الأصل هو أصل أصول الشرائع والملك، فإن الرسل جميعهم إنما بعثوا لأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وكما أنه مبرهن بالمعقول والقياس والنظر، فهو أيضًا معروف بالوجد والإحساس والذوق، فإن العبد يحس من قلبه فقرًا ذاتيًّا إلى ذكره وعبادته، غير فقره إليه من جهة إعطائه سُؤلَه، وجلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فإن الفقر إليه من هذا الوجه هو أظهر في الابتداء، ولكن الإنسان يجد نفسه إلى أي موجود توجه بقلبه وذكره، لا يجد الطمأنينة ولا السكينة حتى يذكر الله ويُوجّهَ قلبه إليه، فإنه يجد الطمأنينة والسكينة فلا يبقى عنده منازعة إلى شيءآخر. فكما أن السائل الداعي الراغب في قضاء حاجته إذا توجّه إلى الله بصدقٍ اطمأنَّ طمأنينة من وصل إلى من نال منه المطالب والحاجات، فكذلك المريد المحب [السائل] (1) لما يطمئن إليه إذا توجه إلى الله

_ (1) بياض في الأصل بمقدار كلمة.

- الرد على الفلاسفة في جعلهم غاية سعادة النفوس نيل العلم فقط، وكمال الإنسان التشبه بالخالق

بصدقٍ، اطمأنَّ طمأنينة من حصَّل بُغْيَته ووجد محبوبَه ومألوهَه وطَلِبَتَه، وهذا الأصل إنما يستقر لأهل المِلَلِ أتباع ملة إبراهيم، أهلِ الحنيفية، فأما غيرهم فلا، حتى المتفلسفة الإلهيونَ ومن سلك سبيلهم من أهل الملل مع دعواهم أنهم حققوا المعارف اليقينية والحكمة الحقيقية، وقالوا: سعادة النفوس كمالها علمًا وعملاً، هم من أبعد الناس عن هذا، وذلك أن عندهم غاية سعادة النفوس نيل العلم فقط، وحقيقة العلم بالكليات التي لا وجود لها في الخارج كليات، والوجود الذي يثبتونه لواجب الوجود هو من هذا النمط. ويقولون: غاية الإنسان أن يصير عاقلاَ معقولاً موازيَا للعالم الموجود. ويقولون: كمال الإنسان أن يتشبه بالخالق بحسب الإمكان. وقد سلك نحوَا من سبيلهم أبو حامد في "المقصد الأسنى (1) في شرح الأسماء الحسنى"، وهم يزعمون أن الأفلاك إنما تتحرك للتشبيه في قوتها، وهم في هذا ضالون من وجوه: أحدها: جعلهم غاية العبادة مجرد العلم، والنفس لها قوة العلم وقوة الحب والإرادة، فإذا حصل مجرد العلم من غير معلوم محبوبِ مراب لذاته فسدت النفس، فكيف يكمل مجرد ذلك؟

_ (1) في الأصل: "القصد". وانظر "المقصد الأسنى" (ص 45 - 58) حيث ذكر أن كمال العبد وسعادته في التخلق باخلاق الله تعالى والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه.

- الكلام على حديث "تخلقوا بأخلاق الله"

ومن هنا تجدهم معرضين عن العبادات، بل مستخفين بأهلها، وقد يظنون أن الرسل إنما أمروا بحفظ قانون يُستعان به على نيل الحكمة النظرية (1) فقط، كما ذكر ذلك من ذكره من متفلسفة المسلمين واليهود وغيرهم. وأما الرسل فأول دعوتهم الأمر بعبادة الله، ولهذا كان نهاية المتفلسف أول قدم يدخل به الإنسان في الإسلام. الوجه الثاني: أنهم جعلوا المعلوم الذي تكمل به النفوس هو العلم بالمجردات التي عند التحقيق لا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. فاما الموجودات الخارجية فهم لا يعلمونها بأنفسها، ولا يعترفون بالله ولا ملائكته، وإنما يقرون بوجودِ مطلقٍ بشرط الإطلاق لا حقيقةَ له في الخارج. الثالث: جعلهم غاية كمال الإنسان التشبّه بالإله، وأن المتحركات العلوية إنما تتحرك للتشبُّه بمن فوقها، مع أنهم أشد الناس إنكار، للتشبيه، وأدخلهم في التعطيل، [فينكرون] (2) من التشبيه ما يخلقه الله، ويدعون من التشبيه ما يفعلونه بكسبهم. وقد استدل أبو حامد (3) بحديث ذكره مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تخلَّقوا بأخلاق الله " (4).

_ (1) في الأصل: "والنظرية". (2) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة. (3) في المقصد الأسنى (ص 150). (4) حديث لا أصل له قال ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 341): باطل، وانظر الضعيفة (2822).

وأنكر أبو عبد الله المازري وغيره ذلك، وقالوا: ليس للرب خلق يتخلق به العبد. وتحقيق هذا في موضع آخر. وذكر هذا أبو طالب المكي، وأنكره عليه الشيخ أبو البيان الدمشقي، فيما أنكر عليه. الرابع: أن هذا القدر في ثبوته نزاع مذكور في غير هذا الموضع، كما قرره أبو حامد وغيره، فليس الكمال والسعادة في أن يقصد العبد التشبّه بالرب فقط، بل أن يقصد عبادته، فإنه بدون أن يكون معبودًا له مقصودًا، يفسد حاله، فلا تكون له سعادة بحال، وإذا عبده مع نقيض اتصافه بصفات الكمال حصل له من السعادة بقدر ما عبده، فإذا اتصف مع ذلك بما يحبه الرب كانت سعادته أكمل، وجميع ما في العباد من صفات المدح والكمال التي يوصف الرب بالكمال المطلق فيها كالعلم والرحمة والقدرة ونحو ذلك، إنما يصير صاحبها سعيدًا كاملاً نائلاً سعادته إذا قصد المقصود المعبود لذاته، فأما بدون ذلك فلا سعادة له أصلاً. فمثل هذه الصفات من توابع الكمال والسعادة ومكملات ذلك، وأما عبادة المعبود المقصود لذاته فإنه من لوازم السعادة والفلاح، لايتصور وجود السعادة والفلاح بدون ذلك. فالمتحركات العلوية جميعها حركاتها عبادة لله، كما وصف الله بذلك الملائكة وغيرهم، وقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم قال (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) (1)، فبيّن بذلك أنه ليس

_ (1) سورة الحج: 18.

المراد بالسجود مجرد دلالتها على الخالق وشهادتها، بل إن الحال له فإن هذا يشترك فيه جميع الناس (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)) (1)، وقال تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)) (2). ولهذا عدل أبو الحكم بن بَرَّجان في شرحه للأسماء الحسنى من لفظ التخلق والتشبه إلى لفظ التعبد، فصار يذكر معنى الاسم واشتقاقه، ثم الاعتبار إثبات مقتضاه في المخلوقات، ثم تعبد العبد بما شرع له من مقتضاه. فقد تبيّن بذلك أنه لا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات مقصوداً لنفسه، لا مقصوداً له ولا مقصوداً لغيره، وأن ذلك مستلزم لكون شيء من المخلوقات لا يكون ربًّا بنفسه، لا ربّا لنفسه ولا ربّا لغيره. لكن هذا ممتنع الوقوع كما اعترف به المشركون. وأما الأول فهو محرم الوقوع، بمعنى أنه إذا وقع كان فيه فساد، لكون الحركات إلى غير غاية نافعة، بل إلى غاية ضارة، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (3)، ولم يقل: عُدِمَتا، إذْ لو جاز أن يشرع أن تكون المخلوقات آلهة مقصودة معبودة لذواتها لزم من

_ (1) سورة فصلت: 38. (2) سورة ص: 18، 19. (3) سورة الأنبياء: 22.

- الاستدلال بالحركات السماوية على وجود الرب وعلى أنه الإله المعبود

ذلك تجويز عبادة كل شيء، وتجويز كل فعل وكل قصد، وذلك مستلزمٌ فساد السموات والأرض، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (1)، فإذا لم يكن الدين لله فتكون حركات العباد لغير الله، كانت الفتنة والفساد، فالصلاح أن تكون الحركات لله، والفساد أن تكون لغير الله، وهذا- والله أعلم- من أحسن الأمور، لكنه يحتاج إلى بسط وإكمال. ولهذا يستدل بالحركات السماوية على وجود الرب وعلى أنه هو الإله المعبود، فإن الحركة تستلزم وجود مبدأ هو السبب الفاعل، وغاية هي المنتهى المقصود، والمقصود بتلك الحركات لو كانت المتحركات يقصد بها غير الله لزم الفساد في المتحركات. كما بيناه في أنه متى قدر أن يكون المخلوق مقصودًا لذاته لزم الفساد، ومعلوم أن الحركات السماوية جارية على انتظام لا فساد فيها، فعُلِمَ أنها عائدة بهذه الحركات لله قاصدة له، كما دلّ على [ذلك] الكتاب والسنة، لا كما يقوله المشَّاؤون من الفلاسفة أن ذلك لاستخراج الأيُون والأوضاع، فإن ذلك من أفسد الكلام. وأما المبدأ فقد عُلِمَ أن الحركة ليست طبيعية، لأن تلك إنما تكون إذا خرج المتحرك عن مستقره، وذلك إنما يكون في الحركات المستقيمة، فأما إذا كان المطلوب من جنس المتروك امتنع أن يكون تاركًا لأحدهما طالبًا للَاخر، فعُلِمَ أن الحركة إرادية.

_ (1) سورة الأنفال: 39.

والحركة الصادرة عن إرادة إما أن تكون الإرادة أحدثها ذلك المتحرك أو غيره من المخلوقات، لا يجوز أن يكون هو المُحدِث لها، ولا غيره من المخلوقات، لأن إحداثه لها يجب أن يكون بإرادة، فيلزم الدور والتسلسل، فوجب أن تكون تلك الإرادة المقتضية للحركة حدثت بإرادة من الله، وهذا هو المقصود. وأيضا فمن المعلوم أن كل واحد من ذوي الحركات المختلفة السماوية له حركة تخصه، فلا يجوز أن تكون حركة أحدهما بحركة الآخر، كحركة الشمس والقمر الخاصتين بهما، فتبين أنه ليس بعضها خالقًا لبعضٍ ومُحدِثًا لحركتِه، فيكون المُحدِث لذلك غيرها، وهو المقصود. ولا يجوز أيضا أن يكون المحدث لذلك هو الفلك الأعلى وحركته، لأنها حركة واحدة بسيطة متشابهة الأجزاء، ولو كانت هي المُحدِثة لما سواها لوجب أن تكون جميع الحركات من جنس واحد بسيطة، ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، وهذا يبين أن حركات الأفلاك والكواكب الحركات المختلفة ليست صادرة عن الفلك، فعُلِمَ أن المحرِّك لها غير الفلك، وإذا ثبت أن المحرك لها غير الفلك التاسع، ثبت وجود موجود غير الفلك التاسع يكون مبدأ الحركات. ومعلوم أن حركة الفلك التاسع من جنس هذه الحركات، بل الفلك من جنس هذه الأفلاك، فإذا كانت هذه محدَثةً مخلوقة امتنع أن لا يكون الفلك التاسع وحركته محدثة مخلوقة، لأن القديم الواجب الوجود لا يكون مثل المخلوق المحدث، ولأن الفلك التاسع لو كان

وحده قديمًا واجبًا- وهو أيضا محرك للأفلاك، ولهذا أيضًا حركته من غيره- لكان في الأفلاك محرِّكانِ كل منهما قديم واجب الوجود، فإن اختلفا في الإرادة لزم تضادُّ الحركات والتمانع، وهو خلاف الواقع. وإن اتفقا في الإرادة لزم اتفاقهما في الفعل، والاتفاق في الفعل يوجب أن لا يكون أحدهما فاعلاً له مستقلاًّ به، لا هذا ولا هذا، وإذا كان ذلك يوجب عجز كل منهما عن أن يكون فاعلاً- والعاجز يمتنع أن يكون قديمًا واجب الوجود خالقًا- امتنع أن يكون الفلك كذلكْ.

(5) فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير

فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح

- الكلام على حديث "من أخلص لله أربعين صباحا ... "

فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح. وهذا المعنى قد تكلمنا عليه مرارًا في القواعد المتقدمة وغيرها، وفي مراسيل مكحول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من أخلصَ لله أربعين صباحًا تفجرتْ ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه " (1)، هكذا رواه الإمام أحمد فيما رواه عنه المروذي في الإخلاص ونحوه من أعمال القلوب. وقد روي هذا- فيما أظن- من حديث يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف ساقط. ولهذا ذكر أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات" (2)، وطعن على الصوفية الذين جعلوه عمدتهم فيما يفعلونه من الخلوة أربعين يومًا، وأبو الفرج فيما ينكره على الصوفية في مثل "تلبيس إبليس" ونحوه، قد شاركه طوائف في إنكار ما أنكره، وكلّ من المُنكِرين والمُنكَر عليهم مجتهدون، لهم علم ودين، والصواب تارة يكون مع هذا الطرف، وتارة يكون كل منهما مصيبًا من وجه مخطئًا من وجه، فيقتسمان الصواب والخطأ، ويكون الصواب

_ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (13/ 331) وهناد في الزهد (678) وأبو نعيم في الحلية (10/ 70) عن مكحول مرسلاً. وإسناده ضعيف، انظر "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص 395). (2) "الموضوعات" (3/ 144، 145).

تارة في غير ما عليه الطائفتان المتقابلتان، وهذا في مواضع كثيرة، ولعل هذا منها. فأما الطعن في الإخلاص لله أربعين صباحًا فهذا ليس بسديد، فإن نفس الإخلاص وكونه أصل كل خير قد دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه الأمة، وسنذكر من ذلك ما شاء الله. وأما توقيته بأربعين ففيه هذا الحديث المرسل، ولكن لم يذكره أبو الفرج، فما أظنُّه بلغَه، ورآهم اعتمدوا حديثًا ضعيفًا، فكثيرًا ما يعتمدون على أحاديث واهية. ثم مراسيل مكحول فيها نظر، وفي الاستدلال بالمرسل نزاع، لكن يُقال: المرسل إذا عَضَدتْه أدلة أخرى استدل به. والأربعين فيها يتحول الإنسان من حال إلى حال، كما ثبت في الصحيحين (1) من حديث [ابن مسعود]، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُجمَعُ خَلْقُ أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يُنفَخ فيه الروح ". ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن (2): "مَن شرب الخمر لم تُقبَل له صلاةُ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم

_ (1) البخاري (7454) ومسلم (2643). (2) أخرجه أحمد (2/ 35) والترمذي (1862) من حديث ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي نحو هذا عن عبد الله بن عمرو وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

- وجه التوقيت بالأربعين في الحديث

تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تُقبل له صلاةُ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا على الله أن يَسقِيَه من طِيْنةِ الخَبال ". وفي صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أتى عَرَّافًا فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاة أربعين يومًا". ومثل هذا كثير، وقد جمع الحافظ عبد القادر الرُّهاوي في أول كتابه في الأربعين حديثاً أربعين بابًا، في كل بابٍ حديثٌ فيه ذِكرُ الأربعين. فإخلاص أربعين يومًا له شواهد في أصول الشريعة، لكن الخلوة المعينة قد يشترطون فيها شروطًا مبتدعة خارجة عن المشروع، بل منهيًّا عنها، مثل اشتراط الصمت الدائم، والجوع الدائم، أو السهر الدائم، أو طعامًا مُعيَّنَ القدر والوصف، واشتراط شيخ يُدخِلُه الخلوة، وتسمية ذلك خلوة، ومثل ترك الصلاة في جماعة، وبعضهم قد يترك الجمعة. وبالجملة فالمشروع من هذا الباب هو الاعتكاف الشرعي الذي كان يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة، وأما ما كان يفعله بحِراءَ قبل المبعث، فلسنا مأمورين باتباع ذلك، فإنه من حين بُعِثَ إلى الخلق وجب على الخلق كلهم طاعته واتباعه، والعبادة بما شرعه بعد المبعث دون العبادة التي لم يشرعها هو، ولو أراد أحد أن يفعل بغار حراء ما

_ (1) برقم (2230) عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

- إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى

كانوا يفعلونه فى الجاهلية من المجاورة فيه، وترإو الجمعة والجماعة، لنُهِيَ عن ذلك. وقد كانوا في الجاهلية، كما قال أبو طالب في قصيدته الطويلة (1): وراقٍ ليَرقَى في حِرَاءٍ وَنَازلِ والمقصود هنا بيان ما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع من أن إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى. وفي الحديث حكاية بلغَتْنا لا أعلم إسنادها هو ثابت أم لا، لكن المعنى المقصود منها صحيح، وهو أن أبا حامد الغزالي قال: لما بلغني هذا الخبر أخلصتُ أربعين صباحًا، فلم أجد شيئًا، فذكرت ذلك لبعض شيوخ أهل المعرفة، فقال لي: يابُنيَّ، إنك لم تخلص لله، وإنما أخلصتَ للحكمة. فإن هذا المعنى حق، وهو أن الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول، ثم الحكمة وغير ذلك يتبع ذلك، لا أن يكون غيره هو المقصود بالقصد الأول، ويجعل قصد الله وسيلة إلى ذلك. وإن كان الناس قد يؤمرون بما يؤمرون به من الطاعة والعبادة لأمور أخرى تكون هي، مطلوبهم ومقصودهم، بل قد ينازع الناس في

_ (1) في سيرة ابن هشام (1/ 272). وصدر البيت: وثور ومن أرسى ثَبِيْرًا مكانَه

- الرد على من أنكر حقيقة المحبة لله

أنه هل يمكن أن يكون الله سبحانه هو المقصود المراد بالقصد الأول، بحيث يُراد لذاته فيُحَبُّ لذاته؟ فذهب طوائف كثيرون من أصناف المتفقهة والمتكلمة وغيرهم إلى امتناع ذلك، وأنكروا أن يكون الله محبوبًا لذاته، وهذا هو المشهور من قول المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمة والجهمية والفقهاء وغيرهم، ولم يجعلوا المقصود بالقصد الأول- وهو الغاية التي يطلبها العباد- إلا ما يحصل من تنعمهم بالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، مما وُعِدُوا به في الجنة، وجعلوا جميع ما أمروا به من العبادات والطاعات تكاليفَ إنما تُفعَلُ لتحصيل هذه الغاية المطلوبة. وهؤلاء ينكرون أن يتنعم في الدنيا بعبادته وفي الاَخرة بالنظر إليه، بل قد ينكرون أن يتنعم بذكره ورحمته، اللهم إلا من جهة لذة جنس العلم الذي لا يمكن أن ينكرها من وجدها. وقد وافقهم على إنكار حقيقة المحبة لله وتوابعها طوائف من أصحاب الأئمة الأربعة. وأول من أنكر حقيقة المحبة لله الجعد بن درهم، الذي ضَحَّى به خالد بن عبد الله القَسْري بواسط في خطبة يوم الأضحى، وقال: "أيها الناس ضَحُّوا تقبَّلَ الله ضحاياكم، فإني مُضَح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا". ثم نزل من المنبر فذبحه (1). فإنكار حقيقة الخُلَّة هو إنكار حقيقة المحبة. وهؤلاء ينكرون أن

_ (1) أخرج هذه القصة البخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 7) وغيره.

- من أثبت الرؤية وأنكر التمتع بها

يُحِبَّ وأن يُحَبَّ، ويتأولون ما ورد في ذلك على أنه يحب طاعته وعبادته، وهو يريد الإحسان إلى عبده. وأما من وافقهم وأثبت الرؤية، فقد ينكر- إن صحت الرؤيةُ- التمتعُّ (1) بها، كما ذكر ذلك أبو المعالي في "الرسالة النظامية"، وذكر أنه من أسرار التوحيد، وزعم أن المحدَث لا يتمتع بالقديم، ولكن يخلق الله مع الرؤية لذةً بشيءآخر. وكذلك قال ابن عَقِيل لرجل سمعه يقول: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال: ويحك! هب أن له وجهًا، أتتلذذ بالنظر إليه؟ ومعلوم أن الدعاء النبوي قد ورد بهذا اللفظ في حديث عمار بن ياسر، وكذلك غيره- فيما أظن- والحديث في المسند والنسائي وغيرهما (2)، وفيه: "اللهم بعلمك الغيبَ، وقدرتك على الخلق، أَحْينى ما كانت الحياة خيرًا لي، وتَوَفَّني ما كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسَألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، والقصدَ في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لاينفد، وقرةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ".

_ (1) في الأصل:"نصحت الرؤية تمتع". (2) هو في المسند (4/ 264) وسنن النسائي (3/ 54) من حديث عمار بن ياسر، وأخرجه أحمد في المسند (5/ 191) والطبراني في المعجم الكبير (4932) والحاكم في المستدرك (1/ 516) من حديث زيد بن ثابت.

وأما المتفلسفة فالذي يعترفون به هو لذة العلم أيضًا فقط، إذ رؤيته عندهم بالعين ممتنعة، وكل من تكلم في لذة النظر والمشاهدة والتجلي ونحو ذلك من متصوفة المتفلسفة، فكلامه يعود إلى ذلك، وهو دونه، فإنه لا يثبت قدرًا زائدًا على ما أثبته المعتزلة، بل لا يكاد يصل إليهم، ولكن يُمَوِّهون بالتعبير على المعاني الفلسفية بالعبارات الإسلامية، وإلا فهم في الرؤية والمشاهدة لا يُجاوزون قول المعتزلة حيث يفسرونها بنوع من العلم. وفي كلام أبي حامد وأمثاله من ذلك أصناف، والفارابي. ومن تدبر كلام الفلاسفة كابن سينا ونحوه، وجد ما يثبتونه من اللذات العقلية إنما هو لذة العلم بالموجود من حيث هو موجود، لا اختصاص للرب بذلك، اللهم إلا من حيث يولد وجوده، وغايته تلذذ بامور كلية حاصلة في ذهن العالم لا وجود لها في الخارج، لا سيما إذا قالوا: إن النفس الناطقة لا تُدرِك المغيبات التي يسمونها الجزئيات، وإنما تُدرِك الكليات، لا سيما بعد المفارقة. والكليات لا تكون كليات إلا في الذهن، فلا تكون لذة النفس عندهم إلا بأمور مقيدة فيها متصلة بها، لا بعلم شيء موجود في الخارج عنها. وهذا في غاية البعد عن الحق، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وإنما هو إثبات النعيم بأمور مقدرة في الذهن، ولهذا كان الاتحادية وهم من خلاصة جَهْم، لا ينكرون اللذة بالمشاهدة، كما ذكر ذلك ابن العربي الطائي في بعض كلامه (1) أن المشاهدة ما التذَّ بها

_ (1) فى الفتوحات المكية (1/ 610).

- مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك

عارف قط. وأما أهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ومشايخ أهل التصوف والحديث، فلا ينكرون حقيقة محبة الله أصلا، وهؤلاء هم الباقون على ملة إبراهيم خليل الرحمن الذي قال الله تعالى فيه: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (1)، وعلى أصل هؤلاء فيظهر أن يكون الله هو المقصود بالقصد الأول، المحبوب المطلوب لذاته. يبقى أن يقال: فالحب والإرادة فرع (2) الشعور، فكيف يكون هذا هو الأصل، وهو مسبوق بطلب وإرادة، وذلك مستلزم لحب؟ فلا بد أن يكون قد أحب شيئًا ما حتى أداه ذلك إلى هذه المعرفة المستلزمة محبةَ الله وقصدَه لذاته؟ فيجاب عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن كون الإقرار بالله لا يكون إلا نظريًّا، إنما قاله طوائف من أهل الكلام كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وليس هذا قول سلف الأمة وأئمتها، ولا قول مشايخ التصوف ومشايخ أهل الحديث، ولا قول جميع أهل الكلام، بل طوائف كثيرة من أهل الكلام والنظر قد يقولون: إنها لا تكون نظرية بحال، بل لا تكون إلا ضرورية. والتحقيق أنها فطرية ضرورية، ولكن قد يحصل لبعض الفطر ما يُفسِدها، فيحيلنا إلى نظر، كما يقرن النظر بالضرورة، كما قال النبي

_ (1) سورة النساء: 125. (2) في الأصل:"قربه".

- الحب يتبع الشعور

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل مولود يولد على الفطرة- وفي لفظ: على هذه الملة، وفي لفظ: على فطرة الإسلام- فابواه يُهوّدانه ويُنصِّرانه ويُمجّسانه، كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةَ جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1). وذلك قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) (2). الوجه الثاني: أن الحب يتبع الشعور، فإذا شعر بالحق مجملاَ أحبه مجملاَ، وإذا شعر به مفصلاَ أحبه مفصلاَ، لا بد من الشعور به ومحبته ولو مجملاَ، وإن لم يكن ذلك أصل مقصوده كان معلولاَ، فإن من كان مطلوبه الحق من حيث هو حق، غير متبع لهواه المخالف للحق، فإنما مقصوده في الحقيقة هو الله، فإنه الحق المحض، إذ كل مخلوق فإنما قِوامُه به، وبه صار موجودًا، ثم إنه قد يشعر أولاَ بموجود قديم، أو موجود واجب، إذ الوجود شاهد بأنه لا بد فيه من قديم واجب، إذ يمتنع أن يكون الوجود كله مُحدَثَا ممكنًا، فإن ذلك لا يكون بنفسه، وهذا من أوضح المعارف الضرورية، فالإقرار بموجود

_ (1) سورة الروم:30. والحديث سبق تخريجه. (2) سورة الروم: 30 - 32.

- معنى قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)

قديم واجبٍ أمرٌ ضروري فطري في النفوس كلها. ولهذا تجد جميع الأمم معرفةً بالله فطريةً، فإن أخطأ بعضهم عينَه فاعتقده غير ما هو، فالمقصود الأول هو الله، والقلب مفطور على الحنيفية التي هي الإقرار بالله وعبادته المتضمنة معرفته ومحبته. ولكن قد يَعرِضُ للفطرة ما يغيرها، وإذا كان كذلك، فقد دلّ الكتاب والسنة- في غير موضع- على أن من كان هذا مقصوده، وكان مجتهدًا في ذلك، فإنه يحصل له الهدى، وأن من اتبع هواه فلم يكن الحق مقصوده، ضلّ عن سبيله، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (1)، فإن المجاهد في الله لا بد له من شيئين: أحدهما: محبة الله وإرادته المستلزمة بُغْضَ عدوه. والثاني: الاجتهاد في دفع ما يبغضه الحق ويكرهه، بقهر عدوه، ليحصل ما يحبه الحق ويرضاه بعلو كلمته، وأن يكون الدين كله لله. فالمجتهد في تحصيل محبوبه ودفع مكروهه، هو المجاهد في سبيله، وهو الذي استفرغ وُسْعَه في ذلك حتى جاهد أعداءه الظاهرين والباطنيين، فيجتمع في المجاهد في سبيله شيئان: كمال القصد، وكمال العمل. فالأول: أن مقصوده هو الله، فهو معبوده ومحبوبه. والثاني؟ أنه يستفرغ مقدوره في تحصيل هذا المقصود.

_ (1) سورة العنكبوت: 69.

- الرد على قول الاتحادية: إن الرب هو العالم نفسه

فهذا يُهدَى سُبُلَ الله. وهذا مجرب في سائر المحبوبات، فكل من أحب شيئًا محبة شديدة ولَّد له شدةُ المحبة طُرقَ تحصيل المحبوب، وطُرقَ المعرفة به. وكذلك من أبغض شيئًا بغضًا شديدًا، ولَّد لهُ شدةُ البغضِ طُرُقَ دفعه وإزالته، ولهذا يُقال: الحبُّ يَفتِقُ الحيلة، كما يُقال: الحاجة تَفِتقُ الحيلة. فإن المحتاج محبّ لما احتاج إليه محبةً شديدة. وإنما يُوقع النفوسَ في القبائح الجهلُ والحاجةُ، فأما العالم بقبح القبيح الغني عنه فلا يفعله، قال الله تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) (1)، وقد قال في ضد هؤلاء: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)) (2)، فبيّن أن اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله، فمن اتبع ما تهواه نفسه أضلّ عن سبيل الله، فإنه لا يكون الله هو المقصود، ولا المقصود الحق الذي يوصل إلى الله، فلا قَصَد الحق، ولا ما يوصل إلى الحق، بل قصد ما يهواه من حيث هو يهواه، فتكون نفسه في الحقيقة هي مقصوده، فيكون كأنه يعبد نفسه، ومن يعبد نفسه فقد ضلّ عن سبيل الله قطعًا، فإن الله ليس هو نفسه. ولهذا لما كان حقيقة قول الاتحادية: إن الرب تعالى هو العَالَم نفسه، لا يميزون بين الرب الخالق وبين المخلوق المربوب، بل كل

_ (1) سورة الشورى: 13. (2) سورة ص: 26.

موجود فهو عندهم الرب العبد، كان حقيقة قولهم إنكار محبة الله ومعرفته وعبادته. فجعلوا المعبود بذاته إنما هو الهوى، كما قال صاحب الفصوص "فصوص الحكم" ابنُ عربي: "وكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلّط موسى عليه، حكمةً من الله ظاهرة في الوجود، ليُعبَد في كل صورة، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد أما، تلبَّستْ عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا عُبِدَ، إما عبادةَ تألُهٍ، وإما عبادةَ تسخير- إلى أن قال- وأعظم محل فيه عُبدَ وأعلاه الهوى، كما قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (1) فهو أعظَم معبود، فإنه لا يُعبَدُ شيء إلا به، ولا يُعبَد هو إلا بذاته " (2). وهذا جهل منه حيث قال: "لا يُعبَدُ إلا بذاته"، فإن الهوى نفسه إن عُنِيَ به المَهْوِيّ، فكل ما هُوِيَ فهو هَوى، فإذن كل ما هُوِيَ فقد هُوِيَ لذاته، فيبطل التخصيص. وإن عُنِيَ به نفس المصدر الذي هو نفس إرادة النفس مثلاً، فذاك هو القصد والإرادة التي تكون عبادة، فكيف تكون العبادة هي المعبود؟ وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا تكن ممن يتبع الحقَّ إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه. فإذن هو لايثاب على ما اتبعه من الحق، ويعاقب على ما اتبعه من

_ (1) سورة الجاثية: 23. (2) فصوص الحكم (1/ 194).

الباطل، وذلك لأنه يكون إنما اتبع هواه في الموضعين، لم يتَّبع الحق لأنه حق. فلما كان اتباع الهوى يُضِلُّ عن سبيل الله أخبر بأن الضلال مع اتباعِ الهوى في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) (1)، وقوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (2) وقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (3) وقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) (4). كما أخبر أن الهدى مع السنة التي هي اتباع سبيله، كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (5)، وقال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (6)، وقوله: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) (7)، وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (8).

_ (1) سورة القصص: 50. (2) سورة الاْنعام: 119. (3) سورة المائدة: 77. (4) سورة الجاثية: 23. (5) سورة النساء: 66 - 68. (6) سورة النور: 54. (7) سورة الشورى: 13. (8) سورة العنكبوت: 69.

- وجه تسمية أهل البدع أهل الأهواء

ولهذا كان السلف يُسمُّون أهلَ البدع أهلَ الأهواء، فإنهم على ضلال، والضلال مستلزم لاتباع الهوى، كما أن الهدى لازم لاتباع سبيله، وهذا الهدى الثاني كما في قوله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)) (1)، قال طائفة من التابعين: لزم السنة والجماعة. ومنهم [من قال:] من عَمِلَ بما عَلِمَ ورثه الله عِلْمَ ما لم يعلم. ومن أخلص لله أربعين صباحًا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. وذلك أن مخلص الدين لله محفوظ من الشيطان الذي يأمر باتباعِ الهوى، كما قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)) (2)، والغي: اتباع الهوى. وقال عنه: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) (3)، فالمخلص لا يُغوِيه، فلا يتبع هواه، كما قال: (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (4)، فصرف عنه الغيَّ لأجل إخلاصه. ولما كان الإخلاص أن يكون الدين كله لله، وعلى هذا أمر بالجهاد، وهذا يوجب الاجتماع والألفة، إذ ذلك هو دين الأنبياء الذي

_ (1) سورهَ طه: 82. (2) سورة الحجر: 42. (3) سورة ص: 82 - 83. (4) سورة يوسف: 24.

- الإنسان له فعل باختياره وإرادته

أُرسِلتْ به الرسل وأُنزِلتْ به الكتب، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"إنا معاشرَ الأنبياء ديننا واحد" (1). قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (2)، وقال في الاَية الأخرى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (3). فصل وإيضاح هذا الكلام أن يقال: الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته، وهذا ضروري له، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" أصدق الأسماء الحارث وهمَّامٌ " (4)، بل وكل حيٍّ فهو كذلك. والفعل الاختياري له مبدأ، وهو الإحسالس والشعور المحرِّكُ للمحبة والإرادة والقدرة عليه، وله منتهى، وهو المقصود المراد المحبوب بذلك الفعل. وقد بينا- فيما تقدم- أن مبادئ الفعل لا يجوز أن تكون من العبد، لأن فعله لها حادث من الحوادث، فلا يجوز أن يَحدُث بنفسه، ولا يجوز أن يحدث فعله بمبادئ فعله، لأنه يلزم أن تكون تلك

_ (1) أخرجه البخاري (3443) ومسلم (2365) من حديث أبي هريرة بمعناه. (2) سورة الشورى: 13. (3) سورة الروم: 30. (4) سبق تخريجه.

المبادئ علةَ فعلِه ومعلولةَ فعلِه، وذلك ممتنع إن كانت هي إياها، وإن كانت غيرها لزم أن يكون فاعلاً لفعله بفعل. وكذلك الفعل بفعل آخر، وكذلك الفعل بفعل آخر، فتحدث تلك الإرادة بإرادة، وتلك الإرادة بإرادة، وهلمَّ جرا. وهذا يُفضِي إلى وجود حوادثَ لا تتناهَى في الإنسان، والإنسان متناهي، ويمتنع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى، فلا بد أن تنتهي تلك الأفعال إلى أسباب خارجة من العبد، وهذا خارج من قولنا، لأنه يفضي إلى التسلسل، فإن التسلسل إن أريد به تسلسل العلل التامة التي يجب وجودها في زمن واحد، لم يجب ذلك. وإن توقف الفعل الثاني على الأول جاز أن يكون من باب الشروط التي يجوز تقدمها، فتكون كوجود حوادث لا تتناهى. وهذا فيه نزاع، فمن جوَّزَه في القديم أو المحدث لم يصح أن يبطل التسلسل فيه. ومن لم يُجوِّزه يرد عليه سؤالات مذكورة في غير هذا الموضع. وإن شئت أن تقول: لأن الفعل القريب إما أن يكون مفعولاً عن الفعل الذي قبله بحيث يكون كل فعلِ علةً لما بعده أو شرطًا، فإن كان علة لزم وجودُ إرادات وأفعال لا تتناهى في زمان واحد، والإنسان يعلم بحسِّه وعقلِه أن الأمر بخلاف ذلك علمًا ضروريا. وإن كان شرطًا لزم ما لا يتناهى على التعاقب، وهو إما أن يكون ممتنعًا فيما يتناهى، وإن شئت أن تقول: التسلسل في الإنسان ممتنع، لأنه مستلزلم وجودَ ما لا يتناهى في زمن واحد، أو في أزمنةِ لا تتناهى في حق الإنسان، وذلك ممتنع في الوجهين. وهذا السؤال يَرِدُ على أبي عبد الله الرازي، فإنه يقرر خلق فعل

العبد بشبيهِ هذا، لكن لا يبين امتناعَ التسلسل اكتفاءً منه بما قرر في حدوث العالم، وذلك متنازع فيه بين المسلمين وغيرهم، أو لظهور ذلك في حق العبد، وهو يقرره بالإمكان، وتقريره بالحدوث أظهر. وقد ذكرنا غير مرة أن ما دلّ على حدوث الحوادث المشهودة وأنها خلقٌ لله، يدلّ على ذلك في أفعال العبد، لا فرق بين أفعاله وسائر صفاته. والمقصود هنا الطرف الثاني، وهو أن ذلك الفعل لا بد له من منتهى هو المحبوب المقصود المطلوب به. فنقول: كما أن العبد يُوجَد فعله تارة ويُعدَم أخرى، ففعله الموجود بإرادته قد يريد به ما يصلحه وينفعه تارة، وقد يريد به ما يفسده ويضره أخرى، وذلك لأنه إما أن يصلح له أن يفعل كل ما يهواه ويحبه ويريده من الأفعال، فيقصد ويعبد ويطلب كلّ ما يهواه، أو لا يصلح ذلك إلا في بعض الأمور دون بعض. والأول باطل، لأنه إذا فعل كل شيء يهواه ويحبه لزم وقوع الفساد المستلزم لنقيض ما يحبه ويهواه، بل لو وقع في الوجود كل ما يهواه كل إنسان لزم فساد العالم، كما قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) (1)، وذلك أن أهواء النفوس ليس لها حدّ تقف عنده إذا أعطيت القدرة، بل هذا يهوى أن يغلب هذا فيقتله أو يأخذ ماله أو رئاسته، وهذا كذلك، وهذا يهوى أن ينال ما

_ (1) سورة المؤمنون: 71.

- الدين والشرع ضروري لبني آدم

اشتهاه من الفروج والصور، وهذا يهوى ذلك، فيلزم فساد الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وهذا يهوى أن يُعظَّم ويُعبَد من دون الله حتى لا يفعل أحد مصلحته، بل لا يفعل إلا ما يهواه، وهذا كذلك. ْوأمثال هذا مما يطول عدُّه. وما من عاقل إلا ويعرف ذلك. ولهذا اتفق العقلاء على أن بني آدم لا يعيشون جميعًا إلا بشرع يستلزمونه ولو بوضع بعض رؤسائهم، يفعلون ما يأمر به، ويتركون ما ينهى عنه، فإن تركهم بدون " ذلك مستلزم أن يفعل كل قادر منهم ما يهواه، وذلك يمنع بقاءهم، ويوجب فسادهم وهلاكهم، لأن أهواءهم وإراداتهم إذا لم تتعاونْ وتتناصرْ فإنها تتهاون تارة، وتتمانع تارة، وتتخاذل تارة، فإذا تهاونت فلم يُعِنْ هذا هذا، ولا هذا هذا، عجزوا عن مصالحهم التي لا بد لهم منها، فوقع الفساد، وإن تخاذلت فلم ينصر هذا هذا، ولا هذا هذا، لزم أن يستولي عليهم الحيوان الناطق والبهيم، بل ومن المؤذيات الجامدة ما يفسدهم ويهلكهم. وإذا تمانعت فلم يُمَكِّن هذا هذا من فعل ما يصلحه، ولم يُمكِّن هذا هذا من فعل ما يصلحه، لزم عجزهم عن جلب المنافع ودفع المضار. وإذا تغالبت فغلب هؤلاء هؤلاء تارة، وهؤلاء هؤلاء تارة، لزم فساد كل فريق إذا غُلبوا، بل وإذا غَلبوا أيضًا، إذا لم يكن لهم شرع يعتصمون به في تقاسم نفوس الأعداء وأموالهم، وأمثال ذلك. وبهذا وأمثاله يتبين أن الدين والشرع ضروري لبني آدم، لا يعيشون بدونه، وقد بسطناه في غير موضع، لكن ينقسم إلى شرعِ غايته نوع من الحياة الدنيا وشرع فيه صلاح الدنيا فقط، وشرعٍ فيه صَلاح

- اتباع الهوى يستلزم الفساد والضرر

الدنيا والاَخرة، ولا يتصوَّر شرعٌ فيه صلاح الاَخرة دون الدنيا، فإن الاَخرة لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمة لصلاح الدنيا، وصلاحها غير التناول لفضولها. وإذا تبين أن الإنسان لو فعل ما يريده ويهواه لزم الفساد والضرر المنافي لما يحبه ويرضاه، فإن المحبوب بالقصد الأول هو ما يصلحه وينفعه، فإذا كان فعله ما يهواه يستلزم وقوعَ ما يضره وخلافَ ما يهواه، كان وجود هذا مستلزمًا لضده ونقيضه في العاقبة، فلا يصلح أن يكون ذلك مقصودًا، لما فيه من الضرر والفساد المخالف للمقصود بالقصد الأول، ولأن كونه مقصودًا ينافي كونه مقصودًا، فإنه إذا فعل ما يحبه لمقصوده حصلَ المحبوب، فإذا كان حصول هذا المحبوب يستلزم نفي المحبوب ووقوعَ المكروه صار وجود هذه الغاية المقصودة مستلزمًا نقيضَ هذه الغاية وضدَّها، وما استلزم وجودُه عدمَه ووجودَ ضدِّه امتنع أن يكون علة غائية أو علة فاعلية أو غير ذلك. كما أن في العلة الفاعلية لو كانت إرادته حادثة بلا فاعل للزم جواز حدوث حادث بلا فاعل، ولو جاز ذلك لجاز أن لا يكون لفعله وغيره من الحوادث فاعل، فيلزم حينئذ جواز حدوث فعله بلا فاعل، فلا يجب أن يكون هو الفاعل له. ومن قال: إرادته حادثة بلا فاعل، قصد بذلك أن يكون هو المحدث لفعله، فإنه إذا جعل لها فاعلاً، صار ذلك هو الخالق لفعله، فصار ما جعله هو المحدث يستلزم أن لا يكون هو المحدث، فلا يكون صحيحًا.

- وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابق معتقداتها

وهنا يصير ما جعل هو الغاية مستلزما أن لا يكون هو الغاية، بل تكون الغاية تقتضيه وضده، فلا يجوز أن يكون هو الغاية. وقولنا: لا يجوز أن يكون هو الغاية، يتضمن شيئين: أحدهما: لا يصلح للعبد أن يعتقد ذلك ويقصده. والثاني: أنه في نفسه لا يقع غاية، أي ما تهواه النفوس وتحبه إذا جعلته النفوس هو غايتها، لم تحصل محبوباتها وما تهواه. فهذا بيان أن هذه الغاية لا تحصل ولا تقع، وهي حصول المحبوب المطلوب. وإن كانت النفوس تفعل لأجلها، فالفعل إذا لم يحصل غايته كان باطلاً، وهي أعمال الكفار. وإن حصل ضدها كان فاسدًا. ولهذا قال الفقهاء: العقد والعبادة الباطلة ما لم يحصل به مقصوده، ولم يترتب عليه أثره شرعًا (1). ولهم في الفرق بين الباطل والفاسد كلام ليس هذا موضعه. فوجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها، فهذا في الأفعال بالنسبة إلى الغاية، فاعتقادُ من اعتقد أنه خالق فعله بالنسبة إلى الفاعل، ووجودُ هذا الاعتقاد لا يمنع أن يكون الخالق غيره، وأنه ليس هو الخالق، وإن أخطأ في اعتقاده. كذلك عملُه لهذه الغاية الفاسدة المتناقضة، لا يمنع أن تكون الغاية

_ (1) في الأصل بعده: "ولهذا قال".

الصحيحة غير هذه، وإن ضلَّ هو في قصد هذه والعمل لها. وإذا تبين أنه لا يمكن أن يكون ما تهواه النفوس هو الذي ينبغي أن يكون مقصودها ومرادها، بل ذلك يستلزم نقيض ما تهواه وتحبه، عُلِمَ بهذا أنه لا يصلح أن تكون الغاية من قصد الفعل وإرادته ومحبته هو كون النفس تحبه وتهواه وتقصده. كما تبين أنه لا يجوز أن يكون ذلك القصد حادثًا عن مجرد النفس، فكما أن مبدأ الفعل والفاعل ليس من الإنسان، فغايته ومقصوده لا يصلح أن يكون في الإنسان، فكما أنه ليس هو المباع لفعله، ليس هو الغاية لفعله، بل لا بد من غاية تكون معِبوده، كما أنه لاِ بد من مبدأ يكون مستعانه، كما قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) فلا يصلح أن يفعل الإنسان لأجل نفسه بمعنى أنها هي المعبود المقصود لذاته بذلك الفعل، فيفعل ما تحبه وترضاهُ مطلقًا، لكن يفعل لأجلها بمعنى أن يفعل ما يصلحها وينفعها، ويجلب لها الخير، ويدفع عنها الشر، وذلك أن يكون مقصوده بالفعل ما يحصل مصلحتها بقصده. وكما أن الإنسان ليس مُحدِثا لفعله بمعنى أنه هو الخالق المُباِع له ولمبادئه المستقل به، ولكن هو المُحدِث لفعله بمعنى أنه فعَله بقدرته ومشيئته واعتقاده، وذلك أنه كله مخلوق لله، فربُّه هو الربّ الخالق لفعله وإن كان هو فاعله، وإلهه هو المقصود المعبود بفعله، وإن كان العبد يقصد نفع نفسه. وكون الرب خالقًا وربًّا للفعل لا يمنع أن يكون العبد فاعلاً كاسبًا

- كون الرب خالقا وربا للفعل لا يمنع أن يكون العبد فاعلا كاسبا له، وكون الرب هو الإله المقصود لا يمنع أن يكون للعبد فيه غاية من المنفعة والصلاح

له، وكذلك كون الرب هو الإله المقصود الذي يستحق ذلك العمل ويحبه ويرضاه ويفرح به، وهو غايته ومنتهاه، لا يمنع أن يكون للعبد فيه غاية من المنفعة والصلاح والخير واللذة. فتدبَّر هذا كله، فإنه جامع نافع، يتبين لك من هذا كون العبد إنما يعمل لنفسه مع كون الرب يستحق ذلك عليه ويطلبه منه طلب المستحقّ المحبّ المريد لما يستحقه ويحبه، كما تبين لك كون العبد فاعلاً حقيقة بقدرته ومشيئته، مع كون الرب هو الخالق لذلك، وهو ربه ومليكه. ويتبين لك أن قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (1)، وقوله: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (2)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (3) ونحو ذلك لا يُنافِي قولَه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (4)، وقولَه: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)) (5)، وقولَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه لا يُشرِكوا به شيئًا" (6).

_ (1) سورة البقرة: 286. (2) سورة النمل: 40. (3) سورة الإسراء: 7. (4) سورة الذاريات: 56. (5) سورة الكهف: 50. (6) سبق تخريجه.

- بيان غلط الصوفية والمتكلمين في هذا الباب

وتبيَّن لك من غضب الله وعقابه على من أشرك به وكفر، ومحبته ورضاه وفرحه لمن أطاعه وأناب إليه وتاب إليه ونحو ذلك. كما تبيَّن لك أن آيات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات المخبرة بأن العباد فاعلون، لا تُنافي آيات القدر المتضمنة أن الله خلق أفعال العباد، فإن كثيرًا من الناس تاهوا في الغايات المقصودة، كما تَاهَ كثير من الناس في الأسباب الفاعلة، ولا بد من توحيد الربوبية بأن يكون الله خالق كل شيء وبأن يكون الله هو المعبود المقصود بذاته بالأفعال لا سواه. ولا يدفع ذلك من إثبات فعل العبد وقدرته ومشيئته واعتقاده، كما أنه لا بد من إثبات انتفاع العبد بالفعل، وأنه يعمل مصلحته ومنفعته، وأنه وإن قصد غيره فمقصده هذا، لأن في كون ذلك مقصودًا معبودًا صلاحه وانتفاعه. فإن الناس يغلطون في هذا، فكثير من الصوفية لا يلحظون هنا إلاَّ (1) غاية الألوهية، ولا يستشعرون أن ذلك منفعة للنفس وصلاحها. وكثير من أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم لا يستشعرون أن لله في ذلك محبة ورضًى وفرحًا، بل لا غاية له إلا ما يعود على العبد. كما أنهم كذلك يتنازعون (2) في السبب الفاعل ما بين قدريَّةٍ مجوس وجَبْرِيَّةٍ نُفاة، ومنحرفو الصوفية يغلب عليهم في الموضعين نفيُ ما في العبد من سبب وغاية، كما أن منحرفي المتكلمين من

_ (1) في الأصل: "الأحاديث"، وهو تحريف. (2) في الأصل: "لا يتنازعون"، وهو خطأ.

- الرد على المرجئة والقدرية في حسن الفعل وقبحه

المعتزلة والرافضة يغلب عليهم نفيُ ما للرب من مبدأ ومنتهى من ربوبيته وإلهيته. وأما المثبتة من الأشعرية ونحوهم، ففي جانب القدر يوافقون الصوفية، وأما في جانب الغاية فقد يوافقون المعتزلة، فتدبر هذا فإنَّه أصلٌ عظيم. وهذا المعنى يستقرُّ في فطر الناس، كما أنه مستقر في فطرهم افتقار العبد في فعله إلى الله، ولهذا يحتملون المكاره طلبًا للمنافع، ويتقون الشهوات طلبًا لما هو أحب منها، ودفعًا لما هو أضرّ من تركها، ويقولون: فِعْلُ ما تهوى يمنعك ما تهوى، وأمثال هذا الكلام. وإنكارُ من أنكر من المرجئة لمعرفة حسن الفعل وقبحه بالفعل يتضمن إنكار هذه الغاية، كما أن إنكار القدرية لكون الله خالق أفعال العباد يتضمن إنكار السبب الفاعل. والفطرة والشريعة تَرُدُّ على الطائفتين، أولئك منعوا غايات الأفعال وعواقبها ومصالحها، وأنه يجب عقلاً الفرقُ بين فعل وفعل، ويجب عقلاً كون هذا الفعل مقتضيًا للمنفعة والصلاح، وهو حُسْنُه، وكون هذا الفعل مقتضيًا للمضرة والفساد، وهو قبحه، لكن ظن الأولون أن الحسن والقبح في حق الخالق والمخلوق قد يكون لذات الفعل، أو لصفة فيه، لا لغاية محبوبة أو مسخوطة، وهذا الظن الفاسد أوقع هؤلاء في نفي التفريق بين الحسن والقبيح، وسلموا الغاية الملائمة والمنافرة، لكن ظنوا أن الحسن والقبح في الشرع بغير المعنى، أو أن له حقيقة وراء هذه، وليس الأمر كذلك، بل الحسن مطلقًا هو الملائم النافع المحبوب

- فساد حال من اتخذ إلهه هواه

المرضي، والقبيح ضد ذلك، وصفات الكمال تعود إلى ذلك. فالحسن والقبح متعلقان بالعلة الغائية مطلقًا، وقد بسطنا هذا في غير موضع، كقاعدة مفردة في غير ذلك. والقدرية لم ينبتوا الغاية كما ينبغي، بل تَخبَّطوا فيها، وإن كانوا من الحسن والقبح بَأصله دون تفصيله الصحيح، ثم عدلوا الله بخلقه تشبيهًا باطلاً مع غلوِّهم في إنكار التشبيه في الصفات، وإن كانوا أثبتوه هنا أصلاً، كما له أصل في الصفات، ولكن جهلوا التفصيل هنا، كما جهلوا هناك الأصل، وأنكروا أن يكون الله نفسه هو الغاية المقصودة، وأنكروا السبب، فأنكروا كونه خالقًا لأفعال العباد (1). وإذا لم يصلح أن يكون هوى العبد هو الغاية المقصودة لذاتها مطلقًا، تبين فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه، ومن عَبَدَ ما استحسن من دون الله، وهؤلاء المشركون المتبعون لأهوائهم المتخذون آلهتهم أهواءهم. ويُحكى ذلك عن البراهمة منكري النبوات، كما حكاه أبو الحسن الرَّبَعِي في كتاب "اتباع المرسلين في الاحتياط للدين "، قال: وقال قوم يُقال لهم البرهمية بقول عبدة الأصنام: ما استحسنه العبد فهو معبوده. وهذا أيضًا حقيقة قول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، إذ عندهم كل ما كان موجودًا يصلح أن يكون لكل عابد معبودًا، وإن كان عندهم كل عابد فهو أيضًا معبود، كما قال شيخهم صاحب الفصوص:

_ (1) بعده بياض بقدر سطر ونصف.

- بدون الرب يمتنع الفعل، وبدون الإله لا يصلح الفعل

"فليعبدني وأعبده" (1). وقال: "أعظم معبود عبد فيه الهوى" (2). وإذا تبين أنه لا يصلح أن يكون كل ما يهواه العبد ويريده مقصودًا ... (3) تبين من ذلك أنه لا يصلح أن يكون ما يوجد من اللذة هي الغاية المقصودة بفعله، لأن اللذة تتبع الشهوة، فإذا حصل ما يشتهيه وجد اللذة، فإذا امتنع أن يكون المنتهى مطلقًا مقصودًا، امتنع أن تكون اللذة مطلقًا غاية مقصودةً، لما بيناه من أن وجود ذلك يمنع وجوده، لما فيه من الفساد، ولكن لا بد في فعله من حب، ولا بد له من لذة، فالشهوة واللذة سببان في فعله، ذلك سببٌ فاعليّ، وهذا سببٌ غاليّ، بهما كان الإنسان من وجهٍ فاعلاً لفعله، ومن وجهٍ غايةً لفعله، كما تقدم بيانه. لكن كما بينا أن هذا السبب فيه لم يحصل به مستقلاًّ، بل بالرب الذي خلقه وأعانه، فكذلك هذه اللذة لم يحصل الفعلُ لأجلها فقط، بل للغاية التي هي الرب الذي هو إلهه. وكما أنه بدون الرب يمتنع الفعل، فبدون الإله لا يصلح الفعل، بل لا يكون إلا فسادٌ، فإن ما في العبد من القوة والإرادة مُحدَثٌ من جهة الله، كذلك كون لذته العاجلة غاية إنما كان لغاية أخرى من جهة الله، وذلك أنه كما كان المُحدَث عن عدم فلا بد له من مُحدِث، فهذه الغاية منقطعة يتعقبها العدم والزوال، فلا بد له من غاية أخرى باقية

_ (1) فصوص الحكم (1/ 83). (2) فصوص الحكم (1/ 194). (3) بياض في الأصل بقدر كلمة.

- الشيء لا يوجد من معدوم، ولا يوجد لمعدوم

دائمة، إذ كل ما يمنع أن تكون الحوادثُ مستغنيةً عن الفاعل يمنع أن تكون المنقطعة مقصودة بالذات، فجَعْلُه نفسه الغاية مثل جَعْلِه نفسه السبب، فكما أنه لا يجوز أن يكون مُعِينُه ومُمِدُّه لحصول قوته وقصده وعمله هو نفسه، بل من توكل على [نفسه] خذل، كذلك لا يجوز أن يكون ما يطلبه ويقصده ويحبه ويعمله هو نفسه، بل مَن عَبدَ نفسه واتبع هواه ضلّ وخسر، وما أكثر ما يتخذ العبد إلهه هواه، فيكون ما يهواه إلهه، وهو يهوى نفسه كثيرًا، فيعبد نفسه. كما يستعين بنفسه إذا أُعجِبَ بها. وكذلك لو أدخل واسطةً، مثل الذي يستعين بغيره، وهو الذي يُعِين ذلك الغير، وذلك الغير يستعين به، فهو في الحقيقة إنما يستعين بنفسه. وكذلك إذا عمل لذلك الغير، وهو يقصد أن يكون عمل ذلك له، فهو إنما عمل لنفسه. ونُبيِّن ذلك، فإن هذا لم يتقدم بعدُ الكلامُ فيه، بل قد تكلمنا في بيان الغاية الإلهية بكلام ثم كلام، ولم يتحقق ذلك على الوجه إلى الآن، فنقول في هذا الكلام الثالث: كما أن الشيء لا يُوجَد من معدوم، فلا يُوجَد لمعدوم، إذ إيجاد الشيء للعدم كوجوده من العدم، فمن قصد الشيءَ لنفيه كان بمنزلة من لم يقصده، ولذا لا يفعل هذا عاقل بل سفيه، لأنه إذا قصد وجوده ليعدمه كان عدمه هو المقصود بالقصد الأول، والعدم (1) لا يصلح أن يكون مقصودًا، كما لا يصلح أن يكون فاعلاً، لأنه لا شيء، وما ليس

_ (1) في الأصل: "العمل" تحريف.

- من كان قصده العدم لم يفعل شيئا

بشيء لا يكون سببَا فاعليَّا ولا غاليًّا للموجود، فإن الموجود لا تكون أسبابه عدمية، كيف والأسباب الفاعلية والغائية أكمل من المسبب المفعول لغيره. وهذا ظاهر. وأيضًا فمن كان قصده العدم لم يفعل شيئًا، بل يترك الأمر على ما هو عليه من العدم المستمر، فاما أن يقصد أن يفعل لأن يعدم فهذا إما سفيه جاهل قد تناقض في فعله، وإما مَكَّارٌ مخادع يُظهِرُ قصدَ شيء وغرضُه غيره. وبالجملة فهذا القصد إما أن لا يكون، وإن ادعَى كونَه كان كاذبًا، كالمخادعين في الحيل المحرمة، وإن كان من الفقهاء من يظن أن القُصُود غير معتبرةٍ في ذلك، فهذا مخالف لما اقتضته الشريعة والفطرة من كون الأعمال لا تكون إلا بالنيات، مع قول الشارع: "إنما الأعمال بالنيات" (1)، وهي من أجمع الكلمات وأجلِّها وأعظمِها قدرَا. وإما أن يكون هذا القصد من جاهل سفيه يقصد النقيضين ولا يشعر تناقضهما، فتناقض الاَدميين في المقاصد والنيات كتناقضهم في الاَراء والاعتقادات، كثيرًا ما يريدون النقيضين في وقت أو وقتين. وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، تبين بذلك دلالة القرآن على هذا المجنى في مثل قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (2)، وفي قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)) (3)،

_ (1) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1957) من حديث عمر بن الخطاب. (2) سورة ص: 27. (3) سورة القيامة: 36.

وقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (1)، وقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)) (2). وإن كان قوله: (بِالْحَقِّ) أي بقوله الحق، فهذا إشارة إلى شيء من السبب الفاعل، والآية أعم من هذا، فإن الباء باء السبب، والسبب يتناول الفاعل والغاية، فإن الغاية سبب فاعل للسبب الفاعل، ولهذا يُقال: جئتُ بسبب زيد، وبسبب تخليص هذا المال، وبسبب دفع العدو، ونحو ذلك. والحق يعمُّ الحق المقصود والحقَّ الموجود، فالحق المقصود هو الغاية، وهو نقيض الباطل الذي في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"كل لَهْو يَلْهُو به الرجل فهو باطل، إلا رَمْيَه بقوسه، وملاعبتَه امرأته، وتأديبَه فرسَه، فإنهن من الحق" (3). وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. ويتبين أن النظر والاعتبار قد يُعلَم به المعاد، كما يُعلَم به مبدأُ العباد، كما عُلِمَ بالنظر والاعتبار ابتداء خلق العباد، بل الفطرة تقضي بذلك كما تقضي بالابتداء، وأن الذين أنكروا هذا من متكلمة أهل الإثبات، وقالوا لا نعلم ذلك إلا بالسمع، فذلك كقولهم: لا نعلم

_ (1) سورة الدخان: 38، 39. (2) سورة الحجر: 85. (3) أخرجه أحمد (4/ 144، 148) والدارمي (3415) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

- رأي الفلاسفة في إثبات الشريعة والمعاد، والرد عليهم

الأحكام إلا بالسمع، وهم في ذلك قصدوا مناقضةَ القدرية الذين أوجبوا المعاد والجزاء بالعقل، كما أثبتوا الأحكام بالعقل. والفلاسفة أيضا يثبتون شريعة عقلية بآرائهم، كما يثبتون معاذا عقليًّا باَرائهم، إذ الجزاء في المعاد مبنى على حسن الأفعال وقبحها، والأمر بها والنهي عنها، زيادة على ما في ذلك من صلاح الدنيا. ولهذا أوجب الفلاسفة النبوة لصلاح العباد في الدنيا بقانون العدل المشروع لهم، ثم إنهم مع ذلك عَمُوا- أو من عَمِيَ منهم- عمَّا في الشريعة من مصالح العباد، وإن كانوا يقولون: الشريعة قصدَتْ ذلك أيضا للعامة. لكن آفتهم من دعوى الاختصاص بما يتسلَّون به في الباطن من أخبار الرسل وأوامرها، فهم في الحقيقة يوجبون اتباع الشرائع على الجمهور، ويدَّعون أنهم أجلّ من ذلك، وهذا لما بَهَرَهم من منفعة الشرائع وحاجة العباد إليها، ثم عَمُوا مع ذلك عن حاجتهم هم بخصوصهم إليها، ووجود منفعتهم بكمالها فيها، فظنوا أنها لا تقوم بجميع مطالبهم وحاجاتهم ومصالحهم من العلم والعمل، فابتدعوا وبدَّلوا وحرَّفوا واعتدَوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، كما لا يصدر الوجود عن العدم، عُلِمَ أنَّ ما يوجد في النفوس من لذات منصرفة لا يجوز أن تكون هي الغاية، كما أن ما فيها من قصد محدث لا يجوز أن يكون هو الخالق، وذلك أنَّ ما وُجِدَ ثم عُدِمَ من غير أن يترتب على وجوده

مقصودٌ آخر كان وجوده ثم عدمه بمنزلة عدم وجوده، إذ قد بينا أن العدم لا يكون مقصودَا، وعِلْمُ القاصدِ بأن هذا يُعدَم بعد وجوده يمنعه أن يكون هو المقصود بالقصد الأول له، لأنه إذا علم أنه سيعدم، علم أنه حالَ عدمِه لا يكون فيه ما يقصده، بل يكون تلك الحال كحاله قبل وجوده، فلا يقصد أن يفعل ما يكون حاله بعد وجوده وعدمه كحاله قبل وجوده، إذ هذا أيضَا عبثٌ وسَفَهٌ، فكما أنه لا يقصد بالوجود العدم، فإذا علم أن الوجود يتعقبه العدم لم يقصده، إذ كان حاله بعد عدمه كحاله بعد وجوده، فإنه يكون قد قصد ما لا يفيد قصدُه فائدةَ، وإنما يقصد ذلك لأنه يحصل بوجوده مقصودٌ يبقى بعد عدمه، فإذا كان المقصود يحصل بعد عدمه أمكن أن يقصد وجوده وإن عدم، ويكون هذا الوجود مقصودَا بالقصد الثاني، والمقصود بالقصد الأول هو ما يبقى بعد العدم. وهذا أمر بين يجده الإنسان ويعلمه بعقله وفطرته، ولهذا اتفق عقلاء الناس على أن الأمور المنقضية المنصرفة لا تكون هي غايةَ مقصودِ العامل ومنتهى مراده، لأنها إذا كانت منتهى قصده وإرادته كان حاله بعد عدمها كحاله قبل وجودها، وإنما يقصدونها ليستعينوا بها على أمور غيرها. ثم إن الزهاد منهم يذمون المحبوبات والملذوذات المنصرفة وإن لم تكن نهايةَ المقصود، لما فيها من شَغْلِ النفوس بها عما تحتاج إليه، ومن أَلَمِ التركِ وغير ذلك، لكن الحال حال الكافرين بالمعاد، فإنه إذا لم يكن الموت ما يقصدونه ويرجونه كحال الذين لا يرجون لقاء الله، ويظن أحدهم أن لن يَحُور، فهم يجعلون المنصرفات نهايةَ مقصودهم،

- معنى "الأول" و "الآخر" من أسماء الله تعالى

وهؤلاء الذين قال الله فيهم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)) (1)، وقال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)) (2)، فهذا حال من لم يُحقِّق الإيمانَ بالله واليوم الآخر، فأعرض عن ذكر ربه والعمل لمعاده، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) (3)، فاتباع هواه هو اتباع متاع الحياة الدنيا. وقد يُقال هذا معنى الأول والاَخر، فالأول ليس قبله شيء، إذ هو خالق كل شيء، والاَخر ليس بعده شى، أي إليه يَصير العبادُ وتنتهي الحركاتُ، كما قال: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)) (4)، أي الغاية، لا يراد بذلك أن الأشياء تُعدَم، ويكون هو بعد وجودها، وإنما هو آخرها كما كان أولها، فمنه ابتدأت واليه تعود، كما يقال: ما بعد هذا غاية. فالاَخر قد يُعنَى به في الوجود، وقد يُعنَى به في الغايات المقصودة، فإذا عُنِي به أنت الآخر بعد كل موجود، لم يدل على الغاية، وإذا قيل: أنت الآخر أي الغاية والمنتهى لكل موجود، فليس بعدك ما يوجد ويطلب، كان هذا المعنى أبلغ، مع أن قوله "الآخر" يعمُّ

_ (1) سورة هود: 15، 16. (2) سورة النجم: 29، 30. (3) سورة الكهف: 28. (4) سورة النجم: 42.

- الأفعال إنما تتفاضل وتحمد وتذم باعتبار غاياتها

القسمين، كما أن قوله "الأول " ظاهر في كونه موجودًا أولاً، وقد تضمن أنت الأول في المقصود، كما قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وغيرك إنما يُقصد بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، لكن هذا المعنى ليس وحده ظاهر الحديث (1)، لكن يُقال: الحديث أشار إليه مع المعنى الظاهر. وأما قوله: "وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، فظهورُ الاَخرية في كونه الغايةَ المقصودةَ أظهرُ من ظهور الأولية في كونه أولاً في القصد والإرادة. ومما يبين هذا أن الأفعال إنما تتفاضل وتُحمَد وتُذَمُّ ويُؤمَر بها ويُنهَى عنها باعتبار غاياتها وعواقبها المقصودة منها، فما كانت عاقبتُه وغايتُه أكملَ كان أعلى وأفضل عند الشارع. ولهذا ذكرنا فيما تقدم من القواعد أنه أيُّ العملينِ كان لله أطوعَ ولصاحبه أنفعَ فهو أفضل، فإن منفعته لصاحبه تكون مصلحة وخيرًا، وبامر الشارع به يكون طاعة ودينًا وقُربةً، وهما متلازمان، فالله تعالى إنما أمر العبد بما إذا فعله العبد كان مصلحة له، ونهاه عما إذا فعله كان مضرة له، كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم حاجةً إليه، ولا نهاهم عما نهاهم بخلاً به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. ولهذا إذا وقع التنازع في كون العمل هو طاعة وقربة أم لا؟ إذ كان

_ (1) أخرجه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة. وفيه لفظ "الأول" "والاَخر" ضمن الدعاء المأثور.

المجتهدون قد تنازعوا فيه، فإنه يُستدل على ذلك تارةً بالأدلة السمعية الدالة على كونه طاعةً أو ليس كذلك، وتارةً بالأدلة النظرية، وهو ما ترتب على ذلك العمل من المصلحة والمفسدة، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)) (1)، فأخبر أنه سيُرِي الآيات الأفقية والنفسية التي بيَّن فيها أن القرآن حق، وهو ما فيه من الخبر والأمر والوعد والوعيد. وذلك لما يُحدِثه الله من نصر المؤمنين وجَعْلِ العاقبة لهم وعقوبةِ الكافرين، فجعل سبحانه ما يُشهَد ويُرَى من عواقب الأعمال والكمال مما يتبيَّن به الحقُّ من الباطل. ثم قال: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53))،وهو شهادته بذلك في كلامه المسموع. فهذه الأدلة السمعية الشرعية، ولهذا قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (2)، وقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) (3)، وكما أنه يُستدَل بالأدلة السمعية والبصرية على الفرق بين المؤمن والكافر، فُيستدَل بها أيضًا على البر والفاجر من المسلمين، وعلى المطيع والعاصي، وعلى المصيب في اجتهاده

_ (1) سورة فصلت: 53. (2) سورة ق: 36، 37. (3) سورة الحج: 46.

والمخطئ، والفاضل والمفضول. كما يُستدل مع الأدلة السمعية الشرعية على فضيلة أبي بكر وعمر بما أراه الله في الاَفاق وفي الأنفس، من صلاح أعمالهما وجميل سيرتهما، وفضل علمهما وقصدهما وعملهما وقدرتهما، فإن ظهور رجحان ذلك على سيرة عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين بَيّن واضح. وكما يُستدل على [أنّ] القتال في الفتنة الكبرى وغيرها لم يكن في نفس الأمر مصلحة ولا مامورًا به، وإن اجتهد فيه من اجتهد من المغفور لهم، فيُستدل على ذلك مع الأدلة الشرعية، وهو ما ورد من الأحاديث الصحيحة في النهي عن القتال في الفتنة، وأن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المُوضِع (1)، وأنه ليس في الشريعة أمرٌ بذلك، كما فيها أمرٌ بقتال الخوارج ... (2) وأن من ظن أن قتال البغاة المأمور به في القرآن يتناولها، فقد وضع النص في غير موضعه، فإن القرآن لم يأمر بالقتال ابتداءً، لكن إذا اقتتلت الطائفتان فإنه أمرَ بالإصلاح، ثم أمرَ عند ذلك بقتال الباغية، فكان البغي في الاقتتال. وعلى ذلك ما وِرد من أن عمّارًا تقتله الفئة الباغية (3)، فأما أن يكون قبل القتال من بَغى يُقاتل ابتداءً فهذا لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا على إطلاقه خلاف

_ (1) أخرجه البخاري (3601) ومسلم (2886) من حديث أبي هريرة. (2) بياض في الأصل بقدر كلمتين. (3) أخرجه البخاري (447، 2812) ومسلم (2915) من حديث أبي قتادة.

- الأهواء في الدين والآراء أعظم من الأهواء في الدنيا

الإجماع. والفرق بين البغي بلا قتال والبغي في القتال واضح، وعلى هذا فإذا قيل: كان مأمورًا بالقتال بعد البغي فيه أمكن ذلك، ولكن تلك الحالَ عَصَتِ الطائفة العراقية فنَكَلَتْ عن القتال، فحالَ القتالِ لم يكن أمر، وحالَ الأمر لم تكن طاعةُ الأمر، وذلك يُستدل به على حكم الشارع في نحو ذلك، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. والمقصود هنا أن عواقب الأفعال وغايتها تُبيِّن ما كان منها محمودًا وأحمدَ، فمن وُفِّق لذلك في الابتداء فليحمد الله، وإلا فعليه بالتوبة والاستغفار، فإن الله يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)) (1)، وهذا يستقيم لمن لم يتبع هواه، فقد تقدم بالبرهان العقلي المعلوم من الآيات المرئية في الأنفس والاَفاق ما يوافق ما شهد الله به في كتابه، أن اتباعَ الهوى بغير هدًى من الله ضلال عمّا ينفع العبد، وسُمِّي ضلالاً لأن متبع هواه إنما يقصد لذته بنيل ما يهواه، لكن ينبغي أن يعرف أن لذته ومنفعته ليست في نيل ما يهواه، إلا أن يكون بهُدًى من الله، وهو ما أمر به أو أباحه، دون ما نهى عنه وحظره، فإذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى. والأهواء في الدين والآراء والاعتقادات والأذواق والعبادات أعظم من الأهواء في الدنيا. وأكثر ما ذُكِر في القرآن من ذم اتباع

_ (1) سورة الزمر: 53.

الأهواء يتعلق بالقسم الأول، وإن كان أيضًا يتناول القسم الثاني، كما قال الله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ…) (1). وإذا تبين ذلك عُلِمَ أن الإرادة لا بد أن يكون لها مقصودٌ لذاته، خارج عن اللذة المنقضية، إذ اللذة المنقضية لا يجوز أن تكون مقصودةً لذاتها، كما لا يجوز أن يكون القصد الحادث حادثًا بذاته، كما تقدم من أن ما يُعقِبُه عدمٌ لا يجوز أن يحدث بذاته، ومن المعلوم أن كل مقصود فإما أن يُقصَد لنفسه أو لغيره، وعلى التقديرين يلزم وجود الموجود بنفسه، وذلك أنه إذا قصد المقصود لغيره، فذلك الغير إما أن يكون مقصودًا لنفسه، فثبت المقصود لنفسه، وإما أن يكون مقصودًا لغيره، فإن كان الغير هو الأول لزم الدور، وهو أن يكون هذا مقصوذا لأجل هذا، وهذا مقصودًا لأجل هذا، وقد تقدم بيان استحالة أن يكون كل شيء من الشيئين علة للآخر علة فاعلية أو غائية. وإن كان غير الأول لزم أن يكون لذلك المقصود مقصودٌ، ولذلك المقصود مقصودٌ، ويلزم تسلسل العلل الغائية. ومن المعلوم أن المقصود يتقدم في العلم والقصد، فيلزم أن يجتمع في علم الإنسان وقصده مقصودٌ لا يتناهى في آنٍ واحد. وأيضا فالمقصود يتعقب الفعل الذي هو السبب التام، ثم المقصود يتعقب الآخر، كما أن السبب التام يتعقبه المسبب، فيلزم

_ (1) سورة ص: 26.

- أنواع الحركات ثلاثة: قسري وطبعي وإرادي

اجتماعُ معلولاتٍ لا تتناهى في اَن واحد، وهذا محال كاستحالة اجتماع علل لا تتناهى. ثم إن ثبوت هذا فطري، كثبوت الواجب الوجود بنفسه. وإذا كان وجود المقصود لنفسه- وهو المعبود- ضروريًّا (1) في وجود الحركات كلها، إذ جميع الحركات إنما تصدر عن إرادة، فإنها ثلاثة: قَسْرِي، وطبعي، وإرادي. أما القسري فتابعٌ للقاسر، وأما الطبعي فإنما يتحرك إذا خرج عن مركزه، فهو فرع على غيره. وإذا كان كل من الحركتين الطبعية والقسرية تابعًا للغير وفرعًا عليه ومستلزمةً له، فلا بد من الحركة الإرادية، فتكون هي الأصل. وإذا ثبت أن جميع الحركات صادرة عن الإرادة، وثبت أنه لا بد في الإرادة من مقصود معبود، وتبين أن ما يتعقبه عدمٌ من اللذات الموجودات لا يجوز أن يكون مقصودًا لذاته، ثبت أن المقصود المعبود لذاته يجب أن يكون باقيًا أبديًّا، كما ثبت أن الموجود بنفسه يجب أن يكون قديمًا أزليًّا. كما قال الخليل عليه السلام: (لَاَ أُحِبّ اَلأَفِليِنَ) (2). ثم إنه كما امتنع أن يكون المخلوق ربًّا خالقًا، يمتنع أن يكون إلهًا معبودًا من جهة كونه لا يستقل بجلب المنافع ودفع المضار، ومن جهة أنه في نفسه يمتنع أن يكون هو الغاية المقصودة لغيره بالأفعال، وذلك لأنه هو في نفسه ليس الغاية المقصودة لفاعله، ولا هو أيضًا الغاية المقصودة لفعله، فإنه يمتنع أن تكون ذاته هي الغاية المقصودة له.

_ (1) لأصل "ضروري". (2) سورة الأنعام: 76.

أما أولاً فلأن ذاته ليست فعلَه ولا نتيجة فعلِه، فيمتنع أن تكون هي الغاية المقصودة بفعله. وأما ثانيًا فلأنه يمتنع أن يكون الشيء الواحد علةً معلولاً، فاعلاً مفعولاً، وقاصدًا ومقصودَا كما تقدم بيان ذلك. وإذا امتنع أن تكون ذاته هي العلة الغائية لذاته ولفاعله، امتنع أن تكون هي العلة الغائية لغيره بطريق الأولى، وهو وإن كان قد يفعل للذة التي تحصل فتكون لذاته غاية له، كما يكون قصده سببًا لفعله، فيمتنع أن تكون نفسُ لذته غايةً مقصودةَ لغيره. كما يمتنع أن يكون مجرد قصده قصدًا لغيره، إذ الشهوة واللذة القائمة بالشيء، وهي القصد والغاية، لا تكون بعينها شهوةً لغيره ولذةً له وقصدًا له وغايةً، ولكن يكون له نظيرها، وذلك لا يوجب أن يكون هو المقصود. ويمكن أيضًا أن يكون في ذاته ما يكون مقصودًا بقصد لأمرٍ آخر، كما هو الموجود في كل المحبوبات من المخلوقات، فإنها تُحَبُّ لأمرِ آخر لا يصلح أن تكون هي منتهى المراد المقصود، ومن أحب مخلوقَا جعله غايةَ المطلوب المراد، فهذا هو الفساد الذي بينته. كما أن من جعله هو الرب المحدث، فهذا فساد أيضًا، ولكن كما أنه يكون مُحدَثَا بفاعل غيرهَ خلقه، كذلك يكون مقصودًا لمقصود آخر هو المعبود، كما يحب الأنبياء أو المؤمنون لله، وكما يطاعون لطاعة الله. وما تحبه النفوس من المطاعم والمشارب والمناكح فانه مقصود لغيره، وهو صلاح الأجساد، ومثل الذات التي يستعان بها على

المقصود لذاته. ولهذا كان الإنسان إذا أحسن إلى غيره، فإما أن يقصد به معاوضته، فيكون العوض هو المقصود الأول، وإما أن يقصد به غير ذلك، إما طلب عوض من غير ذلك الشخص، وإما لما في قلبه من الرحمة والرّقة، فيقصد بذلك تسكين قلبه ولذة نفسه بالإحسان إليه، وزوال الألم عن نفسه، كما يقصد ما هو نحو ذلك، وإما أن يقصد به التقرب إلى الله. والإنسان في لذته مثل ما هو في إرادته وشهوته، فإن هذا سبب، وهذا غاية، لكن تقدم أن اللذات المنصرمة لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته، فكل ما يقصده الإنسان بالإحسان إلى غيره هو أمر منصرمٌ إلا إرادة وجه الله، فإن لم يقصد ذلك أو يقصد ما يستعين به على ذلك حتى يكون مقصودًا لذلك، كان من الأعمال الباطلة الفاسدة، كما تقدم. ومما يبين أن المخلوق لا يكون مقصودا بالقصد الأول لذاته لا لنفسه ولا لغيره ولا لفاعله، كما لا يكون فاعلاً مستقلاًّ لا لنفسه ولا لغيره ولا لمعبوده الذي هو مقصوده= أن نفسه أقرب إلى نفسه من غيره إلى نفسه، فلو كان يستحق أن يكون محبوبًا لذاته مرادًا لذاته لكانت ذاتُه أحقَّ بأن تكون هي المحبة المريدة له، لأنها أقرب وأعلم، فلما تبرهنَ امتناعُ ذلك فيه كان في غيره أعظمَ امتناعًا. وقد تبين لنا أيضًا أنه كما أن الحادث المنصرم لا يجوز أن يكون

مطلوبًا لذاته، فالحادث مطلقًا لا يجوز أن يكون هو العلة الغائية، وإن كان يحدث ما يتعلق بها مما هو مقصود الفاعل، بل العلة الغائية يجب أن تكون متقدمة، وإن كان ما يقصد بالفعل لها يكون بعد الفعل، لكن لا بد من مقصود مراد متقدم بالذات على الفعل، وذلك لأن العلة الغائية هي علة ماهيتها وحقيقتها لفاعلية العلة الفاعلية، فإنما صار الفعل فاعلاً لأجلها، والعلة يجب تقديمها على المفعول. فإن قيل: الفاعل فعلها ويتصورها، فهي متقدمة في ذلك على الفعل، وإن كانت في الوجود تتأخر عن الفعل. قيل: هذا يكون في المقصود من الغاية لا في ذاتها، وهذا كما أن الإنسان يحب المحبوب مثلاً، فيقصد الاتصال به، كما يحب المرأة فيريد مباشرتها، فالذات المحبوبة هي الغاية متقدمة على الفعل، وأما المقصود منها كلذة المباشرة فهي تتأخر عن الفعل، وليس إذا كانت اللذة الحادثة للفاعل حادثةً بعد فعله يجب أن تكون نفس الغاية حادثة، كما أن فعل العلة الفاعلية إذا كان حادثًا لم يجب أن تكون هي حادثة. يُبيِّن هذا أن العلة الغائية إذا كانت سابقة في العلم والتصوير والقصد والإرادة، فلا بد أن يكون لها حقيقة يجب أن تراد لأجلها، إذ العدم المحض لا يتصور هذا فيه، ولا يجوز أن يكون إنما صارت مطلوبة لإرادة الفاعل، لأن هذا يستلزم الدور، فإنه إنما أرادها لأنها تستحق أن تُراد، فعُلِم أنه لا بد من ثبوت حقيقة موجودة قبل الفعل تكون هي التي يُفعَل الفعلُ لأجلها، وتكون مرادة لذاتها، واللذة تحصل عقيب الفعل.

- بيان تقصير المتكلمين في فهم معنى الآية (لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا)

فقد تبين أن مَن عبدَ المخلوقات عبادةَ العبد لربه الذي يسأله ويرغب إليه في تحصيل ماَربه، أو عبادتَه لإلهه الذي هو مع ذلك يعبده لذاته ويحبه لذاته، كان ذلك موجبًا لفساده. والمعبود إذا رضي أيضًا بذلك لزم أيضًا فساده، بمنزلة من جعل المعدوم مقصودًا لذاته، فإن الحركة الإرادية تطلب مرادًا يكون به صلاح المريد ونفعه، فإذا لم يكن فيه لزم الفساد، وإن وجد في ذلك لذة فإنه يَستعقبه ألمًا وضررًا، بمنزلة من أكل ما يظنه عسلاً وكان فيه حلاوة، وكان سمًّا، فإنه يهلكه ويقتله. فقد تبين بالقياس العقلي امتناعُ أن يكون معبودٌ إلا الله، كما امتنع أن يكون رب إلا الله، وهذا قصد بقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (1) قصد نفي إله سواه. ولهذا قيل: (لَفَسَدَتَا) وهذا يتضمنُ نَفْيَ رب غيره. والمتكلمون قَصَّروا في معنى الاَية من وجهين: أحدهما: من جهة ظنهم أنه إنما معناها نفي تعدُّدِ الأرباب فقط، كما أقاموا هم الدليل على ذلك. والثاني: ظنهم أن دليل ذلك هو ما ذكروه من التمانع، وليس كذلك، فإن التمانع يوجب عدم الفعل، والتقدير أن الفعل قد وُجد، ثم الاشتراك في الفعل يوجب العجز فيهما، والقرآن إنما أَخبر بفسادهما، لم يخبر بعدمهما، والفساد يكون عن الإرادات الفاسدة،

_ (1) سورة الأنبياء: 22.

وهو ضد الصلاح الذي يكون عن الإرادات الصالحة، والله قد أمر بالصلاح ونهى عن الفساد في غير آية. قال الله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)) (1)، وقالت الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (2)، وقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (3)، وقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)) (4)، وقال: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) (5)،وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (6)، وقال (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)) (7)، وقال: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)) (8).

_ (1) سورة البقرة: 205. (2) سورة البقرة: 30. (3) سورة المائدة: 32. (4) سورة القصص: 4. (5) سورة الإسراء: 4. (6) سورة البقرة: 11، 12. (7) سورة البقرة: 27. (8) سورة القصص: 77.

- الفعل الواحد والقصد الواحد لا يكون لمقصودين مستقلين، وهذا هو الإشراك بالله

فسبب الفساد هو معصية الله، كما أن سبب الصلاح هو طاعة الله، ورأس الفساد والمعصية هو أن تعبد غير الله، وذلك هو الفساد الناشئ من أن يكون فيهما آلهة إلا الله، فإنه كما تكون حركات المتحركين صادرة عن الارادة والمحبة صارت بالقصد الأول لعبادة تلك الأمور التي لا تصلح لأن تكون هي المقصودة، بمنزلة من لا يتقوَّتُ إلا بالزجاج، ولا يشرب إلا الماء الزُّعَاق، أو لا يدفع البردَ في الأرض الباردة إلا بالثياب الرقاق، أو لا يدفع عدوَّه عنة من القتال إلا بالأيدي، ونحو ذلك من الأفعال التي يُقصَد بها جلب منفعة يحتاج إليها، ودفع مضرة لا تكون محصلة لذلك، فهذا يوجب الفساد. وقصد غير الله بالعبادة يتضمن هذا كلَّه وأضعافَه، ولهذا قيل: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)) (1). فصل وإذا كان قد تبين أن الفعل الواحد ألا، يكون من فاعلين مستقلينِ، ولا يكون مقدور واحد من قادرينِ على ذلك المقدور حالَ الاشتراك، فكذلك الفعل الواحد والقصد الواحد لا يكون لمقصودينِ مستقلين، بل كما تبين أن الحكم الواحد بالعين لا يكون لعلتين مستقلتين، فسواء في ذلك العلة الفاعلية والعلة الغائية، فمتى قصد بالفعل اثنين لم يكن الفعل لا لهذا ولا لهذا. وهذا هو الإشراك الذي تبرأ الله منه، كما في الحديث

_ (1) سورة لقمان: 13.

الصحيح (1) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقول الله تعالى: أنا أغنَى الشركاءِ عن الشرك، من عَمِلَ عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك " أي أشركه، فإنه سبحانه لا شريك له، فكما لا يجوز أن يكون معه شريك في فعله لا يصلح أن يجعل له شريك في قصده وعبادته، قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)) (2)، وقال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) (3)، وهذا كثير في القرآن، بل هو المقصود الأعظم بتنزيل القرآن. والمقصود هنا أن الفعل الواحد كما لا يتصور أن يكون من اثنين لا يتصور أن يكون لاثنين، فمن عمل لله ولغيره فما عبدَ الله ولا عَمِلَ له عملاً، كما أن ما تعاون عليه اثنان فما فعله أحدهما، ولا هو ربه، فكما أنه لو قُدّر أن معه شريكًا في الفعل لم يكن هو رب ذلك المفعول ومليكه، فكذلك إذا جُعِلَ له شريك في القصد والعمل، لم يكن هو إله ذلك العابد ولا معبوده، فلا يتقبل ذلك العمل، وإنما يتقبل ما كان خالصًا لوجهه. يُوضّح هذا أنه هو الرب المليك الخالق، فلو قُدر في الذهن أن معه شريكًا في الفعل امتنع أن يكون هو ربه ومليكه وخالقه، واذا امتنع

_ (1) مسلم (2985). (2) سورة سبا: 22. (3) سورة الزمر: 29.

ذلك بطل وجود الفعل، لأنه قد علم أن غيره لم يفعل شيئًا، فإذا كان على هذا التقدير هو أيضًا ليس برب فاعل لم يكن للفعل وجود، كذلك إذا كان هو الإله المعبود المقصود، فإذا جعل معه من يشرك به، وعبادة ذلك فاسدة باطلة، لم يَصِرْ هو معبودًا بذلك العمل، وما عمل لذلك الغير باطل فاسد، فلا يكون الفعل عبادةً ولا عملاً صالحًا، فلا يتقبل. ولا يمكن أن يقال: لِمَ لا أخذَ نصيبه منه؟ لأنه مع تقدير الاشراك يمتنع أن يكون له منه شيء، كما أنه بتقدير الإشراك في الربوبية يمتنع أن يصدر عنه شيء، فإن الغير لا وجود له، وهو لم يستقلَّ بالفعل، كذلك هنا هو لم يستقل بالقصد، والغير لا ينفع قصده. ولهذا نظائر كثيرة في الشرعيات والحسيّات إذا خُلِط بالنافع الضارُّ أفسده، كما يُخلَط الماء بالخمر، بخلاف الشركة الصحيحة، كاشتراك الناس فيما يصلح اشتراكهم فيه، فإن هذا لا يضر. يُبيِّن هذا أنه لو سأل الله شيئًا فقال: اللهم افعلْ كذا أنتَ وغيرُك، أو دعا الله وغيرَه فقال: افعلا كذا= لكان هذا طلبًا ممتنعًا (1)، فإن غيره لا يشركه، وهو على هذا التقدير لا يكون فاعلاً له، لأن تقدير وجود الشريك يمنع أن يكون هو أيضًا فاعلاً، فإذا كان يمتنع هذا في الدعاء والسؤال، فكذلك يمتنع في العبادة والعمل أن يكون له ولغيره. وقد مرَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسَعْدٍ وهو يدعو ويشير بإصبعين، فقال: "أَحِّدْ أَحِّدْ" (2).

_ (1) في الأصل: "طلب ممتنع". (2) أخرجه أبو داود (1499) والنسائي (3/ 38) من حديث سعد بن أبي وقاص. وإسناده صحيح. وأخرجه الترمذي (3552) والنسائي (3/ 38) من=

- يمتنع أن يكون الشيء جزء علته أو شرط علته

ولهذا سنَّ الإشارة بالسبَّاحة في الدعاء. وكذلك إذا كان قد تبيَّن أن الشيئين لا يكون كل منهما للَاخر علة فاعلية، فكذلك ألا يكون، كل منهما للَاخر علة غائية، كما تقدم بيانه. وكذلك الشيء الواحد لا يكون علةً لنفسه، ولا معلولاً لنفسه، فلا يكون لنفسه علة فاعلية ولا علة غائية، فإن الأول يقتضي تقدمه على نفسه وتأخره عن نفسه، فيلزم أن يكون موجودًا معدومًا إذا قُدّر فاعلاً، وإذا قُدِّر مفعولاً، فيلزم اجتماع النقيضين مرتين. والعلة الغائية يجب تأخرها عن المعلول، فإذا كانت نفسه هي معلول نفسه لزم تاخرها وتقدمها، فيلزم أن يكون متاخرًا عن وجود نفسه ومتقدمًا على وجود نفسه، فيلزم أيضًا اجتماع النقيضين مرتين. وأيضًا فالعلة الغائية متقدمة في التصور والقصد، فيلزم أن يكون تصور الفاعل وقصده له قبل ما يكون متصوَّرًا مقصودًا له، ويكون تصوره وقصده له بعد تصوره وقصده، لأنه يتصور أولاً ويقصد الغاية، ثم يتصور المفعول ويقصده، فإذا كان هو المفعول وهو الغاية، فيلزم اجتماع النقيضين أيضًا في التصور والقصد مرتين، وقد تقدم هذا. وإنما المقصود هنا شيء آخر، وهو أنه كما يمتنع أن يكون الشيء علة لنفسه معلولاً له، أو أن يكون الشيئان كذلك، فيمتنع أيضًا أن يكون جزء علة أو شرط علة، فإن جزء العلة وشرطها يجب أيضًا أن يتقدم المعلول، كما يجب تقدم ذات العلة، فيلزم ما تقدم من الدور

_ =طريق أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

الممتنع، لكن لا يمتنع أن يكون كلّ منهما شرطًا للَاخر، وتكون العلة أمرًا غيرهما، فيجوز أن يكون وجود أحد الشيئين مشروطًا بالاَخر، وهو الدور المعي. ولا يجوز أن يكون شرطًا في علته لا الفاعلة ولا الغائية، وهو الدور القبلي. فالفاعلان المتعاونان يجوز أن يكون فعل أكل، واحد لما يفعله مشروطًا بالاَخر، بحيث يكون لا يحصل إلا باجتماع الفعلين، كالأمور التي يعجز عنها الواحد في الاَدميين، وإنما يقدر عليها عدد، ولكن لا يجوز أن يكون أحد المتعاونين مستفيدًا لا يحتاج فيه إليه من الآخر المحتاج إلى مشاركته، فإذا كان كل منهما محتاجًا إلى معاونة الآخر لم يجز أن يكون الآخر هو الفاعل لما يحتاج إليه، لاستلزامه أن يكون كل منهما معلولاً لذلك، فإنه إذا قدر أن أحدهما محتاج إلى شيء من المعونة، وأنه يستعين بالاَخر على حصولها، فلو كان ذلك الآخر يستفيدها من الأول لم يكن هو قادرًا عليها، فلا يعين، ولكان الأول قادرًا عليها فلا يحتاج إليها، ولا يدخل في هذا ما يُعِين به أحدهما الآخر من الأسباب، مثل الاَلات ونحوها، فذاك ليس من هذا. وكذلك ما يحصل لأحدهما معاونة الآخر من القوة، فتلك القوة تأثير الاجتماع والتعاون، ليس أحدهما مستقلاّ بها، ولكن هو من الفعل المشترك، لكل منهما، أو في بعضه. وكذلك كما لا يصلح أن يكون كل منهما الغاية المقصودة، فلا يكون بعض الغاية المقصودة، لما تقدم في ذلك من الدور الممتنع أربع مرات.

وإذا قدر فاعلان متعاوضان أو متعاونان كل منهما يفعل ما يحبه الآخر ويرضاه، فلا بد أن يكون مقصود كل منهما غاية غير محبة الآخر ورضاه، فإنه إذا كان نهاية مقصود كل منهما غاية محبة الآخر ورضاه ولذته ونحو ذلك، لزم أن تكون هذه علة مقصودة لهذه ومعلولة لها، وهذه مقصودة لهذه ومعلولة لها، ويمتنع كون كل من الشيئين معلولاً للاَخر، ولو كان كذلك لزم أن لا تحصل واحدة من المحبتين واللذتين، وإنما يكون كل منهما مع قصده ومحبته الآخر ولذته له هو مقصود آخر، هو منتهى قصده، يكون هو محبوبه وفيه لذته، كالزوجين المتناكحين. وإن فُرِض أن كلاًّ منهما يقصد إنالتَه الآخر لذَّتَه، فهو لا يقصد ذلك إلا لعوض، إما أن يقصد بذلك الأجر، أو أن يقصد نيل لذته بهذا الطريق، فيجعل ما ينيلُه لذاك من اللذة وسيلةً إلى ما يناله هو، كما هو الواقع في جميع المعاوضات والمشاركات التي بُني عليها صلاحُ العالم، فإن أحد المتعاوضين والمتشاركينِ مقصوده بالقصد الأول ما يحصل له هو من المحبوب المطلوب الذي يلتذ هو بوجوده، ولكن يقصد ما هو للَاخر كذلك من باب الوسيلة والطريق، وبهذا يتعاوضان ويتشاركان، وكل منهما محتاج إلى الآخر لا حاجةَ العلل إلى المعلول، لكن حاجة الشروط إلى المشروطات، والعلة الفاعلة والغائية لكل منهما غير الآخر. فهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وليس ما لهذا من هذين مستفادًا من هذا، ولا بالعكس، ولكن لا يحصل مقصود كل منهما إلا باجتماع هذين القصدين والعملين.

- امتناع الدور في العلل الفاعلة والغائية من اثنين

واعلم أنه كما يُعقَل امتناع الدور في العلل الفاعلة التي هي الأسباب، والغائية التي هي الحكم والمقاصد، من اثنين، فكذلك يُعقَل امتناع الدور فيهما من واحد، وذلك أن الفاعل الواحد قد يفعل. الشيء بسبب آخر، كما يخلق الله سبحانه النبات بالمطر، والمطر بالسحاب، وكما يخلق الولد بالوالدين، وكما يخلق سبحانه الشيء لحكمة وهي عامة مقصودة ... (1) فيمتنع أن يكون كل من الشيئين سببًا للَاخر، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين حكمةً وغايةً للَاخر. ولا يمتنع أن يكونا جميعًا عن سبب واحد غيرهما، ولا أن يكونا جميعًا لحكمة واحدة غيرهما، ولا أن يكون أحدهما شرطًا للَاخر بحيث لا يكون هذا السبب إلا مع ذلك السبب لا به، وأن تكون هذه الحكمة والغاية مع تلك لا لأجلها. فليتدبر اللبيب هذه الحقائق، ينتفع بها في معرفة أن الله هو إله كل شيء، وأن جميع المخلوقات غايته له، مُسبِّحةٌ بحمده، قانتةٌ له، وأن الحركات الموجودة في العلو والسفل إنما أصلها عبادة الله وقصده. كما دلّ القرآن على ذلك في غير موضع، وهذا شيء اَخر غير كونها مربوبة له ومقدورة ومقهورة، وغير ذلك من معاني ربوبيته وقدرته التي هي منتهى نظر أكثر المتكلمين والمتفلسفة، حتى يظنوا أن هذا هو تسبيحها، وأن دلالتها على وجود الرب وقدرته هو تسبيحها بلسان الحال فقط، وإن كان ما أثبتوه حقاً، فليس الأمر كما زعموه، بل على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه، كما نطقت به الكتب الإلهية، ودلت

_ (1) بياض في الأصل بقدر كلمة.

- حقيقة الحب والعشق

عليه البراهين العقلية، كالأمثال المضروبة التي بيَّنها الله تعالى في كتابه، وعرف ذلك أهل العلم والإيمان الذين قال الله فيهم: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (1)، وقال: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) (2)، وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) (3). فإن قيل: فقد ذكرتم أن الموجودينِ كما لا يكون أحدهما فاعلاً للاَخر ولا سببا له، فلا يكون كل منهما معلولاً للآخر ومقصودًا له هو منتهى إرادته، ولا يكون كل منهما هو المقصود بالاَخر من فاعل واحد، وأنتم تعلمون أن التحابَّ من الجانبين موجود في نفوس الحيوان، كما أن الزوجين الذكر والأنثى من الناس والبهائم يحب كل واحد منهما الاخر، كما قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (4)، بل كل من الزوجين قد يكون الآخر محبوبًا له معشوقًا لذاته، وهو غاية مقصودة، لا يحبه ويقصده لشيء آخر غير نفسه والاتصال به، ويوجد مثل ذلك في أنواع التحاب والتعاشق الذي هو محرم ومكروه في العقل والدين، إذ المقصود هنا ذكر الواقع. قيل: المحب والعاشق لزوجه لا يجوز أن يحبه ويعشقه لذاته

_ (1) سورة سبأ: 6. (2) سورة الرعد: 19. (3) سورة العنكبوت: 43. (4) سورة الروم: 21.

ونفسه، فإن الله إنما جعل المودة بين الزوجين لتتم مصلحتهما من المعاشرة والمناكحة، فيحصل لكل واحد منهما من اللذة ما هو موجود في نفسه، وما يمكن تحصيله من غير هذا المحل، كما يحصل للَاكل مطلوبه في الطعام المعين والشراب المعين، فإرادته إنما هو لما يحصل في نفسه من اللذة، سواء حصل بهذا المعين أو بغيره. ثم هذه اللذة لا ريب أن الحيوان يقصدها لوجود اللذة، لأن كل ما يتنعم به الحي يقصد وجود اللذة به، إذ اللذة غاية مطلوب الحي، ومن حكمة هذا ... (1) أراها الله سبحانه بخلق هذا وجود التناسل الذي به يدوم نسل الحيوان، كما أن من حكمة الأكل أن يستخلف بدن الحيوان بدل ما تحلل منه، إذ كانت الحرارة تحلل الرطوبة دائماً، فإن لم يحدث بدل المتحلل وإلا فسد بدن الحيوان، فهذه الحكمة موجودة في الدنيا. ومن هنا جهل من جهل من الكفار والمنافقين من المتفلسفة الصابئة، ومن اليهود والنصارى، الذين أنكروا وجود الأكل والشرب والنكاح في الجنة، مع أن اليهود والنصارى يثبتون معاد الأبدان، وأما أولئك المتفلسفة فإنهم منافقون لأهل المللَ مع دعواهم التحقيق، يقولون: إن الذي أخبرت به الرسل من أنواع هذا النعيم إنما هو أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني، وهذه من شبههم، وهو أن الأكل والشرب والنكاح علتها الغائية وجود النسل وثبات الأبدان، وهذا

_ (1) بياض في الأصل بقدر كلمة.

مفقود في الأخرة، وهذا جهل منهم، وهم يقولون: إن هذه اللذات البدنية ليست لذَّات حقيقية، وإنما هي مجرد دفع آلام، فإن الاكل يدفع ألم الجوع، والنكاح يدفع ألم الشبق، ولا ريب أن هذه مكابرة لما هو من أظهر الحسيات الذوقيات الموجودات، فإن إحساس الحيوان باللذة من أعظم الإحساس، وإحساسه لذة الأكل والنكاح أمر هو أظهر عند الحيوان من أكثر الأشياء، فقول المتحذلق: إن هذه ليست لذة وإنما هي دفع اَلام، كلام فاسد، فإنه لا ريب أن هنا لذة، وهنا فقد ألم، فالأمران موجودان. وإن قال: لولا ذاك الألم لم تحصل هذه اللذة. فإن أراد أن الموجود في الدنيا كذلك، فهذا صحيح، لكن كون هذه اللذة في الدنيا إنما توجد بعد ألم، لا يمنع وجودها في دار الحيوان التي لا ألم فيها بلا ألم، فإن الألم سبب هذه اللذة في الدنيا، وكمال البدن والنسل هو العلة الغائية لهذه اللذة، ولكن كونها في الدنيا لا تُوجَد إلا بسبب قبلها هو الألم، وحكمة بعدها هي النسل وثبات الجسد، لا يمنع أن يوجد في الآخرة بدون هذا السبب ودون هذه الحكمة، كما أن كل موجودات الدار الاَخرة ومن يوجد فيها بدون ما اقترن بها في الدنيا من أسبابها وغاياتها، وعدم وجود الشيء شيء، والعلم بامتناعه شيء اَخر، ولا ريب أن الموعود به في الجنة ليست حقائقه وغاياته وأسبابه مماثلاً لما هو في الدنيا، كما قال ابن عباس: "ليس في الدنيا شيء مما في الاَخرة إلا الأسماء" (1). وإنما أخبرنا منها

_ (1) أخرجه هناد في الزهد (3، 8) وغيره.

بما له في الدنيا ما يشبهه من بعض الوجوه، ثم قيل: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (1). وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"يقول الله: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر". (2) ولهذا أخبر الله بوجود هذا النعيم واللذات في الجنة مع نفيه لما يقترن به في الدنيا من سبب وغاية، كما نفى عن الأشربة واللباس وغير ذلك آفاته، إذ هي دار نعيم لا آفة فيها بحال، فالتحاب بين الزوجين ونحوهما في الدنيا وإن أعقب لذةً مطلوبةً لنفسها، فليس أحدهما محبا للآخر لذاته، بل لقضاء الوطر منه، كما تقدم، وهو نوع من المعاوضة كالتعاوض بالأموال، ولهذا كان عقد النكاح يوجب المعاوضة من الطرفين، كما قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (3) فإن قيل: فالعشق الموجود، وهو محبة المعشوق لنفسه، وكما قد يتحابُّ الشخصان لذواتهما لا لأجل نكاح وتناسل، فيحبُّ كلّ منهما الآخر لنفسه. قيل: هذا قصد فاسد، وحبّ فاسد، وإرادةٌ فاسدة، فإن كل من أحب مخلوقًا لنفسه لا لأمر آخر وراء ذلك، فحبه فاسد، وقصده

_ (1) سورة السجدة: 17. (2) أخرجه البخاري (3244) ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة. (3) سورة البقرة: 228.

فاسد، ونحن إنما ذكرنا امتناع الدور الغائي لبيان فساد هذا ونحوه، وامتناع أن يكون لله ندٌّ يُحَبُّ كحبّ الله الذي تجب محبته لذاته، ونحن إذا قلنا: إن الدور في العلل الغائية ممتنع، كان المراد به أنه يمتنع أن يكون كل منهما مرادَاً مطلوبًا للاَخر محبوبَا للَاخر بإرادة صحيحة، وقصد صحيح، ومحبة صحيحة، فأما الفاسد من الإرادة فهو نظير من يعتقد جواز كون كل من الشيئين علة للَاخر، وقد منعنا أن يكون علة في نفس الأمر أو فاعلاً له في نفس الأمر، وإن كان من الناس من يعتقد أنه فاعل له ورب له، لكن هذا اعتقاد فاسد، فكذلك من ظن في شيء غيرِ الله أنه مقصود لنفسه، معبود لنفسه، محبوب لنفسه، حتى أحبَّه وعبدَه وعَشِقَه، فهذا أيضًا جاهلٌ في ذلك ضال فيه، كما أن الأول جاهل في ظنه أن غير الله رب. ولهذا لما تكلم الناس في العشق [هل] هو لفساد الإدراك، وهو تخيُّل المعشوق على خلاف ما هو به، أو لفسادٍ في الإرادة، وهو المحبة المفرطة الزائدة على الحق= كان الصواب أن العشق يتناول النوعين، وهو فساد في الإدراك والتصور، وفساد في الإرادة والقصد، ولهذا كان سُكْرًا وجنونًا ونحو ذلك مما يتضمن فساد الإدراك والإرادة، حتى قيل (1): قالوا جُنِنتَ بمن تَهوى فقلتُ لهم العشقُ أعظمُ مما بالمجانينِ ولهذا سماه الله مرضًا في قوله: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (2)، ولهذا إنما يوجد كثيرًا في أهل الشرك الذين ليس في قلوبهم ما تسكن

_ (1) البيت لمجنون ليلى في ديوانه (ص 281) والأغاني (2/ 36) وغيرهما. (2) سورة الأحزاب: 32.

إليه من إخلاص العبادة لله والطمأنينة بذكره، كما ذكر الله ذلك في كتابه عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي كن مشركات، وأخبر عن نوع هؤلاء بالسكر والجهل كما في قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (1). وبهذا الفرقان يتبين أن القول الحق أنه لا إله إلا الله، مع كون المخلوقات فيها ما اتخذ آلهة من دون الله، فإن الإله يجب أن يكون معبودًا، وهو المعبود لذاته الذي يُحَبُّ غاية الحب بغاية الذل، وهذا لا يصلح إلا لله، ومن عبدَ غيرَه واتخذه إلهًا فهو لفساد عمله وقصده، حيثما اتخذ إلهًا فأحبه لذاته، وبذل له غاية الحب بغاية الذل لجهله وضلاله، ولهذا سموا جاهلية إذ كان أصل قصدهم جهلاً لا علمًا. وكون الشيء مقصودًا ومحبوبًا ومعبودًا ولذيذًا ونحو ذلك لا يثبت له في الحقيقة بحال من فسد إدراكه كالمطعومات، فإنه إذا قيل في الحلاوة واللحم ونحو ذلك: إنه طيب ولذيذ ومحبوب ونافع ونحو ذلك، كان ذلك حقاً، لأن الأبدان الصحيحة تجده كذلك، ولا يندفع ذلك ببغض المريض ووَجْدِه إياه مُرًّا لما خالطه من المِرَّة الصفراء. وكذلك من تلذذ بأكل الطين وغيره من الخبائث لفساد مزاجه، لم يمنع ذلك أن يقال: هذا غير طيب ولا لذيذ ولا مطلوب ولا مراد ولا محبوب، ولأجل هذا إنما حُمد من ذلك ما كان لله. وجاء في الأحاديث من مدح المتحابين لله والتحابِّ في الله ما هو

_ (1) سورة الحجر: 72.

كثير مشهور، كقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يَروي عن ربه تعالى: "حُقَّتْ محبتي للمتحابّين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتزاورين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتجالسين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتباذلين فيَّ " (1). وكقوله: "إن لله عبادا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداء، يَغْبطُهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله "، فقيل: من هم يا رسول الله؟ صِفهم لنا، جَلِّهم لنا، لعلنا نحبهم! قال: "هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا أرحامِ تواصلوها، هم نور، ووجوههم نور، على كَراسِيَّ من نور، لا يحزنوَن إذا حزن الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس "، ثم قرأ قوله: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (2). وكقوله في صحيح مسلم (3) فيما رواه أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن عبدًا زار أخًا له في الله، فأرصدَ الله على مَدْرجتِه ملكًا، قال: أين تريد؟ قال: أزور أخًا لي في الله، قال: هل لك عنده من نعمةٍ تَرُبُّها؟ قال: لا، قال: فهل بينك وبينه رَحِم؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبَّك ". وفي الترمذي (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أحبَّ لله، وأبغضَ لله،

_ (1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 229) من حديث عبادة بن الصامت، وصححه الحاكم في المستدرك (4/ 170) ووافقه الذهبي. (2) أخرجه أبو داود (3527) من حديث عمر. والاَية من سورة يونس: 62. (3) برقم (2567). (4) برقم (2521) من حديث معاذ الجهني. وقال الترمذي: هذا حديث منكر. وأخرجه أبو داود (4681) من حديث أبي أمامة. قال المنذري في مختصر=

وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ". وفي الحديث في الترمذي (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوثقُ عُرَى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله ". وفي الصحيحين (2) عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلْقَى في النار". فإن هذه المحبة أصلها محبة الله، والمحبوب لغيره ليس محبوبا لذاته، وإنما هو محبوب لذلك الغير، فمن أحب شيئا لله فإنما أحب الله، وحبه لذلك الشيء تبعٌ لحبه لله، لا أنه محبوب لذاته. لكن قد يظن كثير من الناس في أشياء مما يهواها أنه يحبها لله، وإنما يكون محبا لما يهواه، ولهذا كان أعظم ما تجب محبته من المخلوقات هو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (3) عن أنس: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من

_ = السنن (7/ 51): في إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الشامي. وقد تكلم فيه غير واحد. وصححه الألباني في الصحيحة (380) لطرقه. (1) لم أجده في سننه، وقد أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 220) والأوسط (4476) والصغير (624) من حديث ابن مسعود. وصححه الألباني في الصحيحة (1728) لطرقه. (2) البخاري (16) ومسلم (43). (3) البخاري (15) ومسلم (44).

- محبة الله هي أصل التوحيد العملي

ولدِه ووالدِه والناسِ أجمعين ". وفي صحيح البخاري (1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: يا رسول الله! فلأنتَ أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك "، فقال: فلأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، قال: "الاَن يا عمر". ومحبتُه رضي الله عنه إنما هي تابعة لمحبة الله، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (2). وأما محبة الله فهي الأصل، فإنه يجب أن يُحَبَّ لذاته، وليس هذا لغيره، وهي أصل التوحيد العملي، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (3)، وقال: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (4). ونحن بيّنَا بما ذكرناه من البرهان امتناع الدور، وأنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين سببًا للَاخر وعلة له ولا حكمة له ومعلولاً له،

_ (1) برقم (6632). (2) سورة التوبة: 24. (3) سورة البقرة: 165. (4) سورة المائدة: 54.

سواء كان هذا من فاعلين أو من فاعل واحد. فأما كون بعض بني آدم قد يجعلون ما ليس سببًا سببًا، وما ليس مقصودًا مقصودًا، فهذا هو الشرك الذي ضلّ به بنو آدم من الأولين والاَخرين، حيث جعلوا بعض المخلوقات علةً تامةً لبعض، إما فاعلاً ربًّا، وإما إلهًا معبودًا. وهذا هو الباطل، أعني هذا باطل في نفسه، والجاعلون لذلك مفسدون في اعتقادهم وإرادتهم، فإن من قصد وأراد بالقصد التام ما لا يصلح أن يُقصَد ويُراد فإن عمله فاسد، كمن أحبَّ الأشياء التي تضره وتفسده دون الأشياء التي تصلحه وتنفعه، فإنه وإن أحبَّها وقصدَها وعَمِلَ لها فهذا هو الفساد. وإذا ضُرِبَ مَثَلُ ذلك بمُحِبِّ العسل المسموم وآكله، كان في هذا المثل بعض الشبه، وإلا فالأمر فوق ذلك. ولو قيل: هو مثل محبة الفراشِ للنار التي تحرقه، كان الأمر فوق ذلك. ونحن في هذا الموضع إنما أصل كلامنا في الدور، وهو أنه يمتنع أن يكون كلّ من الشيئين سببًا للَاخر أو مقصودًا له، ولا يمتنع أن يكون الشيئان متعاونين على مقصودهما، فيكونان مشتركين فيما هو سبب لهما وفيما هو مقصود لهما، ثم أحدهما يقصد الآخر لذلك، كمحبة الشيء لغيره، كما أن أحدهما يعين الآخر، فهذا تعاون وتشارك في المحبوب وفي سببه. وبهذا البرهان يتبين أنه لا بد في الوجود من إله يجب أن يكون هو منتهى قصد القاصدين، وعبادة العابدين، وإرادة المريدين، ومحبة المحبين، كما أنه منتهى سؤال السائلين، وطلب الطالبين، لأنه الخالق

القديم الواجب بنفسه، الذي هو فاعل للممكنات والمحدثات وربُّها وخالقها. إذ الوجود فيه أشياء مُحدَثة، ولا بد لها من مُحدِث، وفيه حركات موجودة، ولا بد لها من غاية، فإن الحركات إما إرادية وإما طبعية وإما قَسْرية، لأنها إن كان المتحرك شاعرًا فهي الإرادية، وإن لم يكن شاعرًا، فإن كانت بلا شعور على خلاف طبعها فهي القسرية، كحركة الحجر إلى فوق، وإلا فهي الطبعية، كحركته إلى أسفل، لكن القسرية تابعة للقاسر. وأما الطبعية فلا تكون إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه ومستقره، كخروج التراب والحجارة عن مركزها إلى فوق، وكذلك الماء. فبطلت بطبعها أن تعود إلى مركزها ومستقرها، فلو لم تُحرَّك أولاً عنه لما خرجت، فتبين أن الطبعية والقسرية تابعتان، فعُلِمَ أن كل حركة في العالم عن إرادة، وتلك حركات الملائكة الذين أخبر الله عنهم في كتابه عما يدبرونه بإذنه وأمره من أمر السموات والأرض، كما قال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)) (1)، فأقسم بالمخلوقات طبقًا بعد طبق، بالرياح ثم بالسحاب ثم بالنجوم وأفلاكها، ثم بالملائكة المقسمات أمرًا. وكذلك قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)) (2). ونصوص الكتاب والسنة في ذلك أكثر من أن يمكن ذكرها هنا، فإذا كانت جميع الحركات هي عن إرادات، ولا بد للمريد من غاية هي

_ (1) سورة الذاريات: 1 - 4. (2) سورة النازعات: 1 - 5.

مراده ومقصوده الذي هو معبوده، فلا بد للموجودات من إلهٍ هو إلهها ومعبودها سبحانه وتعالى. ومن المعلوم بالبديهة أن الشيء لا يكون فاعلاً لنفسه، ولا يكون حادثًا من غير محدث، وكذلك من المعلوم بالبديهة أن المتحرك لا يكون متحركًا إلى نفسه، ولا يكون متحركا بإرادته إلى غير شيء، فكما أن الكائن بعد أن لم يكن لا يكون موجودًا بنفسه ولا من غير شيء، كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1)، فالمتحرك بإرادته بعد أن لم يكن متحركًا لا يجوز أن يكون متحركًا مريدًا لنفسه، ولا يجوز أن تكون حركته وإرادته لغير شيء، لأن ونفسه كانت موجودة قبل حركته، وكونها هي المراد بما أحدثه يقتضي حدوثها بعد حركته، فيقتضي أن تكون موجودة معدومة معا. كما أنه إذا قُدِّر أنه فاعل نفسه لزم أن يكون متقدمًا على نفسه، لكونه فاعلاً، ومتأخرًا عن نفسه، لكونه مفعولاً، فهذا الذي ذُكِرَ من (2) كون الإنسان يمتنع أن يكون فاعلاً مفعولا يقتضي امتناعَ كونه عابدًا معبودًا. وكذلك يقال في كل ممكن ومُحدَث، وهذا أيضا يدخل في الدور الممتنع، وما ذُكِرَ أولاً هو دور بين اثنين من فاعلين أو من فاعل واحد. وكل ذلك يُستَدل به على إثبات الإله المعبود الخالق للممكنات والمحدثات.

