جامع المسائل لابن تيمية ط عالم الفوائد - المجموعة الرابعة

ابن تيمية

مقدمة التحقيق

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، يسرُّني أن أقدِّم إلى القراء المجموعة الرابعة من "جامع المسائل"، التي تحتوي على مسائل وفتاوى كثيرة لم تُنشَر من قبل، ومعظمها مما كتبه شيخ الإسلام مدةَ إقامته في مصر في السنوات (705 - 712). وقد كانت الفتاوى المصرية جُمِعتْ بواسطة بعض تلاميذ الشيخ فبلغت ستةَ مجلدات أو سبعة. يقول ابن القيم في نونيته (1): وكذاك أجوبة له مصريَّة في ستّ أسفارٍ كُتِبْنَ سِمَانِ ويذكر ابن رجب أن الفتاوى المصرية سبع مجلدات (2). أما ابن عبد الهادي (3) فلم يحدد عدد المجلدات، بل قال: "وقد جمع بعض أصحابه قطعة كبيرة من فتاويه الفروعية، وبوبَّها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة، تُعرَف بالفتاوى المصرية، سماها بعضهم الدرر المضية من فتاوى ابن تيمية". وذكر بعض المترجمين له

_ (1) "الكافية الشافية" (ص 164). (2) "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 403). (3) "العقود الدرية" (ص 38).

- ما وجد منها ونشر

- مثل الصفدي (1) وابن شاكر (2) - أن بعض الناس جمع فتاويه بالديار المصرية مدة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة. ولعلّ هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف النسخ، فبعضها كانت في ستّة مجلدات، وأخرى في سبعة، وأخرى في ثلاثين جزءًا من الأجزاء الصغار. أو أن الثلاثين كانت تحتوي على الفتاوى التي أفتى بها في مصر وفي غيرها، فالمجلدات الستة أو السبعة كانت قسمًا من عامة مجلدات فتاواه التي جُمِعَتْ. ومما يؤيد هذا الرأي أن ابن القيم ذكر أن الأجوبة المصرية في ست أسفار، ثم ذكر بعد أبيات (3): وكذا فتاواه، فأخبرني الذي أضحَى عليها دائم الطَّوفان بلغَ الذي ألفاه منها عدةَ الْ أيَّام من شهر بلا نقصان سِفر يقابل كل يوم، والذي قد فاتني منها بلا حُسْبَانِ يَقصِد أن ما وُجِد من عامة فتاواه كان ثلاثين مجلدًا، أما ما لم يُوجَد منها أو لم يُجمَع بل تفرقَ في البلدان فهذا لا يُعدُّ ولا يُحصَى. ومهما يكن من شيء فإن مجموعة الفتاوى المصرية للشيخ كانت مرتبةً على الأبواب، وكانت تسمى "الدرر المضية". ومما يؤسف له أنها أصبحتْ شَذَرَ مَذَرَ، ولم تُوجد كاملةً حتى الآن،

_ (1) "أعيان العصر" (1/ 245)؛ "الوافي بالوفيات" (7/ 29). (2) "فوات الوفيات" (1/ 80). (3) "الكافية الشافية" (ص 165).