_ (1) سورة الطور: 35. (2) في الأصل: "في".

- يمتنع أن يكون الشخص الواحد جزء علته أو شرط علته

فصل وكذلك كما يمتنع أن يكون في الشخص الواحد أن يكون علة لنفسه ومعلولاً لها في الفاعل والغاية، يمتنع أن يكون جزء علته أو شرط علته، فلا يكون فعل فاعله محتاجًا إلى وجود شيء منه، ولا يكون في المقصود شيء منه، وكذلك أفعاله، كما لا يجوز أن يكون حدوث اعتقاده وقصده وقدرته منه، فلا يجوز أن يكون علة كل فعله حادثًا بفعله الذي حدث بفعله، ولا يجوز أن يكون حادثًا بعلة فعله جزؤها أو شرطها المتقدم على المعلول، لكن يجوز أن يكون هو فعلاً في حدوث المعلول بحيث لا يحدث هذا الفعل إلا مع هذا الفعل أو نحو ذلك، فإن الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدم عليه. وأما العلة فيجب تقدمها عليه، فلو كان الفعل علة أو جزء علة لزم تقدم كل منهما على الآخر. وأما كون أحد الفعلين مشروطا بالآخر فهذا لا محذور فيه، وكذلك لا محذور في كون الفعل يحدث بأسباب بعضها من الإنسان، ويكون ذاك السبب متقدمًا على الفعل، فكذلك لا يجوز أن تكون لذته المنقضية هي العلة الغائية مطلقًا، لوجود قصده وعمله، ولا جزءًا من العلة، وإن كانت شرطًا في وجود المعلول الذي هو المقصود لذاته. ولهذا يوجد بعد حصول اللذة نفسه تطلب أمورًا أخرى وتقصدها، ولا تطمئن القلوب وتسكن إلا إلى الله، كما قال: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)) (1)، وذلك لأن ما يتعقبه العدم لا يصلح أن يكون

_ (1) سورة الرعد: 28.

مقصودًا لذاته، فإنه لو كان هو المقصود بالذات، لكان حال القاصد له بعد عدمه كحاله قبل وجوده، فيمتنع أن يكون مقصودًا، لأن ذلك عَبَثٌ وسَفَهٌ، كما تقدم بيانه، وإنما يقصد لأنه بعد عدمه يبقى أمر موجود يصلح أن يكون مقصودًا، كما أن الأكل والشرب ولذة ذلك وإن كانت منقضية، ولذة الوقاع وإن أكانت، منقضيةً، فليست هي المقصودة من هذا الفعل بالذات، بل وإن قصدها الحيوان لما فيها من اللذة، فالمقصود مع ذلك ثبات جسمه وبقاؤه ووجود النسل، وهذه الغاية فإن لم يقصدها الحيوان الفاعل، فهي مقصودة لخالق الفعل وغيره، وذلك أن الحيوان لما لم يكن مستقلاًّ بالفعل، لم يجب أن يكون مستقلاًّ بالقصد الذي هو مبدأ الفعل، بل كما أن فعله لغيره فيه تأثير، فلغيره مقصود، فالسبب الفاعل كالسبب الغائي، ثم الإنسان إذا لم يقصدها، لا يمتنع وجود الفعل، بل يقتضي ذلك فساد حاله، فإنه من لم يقصد بأفعاله إلا نيل اللذة العاجلة فهذا أفعاله فاسدة باطلة، وهي حال من اتبع هواه، ومن كان لا يريد إلا العاجلة. ونحن إنما قصدنا تبيين فساد مثل هذا القصد والعمل، وأنه لا يصلح حال صاحبه، لا تبيين امتناع الفعل بدونه، فإن امتناع الفعل ووجوده يتعلق بخلق الله وما ييسره من الأسباب، فهناك يتبين أنه لو كان هو الغاية أو جزؤها لامتنع أن يكون موجودًا مخلوقًا. وأما في قصد الإنسان فتبين أنه يكون فسادًا وضررًا وشرّا كما تقدم، فإن الموجودات لا توجد بدون أسبابها الفاعلة، ولا تكون موجودةً من الله بدون غاياتها المقصودة، وهو الحكيم في تلك

- الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل

الغايات. وأما الحيوان فلا بد له من مقصود بفعله، لكن لا يجب أن يكون ذلك الذي قصده مصلحةً له ونافعًا له، كما أنه لا بد له من قصدٍ وقوةٍ، لكن لا يجب أن يكون مقرًّا بأن ذلك بإعانة الله وقدرته. وإذا تبين أنها ليست مقصودة بالذات، فالمقصود بالذات لا بد أن يكون باقيًا أبديًّا، كما بينا أن ما يتعقبه العدم لا يكون مقصودًا بالذات، وكذلك أيضًا لا بد أن تكون ذات العلة الغائية متقدمة على الفعل، وإن كان ما يطلب بالحركة إليها يكون لذة حادثة، وإن كانت متواصلة، وهذا مما نُبيِّنه هنا، وإن لم يكن مبينًا فيما مضى، وذلك أن العلة الغائية هي علة بماهيتها وحقيقتها المقصودة لفاعلية العلة الفاعلية، إذ لولا كون تلك الحقيقة تستحق أن تُطلَب وتُقصد لامتنعَ أن يقصدها الفاعل، فامتنع فعلها، ولا يجوز أن يكون الفاعل بإرادته وفعله جعلها مقصودة مرادة، لأن إرادته متوقفة على كون المراد يجب أن يكون مرادًا، فلو كان كون المراد مرادًا حاصلاً بإرادته لزم الدور، وإذا كانت إرادته هي [التي] جعلتِ المرادَ مرادًا، والمراد هو الذي جعل الإرادة مريدة، بل لابد من حقيقة تكون هي بنفسها تستحق أن تكون مرادة مقصودة، وحينئذ يراد ويقع الفعل، كما أنه لا بد من حقيقة ... (1) فاعلة، وحينئذ فيفعل أفعالاً، فلا يجوز أن يكون مفعولها أحدثها وفعلها. والإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل، فإن المراد

_ (1) بياض في الأصل بقدر كلمة.

- غلط من قال: إن المعدوم شيء

هو الذي يوجب الإرادة، يوضح ذلك أن العلة الغائية إذا كانت لا بد من تقدمها في العلم والقصد، فالعلم والقصد لا يتعلق بالعدم المحض ابتداءً، بل المقصود إنما يعلم بطريق التمثيل بالموجود، ولذلك إنما يقصد بالغرض، فيكون الغرض من عدم أحد الضد وثبوت الضد الآخر، كما يقصد عدم المانع. أما أن يكون العدم مقصودًا بالقصد الأول أو معلومًا بالعلم الأول، فهذا محال. وإذا كان كذلك، فالغاية التي لا توجد إلا بعد الفعل تكون حالَ العلم والقصد معدومة، فإنما يعلم بالقياس إلى غيرها، وإنما يقصد لقصد أمر وجودي، وإلا فالعدم المحض إذا قُصِدَ إيجاده لا لقصد أمر موجود، لزم أن يكون في العدم المحض ما يتميز فيه مقصود عن مقصود، وهذا ممتنع. ومن هنا غلط الغالطون القائلون بأن المعدوم شيء، وأهل الإثبات وإن قالوا: هو ثابت في العلم، فالقصد يتوجه إلى المعلوم، لكن يقال: العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فكذلك المعلوم لِمَ كان مقصودًا دون غيره، وليس في العدم المحض تميز، بل لا بد أن يكون المقصود أمرا وجوديًّا، ثم أريد حصول فعل وغاية قريبة لحصول ما يطلب من العمل للغاية المقصودة لذاتها. ولهذا مكة موجودة قبل سعي الحاج إليها، فهي الغاية، وإن كان وصوله إليها، وأعمال المناسك هي غاية عمله لها، وهذه هي الغاية التي تتأخر عن العمل، لكن نفس الغاية المقصودة لذاتها لا بد أن تتقدم الفعل.

وهذا أصل عظيم، يسَّر الله بيانه بعد كثرة تحويم القلوب عليه، وهو نافع في أصلين عظيمين: أحدهما: أن الله هو الإله المعبود لذاته. والثاني: أنه هو المحبوب لذاته، فإليه تصير الأمور، وإليه المنتهى في أفعاله وأفعال عباده، كما أنه رب ذلك كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(6) قاعدة في العدم والإعدام واستطاعته وفعله

قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله

- الصفات المتعلقة بالوجود كيف تتعلق بالعدم؟

الحمد لله رب العالمين. قال الشيخ الإمام العالم المحقق أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله: فصل قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به ونحو ذلك قد ذكرتُ بعض ما يتعلق بذلك عند الكلام في العلم بالمعدوم، ومسألة النهي هل هو طلب العدم أو الوجود، وعند الكلام في إحسان الله لخلق كل شيء، وأنه إنما لا يُصرَف إليه المعدوم ونحو ذلك. ونحن نذكر هنا قاعدة، فنقول: الصفات المتعلقة بالوجود مثل: العلم والإرادة والأمر والقدرة والفعل والسبب الفاعل كيف يتعلق بالعدم؟ أما العلم فقد قررنا في غير هذا الموضع أنه إنما يُعلَم المعدومُ بطريق التَّبع للعلم بالوجود، وكذلك قررنا أنه إنما يُراد المعدومُ بطريق التَّبع للموجود، فإن الشاعر منا لا يُدرِك بنفسِه ابتداءً عدمَ شيء، وإنما يُدرِك الوجود، ثم يُقَدِّر في نفسه ما يُركِّبُه أو يُفرِّعُه منَ أجزاء الوجود، مثل تقدير إلهٍ آخر، أو نبى بعد محمدٍ، أو جبلِ ياقوت، أو بحرِ زئْبقٍ، فحينئذٍ يعلم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا نبي بعد محمد، وأنه ليس هنا جبل ياقوت وبحرُ زئبق، وإنما يَعلم ذلك بعد أن يكون عَلِمَ إلهًا موجودًا ونبيًّا موجودًا وبحرًا وجبلاً وياقوتًا وزِئبقًا، وأما ما لم يتصور مفرداته من الموجود فإدراكُ عدمِه مثلُ عدمِ إدراكِه، كما قال تعالى: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي

- صفة الإرادة واختلاف الناس في القدرة على العدم

السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (1)، فعدم علمه بوجودِ ذلك مثلُ علمه بعدمِه. وهذا في حق الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم، لا يَعزُب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فما لم يعلمه من الأشياء يعلم أنه ليس في الأشياء. وكذلك الإرادة، فإن الحيَّ إنما يُريد بالقصد الأول ويحبّ ما يناسبه أو .... (2)، فلا يحبُّ ويريد بذاته إلا ما يطلب وجوده، ثم قد تُعارِضه أشياءُ فيكرهها ويُبغِضها ويُريد أن لا تكون. ثم إذا كَرِهَ هذه الأشياء قبلَ كونها أو بعدَ كونها فإنه يَسعَى في إبطالها، وقد يكون قادرًا على ذلك ويَنهى عنها غيرَه. فاختلف النالس في هذا المقام: منهم من قال: القدرة لا تكون قدرةً على العدم، ولا الفعلُ يكون فعلاً للعدم، ولا الإرادة تكون إرادة للعدم، لأن العدم لا شيء، والقدرة على ما هو لا شيء لا شيء، فتكون القدرة على العدم كعدم القدرة، وكذلك فِعْلُ ما هو لا شيء وإرادة ما هو لا شيء بمنزلة وجوده، فإن هذا مما لا يستريب الناسُ فيه أنه لا يحتاج إلى فاعل وقادر، بل يكفي في عدمِه عدمُ مُقتضِيهِ ومُوجبه، ولهذا نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فنُضِيف عدمَ الكَونِ إلى عدم المشيئة. لا يُحتاج أن يقال: وما شاء أن لا يكون لم يكن. وهذا قول كثير من المتكلمة والمتفقهة من المعتزلة والأشعرية

_ (1) سورة يونس: 18. (2) هنا كلمة رسمها: "يحابنا"، ولعلها "يجانسه ".

- معنى إرادة الله لإعدام الشيء، واختلافهم فيه

والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء فيما إذا أرادَ الله أن يُفنِيَ شيئًا ويُعدِمَه: فقال البصريون من المعتزلة: يُحدِثُ فَناءً لا في محلٍّ، فيَفنَى به. كما يقولون في الإيجاد: إنه أَحدثَ لا في محلٍّ، فَحَدَثَ به. وهذا عند العقلاء معلوم الفساد بالضرورة والنظر من وجوهٍ كثيرة، كما ذلك معلوم الفساد في الإرادة، فإنّ قيامَ الصفات بغير محلٍّ وحدوثَ شيء بلا إرادةٍ ومنافاةَ شيء سمَّوه الفناءَ لجميع الكائنات= كل هذا مما يُعلَم فسادُه عند تصوُّرِحقيقته. وقال كثير من متكلمة الإثبات من الأشعرية والحنبلية: عدمُه وفناؤُه بأن لا يُحدِث سببَ بقائِه، إمّا أن لا يُحدِث البقاءَ عند من يقول منهم: إن الباقي باقٍ ببقاءٍ، وإمّا أن لا يُحدِثَ الأعراضَ عند من يقول منهم: إن العَرَضَ لا يَبقَى زمانَيْنِ. فإن هؤلاء يقولون: إنما بقاءُ الأعيان التي هي الجواهر بما يُحدِثُه له من الأعراض، أو بما يُحدِثُه من البقاء، فإذا انتفَى شرطُ بقائها انتفَتْ وعُدِمَتْ، وانتفاءُ شرطِ البقاءِ يكفي فيه أنه لا يفعله ولا يُريدُه. وحقيقة قولهم أن العدمَ الطارئَ المتجددَ بمنزلةِ العدم الدائمِ المستمرّ، يكفي فيه عدمُ الإرادةِ للإيجادِ والإبقاءِ وعدمُ إيجادِه وإبقائِه. فالمعتزلة قالوا: يُفنِي الأشياءَ ويُعدِمُها بإحداثِ ضِد يُنافيها هو الفناءُ، وهؤلاء يقولون بفَواتِ شَرْطِها ومقتضاها، فالنزاع بينهم هل الإعدامُ والإفناءُ لإيجادِ مانع أو لعدمِ شرطٍ، وكلُّهم فَرُّوا من كون نفس المعدوم مفعولاً بنفسِه أو مرًادًا بنفسِه.

- المذهب الثاني أن العدم نوعان كما أن الوجود نوعان

فهذا أحد القولين، وهؤلاء يقولون: المطلوبُ بالنهي أو المرادُ بالنهي ليس عدمَ المنهيّ عنه، وإنما هو فِعلُ ضِدٍّ من أضدادِ المنهيِّ عنه: إمّا الامتناع من الفعل، وإمّا البُغْضُ له والكراهة ونحو ذلك، حتى يصحَّ أن يكون مطلوبًا مرادًا للناهي، ويصحّ أن يكون مقدورًا مفعولاً مرادًا للمنهيِّ. فعلى قول هؤلاء كما أن العلة الفاعلية للأمر الموجود لا تكونُ عدمًا بالاتفاق، وإلاّ لصحَّ [نسبة] الحوادث إلى معدوم، فيَبطُل الاستدلالُ بها على الخالق البارئ المصور. كذلك يقولون: العلة الغائية لا يصحُّ أن تكون عدمًا أيضًا، إذْ هي مطلوبُ الفاعل ومرادُه، والمعدوم لا يكون مطلوبًا ولا مرادًا. والقول الثاني في أصل المسألة: إن العدم نوعان كما أن الوجود نوعان، فكما أن الوجود بنفسه هو غنيّ عن الفاعل، وهو الله سبحانه، والممكن بنفسه مفتقر إلى الفاعل محتاج إليه. فكذلك العدم نوعان: أحدهما: ما انعقَدَ سببُ وجودِه التامّ أو المقتضي، وُجِدَ أو لم يُوجَد. والثاني: ما لم ينعقد سببُ وجودِه. فما لم ينعقد سبب وجودِه يكفي في عدمِه عدمُ سببِه، لا يحتاج إلى فاعلٍ ولا مريدٍ لعدمه. وأما ما انعقد سببُه التامُّ فوُجِدَ، أو انعقد سببُه المقتضي فهو معترض للوجود، فهذا إن لم يوجد ما يُعارِضُه ويُنافِيه لم يُعدَم. فالعدم الحادث الطارئُ كالوجودِ الحادثِ الطارئ، كلّ منهما لا

- العلة والسبب ونحو ذلك من الأسماء تكون مترادفة من وجه ومتباينة من وجه

بدَّ له من سبب، لكن الوجود يتوقف على وجود السبب وانتفاء المانع، والعدم يكفي فيه كلُّ واحدٍ من عدم المقتضي ووجود المانع، فالوجود مفتقرٌ إلى الأمرين كليهما، والعدم يكفي فيه أحدهما إذا عُنيَ بالسبب العلة المقتضية دون التامة، وأما إذا عُني به العلة التامة فهذه العلةُ يلزم من وجودها وجودُ المعلول، ومن عَدَمِها عدمُ المعلول، فالوجود لا يقف إلا على وجودها، والعدم لا يقف إلاّ على عدمها. وبهذا التفسير تزول الشبهةُ الواقعة بين كثير من الناس في مثل هذه المَحارات والمضطربات التي يكثر فيها النزاعُ والجدال، وينتشر فيها القيل والقال، ويحصل فيها التفرق والاختلاف، ويزول بها الاجتماع والائتلاف، فإذا فُسِّرت الأسماءُ المشتركة وفُصلَ الحقُّ من الباطل وحُكِمَ بالعدل بين الفِرَق والمقالات ظهر الكتابُ والسنة والجماعة، وزال الضلالُ والبدعة والفرقة. فنقول: العلة والموجب والمقتضي والباعث والسبب والمناط والمحرِّك والداعي ونحو ذَلك من الأسماء هي أسماءٌ متقاربة، تكون مترادفةً من وجهٍ ومتباينةً من وجهٍ، وفيها تقسيمان: أحدهما: أن العلة تنقسم إلى تامة موجبة يُوجد بها المعلولُ لا محالةَ، وإلى مقتضيةٍ قاصرةٍ تَقِفُ على شروطٍ وانتفاءِ موانع. ولفظ العلة يُعبَّر به عن كلِّ من المعنيين في أصولِ الدين وأصولِ الفقه وفي الكلام والفلسفة وغيرِ ذلك. فأما الأولى فلا تُوجَد إلاّ مجموع أمور، وما ثمَّ سبب واحدٌ يُوجب مسبَّبَه لا محالةَ وينتفي مسبّبه عند انتفائه إلاّ مشيئة الله، فإنه ما شاءَ كَان

وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانَه فعَّالٌ لما يشاءُ، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) (1)، (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) (2)، وقال تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) (3). وهذا كثير في الكتاب والسنة وعلى اتفاق الملل وأهل الفطرة السليمة، لم يخالف فيه إلاّ القدريةُ من جميع الطوائف الذين يزعمون: قد يُرِيد ما لا يكون، ولا يُفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية. فإرادته سبحانه ومشيئته هي السبب والعلة الكاملة التامةُ وجودُها، ومحبوبُه ومرضيُّه هي الحكمة والغايةُ التامةُ الكاملة. هذا في العلة السببيةِ، وأما الغائية فهو كذلك أيضًا، غالبُ التامِّ منها مركَّبٌ، وما ثمَّ ما هو العلة الغائية على الإطلاق إلاّ محبوبُ الله ومرضيه، وإن كان الحب والرّضا يستلزم ... (4)، فإن عبادته وطاعته وطاعة رُسُلِه هي غايةُ الأعمال في الدنيا، والتلذذ بالنظر إليه هو غاية المطلوب في الاخرة. وأما ما فى حق الربّ وأمره فإن محبوبه ومرضيّه هو الغاية المرادة من ذلك كله، وإن كان من الأسباب والوسائل ما هو مرادٌ غيرُ محبوبٍ ولا مرضى، فإن الشيء المحبوب المُشْتهَى قد

_ (1) سورة يونس: 107. (2) سورة الزمر: 38. (3) سورة الكهف: 39. (4) هنا بياض في الأصل بقدر كلمتين.

- معنى قولهم: العلة العقلية توجب معلولها، بخلاف العلة الشرعية

يتوقف حبه على وجودِ شرط وانتفاء موانع غير محبة الله تعالى، مثل اقتضاء النارِ الإحراقَ والماءِ الإغراقَ، والطعام والشراب للشِّبَع والرّيِّ، والشعاع للتسخين، والأعمال الصالحة للثواب، والأعمال السيئة للعقاب، ونحو ذلك. فكلّ هذه الأمور قد يتخلَّفُ مقتضاها لفواتِ شرط أو وجود مانع. وكذلك في الغائيات، فإن جعلتَ العلةَ مجموعَ الأمور التي يجبُ عندها الحكمُ فهي العلةُ التامة، وإن جعلتَها الأمرَ المقتضيَ للحكم لولا المُعارضُ المقاوِمُ فهي العلة المقتضية الناقصة. وبهذا التقسيم يُعرف اختلافُ العلماء من أصحابنا وغيرهم في العلة هل يجوز تخصيصها، فإن عنِي بالعلةِ التامَّةُ فتلك لا تَقبلُ التخصيصَ، وإن عُنِي بها المقتضيةُ فإنها تقبل التخصيص. وهذا عامٌّ في العلل الكونية والدينية، الطبعية والشرعية، العقلية والسمعية. فإن قلت: فإن كثيرًا من أصحابنا وغيرهم يقولون: العلة العقلية تُوجِبُ معلولَها، لا يتخلف عنها، ولا يقف على شرط، ولا لها مانع، بخلاف العلة الشرعية. قلتُ لك: هؤلاء مرادُهم بالعلة الصفاتُ التي تُوجب الأحوالَ، مثل أن العلم علةُ كونِ العالم عالمًا، والحركة علةُ كَونِ المتحرك متحركًا، مبنية على ثبوت الأحوال في الخارج معاني غير الصفات. فمن أثبت الأحوالَ من متكلمة المعتزلة ومتكلمة الصفاتية من أصحابنا وغيرهم فإنه يفرّق بين العلم والعالمية والقدرة والقادرية، ويجعل الصفاتِ توجب الأحوال. ومن نفى الأحوال فإن عنده العلم نفس كون

- الكلام على العلل الطبيعية الموجودة في الخارج

العالم عالمًا، والحركة نفس كون المتحرك متحركًا، ليس عندهم هنا شيئانِ أحدُهما علةٌ والآخرُ معلولٌ. وأما العلل الطبعية الموجودة في الخارج، مثل كون الأكل والشرب علةً للشَبَع والريّ، والإحراق والإغراق علة للحرق والغرق، فكثير من متكلمة أهل الإثبات من أصحابنا وغيرهم لما ناظروا أهلَ الطبع وأهلَ القدر في أن الله خالقُ كلِّ شيء أنكروا أن يكون في العلم علةٌ أو سبب، وقالوا: إن الله يخلق هذه الآثار عند هذه الحوادث، فهؤلاء إذا تكلموا في العلة والسبب لم يدخل هذا في كلامهم، وهذه طريقة كثير من الفقهاء الحنبلية والمالكية والشافعية ومتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم. فإذا وجدتَ في كلام القاضي أبي بكر ابن الباقلاني أوالقاضي أبي يعلى أو القاضي أبي الطيب أو أبي إسحاق الفيروزابادي أو أبي الخطاب أو ابن عقيل أو نحو هؤلاء الفرقَ بين العلل العقلية والشرعية فهذا مرادهم. وأما جمهور العقلاء من أهل الإسلام وسائر الملل وإن كانوا يردّون على أهل الطبيعة الذين يُضيفون الحوادثَ إلى ما دون الله من جسمٍ أو طبعٍ أو فلكٍ أو نجمٍ أو عقلٍ أو نفسٍ، وعلى القدرية الذين يزعمون أن أفعال الحيوان لم يَخلُقْها الله ولا يَقدِر على خَلْقِها، ويعلمون (1) أن الله خالقُ كلِّ شيءٍ = فلا يُنكِرون ثبوتَ الأسباب وأنّ الله يخلق الأشياء بها، كما نطقَ بذلك الكتاب والسنة، وكما اتفق عليه

_ (1) عطف على "يردون ... ".

سلفُ الأمة والسَّالِمُو الفطرةِ من أهل الملة. قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) إلى قوله: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (1)، وقال تعالى: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (2)، وقال: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) (3)، وقال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)) (4)، وقال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَام) (5)، وقال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) (6). وهذا كثير في الكتاب والسنة. فمن قال: لا يقال: إن الله يَفعل بها، وإنما يَفعل عندها لا بها، فقد خالف الكتاب والسنة وفِطَرَ العقلاء. فإن قلتَ: قد ذكرتَ أنه ليس في الوجود علةٌ تامة وحدَها إلا مشيئة الله، فكيف تَصنع بالإحراق والإغراق والإزهاق والتكسير والتعليم ونحو هذه الأفعال التي لها أفعال مطاوعة، فإن الكسر مستلزمٌ للانكسار، والإحراق مستلزمٌ للاحتراق، والإزهاق مستلزمٌ للزهوق، ونحو ذلك. قلتُ: الإحراق ونحوه إما أن يُعنَى به فِعلُ المحرِق فقط، أويُعنَى

_ (1) سورة الأعراف: 57. (2) سورة البقرة: 164. (3) سورة النمل: 60. (4) سورة ق: 9. (5) سورة المائدة: 16. (6) سورة البقرة: 26.

- ليس في الوجود علة تامة إلا مركبة سوى مشيئة الله تعالى

به فِعلُه وقبولُ المحترق، فإن عُنِيَ به فِعلُ الفاعلِ فقط فهو من العلل المقتضية لا الموجبة، يقال: أحرقتُه فلم يَحترِقْ، وعلَّمتُه فلم يتعلَّم، وكسرتُه فلم ينكسر، وإن عُنِي به فعلُ الفاعل وقبولُ القابل فهما أمرانِ مركَبانِ. وهذا طردُ قولنا: ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى، وقد تقدم الكلام على الصفات والأحوال هل تدخل في العلل أم لا. فهذا أحد القسمين. التقسيم الثاني: أن الشيء ليس له خارج عن نفسه علتان: علة فاعلة وعلة غائية، ويُسمّي الفقهاءُ الفاعلةَ السبب والموجب، ويُسمُّون الغائيةَ الحكمة والمراد والمقصود. أما المادة والصورة فذلك علتان للمركب في نفسه، فالمركب كالخاتم مثلاً مركّبٌ من الفضة التي هي المادة، والصورة التي هي القالَبُ (1)، وتسمية هذا عللاً ليس من اللغة المعروفة ولا من المعروف في الفعل، وإنما هو اصطلاحٌ لطائفة من النظار من المتفلسفة وغيرهم، وإنما العلة المعروفة ما كان مغايرًا للمعلول، فالإنسان بعقلٍ يفعل فعلاً لمقصودٍ، فهو الفاعل له، والمقصود هو الغاية المقصودة به، والعلة الغائية علة العلم وفاعلية العلة الفاعلية، فإنه لولا المقصود والفاعل لما فعلَ الفاعلُ، وهي [أوّلٌ] في القصد آخرٌ في الوجوِد والفعل. ولهذا قال تعالى: في أم الكتاب: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5))، فإن الله سبحانه هو

_ (1) في الأصل: "البالف".

- العلل في اصطلاح الفقهاء قد يراد بها الأسباب، وقد يراد بها الحكمة المقصودة التي هي الغاية

الإله المعبود بجميع الأعمال الصالحة، وهو الخالق الربُّ المُعِين عليها، فله الدعاءُ وحدَه لا شريكَ له دعاء العبادةِ والتألُه لألوهيتِه، ودعاء السؤالِ والطلب لربوبيتِه الداخلة في ألوهيته. وهو ربُّ العالمين وخالق كل شيء، وَلهذا قال: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (1)، وقال: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)) (2)، وقال: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)) (3). إذا عُرِف ذلك فالعلل في اصطلاح الفقهاء في الدين والشريعة قد يُرادُ بها الأسباب التي هي بمنزلة الفاعل، كما يقال: مِلك النصاب سببٌ لوجوب الزكاة، والزنا سببٌ لوجوب الحدّ، والقتل العمد سببٌ لوجوب القَوَد. وقد يُراد بها الحكمةُ المقصودة التي هي الغاية، كما يقال: شرِعَت العقوباتُ للكفِّ عن المحظورات، وشُرِعَت الضماناتُ لإقامة العدل في النفوس والأموال، وشُرِعَت العباداتُ لأن يُعبَد الله وحدَه لا شريك له، وشُرِع الجهادُ لتكون كلمةُ الله هي العليا ويكون الدين كلُّه لله. وهذه الحِكَم والمصالح التي هي الغايات تكون مقصودة مرادةً للشارع الاَمِر وللفاعل المطيع، ولكن تحصل بدونِ قصدِه، كما يَحصُل ثوابُ كثيرِ من الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة لمن أطاعَ الله ورسوله في أَفعالٍ كثيرة، وإن كان لم يعلم ذلك فضلاً عن أن

_ (1) سورة هود: 123. (2) سورة هود: 88، سورة الشورى: 10. (3) سورة الرعد: 30.

- اختلاف الفقهاء في جواز تعليل الوجود بالعدم

يَقصِدَه. وقد تنازع الفقهاء هل يجوز تعليلُ الوجود بالعدم، فذهب طوائف من أصحابنا وغيرِهم إلى جواز ذلك، وذهب طوائف إلى أنه لا يجوز. ثم منهم من يقول: يجوز أن يكون العدمُ جزءاً من العلة أو شرطًا، ومنهم من يمنع ذلك، ومنهم من يمنع الجزءَ دون الشروط. وفصَّل أبو الخطاب أن ذلك يجوز في قياس الدلالة بلا ريب، فإن قياس الدلالة المشترك بين الأصل والفرع دليلٌ على العلة وإن لم يُذكَر نفس العلة، والدليل يجوز أن يكون وجودًا وعدمًا، سواء كان المدلول وجودًا أو عدمًا. ومن جعلَ عِللَ الشرعِ كلَّها أماراتٍ ومُعرِّفاتٍ من أصحابنا وغيرهم فجميع الأقيسة عندهم قياس دلالة، وجميع العلل عندهم مجرد أدلة. لكن هذا قول ضعيف. وأما في قياس العلة فيمتنع أن يكون العدم فاعلاً للوجود، وهذا معلومٌ ببديهة العقل، ولو جاز ذلك لجاز إسنادُ الحوادث إلى معدوم، فامتنع بهذا أن تكون العلة العدمية بمعنى الفاعل علة لوجود. لكن هل يكون العدم شرطًا أو جزءًا؟ فهذا ينبني على ما تقدم أن العلة إذا عُنِيَ بها الموجبة التامَّة لم يمتنع أن يكون العدم جزءاً منها، وإن عُنِيَ بها المقتضي لم يمتنع أن يكون العدمُ شرطا في تأثيرِها، فإن تأثير السبب المقتضي لأثرِه قد يَقِفُ على انتفاءِ الضدّ المعارض. ثم إنه كثيرًا ما يكون قد انعقدَ سببُ الشيء، وإنما تخلف الحكمُ لمانعٍ [أو] لمعارضٍ، فإذا انتفَى ذلك المانعُ أضِيف الحكمُ إلى انتفاء المانع، وهو في الحقيقة جزء العلة أو شرطها، ويُجعَل علةً في اللفظ عند النزاع،

- هل تكون العلة الغائية علة الوجود؟

لأن الجزء الآخر قد عُلِمَ وجودُه واتُّفِق عليه، مثل أن يقال: يُباحُ دَمُه لأنه ليس بمسلمٍ ولا مُعاهَد، أو تجب عليه الزكاةُ لأنه ليس بمَدِيْن، أو يُعزَّر لأنه ليس بمُحْصَن، ونحو ذلك. وأما العلة التي هي الحكمة الغائية فهل يجوز أن تكون علة الوجود، بمعنى أن يكون مقصودُ الفاعل ومرادُه العدمَ، فهذا يتعلق بالقاعدة التي تكلمنا فيها، وبَيَّنا أن العدم لا يكون مقصودًا لنا ومرادًا ابتداءً، لأنه ليس فيه لنا فائدة ولا مناسبة، وإنما نَقصِدُه ونُرِيدُه إذا كان في الوجود ضررٌ، فنُريد زوال الضرر وعدمَه، فيكون أعدم، الضرر علة غائية مقصودة بهذا الاعتبار.

(7) فصل في الإسلام وضده

فصل في الإسلام وضدّه

- الإسلام يجمع معنيين: الاستسلام وإخلاص ذلك لله

فصل في الإسلام وضدّه قد كتبنا في غير هذا الموضع في مواضعَ أن الإسلام هو الاستسلامُ لله وحدَه، فهو يجمعُ معنيين: الانقياد والاستسلام، والثاني إخلاص ذلك لله، كما قال تعالى: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) (1) أي خالصًا له، ليس لأحدٍ فيه شيء. وإنه يُستعمل لازمًا ومتعديًا، فالأول كقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)) (2)، وقوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)) (3)، وقوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) إلى قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (4). وهو هذا الإسلام الذي هو الاستسلام لرب العالمين. وقد يُستعمل متعديًا في مثل قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (5)، وفي قوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (6). فهنا لما كان مقيَّدًا بإسلام الوجه قرن به الإحسان، لأن إسلام الوجه له هو يتضمن إخلاص القصد له، فلا بدَّ مع ذلك من الإحسان، ليكون

_ (1) سورة الزمر: 29. (2) سورة البقرة: 131. (3) سورة غافر: 66. (4) سورة آل عمران: 83 - 85. (5) سورة النساء: 125. (6) سورة البقرة: 112.

- لفظ الإسلام المطلق قد يكون لله وقد يكون لغير الله

عملُه صالحًا خالصًا لله. وهذا الإسلام الذي هو الإسلام لله- إذْ إسلام الوجه لله وهو محسنٌ يستلزمُ أصلَ الإيمان- لا يمكن أن يكون صاحبُه منافقًا محضًا، فإن المنافق المحض لا يكون مسلما لربّ العالمين ولا مسلمًا وجهَه لله، لكن قد شارك أصحابَه في الإيمان، لأن الإسلام قد يتضمن القصد والعمل، والإيمان يتضمن العلم والحبّ، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه أحمد في المسند (1): "الإسلام علانيةٌ، والإيمان في القلب ". وكذلك حديث جبريل (2). فصاحبه قد يكون معه أصلُه لا كمالُه. وأما مطلق لفظ المسلم فقد يكون أسلم رغبةً أو رهبةً من الخلق ولم يُسلِم لله، وهذا قد يكون منافقًا محضًا. وأما لفظ الإسلام المطلق فقد يكون لله، وقد يكون لغير الله، وقد يُظهر صاحبُه أنه أسلم لله، قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) الاَية (3)، وكذلك قال في قصة لوط: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (4). وكذلك حديث سعد بن أبي وقاص الصحيح (5): لما أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالاً ولم يُعطِ رجالاً كان أعجب إلى سعد مما أعطى، فقلت: ما لكَ

_ (1) 3/ 134 من حديث أنس. (2) أخرجه البخاري (50) ومسلم (9) عن أبي هريرة. (3) سورة الحجرات: 14. (4) سورة الذاريات: 35 - 36. (5) البخاري (27) ومسلم (150).

- قد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم يصل إلى الإيمان الواجب

عن فلان عن فلان، إني لأراه مؤمنًا، فقال: "أو مسلمًا" مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: "إني لأعطِي الرجلَ وأَدعُ من هو أحبُّ إليَّ منه، أُعطِيه لما في قلبه من الهلَع والجزَع " أو كما قال. فامرأة لوط كانت منافقةَ كافرةً في الباطن، وكانت مسلمة في الظاهر مع زوجها، ولهذا عُذِّبت بعذاب قومِها. فهذه حال المنافقين الذين كانوا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستسلمين له فيَ الظاهر، وهم في الباطن غير مؤمنين. والأعراب قد نَفى الله عنهم الإيمان بقوله (لَمْ تُؤْمِنُوا)، وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ثم قال: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). و"لمَّا" يُنفَى بها ما يفوت وجودُه ويُنتظَر وجودُه، فيكون دخولُ الإيمان في قلوبهم منتظَرًا مَرجُوا، وقد قال لهم: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) وظاهره أنهم إذا أطاعوه في هذه الحال أُثيبوا على الأعمال. ثم قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)) (1). وهذا هو الإيمان الواجب، وقد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم يَصِلْ إلى هذا، كالذين قال فيهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرةً، أو من كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من إيمان " (2). فسَلْبُ الإيمان عنهم لا يقتضي سلبَ هذا المقدار من الإيمان، بل هذه الأجزاء اليسيرة من الإيمان قد يكون في العبد ولا يَصِلُ بها إلى الإيمان الواجب، فإنه إذا انتفت عنه جميع

_ (1) سورة الحجرات: 15. (2) أخرجه البخاري (44) ومسلم (193) من حديث أنس.

- معنى كلام بعض السلف في مرتكب الكبيرة: أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام

آجزاء الإيمان كان كافرًا. وقد رُوِي عن حذيفة قال (1): "القلوب أربعة: قلبٌ أغلف، فذاك قلب الكافر؟ وقلبٌ مصفح، فذاك قلب المنافق؟ وقلبٌ أجرد فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن؟ وقلب فيه نفاق وإيمان، فَمثَلُ الإيمان فيه كمثلِ شجرةٍ يَمُدُّها ماءٌ طيب، ومَثَلُ النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدُّها قَيْحٌ ودمٌ ". وفي روايةٍ: "فأيُّ المادَّيْنِ غَلَبَ كان الحكمُ له ". وفي رواية: "وقلبٌ فيه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فأولئك قومٌ خلطوا عملاً صالحًا وآخرَ سيئًا". وهذا- والله أعلم- معنى كلامٍ قاله بعضُ السلف والأئمة في الزاني والسارق والشارب: أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وأن الإيمان يصير على رأسه مثلَ الظلَّةِ. فإنهم لم يريدوا بذلك الإسلام الظاهر المحض الذي يكون للمنافق المحض، لأن الكلام فيمن هو مُقِرٌّ في باطنه بما جاء من عند الله، لكن ارتكب هذه الكبائر، فعُلِمَ أنه يَخرجُ إلى الإسلام الذي يكون معه أصلُ الإيمان وبعضُه، ولكن لا تكون معه حقيقته الواجبة. ويُشبِه أن يكون إسلامُ الأعراب من هذا الباب، فإن الإنسان قد يُسلم للهِ حقيقةً فينقادُ ويَستسلم، ومع هذا لا يكون في قلبه من الهدى والعلم ما يمنع ورودَ الذنب عليه، ولا يكون في قلبه من المحبة ما يوجب صبره على الجهاد، إذ الإسلام هو الدين، والدين هو العمل والخلق، ومثل هذا قد يكون عن علمٍ ويقين وحبّ، وقد يكون

_ (1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1439) وأبو نعيم في الحلية (1/ 376) عنه.

- الإسلام له ضدان: الإشراك والاستكبار

عن نوع اعتقادٍ ونوع إرادة. وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذا، وإنما الغرض ما يأتي بعد. فصل المقصود هنا أنّا قد نبّهنا عليه غيرَ مرَّة أن الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار، لأنه الاستسلام لله وحده كما يترجم فيه شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله، فمن استسلم لله ولغير الله فقد أشرك بالله وجعَل له عِدْلاً وندًّا وشريكًا، ومن لم يستسلم بحالٍ فقد استكبر كحال فرعون وغيره. ولهذا قال: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)) إلى قوله: (إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)) (1). وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)) (2). وكلّ من الشرك والكبر كفرٌ يضادُّ الإيمان والإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يدخل النارَ من في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبْر"، فقال رجلٌ: يا رسول الله! إني أحبُّ أن يكون قولي حسنًا وفعلي حسنًا، أذلك من الكبر؟ فقال: "لا، إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكِبرُ بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس ". ولهذا قُرِنَ هذا في شعار الإسلام الذي هو

_ (1) سورة الدخان: 17 - 19. (2) سورة غافر: 60. (3) مسلم (91) عن ابن مسعود.

- قد يقال: الشرك أعم، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد

الأذان بين التكبير والتهليل، فإن التكبير- وهو قول "الله أكبر"- يمنع كبرَ غيرِ الله، وقول لا إله إلا الله يوجب التوحيد، وهاتان الكلمتان قرينتان، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبتنّا اقتران التهليل والتكبير كاقتران التسبيح والتحميد. وقد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد، فإن المشرك قد يكون متكبرًا وقد لا يكون، وأما المستكبر فلا بدّ أن يكون فيه شرك، فذَمُّ المشرك يدخل فيه ذمُّ المستكبر من أهل الكتاب، وذمُّ المستكبر لا يدخل فيه ذمُّ المشرك الذي ليس مستكبرًا، ولهذا يُكتفَى بكلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله عن كلمة التكبير، من غير عكس، كما قال تعالى عن النصارى: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)) (1)، وقال في وصفهم: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (2)، وقال فيهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (3)، فوصفَهم بالشركِ وتركِ الكبر، وهذا ظاهرٌ من حالِ كثيرٍ منهم أن فيهم شركًا وتواضعًا، لكن الشرك من أعظم الفساد لصاحبه، إن لم يُرِد علوًّا في الأرض فقد أراد فسادًا. لكن هذا في مشركي أهل الكتاب، إذ الشرك مبتدعٌ في دينهم لا

_ (1) سورة المائدة: 82. (2) سورة الحديد: 27. (3) سورة التوبة: 31.

أصل له، فأما المشركون من غيرهم فقد قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (1). وأما اليهود فقد وصفهم بالاستكبار والعلوّ في الأرض في مثل قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)) (2)، كما وصف فرعون بذلك في قوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا) إلى قوله: (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)) (3)، فوصفَه بالعلو والفساد كما وصفَهم. وقال في اَخر السورة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) الاَية (4)، وقال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) إلى قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)) (5)، فهم استكبروا عما جاءت به الرسل، فقتلوا فريقًا من الرسل وكذّبوا فريقًا. والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح بن مريم. وقد قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا

_ (1) الصافات: 35 - 36. (2) سورة الإسراء: 4. (3) سورة القصص: 4. (4) سورة القصص: 83. (5) سورة البقرة: 83 - 87.

عَنْهَا غَافِلِينَ (146)) (1)، فوصف الله المستكبرين بالتكذيب بآياته والغفلة عنها، لأن الكبر- كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - بطر الحق وغمط الناس (2)، وبَطرُ الحقّ جَحْدُه ودَفْعُه، وهذا هو التكذيب، وأعظم من ذلك التكذيب بآيات الله، قال تعالى عن قوم فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)) (3)، وقال عن المشركين: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الاية (4)، وقال: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)) (5) وإنمَا يقَال: إن المسَتكبر لا بد أن يكون مشركًا، لأن الإنسان حارثٌ همّامٌ، فلا بدَّ له من حَرْث هو عملُه وحركتُه، ولا بدّ لذلك من همّ هو قصدُه ونيَّته وحبه، فإذا استكبر عن أن يكون الله هو مقصوده الذي ينتهي إليه قصدُه وإرادتُه، فيُسلم وجهَه لله، فلابدَّ أن يكون له مقصودٌ آخر ينتهي إليه قصدُه، وذاكَ هو إلهه الذي أشرك. ولهذا كان قوم فرعون الذين وصفهم بالاستكبار والعلوّ في الأرض وهم الذين استعبدوا بني إسرائيل، كانوا مع ذلك مشركين بفرعون اتخذوه إلهًا وربًّا، كما قال لهم: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (6)، وقال لهم:

_ (1) سورة الأعراف: 146. (2) أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود. (3) سورة النمل: 14. (4) سورة الأنفال: 47. (5) سورة الأنعام: 33. (6) سورة القصص: 38.

(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)) (1)، وقال: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)) (2). وفرعون نفسه الذي كان هو المستكبر الأعظم على قومه وغيرهم، كان مع هذا مشركا، كما ذكر ذلك تعالى عنه في قوله: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ) (3)، قيل: كان له آلهةٌ يعبدها سرًّا. وقد وصفهم جميعًا بالإشراك في قول الرجل المؤمن: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)) (4). وقال قبل هذا: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ) الاية (5)، وقد ذكر الله قول يوسف: (السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ) الاَية (6). وهذا إخبارٌ عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهةٍ يدعونها من دون الله. وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) الاَية (7)، وهذا يبين

_ (1) سورة النازعات: 24. (2) سورة الزخرف: 54. (3) سورة الأعراف: 127. (4) سورة غافر: 41 - 43. (5) سورة غافر: 34. (6) سورة يوسف: 39 - 40. (7) سورة النحل: 36.

أن جميع الرسل بُعِثوا بالتوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى في سورة هود بعد أن ذكر الأنبياء وأممهم ثم قال: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)) الايات (1)، يُخبر تعالى فيها عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهة. ولو لم يكن المستكبر يعبد غيرَ الله فإنه يعبد نفسَه ولا بدَّ، فيكون مختالاً فخورًا متكبرًا، فيكون قد أشرك بنفسه إن لم يشرك بغيره. وإبليس هو أول المستكبرين، قال تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)) (2). ومَن بَطِرَ الحقَّ فجحَدَه فإنه يضطرُّ إلى أن يُقِرَّ بالباطل، ومَن غمطَ الناسَ فاحتقرهم وازدراهم بغير حق فإنه يضطرّ إلى أن يُعظّم آخرين بالباطل، وهذا من الشرك. فمَن غَمَطَ الناسَ جَحدَ حقَّهم ليُعظم نفسه بذلك، وهذا هو الاستكثار والاختيال، فلا بدَّ له ممن يُعينه على استكباره واختياله للشرك به، وهو يفرح بمن يحمده ويثني عليه ويعظمه، ويَشْنَأ من يَذُمه ويُبغِضه ويعيبه، فيكون من أعظم رياء وسمعة، والرياء والسمعة من الشرك، فالمستكبر من أعظم الناس شركًا ورياءً وسمعةً. وإبليس هو الذي يُزيِّن كلَّ شركٍ وكلَّ كبرٍ لبني آدم، وينفخ في أحدهم حتى يتعاظم، ويدعوهم إلى الإشراك بالله ويأمرهم بذلك، كما قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ

_ (1) سورة هود: 100. (2) سورة البقرة: 34.

بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ) (1). وهذا من أعظم الشرك بغير الله، وإن كان قد يشرك به أيضًا، فهو يجمع الإشراك بالله وبغيره ممن أطاعَ الخلقَ وعظَّمهم، فمن أطاعهم اقتدى بهم، ومن أطاع الرسلَ اقتدى بهم في توحيدهم وطاعتهم لربهم، ومن عصاهم ضلَّ، فجميع من عَصى الرسلَ ولم يقتدِ بهم فهو مشرك. وقد استقرت الشريعة على أن كل من ليس من أهل الكتاب فهو مشرك يعبد ما يستحسن، كما يذكر الفقهاء ذلك في باب أخذ الجزية، فليس لأحدٍ أن يُخرِج أحدًا من هؤلاء عن الإشراك، وذلك لأن العبد هو حارث وهمَّام حسّاس متحرك بالإرادة، وليس كل مرادٍ مرادًا لغيره، بل لا بدَّ أن تنتهي الإرادة إلى مرادٍ لذاته هو المطاع المحبوب المعظم، وذلك هو إله العبد الذي يعبده. فكلّ من لم يكن الله إلهه الذي يعبده الذي هو منتهى قصدِه وإرادتِه، فلا بدَّ أن يكون مشركًا ينتهى قصدُه وإرادته إلى غيرِه، سواء كان مَلِكًا له أو وثنًا أو غيره. ومن هذا الباب قول فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (2)، وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)) (3). ويُشبهه في ذلك من بعض الوجوه النمروذ وجنكزخان ملك المغل من الترك وأمثاله، فهؤلاء قومهم مشركون بهم، وقد قال تعالى في النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)

_ (1) سورة الأنفال: 47. (2) سورة القصص: 38. (3) سورة النازعات: 24.

- الشرك ظلم عظيم، والاستكبار أيضا من أعظم الظلم

الآية (1)، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عبادتهم إيّاهم: "إنهم أحلُّوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرَّموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم " (2). فكيف بمن يكون هو المطاع المطلق في أمره ونهيه وتحليله وتحريمه؟ ويكون قومه يقاتلون الناسَ على أن يكون الدين والطاعة لله وحده بحيث يستبيحون دم كلِّ من خرج عن طاعته! فصل ومن المعلوم أن الشرك ظلم عظيم، بل هو أعظم الظلم، كما قد ذكر الله ذلك في كتابه، وتكلمنا على ذلك في مواضع متعددة. والإسلام هو التوحيد لله، وهو أصل العدل والقسط، والاستكبار أيضًا من أعظم الظلم، ولو لم يكن فيه إلا الاستكبار على بعض الناس، فإن أدنى ما فيه تفضيل نفسه على نظيره بغير حق، ولقَصْده العلوَّ على غيره يجحدُ الحقَّ ويَغمطُ الخلق، فلهذا يوجد في الناس اَحادِهم وأممهم أن كل من كان أعظم تحقيقا للإسلام كان أبعدَ عن الشرك والكبر، وكلَّ من كان أبعدَ عن الإسلام كان أقرب إلى الشرك والكبر، فإن الإسلام هو أن يستسلم العبدُ لله رب العالمين، فلا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستكبر عن عبادته وطاعته وطاعة رسله التي جماعُها العدلُ، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ

_ (1) سورة التوبة: 31. (2) أخرجه الترمذي (3595) عن عدي بن حاتم. وقال: هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.

- الإسلام يتضمن العدل

وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (1)، وقال: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (2). ولهذا أمر الله رسولَه أن يقول لأهل الكتاب: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) الاَيةَ (3). فالإسلام يتضمن العدلَ، وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المتفاضلين من المخلوقات، إذ ذلك من الإسلام لله ربّ العالمين وحدَه، فإنه إذا كان الدين كله للهِ وكانت كلمةُ الله هي العليا كان الله يأمر بالعدل وينهى عن الظلم. وأصل العدل هو القسط، والقسط هو الإقساط في حق الله تعالى بان لا يُعدَلَ به غيرُه ولا يُجعَلَ له شريك، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "حقُّ اللهِ على عبادِه أن يعبدوه لا يُشرِكون به شيئا" (4). فإذا لم يُسلِموا له بل عَدَلوا به غيرَه كان ذلك ظلمًا عظيمًا، وإذا فعلوا هذا الظلمَ في حق الله فهم في حقوقِ العباد أظلم، والتسوية بين المتفاضلين ظلم، كما أن التفضيل بين المتماثلين ظلم، والشركُ من نوع الأول كما قال تعالى: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)) (5)، والاستكبار قد يكون من نوع الثاني، والإسلام يتضمن العدلَ كلَّه، كما أنه ينافي الشرك والكبر.

_ (1) سورة الحديد: 25. (2) سورة الأعر اف: 29. (3) سورة اَل عمران: 64. (4) سبق تخريجه. (5) سورة الشعراء: 98.

- على المؤمن أن يعرف حال الناس ويعمل معهم ما أمر الله به

فصل والمقصود هنا أن يَعرف المؤمنُ حالَ الناس الذينِ يحتاج إلى معرفة حالهم، ويعمل معهم ما أمر الله به، ويكون فيمن مَضى عبرةٌ له، فآل فرعون لما كانوا أبعدَ الخلق عن الإسلام الذي هو دين الله جعلهم الله في أشدِّ العذاب، كما قال تعالى: (أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)) (1)، لأنهم كانوا من أعظم الخلق استكبارًا وإشراكًا، حيث جعلوا واحدًا من جنسهم إلههم وربَّهم، فأطاعوه واتبعوا أمره الذي ليس برشيد، واستكبروا قبل مجيئ الرسولِ إليهم على من هو من جنسهم، فاستعبدوهم بغير حق وكانوا خَوَلَهم، وبعد مجيئ الرسول عَلَوا على ربِّهم وعلى رسوله. وكذلك بنو إسرائيل لما بُعِثَ إليهم المسيح كان من استكبارِهم على رسولهم سؤالهم المائدة وعبادتهم الطاغوت كما ذكره الله عنهم في كتابه، ولما كانوا أبعد الناس عن الإسلام إذ ذاك قال الله لهم: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)) (2). وكذلك الذين بعث إليهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان فيهم من الشرك والكبر ما هو معروف، وقد دلَّ كتاب الله من ذلك على ما فيه عبرة. والمنافق أسوأ حالاً في الآخرة من الكافر، كما قال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ

_ (1) سورة غافر: 46. (2) سورة المائدة: 115.

الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الاَية (1). وقد رُوِي في الحديث عن عبد الله بن عمرو: "إنّ أشدَّ الناس عذاباً يومَ القيامة آل فرعون ومن كفر من أهل المائدة والمنافقون من هذه الأمة" (2). فإن هؤلاء عاندوا الرسل الثلاثة الكبار أهل الشرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام في وجوههم، وباشروهم بذلك. والمشركون الذين خرجوا على ديار الإسلام عبيد جَنْكِسْخان، وهو الذي استخفَّ قومه فأطاعوه من الترك وأشركوا به، حتى اعتقدوا فيه أن أمَّه أَحْبَلَتْها الشمسُ، إذ لا يُعرف له أبٌ بينهم، وإنما كانت أمُّه بغيًّا فَجَرَتْ ببعض الترك، ثم كتمتْ ذلك وأظهرتْ غيره، وكانت ذاتَ مكر وكيدٍ. وقد ذكر الله في كتابه قول العزيز: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)) (3). ولهذا لما علا ابنُها وقَهَر الأممَ المجاورةَ له كان من سنتهم تعظيم النساء وطاعتهن. ولما كانوا من أبعد الخلق عن الإسلام كانوا من أعظم الأمم كِبرًا وشركًا، فهم مطيعون لمن قَهَرهم وأذلَّهم واستعبَدهم كطاغوتهم الأعظم جنكسخان طاعةً وعبادةً وتألهًا، فهم بذلك من أعظم المشركين، وهم مع ذلك مستكبرون على من قَهَروه من جنسهم وغيرِ جنسهم استكبارا وعلوًّا.

_ (1) سورة النساء: 145. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 132) عنه. (3) سورة يوسف: 28.

- كل مشرك مكذب بالآخرة

فصل كل مشركٍ فإنه مكذِّبٌ بالاَخرة، إذ لو كان مؤمنًا بها لما أشرك بالله شيئًا، وهذا الشرك يدخل في العلم والعمل. ومن فضائل توحيد الإلهية أنه ليس لغير الله مطلقًا ولا مقيَّدًا، وأما توحيد الربوبيةِ فهو لغيره مقيَّدًا، كقول الذين جعلوا لله أندادًا، وقد أخبر عن الكفار أنهم لم يشركوا به في توحيد الربوبية. فصل ومما ينبغي أن يُعلم أن كثيرًا من الناس لا يعلمون كونَ الشرك من الظلم، وأنه لا ظلمَ إلا ظلم الحكّام أو ظلم العبد نَفسَه، وإن علموا ذلك من جهة الاتباع والتقليد للكتاب والسنة والإجماع لم يفهموا وجهَ ذلك، ولذلك لم يسبق ذلك إلى فهم جماعة من الصحابة لما سمعوا قوله: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (1)، كما ثبتَ ذلك في الصحيحين (2) من حديث ابن مسعود أنهم قالوا: أيُّنا لم يَظلِم نفسه؟! فقال رسول الله: "ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (3)؟ ". وذلك أنهم ظنوا أن الظلم- كما حدَّه طائفةٌ من المتكلمين- هو إضرارُ غيرِ مستحقّ، ولا يرون الظلم إلاّ ما فيه إضرارٌ بالمظلوم، إن كان المراد أنهم لن يضروا دين الله وعباده المؤمنين، فإن

_ (1) سورة الأنعام: 82. (2) البخاري (4476) ومسلم (124). (3) سورة لقمان: 13.

ضرر دين الله وضرر المؤمنين بالشرك والمعاصي أبلغ وأبلغ. ومعلوم أن الله سبحانَه لا يضرهُ عبادُه ولا ينفعونه، وإنما يضرون أنفسهم، ولهذا قال: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ) (1)، فأخبر أن الكافر الذي كفر بربه وتركَ حقَّه وأشركَ به وعبدَ غيرَه وتعدَّى حدودَه وانتهكَ محارمَه لا يضرُّه شيئا، كما يَضرُّ المخلوق من السادة ونحوهم من يجحد حقوقهم ويكفُر نِعمَهم ويَعتدِي عليهم، فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ولا تُضْرَب له الأمثالُ. ولهذا قال تعالى في الحديث الصحيح (2) عن أبي ذر- وهو أشرف حديث رواه أهل الشام-: "يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّماً، فلا تظالموا" الحديث إلى قوله: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " إلى قوله: "فمن وجدَ خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ". وكذلك أخبر في القرآن أنه غنى عن خلقِه، لن يبلغوا نفعَه فينفعوه، كما يبلغ بعضهم نفع بعض، كما قال: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (3)، وقال (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (4)، وقال موسى: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ

_ (1) سورة آل عمران: 176. (2) أخرجه مسلم (2577). (3) سورة آل عمران: 97. (4) سورة الزمر: 7.

وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)) (1) بعد أن أخبرهم أن ربهم تأذَّن (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)) (2) وقال سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (3). وقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) الاَية (4). وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الآية (5). وقال: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (6). وقال عن بني إسرائيل: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)) (7)، فهذا نصٌّ في أنهم لم يظلموا الله وإنما ظلموا أنفسهم. وقال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)) (8). ولكن عبادته وحده حقٌّ استحقَّه عليهم لذاته، كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) (9)، فأخبر أنه إنما خلق الخلق لعبادته، وأخبر أن الذي خلقه لهم وأمره بهم ورضيه وأحبَّه وأراده بأمره

_ (1) سورة إبراهيم: 8. (2) سورة إبراهيم: 7. (3) سورة النمل:40. (4) سورة فصلت: 46. (5) سورة الإسراء: 7. (6) سورة البقرة: 286. (7) سورة البقرة: 57. (8) سورة الصافات: 22 - 23. (9) سورة الذاريات: 56 - 58.

- ذكر الشرك والكفر في القرآن وبيان أنه ظلم أو من أعظم الظلم

منهم هو عبادته، لم يُرِد منهم رزقًا ولا أن يطعموه، والرزق يَعُمُّ كلَّ ما ينتفع به الحيُّ ظاهرًا وباطنًا، فلم يُرِد منهم ما يريده السادةُ والمخلوقون من عُبَّادِهم، من جَلْب المنفعةِ إليهم التي هي الرزق. وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) الاية (1) فأخبر تعالى أنهم علموا يومئذٍ أن الحق لله، وأن أولئك الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله لم يكن لهم في ذلك الحقّ شي، بل كان دعواهم أن لهم حقا افتراءً افْتَرَوه، فضلَّ عنهم وقتَ الحقيقة ما افتَرَوه. وفي الصحيحين (2) عن معاذ بن جبل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "هل تدري ما حقُّ اللهِ على العباد؟ "، قلت: الله ورسولُه أعلمُ، قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا" وذكر الحديث. ولهذا يكثر من ذكر الشرك والكفر وأنواعه في القرآن، ويخبر بأنه ظلم، وأنه من أعظم الظلم، كقوله: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)) " (3)، وقوله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) إلى قوله: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (4). وقد أخبر المسيح أن العبادة ليست بحق للمخلوق، وإنما هي حقّ للخالق تعالى، في قوله: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا

_ (1) سورة القصص: 74،75. (2) سبق تخريجه. (3) سورة البقرة: 254. (4) سورة الفرقان: 27.

يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) (1). وفي الحديث الصحيح (2): "ومن أظلمُ ممن ذهب يخلق كخلقي ". وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) الاَية (3). وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)) (4). وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ) الآيات (5). وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (6)). وقوله في الذي آتاه الله الملك: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (7). وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) الآية (8). وقوله: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)) (9). وقوله: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)) (10). وقال: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (11). وقوله: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا

_ (1) سورة المائدة: 116. (2) أخرجه البخاري (5953) ومسلم (2111) من حديث أبي هريرة. (3) سورة الأنعام: 93. (4) سورة السجدة: 22. (5) سورة الكهف: 57. (6) سورة الصف: 7. (7) سورة البقرة: 258. (8) سورة البقرة: 165. (9) سورة الزخرف: 39. (10) سورة النجم: 52. (11) سورة النمل: 14.

جِثِيًّا (72)) (1)، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (2). وقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) (3)، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)) (4). وقال: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)) (5)، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً) (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)) (6). وقوله: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)) (7). وقوله: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)) (8). وقول أهل الأعراف: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)) (9). وقوله: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)) (10). وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)) (11) َ (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) (12) (وَوَقَعَ الْقَوْلُ

_ (1) سورة مريم:72. (2) الكهف:59. (3) الكهف: 29. (4) طه: 111. (5) مريم: 38. (6) الأنبياء: 3، 11، 46. (7) المؤمنون: 28. (8) المؤمنون: 93 - 94. (9) الأعر اف: 47. (10) الشعراء: 227. (11) الفر قان: 37. (12) النمل:52.

- معنى الظلم في حق الله تعالى، واختلاف الناس في ذلك

عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا) (1). وقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) (2). والآيات في هذا كثيرة. وهؤلاء الذين قالوا: إن الظلم إضرار غير مستحق، قصدوا بذلك الظلم المعروف بينهم، وهو ظلم العباد الذين يتضررون بالظلم في حقوقهم. وأما الظلم في حق الله تعالى فلم يستشعروه ولم يقصدوه، ولعلهم لا يعدُّونه ظلمًا، كما هو في أكثر النفوس العامية، بناءً على أن الله غني لا يلحقه ضرر، لكن أكثر هؤلاء مع هذا يوجبون شكره على إحسانه إليهم بالعقل المجرد قبل ورود شرع إذا فُرِضَ خُلُوُّ العباد عن شرع يجعلون العقل معرِّفًا لوجوب ذلك معً الشرع، كما تُعرف بالعقل أمورٌ كثيرة تُعرف بالشرع أيضًا، مع علمهم بأنه سبحانه لا ينتفع بشكر الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين. ومعلومٌ أن تركَ الحق الواجب ظلمٌ، فيناسب أصولهم أن لا يكون الظلم مجردًا لإضرار غير المستحق، بل يدخلُ فيه تركُ ما يُحَبّ لذاته وفعلُ ما يقبح لذاته عندهم. ولهذا يقولون: إنه عُرِف بالعقل أن الظلم من الله قبيح وإن كان لا يتضرر بفعله. وهذا فيه حقٌّ، لكنهم يعنون بذلك أن الظلم منه نظير الظلم من العباد بعضهم بعضًا، فيجعلون لله أندادًا، ويُمثلّونَه بخلقِه، ويَضرِبون له الأمثال، ومن هنا وقعوا في الضلال، وصاروا من القدرية المجوسية المنكرين لمشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه للأفعال. ومنهم من ينكر علمه القديم وكتابه المحيط بجميع الأحوال.

_ (1) سورة النمل: 85. (2) سورة القصص: 40.

وقد عارضَهم آخرون من المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وهم فيما أثبتوه "من علم الله ومشيئته وقدرته وخلقه على الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع الأمة، لكن نازعوهم فيما تنزه الله عنه من الظلم، وفيما يجب له على خلقِه من الحق، نزاعًا فيه نوع من الباطل في الجدال، وقالوا: إذا كان الله لا يتضرر بما يفعله ولا ينتفع به ولا يأمر به، فلا معنى لتنزيهه عن فعل قبيحٍ أوتسمية شيء مما يقدر عليه قبيحًا أو ظلمًا أو سَفَهًا، لأنه لا يتضرر بهذه الأشياء ولو نسبت إليه، إذ هذه الأسماء لا تكون إلا لمن ينتفع بفعله ويتضرر به، أو لمن فوقَه آمِر مُطاع أمرُه يخافُه، وإذا كان لا ينتفع بشيء من معرفةِ عباده وعبادتهم وشكرهم فلا معنى لإيجاب شيء عليهم له. وإذا كان لم يأمرهم ولم ينههم فلا معنى لقُبحِ شيء منهم، ولا معنى لقبح فعل العبد إلا كونه منهيًّا عنه، ولا معنى لحبّه إلا كونه مأمورًا به. وهؤلاء وإن كان في كلامهم نوعٌ من المردود المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فالحق الذي معهم أضعافُ الحق الذي مع الأولين، وهم الذين يجعلون العقل معرِّفًا، وهم الذين قالوا: إضرار غير مستحق. فإن مخالفة أولئك للكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة أوقعَهم في أمورٍ عظيمة، وعَظُمَ الذمُّ لهم بسبب ذلك. وأما هؤلاء فقصَّروا نوعَ تقصيرٍ لدقةِ الأمر وغموضِه، وحصلَ منهم نوعُ تعدٍّ باجتهادٍ قَلَّ أن يَسْلَم منه في هذه المضايقِ إلا من شاء الله، ولهذا كانوا مضافين إلى السنة والجماعة، وكان الأولون داخلين في الفرقة والخروج.

وقد تكلمتُ على مسألة التحسين والتقبيح العقلي وعلى مسألة تنزيه الربّ عن الظلم في غير هذا الموضع بما يُوقِفُ مُريدَ الحق على حقيقة الأمر إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولم يكن الغرض هنا ذِكر هذا، وإنما بيَّنّا ذلك لاتصال الكلام به، لأنه بسبب كونِ الظلم في النفوس عامةً مستلزمًا لاحتراز المظلوم من الظلم، َ وكونِ الحق مستلزمًا لنفع المستحقِّ، ولم يَهتدِ أكثرهم إلى كونِ عبادةِ الله وحدَه حقاً له، وكونِ الشركِ ظلمًا في حقه. ثم اضطربوا في وجه التكليف وجنسه، فزعمت المعتزلة ونحوهم ممن يتكلم في التعديل والتجويز (1) أن ذلك لما فيه من تعريض المكلَّف للنفع الذي لا يحصل بدونه، وكان هذا الكلام من اللغو بيَّن الناس بطلانه من وجوهٍ كثيرة. هذا مع أنهم يُوجِبون شُكره بدون التكليف الشرعي، وهذا تناقضٌ بيِّن. وقال آخرون من المنتسبين إلى السنة: إن ذلك محض المشيئة وصدق الإرادة، وهذا الإطلاق غالب على أهل السنة الظاهرين من فقهاء أهل السنة ومتكلميهم، ومعلومٌ أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكن لا ينكر العاقل ما في خلقه وأمره من أنواع الحكمة والمصالح لخلقه، بل إخلاء الوجود من الوجوه التي فيها المناسبة لأحكامها من الظلم، فقد سلمت الشريعة لبابها وحرر الفقه في الدين صاحبه، ولم يفهم المعارض كون السنة التي سنَّها الرسول هي

_ (1) في هامش الأصل: "أي يقولون هذا يُجؤز هذا، وهذا يَجُوز أن يكون ويجوز أن [لا] يكون ". ولعل الأرجح: "التجوير" من الجور، انظر (ص 50).

الحكمة، وأن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة. ثم من تدبَّر قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (1) وقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)) (2) وقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) (3) وقوله: "أتدري ما حق الله على عباده " (4) = عَلِمَ أنه يستحق أن يُعبَد، وأن في الشرك والفواحش ما يوجب قبحها وقبحه وتحريمه، وظَهر له الفرقُ بين ما اتفقت عليه الرسل من الأمر الذي لا يقبل النسخ، مثل الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الذي أصله عبادةُ الله وحدَه لا شريك له، وما فيه من تحريم قتل النفس بغير حق والزنا والكذب والظلم وغير ذلك مما أنزل الله فيه السور المكية المشتملة على أصول الدين، وما شرعت فيه شرائع الرسل مثل صفة العبادات وأقدارها ومقادير العقوبات وأنواعها وغير ذلك مما أنزله الله في السور المدنية، وأنزل فيها ما جعله لأهل القرآن من الوجهة والشرعة والمنهاج والمنسك، وفضَّلهم بذلك على سائر الأمم. والحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتمَّ علينا نعمتَه ورضيَ لنا الإسلام دينًا.

_ (1) سورة الأعراف: 28. (2) سورة لقمان: 13. (3) سورة الذاريات: 56. (4) سبق تخريجه.

- من قال: الظلم وضع الشيء في غير محله

فصل ولهذا قال اَخرون من المُتَسننة: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كما يقول العرب (1): "مَن أشبَه أباه فما ظلم " أي ما وضعَ الشَّبَهَ في غير موضعه. وهذا الحدُّ أسلمُ من الأول الذي تكلمنا عليه في الفصل قبله، لكن فيه إجمالٌ، فإنه يحتاج إلى بيان موضع الشيء، وهو يرجع إلى معرفة الحق، فكأنه قال: الظلم تركُ الحق. ولكن هذا الإجمال لا يمنع أن يكون كلامًا سديدًا، وأن هذا الأمر العام لا يُعبَّر عنه إلاّ بمثل هذه العبارة الجامعة، وأما التفصيل ففي كلّ موضعٍ بحسبه. ولهذا كان الحدُّ الأول فيه هذا، وهو قوله في الفصل قبله: "إضرار غير مستحق "، فإن قول القائل: "إضرار غير مستحق " فيه من الإجمال نحو هذا، فلا بدَّ من معرفة المستحق، فيحتاج إلى بيان الحق والعدل المضادّ للظلم. فإذا كان كلٌّ من الحدَّين موقوفًا على معرفة الحق، وكان الأول هو الجامع للمعنيين، كان أَحكم، ولذلك قال بعضهم: الظلم نقص الحق أو النقص عن الواجب أو نحو ذلك، مستشهدين بقوله: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (2) أي لم تنقص منه شيئًا. وهذا وإن كان صحيحًا فظاهره إنما يتناول أحدَ نوعي الظلم، وهو ترك

_ (1) انظر: الحيوان (1/ 332) وأمثال أبي عبيد (ص 145، 160) وفصل المقال (ص 185) وجمهرة الأمثال للعسكري (2/ 244) ومجمع الأمثال للميداني (2/ 300). (2) سورة الكهف: 33.

- معنى"الحق"

الواجب، وقد يستلزم الآخر، وهو تعدِّي الحدّ، فإن من تعدَّى الحدَّ لا بدَّ أن ينقص حقَّ المتعدَّى عليه، فنقصُ الحقّ ملازمٌ لمسمَّى الظلم، وهو فساد الحدّ الثاني في العموم، فإن وضع الشيء في غير موضعه نقصٌ وخلوٌّ لموضعه منه. وربّما يقال: هو أعم منه (1) لأن نقص الحق قد يكون تركًا له بالكلية، وقد يكون نقلاً له إلى موضع آخر، وقد يقال: لا يكون إلاّ أمرًا موجودًا ثابتا، وإن استلزم عدم أمورً أخرى، فلا بدّ له من محلّ، فإذا لم يوضع في موضعه وُضِع في غيره، وهو الظلم. أما العدم المحض الذي لا يستلزم حقاً مرتبًا وأمرًا وجوديًّا فليس بشيء أصلاً، فلا يقال فيه: إنه ظلمٌ ولا إنه غيرُ ظلمٍ. وهذه معانٍ فيها دقةٌ، قد تكلمتُ على أصلها في "قاعدة العلم والإرادة وتعلقهما بالموجود والمعدوم "، فقد عاد معرفة الظلم مفتقرًا إلى معرفة الحق. وقد تكلمتُ على معنى الحق في غير هذا الموضع، وأنه يُعنَى به الموجود تارةً وما يَستحقّ الوجود، أي أن يُوجد منا فعلُ الطاعة، وهو المانع أخرى. ففي الكلام الخبري الحقُّ هو الثابت والعلم به والخبر عنه. وفي الكلام الطلبي الحقُّ هو ما يُبتغى وجودُه أو ما يستحق الوجود كالنافع للعبد، وهو الخير وهو الحق وإرادته والأمر به، الباطل يُضادُّه، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل لهوٍ يَلْهُو به الرجلُ فهو باطلٌ إلأَ رَمْيَه بقوسِه وتأديبَه فرسَه وملاعبتَه امرأتَه، فإنّهن من الحق" (2)، أي أن اللهو لا منفعةَ فيه ولا فائدةَ له إلاّ في هذه الأمور. وكذلك قوله:

_ (1) في هامش الأصل: "أي أن الظلم قد يقع عاما في جميع الأشياء". (2) سبق تخريجه.

- العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق

"الوتر حق " (1) ونحو ذلك مما يَصِفُ فيه الأفعالَ بأنها حقٌّ أو باطلٌ، كما وصف الله أعمال الكفّار بانها باطلٌ، ولهذا يقول الفقهاء: عملٌ وعقدٌ صالح وصحيح، وبإزائه الباطلُ، فما حصلَ به مقصودُه وتَرتَّبَ عليه أثرُه فهو الصحيح وهو الصالح، وما لم يحصل به مقصودُه ولا تَرتَّبَ عليه أثرٌ فهو باطلٌ. إذا تقررتْ هذه الأمور فاعلم أن العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق، ويكون بدون ذلك في الجمادات والحيوانات في كل يابسٍ ورَطْب، فليس كل من وقعَ الظلمُ في حقِّه يكون متضررًا به، وإنما حَصَلَ الضررُ لغيرِه لعدمِ العدلِ فيهِ. وتدبَّرْ هذا في الاَنية والأطعمة والملابس والأشجار والثمار والزروع ونحو ذلك، فإنّ البيت المبنيَّ إذا نقصَ أحدُ الحائطَينِ المتناظرينِ عن الآخر أو جُعِلَ السَّقفُ أو بعضُ جذوعِه أقصرَ مما بين الحائطينِ كان هذا تركًا للعدلِ والحقِّ الذي يقوم به ذلك البناءُ، وكان هذا ظلمًا لأحد الحائطينِ ولأحد الجذعَينِ، ويقال فيه: هذا لا يصلحُ، ويقال: هذا الجذع يستحق أن يُوضَع هنا، وهذا الحائطُ يستحق أن يُجعَل بقدرِ هذا، ونحو ذلك من المعاني التي يُذكَر فيها الاستحقاق والمراد، ويُجعَل ذلك من العدل بينها، ويجعل بعضها يُطلَق إذا ما نقصَ عمَّا يستحقه أو وُضِعَ في غير موضعه. وذلك كلُّه مستلزمٌ ضرَر الساكن في

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 418) وأبو داود (1422) والنسائي (3/ 238) من حديث أبي أيوب الأنصاري. وأخرجه أحمد (5/ 357) وأبو داود (1419) من حديث بريدة بن الحصيب.

ذلك المسكن أو فواتَ الانتفاع المقصود، لأنه لم يُفعَل الشيء الذي ينتفع به، فنَقْصُ منفعتِه ظلمٌ. وكذلك في اللباس، لو نَقَصَ أحدُ جانبَي الثوب عن الآخر، أو نقصَ ما يتمُّ به من خياطةٍ وقَدْرٍ، أو نقصَ الثوبُ عما يستحقه من النَّسْجِ أو الغَزْل أو نحوه= قيل فيه: لم يُعْطَ حقَّه، وكان حقه أن يُفعَل به كذا وكذا، وكان الواجب أن يُسوىَ بين هذا وهذا، وهذا عدلٌ وهذا ظلمٌ، وقد ظلم هذا الجانب هذا الموضع ونحوه. وكذلك في الأطعمة، في أجزاء الطعام ومقدارِ طَبْخِه ونحو ذلك، لها حقوقٌ مبناها على العدل. وكذلك في الزُّروع إذا أُثيرت الأرضُ وبُذِرتْ وسُقِيَ الزرعُ ونُظّفَ على الوجه الذي يستحقه، وإلاّ قيل: هذا كان يستحقُّ كذا وكذا، وهذا الزرع لم يُعطَ حقَّه، ونحو ذلك. فإذا عُمِلَ كما يستحقه وأخرج الثمر قيل: أخرج ثمره ولمِ يظلم منه شيئًا، كما قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (1)، فهنا جعل الظلم من نفس الجماد، لأنه لما أُعطِي حقه من عمل العبد فيه لم يظلم عامله شيئًا، كما قد يُجعَل لها فتكون ظالمةً تارةً ومظلومةً أخرى، كما قال النابغة (2): وَقفتُ فيها أُصَيلاَلاً أُسَائِلُها عَيَّتْ جوابًا وما بالرَّبْعِ من أحدِ

_ (1) سورة الكهف: 32، 33. (2) ديوانه (ص 14، 15).

- كل ما كانت المنفعة به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك

إلاّ الأوارِيَّ لأيًا ما أُبَيِّنُها والنُّوي كالحوضِ بالمظلومةِ الجلدِ وما كان أشرف في ذاتِه مثل الخبز إذا أنتنَ أُلقِيَ في النتن وأُكرِمت العذرةُ ونحوها وفُضلت عليه في المكان وغيره= كان هذا ظلمًا له وتركًا لحقِّه، وإن لم يكن هو متضررًا في ذلك، وإنما المتضرر الظالم. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشةَ لما رأى لُقمةً مُلقاةً: "يا عائشة، أَحسنِي جِوارَ نِعَم الله عندكِ، فإنها قَلَّ نِعمةٌ فارقَتْ قومًا (1) فعادت إليهم " (2). وقد ذمَّ الله قومًا بدَّلوا نِعَمَه كفرًا، وإن لم تكن بعض النعم متضررة، ولهذا ينهى عن الاستنجاء بما لهُ حرمةٌ، حتى الرَّوث والعظام التي هي طعام الجن وطعام دَوابِّهم، فكيف طعام الإنس وطعام دوابهم؟ وذلك وإن كان لما فيه من تفويت منفعتها على الجن فلها شَرَفٌ بذلك، حتى لو فوّتها الإنسان بغير الاستنجاء- مثل الكَسْر والتفتيت- لم يكن في ذلك بمنزلة المستنجي بها. فكلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك، واستحقَّ ما لم يستحقَّه ما هو دونَه، وإن كان هو في نفسه لا يتضرَّرُ بتفويتِ حقِّه، سواء كانت ذاته ينتفع بها أو كانت المنفعة منه، وإن كان هو لا يتضرر بتفويت حقه، وقد قالت عائشة: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ننزِّلَ الناسَ منازلَهم، رواه أبو داود وغيره (3). وكان قد وقف على بابها

_ (1) في الأصل فوقها: "رواية: نفرت عن قوم". (2) أخرجه ابن ماجه (3353) عن عائشة. وضعَّفه الألباني في الإرواء (7/ 25). (3) أخرجه أبوداود (4842) من طريق ميمون بن أبي شبيب عن عائشة، وقال: ميمون=

سائلانِ أحدُهما أشرفُ من الآخر، ففضَّلَتْه في العطاء. وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (1)، فأخبر أن الإفك عليهم- وهو من أعظم الظلم- هو خير لهم لا شر. لكن هذا قد يقال فيه: إنه وإن تضرر الإنسان بالكذب عليه، لكن لما كانت عاقبته منفعةً زائدةً كان خيرًا لا شرًّا. وقد قال تعالى: (وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) الاَية (2)، فأخبر أنهم لن يضروا المؤمنين إلاّ أذى، وإن كانوا مع هذا ظالمين للمؤمنين بالكذب والفجور. وقالي تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (3)، فأخبر سبحانه أن الضالين لا يضرون المهتدين، وإن كانوا قد يؤذونهم، فالأذى ليس هو الضرر، وإن كانوا مع هذا ظالمين لهم بأنواع من الظلم، كما يظلم الكفّار المحاربون والمنافقون المؤمنين، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) إلى قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) (4). فأخبر عن هؤلاء المنافقين الظالمين للمؤمنين بما

_ لم يدرك عائشة. وعلَّقه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 6). (1) سورة النور: 11. (2) سورة آل عمران: 110 - 111. (3) سورة المائدة: 105. (4) سورة آل عمران: 118 - 120.

ذكر، وأن المؤمنين إذا صبروا واتقوا لا يضرهم كيدهم شيئًا. فعُلِمَ أنه ليس كلُّ ظالم يضرُّ المظلومَ البتةَ، بل قد لا يضرُّه ظلمُه شيئًا وإن قَصَدَ الظالمُ إضرارَه، ومنه قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) الاَية (1). ومعلومٌ أن ذلك من ظلمهم، ومع هذا فلا يضرونه. وفي صحيح مسلم (2) عن سعد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أكلَ سبعَ تمراتٍ مما بينَ لابَتَيْها حينَ يُصبح لم يَضُرَّه سُمٌّ حتى يُمسِيَ ". والسُّمّ قد يكون من شقي ظالم. وفي الصحيح (3): "من قال إذا نزلَ منزلاً: أعوذ بكلمات الله التاماتِ من شر ما خلق، لم يضرَّه شيء في ذلك المنزل حتى يَرْتَحِلَ منه ". وقد يعرض له ظالمٌ من الإنس أو الجن بظلمٍ أو أذى ولا ... (4) وقد أمر الله بالاستعاذة من شرِّ ما خلق، وشرّ النفاثات في العقد، وشرِّ حاسدٍ إذا حسد، ومن أعاذه الله لم يَضُره ذلك، وهو كله ظلم. وكذلك قوله في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة: "لا يضرهم من خَذَلَهم ولا من خالفَهم " (5)، فهم يُضَرون ويُخالَفون، وذلك ظلم،

_ (1) سورة النساء: 113. (2) برقم (2047). (3) مسلم (2708) عن خولة بنت حكيم. (4) هنا كلمة مطموسة في الأصل. ولعلها:" يضره ذلك ". (5) سبق تخريجه.

- الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم

ولكن لا يضرُّهم ذلك. فإذا كان الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم، ولا أن يكون مما يضرُّ المظلوم، أو يكون المظلوم ممن يتضرر به، فالظلم في حق الله تعالى أولى أن يكون كذلك، فإن الله لا يضرُّ العباد أو يظلمهم، وإنما العباد يتضررون بترك الحق الذي استحقه لذاته، ويتضرر العبد بتركه، فإنَّ تَرْكَ حقِّ من يحتاج إليه العبد يَضرُّ العبد، والعبدُ لا صلاحَ له ولا قيامَ إلاّ بعبادة الله الجامعة لمعرفته ومحبته والذلِّ له، فتفويتُه هذا ظلمٌ عظِيمٌ فيه عليه الضرر العظيم الذي لا ينجبر. ويُشبِهه من بعض الوجوه من كان عنده ما يحتاج إليه من الطعام والشراب فأتلفَه، واعتاض عنه بما ظنَّ أنه يقوم مقامَه من العَذِرَةِ والبول، فهذا ظلمٌ في حقِّ القوت ضَرَّ صاحبَه، والمستحق إذا ظلمَ حقّه فقد فوّت ما هو بالنسبة إليه كمالٌ مطلوب له ومحبوبٌ من جهته، فإن الجامدات إذا تُرِكَ ما تَستحمه بقيت ناقصةً عن كمالها الذي لها، والإنسان إذا ظُلِمَ حقَّه وإن لم يَضُرَّه فلابدَّ أن يكون قد فُوِّتَ ما هو محبوبٌ له وصلاح له. والله سبحانه يحبُّ ما أمر به من الحسنات ويرضاه، وهو سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظمَ مما يَفرحُ مَن أضلَّ راحلتَه التي عليها طعامُه وشرابُه في مفازة مهلكةٍ ثم وجدَها، وهذا أمر عظيم حيث كانت محبته ورضاه بإيمان العبد وطاعتِه أعظمَ من محبة العبد الفاقد الواجدِ لما لا بُدَّ له منه ولا قِوامَ له إلاّ به من القُوتِ والشراب والمركب

والسلامة. ولهذا يضحك الله إلى رجلين يَقتُلُ أحدُهما الآخر كلاهما يَدخُلُ الجنة، ونظائره كثيرة متعددة. وكذلك (1)

_ (1) هنا ينتهي الكلام في النسخة.

(8) مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد

مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد

- عثمان وعلي والحسن قتلوا مظلومين شهداء

سُئل- رحمه الله ورضي عنه- عن مَقتل الحسين- رضي الله عنه- وما حكمُه وحكمُ قاتلِه؟ وما حكمُ يزيد؟ وما صحَّ من صفة مقتل الحسين وسَبْي أهلِه وحملهم إلى دمشق والرأس معهم؟ وما حكمُ معاوية في أمر الحسن والحسين وعلي وقتل عثمان ونحو ذلك؟ فأجاب- رضي الله عنه- الحمد لله. أما عثمان وعلي والحسين- رضي الله عنهم- فقُتِلوا مظلومين شهداءَ باتفاق أهل السنة والجماعة، وقد ورد في عثمان وعلي أحاديث صحيحة في أنهم شهداء وأنهم من أهل الجنة، بل وفي طلحة والزبير أيضا، كما في الحديث الصحيح (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للجبل لما اهتزَّ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: "اثبُتْ حِرَاءُ- أو أُحُدُ- فإنما عليك نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان ". بل قد شهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة للعشرة (2)، وهم: الخلفاء الأربعة وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح. أما فضائل الصدِّيق فكثيرة مستفيضةٌ، وقد ثبتَ من غير وجه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال (3): "لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ

_ (1) أخرجه البخاري (3675) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه مسلم (2417) عن أبي هريرة بنحوه. (2) أخرجه أحمد (1/ 189) وأبو داود (4648) والترمذي (3748) وابن ماجه (133) من حديث سعيد بن زيد. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (3) أخرجه البخاري (466، 3654) ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد=

أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله " يعني نفسَه. وقال: "إنَّ أَمَنَّ الناسِ علينا في صُحبتِه وذاتِ يدِه أبو بكر". وقال: "لا يبقينَّ في المسجد خَوخَة إلأَ سُدَّتْ إلأَ خوخة أبي بكر". وقال لعائشة (1): "ادْعِيْ لي أباك وأخاكِ، حتى أكتُبَ لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي ". ثم قال: "يأبي الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر". وجاءتْه امرأة فسألَتْه شيئًا، فأمرَها أن تَرجعَ إليه، فقالت: أرأيتَ إن جئتُ فلم أجدْكَ؟ - كأنها تَعنِي الموت- قالَ: "إن لم تجديني فائْتِي أبا بكر" (2). وقَال: "أيها الناس، إني جئتُ إليكم فقلتُ: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ، ووَاسَانِي بنفسِه وماله، فهل أنتم تَارِكُو لي صاحبي؟ " (3). وهذه الأحاديث كلها في الصحاح ثابتة عند أهل العلم بالنقل. وقد تواترَ أنه أمره أن يُصلِّي بالناس في مرضِ موته، فصلَّى بالناس أيامًا متعددةً بأمرِه، وأصحابُه كلُّهم حاضرون- عمر وعثمان وعلي وغيرهم- فقدَّمَه عليهم كلِّهم. وثبت في الصحيح (4) أن عمر قال له بمحضرٍ من المهاجرين والأنصار: "أنتَ خيرُنا وسيِّدُنا وأحبُّنا إلى

_ = الخدري بنحوه إلاّ جملة "لكن صاحبكم خليل الله "، فهي في حديث جندب بن عبد الله عند مسلم (532). (1) أخرجه مسلم (2387) من حديث عائثة. ورواه البخاري (7217) بنحوه. (2) أخرجه البخاري (3659) ومسلم (2386) من حديث جبير بن مطعم. (3) أخرجه البخاري (3661) من حديث أبي الدرداء. (4) البخاري برقم (3668).

رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وثبت في الصحيح (1): أنَّ عمرو بن العاصي سألَه عن أحبِّ الرجال إليه، فقال: "أبو بكر". وفضائل عمر وعثمان وعلي كثيرة جدًّا ليس هذا موضع بَسطِها، وإنما المقصود أن من هو دون هؤلاء- مثل طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف- قد تُوفَي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عنهم راضٍ، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) عن عمر أنه جعلَ الأمر شورى في ستَهٍ: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، وقال: هؤلاء الذين توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عنهم راضٍ. بل قد ثبتَ في الصحيح (3) من حديث علي بن أبي طالب أن حاطب بن أبي بَلْتَعَة قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه شهدَ بدرًا، وما يُدريك أنّ الله اطَّلع إلى أهلِ بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم ". وكانوا ثلاث مئة وثلاثة عشر. وثبت في صحيح مسلم (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَدخلُ النارَ أحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة". وكان أهل الشجرة ألفًا وأربعمئةٍ كلهم رضي الله عنهم ورَضُوا عنه، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، فهم أعظم درجةً ممن أنفقَ من بعد الفتح وقاتلَ. وثبتَ في الصحيح (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه

_ (1) البخاري (3662) ومسلم (2384). (2) البخاري (3700). (3) البخاري (3983) ومسلم (2494). (4) برقم (2496) عن أم مبشر. (5) البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري.

- فضائل الحسن والحسين

قال: "لا تَسُبُّوا أصحابي، فلو أنفقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه ". وثبت في الصحيح (1) أن غلامَ حاطبٍ قال: والله يا رسول الله، ليَدخلَنَّ حَاطبٌ النارَ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: "كذبتَ، إنه قد شهدَ بدرًا والحديبية". وهذا وقد كان حاطبٌ سَيئ المَلكَةِ، وقد كاتبَ المشركينَ باخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوةِ الفتح، ومع هذه الذنوب أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ممن يدخلُ الجنَّة ولا يدخلُ النار، فكيف بمن هو أفضَلُ منه بكثير؟ كعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف. وأما الحسين فهو وأخوه سيّدا شباب أهل الجنة (2)، وهما رَيْحانةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدنيا، كما ثبت ذلكَ في الصحيح (3). وثبتَ في الصحيح (4) أنه أدارَ كساءَه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين، وقال: "الَّلهمّ هؤلاء أهلُ بيتي، أَذهِبْ عنهم الرجسَ وطهِّرهم تطهيرًا". وإن كان الحسنُ الاكبر هو الأفضل، لكونه كان أعظمَ حلمًا وأرغبَ في الإصلاح بين المسلمين وحَقْنِ دماءِ المسلمين، كما ثبتَ في صحيح البخاري (5) عن أبي بكرة قال: رأيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر

_ (1) مسلم (2195) من حديث جابر. (2) أخرجه أحمد (3/ 3، 62، 64، 84) والترمذي (3768) والنسائي (5/ 50) من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه الترمذي. وفي الباب عن غيره من الصحابة. (3) البخاري (3753، 5994) عن ابن عمر. (4) مسلم (2424) عن عائشة. (5) برقم (2704).

- الحسين قتل مظلوما شهيدا

والحسنُ بن علي إلى جانبه، وهو يُقبلُ على الناس مرةً وعليه أخرى، ويقول: "إنَّ ابني هذا سيد، ولعلَّ الله أن يُصلحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ". وفي صحيح البخاري (1) عن أسامة قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذني فيُقعِدني على فخذِه، ويُقعِد الحسنَ على فخذِه الأخرى، ويقول: "اللهمَ إني أحِبُّهما، فأَحبهما، وأَحِبَّ من يُحِبُّهما". وكانا من أكرهِ الناس للدخول في اقتتال الأَمة. والحسين- رضي الله عنه- قُتِل مظلومًا شهِيدًا، وقتَلَتُه ظالمون متعدُّون، وإن كان بعض الناس يقول: إنه قُتِلَ بحق، ويحتِجّ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من جاءكم وأمرُكم على رجلٍ واحدٍ يُرِيد أن يُفرِّق بين جماعتكم فاضربوا عُنُقَه بالسيف، كائنًا من كان ". رواه مسلم (2). فزعم هؤلاء أن الحسين أتى الأمةَ وهم مجتمعون، فأراد أن يُفرِّق الأمة، فوجبَ قتلُه. وهذا بخلاف من يتخلَّف عن بيعة الإمام ولم يَخرُج عليه، فإنه لا يجب قتلُه، كما لم يقتُل الصحابة سعد بن عُبادة مع تخلُّفِه عن بيعةِ أبي بكر وعمر. وهذا كذِبٌ وجهل، فإن الحسين رضي الله عنه لم يُقتَل حتى أقامَ الحجةَ على من قتلَه، وطلبَ أن يذهبَ إلى يزيدَ أو يرجعَ إلى المدينة أو يذهبَ إلى الثَّغْر. وهذا لو طلبَه آحادُ الناس لوجبَ إجابتُه، فكيف لا يجب إجابةُ الحسين رضي الله عنه إلى ذلك وهو يطلب الكفَّ والإمساك؟

_ (1) برقم (3735). (2) برقم (1852) عن عرفجة.

- سبب خروجه إلى العراق

وأما أصل مجيئه فإنما كان لأن قوماً من أهل العراق من الشيعة كتبوا إليه كتبًا كثيرة يشتكون فيها من تغيُّرِ الشريعة وظهور الظلم، وطلبوا منه أن يقدمَ ليبايعوه ويعاونوه على إقامة الشرع والعدل، وأشار عليه أهلُ الدين والعلم- كابن عباس وابن عمر وابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- بأن لا يذهب إليهم، وذكروا له أن هؤلاء يَغُزُونَه، وأنهم لا يُوفُون بقولهم، ولا يَقدِر على مطلوبه، وأن أباه كان أعظمَ حرمةً منه وأتباعًا ولم يتمكَّن من مرادِه. فظنَّ الحسين أنه يَبلُغ مرادَه، فأرسلَ ابنَ عمّه مسلم بن عَقِيل، فاَوَوه أوّلاً ثمَّ قتلوه ثانيًا، فلما بلغَ الحسينَ ذلك طلبَ الرجوعَ، فأدركَتْه السريَّةُ الظالمةُ، فلم تُمكِّنْه من طاعة الله ورسوله، لا من ذهابه إلى يزيد، ولا من رجوعِه إلى بلدِه ولا إلى الثَّغْر. وكان يزيدُ لو يجتمعُ بالحسين من أحرصِ الناس على إكرامِه وتعظيمه ورعايةِ حقِّه، ولم يكن في المسلمين عنده أجلُّ من الحسين، فلما قتله أولئك الظَّلَمة حَملُوا رأسَه إلى قدّام عبيدِ الله بن زياد، فنكَتَ بالقضيب على ثناياه، وكان في المجلس أنس بن مالك فقال: إنك تنكتُ بالقضَيب حيثُ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبِّلُ. هكذا ثبتَ في الصحيح (1)، وفي المَسند (2) أن أبا بَرْزَةَ الأسلمي كان أيضًا شاهدًا. فهذا كان بالعراق عند ابن زياد. وأما حملُ الرأس إلى الشام أو غيرها والطوافُ به فهو كَذِبٌ، والروايات التي تُروَى أنه حُمِلَ إلى قُدَّام يزيدَ ونكتَ بالقضيب=

_ (1) البخاري (3748) عن أنس. (2) لم أجده فيه.

- يزيد أحد ملوك المسلمين له حسنات وسيئات

روايات ضعيفةٌ لا يَثبتُ شيء منها، بل الثابتُ أنه لما حُمِلَ علي بن الحسين وأهلُ بيته إلى يزيد وقعَ البكاءُ في بيتِ يزيد، لأجل القرابة التي كانت بينهم، لأجل المصيبة. ورُوِي أن يزيد قال: لعنَ الله ابنَ مَرجانة- يعني ابنَ زياد-، لو كان بينه وبين الحسين قرابةٌ لما قتلَه. وقال: قد كنت أرضَى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين. وأنه خيَّر علي بن الحسين بين مُقامِه عنده وبين الرجوع إلى المدينة، فاختار الرجوع، فجهَّزه أحسن جهاز. ويزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولكن أمرَ بدفعِه عن منازعتِه في الملك، ولكن لم يَقتُل قَتَلةَ الحسين ولم يَنتقِم منهم، فهذا مما أُنكِر على يزيد، كما أُنكِر عليه ما فَعَلَ بأهلِ الحرَّةِ لمّا نكَثوا بيعته، فإنه أمرَ بعد القدرة عليهم بماباحةِ المدينةِ ثلاثًا. ولهذا قيل لأحمد بن حنبل: أيُؤخَذُ الحديثُ عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامةَ، أوَ ليس هو الذي فعلَ باهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إنّ قومًا يقولون: إنّا نُحِبُّ يزيدَ، فقال: وهل يُحِبُّ يزيدَ مَن يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أوَ لا تلعنُه؟ فقال: متى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟ ومع هذا فيزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات كما لغيره من الملوك، وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أولُ جيشٍ يَغزو القُسطَنطينية مغفورٌ له ". وأولُ جيشٍ غزاها كان أميرهم يزيد، غزاها في خلافة أبيه معاوية، ومعه أبو

_ (1) برقم (2924) ولكن عن أم حرام بنت ملحان لا ابن عمر.

- يزيد ليس من الصحابة، وعمه يزيد بن أبي سفيان صحابي

أيوب الأنصاري ومات ودُفِن هناك. ويزيد هذا ليس هو من الصحابة، بل وُلِد في خلافة عثمان، وأما عفُه يزيد بن أبي سفيان فهو من الصحابة، وهو رجلٌ صالح، أمَّره أبو بكر في فتوح الشام ومَشى في ركابه، ووَصَّاه بوصايا معروفةٍ عند الفقهاء يعملون بها، ولما مات في خلافة عمر وَلَّى عمرُ أخاه معاويةَ مكانَه، ثمَّ وَلِي عثمانُ فأقره وولاه إلى أن قُتِل عثمان، ووُلِد له يزيد ابنُه في خلافة عُثمان. ولم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم، لا علوي ولا غير علوي، لا في خلافة يزيد ولا غيرها، وإنما سَبَى بعضَ الهاشمياتِ الكُفَّارُ من المشركين وأهلِ الكتاب، كما سَبَى التركُ المشركون من سَبَوه لما قَدِموا بغداد، وكان من أعظم [أسباب] سَبْي الهاشميات معاونةُ الرافضةِ لهم كابن العَلْقَمي وغيرِه. بل ولا قَتَلَ أحدٌ من بني مروان أحدًا من بني هاشم- لا علويّ ولا عباسيّ ولا غيرهما- إلاّ زيدَ ابن علي، قُتِلَ في خلافة هشام. وكان عبد الملك قد أرسلَ إلى الحجاج: إيَّايَ ودماء بني هاشم، فلم يَقتل الحجاجُ أحدًا من بني هاشم لا علويّ ولا عباسيّ. بل لمّا تزوج بنتَ عبدِ الله بن جعفر فأمره عبد الملك أن يُفارقَها، لأنه ليس بكُفْؤٍ لها، فلم يروه كُفْوا أن يتزوج بهاشمية .. وأما معاوية لما قُتِلَ عثمانُ مظلومًا شهيدًا، وكان عثمان قد أمرَ الناس بأن لا يُقاتِلُوا معه، وكَرِهَ أن يُقتَل أحدٌ من المسلمين بسببه،

وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بَشَّره بالجنَّة على بَلْوى تُصِيبُه (1)، فأحبَّ أن يَلقَى الله سالمًا من دماءِ المسلمين، وأن يكون مظلومًا لا ظالمًا، كخيرِ ابنَيْ اَدمَ الذي قال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)) (2). وعلي بن أبي طالب بريءٌ من دمه لم يَقتُلْه ولم يُعِنْ عليه ولم يَرضَ، بل كان يَحلِفُ وهو الصادق المصدوقُ أني ما قتلتُ عثمانَ ولا أَعَنتُ على قتلِه ولا رضيتُ بقتلِه. ولكن لمَّا قُتِلَ عثمان وكان عامة المسلمين يحبون عثمانَ لحِلْمِه وكرمِه وحسنِ سيرتِه، وكان أهلُ الشام أعظمَ محبةَ له، فصارت شيعةُ عثمانَ إلى أهل الشام، وكثُر القيلُ والقالُ كما جَرتِ العادةُ بمثل ذلك من الفتن، فشَهِدَ قوم بالزُّور على علي أنه أعان على دم عثمان، فكان هذا مما أوغَرَ قلوبَ شيعة عثمان على عليّ، فَلم يبايعوه، وآخرون يقولون: إنه خَذَلَه وتَرَك ما يَجبُ من نَصْرِه، وقَوىَ هذا عندهم أنَّ القَتَلَة تحيَّزتْ إلى عسكرِ عليَّ، وكان عليّ وطلحة والزبيرُ قد اتفقوا في الباطن على إمساك قَتَلَةِ عثمان، فسَعَوا بذلك، فأقاموا الفتنةَ عامَ الجمل، حتى اقتتلوا من غير أن يكون عليٌّ أرادَ القتالَ ولا طلحةُ ولا الزبيرُ، بل كان المحرِّكُ للقتال الذين أقاموا الفتنةَ على عثمان. فلمَّا طلبَ عليّ من معاوية ورعيتِه أن يبايعوه امتنعوا عن بيعته، ولم يبايعوا معاويةَ، ولا قالَ أحدٌ قطُّ: إن معاويةَ مثلُ علي، أو إنّه أحق من علي بالبيعة، بل الناس كانوا متفقين على أن عليَّا أفضلُ وأحق،

_ (1) أخرجه البخاري (3674) ومسلم (2403) من حديث أبي موسى الأشعري. (2) سورة المائدة: 28.

- علي وعسكره أولى من معاوية وعسكره

ولكن طلبوا من علي أن يُقيمَ الحدَّ على قَتَلَةِ عثمانَ، وكان عليٌّ غيرَ متمكن من ذلك لتفرُّقِ الكلمةِ وانتشار الرعيَّةِ وقوة المعركةِ لأولئك، فامتنعَ هؤلاءِ عن بيعته، إمّا لاعتقادهم أنه عاجزٌ عن أخذِ حقِّهم، وإما لِتوهُّمِهم محاباةَ أولئك، فقاتلَهم عليٌّ لامتناعِهم من بيعتِه، لا لأجلِ تأميرِ معاوية. وعليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه، كما ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تَمْرُقُ مارقةٌ على حينِ فُرقة من المسلمين، تَقتُلُهم أَولَى الطائفتينِ بالحق ". فهذا نَصٌّ صريحٌ أن علي ابن أبي طالب وأتباعه أولَى بالحقّ من معاويةَ وأصحابه. وفي صحيح مسلم (2) وغيرِه أنه قال: "يقتلُ عمارا الفئةُ الباغيةُ". لكن الفئة الباغية هل يجب قتَالُها ابتداء قبلَ أن تَبدأ الإمامَ بالقتالِ، أم لا تُقاتَل حتى تبدأ بالقتال؟ هذا مما تنازع فيه العلماء، وأكثرهم على القول الثاني، فلهذا كان مذهب أكابر الصحابة والتابعين والعلماء أنَّ تَرْكَ على القتالَ كان أكملَ وأفضلَ وأتمَّ في سياسة الدين والدنيا. ولكنْ عليٌّ إمامُ هدَى من الخلفاء الراشدين، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تكون خلافة النبوة ثلاثين سنةً، ثمَّ تصِيرُ مُلْكًا". رواه أهل السنن (3)، واحتجَّ به أحمد وغيرُه على خلافةِ عليّ والردّ على من طعنَ فيها، وقال أحمد: من لم يُرَبِّعْ بعلي في خلافته فهو أضلُّ من حمارِ أهلِه.

_ (1) مسلم (1065) عن أبي سعيد الخدري. (2) برقم (2915، 2916) عن أبي سعيد الخدري عن أبي قتادة وأم سلمة. (3) أخرجه أبو داود (4646، 4647) والترمذي (2226) وغيرهما عن سَفِينة

والقراَن لم يأمر بقتالِ البغاة ابتداءً، بل قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)) (1). وما حرَّمه الله تعالى من البغي والقتل وغير ذلك إذا فعلَه الرجلُ متأوِّلاً مجتهدًا معتقدًا أنه ليس بحرامٍ لم يكن بذلك كافرًا ولا فاسقًا، بل ولا قَوَدَ في ذلك ولا ديةَ ولا كفارة، كما قال الزهري: وَقَعتِ الفتنةُ وأصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوافرون، فأجمعوا أن كلَّ دم أو مالٍ أو فرجٍ أصيبَ بتأويل القرآن فهو هدر. وقد ثبتَ في الصحيح (2) أن أسامةَ بن زيدٍ قَتَلَ رجلاً من الكفار بعد ما قال "لا إله إلاّ الله "، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أسامةُ، أقتلتَه بعد ما قال لا إله إلاّ الله؟! " قال؟ فقلتُ: يا رسول الله، إنما قالَها تَعوُّذًا، فقال: "هلاَّ شَقَقْتَ عن قَلْبه". وكرَّرَ عليه قوله: "أقَتلتَه بعد ما قال لا إله إلاّ الله؟ ". ومع هذا فلمَ يحكم عليه بقَوَدٍ ولا دِيةٍ ولا كفارةٍ، لأنه كان متأوِّلاً اعتقدَ جوازَ قتلِه بهذا. مع ما رُوِيَ عنه أنّ رجلاً قال له: أرأيتَ إن قَطعَ رجل من الكفَّار يدي ثمَّ أسلمَ، فلما أردتُ أن أقتلَه لاَذَ منّي بشجرةٍ، أأقتُلُه؟ فقال: "إن قَتلتَه كنتَ بمنزلتِه قبلَ أن يقولَ ما قال، وكان بمنزلتك قبلَ أن تَقتلَه " (3). فبيَّن أنك تكونُ

_ (1) سورة الحجرات: 9، 10. (2) البخاري (4269، 6872) ومسلم (96) من حديث أسامة بن زيد. (3) أخرجه البخاري (4019، 6865) ومسلم (95) من حديث المقداد بن=

مُباحَ الدم كما كان مُباحَ الدم، ومع هذا فلما كان أسامةُ متأوِّلاً لم يُبِحْ دمه. وأيضًا فقد ثبتَ (1) أنه أرسلَ خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمةَ، فلم يُحسِنُوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فلم يجعل خالد ذلك إسلامًا، بل أمرَ بقَتْلِهمِ، فلما بلغَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك رَفعَ يديهِ إلى السماء وقال: "اللهم إني أبْرَأُ إليك مما فَعَلَ خالد"، وأرسلَ عليًّا فوَدَاهُم بنصفِ ديَاتِهم. ومع هذا فلم يُعاقِبْ خالدا ولم يَعْزِلْه عن الإمارة، لأنه كان متأوِّلاً. وكذلك فَعَلَ به أبو بكر لما قَتَلَ مالك بن نُوَيرةَ، كان متأوِّلاً في قتلِه فلم يُعاقِبْه ولم يَعْزِلْه، لأنَّ خالدًا كان سيفًا قد سلَّه الله تعالى على المشركين، فكان نفعُه للإسلام عظيما، وإن كان قد يُخطئ أحيانًا. ومعلومٌ أن عليًّا وطلحة والزبير أفضلُ من خالدٍ وأسامةَ وغيرِهما. ولما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحسن: "إن ابني هذا سيد، وسيُصلحُ الله به بين فئتينِ عظيمتين من المسلمين "، فمدحَ الحسنَ على الإصلاح، ولم يَمدَح على القتال في الفتنة= علمنا أن الله ورسوله كان يحبُّ الإصلاح بين الطائفتين دون الاقتتال. ولما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (2) في الخوارج: "يَحقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم وقراءتَه مع قراءتِهم، يَقرءون القرآنَ لا يُجاوِزُ حَنَاجِرَهم، يَمرُقون من الإسلام

_ = الأسود. (1) أخرجه البخاري (4339، 7189) من حديث عبد الله بن عمر. (2) البخاري (693) ومسلم (1066) من حديث علي بن أبي طالب.

- ترك القتال في الفتنة أفضل

كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَّمِيَّةِ، أينما لَقِيْتمُوهم فاقتلوهم، فإنَّ في قَتْلِهم أجرًا عند الله لمن قَتَلَهم يومَ القيامةِ"، وقال (1): "يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق " ورُوِيَ (2): "أَولَى الطائفتينِ بالحق " من معاوية وأصحابه- أعلَمَ أن قتالَ الخوارج المارقةِ أهلِ النهروان الذين قاتلَهم علي بن أبي طالب، كان قتالُهم مما أمر الله به ورسولُه، وكان عليّ محمودًا مأجورًا مُثَابًا على قِتالِه إيّاهم. وقد اتفق الصحابة والأئمةُ على قتالِهم، بخلاف قتالِ الفتنة، فإن النصَّ قد دلَّ على أنَ تركَ القتالِ فيها كان أفضلَ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" ستكونُ فتنة القاعدُ فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي " (3) ومثل قوله لمحمد بن مسلمة: "هذا لا تَضُرُّه الفتنةُ" (4)، فاعتزلَ محمد بن مسلمةَ الفتنةَ، وهو من خيار الأنصار، فلم يُقاتِل لا مع هؤلاءِ ولا مع هؤلاء. وكذلك أكثر السابقين لم يُقاتِلوا، بل مثل سعد بن أبي وقّاص ومثل أسامة وزيد وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين، ولم يكن في العسكرينِ بعد عليٍّ أفضلُ من سعد بن أبي وقاص ولم يقاتل، وزيد بن ثابت، ولا أبو هريرة ولا أبو بكرة ولا غيرهما من أعيانِ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهْبانَ بن صَيْفِي: "خُذْ هذا السيفَ فقاتِلْ به المشركين، فإذا اقتتلَ المسلمون فاكسِرْه"، ففعلَ ذلك ولم يُقاتِلْ في الفتنة (5).

_ (1) أخرجه مسلم (1065/ 149) عن أبي سعيد الخدري. (2) أخرجه مسلم (1065/ 152) عن أبي سعيد. (3) أخرجه البخاري (3601) ومسلم (2886) من حديث أبي هريرة. (4) أخرجه أبو داود (4663) من حديث حذيفة بن اليمان. (5) أخرجه أحمد (5/ 69، 6/ 393) والترمذي (2203) وابن ماجه (3960) =

وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُوشِك أن يكون خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يَتبعُ بها شَعَفَ الجبالِ ومَواقع القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينه من الفِتن ". وفي الصحيح (2) عن أسامة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إني لأرى الفتنةَ تَقَعُ خِلالَ بيوتكم كمواقع القَطْرِ". والأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرة في إخبارِه بما سيكون في الفتنة بين أمتِه، وأمرِه بتركِ القتال في الفتنة، وأن الإمساك عن الدخول فيها خيرٌ من القتال. وقد ثبتَ عنه في الصحيح (3) أنه قال: "سألتُ ربّي لأمتي ثلاثًا، فأعطاني اثنين ومَنَعَني واحدًا، سالتُه أن لا يُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من غيرهم، فأعطانيها، وسالتُه أن لا يُهلِكَهم بسَنَةٍ عامَّةٍ، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يَجعلَ بأسَهم بينهم، فَمَنَعَنِيْها". وكان هذا من دلائل نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفضائل هذه الأمة، إذ كانت النشأة الإنسانية لا بدَّ فيها من تفرُّقٍ واختلافٍ وسَفْكٍ دماء، كما قالت الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (4). ولما كانت هذه الأمة أفضل الأمم وآخر الأمم عَصَمَها الله أن تجتمعَ على ضلالةٍ، وأن يُسلَّط عدوٌّ عليها كلِّها كما سُلطَ على بني إسرائيل، بل إن غُلِبَ

_ = عن أهبان. (1) البخاري (19 ومواضع أخرى) من حديث أبي سعيد الخدري. ولم أجده في صحيح مسلم بهذا اللفظ، وهو فيه بمعناه (1888). (2) البخاري (3597) ومسلم (2885). (3) مسلم (2890) عن سعد بن أبي وقاص. (4) سورة البقرة: 30.

طائفة منها كان فيها طائفةٌ قائمةٌ ظاهرة بأمر الله إلى يوم القيامة، وأخبرَ أنه "لا تزالُ فيها طائفةٌ ظاهرةٌ على الحقّ حتى يأتيَ أمر الله " (1)، وجعلَ ما يستلزمُ من نشأة الإنسانية من التفرق والقتال هو لبعضها مع بعض، ليس بتسليط غيرِهم على جميعهم، كما سَلَّطَ على بني إسرائيل عدوًّا قَهَرَهم كلَّهم. فهذه الأمة- ولله الحمدُ- لا تُقْهَرُ كلُّها، بل لا بُدَّ فيها من طائفةٍ ظاهرةٍ على الحق منصورةٍ إلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى. والله أعلم.

_ (1) أخرجه البخاري (3640) ومسلم (1921) عن المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن غيره من الصحابة في الصحيحين وغيرهما.

(9) مسألة في الاستغفار

مسألة في الاستغفار

- تكرير الاستغفار

قال (1) الوليد: قلتُ للأوزاعي: ما الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفرُ الله أستغفر الله. فهذا حديث صحيح في تكرير الاستغفارِ ثلاثًا دبرَ الصلاةِ، فتكريرُ الاستغفار في الصلاة أوكدُ، كما أنه [لما] سُنَّ تكريرُ التسبيح في الصلوات كان تكرير التسبيح في الركوع والسجود أوكد. وفي صحيح مسلم (2) من حديث الأغرّ المزني- وكانت له صحبة- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئةَ مرَّةٍ". وفيه (3) من حديث عمرو بن مُرَّةَ عن أبي بُردة قال: سمعتُ الأغرّ- وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - يحدث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أيها الناسُ! تُوبُوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مئة". قال الحميدي (4): وقد أخرجه البخاري في تاريخه من هذين الوجهين، ولم يُخرِجه في الجامع، وهو لاحِقٌ بشرطه فيه. وفي الصحيح (5) أيضًا: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرَّةً". وقد أُمِرَ أن يَختِم عملَه الخاصَّ والعامَّ بالاستغفار، فكان الاستغفارُ نهايةَ أمرِه. وتارة يجمع بين التوحيد والاستغفار، فقال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (6)، وقال: (أنما

_ (1) من هنا تبدأ القطعة الموجودة من الأصل. (2) برقم (2702). (3) برقم (2702/ 42). (4) في "الجمع بين الصحيحين " (3/ 522). وانظر "التاريخ الكبير" (2/ 43). (5) البخاري (6307) من حديث أبي هريرة. (6) سورة محمد: 19.

- التوحيد جماع الدين وهو الخير كله، والاستغفار يزيل الشر كله

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (1). فهذان الأمرانِ جماعُ الدين، كما يُروَى أن الشيطانَ قال: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلاّ الله والاستغفار، فلما رأيتُ ذلك بَثَثْتُ فيهم الأهواء، فهم يُذنبون ولا يتوبون، لأنهم يَحسبون أنهم يُحسِنون صنعًا. وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (2). فالتوحيد هو جماع الدين الذي هو أصلُه وفرعُه ولُبُّه، وهو الخير كلُّه، والاستغفارُ يُزيلُ الشرَّ كلَّه، فيحصلُ من هذين جميعُ الخَيْر وزوالُ جميع الشرّ. وكلُّ ما يُصيبُ المؤمنَ من الشرِّ فإنما هو بذنوبه. والاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (3). وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطلُب من الله المغفرة في أول الصلاة في الاستفتاح، كما في حديث أبي هريرة الصحيح (4) وحديث علي الصحيح (5) في أول ما يكبِّر، ثم يطلب الاستغفار بعد التحميد إذا رفعَ رأسَه، ويطلب الاستغفار في دعاء التشهد كما في حديث علي (6) وغيره، ويطلب الاستغفار في الركوع

_ (1) سورة فصلت: 6. (2) سورة النساء: 48. والحديث أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (7) من حديث أبي بكر مرفوعًا، وهو ضعيف بل موضوع. (3) سورة الأنفال: 33. (4) أخرجه البخاري (744) ومسلم (598). (5) أخرجه مسلم (771). (6) هو الحديث السابق.

- كان اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار أكثر

والسجود كما في حديث عائشة الصحيح (1)، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وروى مسلم وأبو داود (2) عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده: "الَّلهمَّ اغفِرْ لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ وأوَّلَه وآخرَه وعلانيتَه وسِرَّه". فلم يَبقَ حالٌ من أحوال الصلاة ولا ركنٌ من أركانِها إلاّ استغفرَ الله فيه، فَعُلِمَ أنه كان اهتمامُه به أكثرَ من اهتمامِه بسائرِ الأدعية. ويميز ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استغفر لرجلٍ كان ذلك سببًا لوجوبِ الجنة له، مثل أن يُسْتَشهدَ، كما في حديث سلمة بن الأكوع (3). وكان استغفارُه للرجلِ أعظمَ عندهم من جميع الأدعية له، كما في صحيح مسلم (4) عن عبد الله بن سَرْجس قال: رأيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكلتُ معه خبزًا ولحمًا -أو قال: ثَرِيدًا- فقلتُ: يا رسول الله! غفرَ الله لك، قال: ولك. قال: فقلتُ له: أَسْتَغْفَرَ لك رسولَ الله؟ قال: نعم ولَكَ، ثمَّ تَلاَ هذه الآية: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (5). وهذا أيضًا توكيد له، حيثُ أمرهُ الله بالاستغفار للمؤمنين، وخصَّ ذلك بسائر الأدعية. وكذلك أخبر عن ملائكته أنهم يستغفرون للمؤمنين، وذلك أن المغفرةَ مشروطة بالإيمان، فلا تكون إلا لأهل

_ (1) أخرجه البخاري (794 ومواضع أخرى) ومسلم (484). وأبو داود (877) والنسائي (2/ 190) وابن ماجه (889). (2) مسلم (483) وأبو داود (878). (3) أخرجه مسلم (1802). (4) برقم (2346). (5) سورة محمد: 19.

الإيمان، بخلاف العافية والرزق والهداية العامة، فإنها تحصلُ بدون الإيمان، فإن الكافر قد يهديه الله فيصير مؤمنًا، وقد يُعافيه ويرزقه مع كفره، وقد يُجابُ دعاؤه. والمغفرةُ إنما هي للمؤمنين، فهي النهاية. ولهذا قال في المنافقين (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1)، وقال فيهم: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (2)، وقال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) (3)، وقال: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية (4). فأمرهم الله بالاقتداء بهم إلا في الاستغفار للمشركين. وفي الصحيح (5) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "استأذنتُ ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، واستأذنتُه في أن أزور قبرها فأذن لي". وفي الصحيح (6) أنه قال لأبي طالب: "لأستغفرنّ لك ما لم أنْهَ عنك"، فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (7). وفي

_ (1) سورة التوبة: 80. (2) سورة المنافقون: 6. (3) سورة التوبة: 113. (4) سورة الممتحنة: 4. (5) مسلم (976) عن أبي هريرة. (6) البخاري (1360 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن المسيب بن حزن. (7) سورة التوبة: 113.

- استغفار الإنسان أهم من جميع الأدعية لوجهين

الصحيح (1) أنه صلَّى على ابنِ أُبيّ وألبسَه قميصَه وتَفَلَ في فيه واستغفرَ له، ثم قال: "وماذا يُغنِي عنه ذلك من الله؟ ". وكذلك استغفر للذين اعتذروا إليه لما رَجَعَ من غزوة تبوك، ثم أنزلَ الله فيهم بعد ذلك ما أنزلَ، فلم ينفعهم ذلك (2). فإذا كان استغفار الإنسان لغيره لا ينفعه إلاَّ مع الإيمان، بخلاف الأدعية المروية في هذا الحديث من العافية والرزق والهداية والرحمة، إذا أريدَ بها رحمة الدنيا أو الرحمة من الدين تصيب الكافر، وأما إذا أريد بها أنه لا يُعذَّبُ أو يَدخُلُ الجنة فهذا لا يصلح. بل استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين: أحدهما: أن استغفاره لنفسه يُغفَر له به جميعُ الذنوب إذا كان على وجه التوبة، حتى إنّ الكفّار إذا استغفروا لأنفسهم نفعَهم ذلك، وكان سببَ نجاتِهم من عذاب الدنيا. وعذابُ الآخرة إنما يُنجي منه الاستغفار مع الإيمان. وهذا أيضًا من خصائص التوحيد، فإن اَلمكلَّفَ لا ينفعُه توحيدُ غيرِه عنه، ولا يُنجِيه ذلك من عذاب الله عز وجل، بل لا يُنجيه إلاّ توحيدُ نفسِه، ولا ينفعُه مع عدمِ التوحيد الاستغفارُ عنه، بل لاَ ينفعُه إلا استغفارُه الذي تضمن توحيدَه وتوبتَه من الشرك. فصارَ الاستغفارُ مقرونًا بالتوحيد من بدايةٍ، لا تُقبَل النيابةُ فيه ولا يُهدَى إلى الغير إلاّ إذا أتى هو به، فإذا كان هو من أهل ذلك نفعَه حينئذٍ ما يريدُه

_ (1) البخاري (5795) ومسلم (2140) من حديث جابر بن عبد الله. (2) أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769) من حديث كعب بن مالك مطوّلاً.

غيرُه من ذلك، بخلاف الأعمال والأدعية التي تُفعَل عن الغير وتُهدَى له وإن لم يأتِ بأصلِها. وإنما كان الاستغفار هو النهاية من العبد لأن الذنبَ لازمٌ لجميع بني آدم، وإنما كمالُ المؤمنين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في التوبة من الذنب والاستغفار، كما قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) إلى آخر السورة (1). وقد أخبر تعالى أنه يُبدِّلُ سيئاتِ التائب حسناتٍ، وأنه يَفرح بتوبة العبد أشدَّ فرحٍ يُقدَّر. فالذنوب إذا كانت مغمورةً بالحسنات لم يُعاقَب صاحبُها بالنار، لكن يكون تأثيرها في تفاوتِ الدرجات، فأعلَى الخلقِ منزلةً العبدُ الذي غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وبذلك وصفه الرسول الذي قبلَه (2) الذي دلَّ عليه والطالبون للشفاعة منه، وجعل ذلك هو السبب في كونه يكون شفيعَ الخلائق، لأنه لما غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر لم يبقَ يَحتاجُ إلى أن يَشفع لنفسِه ويَستغفر، فأمكنَه أن يَشفعَ لغيرِه، بخلافِ من يقول: نفسي نفسي، فإنه يكون محتاجًا إلى الشفاعة حينئذٍ لنفسِه ويستغفر لنفسه، فلا يشفع لغيره في هذا المقام، وإن كان يشفع بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا بُدَّ أن يَغفِر جميع هذه الذنوب وما هو أعظمُ منها، لكن يتأخَّرُ ذلك عن مقامِ الشفاعة، بخلافِ الذي غُفِر له ما

_ (1) سورة الأحزاب: 72. (2) هو عيسى عليه السلام، كما في حديث الشفاعة المشهور الذي أخرجه البخاري (7410، 7440) ومسلم (193/ 324) عن أنس بن مالك.

تقدمَ من ذنبه وما تأخرَ قبلَ هذا المقام، فإنه سائر في مقام المغفرة. ولهذا قال اَلخليل -وهو أحد الرسل الكبار المطلوب منهم الشفاعةُ يومئذٍ-: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (1)، فالمغفرة التي رجاها تكون يومَ الدين، وهي واقعةٌ بعد شفاعة سيّد ولد آدمِ، فإنه قبل ذلك يقول (2): إنّ ربّي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبله مثلَه ولن يغضبَ بعدَه مثلَه، ويذكُر خطيئتَه: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى. وهذا كلُّه مما يؤكَدُ أمرَ الاستغفار ويُبيِّن أنه نهايةُ الأمر، وأنّ السائرَ فيه هو من سائر السابقين، فتكريره يوجب من ذلك ما لا يُوجبه غيرُه. والله أعلمُ.

_ (1) سورة الشعراء: 82. (2) كما في حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة.

(10) مسائل في الصلاة

مسائل في الصلاة

- حكم الجهر والمخافتة في الصلوات، هل هما واجبان أم سنة؟

ذكرٌ (1) إلا في فعلٍ من أفعالها، وليس فيها فعلٌ خالٍ من ذكرٍ إلاّ جلسة الاستراحة حيث تُفعل، فإنها فعلٌ لا ذِكرَ فيه لقِصَرِه، ومثل تكبيراتِ الانتقال، فإنها ليست في فعلٍ مستقرّ. وقد تنازعوا في الجهر والمخافتة في الصلوات هل هما واجبانِ تَبطُل الصلاةُ بتعمُّدِ مخالفتهما أم هما سنة؟ وفي ذلك خلافٌ مشهورٌ في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، والمشهور أنهما سنة، وكذلك دعاء الاستفتاح سنة. ومن السنن الراتبة المتفقِ عليها: المخافتةُ بالذكر والدعاء في الركوع والسجود، والاعتدال فيهما وفي التشهدين، ومخافتة المأموم بقراءته ودعائه، وأما المنفرد فقد تنازعوا هل الأفضل له المخافتة بالقراءة أو الجهر بها؟ والاستعاذة السنةُ المخافتة بها عند الجمهور، وقيل: يتعوَّذ بين المخافتة والجهر. والبسملة عند الذين يقرؤونها -وهم الجمهور- سنتها الراتبة المخافتة، وقيل: الجهر، وقيل: يُخيَّر بين الأمرين. وكذلك التأمين سنتُه الجهرُ به عند أحمد والشافعي، وأصحّ قوليه للإمام والمأموم، وقيل: المخافتة به لهما، وقيل: يخافت به المأموم دون الإمام تبعًا لقراءته. والدليل على أن سنة الاستفتاح المخافتة ما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم بَاعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب…" إلى آخره، وظاهره أنه لم يكن

_ (1) من هنا تبدأ القطعة الموجودة من الأصل. (2) البخاري (744) ومسلم (598).

يجهر بالاستعاذة أيضًا، لقوله "بين القراءة والتكبير". وكذلك سائر الأحاديث الصحاح التي فيها المخافتة بالبسملة، مثل حديث عائشة (1) وأنس (2) وأبي هريرة (3) وغيرها، تدكُ على ذلك. وكذلك حديث سمرة بن جندب وأبي بن كعب، قال سحمرة: حفظتُ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكتتينِ، وهو في السنن (4). وأما لعارضٍ فقد ثبت في الصحيح (5) أن عمر كان يجهر بدعاء الاستفتاح مراتٍ كثيرةٍ، فكان يقول: الله أكبر، "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك". وكان طائفة من الصحابة يجهرون بالبسملة، كابن الزبير وغيره. وقد رُوِيَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يجهر بها بمكة، ورُوِيَ في جهرِه بها بالمدينة أحاديثُ ضعيفةٌ ضعَّفها أهل الحديث (6). وثبتَ في الصحيح (7) عن أبي قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُسمِعُهم الآية أحيانًا من صلاةِ الظهر والعصر، وثبت في صحيح البخاري (8) أن ابن عباس جهرَ بالقراءة على الجنازة بفاتحة

_ (1) أخرجه مسلم (498). (2) أخرجه البخاري (743) ومسلم (399). (3) أخرجه أحمد (2/ 299، 321) وأبو داود (1405) والترمذي (2891) وابن ماجه (3786). وانظر "نصب الراية" (1/ 334، 335). (4) أخرجه أبو داود (779، 780) والترمذي (251) وابن ماجه (844) وأحمد (5/ 7، 11، 15، 21، 23، 20، 22). (5) مسلم (399). (6) انظرها مع الكلام عليها في نصب الراية (1/ 341 - 356). (7) البخاري (759) ومسلم (451). (8) برقم (1335) من حديث طلحة بن عبيد الله. أخرجه أيضًا النسائي (4/=

الكتاب وقال: لِتَعلموا أنها السنة. فمثلُ هذا الجهر إذا كان لتعليم المأمومين يَحسُنُ، ولو كان لمصلحةٍ أخرى فهو حسنٌ أيضًا، فإنه قد يكون الجهرُ أعونَ على القراءة، كما قال عمر: أُوقِظُ الوسنانَ وأُرضِي الرحمن وأَطرُد الشيطان (1). فقد يكون الجهر أبلغ في تعليمه، وقد يكون عليه في المخافتة مشقة، ومهما استجلبَ به الخشوع والبكاء من خشية الله وكان أنفع للمأمومين جاز، ولا يداوم على ذلك في أكل، وقت، كما يداوم على قراءة الفاتحة وعلى الركوع. ومما يدلُّ على جواز الجهر بالاستفتاح وغيره أحيانًا ما في الصحيح (2) عن أنس أن رجلاً جاء إلى الصلاة وقد حَفَزَه النَّفس، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا كثيرًا طبياً مباركًا فيه مُباركًا عليه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتَه قال: "أيُّكم المتكلِّمُ بالكلمات؟ لقد رأيتُ اثْنَي عشرَ ملكًا يبتدرونَها أيُّهم يَرفعُها". فهذا مأمومٌ جهرَ بهذا الذكر بعد التكبير، وقد أثنى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه بذلك، وهذا دليلٌ على جواز الجهر أحيانًا في المواضع التي يُخافَتُ فيها، وأن الرجل إذا ذكر الله في الصلاة بما هو من جنسها كان حسنًا وإن لم يُؤمَر به. وهذا موافقٌ لجهر عمر بالاستفتاح.

_ =74، 75) والحاكم في المستدرك (1/ 358) من طريق سعيد بن أبي سعيد. (1) أخرجه أبو داود (1329) والترمذي (447) من حديث أبي قتادة. (2) مسلم (600).

- ما يقوله في ركوعه وسجوده واعتداله، أحيانا كان يجهر به

وكذلك ما رواه البخاري (1) من حديث رفاعة بن رافع قال: كنا نصلِّي وراء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجلٌ وراءه: ربنا لك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى صلاتَه قال: "مَن المتكلِّمُ؟ رأيتُ بضعَةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها". فهذا أيضًا جهرٌ من المأمومَ بالتحميد الذي هو ليس المأمور به، ولكنه من جنس المأمور به، فإن النبي لم يُنقَل عنه مثله. وأيضا فالذين ذكروا أنهم صلَّوا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلموا ما كان يفتتح به، وما كان يقوله في ركوعه وسجودهِ واعتداله، مثل حديث جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلّي فقال: "الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثِه". رواه أهل السنن (2)، وهو حديث حسن. فلولا أنه جهر بذلك لما سمعه يقول ذلك، إلا أن يُخبِره به بعد الصلاة، ولو أخبره كما أخبر أبا هريرة لبيَّن ذلك، ولأنه لم يكن ليُخبِره من غير استخبارٍ عن الاستفتاح وحدَه دون بقية أذكار الصلاة، إذ لا مُوجِبَ للتخصيص. وكذلك حديث حذيفة (3) أنه صلَّى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يقول في ركوعه: "سبحانَ ربي العظيم"، وفي سجوده: "سبحانَ ربي الأعلى"،

_ (1) برقم (799). (2) أخرجه أبو داود (764) وابن ماجه (807) وأحمد (4/ 80، 85). (3) أخرجه مسلم (772).

وما أتَى على آيةِ رحمةٍ إلا سألَ، ولا على آيةِ عذاب إلا تعوَّذ، وهذا كان في قيام الليل. وهو حديث صحيح. وكان يقول بين السجدتين: "ربِّ اغفرْ لي، ربِّ اغفرْ لي" (1)، وهذا بيِّنٌ أنه كان يُسمَع منه ما قاله في ركوعه وسجودِه وبين السجدتين، وكذلك دعاؤه عند آية الرحمة والعذاب. فهذا يقتضي جواز الجهر بذلك. وكذلك حديث ابن أبي أوفى (2) أنه كان إذا رفع ظَهرَه من الركوع قال: "سمعَ الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماواتِ ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما شِئتَ من شيء بعدُ"، وفي حديث أبي سعيد (3): "أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد" إلى آخره. وهذا يدلُّ ظاهرُه على أنهم سمعوا ذلك منه يقوله في الصلاة من غيرِ إخبارٍ منه لهم. وكذلك حديث عائشة الذي في الصحيح (4) أنه كان يُكثِر أن يقول في ركوعه وسجودِه: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهمَّ اغفرْ لي" يَتَأَوَّلُ القرآن. وقولها في الصحيح (5): كان يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوحٌ قدوسٌ ربّ الملائكة والروح". وأصرحُ من ذلك ما رواه

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 398) وأبو داود (874) والنسائي (2/ 231) وابن ماجه (897) من حديث حذيفة. وإسناده صحيح. (2) أخرجه مسلم (476). (3) أخرجه مسلم (477). (4) البخاري (817) ومسلم (484). (5) مسلم (487).

- جهر الإمام بالتكبير

مسلم (1) عنها قالت: فَقدتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةً على الفِراش، فالتمستُه، فوقَعتْ يدي على بطنِ قدميه وهو في السجود وهما منصوبتانِ، وهو يقول: "اللهمَّ إني أعوذ برِضاكَ من سَخَطِكَ" إلى آخره. فهذا صريحٌ في أنه جَهَرَ بهذا الدعاء في سجودِه، حتى سمعت ذلك عائشة. فإن كان الإمام ضعيفًا أو صوتُه لا يَبلُغ المأمومين جاز أن يُبلِّغ بعضُهم بعضًا بالتكبير، كما كان أبو بكر يُبلِّغ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التكبير في مرضِه لما خَرَج وأبو بكر يُصَلِّي بالناس، وبنى على صلاةِ أبي بكر. وأما الإمام فالسنة في حقه الجهرُ بالتكبير باتفاق العلماء، وفي حديث أبي هريرة الصحيح (2): كان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام [إلى] الصلاة يُكبّرُ حينَ يقوم وحينَ يركع، ثم يقول: "سمعَ الله لمن حمده" حين يرفعُ صُلْبَه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: "ربَّنا ولكَ الحمدُ"، ثم يكبّر حين يَهوِيْ وحين يرفعُ رأسَه، ثمّ يكبِّر حين يسجد، ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه. وكذلك ذكره أبو حُميد الساعدي (3). وكذلك حديث أبي موسى في صحيح مسلم (4) يبين هذا: "إذا صليتمِ فأقيموا صفوفكم، ثُمَّ ليؤمَّكم أحدُكم، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: (وَلا الضَّالِّينَ) فقولوا "آمين" يُجِبْكم الله، فإذا كبَّر وركعَ فكبِّروا واركعوا، فإذا قال

_ (1) برقم (486). (2) أخرجه البخاري (789) ومسلم (392). (3) أخرجه البخاري (828). (4) برقم (404).

- مقدار القراءة في الصلوات

"سمع الله لمن حمده" فقولوا "ربنا ولك الحمد" يسمع الله لكم". ففي هذه الأحاديث بيان جهر الإمام بالتكبير حتى يسمعوه. فصل وأما مقدار الكلم والعمل فإن السنة التي اتفق عليها العلماء في صلاة المغرب أن قراءتها أقصرُ من قراءة غيرِها، كما اتفقوا على أنّ سنتها التعجيلُ من أول الوقت، وإن كان تأخيرُها إلى وقتِ العشاءِ جائزًا، كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة في إمامةِ جبريلَ النبيَّ صلى الله عليهما وسلم، ويُكرَه تأخيرُها عن أوَّلِ وقتِها من غيرِ عُذْرٍ، بخلافِ غيرِها من الصلوات. وقد روى الإمام أحمد (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "المغربُ وِتْرُ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل". فإذا كانت وِتْرَ صلاة النهار كان تعجيلُها مع عمل النهار هو السنة، ومع هذا فقد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ فيها بطُولَى الطُولَيَيْنِ، وفي الصحيح عنه أنه كان يقرأ فيها بالمرسلات (3) وبالطور (4). وأما صلاة الفجر فالسنة فيها التي استفاضت بها الأحاديث واتفقَ عليها العلماءُ إطالةُ القراءةِ فيها زيادة على غيرِها، حتى قيل: إنها إنما جُعِلتْ ركعتين لأجلِ طولِ القراءة فيها. وفي

_ (1) في المسند 2/ 30، 32، 41، 82، 154 من حديث ابن عمر. (2) أخرجه البخاري (764) من حديث زيد بن ثابت. (3) كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري (763) ومسلم (462). (4) كما في حديث جبير بن مطعم الذي أخرجه البخاري (765) ومسلم (463).

الصحيح (1) من حديث أبي بَرْزَة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ فيها ما بينَ الستّين إلى المئة، وتارةً بقاف، وهو في الصحيح أيضًا عن جابر بن سمرة (2). وتارةً بالمؤمنين (3)، وتارةً بغيرها. وفي مسند أحمد (4) أنه قرأ فيها بالروم، وكان يأمرهم بالتخفيف، ويَؤُمُّهم بالصَّافّات. فالتخفيف الذي أراده منهم هو أن يقرأ بقدر الصافّات. وقرأ فيها في السفر بـ (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلْفَلق) و (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، كما رواه أهل السنن (5) عن عقبة بن عامر قال: كنتُ أقودُ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقتَه في السفر، فقال لي: "يا عُقْبة، إلا أُعلِّمك خيرَ سورتين قُرِئتَا؟ "، فعلَّمني "قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس"، فلما نزلَ إلى صلاة الصبح صلِّى بهما. والسفر قد وُضِعَ فيه عن المسافر شَطْرُ الصلاة، فكذلك يُوضع عنه إطالةُ القراءةِ فيه في الفجر. وكان يخفف الصلاة لأمرٍ عارض كبكاء الصبي (6)، فإن تخفيف الصلاة لئلاّ يشقّ على المأمومين من السنة. وفي حديث عائشة (7) أنه كان يصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعةً، وفي حديث ابن

_ (1) البخاري (771) ومسلم (461). (2) أخرجه مسلم (458). (3) أخرجه مسلم (455) عن عبد الله بن السائب. (4) 3/ 471 و 5/ 368، وأخرجه أيضَا النسائي (2/ 156) كلاهما من طريق شبيب أبي روح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا. (5) أخرجه أبو داود (1462) والنسائي (2/ 158). (6) أخرجه البخاري (759، 715) ومسلم (470) عن أنس. (7) أخرجه البخاري (1147) ومسلم (738).

- قيام الليل أفضل التطوعات، وأفضل الرواتب الوتر وركعتا الفجر

عباس (1): ثلاث عشرة ركعة، وكان يفتتح قيام الليل بركعتين خفيفتين (2)، فلعلَّ هذه هي محلّ الاختلاف، وكان يصلِّي بعد وترِه سجدتين وهو جالسٌ. قال: وقد أطلق بعضُ العلماء أن التطوُّعات قبل الصلوات وبعدها أفضل التطوع. قال الشيخ: وليس كذلك، بل قيامُ الليل أفضل التطوعات، كما ثبت في الصحيح (3) عنه أنه سُئِل أيُّ الصلاة أفضلُ بعد المكتوبة؟ فقال: "صلاة الليل". وأفضل الرواتب الوتر وركعتا الفجر، وهذا هو الذي لم يكن يتركه سفرا ولا حضرًا، بل كان في السفر يُوتر على راحلته، وكان يصلي ركعتي الفجر، حتى قضاهما لما نام عنهما، حينَ نام هو [و] أصحابه عن صلاة الفجر لما قَفَلَ عن خيبر، وقال عنهما: "لا تَدَعُوهما ولو طَرَدَتْكم الخيلُ " (4). وقد كان مالك لا يسمِّي سنة إلا هما خاصة، فهما أول العمل، والوتر آخره. و [لم] يحفظ أحدٌ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى مع الظهر والعصر والمغرب والعشاء شيئًا من الرواتب في السفر، وكان يُصلِّي صلاةَ الليل على راحلته، بل ثبت عنه في غير حديث صحيح أنه كان يصلّي المغرب والعشاء ولا يصلِّي معهما شيئًا، وأنه لم يكن في السفر يزيد على ركعتين. وأقصى ما في

_ (1) أخرجه البخاري (183 ومواضع أخرى) ومسلم (763). (2) أخرجه مسلم (767) عن عائشة. (3) مسلم (1163) عن أبي هريرة. (4) أخرجه أحمد (2/ 405) وأبو داود (1258) عن أبي هريرة.

- وصف النبيين والصالحين بأنهم إذا سمعوا الآيات خروا سجدا وبكيا

الأحاديث الصحيحة أن تطوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ركعات الفرض أربع وأربعون ركعةً، وعائشة كانت أعلمَ بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل من غيرِها. فصل وصف الله سبحانه أنبياءَه ورُسُلَه والعلماءَ من عبادِه بأنهم إذا سمعوا آيات الله خرُّوا سُجَّدا وبُكِيُّا، كما قال تعالى لما ذكر الأنبياء في سورة مريم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)) (1). وصف جميع هؤلاء الذين هم صَفوةُ خلقِه وخيرهم بأنهم إذا سمعوا آياتِ الرحمن خَرُّوا سُجَّدا وبُكِيّا، وهذا نظير ما وصف به علماءَ أهل الكتاب بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)) إلى قوله: (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)) (2)، أي إذا سمعوا القرآن سجدوا وبكَوا. وهذا مما أمر الله به الناس عموما، وذمَّ من لم يفعل ذلك في قوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21)) (3). فذمَّ من إذا قرئ عليه القرآن لا يَسجُد، كما مدح النبيين وغيرهم من المؤمنين بالسجود إذا سمعوه. والسجود وإن كان مشروعًا عند استماع هذه الآيات السجدات وواجبٌ عند بعض العلماء، فلا يجوز أن يكون

_ (1) سورة مريم: 58. (2) سورة الإسراء: 107 - 109. (3) سورة الانشقاق: 25 - 21.

المراد بهذه الآيات ونحوها مجرد سجود التلاوة، لأنه تعالى وصفهم بأنهم إذا تُلِيت عليهم خَرُّوا سُجَّدًا، وأخبر أنه لا يؤمن بآياته إلا الذين إذا ذُكّروا بها خَرُّوا سُجَّدًا، وهذا يَعُمُّ الآيات التي شُرِعَ فيها سجودُ التلاوة وغيرَها، ولا يجوز حملُه على تلك الآيات فقط، لأنها قليلة يسيرةٌ من حيث آيات الله عز وجل. وكذلك ما وَصَفَ به أهلَ العلم وكذلك ما حَضَّ عليه الناسَ بقوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ) (1)، فيه من العموم والتحضيض ما لا يجوز حمله على مجرد سجود التلاوة، يُوضح ذلك أنه لما أثنى على النبيين وأهل العلم وصفَهم بالسجود والبكاء، ولمّا أخبر عما لا بُدَّ منه من الإيمان وما يُذَمُّ من تركه ذكر السجود فقط، فقال: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)) (2)، وقال: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21)) (3). بل هذا- والله أعلم- كما شِرعَه لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)) إلى أن قال: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (4)، فأمره بالقراءة والسجود، وعلى ذلك بنيَتِ الصلوات، فاعظم أركانها القولية القراءة، وأعظم أركانها الفعلية السجود، وهما أفضل أعمال الصلاة. وقد تنازع [العلماء] أيُّما

_ (1) سورة الانشقاق: 20 - 21. (2) سورة السجدة: 15. (3) سورة الانشقاق: 21. (4) سورة العلق: 1، 19.

- اشتمال الصلوات على استماع الآيات وعلى السجود

أفضل: طولُ القراءة أو كثرة الركوع والسجود أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال، أصحها التسوية، كما كانت صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع. فصل والصلوات المشروعة مشتملة على ذلك، على استماع لقراءة آيات الله وعلى السجود، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (1)، فعُلِمَ أن ما وصف به الذين أنعم عليهم قبل ذلك ضد الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فنَعَتَ النبيين وأتباعهم بإقام الصلاة والمحافظة عليها. ولهذا لما احتج بهذه الآيات ونحوها من أوجبَ سُجودَ التلاوة أجابَ عن ذلك من لم يُوجِبْه بأن المراد بها سجودُ الصلب المفروض في الصلوات والقعود للثناء ما يتضمن الجمع بين القراءة والسجود، كما تضمَّن ذلك أول سورة أنزلت. ومما يُشبه هذه الآيات الثلاث قولُه في آخر النجم: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (2). يذمُّ تعالى من يعجب من القرآن، ويضحك ولا يبكي بل يلهو، وأمر بالسجود لله والعبادة له. وهذا متضمن (3) للسجود عند سماع هذا الحديث، كما وُضِعَت الصلاة على ذلك.

_ (1) سورة مريم: 59. (2) سورة النجم: 59 - 62. (3) في الأصل: "متضمنا".

- معنى الركوع والسجود عند الجمع والانفراد

وقد أخبر تعالى في قوله أنه لا يكون مؤمنًا بآياته إلا من يسجد عند ما يُذَكَّر بها، فقال: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)) (1). وهذه الآية يُستدلُّ بها على أن من لم يسجد لله فليس بمؤمن، وهذا يَقتضي كفر تارك الصلاة، وقوله: (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقتضي أن التسبيح واجب، وذلك يقتضي وجوبَ التسبيح مع السجود، والركوع يدخل في مسمَّى السجود عند الانفراد، فيقتضي وجوبَ التسبيح في الركوع والسجود. وأما قوله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (2) فإنه داخل في حيز "الذين" أيضا، وذلك يجعل للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لصلاة الصبح وصلاة العشاء، وكلّما أُخِّرتْ هذه وقُدِّمتْ هذه كان أشد للتجافي عن المضاجع. فصل وقد وُضِعت الصلاة على السجود بعد القراءة، فإن الركوع والسجود- كما قدَّمنا- كلاهما يدخلُ في اسم الآخر [عند] الانفراد، وإن مُيِّزَ بينهما عند الجمع، كما في لفظ الفقير والمسكين، كما قال تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) (3)، قيل: المراد به الركوع، لأن الساجد على الأرض لا يمكنه الدخول لذلك، ومنه قول

_ (1) سورة السجدة: 15. (2) سورة السجدة: 16. (3) سورة البقرة: 58.

العرب: سَجَدتِ النَّخلةُ، إذا مالت، فهذا إدخال الركوع في مسمى السجود، فإنه مبدؤه وأوله. وأما الآخر فكقوله في قصة داود: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (1)، وإنما هو سجودٌ بالأرض، كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح (2) أنه قال: "سَجَدَها داودُ توبة، ونحن نسجدها شكرًا"، فإن الركوع يحصل بالانحناء، والزيادة على ذلك إلى حدّ الأرض زيادةٌ فيه. ويُعبَّر عن الصلاة تارة بلفظ الركوع، كما في قوله: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (3)، وقوله: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (4). ولهذا إذا كانت السجدة في آخر السورة أجزأ ما في الصلاة من السجود والركوع عن سجود التلاوة، كما يُروى ذلك عن ابن مسعود، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وهو قولُ من قال من فقهاء العراق وغيرهم، لكن هل المجزئ عن سجود التلاوة هو الركوع أو سجود الصلب أو كلاهما؟ فيه نزاعٌ ليس هذا موضعه. وممّا يبيِّن أصلَ الكلام أن ما في القرآن من الأمر بالسجود- كقوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (5) - هو أمرٌ بركوع الصلاة وسجودها، والله سبحانه وتعالى كما يَقرِنُ بعض أركان الصلاةِ ببعض- كما قَرَنَ بين

_ (1) سورة ص: 24. (2) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في الكبرى (11374) من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (4807) بمعناه. (3) سورة البقرة: 43. (4) سورة آل عمران: 43. (5) سورة الحج: 77.

- هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -: عدم القنوت دائما في صلاة الفجر وغيرها

القراءة والسجود، وبين الركوِع والسجود- فإنه يَقرِن بين الصلاة وبين غيرها من الشرائع، كما قرن بينها وبين الزكاة، وبينها وبين الصبر الداخل في الجهاد والصوم وغيرهما، وأكثر الأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة والجهاد، وقد قرن بينهما فى قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) هو الآية (1)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الآية (2)، وقال تعالى: (عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) (3)، وقال في القرآن: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (4). فصل الذي تواتر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتفقت عليه الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن يَقنُتُ دائمًا في صلاة الفجر ولا غيرها، لكن كان يُطِيل الفجرَ بالقراءةِ أكثرَ من غيرها، وقد ثبت في الصحيح (5) عن أنس أنه لم يَقنُت بعد الركوع إلا شهرًا، والعلمُ بعدم قنوتٍ راتبِ كالعلم بعدم قنوته في العشاء والمغرب دائمًا، إذ لم يَنقل عنه مسلم كلمةً تُقال في القنوتِ الراتب، وقد نقلوا عنه قنوت الوتر.

_ (1) سورة الحج: 77 - 78. (2) سورة المائدة: 35. (3) سورة الفتح: 29. (4) سورة الفرقان: 52. (5) البخاري (1002) ومسلم (677).

- اختلاف العلماء في قنوت الفجر

وقد تنازع الناس هل كان قنوته راتبًا أو منسوخًا أو كان لسبب عارض ثم تركه لزوالِه؟ على ثلاثة أقوال، والثالث قول أهل الحديث، وهو الصواب، وهو قنوت النوازل، كقُنوته على الذين قتلوا القراء يومَ بئر مَعُونةَ، فقنتَ شهرًا بعد الركوع يدعو عليهم، وكقُنوتِه يدعو للمستضعَفين بمكة، فكان يدعو في قنوته لقومٍ، ويدعو على قومِ من الكفار ليُنْصَر عليهم. وكذلك عمر بن الخطاب كان يقنت إذا أرَسلَ جَيْشًا إلى الشام بالقنوت الذي فيه الدعاءُ على أهل الكتاب، وهو من قنوته موقوف عليه ليس مرفوعًا. وكذلك عليٌّ قنتَ في حروبه. وقد سأل أبو ثور الإمام أحمد عن القنوت فقال: في النوازل، فقال: وأيُّ نازلةٍ أعظمُ من نازلتنا؟ قال: فاقنُتوا إذًا، أو كما قال، يُريد بذلك امتحان الجهمية للمسلمين. فإذا نزل بالمسلمين أمر عامّ قنَتُوا فيه، كما إذا ظَهرَ قوم من المبتدعة والمنافقين قنتَ المؤمنون، وكذلك في الفتن التي تقعُ بين المسلمين من الافتراق والاختلاف. لكن لما وقعت الفُرقة في زمنِ علي هل قنتَ الناس للجماعة والائتلاف كما قَنتَ الطائفتان المقتتلتان؟ أو قنتَتْ كل طائفةٍ تطلُبُ النصرَ على الأخرى؟ وفي حروب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الأحزاب ونحوِه لِمَ لَمْ يَقنُت أو لِمَ لَمْ يُنقَل قنوتُه؟ فإن المأثور عنه القنوتُ حيثُ لم يُمْكِنْه النصرة بالقتال، كقنوته على الذين قتلوا القراء، وللمستَضعفين الذين بمكة من المؤمنين بخلاصهم. وكذلك عمر كان يَقنُت لجنودِه، ويدعو لهم بالنصر، ويدعو علي الكفار بالخذلان والنكال، وهذا عِوَض عن مباشرتِه القتال بنفسه.

(11) فصل في الصلاة الوسطى

فصل في الصلاة الوسطى

- الصلاة الوسطى هي العصر

فصل في الصلاة الوسطى قد ثبت في النصوص الصحيحة المستفيضة أن الصلاة الوسطى هي العصر، كما صرّح به في حديث عليّ المتفق على صحته (1)، وحديث ابن مسعود: "الصلاة الوسطى هي العصر" (2). والعصر ثبتَ لها خصائص، كقوله في الحديث الصحيح (3): "من تركَ صلاة العصر حَبطَ عملُه"، وكذلك في الصحيح (4): "الذي تفوتُه صلاةُ العصر كأنما وُترَ أهله وماله"، وقوله (5): "إن هذه الصلاة عُرِضتْ على من كان قبلكم فضيَّعُوها، فمن حافظ عليها كان له الأجرُ مرَّتين، ولا صلاةَ بعدها حتى يَطلعَ الشاهدُ". والشاهد: النجم. ولهذا قال علي: هي الصلاة التي شُغِلَ عنها سليمانُ حتى توارتْ بالحجاب (6). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُبُ الشمسَ حتى إذا اصفرَّتْ وكانت بين قَرنَيْ شيطانٍ، قامَ فنقَر أربعًا لا يذكرُ الله فيها إلا قليلا" (7). وهي الصلاة التي قال الله فيها في القرآن:

_ (1) البخاري (2931) ومسلم (627). (2) أخرجه مسلم (628). (3) أخرجه البخاري (553، 594) من حديث بريدة. (4) أخرجه البخاري (552) ومسلم (626) من حديث ابن عمر. (5) أخرجه مسلم (830) من حديث أبي بصرة الغفاري. (6) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 505) والطبري في تفسيره (5/ 170). (7) أخرجه مسلم (622) من حديث أنس.

- سبب تعظيمها

(تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) (1). وقد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله ولا يَنظُر إليهم يومَ القيامة، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم: رجلٌ حَلَفَ على سِلْعَة بعد العصر كاذبًا لقد أُعطِيَ بها أكثر مما أعطي. ورجل على فَضْلِ ماءٍ يمنعُه من ابن السبيل، فيقول الله له: اليومَ أَمْنَعُك فَضْلِي كما مَنَعتَ فَضْلَ ما لم تَعملْ يداك. ورجل بايعَ إمامًا لا يُبايعُه إلا للدنيا، إن أعطاه رَضِي، وإن مَنَعَه سَخِط". فذكر اليمين الفاجرةَ بعد العصر. ويُقال: إنّ وقتَها وقمت تُعظمُه الأممُ كلُّها، ولذلك أمر الله بالاستحلاف فيه لغير المسلمين. والمحافظة على الصلاة تُوجبُ تعظيمَه وحِفْظَ وقتِها حتى لا يُضيعَ حتى يخرج الوقت، وليسَ في مواقيت الصلوات ما لا يتميَّز أولُه بفصلٍ يُحَسُّ إلا وقت العصر، فإن الفجر يتميزُ أولُ وقتِها وآخرُه بطلوع الفجر وطلوع الشمس، والظهر يتميزُ أولُ وقتها بالزوالِ، وآخرُ وقتِها وإن لم يكن متميزًا فيجوز تأخيرُها إلى وقت العصر للعذر، فلا يفوت إلا بفوات وقت العصر. والمغربُ يتميزُ أولُ وقتِها وآخرُه بغروب الشمسِ وغروب الشفَق. وعشاءُ الآخرة يتميزُ أولُ وقتِها بمغيب الشفق، وآخرُ وقتهَا وإن لم يتميَّزْ تميُّزًا في الحسّ لكنّه يُمَدُّ للعذَر إلى طلوع الفجر كالظهر. والصلاة التي يُمكِن تأخيرُها إلى ما بعد الوقت الخاصّ للعذر، لا يُخاف من فوتها ما يُخاف من فوتِ الصلاة التي لا يُمكن تأخيرها،

_ (1) سورة المائدة: 156. (2) البخاري (2358) ومسلم (106) عن أبي ذر.

- هل يجوز تأخير الصلاة عن وقتها في حال شدة الخوف؟

فالظهر والعشاء يجوز تأخيرُهما عن وقت الاختيار، وإن جاز تقديمُ العشاء، بخلاف العصر فإنه لا يجوز تأخيرُها عن وقتِها بحالٍ من الأحوال، وأولُ وقتها ليس يميز، مع أنه أقصرُ من وقت العشاء والظهر، ووقتها يكون الناس فيه مشتغلين بالأعمال في العادة، لا يكونون في وقتِ صلاةٍ أَشْغَلَ منهم في وقتها، وإن كان ذلك يختلف باختلاف الأحوال والآحاد في بعض الصلوات، لكن هذا هو الغالب. فالمحافظة عليها بسبب الوقت وقِصَرِه ووجودِ الشغل فيه. ولهذا لم يشتغل نبيُّنا عليه السلام عن صلاة من الصلوات حتى نَسِيَها إلا صلاة العصر يومَ الخندق، كما أنه لم يَنمْ عن صلاةٍ إلا عن صلاة الفجر، وقال (1): "من نامَ عن صلاة أو نَسِيَها فلْيُصَلِّها إذا ذكرَها، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك"، وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام عن الصلاة مرةً ونَسِيَها أخرى. ولهذا قال لأصحابه: "لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصر [إلا] في بني قُريظةَ"، فأدركَتْهم العصرُ في الطريق، فمنهم من صلَّى في الوقت، ومنهمِ من أخَّرها حتَّى صلاها بعد المغرب هناك، فلم يُعنِّفْ واحدةَ من الطائفتين (2). ولهذا تنازع العلماء هل يجوز في حال شدَّةِ الخوف تأخيرُ الصلاةِ عن وقتها أو يَجبُ فعلُها في وقتها بحسب الحال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.

_ (1) أخرجه البخاري (597) ومسلم (684) عن أنس بن مالك. (2) أخرجه البخاري (946، 4119) من حديث ابن عمر.

- المجمع بين الصلاتين

إحداهما: أنه يُخيَّر بين تعجيلها بحسب الحال وبين تأخيرِها، كما أن الصحابة منهم من صلَّى في الوقت ومنهم من صلَّى بعد الوقت، لكن أولئك صَلَّوا صلاةً كاملةً، لكونهم لم يمنعوا عن ذلك. والثاني: أنه يجب فعلُها في الوقت بحسب الحال، وأن ذلك التأخير كان منسوخًا بقوله بعد ذلك: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (1)، فأمرهم بالمحافظة التي هي فِعلُها في الوقت. ولأنه بذلك يجمع بين الواجبين: الصلاة والجهاد بحسب حاله، وإتيانُه بالواجبين أولَى من تفويتِ أحدهما، ووقتُ الصلاة أعظمُ فروضها، ولا تَسقُط بحالٍ، ولهذا تُفعَل على أيِّ حالٍ أمكنَ في الوقت، ولا تُؤخَّر صلاةُ النهار إلى الليل، ولا صلاةُ الليل إلى النهار، لا لاشتغال مفرط ولا غير ذلك. وأما الجمع بين الصلاتين فهو فِعل لها في وقتهما، إذ الوقتُ ينقسم إلى وقتِ اختيار ووقتِ اضطرار، ولهذا قلنا في المُحْرِم إذا خاف إن صلَّى العشاء أن يفوتَه الوقوفُ بعرفةَ، وإن بادرَ إلى إدراكِ الوقوف قبل صلاةِ الفجر فاتته العشاءُ= إنه يجمع بين الواجبين الصلاة والحج، فيُصلي بحسب حالِه ويُدرك الوقوف. وهذا القول خيرٌ من قولِ من قدَّم الصلاةَ وفوَّتَ الحج، أوَ قدَّمَ الحج وفوَّتَ الصلاةَ، إذ كلٌّ من الوقوِف والصلاة له وقتٌ لا يجوز تأخيرُه عنه. وبعد هذا القوِل قول من سَوغَّ تأخيرَ الصلاة لإدراك الحج، فهو شبيهٌ بقولِ من سَوغَّ تأخير

_ (1) سورة البقرة: 238.

- قول من قال: الصلاة الوسطى هي الفجر

الصلاة لأجلِ الجهاد. وأما من أمرَ بفعل الصلاة وتفويت الحج فهو يقول: لا يَخرُج عن الإحرام بذلك، بل ينتقلُ عن الحج إلى العمرة. وهذا ضعيفٌ، فإنّ ذلك لا يجوز مع القدرة بحالٍ. ومن العلماء مَن جَعَلَ فِعلَ الصلاةِ يوم بني قُريظةَ من الصحابة فِعْلَ اجتهادٍ، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُسوِّغ الفعلينِ جميعًا حتى جَعَلَهم مُخيَّرين، ولكن لما اجتهدوا أقرَّ كلاًّ منهما على اجتهاده. وجعلوا هذا الحديث أصلاً في تقرير المجتهدين على اجتهادهم. وهذا وإن كنتُ قد ذكرتُه في بعض كلامي قبلَ هذا ففيه نظرٌ، لأن المجتهدين إنما يُقَرُّون إذا عُدِمَتِ النصوصُ، فلو كان هذا من باب الاجتهاد لكان أحدهما هو المصيب دونَ الآخر، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَوِّبُ فِعْلَ إحدى الطائفتين ويَعذُر الأخرى، لا يُسَويّ بين الطائفتين التي اختصَّتْ إحداهما بالإصابة في مواردِ الاجتهاد. والمقصود الكلامُ على "الوُسطَى"، وأنها مما قد يشتغلُ عنها الأنبياء والصالحون، كما نَسِيَها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن نَسِيَها من أصحابه يومَ الخندق، وكما نَسِيَها سليمانُ يومَ عُرِضتْ عليه الخيلُ. فتخصيصها بالأمر بالمحافظة عليها مناسبٌ، كما هو قول أهل الحديث والسلف. ويليه قولُ من قال: إنها الفجر، فإنه أيضًا قولُ طائفةٍ من الصحابة والعلماء المتبوعين. والفجر أحق الصلوات بذلك بعد العصر، فإن هاتين الصلاتين بينهما من الاشتراك الذي اختصَّا به ما ليس لغيرهما من الصلوات، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1): "لَن يَلِجَ النارَ

_ (1) مسلم (634) عن عمارة بن رُوَيبة الثقفي.

- خصائص صلاتي الفجر والعصر

أحدٌ صلَّى قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها" يعني الفجر والعصر. وقال في الحديث الصحيح (1): "من صلَّى البَرْدَينِ دخلَ الجنةَ". وقال (2): "إنكم سَتَرَون ربّكم كما ترون القمرَ ليلةَ البدر، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها فافعلوا"، ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (3). وقال في الحديث الصحيح (4): "من أدرك [ركعةً] من الفجر قبلَ أن تطلع الشمسُ فقد أدرك، ومن أدرك ركعةً من العصر قبلَ أن تغربَ الشمسُ فقد أدرك". وذلك أن الله أمرَ بالصلاة قبلَ طلوع الشمس وقبل الغروب، وهذا يتناول هاتين الصلاتين قطعًا، وإن كانت صلاةُ الظهر قد تدخل في ذلك. وكذلك قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (5)، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) (6) و (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ) (7)، ونحو ذلك يتناول الفجر والعصر قطعًا، والظهر وإن دخلَتْ في ذلك فوقتُها وقتُ العصر حينَ العُذر، كما أن وقت العصر هو وقتها حالَ العذر فوقتُ هاتين الصلاتين واحد من وجهٍ. ومن خصائص هاتين الصلاتين أن كلاًّ منهما لا يجوز تأخيرها عن

_ (1) البخاري (574) ومسلم (635) عن عبد الله بن قيس. (2) أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله. (3) سورة طه: 130. (4) البخاري (579) ومسلم (608) من حديث أبي هريرة. (5) سورة غافر: 55. (6) سورة هود: 114. (7) سورة الأعراف: 205، سورة الرعد: 15، سورة النور: 36.

وقتها بحال ولا لسبب من الأسباب، كما تؤخَّر الظهرُ [إلى العصر]، والمغربُ إلى العشاء للعذر، ولهذا خصَّهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: "من أدرك ركعةً من الفجر قبل أن تطلع الشمسُ فقد أدرك، ومن أدرك ركعةً من العصر قبلَ أن تَغْرُب الشمسُ فقد أدرك"، إذْ سائر الصلوات لا تحتاج إلى مثل هذا. فهذه صلاة النهار لا تؤخَّر إلى الليل، وتلك صلاة ليلٍ من بعض الوجوه لأجل الجهر فيها، وصلاة نهارٍ من بعض الوجوه لكونها بعد طلوع الفجر، وإن كانت معدودةً من صلوات النهار كما قد نصَّ عليه أحمد وغيرُه، لكن فيها شَبَهٌ من صلاة الليل. وذلك أن لفظ "الليل" "والنهار" فيهما اشتراكٌ، فقد يُراد في الشريعة بالنهار ما أولُه طلوع الفجر، كقوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) (1) الطرف الأول فيه صلاة الفجر، وهذا هو المعروف في باب الصيام، إذ [إنا] نصوم النهارَ ونقوم الليلَ، فصيامُ النهار أولُه طلوع الفجر، وقيامُ الليل ينتهى بطلوع الفجر. وقد يُراد بالنهار ما أولُه طلوع الشمس، كما يجيئ في الحديث: فعلَ كذا نصفَ النهار، ولما انتصفَ النهار، وقبلَ نصفِ النهار، فأراد نصف النهار الذي أوله طلوع الشمس، إذ زوالُ الشمس مُنتصَفُ هذا النهار، لا مُنتصَف النهار الذي أوله طلوع الفجر. فلهذا كان وقت الفجر فيه اشتراكٌ بين الليل والنهار، وإن كانت الفجر معدودةً من صلوات النهار، وهذا مما قيل في معنى توسُّطِها، قالوا: لأنها بين صلاتَي الليل وصلاتَيْ نهار، وهو معنًى مناسبٌ، لكن العصر أحقُّ بالتوسُّط كما دلَّ عليه الأحاديث، وكما قال من قال من

_ (1) سورة هود: 114.

السلف لمن سأله عن ذلك وقيل له، فأومأ بأصابعه، فأشار بالخِنْصر وقال: هذه الفجر، وأشار إلى البنْصِر وقال: َ هذه الظهر، وأشار بالوسطى إلى العصر وقال: هذه العَصر، وأشار إلى المغرب وقال: هذه السبَّاحة، ولأنها وتْرٌ، والسبَّاحة تُشِير بالتوحيد، وأشار إلى الإبهام وقال: هذه العشاء. وهذا صحيح، فإن أوَّل الصلوات هي الفجر، وهي ركعتان، لتنتقلَ النفسُ منها على التدريج إلى ما هو أكثر منها، ولهذا قدَّمَها في الترتيب بعض المصنِّفين، وذلك أحسنُ ممن قدَّم الظهر، فإن الذين قدَّموا الظهرَ اتَّبعُوا ما فعلَه جبريلُ والنبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينَ أمَّه وأقامَ له مواقيتَ الصلوات. والذين قدَّموا الفجرَ تَبِعُوا فيها الأحاديث الثابتة الصحيحة، مثل حديث بُرَيدة (1) وأبي موسى (2) وحديث ابن عمرو (3) وأبي هريرة (4) -إن ثبتَ-، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ فيها بالفجر في قوله وفعلِه. وأما تسمية الظهر الأولى فليس هو تسمية سنةٍ عنه عليه السلام، وإنما هو قول بعض السلف، كما في الصحيح (5) عن أبي بَرْزَة أنه قال:

_ (1) أخرجه مسلم (612) (2) أخرجه مسلم (614). (3) أخرجه مسلم (612). (4) أخرجه الترمذي (151) من طريق محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. قال الترمذي: سمعت محمدا (أي البخاري) يقول: حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصحُّ من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن الفضيل. (5) البخاري (547) ومسلم (647).

"كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلِّي الهَجيرَ التي تَدعُونها الأولى". فجعلَ دعاءَها بهذا الاسم من قول المخاطَبين، لا من قول الشارع، كما قال: "وكان يُصلِّي العشاءَ التي تَدعُونها العَتَمَة"، مع أنّ تسمية هذه الصلاة بالعَتَمة وإن وردَ النهيُ عن ذلك (1) لئلاَّ يَغْلِب عليه، فقد وردَ فيه أحاديثُ صحيحةٌ لم يَرِدْ مثلُها في تسمية الظهر بالأولى. وأما فعلُ جبريل فعنه جوابان: أحدهما: أن ذلك كان ليلةَ المعراج حينَ فُرِضت الصلواتُ الخمسُ، ولم يكن المسلمون قد علموا بهذا الفرض حتى طلعَ النهارُ، فلما طلعَ أقامَ لهم الصلوات، فكان ابتدأ حينئذ بالظهر. والثاني: أن ذلك كان متقدمًا قبل تكميل عدد الصلوات وأوصافها، وكانت الصلاة ركعتينِ ركعتينِ، ثمَّ إنّ الله بعد ذلك أكملَ عددَ الصلوات، وإنما أُخِذَ بالآخر من أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد قال: "المغربُ وِتْرُ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل"، رواه أحمد (2). ولو كانت الظهر أول الصلوات لم تكن الفجرُ داخلةً لا في وتر الليل ولا في وتر النهار. وأيضًا فمعلوم أن أول النهار طلوعُ الفجر، فصلاةُ ذلك الوقت تكون أول الصلوات، والإنسان حينئذٍ يكون كالميت. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استيقظَ يقول (3): "الحمد لله الذي أحيانَا بعدَ ما أماتَنا، وإليه

_ (1) أخرجه مسلم (644) من حديث ابن عمر. (2) في المسند (2/ 30، 32، 41، 82، 154) عن ابن عمر. (3) أخرجه البخاري (6312) عن حذيفة، ومسلم (2711) عن البراء.

النُّشُور". فكان أول الصلوات هي الفجر، وإذا كانت الفجر أولَها كانت العصر أوسطها، فالمحافظة عليهما في أول وقتهما أولَى من غيرهما، لأن وقتهما ليس بالطويل الممتدّ كالظهر والمغرب والعشاء، فلا يجوز. تأخيرهما عنه، فلهذا كان توكيد المحافظة عليهما متعيِّنًا، فإنّ المحافظة تتعلق بالوقت. والفجر لها خصائص تتميز بها عن العصر، مثل كون القراءة فيها طويلةً، كما قال تعالى: (إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1). وفي السنن (2) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تَشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار"، وفي روايةٍ: "يَشهدُه الله وملائكتُه". ومن خصائصها أنها لا تُجمَع إلى غيرِها. ومن خصائصهما أنه يجتمع فيهما ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهار، كما في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيَعْرُج الذين باتوا فيكم، فيَسألُهم -وهو أعلمُ منهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلُّون، وتركناهم وهم يُصلُّون". ومن خصائصهما تركُ الصلاةِ بعدهما، كما في حديث ابن عباس (4) وأبي سعيد (5) وغيرهما من النهي عن ذلك. والله سبحانَه أعلم.

_ (1) سورة الإسراء: 78. (2) الترمذي (3134)، وقال: حسن صحيح. (3) البخاري (555) ومسلم (632) من حديث أبي هريرة. (4) أخرجه البخاري (581). (5) أخرجه البخاري (586) ومسلم (827).

- فصل في اجتماع الصلاة والجهاد

فصل يتعلق بما قبله من اجتماع الصلاة والجهاد وذلك أنَّ الله أمرَ بالمحافظة على الصلاة، والمحافظة عليها فِعلُها في أول وقتها. والوقتُ وقتانِ: وقت يتقدَّرُ بالزمان، فلا يجوز تأخُّرُها عنه بحالٍ، والوقت الثاني يتقدَّرُ بالفعل، وذلك نوعانِ: أحدهما أنه إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا صلاةَ إلا التي أقِيمتْ، لأن الإقامة مختصَّة بها بعينها، فصار ذلك الوقتُ وقتَها المقدر لا يَسَعُ لغيرها، فلا يُفعَلُ فيه غيرُها لا تطوُّعٌ ولا غيرُه. ولهذا تنازع العلماءُ فيما إذا ذكرَ العبدُ فائتةً بعد أن أقيمت الحاضرةُ، لأنَّ كلاهما واجبٌ، وقد ضاق الوقت عنهما، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها فليُصلها إذا ذكر، فإن ذلك وقتُها، لا وقتَ لها إلا ذلك" (1). فأوجبَ فِعْلَها وقضاءَها على الفور، وهذا مما يُحتجُّ به على الترتيب في قضاء الفوائت، كما هو مذهبُ أكثرِ الفقهاء في الفوائت القليلة، ومذهبُ بعضهم في الفوائت القليلة والكثيرة. كما إذا ذكرها بعد ضِيق الوقتِ المقدَّر بالزمن، هل يُقدم الفائتةَ لتقدُّمِ وجوبها، أو يُقدمُ الحاضرةَ خوفَ فواتِها وخروجها عن وقتها فتصير فائتتين، أو يُصلي الحاضرةَ مرتين، فيفعلُها مرةً لأنه وقتها، ثمَّ يُصليها بعد أن يُصلِّيَ الفائتة لأجلِ مراعاةِ الترتيب؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. وقد رأى أبو هريرة رجلاً خرجَ من المسجد بعد النداء فقال: "أما هذا فقد عَصَى أبا

_ (1) سبق تخريجه.