- المقابلة بينها وبين مختصرها للبعلي

وبعد البحث الشديد والتتبع الطويل في مكتبات المخطوطات وفهارسها وقفتُ على أربعة مجلدات منها، وبقي مجلدان أو ثلاثة لازلتُ في البحث عنها، ولعل الله يُيسِّر الحصولَ عليها في المستقبل. وقد تَمَّ نَشْرُ كثيرٍ من الفتاوى المصرية المتفرقة ضمن بعض المجلدات من "مجموعة الفتاوى الكبرى" (طبعة مصر) و"مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض)، ولكن دون تمييز بين الفتاوى المصرية وغير المصرية، ولا يمكن معرفتها إلا بالرجوع إلى الأصول أو مقابلتها مع "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي (ت 777)، وهو مطبوع، مرتَب على الأبواب كالأصل (1)، وفيه اختصار شديد للفتاوى، اقتصَر فيه المختصِر على النكت والفوائد والمسائل المستغربة من كلام الشيخ، واقتبسَ أحيانًا سطرًا أو سطرين أو أسطرًا قليلة من الفتاوى الطويلة. ومن أمثلة ذلك: الفتوى رقم (9) ضمن "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/ 8 - 23)، نجد منها في "المختصر" (ص 14 - 15) ستة أسطر فقط، والفتوى رقم (17) من "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/ 39 - 42)، اقتُبس منها في "المختصِر" (ص 27) نصفُ سطرٍ. وهكذا في كثير مَن الفتاوى والمسائل. ولذا أرى أن هذا المختصر وإن كان "فيه من الفوائد ما لم يوجد في غيره من المطولات" - كما قال الحافظ ابن حجر (2) - ونافعًا لمعرفة آراء

_ (1) أخطأ ناشر "المختصر" فظن أن التبويب من البعلي!! والصواب أنه تابع الأصل في الاختصار والتهذيب. (2) "الدرر الكامنة" (4/ 84)، وذكر أن البعلي سمَى هذا المختصر "السهيل".

- التعريف بنسخة خطية من مجلد منها

شيخ الإسلام في المسائل التي سُئِل عنها، فإنه لا يُغنِي عن الرجوع إلى أصل كلامه الذي أورد فيه الحجج، وناقش أصحاب الأقوال المرجوحة، وفصَّل القول في بعض المسائل، واستطرد إلى مباحث وفوائد أخرى مهمة، كما يظهر ذلك بالمقارنة بين الأصل والمختصر. عثرت على مجلد من الأصل في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [1402]، وهو الجزء الثاني منه، عدد أوراقه 207 ورقة. وقد كتب الناسخ في آخره: "وكان الفراغ من هذا الجزء الثاني من كتاب الدرر فتاوى الشيخ رحمه الله ورضي عنه على يد أبي بكر بن أحمد بن عبد الله ابن عبد الغني بن أبي بكر بن أبي القاسم البعلي - عفا الله عنه - في خامس شهر جمادى الآخر (كذا) سنة اثنتين وأربعين وسبعمئة ببعلبك". والنسخة بخط نسخي جيد، والأخطاء فيها قليلة، وهي مقابلة على الأصل المنسوخ منه كما يظهر من الدوائر المنقوطة ومن الإلحاقات والتصحيحات على هوامشها. وهذا الجزء يحتوي على قسمٍ من باب الأدعية والأذكار، وباب الكسوف، وباب الاستسقاء، وباب الحكم في ترك الصلاة، وكتاب الجنائز. وعدد المسائل والفتاوى الموجودة فيه مئة مسألة. وقد أفردتُ منها تلك المسائل التي لم تُنشَر ضمن "مجموع الفتاوى"، فكان عددها 54 مسألة، بعضها طويلة جدًّا، مثل المسألة الأولى في شرح حديث أبي بكر "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ... "، والمسألة الثانية والتسعين في إهداء الثواب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ورد

- مجموعة خطية أخرى من فتاوى الشيخ

ذكر المسألتين في بعض المصادر القديمة، فقد ذكر الأولى ابن رشيق (1) بعنوان "شرح دعاء أبي بكر"، وابن عبد الهادي (2) بعنوان " [شرح] حديث الدعاء الذي علَّمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر الصديق "اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلما كثيرا"". والمسألة الأخرى ورد ذكرها بعنوان "رسالة في إهداء الثواب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عند ابن رشيق (3). وهناك مسائل أخرى كثيرة في حكم تارك الصلاة وغير ذلك تُنشَر في هذه المجموعة لأول مرة. ووجدتُ 13 مسألةً من الفتاوى المصرية ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم ٍ [3537] (الورقة 89 أ-97 ب) مكتوبة في سنة 756 بخط علي بن حسن بن محمد الحرانى كما هو مثبت في آخرها. فضممتُها إلى ما استخلصتُها من المجموعة السابقة. أما المسائل الأخرى التي تلي الفتاوى المصرية في هذه المجموعة فهي مأخوذة من نسخةٍ حديثة الخط من فتاوى الشيخ، محفوظةٍ في المكتبة القادرية ببغداد برقم [491]، عدد أوراقها 193 ورقة، وهي بخط نسخي معتاد، كتبها محمد بن علي بن الملا أحمد سبته، وفرغ منها في 21 من شعبان سنة 1306. وهذه النسخة تحتوي على "مسائل وردت من الصلت" ومسائل أخرى لم تُنشر ضمن "مجموع الفتاوى". وقد ذكر ابن عبد الهادي (4) "أجوبة