- لا تؤخر الصلاة عن الوقت الموسع، والمحافظة عليها فيه واجب

القاسم" (1). لأن النداء إليها عينُ وقتِها، ولهذا نُهُوا يومَ الجمعة عن البيع بعد النداء، لأن ذلك وقتُ الصلاة المعيَّن المقدَّر. فصل وإذا كانت الصلاةُ على ما ذُكِرَ من توسيع الوقتِ تارةً وتقديرِه أخرى، فلا تُؤخَّر عن الوقتِ الموسَّع، بل المحَافظةُ عليها في الوقت أمر واجبٌ على كل حال، كما أمر به القرآنُ فقال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) (2)، وقال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) (3)، وقال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (4)، وقال: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)) (5)، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)) (6)، مستثنيًا هؤلاء ممن خلف هؤلاء، وعاد ذاكرًا لهم في "الوارثين الذين يرثون الفردوس". وكما قال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) (7)، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (8)، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ

_ (1) أخرجه مسلم (655). (2) سورة البقرة: 238. (3) سورة الماعون: 4 - 5. (4) سورة مريم: 59. (5) سورة المعارج: 23. (6) سورة المؤمنون: 9. (7) سورة الإسراء: 78. (8) سورة هود: 114.

غُرُوبِهَا) الآية (1). ومثلها في (ق) (2)، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)) (3)، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)) (4)، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)) (5). فأمر بفعل الصلوات في مواقيتها مطلقًا وعمومًا، وأمر به مفصلاً وخصوصًا في الآيات التي عينتها. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه سيكونُ عليكم أُمَرَاءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتِها، فصَلُّوا الصلاةَ لوقتِها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً" (6). وقال: "من نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها" الحديث (7). وقال: "ليس في النوم تفريطٌ، إنما التفريطُ في اليقظة، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقتُ التي تلِيها" (8). وقال: "من فاتَتْه صلاةُ العصر فقد حَبِطَ عملُه" (9)، و"من فاتتْه صلاةُ العصر فكأنما وُترَ أهله وماله" (10)، وقال: "الوقتُ ما بين

_ (1) سورة طه: 135. (2) سورة ق: 39. (3) سورة الطور: 48 - 49. (4) سورة غافر: 55. (5) سورة النساء: 103. (6) أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر. (7) سبق تخريجه. (8) أخرجه أحمد (5/ 305) وأبو داود (441) والترمذي (177) والنسائي (1/ 294) من حديث أبي قتادة. (9) سبق تخريجه. (10) سبق تخريجه.

- أكثر الأحاديث وآكدها في الصلاة والجهاد

هذين" (1)، إلى أمثال ذلك. فالجهاد واجبٌ على الفور تارةً وعلى التَّراخِي أخرى، وعلى الأعيان تارةً وعلى الكفاية أخرى، وهو سَنَامُ الدين، كما أن الصلاة عمودُ الدين، والإسلام رأسه. ولهذا كانت غايةُ أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكثرها وآكدها في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضًا قال: "اللهمَّ اشْفِ عبدَك هذا يَشْهَد صلاةً ويَنْكَأ لك عَدُوًّا" (2). وكانت السنةُ أن الإمام هو الذي يُقيم للناس الصلاةَ ويُجاهِدُ بهم العدوَّ، فأمير الحرِب والصلاة واحدٌ، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)) (3)، فاخبر أنه أنزل الكتابَ والميزان والحديدَ، ولهذا كان قِوامَ الدين كتابٌ يَهدِي وعدلٌ يُعملُ به وحديدٌ ينصر، (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)) (4). والجهاد يلزم بالشروع، كما أن الكتاب يلزم بالشروع، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ القرآن ثمَّ نَسِيَه لَقِيَ الله وهو أَجْذمُ" (5)، فقد قال: "من تعلَّم الرميَ ثمَّ نَسِيَه فليس منا"، وفي رواية: "فقد عصى"، وهو

_ (1) أخرجه مسلم (614) عن أبي موسى الأشعري. (2) أخرجه أحمد (2/ 172) وأبو داود (3107) عن عبد الله بن عمرو. (3) سورة الحديد: 25. (4) سورة الفرقان: 31. (5) أخرجه أحمد (5/ 284، 285) والدارمي (3343) من حديث سعد بن عبادة.

- الجمع بين الأمر بالصلاة والأمر بالصبر (الذي هو حقيقة الجهاد)

في الصحيح (1). وإذا كانت الصلاة التي يُتلَى فيها الكتابُ يتعيَّنُ وقتُها بالفعل، فتلزم بالشروع، فكذلك الجهاد، فإذا صار المسلمون حَذْوَهم أو حاصروا حصْنَهم لم يكن لهم الانصرافُ حتى يُقضَى الجهاد، كما قال تعالى: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)) الآية (2). وقد أمر سبحانَه بالأمرين في حال القتال، فقال: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) (3)، فأمر بالثبات الذي هو مقصود الجهاد، وبذكْره الذي هو مقصود الصلاة، كما قال ابن مسعود: ما دُمْتَ تَذكرُ الله فَأنتَ في صلاة ولو كُنتَ في السوق. ولهذا يَقرنُ سبحانَه كثيرا بين الأمر بالصلاة والأمر بالصبر الذي هو حقيقة الجهَاد، كقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (4)، (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)) (5)، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) إلى قوله: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (6)، وقال: (فَأصْبرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْد رَبّكَ قبْلَ طلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (7)، وكذلك في (ق) (8) والطَورَ (9)

_ (1) مسلم (1919) عن عقبة بن عامر. (2) سورة الأنفال: 15. (3) سورة الأنفال: 45. (4) سورة البقرة: 45. (5) سورة البقرة: 153. (6) سورة هود: 114، 115. (7) سورة طه: 135. (8) آية: 39. (9) آية: 48.

- إذا اجتمع الواجبان في وقت واحد كيف يفعل؟

وغافر (1)، وقوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)) إلى قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)) (2)، وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) (3). فأمر سبحانه بهذا وبهذا، وكلاهما وإن كان ينقسم بحسب فعلِه ووقتِه إلى مُوَسَّعٍ ومقدَّرٍ، وبحسب فعلِه إلى معيَّنٍ ومخيَّرٍ، وبحسب فاعلِه إلى واجب على الأعيان وواجبٍ على الكفاية، فهما مشتركان في أنَّ ما كان كذلكَ يلزم بالشروع فيه إتمامه، فما كان وقتُه موسَّعًا يتعيَّن بالدخول فيه، وما كان واجبًا على الكفاية يتعيَّنُ على من باشرَه. والمقصود ههنا أنه قد يجتمع الواجبان في وقتٍ واحدٍ، وله صورتان: إحداهما: أن لا يكون مباشرًا للجهاد، بل مصابرًا للعدوّ، فهذا يُصلِّي صلاة الخوف إذ كان ... (4) له، كما صلاَّها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرَ مرة على وجوهٍ خلاف الوجوه المعتادة في الأمن، فيَسُوغ فيها استدبارُ القبلةِ، والعملُ الكثير في نفس الصلاة، ومفارقةُ الإمام قبلَ السلام، واقتداء المفترض فيها بالمتنفل، والتخلُّف عن متابعة الإمام حتى يُصلِّي ركعة. وهذه الأمور فيها ما لا يُفعَل إلا لعذر بالاتفاق، وفيها ما

_ (1) آية: 55. (2) سورة المزمل: 8 - 10. (3) سورة الإنسان: 23 - 26. (4) هنا في الأصل كلمة رسمها: "مزاييا".

- المؤمن له ثلاثة أعداء: شياطين الإنس والجن والدواب، ووردت السنة بجهاد الثلاثة في الصلاة

لا يُسوغ فعلَه أكثرُ العلماء. والثاني: أن يكون محتاجًا إلى مباشرة القتال في حال الصلاة، وهو الذي قصدناه بهذا الفصل، فهذه تُسمى صلاة المسايَفَة، لأن المسايفة هي أحوال المقاتلين، وإلاّ فالمطاعنةُ والمداناة والمضاربة بالمثقَّلات من الحجارة والدبابيس ونحو ذلك، سواء كان القتال بمحدد أو مثقلِ أو ما يجمعهما، فيه ثلاثة أقوال: أحدها -وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب الشافعي- أنه يأتي بالواجبَيْنِ جميعَا، وأن تأخير الصلاة منسوخٌ بآية المحافظة. والثاني -وهو الرواية الأخرى عن أحمد- أنه يُخيَّر بينَ تقديم الصلاة وتأخيرِها، لحديث بني قريظة. والثالث -وهو قول طائفة- أنه يؤخّر الصلاةَ على ظاهر الأمر، وهذا قول جماعة من أهل الرأي وأهل الظاهر. فصل والمؤمن له ثلاثة أعداء: شياطينُ الإنس والجنّ والدوابّ، وقد وردتِ السنةُ بجهاد الثلاثة في الصلاة، فيجمع بين مناجاة ربه وبينَ دَفْع عدوه من جميع الحيوان. أما قتال الإنس فقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ

فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) (1). وفي حديث ابن عمر: فإن كان خوفا شديدا صلّوا (2).

_ (1) سورة البقرة: 238 - 239. (2) انتهى ما في الأصل.

(12) فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين

فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين

- الأمر بالصلاة في مواقيتها

فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين أصل ذلك أن الله أمر بالصلاة في مواقيتها، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، وجعل الصلوات خمس صلوات كما فرضها سبحانه على المؤمنين ليلة المعراج، وجعلها خمسًا في العمل وخمسين في الأجر. وقد ثبت في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فُرِضت أول ما فُرضت ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقِرَّتْ صلاة السفر. وروي فيه في الصحيح (2) أن صلاة الحضر جعلت أربعًا لما هاجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة إلى المدينة. وفي السنن (3) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة النحر ركعتان، تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم. ولهذا كان أصح قولي العلماء أن الفرض على المسافر ركعتان، وأن صلاته ركعتين لا يحتاج إلى النية، بل لو نوى أربعًا كان السنة في حقه أن يصلي ركعتين. وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد على مقتضى نصوصِه، وهو قول أكثر قدماءِ أصحابه كأبي بكر عبد العزيز وغيره. وقال طائفةٌ منهم كالخرقي والقاضي أبي يعلى وغيرهما: إنه يفتقر إلى النية، موافقةً للشافعي، إذ كان أصله أن

_ (1) البخاري (350، 1090) ومسلم (685). (2) البخاري (3935) ومسلم (685/ 2). (3) أخرجه النسائي (3/ 111، 118، 183) وابن ماجه (1063، 1064) وأحمد (1/ 37).

- ليس القصر كالجمع

فرض السفر أربع، وإنما تصير ثنتين بالنية، وهؤلاء [لا] يكرهون الأربع، بل للشافعي قول: إن الأربع أفضلُ، وحُكِيَ عنه قول إنه لا يجوز القصرُ إلا مع الخوف كقول بعض الخوارج. لكن الأظهر أن هذا كذب على الشافعي، فإن الشافعي أجل قدرًا من أن يقول مثل هذا. وظاهر مذهبه أن القصر أفضل، وهو مذهب أحمد بلا خلافٍ عنه، بل قد نصَّ أحمد على أن الأربع مكروهة، كما نقلَ ذلك عنه الأثرمُ، وتوقفَ أيضًا في بعض أجوبته هل تُجزِئُه الأربعُ. وما توقفَ فيه من المسائل يُخرجُه أصحابُه على وجهين أيضًا. ومذهبُه في هذا كمذهب مالك، قيل: إن الإتمامَ لا يجوز، وقيل: يُكره، وقيل: هو تركُ الأولى. وبالجملة فعامةُ العلماء على أنه ليس القصر كالجمع، كما تواترتْ بذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد تواترتِ السنةُ على أنه إنما كان يُصلي في السفر ركعتين في جميع أسفارِه، وما روى عنه أحدٌ من علماء الحديث أنه صلى في السفرِ أربعًا قَطُّ. والحديث الذي يُروى عن عائشة (1) أنه كان يصوم ويُفطِر ويَقْصُر ويتِمُّ ضعيف، ولفظُه أنها قالت: قلتُ له: أفطرتُ وصمتُ وقَصَرتُ وأتممتُ، فقال: "أحسنتِ يا عائشةُ". فأخبرتْهُ أنها هي التي أتمَّتْ وصامتْ، مع أن هذا ضعيفٌ بل كذبٌ على عائشة، كما ذُكِرَ في موضعِه. بل من تتبَّعَ سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أنه من روى عنه أنه صلَّى أربعًا في السفر فقد كذبَ عليه. ولمَّا حجَّ كان يُصلّي بمكةَ وبمنى ركعتينِ،

_ (1) أخرجه النسائي (3/ 122)

- أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة ومزدلفة

ولمَّا فتحَ مكةَ كان يُصلّي ركعتين، وأقام بها تسعةَ عشرَ يومًا يُصلّي بها ركعتين، وقال لأهل مكة: يا أهل مكةَ أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سَفرٌ (1). وأما في حجة الوداع فكان يُصلّي بعرفةَ ومزدلفةَ ومِنى ركعتين، ويُصلِّي وراءَه الحجَّاج من أهلِ مكة وغيرِهم، ولم يقل لهم: أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سفرٌ، ولا روى ذلك أحدٌ من أهل الحديث، ولكن ذكرَ ذلك بعضُ المصنِّفين في الرَّأي، واشتبَه عليه قولُه لهم بمكة في غزوة الفتح، فظنَّ أنه قال في سفرِه بهم إلى عرفةَ ومزدلفة ومنى. وكذلك ذكر بعضُهم أن عمر بن الخطّاب قال ذلك بمنى في حجه، وهذا خطأٌ رواه بعض العراقيين، والصواب الثابت الذي رواه مالك وغيرُه أن عمر إنما قال ذلك بمكة (2). ولهذا كان أصحّ أقوال العلماء أن أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ، كما هو مذهب أكثر فقهاء مكة والمدينة، وهو مذهب مالكٍ وغيرِه وقولُ طائفةٍ من أصحابِ أحمد كأبي الخطاب في "العبادات الخمس". وقيل: يجمعون ولا يَقصُرون، كقولِ أبي حنيفة، وهو المنقول عن أحمد، وقد أجاب بأنهم لا يقصرون، ولم يَنْهَهم عن الجمع. ولهذا جَزَمَ أبو محمد وغيره من أصحابِ أحمد أنهم يجمعون، وخَطَّأَ

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 432) وأبو داود (1229) من حديث عمران بن حصين. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه غير واحدٍ من الأئمة. (2) الموطأ (1/ 149).

- سبب الجمع والقصر لهم

من قال: لا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي. والقول الثالث: إنهم لا يَقصرون ولا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي وبعض أصحابِ أحمد. وهو أضعف الأقوال المخالِفة للسنة المعلومة من وجهين. والذين قالوا: يَقصُرون، منهم من قال ذلك لأجل النسك، كما قال مالك وبعض أصحاب أحمد. ومنهم من قال ذلك لأجل السفر، كما قال ذلك كثيرٌ من السلف والخلف، وهو قول بعض أصحابِ أحمد، وهو أصحُّ الأقوال. وكذلك جَمْعُهم، فإنّ من العلماء من قال: جمعُهم لأجلِ النسك، كما يقولُه أبو حنيفة وغيرُه فلم يُجوز الجمع إلا بعرفةَ ومزدلفة خاصةً. والجمهور قالوا: بل الجمعُ كان لغير النسك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء منهم من قال: الجمعُ كان لأجل السفر، ومن قال: الجمعُ يجوز لأهل مكة، [ومن] قال: يجوز الجمعُ في السفر الطويل والقصير، ومن قال: لا يجوز الجمعُ إلا في الطويل. وهما وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد. والصواب أن كلَّ واحدٍ من القصر والجمع لم يكن لأجل النسك، بل كان القصرُ لأجل السفر فقط، وأما الجمعُ فلأجل الحاجة أو المصلحة الشرعية، وذلك أن القصر يدور مع السفر وجودًا وعدمًا، والقصر معلقٌ به بالنصّ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله وضعَ عن المسافر الصومَ وشطْرَ الصلاة". وهو حديث حسن ثابتٌ من رواية أنس بن

- المسائل التي ظن بعض الناس أن السنة خالفت فيها ظاهر الكتاب، وليس الأمر كذلك

مالك الكعبي (1)، وكذلك أخبر عنه أصحابه، كقول عمر بن الخطاب: "صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان تمامٌ غير قصر على لسانِ نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (2). وكذلك قال ابن عمر: "صلاة السفر ركعتان، من خالفَ السنةَ كفر" رواه مسلم وغيره (3). ومعناه: من اعتقد أن الركعتين لا تُجزِئ فقد كفرَ، لأنه خالفَ السنة المعلومة، كما لو قال: إنّ الفجر لا تُجزئ فيه ركعتانِ، وإن الجمعة والعيد لا تُجزِئ فيه ركعتان. وهذا يُحكى عن بعض الخوارج الذين زعموا أنهم يتبعون ظاهرَ القرآن وإن خالفَتْه السنةُ المتواترة. وهؤلاء ضالُون في فهمهم للقرآن وضالُّون في مخالفة السنة. وقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (4) لم يذكر فيها أنه قصر للعدد، والصحابة عمر وغيره جعلوا صلاةَ المسافر ركعتين تمامًا غيرَ قصرٍ. وهذا قاله عمر بعد سؤالِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ثبتَ في الصحيح (5) عن يعلى بن أمية سأل عمرَ عن هذه الآية (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه". فكأنّ المتعجب ظنَّ أن القصر

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 347، 5/ 29) وأبو داود (2408) والترمذي (715) وابن ماجه (1667، 3299) والنسائي (4/ 190). (2) سبق تخريجه. (3) أخرجه بهذا اللفظ عبد بن حميد في مسنده (829) ولم يخرج في صحيح مسلم. (4) سورة النساء: 151. (5) مسلم (686).

قصر العدد [و] أنه معلَّقٌ بالسفر مع الخوف، كما ظنَّ بعضهم أن الجُنُب لا يتيمَّمُ، وظنَّ عمّارٌ أنه يتيمَّم عن الجنابة بالتمرُّغ في التراب كما تتمرَّغُ الدابة، وظنَّ عمارٌ وغيره من الصحابة أن التيمُّم يمسح فيه اليدين إلى الآباط، فلما سألوا النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّن لهم أنه يُجزِئ المسحُ إلى الكُوعَيْنِ وأن الجنب يتيمَّم كذلك (1)، وكان ما ذكرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موافقًا لما دلَّ عليه القرآن، لا يخالفُه لا لباطنِه ولا لظاهرِه، ولكن كلّ أحدٍ منهم يفهم ما دلَّ عليه القرآن، فقد يظهر له معنًى يظنُّ أن ظاهر القرآن دلَّ عليه، ويكون من نَقْصِ فهمِه لا من نقصِ دلالةِ القرآن. كمن ظنَّ أن قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (2) يَمنَع الفسخَ الذي أمر [به] النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابَه، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطوعُ الخلق لربِّه وأتبعُهم لهذه الآية، فكيف يأمرهم بأن لا يتمُّوا الحج والعمرة لله؟ والذي لا يتم هو الذي يَحِلُّ بعمرةٍ لا يتمتع بها أو بلا عمرةٍ، وهذا لا يجوز بالإجماع. وأما من أحلَّ بعمرةٍ وتَمتَعَّ بها فعمرتُه جزءٌ من الحج، وهو ...... (3) بصوم الأيام الثلاثة التي قيل فيها: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) (4)، وعمرتُه قد دخلتْ في حجته، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دخلَتِ العمرةُ في الحج إلى يوم القيامة" (5)، كما دخلَ الوضوء في الغسلِ غُسلِ الجنابة وغُسل

_ (1) أخرجه البخاري (338) ومسلم (368). (2) سورة البقرة: 196. (3) هنا كلمات غير واضحة في الأصل. (4) سورة البقرة: 196. (5) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (1/ 236، 253، 259، 341) من حديث ابن عباس، وأخرجه أيضًا مسلم (1241).

الميت، وتحلُّلُه في أثناء الإحرام تحلُّلُ مَن يَقصِدُ أنه يَحِلُّ ثمَّ يُحرِمُ بالحج بعد ذلك، لا يجوز له التحلُّلُ بدونِ ذلك، فدخلَ الحِلَّ رحمةً من الله. والحاجُّ يتحلَّلُ التحلُّلَ الأول وقد بقيَ عليه الطواف والرمي، وإن فعلَ ذلك بلا إحرام فهو من الحج، لكن من تحلل [بعمرة] لم يبقَ عليه بعضُ الحج، بل المتمتع يتحلل أولاً حلاًّ تامًّا، ثم عليه أن يُحرِم بعد ذلك التحلل الثاني بعد رمي جمرة العقبة، ثم عليه الطوافُ والرميُ وهما من الحج. وكذلك من ظَنَّ أن ظاهر القرآن يُخالِفُه قوله للمبتوتة: "لا نفقةَ لكِ ولا سُكنى" (1)، والقرآن لا يدلُّ على إيجاب نفقة وسُكنى للمبتوتَةِ أصلاً، وإنما المطلَّقة المذكورة في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ) (2) هي الرجعية كما يدلُّ عليه سياقُ الكلام، والإنفاقُ على ذواتِ الحمل إنما كان لأجل الحمل. ولهذا كان أصحّ قولَي العلماء أن النفقةَ للحمل نفقةُ والدٍ على ولدِه، لا نفقةُ زوج على زوجته، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه التي اختارها أصحابُه، وهو أحدُ قولَي الشافعي. ومن أوجبه للزوجات فإنه لم يخص به الحامل، كما قال من يوجب النفقةَ للمبتوتة، لم يكن للحمل عنده تأثير. ومن قال: نفقة زوج لأجل الحمل فقوله متناقضٌ غير معقول، والقرآنُ علَّق النفقةَ بالحمل والإرضاع، والمعلَّق بالإرضاع نفقةُ والد على ولدِه باتفاق المسلمين، فكذلك نفقة الحمل، ومن علَّقَها بالزوجيةِ فهو مخالفٌ

_ (1) أخرجه مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس. (2) سورة الطلاق: 1.

للكتاب والسنة. ونظائرُ هذا كثيرة مما يظنه بعض الناس أن السنة خالفَتْ فيه ظاهرَ الكتاب، ولا يكون الأمر كما قاله، بل تكون السنة موافقةً لظاهرِ القرآن. والمقصود هنا ذِكرُ الجمع وذِكر القصر تبعًا. فقوله تعالى: (أَنْ تَقْصُرُوا) (1) مطلقٌ مجملٌ قد يُراد به قَصْر العمل والأركان، وذلك لا يجوز إلا في الخوف، فإن المسافر ليس له لأجلِ سفرِه أن يقصر عملَ الصلاة كما يَقصره الخائف، وأما الخائف فيجوز له القصرُ كما قال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) إلى قوله تعالى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (2). فالصلاة مع الأمن صلاة مُقَامَةٌ إقامةً مطلقةً وهي التامَّة، ومع الخوف مقصور، وإذا ضربوا في الأرض وكانوا خائفين قَصَروا لأجل الخوف مع صلاةِ ركعتين، فإن كانت الركعتان لا تسمَّى في السفر قصرًا، فإنه بين حال الخوف في السفر، كما بيّن التيمم عند عدم الماء في السفر، لأن ذلك هو الذي يحتاج إلى بيانه في العادة العامة، فأما عدمُ الماء في الحضر فنادر، واحتياج المقاتل لصلاة الخوف نادر. ودلَّ القرآن على أن مجرَّد الضرب في الأرض ليس نسخًا للقصر المذكور في القرآن، وليس في القرآن أنه لا قصرَ إلا قصر المسافر، بل قصر الخائف قصرٌ، وصلاتُه ناقصة بالكتاب والسنة والإجماع. وأما

_ (1) سورة النساء: 151. (2) سورة النساء: 102. 103.

المسافر ففي تسمية صلاته قصرًا نزاع وتفصيل، ومن لم يُفرَض عليه إلا ركعتان مع قدريه على الأربع وتيسُّرِ ذلك عليه لم يكن قد نقصَ مما أُمِرَ به شيئًا، كمن صلَّى الفجر والعيد ركعتين والجمعة ركعتين، بخلاف الخائف والمريض ونحوهما، فإنه إنما أبيح لهما نقصُ الصلاةِ لأجل العجز عن إكمالِها، والمسافر يُباح له ذلك مع القدرة، كما أبيح له الفطرُ، واستُحِب له أو وجبَ عليه ذلك عند طائفة. وإن كان المسافر إنما وُضِعَ عنه الصومُ وشَطْرُ الصلاة لكون السفرِ مَظِنَّة الحاجة إلى التخفيف فهذا حكمٌ عامٌّ لكل مسافرٍ معلَّقٌ بجنس السفر، إما لكون السفرِ قطعةً من العذاب فتكون الحكمةُ عامةً، أو لكونه مظنَّةً كما يظنُّه بعض الناس، وإن تخلَّفتِ الحكمةُ في آحاد الصُّوَر. وهذا بمنزلة المسافر ليس عليه جمعة، وأن عرفة ومنى لا جمعةَ فيهما، وأن المسافر يمسح على الخفَّين ثلاثةَ أيام ولياليهنّ والمقيم يمسح يومًا وليلةً، ونحو ذلك من الأحكام التي فرَّق الله فيها بين حكم المقيم والمسافر. وإذا كان قَصْرُ العدد أمرًا معلَّقًا بالسفرِ يثبت به ولا يثبت بدونه كان السفر هو المؤثِّر في قصر العدد، فأما النسك فلا تأثير له في قصر العدد، بل كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْصُر قبلَ أن يُحرِم بالحج هو وأصحابه، ولم يزل يَقصُر إلى أن رجعَ إلى المدينة، فقَصَرَ قبلَ إحرامِه وبعدَ تحلُّلِه، وقَصَرَ معه أهلُ مكة، كما قَصَرَ معه سائرُ من حَجَّ معه. فعُلِمَ أن ذلك كان لأجل سفرِهم من مكة إلى عرفةَ، لا لكونهم حُجَّاجًا. ولهذا لو أحرموا بالحج وهم مقيمون بمكة لم يجز لهم القصرُ عند أحدٍ من العلماء، فعُلِمَ أن ذلك لم يكن لأجل النسك. فمن جعلَ قَصْرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفةَ ومزدلفةَ ومنى إنما كان لأجل النسك لا السفر فقد علَّق الحكمَ

- الجمع بين الصلاتين لم يعلق بمجرد السفر

بوصفٍ عديمِ التأثير فيه، ولم يُعلقه بالوصف المؤثِّر فيه بالنصّ والإجماع. ولهذا نظائرُ يَغْلَطُ فيها من يُعلِّق الحكم بالوصف الذي لم يؤثِّر فيه، دون الوصف المؤثِّر فيه، كمن علَّق على استئذان الصغيرة في النكاح بالبكارة دون الصِّغَر، وهذا خلاف النصوص والأصول، فإنها إنما علَّقتْ ذلك بالصغر، فأما البكارة فإنما عُلِّقتْ بها صفة الاستئذان فقط، وهو كونُ سكوتها إقرارَها. وكذلك من علَّق بعض الأحكام في الطلاق والخلع والكناية أو غير ذلك بكونه تعليقًا بشرط، وفرَّق بين أن يكون العقد بصيغة تعليق أو بغير صيغة تعليق. وهذا رَبْطُ الحكم بوصفٍ عديمِ التأثير في الكتاب والسنة، وإنما رَبَطَ الله الأحكامَ بمعاني الأسماء المذكورة في النص، مثل كونها طلاقًا وخلعًا وكنايةَ ويمينًا وغير ذلك، فما كان من هذا النوع علَّق حكم ذلك به، سواء كان بصيغة الشرط، وإن لم يكن من هذا النوع لم يدخل فيه بأيّ صيغةٍ كان. فصل وأما الجمع بين الصلاتين فلم يُعلَّق بمجرَّد السفر في شيء من النصوص، بل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وكان بمنى يقصر ولا يجمع، وكذلك في سائر سفر حجته، ولا يجمع لمجرد النسك، فإن الناسك هو في النسك، وإنما جَمَع بعرفةَ لما كان مشتغلا بالوقوف، وجمعَ بجَمْع لما كان جادًّا في السير من عرفةَ إلى مزدلفة. وهكذا ثبت عنه في الصحاح (1) من حديث ابن عمر أنه كان إذا

_ (1) البخاري (1091 ومواضع أخرى) ومسلم (703).

- الجمع في المطربين المغرب والعشاء

جدَّ به السيرُ أخَّرَ الظهر إلى وقت العصر، ثم نزلَ يجمع بينهما، وكذلك إذا جدَّ به السَّيرُ جمعَ بين المغرب والعشاء، وكذلك يجمع في سفرِه إذا جدَّ به السير، كما فعلَ بمزدلفة. وكذلك ثبت في الصحيح (1) من حديث أنس عنه أنه كان إذا ارتحل قبلَ أن تَزِيغَ الشمسُ أخَّرَ الظهرَ إلى وقت العصر، ثمَّ نزلَ فصلاَّهما جميعًا. وثبتَ في الصحيح (2) عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلَّى بالمدينة سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا، أراد بذلك أن لا يُحرِج أمته. وثبت في الصحيح (3) من حديث معاذ أنه جمعَ في غزوة تبوك جَمْعَ التأخير. وروى أبو داود (4) وغيرُه بإسنادٍ حسنٍ جَمْعَ التقديم من غير طريقٍ، فنبَّه الذي أنكر عليه، وكان هذا موافقًا لجمعِه بعرفةَ، وجمعُ التأخير أشهرُ، وقد رُوِيَ عنه أنه كان يجمعُ بالمدينة بالمطر، كما استدلَّ بذلك من حديث ابن عباس (5). وكان سلف أهل المدينة يجمعون في المطر بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم ابن عمر وغيره من الصحابة مُقرِّين لهم على ذلك، مع أن الأمراء كانوا إذا خالفوا السنة أنكروا ذلك عليهم، [كما أنكروا عليهم] لما أذّنوا للعيد، وأنكروا عليهم لما قدَّموا الخطبة في العيد ولمّا أخرجوا المنبر لصلاة العيد، بل وأنكر ابن عمر قنوتهم في الفجر وغير

_ (1) البخاري (1111) ومسلم (704). (2) مسلم (705). (3) مسلم (706). (4) في سننه: باب الجمع بين الصلاتين. (5) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 144) ومن طريقه مسلم (705) وأبو داود (1210) والنسائي (1/ 290). قال مالك: أرى ذلك كان في مطر.

- جمع المستحاضة بين الصلاتين بغسل

ذلك، ولم ينكروا جمعَهم للمطر، فدلَّ ذلك على أنه كان من السنن الموروثة عندهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي السنن (1) أنه قال للمستحاضة: "سآمرُكِ بأمرين أيَّهما فعلتِ أجزأ عنك من الآخر"، فخيَّرها بين أن تصلِّي كلَّ صلاةٍ في وقتها بوضوءٍ، وبين أن تؤخِّر الظهرَ وتعجِّلَ العصرَ وتجمع بينهما بغُسلٍ، وتُؤخِّر المغربَ وتعجِّل العشاءَ وتجمعَ بينهما بغُسلٍ، قال: "وهذا أحبُّ الأمرين إليَّ". فاختارَ الجمعَ بين الصلاتين بغُسلٍ على التفريق بالوضوء، وكان هذا مما يُستدلُّ به على أن الجمع مع إكمال الصلاةِ أولَى من التفريقِ مع نقصِها، فإنه لا سببَ هنا للجمع إلا الاغتسال الذي هو أكملُ للمستحاضة من الوضوء، مع أن الاغتسال ليس بواجب عليها، والغسلُ مع تيقُّن الحيض واجب، وأما في هذه الصورة فيُستحبُّ احتياطًا، لإمكان أن يكون دمُ الحيض قد انقطعَ حينئذٍ، ولهذا يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة. وهذا بمنزلة الشاكّ هل أحدثَ أم لا؟ بعد تيقُّن الطهارة، فإن الوضوء أفضل له، وإن استصحبَ الحالَ أجزأهُ عند الجمهور، وهو الصواب، كما أجزأ المستحاضةَ أن تصلِّيَ إذا اغتسلتْ، وإن جاز أن يكون الدمُ الخارجُ بعد ذلك دمَ حيض. ومعلوم أن كلَّ ما أمر الله به في الصلاة وإنما رخص في تركه للعذر

_ (1) أخرجه أبو داود (287) والترمذي (128) وابن ماجه (627) وأحمد (6/ 439) من حديث حمنة بنت جحش. وقال الترمذي: حسن صحيح.

- غلط من قال: يجوز للصحيح أن يتطوع مضطجعا

فالصلاةُ معه أكملُ، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد". وهذا قيل: إنه المتطوع غير المعذور، وجوز من قال: إن الصحيح يتطوع مضطجعًا، وهو قولٌ لبعض أصحاب الشافعي وأحمد، وهو غلط مخالفٌ لما عليه سلفُ الأمة وأئمتُها وما عليه عملُ المسلمين دائمًا أن أحدًا لا يتطوع مضطجعًا مع قدرتِه على القيام والقعود. وهذا الحديث إنما كان في المعذور، وكذلك جاء مصرَّحًا به أنه خرجَ عليهم وهم يصلُّون قعودًا بسببِ مرضٍ عرضَ لهم، فذكر هذا القول. وأما قوله: "إذا مرِضَ العبدُ أو سافرَ فإنه يُكتَب له من العمل ما كان يَعمل وهو صحيح مقيم" فهو حديث صحيح متفقٌ عليه (2)، لكن فيه أن العبد إذا كان عادتُه أن يعملَ عملاً وتركَه لأجل السفر أو المرض كُتِبَ له عملُه لأجل نيتِه وعادتِه، ليس فيه أن كلَّ مسافرٍ أو مريضِ يُكتَب له كعمل الصحيح. ولهذا إذا مَرِضَ أو سافرَ ولم يكن عادتُه أَن يقوم الليل لم يُكتَب له قيام، وإذا لم يكن عادتُه أن يُصليَ في الجماعة لم يُكتَب له صلاة الجماعة. فإن كان عادتُه [أن] يُصلِّي قائمًا وصلَّى قاعدًا لأجل المرض كُتِبَ له مثل أجر صلاةِ القائم، كما أنه لو عجزَ عن

_ (1) مسلم (735) من حديث عبد الله عمرو، وليس فيه الجزء الأخير من الحديث. وأخرجه البخاري (1115) من حديث عمران بن حصين بمعناه. (2) أخرجه البخاري (2996) من حديث أبي موسى الأشعري. ولم أجده في صحيح مسلم. ورواه أيضًا أحمد (4/ 410، 418) وأبو داود (3091).

الصلاةِ بالكلية كُتِبَ له مثلُ ما كان يُصلّي وإن لمِ يُوجد منه صلاة. وكما يُكتَب لمن خرجَ ليُصلِّي في جماعةٍ وإذا أدركهم سلَّموا مِثلُ أجرِ من شهِدَ الجماعة وإن كان لم يُصلِّ في جماعة. وهكذا من لم يُدرِك ركعةً من الجماعة فإنه لا يكون مدرِكًا لها إلا بركعةٍ، لا في الجمعة ولا في الجماعة، في أصحّ أقوال العلماء الذي دلَّ عليه النصُّ وأقوالُ الصحابة، وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى عنه الفرقُ بين الجمعة وغيرها، كظاهرِ مذهب الشافعي، وفي مذهبه قول ثالث: إنه يكون مدركًا للجمعة بتكبيرةٍ، كقول أبي حنيفة. والذي دلَّ عليه النصُّ وآثار الصحابة والقياس هو القول الأول. ومع هذا فيُكتب له أجرُ من شهدَ إذا جاءَ بعد الفوات لأجل نيته، فإن القاصد للخير الذي لو قدَر عليه لفَعلَه وإنما يتركُه عجزًا يُكتَبُ له مثلُ أجرِ فاعلِه، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ بالمدينة رجالاً ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم"، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حَبَسَهم العذرُ" (1). وفي حديث كَبْشَة الأنماري الذي صححه الترمذي (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلمًا، فهو يتَّقي في ذلك المال ربَّه ويَصلُ فيهِ رَحِمَه، فهذا بأشرف المنازل؛ ورجل آتاه الله علمًا ولم يُؤته مالاً، فيقول: لو أنَّ لي مالاً لعَمِلتُ فيه بعَملِ فلانٍ. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهما في الأجر سواء؛ ورجل آتاه الله مالاً ولم يُؤته علمًا،

_ (1) أخرجه مسلم (1911) من حديث جابر. (2) برقم (2325). وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 231).

- الثواب الذي يكتب بالنية غير الثواب المستحق بنفس الفعل

فهو لا يتقي في ذلك المال ربَّه ولا يَصِل فيه رَحِمَه، فهذا بأخبثِ المنازل؛ ورجل لم يُؤته الله مالاً ولا علمًا، فيقول: لو أنّ لي مالاً لعمِلتُ مثل عملِ فلان. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فوِزْرُهما سواءٌ". فالثوابُ الذي يُكتَب بالنية غير الثواب المستحق بنفس العمل، فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاةُ القاعد على النصف من صلاةِ القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد" كلامٌ مطلقٌ، وقد عُلِمَ بأدلَّةٍ أخرى أن هذا لا يجوز في الفرض إلا مع العذر، كما قال لعمران بن حُصَين: "صَل قائِمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب" (1). وعُلِمَ أن تطوُّع الجالس يجوز مع القدرة بدليل آخر، كما عُلِمَ أن صلاة النافلة في السفر تجوز على الراحلة، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلِّي التطوع على راحلتِه قِبَلَ أيِّ وجهٍ توجَّهتْ، غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة، وكان يوترُ عليها. ونظير هذا قوله: "صلاة الجماعة تَفْضُل على صلاة الرجل وحدَه بخمسٍ وعشرين درجة" (2)، فإنّ هذا مطلقٌ، لم يدلَّ على صلاة الرجل وحده، [كما] يعلم بدليل آخر، فإذا دلَّ دليلٌ آخر على أن المنفرد لا يُجزِئُه صلاتُه إلا مع العذر، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن سَمِعَ النداءَ ثمَّ لم يُجِبْ بغير عذرٍ فلا صلاةَ له" (3)، ولأن الجماعة إذا كانت واجبةً، فمن تَركَ

_ (1) أخرجه البخاري (1117) عن عمران. (2) أخرجه البخاري (477، 647) ومسلم (649) من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (646) من حديث أبي سعيد الخدري. (3) أخرجه ابن ماجه (793) من حديث ابن عباس.

- الجمع بين الصلاتين بعرفة

الواجبَ لم تَبْرَأْ ذِمَّتُه إلا بأدائه، كما يقول كثيرٌ من السلف والخلف من أصحاب أحمد وغيرهم= لم يكن في ذلك تناقض بين أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل ذلك لمن فَهِمَه يَدُلُّه على أن ذلك كلّه جاءَ من عند الله، ولو كان من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا. وكذلك الصلاة بالوضوء والغسل أكملُ من الصلاة بالتيمم، والصلاةُ في الأماكن التي لم يُنه عنها أكمل من الصلاة في مواضع النهي، كالحمام والمقبرة وأَعْطَانِ الإبل. والصلاة في الجماعة أكملُ من صلاة الرجل وحدَه، وفَضْلُ الفاضِل هنا على المفضول أبلغُ من فضلِ صلاة المستحاضة بغسل على صلاتها بغير غُسلٍ، لأن الكمال هنا لاحتمال وجوب الغسل لا للعجز عنه، ولما شكّ في وجوبه جاز تركُه مع القدرة، وما لا يجوز تركُه مع القدرة أولَى مما يجوز تركُه مع القدرة، والمستحبُّ المحضُ دُونَ ذلك. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمعَ بين الصلاتين بعرفةَ في وقت الأولى، وهذا الجمع ثابتٌ بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين عليه، ومعلومٌ أنه قد كان يُمكِنُه أن يتركَ العصرَ فيُصلِّيها في وقتها المختصّ، لكن عَدَلَ عن ذلك إلى أن قدَّمَها مع الظهر لمصلحة تكميلِ الوقوف، لِعلمِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنّ اتّصال الوقوف إلى المغرب بغيرِ قَطْع له بصلاةِ العصر في أثنائِه أحبُّ إلى الله من أن يُصلِّي العصرَ في وقتها الخاصّ، ولو أخَّرَ مؤخِّر العصرَ وصلاَّها في الوقت الخاصّ وقَطَعَ الوقوفَ لأجزأه ذلك فيما ذكره العلماءُ من غيرِ نزاع أعلمه، ولكن تَركَ ما هو أحبُّ إلى الله ورسولهِ، فإنه لو قَطَعَ الدعاءَ والذكرَ لبعض أعمالِه المباحة ووَقَفَ إلى المغرب

- مذاهب العلماء في الجمع بين الصلاتين

لم يَبْطُل بذلك حَجُّه، فأنْ لا يَبْطُلَ بتركِ ذلك لصلاة العصر أولَى وأحرى. ودَلَّتْ هذه السنة الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الجمع يكون للحاجة والمصلحة الشرعية، فلما لم يكن لمجرد السفر فلم يكن لمجرد النسك. وقد أخذَ جمهورُ العلماء بالسنن الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجمع، وأحمد أعظمُهم أخذًا بما وردَ كلّه، فإنه يُجوِّز الجمعَ للمسافر في وقت الثانية، كما ثبتَ في الصحيح. وأما الجمع للنازلِ في وقت الأولى كما رُوِي في السنن ففيه عنه روايتانِ: إحداهما الجواز كقول الشافعي، والثانية المنعُ كقولِ مالك. وهل المباحُ للسفر مختصٌّ للطويل؟ فيه وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد، ومذهبُ مالك أنه لا يختصُّ بالطويل، وهو الصحيح الذي تدلُّ عليه الأدلةُ الشرعية. "وثلاثتُهم يُجوِّزون الجمع بين المغرب والعشاء، وأمّا صلاتا الظهر والعصر ففيهما نزاعٌ بينهم، وعن أحمد فيها روايتان. ومالك وأحمد يُجوِّزانِ الجمعَ للمريض، وهو قولُ طائفة من أصحاب الشافعي. وجوَّز أحمد الجمعَ للمستحاضة، كما في الحديث الذي في السنن سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه ورواه أحمد من حديث حَمْنَة بنت جَحْشٍ (1)، قالت: كنتُ أُستحاضُ حيضةً شديدةً، فأتيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أستَفْتِيه، فقلتُ: إني أُستحاض حيضةً كثيرةً فما تأمرني فيها؟ فقد مَنَعَتْني الصيامَ والصلاةَ، قال: أَنْعَتُ لكِ الكرسُفَ، قالت:

_ (1) أبو داود (287) وابن ماجه (627) والترمذي (128) ومسند أحمد (6/ 439).

- وقت الصلاة وقتان: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحاجة والعذر

هو أكثرُ، قال: فاتخذِي ثوبًا، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثجُّ ثَجًّا، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سَآمُرُكِ بأمرين أيَّهما صنعتِ أجزأَ عنكِ، فإن قَوِيْتِ عليهما فأنت أعلمُ"، فقال: "إنما هي ركضةٌ من الشيطان، فتَحيضِي ستةَ أيام أو سبعةَ أيامٍ في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيتِ أنكِ قد طَهُرتِ واستنقَأتِ فصلّي أربعًا وعشرين ليلةً أو ثلاثًا وعشرين ليلةً وأيامَها، وصُومي وصَلِّي، فإن ذلك يُجزِئكِ، وكذلك فاغتسلي كما تحيض النساءُ وكما يَطهُرن لميقاتِ حيضِهنَّ وطهرِهنَّ، فإن قَوِيتِ على أن تُؤَخِّرين الظهر وتُعجلين العصرَ ثمَّ تغتسلي حتى تَطْهُرِين، فتُصلين الظهر والعصر جميعًا، ثمَّ تُؤخِّرينَ المغربَ وتُعجلينَ العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين بغُسْلٍ، وتغتسلين مع الصبح وتُصلين، فكذلك فافعلي وصُومِي إن قَدرتِ على ذلك، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وهو أعجبُ الأمرينِ إليَّ". وعن عائشة رضي الله عنها أن سَهْلة بنت سُهَيل استُحِيْضَتْ، فأتتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرَها أن تَغتسلَ عند كل صلاةٍ، فلما جَهَدَها ذلك أمرَها أن تجمعَ بين الظهر والعصرِ بغُسلٍ، والمغرب والعشاء بغُسلٍ، وأن تغتسل للصبح. رواه أحمد والنسائي وأبو داود (1)، وهذا لفظه. وأصلُ هذا الباب أن تعلمَ أن وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر. فالوقت في حال الرفاهية خمسةُ أوقاتٍ، كما ثبتَ في صحيح مسلم (2) عن عبد الله بن عمرو عن النبي

_ (1) أحمد (6/ 119، 139) والنسائي (1/ 184) وأبو داود (295). (2) برقم (612).

- اختلاف العلماء في أوقات بعض الصلوات

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "وقتُ الظهر ما لم يَصِرْ ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَه، ووقتُ العصرِ ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ، ووقتُ المغرب ما لم يَغِبْ نُورُ الشَّفَقِ، ووقتُ العشاءِ إلى نصفِ الليل، ووقتُ الفجر ما لم تَطلُع الشمسُ". وقد رُوِيَ هذا الحديث من حديث أبي هريرةَ في السنن (1)، ولم يُروَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثٌ في المواقيت من قوله إلا هذا، وسائرُ ما رُوِيَ فِعْل منه، والأحاديثُ الصحيحةُ المتأخرة من فعلِه تُوافقُ هذا الحديث. ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أصحُّهما. والنزاعُ بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأوّلِ وقتِ العصر وآخرِه، وآخرِ وقتِ المغرب، وآخرِ وقتِ العشاء، وآخرِ وقتِ الفجر. فالجماهيرُ من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقتُ الظهر عندهم من الزوالِ إلى أن يصيرَ ظِلُّ كلِّ شيء مثله سوى الفيْء الذي زالت عليه الشمسُ. وهذا مذهب مالك والشافعي وأَحمد وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: إلى أن يَصِيرَ ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَيْه. ثم يدخلُ وقتُ العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما يدخلُ إذا صارَ ظِل كل شيء مثلَيْه. ونُقِلَ عنه أنَّ ما بين المثلِ إلى المثلَيْن ليس وقتًا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور هل هذا آخرُ هذا أَو بينهما قَدْرُ أربع ركعاتِ مشترك؟ فيه نزاعٌ، فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك. وإذا صار ظلُّ كلّ شيء مثلَيْه خرجَ وقتُ العصر في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلافٍ في

_ (1) الترمذي (151).

- أوقات الحاجة والعذر ثلاثة، وكيفية الصلاة فيها

مذهبهما، والصحيح أن وقتها ممتدٌّ بلا كراهة إلى اصفرار الشمس، وهو الرواية الثانية عن أحمد، كما نطقَ به حديث عبد الله بن عمرو (1) بما عمل به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة بعد عملِه بمكة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. فلم يكن للعصر وقتٌ متفقٌ عليه، ولكن الصواب المقطوع به الذي تواترت به السننُ واتفق عليه الجماهير أن وقتها يدخل إذا صار [ظلُّ] كل شيء مثله، وليس مع القول الآخر نقلٌ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا صحيحٌ ولا ضعيفٌ، ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخِّرون الصلاة لمَّا اعتادوا تأخيرَ الصلاة [و] اشتهر ذلك صار يظنُّ من ظنَّ أنه السنة، وقد احتج له بالمثل المضروب للمسلمين وأهل الكتاب (2)، ولا حجةَ فيه باتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطولُ من وقت العصر الذي أولُه إذا صار ظلُّ كل شيء مثلَه. وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب، ومن المغرب إلى الفجر، ومن الفجر إلى طلوع الشمس. فالأول وقت الظهر والعصر -عند العذر- واسع فيهما من وجهين: أحدهما: تقديم العصر إلى وقت الظهر، كما قدَّمها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومِ عرفة، وكما كان يُقدِّمها في سفَرةِ تبوك إذا ارتحلَ قبلَ أن تَزِيغ الشمسُ، أو تقديم العشاء إلى المغرب في المطر. فهذا جمعُ تقديم. والثاني: جمعُ تأخير العصر فيها إلى المغرب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في

_ (1) أخرجه مسلم (612). (2) أخرجه البخاري (558، 2271) من حديث أبي موسى الأشعري.

الحديث الصحيح (1): "مَن أدركَ ركعةً من الفجر قبلَ أن تَطْلُعَ الشمسُ فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تَغرُبَ الشمسُ فقد أدركَ العصرَ". هذا مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (2): "وقتُ العصر ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ". وأنه لم يُؤخر الصلاةَ قَط إلى الاصفرار، ويومَ الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب، وهو منسوخٌ في أشهرِ قولي العلماء بقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (3). وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقيل: يُخيَّر حالَ القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان، وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل: بل يؤخرها، وهو قول أبي حنيفة أيضًا، ففي الحديث الصحيح (4) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُبُ الشمسَ حتى إذا كانت بينَ قَرْنَي الشيطان قامَ، فنَقَرَ أربعًا لا يذكرُ الله فيها إلا قليلاً". فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنَّقْر، فدلَّ على المنع من هذا وهذا، فلما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا وهذا عُلِمَ أن الوقتَ وقتانِ، فمن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغربَ الشمس فقد أدرك مطلقًا، وليس له أن يُؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبلَه، بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبلَ ذلك، كالحائض إذا طَهُرَتْ، والمجنون يُفيق، والنائم يستيقظ، والناسي يذكر. فدلَّ تقديمُه للعصر يومَ عرفةَ على أنها تُفعَل في موضعٍ مع الظهر عقيب

_ (1) سبق تخريجه. (2) سبق تخريجه. (3) سورة البقرة: 238. (4) سبق تخريجه.

الزوال، ودلَّ هذا الحديث على أنها يُدرَك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب، مع أنه جائز (1) بقوله وفعله أن وقتَها إذا صارَ ظِل كل شيء مثلَه ما لم تَصْفرَّ الشمسُ، فدلَّ على أنَّ هذا الوقت المختصَّ بها وقتٌ مع التمكن والرفاهية، ليس لأحد أن يؤخِّرها عنه ولا يُقدِّمها عليه. وقد عُرِف عن الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا في الحائض: إذا طَهُرتْ قبلَ غروب الشمس تصلي الظهر والعصر، وإذا طَهُرتْ قبل طلوع الشمس (2) صلَّت المغرب والعشاء. ولم يُعرَف عن صحابي خلافُ ذلَك، وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد. وهذا مما يدلُّ على أنه كان الصحابة [يرون] أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء وإلى الفجر، والنصف الثاني من النهار مشترك عند العذر بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب، كما دلَّ على ذلك السنة، والقرآن يدلُّ على ذلك، قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (3)، فالطرف الأول صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر من النهار، كما قد نصّ على ذلك أحمد، فإن الصائم يصوم النهار، وهو يصوم من طلوع الفجر، والوتر يصلَّى بالليل. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى، فإذا خفتَ الصبحَ فأوترْ بركعة" (4). فليس لأحد أن يتعمَّد تأخير

_ (1) كذا في الأصل. (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "الفجر". وانظر هذه الآثار في "شرح العمدة" (كتاب الصلاة) للمؤلف (ص 230). (3) سورة هود: 114. (4) أخرجه البخاري (1137) ومسلم (749) من حديث ابن عمر.

الوقت إلى ما بعد طلوعِ الفجر عند جماهير العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه. وإذا قيل: "نصف النهار" فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس، فهذا في هذا الموضع، ولفظ "النهار" يُراد به من طلوعِ الفجر، ويُراد به من طلوع الشمس، لكن قوله (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) أريد به من طلوع الفجر بلا ريب، لأن ما بعد طلوع [الشمس] ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة بل ولا مستحبة، بل الصلاة في أول الطلوع منهيّ عنها حتى ترتفع الشمسُ. وهل تُستحبّ الصلاة لوقت الضحى أو لا تُستحبّ إلا لأمرِ عارضِ؟ فيه نزاعٌ ليس هذا موضعه. فعُلِم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر، وأما الطرف الثاني فمن الزوال إلى الغروب، فجعل الصلاة وأشرك بينهما فيه، ثم قال: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) وهي ساعات من الليل. فالوقت هنا ثلاثة، وكذلك في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1). فالدلوك: الزوال عند أكثر السلف، وهو الصواب، يقال: دَلَكَتْ وهي الشمسُ إذا زالت. وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمتُه. فالأول يتناول الظهر والعصر تناولاً واحدًا، والثاني [يتناول المغرب والعشاء] تناولا واحد، ثم قال: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ) وهي صلاة مفردة لا تُجمَعُ ولا تُقْصَر.

_ (1) سورة الإسراء: 78.

وقال تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ) (1). فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء، فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة. وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت. وقد دلَّ على المواقيت في آياتٍ أخرى، كقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)) (2)، فبيَّن أن له التسبيح والحمد في السموات والأرض حينَ الصباحِ وحينَ المساءِ وعشيًّا وحينَ الإظهار، فالمساء يتناول المغربَ والعشاء، والصباح يتناول الفجر، والعشي يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر. وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (3)، وفي الآية الأخرى: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (4). فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، وقبل غروبها هي العصر، وكذلك فسَّرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق على صحته (5) من حديث

_ (1) سورة النور: 58. (2) سورة الروم: 17، 18. (3) سورة طه: 130. (4) سورة ق: 39 - 40. (5) البخاري (554) ومسلم (633).

- مناقشة من يخالف الجمهور في الوقت المشترك

جرير بن عبد الله قال: كنّا جلوسًا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ نظر إلى القمر ليلةَ البدر، فقال: "إنكم سترون ربَّكم كما ترون القمرَ ليلةَ البدر، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبلَ غروبها فافعلوا"، ثم قرأ قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (1). و"من آناء الليل" مطلقٌ في آناء الليل يتناول المغرب والعشاء. والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ويقولون: ليس لكل منهما إلا وقتٌ يخصُّها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن، والقرآن أوجبَ مطلقَ الذكر في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)) (2)، فلا مُوجبَ لخصوص التكبير عندهم، بل مطلق الذكر. فمان كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُصل قَط إلا بتكبير، ولا أحدٌ من خلفائه ولا أحدٌ من أئمة المسلمين ولا آحادِهم المعروفين يُعرَف أنه صلَّى إلا بتكبير، ومع هذا فيُجوزونه بمطلق الذكر لأن القرآن مطلق في الذكر= فيقال لهم: القرآنُ مطلقٌ في آناء الليل وفي غسق الليل، ومطلقٌ في الأول وفي الطرف الثاني، فدلَّ على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قُدِّر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوَمَ على التفريق، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمعَ بينهما في الوقت الأول غيرَ مرَّة، وفي الوقت الثاني غيرَ مرَّة؟ وكذلك يقولون: قوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (3) مطلقٌ،

_ (1) سورة طه: 130. (2) سورة الأعلى: 14، 15. (3) سورة الحج: 77.

فهو الفرض، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحدٌ، فيفيد الوجوبَ دون الفريضة. وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسَّر منه، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين من بعدِه لم يُصلُّوا إلا بالفاتحة، ومع قوله: "لا صلاةَ إلا بأمّ القرآن" (1) وأن "كلَّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ" (2)، ويقولون: هذا يفيد الوجوب دون الفريضة، وهذا خبر واحد لا يُقيَّد به مطلقُ القرآن. ومعلومٌ أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا، وليس معهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يُوجِبُ فِعْلَ كلِّ واحدةٍ من الأربع في الوقت الخاصّ إلا فِعْله المتواتر، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد، مع ما فيه من الإجمال، كقوله لما بيَّن المواقيت الخمسة: "الوقتُ ما بين هذين" (3)، وقوله: "ما بين هذين وقت" (4)، دلالتُه على وجوب الصلاة في هذا الوقت دونَ دلالةِ قوله: "لا صلاةَ إلا بأمّ القرآن" وقوله: "من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ". وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (5): "سيكون بعدي أُمَراء

_ (1) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه البخاري (756) ومسلم (394). (2) أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة. (3) سبق تخريجه. (4) سبق تخريجه. (5) سبق تخريجه.

يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتِها، فصلُّوا الصلاةَ لوقتِها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً"، وهو الوقت الذي بيَّنه لهم. والأمراء إنما كانوا يُؤخِّرون الظهرَ إلى وقت العصر، أو العصرَ إلى آخر النهار. ودلَّ هذا على أن من فَعلَ هذا لم يُقاتَل، لأنهم سألوه عن الأمراء نُقاتِلُهم؟ قال: "لا، ما صَلَّوا"، وهذه كانت صلاتَهم. ودلَّ على أنّ هذه الصلاة صحيحة، وإن كان فاعلُها آثما. بخلاف صلاة النهار بعد الغروب، فإنّ من قال: لا يُصلِّيها إلا بعد الغروب قد قُوتلَ بلا ريبٍ. وكذلك من قال: لا يُصلي المغرب والعشاء إلا بعد طلوع الفجر فإنه يُقاتَل بلا ريبٍ. وقد قال ابن مسعود وغيرُه في قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (1)، قالوا: إضاعتُها تأخيرُها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارًا، وأرادوا بذلك تأخيرها إلى الوقتِ المشترك أو وقتِ الاضطرار، ولم يُريدوا بذلك تأخيرَ صلاةِ النهار إلى الليل ولا صلاةِ الليل إلى صلاة النهار، فإنّ الخَلَف الذين كان ابن مسعودٍ يُسَميهم الخلف -كالوليد بن عقبة بن أبي معيط وغيرِه- لم يكونوا يُؤخرون صلاةَ النهار إلى الليل، ولا صلاةَ الليل إلى النهار، بل كان التأخير كما تقدم، مع أن ابن مسعود كان يُسمِّيهم "خلف"، ويقول: "ما فَعلَ خَلَفُكم؟ "، فالخلف لم يكونوا يُصلُّون بغير الفاتحة، ولا بغير التكبير، ولا يقرأون القرآن بغير العربية، بل كانوا يُصلُّون في الوقت المطلق في كتاب الله في الطرف الثاني وقبل الغروب. ثم لما دلَّ الشرعُ على وجوب الصلاة في الوقت المختصّ ذُمُّوا لأجلِ تركِ هذا الواجب، مع

_ (1) سورة مريم: 59.