_ (1) انظر "الجامع لسيرة شيخ الإسلام" (ص 249). (2) "العقود الدرية" (ص 61). (3) "الجامع" (ص 244). (4) "العقود الدرية" (ص 57).

- رسالة في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه

كثيرة عن مسائل وردت من الصلت"، وذكرها ابن رشيق (1) بعنوان "أجوبة مسائل الصلط"، وذكرها الصفدي وابن شاكر (2) بعنوان "جواب مسائل وردت من الصلت". وكانت هذه المسائل في حكم المفقود، حتى وفقني الله للعثور عليها في هذه النسخة، فالحمد لله على ذلك. وأجوبة هذه المسائل مختصرة موجزة في أسطرٍ قليلة، اقتصر فيها الشيخ على ذكر الحكم في المسألة دون الخوض في التفاصيل والحجج والمناقشات. أما المسائل الأخرى في المجموع فهي على أسلوبه المعروف في الاستطراد والتفصيل، وبعد مقابلتها على "مجموع الفتاوى" حصلتُ على قدرٍ لا بأس به من المسائل التي لم تُنشَر ضمنَه، فأدخلتُها في هذه المجموعة الرابعة. والرسالة الأخيرة هنا كانت مجهولة العنوان والمؤلف ضمن مجموع من مجاميع المدرسة العمرية الموجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 91]، (الورقة 137 - 146)، وهذا المجموع يحتوي على كثير من رسائل شيخ الإسلام، وبعضها بخطه. وقد تأملتُ في هذه الرسالة فوجدتها مضطربةً في الترتيب، وينبغي أن يكون ترتيب أوراقها كما يلي: (146، 138 - 145، 137). والرسالة بخط نسخي جيد، وقد كُتِب في أعلى الورقة (137/أ) بيد بعض المفهرسين "الكلام في الصفات"، ولما قرأتُ

_ (1) "الجامع" (ص 245). (2) المصدر السابق (ص 295،318،332).

فيها بعد ترتيب أوراقها وجدتُها في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه (ت 652)، ناقش فيها بعض آرائه في التصوف ووحدة الوجود، وبيَّن مصادرها، وانتقدها في ضوء الكتاب والسنة. وقد ذكر شيخُ الإسلام ابنَ حمويه في بعض مؤلفاته (1) وردَّ عليه، ولم أجد من أشار إلى مؤلَّفٍ له في هذا الموضوع، وعلى هذا فتكون لهذه الرسالة قيمة كبيرة، وتُضاف إلى جملةِ مؤلفاته في الرد على القائلين بوحدة الوجود (ابن عربي وأمثاله). وقد بعث المؤلف هذه الرسالة إلى أحد أتباع سعد الدين بن حمويه، ولم أتمكن من تحديد اسمه لكونها ناقصة الأول والآخر في هذه النسخة التي وصلت إلينا، والتي تبدأ بأثناء نصٍّ مقتبس من كلام الشخص المذكور وتعليقِ المؤلف عليه، وكُتب في آخرها: "بياض كبير". وهذا يدل على أن الأصل المنسوخ عنه كان ناقصًا من آخره. ولم أجد نسخة أخرى من هذه الرسالة تكمِل النقص، فأبقيتُها كما هي حفاظًا على الموجود منها لِيُستفاد. وفي الختام أحمد الله على توفيقه لإخراج هذه المجموعة، وأدعوه أن يجعلها نافعة للباحثين وطلاب العلم، وأرجو منهم أن لا ينسوني في دعواتهم الصالحة. والحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمد عزير شمس

_ (1) انظر "الصفدية" (1/ 248) وهذه المجموعة (ص 66).

- نماذج من الأصول الخطية

- نماذج من الأصول الخطية

مسائل من الفتاوى المصرية

مسائل من الفتاوى المصرية

(1) مسألة في شرح دعاء أبي بكر

بسم الله الرحمن الرحيم مسألة في شرح الحديثِ الذي ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! عَلِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: قل: "اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يَغفر الذنوبَ إلاّ أنتَ، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندك وارْحَمْني، إنك أنتَ الغفور الرحيم" (1). شرحَه الحكيم فقال (2): هذا عبدٌ اعترفَ بالظلم، ثم التجأَ إِليه مُضطرًّا، لا يجدُ لذنبه ساترًا غيرَه، ثم سألَه مغفرةً من عنده. والأشياءُ كلُّها من عندِه، ولكن أراد شيئًا مخصوصًا ليس مما بَذَلَه للعَامَّةِ، فلله تعالى رحمة قد عَمَّتِ الخلقَ بَرَّهم وفاجرَهم، سعيدَهم وشقيَّهم، في أرزاقِهم ومعايشهم وأحوالِهم؛ ثم له رحمةٌ خَصَّ بها المؤمنين، وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمةٌ خصَّ بها المتقين، وهي رحمةُ الطاعةِ للهِ تعالى؛ وللهِ رحمةٌ خصَّ بها الأولياءَ نالوا بها الولايةَ، وله رحمةٌ خصَّ بها الأنبياءَ نالوا بها النبوةَ. ولما ذكرَ في

_ (1) أخرجه البخاري (834،6326،7388) ومسلم (2705). (2) "نوادر الأصول" (ص 232).

- اعتراف العبد بظلم نفسه ليس من خصائص الصديقين

تنزيلِه الأنبياءَ قال: (وَوَهبنا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا) (1). وقال الراسخون في العلم: (وَهَبْ لَنَا مِن لًدُنكَ رَحمَةً) (2). فإنما سألوه رحمةً من عنده. فهذا صورةُ ما شرحَه الحكيم الترمذي، ولم يذكر صفةَ الظلم وأنواعه كما ذكر صفات الرحمة. والمسئولُ شرحُ ما مفهومُ قولِ الصدّيقِ "ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا"؟ والذنبُ بين يَدَي الله تعالى لا يحتمل المجازَ، والصدّيقُ من أئمة السابقين، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَه بذلك، فسيِّدي بسط القول في ذلك مما يفهمه السائلُ، وما هو الظلم الذي نَسَبَه الصديقُ إلى نفسه كما عَلَّمه النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أجاب الحمد دلله. الدعاءُ الذي فيه اعترافُ العبدِ بظلمِ نفسِه ليس من خصائص الصدِّيقين ومَن دُونَهم، بل هو من الأدعية التي يدعو بها الأنبياءُ وهم أفضلُ الخلق، قال الله تعالى عن آدمَ وحَوَّاءَ: (قَالَا ربنا ظَلمنَاَ أَنفسَنَا وَإِن لَم تَغفِر لنا وَترحمنا لَنَكونَنَّ مِنَ اَلخَاسِرينَ (23)) (3)، وقال موسى عليه السلام: (رَب إِنِّى ظَلَمتُ نَفسِى فَاَغفِر لىِ فَغَفَرَ لَهُ إِنه هُو

_ َ (1) سورة مريم: 50. (2) سورة آل عمران: 8. (3) سورة الأعراف: 23.