أنّ في القرآن مع النصوص المطلقة في آناء الليل والطرف الثاني أكثر مما فيه من إطلاقِ قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) (1)، وقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (2). والسنة والآثار دلَّت على الوقت المشترك، ولم تدلَّ سنّةٌ على الصلاة بغير فاتحة، فَعُلِمَ أن الكتاب والسنة وآثار الصحابة تَدُلُّ على أن الأوقات في حقّ المعذور ثلاثةٌ، وأنّ ذلك لم يُعارِضْه دليل شرعيٌّ أصلاً، وما قُدِّر معارضًا له فالإيجاب به أضعفُ من الإيجاب بما دلَّ على الفاتحة والتكبير. وقوله تعالى: (وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ) (3) وقوله: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (4) كان مطلقًا، دلَّ على أن جميع الليل وقتٌ في الجملة للصلاة، كما كان الطرف الثاني وقتًا للصلاة، وأن النصف الثاني من الليل كما بعد الاصفرار، ليس لأحدٍ أن يُؤخِّر إليه العشاء مع الاختيار. وأما الحائض إذا طَهُرتْ والمجنون إذا أفاقَ والكافر إذا أسلم والنائم إذا استيقظ والناسي إذا ذكرَ فيُصلُّون المغرب والعشاء، كما كانوا يُصلُّون الظهرَ والعصرَ قبل الغروب، كما قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم، وهو قول الجمهور.

_ (1) سورة المزمل: 8. (2) سورة المزمل: 20. (3) سورة طه: 130. (4) سورة هود: 114.

فصل وهذا الذي ذكرناه من أن الوقت مشتركٌ عند العذر إلى آخر وقت العصر فقد صلَّى في وقتها، فهو كما لو أخّرها إلى آخر الوقت المختصّ، فلو قُدِّر أن الحائض طهرتْ والنائمَ استيقظ والكافر أسلم بعد دخول وقت العصر المختصّ فإنهم يُصلون الظهر والعصرَ في وقتِها، ولا يقال: إن الظهر صَلَّوها بعد خروج الوقت. وكذلك من قدَّم العصر إلى وقت الظهر، وصلَّى العشاء وقت المغرب جمعًا للمطر لم يحتج أن ينوي الجمعَ، سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا. وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة حيثُ يُجوِّز الجمعَ، وهو المعروف عن أحمد بن حنبل في أجوبته، لم يُوجب النيةَ في ذلك ولا جمهور قدماء أصحابه كأبي بكر وغيرِه، لكن الخِرقي ومتبعوه كالقاضي أبي يعلى وغيره أوجبوا في الجمع النية، وهذا قول الشافعي. وأما أحمد فلا أصلَ لهذا في كلامه ولا في كلام جمهور الفقهاء من أصحابه، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما، وهذا هو الصواب، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جمعَ بأصحابه بعرفةَ لم يكونوا يعرفون أنه يُصلِّي العصرَ بعد الظهر، ولا قال حينَ صَلَّو الظهرَ: إنكم تجمعون إليها العصر. وكذلك لما جَمَع بهم بالمدينة فصلَّى سبعًا جمعًا وثمانيًا جمعًا لم يقل لهم: انْوُوا الجمعَ. وكذلك لما كان يَقصر بهم لا يأمرهم بنية القصر، بل قد لا يعرفون ذلك حتى يَقصُر. ولهذا قد ثبتَ في حديث ذي اليدين (1) أنه لما صلَّى بهم الظهر أو

_ (1) أخرجه البخاري: (482) ومسلم (573) عن أبي هريرة.

العصر ركعتين قال له ذو اليدين: أَقُصِرت الصلاة يا رسولَ الله أم نسيتَ؟ وقال: "لم أنسَ ولم تُقصَر الصلاة"، قال: بل نسيتَ يا رسول الله، قال: "أَكما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، الحديث. فلما أقرَّه على قوله: أقُصِرت الصلاةُ أم نسيتَ، وقال: لم أنسَ ولم تُقصَر، ولم يقل: كيف تُقصَر ولم آمُرْكم بنية القصر= دلَّ على أنه كان ممكنًا أن يَقصُر من غير أن ينوي القصر. وأيضًا فيقال: الجامع إن كان مصلِّيًا للصلاة في وقتها الذي يجوز فعلُها فيه فقد جاز، سواء نوى الجمعَ أو لم يَنوِهِ، وإن لم يكن وقتها فمجرد النية لا يُبيح الصلاةَ في غيرِ وقتِها، ولهذا لو نَوى الجمعَ حيثُ لا يجوز لم تُفِدْه النيةُ شيئًا، فإذا قُدّر أن المصلّي بعرفةَ صلَّى الظهر، ولم يَخطُر بقلبه إذ ذاك أنه يُصلّي معها العصر، فمعلومٌ أن ما بعد صلاةِ الظهر هو وقت العصر في حقه، فلا فرقَ بين أن يُصلِّيها في ذلك الوقت مع نيته ذلك عند صلاة الظهر أو لا، وأيُّ تأثير للجواز إذا نَوى ذلك عند صلاة الظهر؟ وكذلك من يجوز له أن يصلي العشاء مع المغرب للمطر فأيُّ تأثيرٍ لنيته في ذلك عند صلاة المغرب؟ ثم هذا الشرط يُكدِّرُ مقصودَ الرخصة، فإن الناس متلاحقون بعد شروع الإمام، ولا يعرفون أنه نوى الجمعِ، فلو لم يجز الجمعُ إلا لمن نواه فاتَ كثيرًا منهم رخصةُ الجمع، أو لزِمَ أن يُوكِّلَ الإمامُ من يقول لكلّ من يدخل: انْوِ الجمعَ. وهذا مع ما فيه من البدعة والحرج المتيقن بالشرع ففيه إبطال الصلاة في الجماعة على ذلك المُعْلِم. وكذلك الموالاة بين الصلاتين، وقد أوجبها الشافعي ومن وافقه

من أصحاب أحمد، وقد نصَّ أحمد على أن المسافر إذا صلَّى العشاء قبل غروب الشفق في السفر جاز، وجعله بذلك جامعًا. وليس مراده الأبيض، فإن الوقت يدخل في حق المسافر بغروب الشفق الأحمر عنده بلا ريب، وكذلك الحاضر، وإنما اختار للحاضر أن يؤخِّرها إلى مغيب الأبيض ليتيقن مغيبَ الشفق الأحمر عنده بلا ريب، لأن الجدران تُوارِي الحمرةَ في الحضَر دون السفر، وإن جوز أن يُصلِّي قبل مغيب الأحمر في السفر، لأن المسافر يجوز له الجمع، فلو أراد أن يُصلِّيها عقيبَ المغرب جاز، فإذا أخَّرها كان أولَى بالجواز، لأنه أقربُ إلى الوقت المختص، فكيف يَسُوغ أن يقال: يصلِّي في الوقت البعيد عن وقتها المختصّ دون المشترك. وإذا قال قائل: إن ذلك لا يُسمَّى جمعا إلا مع الاقتران. قيل: هذا لا يجوز الاحتجاج به لوجهين: أحدهما: أن الشارع لم يُعلِّق الحكم بهذا اللفظ ولا معناه، ولكن دلَّ الشرع على جوازه. الثاني: أن الجمع سُمِّي بذلك، لأنه جمعٌ بينهما في وقت إحداهما المختصّ، لا لاقتران الفصل، بدليل أنه لو جمعَ في وقتِ الثانية لم يجز (1) الاقتران بلا رَيْب، بل له أن يصلي الأولى في أول الوقت والثانية في آخره. وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ جَمْعٍ المغربَ قبلَ إناخةِ الرحال، ثمَّ أناخوها، ثمَّ صلَّى العشاءَ بعد ذلك بفصل بينهما.

_ (1) في الهامش: صوابه "لم يلزم" أو نحو ذلك.

- العذر نوعان

فصل وإذا عُرِفَ أن الأوقات في حال العذر ثلاثة أوقات، فنقول: العذر نوعان: أحدهما: ما فيه حرجُ المسلم، كجمع المريض والمسافر إذا جدَّ به السيرُ. والثاني: أن يشتغل بعبادة أفضل من الصلاة في الوقت المختصّ، مثل اتصال الوقوف بعرفةَ، فإن هذه العبادة أولى بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين من أن يصلي العصر في وقتها المختصّ. كما أن الفطر لأجل الدعاء والذكر في هذا اليوم أفضل من صوم يوم عرفةَ الذي يكفر سنتينِ، مع أنّ هذا فيه نزاعٌ بين العلماء، فإنهم تنازعوا (1). وإذا كان هذا في الوقت فمعلومٌ أن جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج، ومن الجهاد ما يكون أفضل من وقوف عرفةَ إذا كان المسلمون بإزائهم عدوٌّ يتّصلُ قتالُه لهم إلى الغروب مصافَّةً أو محاصرةً أو غير ذلك= كان أن يجمعوا بين الصلاتين ثم يدخلوا في الجهاد المتصل خيرًا من أن يُؤخَروا الصلاةَ إلى بعد الغروب، كما يقوله من لا يُجوز الجمعَ ولا الصلاةَ مع القتال ويُجوِّز تأخيرَ الصلاة، وكان خيرًا من أن يُصلُّوا في حال القتال. فإنه لا يَستريبُ مسلم أن فِعْلَ الصلاتين في وقت الظهر خيرٌ من فِعْلِهما أو فِعْلِ إحداهما بعد الغروب، فإن هذا فِعْلُ صلاة النهار في النهار وجَمْعٌ في الوقت الذي يجوز جنسُه بالنصِّ والإجماع.

_ (1) كذا في الأصل بدون تفصيل.

وأما تفويت الصلاة إلى الغروب مع إمكان فِعْلِها في الوقت فهذا لم يَرِد به سنةٌ قَطُّ، فإنّ غايةَ ما يُحتَجُّ به تأخير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاةَ يوم الخندق، وقد رُوِيَ أنه أخَّر الظهر والعصر جميعًا وأخَّر المغرب أيضًا، فلم يُصلِّهنَّ إلا بعد مُضِيِّ طائفة من الليل. وهذا إن كان نسيانًا فليس هو مما نحن فيه، فإنه من نام عن صلاةٍ أو نَسِيَها كان مأمورًا بأن يصليها إذا ذكرها. وإن لم يكن نسيانًا بل اشتغالاً بالقتال كما يقوله الجمهور فعنه جوابان: أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مشغولاً بقتالهم في النهار، ولم يعلم أنه يفرغ للصلاة بعد الزوال دون ما بعد العصر فإذا كان كذلك لم يكن هذا مما نحن فيه، فإن الكلام إنما هو فيمن تفرغ للجمع في أول وقت الظهر، كما تفرَّغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك يومَ عرفةَ. الثاني: أنَّ هذا التأخير منسوخٌ بقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)) (1)، فإنها نزلت في ذلك، والوسطى هي العصر، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق: "مَلأَ الله أجوافَهم وقُبورَهم نارًا كما شَغَلُونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر" (2). وأيضًا فقد ثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: "من فَاتَتْه صلاةُ العصرِ فكأنما وُترَ أهلُه ومالُه" (3). وعلَّقَ إدراكَها بإدراكِ ركعة منها فقال: "من أدركَ ركعةً من العصر قبلَ أن تَغرُبَ الشمسُ فقد أدرك" (4).

_ (1) سورة البقرة: 238. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجه. (4) سبق تخريجه.

- الجمع للاشتغال بالجهاد

وأما صلاتُها مع الظهر فقد سنَّه في الجملة، ومعلومٌ أن جنسَ ما توعَّد عليه محرَّمٌ، وجنس ما فَعلَه مشروعٌ، فَعُلِمَ أن الجمع بينهما في وقت الظهر خيرٌ من التأخير إلى أن تفوتَ. وهذا مذهب جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، بل لا يُجوِّزون التأخير ولا غيره، ويُجوِّزون الجمعَ لما هو دونَ القتال. وأحمد وإن قال في روايةٍ عنه: إن المقاتل يُخيَّر بينَ الصلاةِ في الوقت والتأخير، فلا يختلف قوله: إن الجمعَ أولى من التفويت، وإنما يقول -على تلك الرواية-: إذا لم يمكنه أن يُصلِّي بالنهار لأجل القتال خُيِّرَ بين الصلاةِ حالَ القتال في الوقت وبين الصلاة بعد المغرب. وأما على ظاهرِ مذهبه فلا يُجوِّز تفويتَها إلى الغروب بحالٍ. والمقصود هنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان قد صلاَّهما بالمسلمين في وقت الظهر لاشتغالِه عن فِعْلِهما في الوقت المختصّ باتصال الدعاء والذكر، فالجمعُ للاشتغال بالجهادِ أولَى وأحرى. هذا إذا أمكنَه أن يُصلِّي مع الجهادِ صلاةً تامَّةً، لكن يتعطَلُ عن بعض مصلحة الجهاد. وأمّا إذا قُدِّرَ أنه لا يمكنُه أن يُصلِّي إلا على دابَّتِه إلى غير القبلة لأجل القتال، فلا ريبَ أن صلاتَه بالأرض صلاةً تامَّةً جمعًا بين الصلاتين خيرٌ من أن يصلِّي العصرَ في وقتها المختصّ صلاةً ناقصةً، لما فَعَلَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجته، ولحديث المستحاضة، ولأن تكميلَ العبادة بفعل واجباتها أمرٌ مقصودٌ في نفسِه، والجامعُ مُصَل لها في وقتها لا في غير وقتِها، لكن صلاها في وقت المعذور، وهو الوقت المشترك، وما حصلَه بالتكميل المأمور به في الصلاة أكملُ مما فاتَه من الوقت المختصّ. فإذا كان تكميل الدعاء والذكر بعرفةَ أفضلَ من الصلاة في

الوقت المختصّ، فتكميلُ نفسِ الصلاة أفضلُ من الوقت المختصّ. ولهذا لا يجوز التكميل (1) المأمور به في الصلاة لأجل تكميل اتصال الدعاء، لأن ذلك واجبٌ وهذا مستحبٌّ. ولو كان عادمًا للماء والسُّترة ولم يمكنه تحصيلُ ذلك إلا بتفويتِ بعض الدعاء والذكر كان مأمورًا أن يُصلي بالماء والسُّترة، وإن كان ذلك في أثناء الدعاء. ولهذا كان الجمعُ بين الصلاتين بطهارةٍ كاملةٍ أولَى من الصلاة في الوقت المختصّ بطهارةٍ ناقصةٍ، فالمستحاضة التي تجمع بين الصلاتين بغُسلٍ واحدٍ، هو أفضلُ من الصلاة في الوقت المختصِّ بوضوءٍ. ومثل ذلك من جمعَ بين الصلاتين بوضوء، فإنه أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختص بتيمُّمٍ، ومن جَمعَ بين الصلاتين قائمًا فهو أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختصّ قاعدًا، ومن جمعَ بين الصلاتين في جماعةٍ فهو أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختصّ منفردًا. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه يجمعون بين المغرب والعشاء للمطر ونحوِه، مع إمكان أن يُصلِّيها وحدَه في بيته، لكن لما كان الجمعُ لمصلحة الجماعة وكان صلاتُه معهم أكملَ من الانفراد= كان صلاتُه معهم جمعًا أكملَ من صلاتِه منفردًا في الوقت المختصّ. وهكذا في صلاةِ الخوف الصلاةُ في جماعة مع استدبار القبلة في أثناء الصلاة -مع العمل الكثير ومع مفارقة الإمام قبل السلام وغير ذلك- أكملُ من أن يُصلِّي كلُّ واحد منفردًا مع عدمِ هذه المحاذير.

_ (1) في الهامش: "هنا سقط ولعله: ترك التكميل".

وإذا صلَّى بالتيمُّم في الوقت المشترك هل هو أكملُ من الصلاة في الموضع المنهي عنه في الوقت المختصّ؟ فإن هذا حَصَلَ فيه نَقصانِ: نقص التيمم والوقت المشترك، وهناك حصلَ نقصُ المكان المنهي عنه فقط. وسيأتي الكلامُ على هذه المسألة، ونبيِّنُ أن الصلاةَ بالتيمُّم في الوقتِ المشترك خيرٌ من الصلاة المنهيّ عنها في الوقت المختص، لأنّ الصلاة في الوقت المشترك بالتيمم أصلاً يَؤُمُّ فيها المتيممُ للمتوضئ بخلاف الصلاة في المكان المنهي عنه، فإنها لا تُفعَل إلا لضرورة. ونظير ذلك من كان في مكانٍ قد نُهِي عن الصلاة فيه -كالحمام والمكان النجس وغير ذلك- فإنه إذا لم يمكنه أن يُصلِّي في الوقت إلا فيه صلى فيه، فإنَ فَعْلَ الصلاة في وقتها واجب، أعني الوقت المطلق، فلا يجوز له أن يؤخِّر صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار أصلاً، بل يُصلي في الوقت المطلق: إمّا المختصّ وإمّا المشترك بحسب الإمكان. فإذا كان قد دخلَ إلى الحمَّام، وإن لم يُصلِّ فيه خَرَجَ الوقتُ، صَلَّى فيه. وكذلك من حُبسَ في موضع نجسٍ لا يخرجُ منه إلا بعد فوتِ الوقت صلَّى فيه، ولا إعَادةَ عليه، كما نصَّ على ذلك أحمد وغيرُه. وهذا بينٌ، لكن إن أمكنه أن يجمعَ بين الصلاتين خارجًا عن الموضع المنهيِّ عنه، فالجمعُ خارجًا عن الموضع المنهيّ عنه خيرٌ من الصلاةِ فيه، والصلاةُ فيه خير من التفويت. وذلك مثل المرأة إذا كان عليها غسلُ جنابة أو حيضٍ، ولا يمكنها الاغتسال في الوقت، فعليها أن تصلِّي بالتيمم، فإذا صلَّت الفجر بالتيمم ثم لم يمكن الحمام إلا بعد الظهر، وإذا دخلت الحمامَ لم

يمكنها الخروجُ منه إلا بعد الغروب، فالصلاةُ في الحمام بعد التطهر مع سَتْرِ رأسِها وبدنِها خير من التفويت بلا ريب، إذ التفويتُ إلى الغروب لا يجوز بحالٍ، بل المصلِّي للعصر بعد الغروب كالصائم لرمضان في شوال باتفاقِ العلماء، فإنهم متفقون على أنه لا يجوز تفويتُ رمضانَ إلى شوالَ لمن يجب عليه، والصلاة في وقتها أوكدُ من الصوم في وقتِه كما بيَّناه. وهذه المرأة إذا صلَّت الظهر والعصر جمعًا بينهما بالتيمم كان خيرًا من صلاتِها في الحمام مغتسلةً، والصلاة في الحمام مغتسلةً خير من التفويت، لأن الصلاة في الحمام منهيٌّ عنها كالصلاةِ في المقبرة وأعطانِ الإبل والمكان النجس والثوب النجس وصلاةِ العُريان، ففي صلاتها جمعَّاَ تكميلُ الصلاة من هذا الوجه، كما تقدم. والصلاة بالتيمم إذا لم يمكن الصلاة في الوقتِ بالماء جائزةٌ أيضًا، بل هي الواجبة، فقد ثبت بالنص والإجماع أن المتيمِّم العادم للماء في سفره يجبُ عليه أن يُصلِّي في الوقت بالتيمم، ولا يجوز له أن يؤخرها ليُصلي بعد الوقتِ بوضوء. وكذلك العُريان عليه أن يصلِّي في الوقتِ عُريانًا مع إمكان الصلاة بعد الوقت بالثياب. وكذلك المريض يجبُ عليه أن يُصلِّي في الوقت قاعدًا أو مضطجعًا، وإن أمكنه أن يُصلِّي بعد الوقت قائمًا. وكذلك الخائف يُصلِّي في الوقت صلاةَ الخائف، وإن أمكنَه أن يُصلِّي بعد الوقت صلاةَ أَمْنٍ. كَما دلَّ على أمثالِ هذه المسائل الكتابُ والسنة والإجماع، إذ ليس في واجبات الصلاةِ أوكدُ من وجوب الوقت، وهذا مجمعٌ عليه

- الجمع بين الصلاتين بالتيمم خير من الصلاة المنهي عنه

في عامة المسائل، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وهذا مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وكذلك مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما في أكثر الصور، لكن اختلف مذهب أبي حنيفة والشافعي في أكثر الصور، وتَابَعهم بعضُ أصحابِ أحمد. كما اختلفوا فيما إذا وجد المسافر بئرًا، ولم يُمكِنْه أن يَصنع الحبلَ حتى يَخرجَ الوقت. أو وَجَدَ العُراةُ ثوبًا، ولم يمكنهم أن يُصلُّوا فيه واحدًا بعد واحدٍ حتى يَخرُجَ الوقت. أو كانوا جماعةً في سفينةٍ، وليس هناك موضع يقومون فيه إلا موضعًا واحدًا، ولا يمكنه الصلاة في الوقت إلا مع القعود، أو أمكنَه تعلُّم دلائلِ القبلةِ، ولكنه لا يتعلم ذلك حتى يخرج الوقت، أو أمكنَه أن يَخِيطَ ثوبَه ولا يتم ذلك حتى يخرج الوقت. ففي هذه المسائل نزاعٌ في مذهب الشافعي، ونصوصُه اختلفت في ذلك، فمن أصحابه من خرَّج، ومنهم من أقرَّ، ووافقَه بعض أصحاب أحمد. وأما أحمد وسائرُ أصحابه وكذلك مالك وغيرُه ما علمتُهم اخَتلفوا في تقديم الوقت في هذهَ المواضع، كما اتفق المسلمون كلُّهم على تقديم الوقت في المتيمم إذا عَدِمَ الماءَ في السفر، وفي العُريان، وفي المريض والخائف، فإنهم متفقون على أنَّ هؤلاء يُصلون في الوقت بحسب حالِهم، ولا يُفوِّتون الصلاةَ. ولم يتنازعوا إلا في حالِ القتال كما تقدم، وكذلك الآمن الذي لا يمكنه التعلُّم حتى يخرج الوقت. والمقصود هنا ذِكرُ الجمع، وأن الجمع بين الصلاتين بالتيمم خيرٌ من الصلاةِ في المكان المنهيِّ عنه، كما أنها خيرٌ من الصلاةِ عُريانًا،

ومن الصلاة إلى غير القبلة ونحو ذلك، فإن الصلاة في الوقت المشترك صلاة في الوقت يُفعَل فيه للمصلحة الشرعية، بخلاف الصلاة بدون شروطِها، فإنه يحرم، [و] لا يجوز إلا لضرورة. ولهذا كانت الصلاة بالغسل وبالوضوء في الوقت المشترك خيرا من الصلاة بطهارة ناقصة في الوقت المختصّ. ومن ذلك الأجير والمملوك إذا أدخله سيدُه الحمامَ والمكانَ النجسَ، ولم يُخرِجه منه إلى المغرب، فصلاتُه فيه خير من التفويت، وذلك واجب عليه، والجمعُ بين الصلاتين خيرٌ له من الصلاة في ذلك المكان المنهي عنه، وهذا الجمع بطهارة الماءِ، وتلك بطهارةِ التيمم. فإن قيل: هذه المرأة تُفوتُ الوقتَ المختصّ وطهارةَ الماء، فهذانِ نَقصانِ، والصلاةُ في الحمام ليس فيها إلا نقص واحد، فَلِمَ كان هذا أولى؟ قيل: الصلاةُ في الحمام منهيٌّ عن جنسها، ليس لأحد أن يفعلها لغير ضرورة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأرضُ كلُّها مسجد إلا المقبرةَ والحمامَ" (1). وأما الجمعُ فيجوز للحاجة والمصلحة الراجحة كما تقدم، وأما التيمم فإن الصلاة بتيمُّم خيرٌ من الصلاة في الحمام، لأن التيمُّم طهارة مأمورٌ بها، وهي تقوم مقامَ الماء عند عدمِ الماء وخوفِ

_ (1) أخرجه أبو داود (492) والترمذي (317) وابن ماجه (745) من حديث أبي سعيد الخدري. قال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، ثم بين ذلك بأنه رُوِي مرسلا وموصولاً، والمرسل أصح.

الضررِ باستعمالِه، ومن لم يمكنه أن يُصلي بالماء إلا في المكان المنهيِّ عنه لم يمكنه الصلاة بالماء، كما لو لم يمكنه أن يُصلِّي بالماء إلا عريانًا أو إلى غير القبلة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصعيدُ الطيِّبُ طَهورُ المسلمِ ولو لم يَجدِ الماءَ عَشْرَ سنينَ، فإذا وَجدتَ الماءَ فأمِسَّهُ بَشْرَتَكَ، فإنّ ذلك خير" (1). فكلُّ ما يُباح بالماء يُباحُ بالتيمم، من صلاة الفرض والنفل ومس المصحف وقراءة القرآن. والتيمم يجوز عند الحدث الأكبر في مذهب أحمد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، [و] الذي يقوم عليه الدليل الشرعي أنه كلُّ ما يجوز قبل الوقت ويبقى بعده، سواء نوى به فرضًا أو نفلاً أو غير ذلك مما يُستباح بالتيمُّم، فيجوز لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصعيد الطيب طَهورُ المسلم ولو لم يجد الماءَ عَشْرَ سنين، فإذا وجدتَ الماءَ فأمَسَّه بَشرَتَك، فإن ذلك خير". ويجوز أن يؤمَّ المتيمِّم المتطهِّرين بالماء، كما أمَّ عمرو بن العاص أصحابَه في غزوة ذات السلاسل، وكما أمَّ ابنُ عباس أصحابَه بالتيمُّم وكان قد أجنبَ من وطءِ أَمَتِه. وهذا جائز عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم، وإن كان أكثر هؤلاء يُجوِّز اقتداء القارئ بالأمي خلفَ العُريانِ ونحوه. فعُلِمَ أن طهارة التيمم حيث أُمِرَ بها خير من الصلاةِ في المكان

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 146، 147، 155، 180) وأبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي (1/ 171) من حديث أبي ذر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

- الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجة أو مصلحة راجحة

النجس، وصلاةُ العريان والصلاةُ إلى غير القبلة وكذلك بسُتْرةٍ جمعًا خير من صلاة العريان مع التفريق، والصلاة قائمًا مع الجمع خيرٌ من الصلاة وحدَه مع التفريق. ولهذا يجوز للمسلمين في المطر مع إمكان صلاةِ الرجلِ وحدَه في بيته، وما ذاك إلا لأجل الجماعة، فعُلِمَ أن الجماعة في وقتِ إحداهما خيرٌ من كلِّ صلاة في الوقت المختصّ مع الانفراد، وكذلك الجمع مع الخوف في الجماعة خير من الصلاة فرادَى في الوقت. بل صلاةُ الخوف في جماعة كما مضتْ به السنة، مع مفارقة بحضهم الإمامَ قبلَ السلام، ومع العمل الكثير إذا صلى بطائفة ركعة ثم ذهب إلى العدو، مع استدبارهم القبلةَ، ومع اقتداء المفترض بالمتنفِّل، ومع الصلاة أربعًا في السفر، وأمثال ذلك كما جاءت به السنةُ= خيرٌ من صلاة كلّ منهم وحده. فالشارعُ يأمرُ بالجماعة ويَحُضُّ عليها، ويحتمل لأجلها تَرْكَ واجباتٍ وفِعْلَ محظوراتٍ. والوقت أوكدُ من الجماعة باتفاق المسلمين، فإذا لم يمكنه أن يصلِّي جماعةً إلا بعد الوقت صلَّى منفردًا في الوقت باتفاق العلماء. والجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة. والصلاة بالماء جمعًا خيرٌ من الصلاة بالتيمم مفرقًا. فمن عَلِمَ أنه لا يجد الماءَ إلا في وقتِ العصر كان صلاتُه الظهرَ والعصر بالماء جمعًا وقتَ العصر خيرًا من أن يصلي الظهر بالتيمم، وكذلك مَن وجدَه وقتَ الظهر وعَلِمَ أنه لا يجده إلا وقتَ المغرب كان جَمْعُه بالماء أفضلَ، كما تكون صلاتُه في آخر الوقت المختصّ بالماء أفضلَ من

- اعتراض من ينهى عن الجمع

صلاته في أوله بالتيمم. فإن قيل: إنما جمعَ لأنه بمنزلة المسافر الذي لا ينزل قبل الغروب، وكذلك المريض الذي لا يمكنه الوضوء إلا في أحد الوقتين، وصلاتُه في أحد الوقتين جمعًا بالوضوء خيرٌ من صلاته مفرقةً بالتيمم، كما ذكرنا في المستحاضة أن صلاتها بالاغتسال جمعًا خيرٌ من صلاتها بالوضوء في الوقت المختصّ، والواقف بعرفةَ صلاتُه العصرَ جمعًا مع الظهر لإتمام الوقوف خيرٌ من فعلها في وقتها مع نقصه. وهذا الذي فَعَلَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفةَ أصل عظيم في هذا الباب، فإنه ليس الجمع هنا لحاجةٍ ولا تحصيلِ واجب ولا مشكوك في وجوبه، بل لتحصيل مستحبّ، وهو كمالُ الوقوف، فدلَّ على أن الجمع جائز حيث تكون المصلحة الشرعية معه أكملَ من المصلحة الشرعية مع التفريق، بحيث كانت العبادة مع الجمع أكملَ في الشرع من التفريق فالجمع أولى، لأنه حين وقفَ يُريد أن يُفِيضَ بعد الغروب إلى مزدلفةَ كان كما رُوي عنه أنه كان إذا ارتحلَ بعد أن تَزِيْغَ الشمسُ قدَّمَ العصرَ إلى الظهر، فصلاَّهما جمعًا. قيل: إن كان جمعُه كذلك دلَّ على جواز الجمع لمثل هذا مع إمكان النزول، فإنه لو نزل قبل الغروب لم يكن عليه في ذلك مشقة عظيمة. فإذا جاز الجمعُ لمواصلة السَّيْر فالجمعُ لتكميل العبادات الشرعية أولى، ولم يكن جمعُه لمجرد السفر، فإنه لم يَجْمَعْ في حجته إلا بعرفةَ والمزدلفة، وقد كان يصلِّي قصرًا بلا جَمْع، ولم يقل أحد قَطُّ أنه جمعَ بمنًى ولا صلَّى أربعًا، بل كلُّهم متفقون على أنَّه قَصَرَ ولم

يَجْمَع، فعُلِمَ أن ذلك لم يكن لمجرد السفر بل للسَّيْر، كما قال ابن عمر وغيرُه: كانَ إذا جدَّ به السَّيْرُ فَعَلَ ذلك، مع أن النزول ممكنٌ ليس فيه إلا تفويتُ الإسراع الذي لا يفوت به الحج إلا أمر مستحب لا يفوت به واجب، فإنه لو نزلَ وصلَّى العصرَ ثم ركِبَ وأتمَّ الوقوفَ كان ممكنًا، لكن يفوت بذلك كمالُ مقصود الوقوف والإفاضة. فعُلِمَ أن الجمع كان لتحصيل مصلحة شرعية راجحة، لا لمجرد مشقة دنيوية. وإذا كان قد جمعَ لتحصيلِ عبادةٍ هي أفضلُ من التفريق من غير أن يكون ذلك واجبًا ولا ضررَ فيه= عُلِمَ أن الجمعَ يجوز للحاجة والمصلحة الشرعية الراجحة. وقد نصَّ أحمد على جواز الجمع للشغل، وفسَّره القاضي بما يُبيح تركَ الجمعة والجماعة. ونصَّ على جَمْعِ المستحاضة بالغسل، وليس فيه إلا مصلحة شرعية راجحة. ومما يُبيِّن ذلك أن الجمع لو كان معلَّقًا بسبب محدودٍ يدور معه وجودًا وعدمًا كالقَصر والفطر، لكان الشارعُ يُعلِّقه به، كما علَّقَ الفطرَ بالمرض والسفر بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) (1)، وكما علَّق القصر بالسفر دون المرض بقوله: "إنَّ الله وضعَ عن المسافر الصومَ وشَطْر الصلاة" (2). وأما الجمع فإنما وقعَ من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بافعالٍ فَعَلَها في أول الوقت، وتارةً يُؤخِّرها، وكان التأخير أحبَّ إليه إلا إذا شَقَّ عليه، فإذا اجتمعوا

_ (1) سورة البقرة: 184. (2) سبق تخريجه من حديث أنس بن مالك الكعبي.

قدَّمَها لمشقة التأخير عليهم، فتقديمُ الصلاة في أول الوقت وإن كان هو الأفضل في الأصل، فإذا كان في التأخير مصلحةٌ راجحة كان أفضلَ، كالإبراد بالظهر وتأخير العشاء. وكما إذا رَجَا المتيمم الماءَ في آخر الوقت، أو رَجَا أن يُصلّي مستورَ العورة في آخر الوقت أو إلى القبلة أو في جماعةِ ونحو ذلك، وهكذا الجمع. فالأصل وجوبُ كلّ صلاةِ في وقتها الخاص، ثم يجوز أو يُستحبُّ فِعْلُها في الوقت المشترك لدفع الحرج. وأما الجمع لمصلحة راجحة مع إمكان الفعل في الوقت فهذا قد جاء فيه حديث المستحاضة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحبَّ لها أن تجمعَ بين صلاتَي النهار بغُسلِ وبين صلاتَي الليل بغُسل، وكان هذا أحبَّ إليه من أن تصلِّي في الوقت المختصّ بوضوء، لأن طهارة الغسل متيقنة وطهارة الوضوء محتملة، لإمكان انقطاع وجوب الغسل، مع أن الغسل ليس بواجب عليها، وعلى هذا فالجمعُ بوضوءِ أو غُسلِ أفضلُ من التفريق عُريانًا، والجمعُ إلى القبلة المتيقنة أفضل من التفريق بالاجتهاد، والجمع في جماعة أفضل من التفريق وحدَه. ولهذا كان الصحابة والتابعون يجمعون للمطر، مع إمكان صلاة كلِّ واحد وحدَه في بيتِه، لكن ذلك لمصلحة الجماعة، فصلاتُه مع الجماعة جمعًا أفضلُ من صلاتِه في الوقتين. ولهذا لو كان مقيمًا في المسجد لكان جمعُه معهم على الصحيح أفضلَ من صلاتِه وحدَه في الوقتين. وهكذا القول فيما يجب في الصلاة إذا أمكَن فِعلُه في الجمع فهو

- الوقت يكون خمسة في حال الاختيار، وثلاثة في حق المعذور

أفضلُ من تركِه مع التفريق، وإن كان ذلك جائزًا، فإن الجامع للمصلحة الراجحة قد صلَّى الصلاة في وقتها، وإنما يجب عليه في الوقت المختص إذا أمكن فِعلُها فيه كاملةً، فلا يجوز له تفويتُ الوقت المختصّ بلا مُوجب. فأما إذا كان فِعلُها في الوقتين فيه نقصٌ عُفِيَ عنه للحاجة وأمكن فِعلُها في المشترك بلا نقصٍ كان أفضل. والقرآن والسنة دلاّ على أن الوقت يكون، خمسة في حال الاختيار، ويكون ثلاثةً في حق المعذور، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من الكبائر الجمعُ بين الصلاتين إلا من عذرٍ. وقد أباحَ أحمد الجمعَ إذا كان له شغلٌ. قال القاضي أبو يعلى: المراد العذرُ الذي يُبيح تركَ الجمعة والجماعة، فالعذر الذي يُبيح تركَ ذاك يُبيح الجمعَ. وهذا بيِّنٌ، فإنه إذا سقطت الجمعة مع توكيدِها والجماعة مع وجوبها، فاختصاص الوقت أولى، لأن فعلها في الوقت المشترك جماعةً أفضلُ من فعلها في الوقت المختصّ فرادَى. فإذا سقطتِ الجماعةُ بالعذر فاختصاصُ الوقت أولى، ينبغي أن يكون الجمع أوسع. من ذلك (1) أن الجمعة والجماعة آكدُ من اختصاص الوقت، وقد ترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخوف لأجل الجماعة ما كان يُمكِنُ أن يفعل مع الانفراد مما لا يجوز إلا لعذرٍ، إنما احتمل لأجل الجماعة مع الخوف. وهذا الذي ذكرنا من أن الوقت يكون ثلاثةً في حق المعذور مما

_ (1) كذا في النسختين، وفي العبارة غموض.

- الجمع بين الصلاتين في الوقت المشترك ثابت بالسنة في مواضع

ثبتَ بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين في الجمع بعرفةَ ومزدلفةَ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أمور أخرى، وأحمد أوسعُ قولاً به من غيرِه، وأما تفويتُ الصلاة فلا يجوز بحالٍ في ظاهر مذهب أحمد، ولكن في مذهبه قولٌ بجواز التفويت في بعض الصور، ولكن في مذهبه في مثل عدم الماء والتراب يجوز التفويت. وأما أبو حنيفة فيوجب التفويتَ في مواضعَ، ولا يُجوِّز الجمعَ إلا بعرفة ومزدلفة. وقولُ الأكثرين الذين يُسوِّغون الجمعَ بين الصلاتين ويمنعون التفويتَ مطلقًا هو الصحيح، كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسنة، فإن الله تعالى قال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (1)، وثبتَ في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من تركَ صلاةَ العصر فقد حَبط عمله" (2)، وقال: "من فاتته صلاةُ العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله" (3). فالتفويتُ لا يجوز بحالٍ، وتفويتُ الخندق منسوخٌ. وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابتٌ بالسنة في مواضع متعددة، وبعضها مما أجمعَ عليه المسلمون، والآثار المشهورة عن الصحابة تُبيِّن أن الوقت المشترك وقتٌ في حال العذر، كقول عمر بن الخطاب: الجمعُ بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. فدلَّ على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة فيمن طَهُرَتْ في آخر النهار: إنها تُصلِّي الظهر والعصر،

_ (1) سورة البقرة: 238. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجه.

- تفويت الصلاة لا يجوز بحال

وفيمن طَهُرَتْ في آخر الليل: إنها تُصلِّي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة مالك والشافعي وأحمد. وأما التفويت فلا يجوز بحالٍ، فمن جوَّز التفويتَ في بعض الصُّوَر فقوله ضعيفٌ وإن جوَّز الجمع. وأما من أوجبَ التفويتَ ومَنَعَ الجمعَ فقد جمعَ في قوله بين أصلَينِ ضعيفينِ: بينَ إباحةِ ما حرَّمَ الله ورسوله وتحريمِ ما شرعَه الله ورسولُه، فإنه قد ثبتَ أن الجمعَ خيرٌ من التفويت. فبهذا الأصل ينتظم كثيرٌ من مسائل المواقيت. وتفويتُ العصر إلى حين الاصفرار وتفويتُ العشاء إلى النصف الثاني أيضًا لا يجوز إلا لضرورةٍ، والجمعُ بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خيرٌ من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة. وقد نصَّ على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، وقالوا: لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار، بل إذا لم يجد الماء إلا فيه فإنه يُصلِّي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يُصلِّيها حينَ الاصفرار بالوضوء. والله أعلم.

(13) مسألة في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟

مسألة في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟

- نعم يجوز ذلك، ويجوز تعجيل الزكاة

مسألة في رجل فقيرٍ وعليه دَين، وله أخٌ لأبويه وهو غنيٌّ، هل للغنيّ دَفْعُ الزكاةِ لأخيه الفقير دونَ الأجانب؟ وهل يجوز له تعجيلُ الزكاةِ له سنة أو سنتين؟ جواب الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية نعم، يجوز أن يدفع إليه من زكاتِه ما يَستحقُّه مثلُه من الزكاة، وهو أولى من أجنبيّ ليس مثلَه في الحاجة، ويجوز تعجيلُ الزكاة. وذلك لأن نصوص الكتاب والسنة تتناول القريبَ والبعيدَ في الإعطاء من الزكاة، وامتازَ إعطاءُ القريب بما فيه من الصلة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدقتك على المسكين صدقةٌ، وصدقتك على ذي الرحم صدقة وصِلَةٌ" (1). والصدقة في الصلة أفضلُ من الصدقة المجردة. والذين منعوا من إعطاءِ الزكاة له قالوا: نفقتُه واجبةٌ على الأخ، فيكون مستغنيًا بها، فلا يُعطيه ما يقوم مقامَ النفقة الواجبة. وهذا القول ضعيف لوجوهٍ: أحدها: أنه قد لا تكون النفقةُ واجبةً عليه، بأن لا يكون للمزكّي فضلٌ يُنفِقُه على أخيه، وهذا حالُ كثير من الناس. فإذا حُرِمَ الصدقةَ مع النفقة كان هذا ضدَّ مقصودِ الشارع.

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 17، 18) والترمذي (658) والنسائي (5/ 92) وابن ماجه (1844) من حديث سلمان بن عامر. قال الترمذي: حديث حسن.

الثاني: أن يقال: هَبْ أن نفقتَه واجبةٌ عليه، فإنما ذلك بشرط أن لا يكون قادرًا على الكَسْب وأن يطالب بها، فإذا كان متمكنًا من أخذ الزكاة واختار ذلك لم تجب النفقةُ في هذا الحال. كما لو اختارَ أخذَ الزكاةِ من أجنبي، فإن النفقة لا تجب في هذا الحال إجماعًا. وليس أن يُمنَع من الزكاة لأجل وجوب النفقة بأولَى من أن يُمنَع من النفقة لأجل وجوب الزكاة، بل هذا أولى، لأن الصدقةَ مالٌ أباحَه الله له ولأمثالِه، فإذا كان قادرًا عليه لم يكن به حاجةٌ إلى النفقة، والنفقة إنما وجبتْ عند العجز عن الاكتساب، وأخذُ الزكاة من جملة وجوهِ الاكتساب. وكما أن الصدقة لا تَحِلُّ لغنيّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ، فهو أيضًا لا يستحقُّ النفقةَ. الوجه الثالث: لو وجبتْ نفقتُه على غيره، وامتنعَ ذلك الغير من إعطائها، كان له أخذُ الزكاةِ بالاتفاق. فهذا القريبُ لو قُدِّرَ امتناعُه من الإنفاق لم يَحرُمْ على هذا أخذُ زكاتِه. ولا يقال: الزكاةُ لم تَسقُط عن ذلك، بل غايةُ ما يُقال: إنه عاصٍ بتَرْكِ النفقة. الرابع: أن يقال: لا ريبَ أنه يجبُ إغناءُ هذا الفقير، فإمَّا أن يُغْنِيَه قريبُه من مالِه وإمَّا من الزكاة، فالواجب إمّا الإنفاق عينًا وإمّا الزكاةُ عينًا وإمَّا أحدهما، وإيجاب الإنفاق عينًا مع تمكُّنِ المحتاج من أخذِ الزكاة ومع اختيارِه لذلك لا يقول به أحد، وأما إيجاب إعطاء الزكاة عينًا مع اختيار ربِّ المالِ أن يَصِلَ رَحِمَه من ماله فلا يقول به أحدٌ، فمتى اختار الفقيرُ أخذَ الزكاةِ فله ذلك، ومتى اختار الغنيُّ صلتَه من مالِه فله ذلك إذا اختارَ الفقيرَ، ولو أرادَ الفقيرُ أن لا يَقبل الصلةَ وقال: لا آخذُ إلا من

الزكاة فله ذلك. وإن أرادَ المطالبةَ بالنفقةِ وقال: لا أريدُ إلا النفقةَ دونَ الزكاةِ، فهذا فيه نظرٌ ونزاعٌ، وأما إذا اتفقا على الصلة جاز بالاتفاق، فكذلك إذا اتفقا على الإعطاء من الزكاة هو جائزٌ أيضًا. كما لو كان الغنيُّ يُعطِيه من صدقةٍ موقوفةٍ، أو من صدقةٍ هو وكيلٌ فيها أو ولي عليها. فإن قيل: إذا أعطاه وَقَى بها مالَه، وقد ذكر الإمامُ أحمد عن سفيان ابن عيينة قال: كان العلماء يقولون: لا يَقِيْ بها مالَه، ولا يُحَابي بها قريبًا، ولا يَدفَعُ بها مَذمَّةً. قيل: هذا إنما يكون إذا كان القريب من عيالِه، فيُعطِيه ما يَستَغْنِي به عن النفقةِ المعتادة، ففي مثل هذه الصورة لا يُجزِئُه على الصحيح، وهو المنقول عن ابن عباس وغيرِه، أَفتَوا بأنه إذا كان من عياله لم يُعطِه ما يَدفَعُ به الإنفاقَ عليه. حتى لو كان متبرّعًا باِلإنفاقِ على رجلٍ لم يكن له أن يُعطِيَه ما يقِي به مالَه، لأنه هنا دَفعَ عن نفسِه بالزكاة، فأخرجها لغَرَضِه لا للهِ، والزكاة عليه أن يُخرِجَها لله، وإن لم يكن هذا واجبًا بالشرع، لكن العادات لازمةٌ لأصحابها. والمحاباةُ أن يُعطِيَ القريبَ وهناك من هو أحقُّ منه، وأما إذا استويا في الحاجة وأعطاهُ لم يكن هذا محاباةً. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن عادتُه الإنفاقَ على الأخ، فإن وجوبَ الإنفاق عليه مشروطٌ بعدمِ قدرته على الأخذ من الزكاة واختيار ذلك، فمتى كان قادرًا على الأخذِ مريدًا له لم يستحق في هذه الحال نفقةً. كما لو حَصَلَ ذلك مع غنى أجنبيّ، فإنه إذا اختارَ الأخذَ من زكاته لم يجب على أخيه في هذه الحال الإنفاقُ عليه.

الوجه الخامس: أن يقال: لو أعطَى الزكاةَ للإمام، فأعطَى الإمامُ أخاه من ذلك، جاز، وكذلك لو أعطاها لمن يَقْسِمها بين المستحقين، فأعطاه أخاه، فكذلك إذا قَسَمَها هو. وسببُ ذلك أن الزكاةَ يجبُ صَرْفُها إلى الله تعالى، الذي يثيبُ صاحبَها، والفقراءُ يأخذونها من الله، لا يَستحقُّ أربابُ الأموال عليهم معاوضةً. فهو كما أعطَى الإمامُ من بيت المال، وناظرُ الوقفِ من الوقف، وإذا كان كذلك فأخْذُه من زكاةِ قريبِه وغيرِه سواءٌ، كأخذه من مالٍ يَنظُر عليه قريبُه، سواء كان سلطانيًّا أو وقفًا أو نذرًا. يدل على ذلك أن أبا طلحةَ لما قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحَاء، وإنها صدقةٌ لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله، فضَعْها يا رسولَ الله حيثُ شئتَ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أرى أن تجعلَها في الأقربين" (1). فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ بجعْلِها في الأقربين بعد أن جَعَلَها لله وخَرَجَ عنها. والله سبحانَه أعلم.

_ (1) أخرجه البخاري (1461) ومسلم (998) من حديث أنس.

(14) مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد

مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد

- اختلاف العلماء في ذلك

مسألة في التسمية على ذَكاةِ الذبيحة وذكاة الصيد، والنزاع فيها مشهور بين السلف والخلف، وقد ذكروا عن أحمد رحمه الله فيها خمسَ رواياتٍ، ذكرها أبو الخطاب في "رؤوس مسائله ". قال أبو الخطاب: متروكُ التسمية لا يَحِلُّ أكلُه، سواء تركَ التسميةَ عامدًا أو ناسيًا. وعنه إن تَركَها عامدًا لم يحلَّ، وإن تركها ناسيًا حلَّتْ. وهو قولُ أبي حنيفةَ والثوري ومالك. وعنه إن سَها على الذبيحة حَلَّ، فأما على الصيد فلا. (قال تقي الدين:) قلت: وأكثر الروايات عن أحمد على هذا، وهي اختيار أكثر أصحابه، كالخرَقي والقاضي وأكثرِ أصحابه والشيخ الموفق. قال: وعنه إن سَهَا على السَّهم حَلَّ، وأما على الكلب والفهد فلا. وقال الشافعي: يَحِلُّ أكلُه سواء تركَها عامدًا أو ساهيًا، وعن أحمد بنحوه. ونَصرَ أبو الخطاب التحريمَ مطلقًا. (قال الشيخ تقي الدين:) وهذا هو الصواب، فإني تدبَّرتُ نصوصَ الكتاب والسنة فوجدتُها متظاهرةً على إيجاب التسمية واشتراطِها في الحلِّ، وتحريمِ ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه، وكلَُّ نصًّ منها يوافق الآخر، مع كثرة النصوص وصراحتها في الدلالة، ولم أجدْ شيئًا يَصلُح أن يُقارِبَ معارضةَ هذه النصوص، فضلاً عن أن يُكافِئَها أو يرجحَ عليها. ولو لم يكن إلا نصّ سالم عن المعارِض المقاومِ لَوجبَ العملُ به، فكيف مع كثرتها وقوةِ دلالتها وعدمِ معارضِها.

- الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة

قال الله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)) (1). فقد أمر سبحانه بالأكل مما ذُكر اسم الله عليه، وعلَّق ذلك بالإيمان، وأنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله عليه، ونهى عن أكل ما لم يُذكر اسمُ الله عليه، وقال: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) كما قال فيما أُهِلَّ به لغير الله في قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) (2). فقد ذكر تحريم ما أُهِلَّ لغيرِ الله به في أربعة مواضع كما ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. وقال تعالى فيما ذمَّ به المشركين: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (3). وقال تعالى في المائدة (4): (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) إلى قوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) إلى قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا

_ (1) سورة الأنعام: 118 - 121. (2) سورة الأنعام: 145. (3) سورة الأنعام: 138. (4) الآيتان: 3، 4.

أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ). فهذه خمس آيات في التسمية. وفي الصحاح والمساند حديثُ عدي بن حاتم الذي اتفق العلماء على صحته، وتلقَّتْه بالقبول تصديقًا وعملاً به، ففي الصحيحين (1) عن إبراهيم النخعي عن همّام بن الحارث عن عَدِيّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إني أُرسِل الكِلابَ المعلَّمةَ فَيُمسِكْن عليَّ وأذكُر اسمَ الله، فقال: "إذا أرسلتَ كلبك المعلَّمَ وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ ما أمسكَ عليك "، قلت: وإن قتلنَ؟، قال: "وإن قَتلنَ، ما لم يشركها كلبٌ ليس منها". قلتُ: فإني أَرمِي بالمِعراضِ الصيدَ فأُصيبُ، فقال: "إذا رميتَ بالمِعراضِ فخَرَقَ فكُلْهُ، وإن أصابَه بعَرْضِه فلا تأكُلْه ". وفي الصحيحين (2) عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي سمعتُ عديَّ بن حاتم قال: سألتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المِعراضِ، فقال: "إذا أصابَ بحدِّه فكُلْ، وإذا أصاب بعَرْضه فقتلَ فإنه وَقِيذٌ فلا تأكل "، قال: قلتُ: إني أُرسِلُ كلبي، قال: "إذا أَرسلتَ كلبك وذكرتَ اسمَ اللهِ فكُلْ "، قال: قلتُ: فإن أكلَ منه؟ قال: "فلا تأكُلْ، فإنما أمسكَ على نفسِه ولم يُمسِك عليك ". قال: قلت: أُرسِلُ كلبي وأجدُ معه كلبًا آخر، قال: "لا تأكُل، فإنما سمَّيتَ على كلبِك ولم تُسَمِّ على الآخر".

_ (1) البخاري (7397) ومسلم (1929). (2) البخاري (5486) ومسلم (1929/ 3).

- وجوه الدلالة من حديث عدي بن حاتم

وفي الصحيحين (1) أيضًا عن عديّ قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أرسلتَ كلبَك فاذكُر اسمَ الله عليه، فإن أمسكَ عليك فأدركتَه حيًّا فاذبَحْه، وإن أدركتَه قد قتلَ ولم يأكل منه فكُلْ، فإن وجدتَ مع كلبك كلبًا غيرَه وقد قتل فلا تأكلْه، فإنك لا تَدري أيّهما قَتَلَه. وإن رميتَ بسَهْمِك فاذكر اسمَ الله، فإن غابَ عنك يومًا فلم تَجدْ فيه إلا أثرَ سَهْمك فكُلْ إن شِئتَ، وإن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكُلْهَ ". وفي لفظ البخاري (2): قلت: يا رسولَ الله، أُرسلُ كلبي وأُسمِّي، فأجدُ معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسمِّ عليه، ولا أَدري أيُّهما أخذَ، قالَ: "لا تأكلْ، إنما سمَّيتَ على كلبك، ولم تُسَمِّ على الآخر". قوله: "فأدركتَه حيّا فاذبَحْه" من أفراد مسلم، وزادَ غيرُه بإسنادِه الصحيح: "فإن أدركتَه ولم يقتلْ فاذبَحْ واذكُر اسمَ الله". فهذا فيه الدلالة من وجوهٍ عديدةٍ: أحدُها: قول عديّ أولاً: "إني أُرسلُ كِلابي المعلَّمةَ فيُمسكنَ عليَّ وأذكُر اسمَ الله"، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أرسلتَ كلبكَ المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله عليه"، وقوله: "إنما سمَّيتَ على كلبك" دليلٌ على أن عديا فهمَ من قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) (3) أنه أمرٌ من الله بذكرِ اسمِه

_ (1) البخاري (5486) ومسلم (1929/ 6). (2) البخاري (5486). (3) سورة المائدة: 4.

على الصيد، لم يُرِد به مجردَ ذكرِ اسمِه عند الأكل، كما ظن ذلك بعضُ الناس. (ثم قال:) فيقال: حديثُ عدي بن حاتم سؤالُه وجوابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدل على التسمية عليه على الصيد حينَ الاصطياد، وإن كانت التسمية عند الأكلِ مأمورًا بها أيضًا وجوبًا أو استحبابًا، على قولين معروفين لأصحابنا وغيرهم. لكن التسمية حينَ الاصطياد مأمورٌ بها في الآية قطعًا، كما دلىَّ عليه حديثُ عديّ، مع أن ظاهر القرآن يدل على ذلك أيضًا، وهذه من أدلة القرآن، فإن الضمير في قوله: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) ضميرٌ عائد على "ما" في قوله: (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، أي: واذكُروا اسمَ الله على ما أمسكن. وذِكرُ اسمِ الله على ما أمسكنَ هو ذِكرُه على الصيد حينَ الاصطياد، كما يقال: ذكر اسم الله على الذبيحة أي حينَ الذبح، وهو ذكر اسمه على الكلب حين الإرسال، كما في الحديث: "فإنك إنما سميتَ على كلبك ولم تُسَمِّ على غيره ". وأما إذا سمَّى على الكلبِ وأرسلَه، فعند إرسال الكلب له يكون صاحبُه بعيدًا عنه، وقد لا يراه، فلا يُؤمَر حينئذ بالتسمية. ولم يَقُلْ أحدٌ من أهل العلم أن ذِكْرَ اسمِ الله على ما أمسكن هو مخصوصٌ بهذه الحال. وأيضًا فإنه لم يتقدَّم اسمٌ يَصلُح أن يعودَ الضمير إليه إلا "ما أمسكن "، وأما الأكلُ فلم يتقدم اسمُه، وإنما تقدم قولُه: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ). وقد يعود الضمير إلى الاسم الذي دل عليه الفعل، كما في قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) (1)،

_ (1) سورة آل عمران: 180.

لكن ذاك يكون إذا لم يكن هناك ما يعودُ الضمير إليه إلا ما دلَّ عليه الفعل من الاسم لعدمِ اللبس، وأما إذا كان الاسمُ هو القريب إلى الضمير فهذا يترجَّحُ عودُه إليه دون الاسم الأبعد، فكيف إذا كان الأبعد فعلاً؟ وأيضًا فالقرآن حيث أُمِرَ فيه بذكر اسمِ الله على ما ذُكِّي فإنما هو حين التذكية، كسائر الآيات، وإنما ذمَّ مَن تركَ ذِكْرَ اسمِه عليها حينئذٍ، كما قال: (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) (1)، فالذي ذَمَّ به المشركين على تركِه أمرَ المؤمنين بفعلِه. وهذه الدلالة من حديث عدي هي دلالة القرآن، لكن حديث عديّ قرَّرها وطابَقها. الثاني: أنه قال في بعض طُرقه: "إذا أرسلتَ كلبَك فاذكر اسم الله عليه "، فأمرَ بذلك، وأمرُه للوجوب. الثالث: أنه قال أيضًا: "إذا رَميتَ بقوسك فاذكر اسمَ الله ". الرابع: أنه قال: "إن أدركتَه ولم يُقتَل فاذبَحْه واذكُر اسمَ الله ". الخامس: أنه قال: "إذا أرسلتَ كلبك المعلَّم وذكرتَ اسم الله فكُلْ ما أمسك عليك ". فشَرَطَ في الأكل أن يذكر اسمَ الله، كما اشترطَ أن يكون الكلبُ معلَّمًا، وأن يُمسِكَ عليه. وهذه الشروط الثلاثة المذكورة في القرآن. السادس: أنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أُرسِل كلبي وأسمِّي،

_ (1) سورة الأنعام: 138.