اَلْغَفُوُر الرحيم (16)) (1)، وقد دَعَا غيرُهم بنحو هذا الدعاء، كقول الخليل عليه السلام: (رَبنا اَغْفِرْلِى وَلولِدَىَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَوم يَقُوم اَلْحِسَابُ (41)) (2)، وقال: (وَاَلَذِىَ أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لِى خطيئتِى يوم اَلدِين (82)) (3)، وقال هو وإسماعيل: (رَبنَا تَقَبًل مِنَّا إِنكَ أَنتَ اَلسَمِيعُ العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلينَا إِنكَ أَنت التَوابُ اَلرحيم (128)) (4)، وقال موسى عليه السلام: (أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرينَ (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنَّا هدنا إليك) (5)، وقال نوح عليه السلام: (رَب أنى أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين (47)) (6)، وقال يونس: (لا إله إِلَّاَ أنتَ سُبْحانكِّ إنى كنت من الظالمين (87)) (7). وقد ثبت في الصحيح (8) من حديث علي عليه السلام عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم أنتَ الملكُ لا إله إلا أنتَ، أنتَ ربّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، وَاهْدِني لأحسن

_ (1) سورة القصص: 16. (2) سورة إبراهيم: 41. (3) سورة الشعراء: 82. (4) سورة البقرة: 127 - 128. (5) سورة الأعراف: 155 - 156. (6) سورة هود: 47. (7) سورة الأنبياء: 87. (8) مسلم (771).

الأخلاق، فإنه لا يَهدي لأحسنِها إلاَ أنتَ، واصرِفْ عنّي سَيّئَهَا، فإنه لا يَصْرِف عنّي سَيئَها إلا أنتَ، لَبيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخيرُ كلُّه بِيدَيْكَ، والشرُّ ليس إليك، أنَا بك وإليك، أَستغفرك وأتوبُ إليك". وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في سجوده: "اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي كلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ، وعَلانيتَه وسِرَّه، وأوله وآخرَه". وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول بينَ التكبير والقراءة: "اللهمَّ بَاعِدْ (3) بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بينَ المشرقِ والمغرب، اللهمَّ نَقِّنِيْ منَ الخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهمَّ اغسِلْنِيْ من خطايايَ بالماءِ والثلج والبَرَدِ". وثبتَ أيضًا في صحيح مسلم (4) أنه كان يقول نحو هذا الدعاء إذا رفعَ رأسَه من الركوع بعد التسميع والتحميد، وبعدَ أن يقولَ: "أهلَ الثناءِ والمجدِ أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد، لا مانعَ لما أعطيتَ ولا مُعطِيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ" (5).

_ (1) مسلم (483) عن أبي هريرة. (2) البخاري (744) ومسلم (598) عن أبي هريرة. (3) في الأصل "بعد"، وهو خلاف الرواية. (4) برقم (476) عن عبد الله بن أبي أوفى. (5) ليس هذا ضمن الحديث السابق، بل رواه مسلم (477) عن آبي سعيد الخدري، و (478) عن ابن عباس.

وثبت عنه في الصحيحين (1) عن أبي موسى أنه كان يقول في دعائه: "اللهمَّ اغفِرْ لي خطيئتي وجهلي، وإسْرَافي في أمري، وما أنت أعلمُ به منّي، اللهمَّ اغفِرْ لي هَزْلي وجدِّي وخَطَأي وعَمْدِي، وكل ذلك عندي، اللهمَّ اغفِرْ لي ما قَدمتُ وَما أَخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنتَ المقدِّمُ وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير". وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول في دعائه بالليل: "اللهمَ لك الحمدُ أنت رب السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت نورُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت قَيُّومُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحقُّ، ووعدك الحقُّ، ولِقاؤُك حقٌّ، والجنةُ حق، والنار حقّ، والنبيون حقّ، ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقّ، اللهم لك أَسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أَنَبْتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ. اللهمَّ اغفِر لي ما قَدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إلهَ إلاّ أنتَ". وثبت عنه في الصحيح (3) عن عائشة أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانكَ اللهمَّ ربَّنا وبحمدِك اللهمَّ اغْفِر لي" يَتأوَّلُ القرآنَ، أي يَمتثِلُ ما أُمِرَ به في قوله: (فَسَبِّح بِحمد ربك وَاَستَغفِرهُ

_ (1) البخاري (6398،6399) ومسلم (2719). (2) البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس. (3) البخاري (794 ومواضع أخرى) ومسلم (484).

- الكلام على قوله تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

إِنَّه كانَ تَوابا (3)) (1). كما امتثل بتلك الأدعية ما أمره في قوله: (فَاَصبِر إِنَّ وَعد اللهِ حَقٌّ وَاستَغفِر لِذنبك وسبح بحمدِ رَبِّكَ بِالعَشىّ وَالإبكار (55)) (2)، (فأعلم أَنَهُ لَاَ إِلَهَ إلا اللهُ وَاَستَغفِر لِذَنبك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمِنات) (3). وهذا الدعاء الذي ذكرته عائشة بعد نزول قوله: (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخرَ) (4)، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن سورة "إذا جاء نصر الله والفتح" آخر سورةٍ أُنزلتْ. وأيضًا فأبو موسى الأشعري وأبو هريرة إنما صَحِبَاه بعد نزول قوله: (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخَرَ)، فإن هذه الآية قد ثبت في الصحيح (6) أنها نزلتْ عامَ الحديبية لما بايعَه الصحابةُ بيعةَ الرضوان تحت الشجرة وانصرفَ، وقد خالط أصحابَه كآبةٌ وحُزنٌ لرجوعهم، ولم يتِمُّوا العمرةَ التي خرجوا لها، وقد صالحوا المشركين، لما أن في ظاهره غَضاضةً عليهم، حتى كرهَه كثيرٌ منهم، وجَرتْ فيه فصولٌ، فأنزل الله سورةَ الفتح بنُصرتِه من الحديبية، وهو في الطريق قبلَ وصولهِ إلى المدينة، ثم إنه تَجهَّزَ من المدينةِ لفتح خيبر، وفي أواخر غَزاةِ

_ (1) سورة النصر: 3. (2) سورة غافر: 55. (3) سورة محمد: 19. (4) سورة الفتح: 2. (5) لم يروه البخاري ومسلم، وقد أخرجه النسائي والطبراني عن ابن عباس كما في تفسير ابن كثير (4/ 600،601). (6) مسلم (1786) عن أنس.

- الرد على من قال: المقصود به ذنب آدم وذنب أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -

خيبر قَدِمَ عليه أبو موسى والأشعريون، وفي تلك المدة أسلم أبو هريرة. ولما أنزلَ اللهُ عليه هذه الآية (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأخَّرَ) قال له الناسِ: يا رسولَ الله! هذا لك، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى (هُوَ الذي أَنزلَ اَلسكينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزدَادواْ إِيمُانا مع إيمانهم) (1). وفي هذا ردٌّ على طائفةٍ من الناس - كبعض المصنِّفين في السِّيَر وفي مسألة العصمة - يقولون في قوله (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذَنبك): وهو ذنبُ آدم، (وَمَا تَأَخرَ) ذنبُ أمتِه، فإن هذا القولَ وإن كان لم يَقُلْه أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقولُه من يَعقِلُ ما يقول، فقد قاله طائفة من المتأخرين (2)، ويَظُنُّ بعضُ الجهال أن هذا معنى شريف، وهو كذب على الله وتحريفُ الكَلِم عن مواضعه، فإنه قد ثبت في الصحاح (3) في أحاديث الشفاعة أن الناسَ يومَ القيامة يأتون آدمَ يَطلبون منه الشفاعةَ، فيعتذِرُ إليهم ويقول: إني نُهِيْتُ عن الشجرة فأكلتُ منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيًّا بعد نبي إلى أن يَأتوا المسيحَ، فيقول: ائْتُوا محمدًا فإنه عبد قد غفرَ اللهُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فلو كانت "ما تقدم" هو ذنب آدم لم يعتذر آدم.

_ (1) سورة الفتح: 4. (2) حكاه المفسرون عن عطاء الخرساني، انظر تفسير البغوي (4/ 300) و"المحرر الوجيز" (15/ 88) والقرطبي (16/ 263) والخازن (6/ 157). (3) البخاري (4712 ومواضع أخرى) ومسلم (194) عن أبي هريرة.