فأجدُ معه على الصيد كلبًا اَخر لم أُسمِّ عليه، ولا أدري أيُّهما أخذ. قال: "لا تأكلْ، فإنك إنما سميتَ على كلبك، ولم تُسَمَ على الآخر". فنهاه عن أكلِ ما شكَّ في تذكيته، وعلَّلَ ذلك بأنك إنما سمَّيتَ على كلبك ولم تُسَمِّ على الآخر، فجعلَ المانعَ من حِلِّ صَيدِ الكلب الآخر تركَ التسمية، كما جَعلَ فِعلَ التسمية علةً لحِل صيدِ كلبه. وهذا من أصرح الدلالات وأبينها في جَعْلِه وجودَ التسمية شرطًا في الحِلِّ، وعدمَ التسميةِ مانِعًا من الحِلِّ، ولم يُفرِّقْ بين أن يتركَها ناسِيًا أو غيرَ ناسِ، مع أن حالَ الاصطياد حال قد يدهَشُ الإنسانُ ويَذْهَلُ عن التسَميةِ فيها، وإذا لم يعذره في هذه الحال بتركِ التسمية فأن لا يَعذرَه بذلك في حالِ الذبح وهو أحضرُ عقلاً= أولى وأحرى. السابع: أنه كرَّر علية ذِكرَ التسمية حينَ إرسالِه الكلبَ، وحينَ إرسالِه السهمَ، وعند منعِه من أكلِ ما خالطَ كلبَه كلب لم يُسَمِّ عليه، وعند ذبحِه. وهذا كلُّه يدلُّ على اعتناء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتسمية على الذكاة بالذبح والسَّهم والجارح، وأنه لا بدَّ منها في الحلّ، وأن انتفاءَها يُوجبُ انتفاءَ الحلِّ. وهذا في غاية البيان من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي ليس عليه إلا البلاغ المبين، وبدون هذا يَحصُلُ البيان الذي تقومُ به الحجَّةُ على الناس. وأيضًا حديث أبي ثعلبةَ الخُشَني (1) - وهو في الصحاح والسنن

_ (1) أخرجه البخاري (5478، 5488، 5496) ومسلم (1930) وأحمد (4/ 195) وأبو داود (2855) والترمذي (1560) والنسائي (7/ 181) وابن ماجه (3207).

والمساند أيضًا، وعلى حديثه وحديثِ عديّ يدورُ بابُ الصَّيد، وعليهما اعتمدَ الفقهاءُ كلُّهم- قال: أتيتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلتُ: إنّا بأرضِ قوم من أهلِ الكتاب نأكلُ في آنيتهم، وأرضِ صيدٍ، أَصِيدُ بقَوسِي، أصيدُ بكَلبي المعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم، فأخبرني ما الذي يَحلُّ لنا من ذلك؟ فقال: "أما ما ذكرتَ أنكم بأرضِ قومٍ من أهلِ الكتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غيرَ آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدَوا فاغسلوها ثم كلوا فيها. وأما ما ذكرتَ أنكم بأرضِ صيدٍ، فما أصبتَ بقوسِك فاذكر اسمَ الله ثم كُلْ، وما أصبتَ بكلبك المعلَّم فذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما أصبتَ بكلبك الذي ليس بمعلَّم وأدركتَ ذكاتَه فكُل ". وفي لفظ البخاري: "ما صِدْتَ بقوسِك وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلبك المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ ". فهذا أبو ثعلبة يسأله، يقول له: أخبرني ما الذي يحلُّ من ذلك؟ فلم يُحِلَّ له إلا ما ذكَر اسمَ الله عليه في الاصطياد بقوسه وفي الاصطياد بكلبه، ولم يَستَثن حالة نسيانٍ ولا غيرها، وهذا من أًبْينِ الدلالةِ على أنه لا يحلُ له إلا ذلك، إذ لو كان يَحِلُّ ما ترك التسمية عليه خطأً أو عمدًا لم يكن ما ذكره جوابه، بل كان الجواب إذَنْ إحلالَ ذلك كله أو إحْلالَ ما سُمِّي عليه وما نسي التسمية عليه، كما أن المستفتي لمن يُحِلُّ هذا من الفقهاء يُجيبُه بجواب يُخالِف جوابَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ثعلبة، وهذا دليلٌ على خطأ ذلك الجوًاب. وبهذين الحديثين ونحوهما احتج من أوجبَ التسميةَ على الصيد دون الذبيحة في حالِ الخطأ من أصحابنا، قال: لأن هذه النصوص

صريحةٌ في اشتراطِ ذلك، ولم يَردْ مثلُ ذلك في الذبيحة. وقالوا: لأن تذكية الذبيحة تذكية اختيار، فلم تَحتَجْ إلى اقترانها بالتسمية كتذكية الصيد، فإنها تذكيةٌ ضرورية وقعتْ رخصةً، فلا بُدَّ أن تكملَ بالتسمية، ولهذا لا يجوز تذكية المقدور عليه من الصيد والأهلي إلا في الحلق والَّلبَّة. وبهذا فرَّق من اشترطَها في الكلب دون السهم، لأن التذكية بالسهم يَحصُل بفعل الاَدمي، بخلاف التذكية بالجارح، فإنها تَحصُل بفعلِ الجارح، فكانت أضعف. لكن ما ذكروه يُعارِضه أنكم تُوجبونَها على الذبيحة، ولكن عذرتم الناسيَ بعذرِ النسيان، والصائد أولىَ بالعذر من الذابح، لما يَحصُل له من العذر والدَّهَش الذي يُوجِب له النسيانَ. (ثم قال:) وذكاةُ السهم والكلب ذكاةٌ تامَّةٌ يَحصلُ بها الحِلُّ التامُّ، كما أن صلاةَ الخائف والمريض تَبْرَأُ بها ذِمّتُه، فإن الله إنما أوجبَ على الناس ما يستطيعون، ولما كان المعجوز عنه من الحيوان لا يمكنُ تذكيتُه إلا على هذا الوجه لم يُوجِب الله ما يَعجزون عنه. ولهذا كانت ذكاةُ الجنين عندنا ذكاةَ أمِّه كما مضتْ به السنة، وإن لم يكن في ذلك سَفْح دَمِه، إذ لا يمكن تذكيتُه إلا على هذا الوجه، ولا يكفَف الله نفسًا إلا وُسْعَها. ولهذا قلنا: إذا أدركَ الصيدَ مجروحًا ولم يتسع الزمانُ لتذكيتِه أُبِيحَ، ونظائرُ ذلك. وأيضًا ففي الصحاح والسنن والمساند عن رافع بن خَدِيْج (1) قال:

_ (1) أخرجه البخاري (5543) ومسلم (1968) وأحمد (3/ 463، 464، 4/=

كنّا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي الحُلَيفة من تِهامةَ، فأصاب القومَ جِوع، فأصابوا إبلاً وغنمًا، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أُخرياتِ القوم، فعجَّلوا وذبَحُوا ونَصَبُوا القدور، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقُدورِ فأكفِئَتْ، ثمّ قَسَمَ فَعَدَلَ عشرةً من الغنم ببعيرٍ، فنَدَّ منها بعير، فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجلٌ منهم بسهمٍ، فحبَسَه الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لهذه البهائم أَوَابِدَ كأوًابِدِ الوحشِ، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا". قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إنا لاَقُو العدوّ غدًا وليستْ معنا مُدًى، أفنذْبحُ بالقَصَب؟ قال: "ما أَنْهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكُلُوه، ليسَ السِّنَّ والظفًر. وسأحدِّثكم عن ذلك، أما السِّنُّ فعَظْم، وأما الظفُر فمُدَى الحبشةِ". وهذا الحديث أيضًا تلقَّا [هُ]، العلماءُ بالقبول، وقد علّق الحلّ فيه بشرطين: بإنْهار الدَّمِ وذِكْرِ اسمِ الله على المذكَّى. فكما أن إنْهارَ الدم شرط فكذلك ذِكرُ اسمٍ الله عليه، وكما أن الذكاةَ بما لا يُنْهِرُ الدمَ لا يُباحُ بحالٍ، بل قد يُعفى عما لا يمكنُ إنْهارُ دمِه، كالجنين في بطنِ أمّه، فيكون ذكاتُه ذكاةَ أمِّه التي أُنْهِرَ دَمُها، وأما ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه فلم يُعفَ عنه. وأيضًا فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبتَ عنه أنه قال للجنّ: "لكم كلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسمُ الله عليه، تجدونَه أوفرَ ما يكون لحمًا، وكلُّ بَعَرَةٍ عَلَف لِدَوَابِّكم" (1)،

_ =140، 142) والترمذي (1491، 1492،1600) والنسائي (7/ 221، 226، 228) وابن ماجه (3137). (1) أخرجه مسلم (450) عن ابن مسعود.

[و]، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تَستنتجوا بهما، فإنهما زادُ إخوانكم من الجن " (1). فماذا كان لم يُبَحْ للجنّ المؤمنين من الطعام الذي يَصلُح للجن- وهو ما يكون على العظام- إلا الطعامُ الذي ذُكِرَ اسمُ الله عليه، فكيف بالإنس الذين هم أكملُ وأعقلُ، وهم الذين يتولّون تذكيةَ الحيوانِ، كيف يُباحُ لهم ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه؟ وهذا كما أنه لما نَهَى عن الاستنجاء بطعامِ الجنّ وعَلَفِ دَوَابِّهم، كان النهيُ عن الاستنجاء بطعامِ الإنس وعَلفِ دَوَابِّهم أولى وأحرى. وأيضًا ففي صحيح البخاري (2) وغيره عن عائشة أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتونا باللحم، لا نَدريْ أَذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا، فقال: "سَمُّوا عليه اسمَ الله وكُلُوا". قال: وكانوا حديثي عهد بكفر. وهذا يدلُّ على أنه كان قد استقرَّ عند المسلمين أنه لا بُدَّ من ذِكر اسمِ الله على الذبح، كما بيَّنَ الله ذلك لهم هو ورسولُه في غير موضع، فلما كان هؤلاء حديثي عهدٍ بالكفرِ خافوا أن لا يكونوا سَمَّوا، فاستفًتَوا عن ذلك رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرَهم أن يُسَمُّوا هُم ويأكلوا. وذلك لأنَّ من أباحَ الله ذبيحتَه من مسلم وكتابيّ لا يُشتَرط في حِلِّ ذبيحتِه أن أعلم أنه بعينه قد سَمَّى، إذ العلمُ بهذ الشرطِ متعذِّرٌ في غالبِ الأمر، ولو كان هذا العلمُ شرطًا لما أكلَ اللحمَ غالبُ الناسِ، فأجريت أعمالُ الناسِ على الصحة، كما أن من اشتريتَ منه الطعامَ حملتَ أمرَه على الصحة، وأنه إنما باعَ ما لَه بيعُهُ بملكٍ أو ولاية أو وكاله، مع أن كثيرًا من الناس

_ (1) أخرجه الترمذي (18) من حديث ابن مسعود. (2) برقم (5507) و (7398).

يبيعون ما لا يجوز لهم بيعُه. (ثم قال:) ولو لم تكن التسميةُ شرطًا لكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لهم: سواء سَمَّوا أو لم يُسَمُّوا فإنهم مسلمون، أو يقال: لعلَّ أحدَهم نسيَ التسميةَ. فلما أعرضَ عن هذا كلِّه عُلِمَ أنَّ أحدًا لا يُعذَرُ بتركِ التسمية، وإنما يُعذَرُ من لم يعلمِ حالَ المذكِّي، والفرق بينهما ظاهر جدًّا، كما أن المذكّي عليه أن لا يُذكّي إلا في الحَلْقِ واللَّبَّةِ، ومن لم يعلم حالَه له أن يأكلَ ما ذُكِّي حملا لفعلِه على الصحة والسلامة. ثمّ إن وجوبَ تذكية المقدور عليه في الحلق واللَّبَّةِ مما يقول به عامةُ العلماء، وليس في إيجاب ذلك نصٌّ مشهورٌ صريحٌ، بل فيه آثارٌ عن بعض الصحابة، وفيه من الحديث ما ليس بمشهور. ثم إن ذلك جُعِلَ شرطًا على كل قادر، لا يَسقُط إلا بالعجز، فالتسميةُ التي دلَّ على وجوبها النصوصُ الصحيحةُ الصريحةُ أولَى بالإيجاب والاشتراطِ، فإن التذكيةَ في غير الحلقِ واللَّبَّةِ يَحصلُ بها إنهارُ الدم، لكن هو عدولٌ عن أحسنِ القِتْلَتَيْنِ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قَتلتم فأحسِنُوا القِتلَةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنُوا الذِّبحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرتَه ولْيُرِحْ ذبيحتَه " (1). فإذا كان بتَركِ أولى الذِّبحتينِ تَحرُمُ الذبيحةُ، فتَركُ ذِكْرِ اسمِ الله أولى بذلك، لأنَّ هذا هو الفرق بين ذكاةِ أهلِ الإيمان وأهل الكفر، أن هؤلاء يذكرون اسمَ الله على الذكاة، وأولئك لا يذكرون اسمَ الله.

_ (1) أخرجه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس.

- أدلة إيجاب التسمية على الذكاة أظهر بكثير من أدلة وجوب قراءة التسمية في الصلاة

وأدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة، بل من إيجابِ قراءةِ فاتحة الكتاب. (ثم أشار إلى حجة من لم يُوجِب التسمية على الذكاة، وضَعَّفها الشيخ تقي الدين، وأجاب عنها بأجوبة، ثم قال:) التاسع: أن ما لم يُذْكر اسمُ الله عليه كان للشيطانِ فيه نصيبٌ، وذِكْرُ اسمِ الله يَدفعُ الشيطان، كما في الصحيحين (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو أنَّ أحدَهم إذا أتَى إلى أهله قال: "بسم الله، اللَّهمَّ جَنِّبنا الشيطانَ وَجنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنا"، فرُزِق ولدًا، لم يَضُرَّه الشيطانُ ولم يُسَلَّط عليه ". (واستشهد بغيرِ ذلك حذفتُه اختصارًا، لضيقِ الوقت)، والله سبحانه أعلم.

_ (1) البخا ري (141) ومسلم (1434).

(15) مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودهم

مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البرّ وابن آوى وجلودهم

مسألة في أكل لحم الضبُع والثعلب وسِنَّورِ البرّ وابنِ آوَى وجلودِهم، هل يَحلُّ لُبْسُ جلودِ الجميع وأكلُ لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهرُ جلودُهم بالدِّباغ؟ الجواب أما لحم الضبع فإنه مباحٌ عند مالك والشافعي وأحمد، وجلدُه يَطْهُر بالدباغ في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك في روايةٍ وأحَمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أصحُّ قولَي العلماء. هذا إذا دُبِغ بعد موته، وأما إن ذُكِّيَ ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الأئمة. وأما سِنَّور البرّ والثعلب ففي حِلِّهما قولان هما روايتان عن أحمد، أحدهما: يَحِلُّ، فيكون جلدُه طاهرًا إذا ذُكِّي، وهذا مذهب مالك والشافعي، وعلى هذا القَول فإذا ماتَ ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك. والقول الثاني: إنهما محرَّمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وعلى هذا فإذا ذُكِّي كان جلدُه طاهرًا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلدُه يَطهر بالدباغ إذا مات عَند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاَهرُ مذهبِه أنه لا يَطهر. وأما ابن آوى فإنه حرامٌ عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلدُه يَطهر بالدباغ عند أبي حنيفة والشافعي ووجه في مذهب أحمد، وظَاهرُ مذهبه أنه لا يطهر بالدباغ.

- ما ثبت أنه من السباع - كالنمر وابن آوى وابن عرس - فلا يحل لحمه، ولا تلبس الفراء من جلده، وما لم يكن من السباع - كالضبع - فإنه يؤكل لحمه ويلبس جلده

وأما القول الذي يقوم عليه الدليلُ فإنه قد رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنن (1) من وجوهٍ أنه نَهَى عن جلودِ السباع كما ثبتَ أنه حَرَّم لحمَها، فما ثبتَ أنه من السِّباع- كالنَّمِر وابن آوَى وابن عِرْسٍ - فلا يَحِلُّ لحمُه ولا تُلْبَسُ الفِرَاءُ من جلدِه، وما لم يكن من السِّباع المحرَّمة- كالضَّبُع- فإنه يُؤكَلُ لحمُه ويُلْبَسُ جلدُه. وأما الثعلبُ وسِنَّور البرّ ففيه نزاعٌ. والله أعلم.

_ (1) أخرجه أبو داود (4131، 4132).

(16) مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد؟

مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد؟

- نعم يجوز بيعها

مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعُها دون الجلد أو الجلد وحدَه؟ جواب الشيخ تقي الدين ابن تيمية ورأيه فيه نعم، يجوز بيعُها جميعًا، كما يجوز بيعُ ذلك قبلَ الذبح. وإلى هذا ذهب جماعةُ علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين، وما زال المسلمون يبيعون المذبوح من الطيور والبهائم في كل عصرٍ ومصرٍ. وإنما حَرَّم ذلك بعضُ متأخري الفقهاء، ظانا أنّ هذا من باب بيع الغائب بدون صفةٍ ولا رؤيةٍ، وليس كذلك، بل المشتري يعلم ما يشتريه برؤية ما يراه كما يَعلم نظائرَه، وكما يعلم إذا رأى الجلد منفردًا وإذا رأى اللحم منفردَّاَ، كما يعلمه إذا رآه حيَّّاَ. (ثم قال:) ومن فرَّقَ بين الحيوان الحيّ والمذبوح بأن الحيَّ في صوانه بخلاف الميت، كما يفرّق في الباقلاّ ونحوه بين بيعِه في القِشر الأعلى والصّوان. لكن هذا الفرق ضعيف مخالفٌ للسنة ولإجماع السلفِ والاعتبار. (ثم قال:) ولما فتح المسلمون الأمصار كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشرُون الباقلاّ الأخضر ونحو ذلك، ولم ينكر ذلك منكرٌ. وكذلك يجوز بيعُ اللحم وحدَه والجلدِ وحدَه. وأبلغُ من ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا سافر هو وأبو بكر في سفرَ الهجرة اشتريَا من رجلٍ شاةً، واشترطَا له

رأسَها وجلدَها وسَوَاقِطَها (1). وكذلك أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتبايعون الشاةَ أو البقرةَ أو البعيرَ ويَستثنون للبائع سواقطَها، حكاه الشعبي عن الصحابة مطلقًا، وأفتَى به زيد بن ثابت وغيرُه من الصحابة، وجوَّزه مالك وأحمد وغيرهما. فإذا كان الصحابة جوَّزوا هذا فهذا أجوزُ. والله أعلم.

_ (1) أخرجه ابن حزم في المحلى (8/ 403) عن عروة بن الزبير، وأعله بعدة علل.

(17) مسألة في إجارة الإقطاع

مسألة في إجارة الإقطاع

- إيجار الإقطاع صحيح

سئل- رحمه الله تعالى ورضي عنه- عن إجارة الإقطاع هل هي صحيحة أم باطلة؟ وقد ذُكِر في مذهب الشافعي قولانِ، وفيهم من حكم به. فأجاب الحمد لله. إيجار الإقطاع صحيح، كما نصَّ على ذلك غير واحدٍ من العلماء، وما علمتُ أحدًا من علماء المسلمين قال: إنه لا يَصحُّ، لا من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ومن أفتى بأنه لا يصحُّ من أهل زماننا فليس معهم بذلك نقل، لا عن أحدٍ من الأئمة الأربعة ولا غيرِهم من المسلمين، وإنما عُمدتهم في ذلك أن بعضَ شيوخهم كان يُفتِي بأنه لا يصحُّ. وحجتهم أن المُقْطِع لم يملك المنفعةَ، فبَقِي المستأجرُ لم يملك المنفعة، فتكون الإجارةُ مزلزلةً، فلا تجوز، كما لو آجَرَ المستعيرُ العينَ المعارة. والكلامُ في مقامين: أحدهما أنه ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر العام الذي ما زال المسلمون عليه خَلَفًا عن سلف، بل إذا عَرَضَتْ له شبهةٌ في ذلك كانت من جنس شبهة أهل الضلال القادحين في الشرع، وكثير منها أقوى من هذه الشبهة. والجواب عنها من وجهين: أحدهما: أن العين المُعَارة في إجارتها نزاع، وإذا أَذِنَ المالك في إجارتها جاز، والسلطانُ المُقطع قد أَذِنَ لهم أن ينتفعوا بالقطع بالاستغلال والإجارة والمزارعة.

الثاني: أن هذه المنافع ليست كالعارية، فإن السلطان لا يملك هذه المنافع، بل هي حقّ للمسلمين ومِلْكٌ لهم، وإنما السلطان قاسم يَقسِم بينهم تلك المنافع، فيستحقونها بحكم المِلْكِ لها والاستحقاق لا بحكم الإباحة، كما يستوفي أهل الوقف منفعةَ وقفهم. والموقوف عليه إذا آجَر الموقفَ جاز، وإن كانت الإجارة تنفسخ بموتِ الموقوف عليه عند جمهور العلماء، فإن البطن الثاني يتلقى الوقف عن الواقف لا عن البطن الأول، بخلاف الميراث. فلهذا كان جمهور العلماء على أن الإجارة لا تنفسخُ بموت الميت الذي تنتقل العينُ إلى وارثه، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول بانفساخها، لأنّ من أصلِه أن المستأجر لم يملك المنفعةَ، وإنما ملكَ أن يملكها بالاستيفاء، فيقول: إن المنفعة لم تخرج عن ملك الميت، بل تحدثُ على ملك الوارث، ومع هذا فهو يقول: لو باعَ العينَ المؤجرة لم يجز، لأن المنفعة للمستأجر، لأن المؤجر لا يملك فسخ الإجارة. وأما جمهور العلماء فعندهم لا تنفسخ بالموت، سواء قيل: إن المستأجر ملك المنفعةَ أو ملك أن يملكها، وأن الوارث لم ينتقل إليه منفعةُ العين المؤجرة. وأما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه فهنا تنفسخ في أظهر قولي العلماء، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، لأن البطن الأول ليس له ولايةُ التصرُّفِ في حقّ البطن الثاني إلا أن يكون المؤجر ناظرا له الولايةُ على البطنين. فكذلك الإقطاع، إذا قُدِّر أن المُقْطع ماتَ أو أُخِذ منه الإقطاع كان كالموقوف عليه تنفسخ الإجارة عند الجمهور، ويبقى زرع المستأجر محترمًا، يبقيه بأجرة المثل إلى

- الإجارة جائزة بالنص والإجماع في مواضع متعددة

كمالِ بلوغه، كما يقال مثل ذلك في الوقف، وليست إجارة المقطع الأوّل لازمةً للثاني كالبطن الأول مع الثاني. وليس في الأدلة الشرعية ما يُوجب أن الإجارة لا تصحُّ إلا في منفعةٍ تمنعُ انفساخَ الإجارة فيها، بل يجوز إجارة الظئرِ للرضاع بالكتاب والسنة والإجماع، مع جواز أن تموت المرأة فتنفسخ الإجارة بالإجماع، وكذلك إذا مات الطفل انفسخت عند الأكثرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، وقد قيل: لا تنفسخ، بل يُؤتَى بطفلٍ اَخر مكانه. والأول أصح، لأن الإجارة على عينه، ولو تَلِفَت العين المؤجرةُ كالعبد والبعير انفسخت الإجارة بالإجماع. وأمثال ذلك كثيرة. فالإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة، مع إمكان انفساخ الإجارة في أثناء المدة، فمن اشترط فيها امتناع الانفساخ فقد خالف النصّ والإجماع. وليس مع من يقول: لا تصحُّ إجارة الإقطاع نقلٌ عن أحدٍ من العلماء الذين يُفتي الناس بأقوالهم، لا من أتباع الأئمة الأربعة ولا غيرهم، فكيف يَسُوغ لأحدٍ أن يقول قولاً لم يُستق إليه؟ سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا. وغاية حجته قياس ذلك بالعارية لكونها بعرض الانفساخ، والحكم في العارية بتقديرِ تسليمه ليست علتُه كونَه بعرض الانفساخ، ولكن العلة فيه أن المستعير لا يملك المنفعة إلا بالقبض والاستيفاء، ليس له أن يُعاوضَ عليها، كما لا يعاوض على ما لم يملكه، لأن التبرعات لا تُملَك إلا بالقبض عند من قال ذلك. ولهذا يجوز إجارة المستأجر وإن جاز أن تنفسخ الإجارة، والمُقطَع

بالمستأجر والموقوفِ عليه أشبهُ منه بالمستعير، لأنه يأخذ حقَّه وعِوَضَ عمله. فإن قلت: كيف يُدَّعى الإجماعُ وفي أصل الإجارة نزاع؟ قلتُ: النزاع المحكيُّ فيها عن بعض السلف في إجارة الأرض، وأما إجارة الظِّئْر والحيوان للركوب ونحو ذلك فلم يخالف في ذلك أحد من سلف المسلمين، فإن خالفَ في ذلك أحد من الملاحدة فهو مسبوقٌ بالإجماع المستند إلى النصّ. والله أعلم.

(18) مسألة في ضمان البساتين والأرض

مسألة في ضمان البساتين والأرض

- فيها ثلاثة أقوال

مسألة في ضمان البساتين والأرض التي فيها الشجرُ أو النخيلُ قبلَ أن يَبدُوَ صلاحُه، هل يجوز ضمانُه السنةَ والسنتين أم لا؟ جواب الشيخ تقي الدين ابن تيمية هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، بناءً على أن هذا داخلٌ فيما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الثمر قبلَ أن يَبدُوَ صلاحُه (1)، فاعتقد من قال ذلك أن هذا بيعُ الثمر قبل أن يبدو صلاحُه، فلا يجوز، كما لا يجوز في غير الضمان، مثل أن يشتريَ ثمرةً مجردةً بعد ظهورها وقبلَ بُدُوِّ صلاحِها، بحيثُ يكون على البائع مَؤُونةُ سَقْيِها وخدمتِها إلى كمال الصلاح. وهذا هو القول المعروف في مذهب الشافعي وأحمد، وهو منقول عن نصِّه. ومذهبُ أبي حنيفة في ذلك أشدُّ منعًا. وتنازع أصحابُ هذا القول: هل يجوزُ الاحتيال على ذلك بأن يُؤجر الأرضَ ويُساقِي على الشجر بجزء يسيرٍ؟ على قولين، فالمَنصوص عن أحمد أنه لا يجوز، وذكر القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال الحيل" أنه يجوز، وهو المعروف عند أصحاب الشافعي. (وتكلم الشيخ تقي الدين على فسادها من وجوهٍ، ثم قال:) فمن

_ (1) أخرجه البخاري (2194) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

- (2) إن كانت منفعة الأرض هي المقصودة، والشجر تبع، جاز أن يؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجر تبعا

فعلَ ذلك وجبَ على وُلاةِ الأمرِ الحجرُ عليه، فضلاً عن إمضاء فعلِه والحكمِ بصحتِه. (ثم قال:) والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة. (ثم قال بعد استدلال وتنفيرٍ عن هذا الفعل وتقبيحه:) القول الثاني في أصل المسألة: إنه إن كان منفعة الأرض هي المقصود، والشجرُ تبعٌ، جاز أن يُؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجرُ تَبعًا. وهذا مذهب مالك، وهو يقدر التابع بقدر الثلث. وصاحب هذا القول يُجوِّز من بيع الثمر قبلَ بدوِّ الصلاح ما يدخلُ ضمنًا وتبعًا، كما جاز إذا ابتاع نخلةً بعد أن تُؤَبَّر أن يشترطَ المبتاعُ ثمرتَها، كما ثبتَ ذلك في الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمبتاعُ هنا قد اشترى الثمر قبلَ بدوِّ صلاحِه لكن تبعًا للأصل، وهذا جائزٌ باتفاق العلماء، فيقيس ما كان تبعًا في الإجارة على ما كان تبعًا في البيع. والقول الثالث: إنه يجوز ضمانُ الأرض والشجر جميعًا، وإن كان الشجر أكثر. وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قبَّل حديقةَ أُسَيد بن حُضير ثلاثَ سنين، وأخذَ القبالةَ فوفَى بها دَيْنَه. روى ذلك حَرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في "مسائله " المشهورة عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي وغيرهما، وهو معروف عن عمر. والحدائق التي بالمدينة يَغلِبُ عليها الشجرُ.

_ (1) البخاري (2204، 2716 ومواضع أخرى) ومسلم (1543) عن ابن عمر.

- بيان أن هذا الضمان ليس فيما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال حرب الكرماني: ثنا سعيد بن منصور، ثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أُسَيد بن حُضَير توفي وعليه ستة آلاف درهم دَين، فدعا عمر بن الخطاب غُرَماءَه، فقبَّلَهم أرضَه سنين، وفيها الشجرُ والنخلُ. وقد ذكر هذا الأثر عن عمرَ بعضُ المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه خلافُ الأجماع. وليس بشيء، بل ادّعاءُ الإجماع على جواز ذلك أقرب، فإن عمر فعلَ ذلك بالمدينة النبوية بمشهدِ من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظِنَّة الاشتهار، ولم يُنقَل عن أحدٍ أنه أنكرها، وقد كانوا يُنكِرون ما هو دونَها وإن فعلَه عمر، كما أنكر عليه عمران بن حُصَين وغيرُه ما فعلَه في متعة الحج. وإنما هذه القضية بمنزلة توريثِ عثمان بن عفان لامرأةِ عبد الرحمن بن عوف التي بَتَّها في مرض موته، وأمثال هذه القضية. والذي فعلَه عمر بن الخطاب هو الصواب، أو، إذا تدبر الفقيهُ أصولَ الشريعة، تبيَّن له أن مثل هذا الضمان ليس داخلاً فيما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا يظهر بأمور: أحدها أن يقال: معلوم أن الأرض يُمكنُ فيها الإجارةُ، ويُمكنُ فيها بيعُ حَبِّها قبلَ أن يشتدَّ، ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهى عن بيع الحبِّ حتى يَشتدَّ (1) لم يكن ذلك نهيَا عن إجارة الأرض، فإن كان مقصودُ

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 221، 250) وأبو داود (3371) والترمذي (1228) وابن ماجه (2217) من حديث أنس بن مالك.

المستأجر هو الحبّ فإن المستأجر هو الذي يَعمل في الأرض حتى يَحصُلَ له الحب، بخلاف المشتري، فإنه يشتري حَبًّا مجردًا، وعلى البائع تمامُ خدمتِه حتى يستحصِدَ. وكذلك نهيُه عن بيع العنبِ حتى يَسْوَدَّ (1)، ليس نهيًا عن أن يأخذ الشجر، فيقوم عليها ويَسقيها حتى تُثْمِر، وإنما النهي لمن اشترى عِنَبًا مجرَّدًا، وعلى البائع خدمتُه حتى يكتملَ صلاحُه، كما يفعلُه المشترون للأعناب التي تُسمَّى الكُرُوم. ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونَها حتى يبدوَ صلاحُها، بخلاف التضمين. الوجه الثاني: أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائزٌ عند فقهاء الحديث، كأحمد وغيره مثل ابن خزيمة وابن المنذر، وهي أيضًا عند ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعدٍ وغيرهم من الأئمة جائز، كما دلَّ على جواز المزارعة سنةُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماعُ الصحابة من بعدِه. والذين نَهَوا عنها ظنُّوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارةً بعوضٍ مجهول، وذلك لا يجوز. وأبو حنيفةَ طردَ قياسَه، فلم يُجوِّزْها بحال. وأما الشافعي فاستثنى ما تَدعُو إليه الحاجةُ، كالبياض إذا دخلَ تبعًا للشجرِ في المساقاة. وكذلك مالك، لكن رَاعَى القلةَ والكثرةَ على أصلِه. وهؤلاء جعلوا المضاربةَ أيضًا خارجةً عن القياس، ظنًّا أنها من

_ (1) ضمن الحديث السابق.

باب الإجارة بعوضٍ مجهول، وأنها جُوِّزتْ للحاجة لأن صاحب النقد لا يُمكِن إجارته. والتحقيق أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات لا من باب المؤاجَرات، فالمضاربة والمساقاة والمزارعة مشاركة، هذا يُشارٍك بنفع بدنِه، وهذا بنفع مالِه، وما قَسَمَ اللهُ من رِبْحٍ كان بينهما كشَرِيْكي العنَاَن. ولهذا ليس اَلعملُ فيها مقصودًا ولا معلومًا كما يُقصد ويُعلَم في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجبَ أن يكون العملُ فيها معلومًا. لكن إذا قيل: هي جِعالة كان أشبهَ، فإن الجعالةَ لا يكونُ العملُ فيها معلومًا، وكذلك في كل عقد جائزٍ غيرِ لازمٍ، لكن هي جعالة شرطَ فيها للعامل جزءا مما يَحصلُ بعمله. كما إذا قال الأميرُ في الغزوِ: مَن دَلَّ على مالٍ للعدوِّ فله الرُّبُعُ بعد الخمس، أو الثلث بعد الخمس، فإن هذا جائز. (ومَثَّلَ بغير هذا في جوابه، ثم قال:) والذي نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الثمرةِ ليس للمشتري في حصوله عمل أصلاً، بل العملُ كفُه على الباَئع، فإذا استأجرَ الأرض والشجر حتى حَصَلَ له ثمرٌ وزرعٌ كان كما إذا استأجر الأرضَ حتى يَحصُل له الزرعُ. الوجه الثالث: أن الثمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجرَ لينتفعَ أهلُ الوقف بممرِها، كما يقف الأرضَ لينتفع أهلُ الوقف بغَلَّتِها. (ثم تكلَّم كلامًا طويلاً في المعنى وضربَ أمثلةً، ثم قال:)

فإن قيل: ابنُ عقيل جوَّز إجارةَ الأرض والشجر جميعًا لأجل الحاجة، وسلك مسلكَ مالكٍ، لكنْ مالك اعتبرَ القلَّةَ في الشجر، وابنُ عقيل عَمَّم، فإن الحاجةَ داعية إلى إجارة الأرض التي فيها شجر، وإفراده عنها بالإجارة متعذِّرٌ أو متعسِّر لما فيه من الضرر، فجوَّز دخولَها في الإجارة، كما جوَّز الشافعي دخولَ الأرض مع الشجر تبعا في باب المساقاة. ومن حجة ابن عقيل أن غايةَ ما في ذلك جواز بيع ثمر قبلَ بدوِّ صلاحِه تبعًا لغيره لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنصّ والإجماع فيما إذا باعَ شجرًا وعليها ثمر بادٍ، كالنخل المؤبَّر إذا اشترط المبتاع، فإنه اشترى شجرًا وثمرا قبلَ بدوِّ صلاحِه. وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس، وأنه جائز بدون الحاجةِ حتى مع الانفراد. قيل: هذا زيادة توكيدٍ، فإن هذه المسألة لها مأخذانِ: أحدهما: أن يُسلَّم أن الأصل يقتضي المنعَ، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في نظائره. والثاني: أن يُمنَع هذا، ويقال: لا نُسلِّم أن الأصل يقتضي المنعَ، بل نهى النبي فَيِ عن بيع الثمر حتى يبدوَ صلاحُها، فإنه إنما نهى عن بيع لا عن إجارةٍ، فنهيُه لا يتناولُ مثلَ هذه الصورة وأمثالَها من أنواع إلاجارة، لا لفظًا ولا معنى. أما اللفظ فإن هذا لم يبعْ ثمرةً قبلَ بدوِّ صلاحِها، ولو كان قد باعَ ثمرة لكان عليه مَؤُونةُ التوفية، كما لو باعَها بعدَ بُدوِّ صلاحِها، فإن مَؤُونَةَ التوفية عليه، وهنا المستأجرُ للبستان كالمستأجر للأرض سواء

بسواءٍ إنما يتسلَّم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتى يشتدَّ الزرعُ ويَبدُوَ صلاحُ الثمر، كما يقوم على ذلك العاملُ في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال: إن هذا مشترٍ للثمر فلنَقُلْ: إن المستأجر مشترٍ للزرع، وإن العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة مشترٍ لما يحصلُ من النماء. فإذا كان هذا لا يدخلُ في مسمَّى البيع امتنعَ شمولُ العمومِ له لفظًا. ويمتنعُ إلحاقه بذلك من جهة القياس وشمولِ العموم المعنوي له، لأن الفرقَ بينهما في غاية الظهور، فإن إلحاقَ هذه الَإجارة بإجارة الأرض لاشتراكهما في المساقاة والمزارعة وفي العارية والوقف وغير ذلك مما يجعل حكمَ أحدِهما حُكْمَ الآخر= أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم. فكلُّ من نظرَ في هذا نظرًا صحيحًا سليمًا تبيَّنَ له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تُسمَّى الضمانات، كما تسمِّيه العامةُ ضمانًا، وكما سمّاه السلفُ قبالةً، وليس هو من باب المبايعات، وأحكامُ البيع منتفية في مثل هذا، مثل كون مَؤُونةِ التوفيةِ على البائع، ومثل أنه لو باع الحبَّ بعد اشتدادِه وفرَّطَ في سَقْي الحنطةِ حتى لم يكمل صلاحُها، كان ذلك من ضمانِه ولم يستحقَّ الثمنَ. ولو قَصَّر المستأجرُ للأرض في السَّقْي وغيرِه حتى لم يَنْبُتِ الزرعُ كان ذلك من ضمانِه، لا من ضمانِ المؤجر. وكذلك بائعُ الثمرة إذا لم يَقُم بما يجب عليه من خدمتها حتى لم يكمل صلاحُها كان النقصُ من ضمانه. ومستأجرُ الشجر إذا قَصَّر في خدمتِها حتى لم تُثمِر، أو أثمرتْ ثمرًا ناقصًا، كان ذلك من ضمانه.

- ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع المعدومات

وكل ما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع المعدومات- مثل نهيه عن بيع الملاقيح والمضامين وحَبَلِ الحَبَلَةِ (1)، وهو بيعُ ما في أصلابِ الفحولِ أو أرحام الإناث ونتاج النتاج، ونهيه عن بيع المُعَاوَمة وهو بيع السّنين (2)، وأمثال ذلك- إنما هو أن يشتري المشتري تلك الأعيان التي لم تُخلَق بعدُ، وأصولُها يقومُ عليها البائع، فهو الذي يَستنتجها ويستثمرها، ويُسَلِّمُ إلى المشتري ما يحصلُ من النتاج والثمرة. وهذا هو الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه. وهذا على تفسير الجمهور في حَبَلِ الحَبَلة أنه بيع نتاج النتاج، ومن فسره بتفسير الشافعي أنه البيع إلى نتاج النتاج فإنه يكون إبطالُه لجهالةِ الأجل. وهذه البيوع التي نهى عنها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي من باب القمار الذي هو مَيْسِر، وذلك أكلُ مالٍ بالباطل، وأصحابُ هذه الأصول يُمكِنُهم تأخير البيع إلى أن يخلق الله ما يخلقه من هذه الثمار والأولاد، وإنما يفعلون هذا مخاطرةً مباختةً كفعلِ المقامرين من أهل الميسر. وأما مسألة النزاع فهي من باب الإجارات، فضمانُ البساتين لمن يقوم عليها كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيَزْدرِعُها، واحتكار الأرض لمن يبني فيها ويَغْرِسُ فيها ونحو ذلك. وأيضًا فإن المسلمين اتفقوا على ما فعلَه أميرُ المؤمنين عمر بن

_ (1) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 654) عن سعيد بن المسيب. والنهي عن بيع حبل الحبلة ورد في أحاديث، منها ما أخرجه مسلم (1514) من حديث ابن عمر. (2) أخرجه البخاري (2381) ومسلم (1536/ 85) من حديث جابر بن عبد الله.

الخطاب رضي الله عنه، من ضَرْب الخراج على السَّوادِ وغيره من الأرض التي فُتِحتْ عَنْوةً، سواء قيلَ. إنه يجب في الأرض التي فُتِحتْ عَنْوةً أن تُجعَل فيئًا- كما قاله مالك وهو روايةٌ عن أحمد-؛ أو قيل: إنه يجب قِسْمتُها بين الغانمين- كما قال الشافعي، وهو رواية عن أحمد-؛ أو قيل: يُخيَّر الإمام فيها بين هذا وهذا- كما هو مذهب أبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وغيرهم، وهو ظاهر مذهب أحمد-. فإن الشافعي يقول: إن عمر استطابَ أنفُسَ الغانمين، حتى جعلَها فيئًا وضَرَبَ الخراجَ عليها. فاتفق المسلمون في الجملة على أن وضْعَ الخراج علىْ أرضِ العنوةِ جائز إذا لم يكن فيه ظلمٌ للغانمين. ثم الخراج عند أكثرهم أجرةُ الأرض، وإنه لم يُقدَّر مدةُ الإجارة لعموم مصلحتها، والخراج ضربه على الأرض التي فيها شجر والأرض البيضاء، وضرب على جَريبِ النَّخل مقدارًا وعلى جريب الكَرْم مقدارا، وهذا بعينه إجارةٌ للأرض مع الشجر، فإن كان جواز ذلك على وَفْىِّ القياس فهو المطلوب، وإن كان جوازُ ذلك للحاجة فالحاجةُ داعية إلى ذلك، فإن الناس لهم بساتين فيها مساكن، ولها أجور وافرةٌ، فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاةً ومزارعةً تعطَّلتْ منفعةُ المساكن عليهم، كما في أرض دمشق ونحوها. ثم قد يكون وقفًا أو ليتيم ونحو ذلك، فكيف يجوز تعطيلُ منفعة المساكن المبنية في الحدائق، وقد تكون منفعة المسكن هي أكثرُ المنفعةِ، ومنفعة الزرع والشجر تابعة، فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن، ولا يُمكِن أن تؤجر دون منفعةِ الأرض والشجر، فإن العامل إذا كان غير الساكن تضرَّرَ هذا وهذا تضرُّرًا، الساكنُ يَبقَى ممنوعًا من

- الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها

الانتفاع بالثمر والزرع هو وعيالُه مع كونها عندهم، ويتضررون بدخولِ العامل عليهم في دارِهم. والعاملُ أيضًا لا يَبقَى مطمئنًّا إلى سلامةِ ثمرِه وزرعه، بل يخاف عليها في مغيبه، وما كلُّ ساكنٍ أمينًا، ولو كان أمينًا لم يُؤمَن الضِّيفانُ والصبيانُ والنسوانُ، وهذا كلُّه معلومٌ. فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة (1) - وهي بيعُ الرُّطب بالتمر- لما في ذلك من بيع الربا بجنسِه مجازفةً، وبابُ الربا أشرُّ من باب الميسر، ثم إنه أرخصً في العرايا أن تُباعَ بخَرْصِها لأجل الحاجة، وأمرَ رجلاً أن يبيعَ شجرةً له في ملك الغير- لتضرره بدخوله عليه- أو يَهَبَها له، فلما لم يَفْعَل أمرَ بقَلْعِها (2)، فأوجبَ عليه المعاوضةَ لرفع الضررِ عن مالك العَقار، كما أوجبَ للشريك أن يأخذَ الشِّقصَ بثمنِه رفعًا لضرر المشاركة والمقاسمة- فكيف إذا كان الضررُ ما ذُكِر؟ ومعلومٌ أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها، وأنها تقدِّر خيرَ الخيرين بتفويت أدناهما، وتدفع شرَّ الشرين باحتمال أدناهما، والفساد في ذلك أعظم مما يُظَنُّ من حصولِ ضررٍ ما لأحدِ المتعاوضين، فإن هذا ضررٌ كبير محقَّقٌ. وذاك إن حَصَلَ فيه ضررٌ فهو يسير قليل مشكوك فيه. وأيضًا فالمساقاة والمزارعة يُعتَمد فيها أمانة العامل، وقد يتعذَّر ذلك كثيرًا فيحتاج الناسُ إلى المؤاجرة التي فيها مالٌ مضمونٌ في

_ (1) أخرجه البخاري (2207) من حديث أنس. والبخاري (2381) ومسلم (1536) من حديث جابر. (2) أخرجه أبو داود (3636) من حديث سمرة بن جندب.

- إذا تلفت المنفعة في الإجارة قبل التمكن من استيفائها، وبعد التمكن

الذمة. (ثم قال:) فهذا وجهٌ من وجوهِ جواز المؤاجرة. (ثم قال:) وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تَلِفَتْ قبلَ التمكن من استيفائها، فإنه لا يجب أجرة ذلك، مثل أن يستأجرَ حيوانًا فيموت قبل التمكن من الانتفاع به. وكذلك المبيِع إذا تَلِفَ قبلَ التمكن من قبضه، مثلَ أن يشتري قَفِيزًا من صُبْرَةٍ، فتَتْلفُ الصُّبْرةُ قبل القبضِ والتمييز، فإن ذلك من ضمان البائع بلا نزاعٍ. ولكن تنازعوا في تَلَفِه بعد التمكن من القبض وقبل القبض، كمن اشترى مَعِيبًا وتمكَّن من قَبضِه، وفيه قولان مشهوران: أحدهما أنه لا يضمنه، كقول مالك وأحمد في المشهور عنه، لقول ابن عمر: مَضَتِ السنة أن ما أدركتْه الصَّفَقَةُ حبًّا مجموعًا فهو من مال المشتري. والثاني: يَضْمنه، كقول أبي حنيفة والشافعي، لكن أبو حنيفة يستثني العقار، ومع هذا فمذهبه أن التخلية قبضٌ، كقول أحمد في إحدى الروايتين، فيتقاربُ مذهبُه ومذهبُ مالك وأحمد في المعيَّن ونحوه. وكذلك تنازعوا في الثمر إذا اشتُري بعد بدوِّ صلاحه، فتَلِفَ قبلَ كمالِ صلاحِه، فمذهب مالك وأحمد أنه يتلف من ضمان البائع، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن بعْتَ من أخيك ثمرةً فأصابتْها جائحةٌ، فلا يَحلُّ لك أن تأخذ من مالِ أخَيك شيئًا، لِمَ يأخذُ أحدُكم مالَ أخيه بغيرِ حق؟ ". ومذهب الشافعي المشهور عنه: يكون

_ (1) مسلم (1554) من حديث جابر.

- أصل مسالة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة

في ضمان المشتري، لأنه تَلِفَ بعد القبض. وأما أبو حنيفة فمذهبُه أن التبقية ليست من مقتضى العقد، ولا يجوز اشتراطُها. والأولون يقولون: قبضُ هذا بمنزلةِ قبض المنفعة في الإجارة، وذلك ليس بقبضٍ تامّ يَنقُل الضمان، لأن القابضَ لم يتمكن من استيفاء المعقود عليه. وهذا طَردُ أصلهم في أن المعتبر هو القدرة على الاستيفاء المقصود بالعقد، ولهذا يقولون: لو أن المشتري فرَّطَ في قبض الثمرة بعد كمالِ صلاحِها حتى تَلِفَتْ كانت من ضمانه، كما لو فرَّط في قبض المعيّن حتى تَلِفَ، وهذا ظاهرٌ في المناسبة والتأثير، فإن البائع إذا لم يكن منه تفريطٌ فما يجب عليه. (ثم قال:) ولهذا اتفقوا على مثل ذلك في الإجارة، فإن المستأجر لو فرَّط في استيفاء المنافع حتى تَلِفَتْ كانت من ضمانِه، ولو تَلِفَتْ من غيرِ تفريط كانت من ضمان المؤجر، وفي الإجارة إذا لم يتمكن المستأجرُ من ازدراع الأرض لاَفة حصلتْ لم يكن عليه الأجرة، وإن نَبَتَ الزرعُ ثمَّ حصلت آفةٌ سماوية أتلفَتْه قبل التمكن من حَصادِه ففيه نزاع. (ثم قال:) وأصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمرة قبلَ أن يبدوَ صلاحُها، ونهى عن بيع العنب حتى يَسْودَّ، وعن بيع الحبِّ حتى يَشتدَّ، ولم يَنْهَ عن الإجارة ولا عن المساقاة والمزارعة. فالمساقاةُ والمزارعة نوعٌ من المشاركة، وهي جائزةٌ بسنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وباتفاق أصحابه وبالقياس، ويجوز ذلك على جميع الشجر، ويجوز على الأرض البيضاء والأرض

التي فيها شجر، ويجوز سواء كان البذرُ من ربِّ الأرض أو من العامل أو منهما، بل إذا كان البذرُ من العامَل فهو أولى بالجواز، وهذا الذي عاملَ عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل خيبر، عاملَهم بشَطْر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم. رواه البخاري في صحيحه (1). وكذلًك الصحابة جوَّزوها على هذا الوجه. ومن قال من الفقهاء أن يكون البذرُ فيها من ربِّ الأرض قاسَها على المضاربة، إذ كان المال فيها منَ واحد والعملُ من آخر. وهو قياسٌ فاسدٌ من وجهين: أحدهما: أن المال في المضاربة يعودُ إلى المالك، ويقتسمانِ الرِّبْح، والبذرُ هنا لا يعودُ إلى العامل، فلو كان يجري مجرى المال لوجبَ أن يعودَ نظيرُه إلى صاحبه، فعُلِمَ أنهم جعلوه من باب الأعيان التي تجري مجرى المنافع، كاَلماء الذي تُسقَى به الأرضُ والعَلَفِ الذي تُعلَف به البقر. الوجه الثاني: أنه في المضاربة لو كان من هذا مالٌ والعملُ، ومن هذا مالٌ والعملُ من أحدهما لجاز ذلك في أصحّ قولي العلماء. فيجوز ببدنَيْنِ ومالٍ، ومالٍ وبَدَنينِ، فكذلك يجوز نظيرُه في المساقاة والمزارعة. وكذلك المؤاجرة، لم يَنْهَ عنها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل ما نهى عنه من كِراءِ الأرض ومن المخابرة فهو ما كانوا يفعلونه، وهو أن يشترط ربُّ الأرض زرعَ بُقْعَةٍ بعينها، فهذا لا يجوز. وإذا كانت الإجارةُ

_ (1) برقم (2720) من حديث ابن عمر.

صحيحةً فإنها تصحّ، سواء كانت الأرض تبعًا ليس فيها شجرٌ ولا بناء، أو كان فيها بناء أو بناءٌ وشجرٌ، أو كان فيها بياضٌ أو شجرٌ، أو فيها بناءٌ وبياض، فكلُّ هذا من باب الإجارة لا من باب بيع الثمر قبلَ بدوِّ صلاحها. كما أن الإجارةَ في الأرض البيضاء لمن يَزدرعُها ليس من باب بيع الحبِّ قبلَ أن يَشتدَّ، وذلك أن المبيع هو عينٌ يجب على البائع تسليمُها، فإذا باعَ الثمرةَ أو الحبَّ كان على البائع السَّقْيُ والخدمة وشَقُّ الأرض وغيرُ ذلك، حتى تكمُلَ الثمرةُ والزرعُ. وإذا آجَر أرضًا بيضاءَ أو أرضًا فيها شجرٌ وبياضٌ أو شجرٌ محضٌ كان المستأجر هو الذي يَسْقِي ويَخدِم ويَشُق الأرض، حتى يَحصُلَ الثمرُ والزرعُ بعملِه، كما يَحصُلُ في المساقاة والمزارعة، لكن في المساقاة والمزارعة يستحقُّ جزءًا شائعًا من الثمر والزرع، وفي الإجارة يَستحقُّ جميعَ الثمر والزرع، وعليه الأجرة المسمَّاةُ في ذمته. وإذا استأجر العبدَ أو الأمةَ سواء كانت ظِئْرًا أو غيرَ ظِئْرٍ، فهذا على وجهين: تارةً يستأجرها بأجرةٍ مسمَّاةٍ، وتارةً يَستأجرها بطعامِها وكسوتها بالمعروف، وذلك جائزٌ في أظهر قولَي العلماء. وعلى هذا فإذا استأجر بقرًا أو نوقًا أو غنمًا أيام اللبن بأجرةٍ مسمَّاةٍ وعَلَفُها على المالك، أو بأجرةٍ مسمَّاةٍ مع عَلَفِها على أن يأخذ اللبنَ- جاز ذلك في أظهرِ قولي العلماء، كما في الظِّئر. وهذا يُشبِه البيعَ ويُشبه الإجارةَ، ولهذا يذكره بعضُ الفقهاء في البيع وبعضُهم في الإجَارة. لكن إذا كان اللبن يَحصُل بعَلفِ المستأجر وقيامِه على الغنم فإنه يُشبِه استئجارَ الشجر، وإن كان المالك هو الذي يَعلفُها، وإنما

يأخذُ المشتري لبنًا مقدرا، فهذا بيع محض، وإن كان يأخذُ اللبنَ مطلقًا فهو بيع أيضًا، فإن صاحبَ الغنم يوفيه اللبنَ، بخلاف الظِّئر فإنها هي تَسْقِي الطفل. وليس هذا داخلاً فيما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الغَرر (1)، لأنّ الغرر ما يتردَّدُ بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه لأنه من جنس القِمار الذي هو الميسر، والله حرَّم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل، وذلك من الظلم الذي حرَّمه الله تعالى. (ثم قال:) فأما إذا كان شيئًا معروفًا بالعادة، كمنافع الأعيان في الإجارة، مثل منفعة الأرض والدابَّة، ومثل لبنِ الظِّئر المعتاد، ولبن البهائم المعتاد، ومثل الثمر والزرع المعتاد- فهذا كلُّه من بابِ واحدٍ، وهو جائز. ثمَّ إن حَصَلَ على الوجه المعتاد، وإلاّ حُطَّ عن الَمستأجر بقدرِ ما فاتَ من المنفعة المقصودة. وهو مثل وضع الجائحةِ في البيع، ومثل ما إذا تَلِفَ بعض المبيع قبلَ التمكن من القبض في سائر البيوع. وهذا الذي ذكرناه من ضمان البساتين هو فيما إذا ضمنَه على أن يعمل الضامن حتى يَحصُلَ الثمرُ والزرعُ، فأما إذا كان الخدمةُ والعملُ على البائع فهذا بيع، كما يُباع العنبُ بعد بدوِّ صلاحِه، وكما يضمن البستانُ زمنَ الصيفِ لمن يَسكُنه ويأكل فاكهته، وإذا كان بيعًا محضا لم يَجُزْ إلا بعدَ بدوِّ صلاحِه، لكن إذا بَدَا صلاحُ بعضِ الشجر جازَ بيع جميعِها بلا نزاعٍ، وكذلك يجوز بيعُ سائر ذلك النوع في ذلك البستان في سائر البساتين في أشهر قولَي العلماء.

_ (1) أخرجه مسلم (1513) من حديث أبي هريرة.

- إذا كان البستان أجناسا، فبدا الصلاح في جنس من ذلك

وإذا كان البستان أجناسًا، كالعنب والرُّطَب والتفاح والمشمش والتُّوت، فَبَدَا الصلاحُ في جنسٍ من ذلك، جازَ بيعُ جميع ما في البستان من ذلك في أحد قولَيْهم أيضًا، لأن الشرط في المبيع أن يبدوَ صلاحُ بعضه لا صلاحُ كلِّ جزءٍ منه، إذا كان مما يُباعُ جملةً في العادة. ومعلومٌ أنه إذا كان فيه نخيلٌ وأعنابٌ كان بيعُ بعضِ النخيلِ دونَ بعضٍ فيه مشقَّةٌ، فجوِّزَ بيعُ الجميع. وهكذا إذا كان عنبًا ورُمَّانًا وجوزًا ونحو ذلك فبيعُ بعضِ هذه الأجناس دونَ بعضٍ فيه مشقةٌ، كما في بيعٍ بعض النخيل دونَ بعضٍ فإن المشتري إن لم يَشترِ الجميعَ لم يَرض بشراءِ البعضِ، إذ لا يمكِن أن يدخل عليه غيره في البستان من المشتري، ففي بيع بعض البستان دون بعضٍ ضررٌ على البائع والمشتري، ولا فسادَ في بيع الجميع. بل إن قيل: قد تُصيبه جائحةٌ فلا يثمر الباقي، قيل: هذا بمنزلة الجائحة فيما بَدَا صلاحُه، وقد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضع الجائحة (1). والشارعُ بُعِث بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فنهى عن بيع الثمار قبلَ بدوِّ صلاحها لما فيه من المخاطرة من غير حاجة، وأما بعد بدوِّ صلاحِها فهم محتاجون إلى بيعها في هذه الحال وإن كان فيه نوع مخاطرةٍ، لأن المنع من ذلك أشدُّ ضررًا على الناس من المخاطرة، كما في الإجارة، لأن المنع منها أشدُّ ضررًا من إباحتها مع المخاطرة، ثم إنه جَبَر هذا الضررَ بوضعِ الجوائح، فما تَلِفَ

_ (1) أخرجه مسلم (1554) من حديث جابر بن عبد الله.

قبلَ التكمن من قبضِه كان من مالِ البائع كالمؤجر، وأما إذا تمكَّن من الجَداد والحَصادِ ففرَّطَ حتى تَلِفَتِ العينُ، أو أَخَّر ذلك لطلب ارتفاع السِّعْر فإن الضمان هنا يكون من ماله. والله سبحانه أعلم (1).

_ (1) في آخر النسخة: "قال الناقل لنفسه- عفا الله عنه-: اختصرتُ جوابَ الشيخ تقي الدين، وحذفتُ منه المكرر وغيره، والله أعلم ".

§1/1