وأيضًا فلما نزلتِ الآية قالت الصحابةُ: هذا لكَ فما لنا؟ فأنزل الله: (هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ السكينَةَ في قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ)، فلو كان "ما تأخر" مغفرة ذنوبهم لقال: هذه لكم. وأيضًا فقد قال تعالى: (وَاَستَغْفِر لِذَنبِك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمناتِ) (1)، ففرَّقَ بين ما أضاف إليه وما يُضاف إلى المؤمنين والمؤمنات. وأيضًا فإضافةُ ذنبِ غيره إليه أمرٌ لا يَصْلُح في حق آحادِ الناس، فكيف في حقَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ حتى تُضَاف ذنوبُ الفُسَّاق من أمته إليه، ويُجعلَ ما جعلوه (2) من الكبائر - كالزنا والسرقة وشرب الخمر - ذَنْبًا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله يقول في كتابه: (وَلَا تزِرُ وَازِرَةٌ وزرَ أخُرَى) (3)، ويقول في كتابه: (وَمَن يَعمَل مِنَ الصّالحاَتِ وَهُوَ مُؤمِن فَلَا يَخَافُ ظُلما ولَا هَضمًا (112)) (4)، قالوا (5): الظلم أن تُحْمَل عليه سيئات غيرِه، والهَضْم أن يُنْقَصَ هو من حسناتِه، وهو أفضلُ من عَمِلَ من الصالحات وهو مؤمن، فكيف تُحْمَلُ عليه سيئاتُ غيرِه وتُضَافُ إليه؟ وأيُ فرقٍ بين ذنبِ آدمَ وذنب نوح والخليل وكلُّهم آباؤه؟ وأيُّ فرق بين ذنب الإنسان وذنب غيرِه (6) حتى يُضاف إليه هذا دونَ هذا؟ والله يقول: (أَم لَم يُنبّأ بما في

_ (1) سورة محمد: 19. (2) كذا في الأصل، ولعلّ الصواب "فعلوه" كما يظهر من السياق. (3) سورة الأنعام: 164، سورة الإسراء: 15، سورة فاطر: 18، سورة الزمر: 7. (4) سورة طه: 112. (5) انظر تفسير الطبري (16/ 159) و"الدر المنثور" (5/ 601). (6) في الأصل: "غيرانه".

- أول من دخل في الغلو هم الرافضة

صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38)) (1) والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لرجل معه ابنه: "لا يَجْنِي عليك ولا تَجْنِي عليه" (2). وأيضًا فقد قال الله في غيرِ موضع في القرآن (3) إنه ليس عليه إلاّ البلاغُ المبين، وقال: (فَإِن تَوَلواْ فَإِنَّمَا عَلَيهِ مَا حمُلَ وَعَلَيكم مَّا حُمِّلتُم) (4). فإذا كان على أمتِه ما حُمِّلُوا وهو ليس عليه إلا البلاغ المبين كيف تكونُ ذنوبُ أمته ذنوبَه؟ ومثل هذا القول لا يخفى فسادُه على من له أدنى تدبُّرٍ، وإن كان قالَه طوائفُ من المصنِّفين في العصمة، حتى يَرَى ذلك بعضُ مَن له في السنة والفقه والحديث قَدَمٌ، لكن الغُلوَّ أوجبَ اتباعَ الجهال الضُلاَّل، فإنّ مثلَ هذه التفاسير إنما يَصْدُر في الابتداء عن أهل التحريف لكتاب الله: إما من الزنادقة المنافقين، وإمّا من المبتدعة الضالّين. وأولُ من دخلَ في الغُلوّ من أهل الأهواء هم الرافضة، فإنهم لما ادَّعَوا في علي وغيرِه أنهم معصومون حتى من الخطأ احتاجوا أن يثبِتوا ذلك للأنبياء بطريقِ الأولى والأحْرى، ولما نزَهُوا عليًّا ومن هو دون علي من أن يكون له ذنبٌ يُسْتَغفَر منه كان تنزيهُهم

_ (1) سورة النجم: 36 - 38. (2) أخرجه أحمد (4/ 344،345،5/ 81) وابن ماجه (2671) عن الخشخاش العنبري. وصححه الألباني في "الصحيحة" (990). (3) أولها سورة المائدة: 92، وقبلَها في سورة آل عمران: 20 (وَإن تَوَلًوا فَإِنَّمَا عَلَيك البَلَاغ). (4) سورة النور: 54.

- غلو القرامطة الإسماعيلية في أئمتهم

للرسلِ أولى وأَحْرى. ثم جاءت القرامطةُ الزنادقةُ المنتسبون إلى الشيعة لمَّا ادَّعَوا عصمةَ أئمتِهم الإِسماعيليةِ العبيديةِ القرامطةِ الباطنيةِ الفلاسفةِ الدهريةِ صاروا يقولون: إنهم معصومون يعلمون الغُيُوب، وصار مَن صار منهم يَعبدُهم ويَعتقد فيهم الإلهيةَ، كما كانت الغاليةُ تَعتقدُ في عليّ وغيرِه الإلهيةَ أو النبوةَ. وأما الإمامية الاثنا عشرية الذين لا يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر بل بإمامة موسى بن جعفر، فهم [و] إن كانوا لا يقولون بإلهيةِ عليّ ولا نبوَّتِه، فهم يقولون بالعصمة حتى في المنتظر الذي دخلَ في سِردابِ سَامَرَّاءَ سنةَ ستين ومائتين وهو طفلٌ غير مميِّز، قيل: كان له سنتان، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: خمس. ويقولون: إنه إمام معصوم لا يجوزُ عليه الخطأُ، ويقولون: إنّ الإيمانَ لا يَتِمُّ إلاّ به، ومن لم يؤمن به فهو كافر. وقد عَلِمَ أهلُ العلم بالأنساب أنَّ (1) الحسن بن علي العسكري أباه لم يكن له نسل ولا عَقِبٌ، ولو كان له ولد صغير لكان تحتَ الحَجْر على ماله، وأن يَحضنَه من يستحقُّ الحَضَانَةَ، فلا يكون له ولاية لا على نفسه ولا على مالِه حتى يَبْلُغَ ويُؤنَسَ منه الرُّشدُ، فحينئذ يُسَلَّمُ إليه مالُه، فكيف يكون لمثل هذا ولاية على المسلمين؟ فضلاً عن أن يكون معصومًا، فضلا عن أن يكون اتّباعُه ركنًا في الإيمان.

_ (1) في الأصل: "ابن" تحريف.

- اعتقاد الغلاة العصمة في المشايخ

ثم لما صار مثلُ هذا يُدَّعَى ادَّعَى ابنُ التومَرْتِ صاحبُ "المُرشِدة" أنه المهدي الذي بَشَّر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقال في الخطبة له: "المهدي المعلوم" و"الإمام المعصوم" حتى رُفِعَ ذلك. وصار من الغلاة في مشايخهم يعتقد أحدُهم في شيخه نحوَ ذلك، فإمّا أن يقول: هو معصوم، أو يقول: هو محفوظ، والمعنى عنده واحد، وإمّا أن يُنكِر ذلك بلسانِه ولكن يُعامله معاملةَ المعصوم. فهؤلاء إذا كان أحدهم يعتقد في بعض الرجال المؤمنين أنهم معصومون من الذنوب بل ومن الخطأ، كيف لا يعتقدون ذلك في الأنبياء؟ فغُلوُّهم فيمن غَلوا فيه من أئمتِهم أهلِ المشيخةِ أو النسبِ يُوجب عليهم أن يَغْلُوا في الأنبياء بطريقِ الأولى، فإن كان من المسلمين اعتقدوا أن الأنبياء أفضلُ منهم، وإن كانوا ممن يَعتقد في الشيخ والإمام أنه أفضل من النبي - كما يقول ذلك المتفلسفةُ والشيعةُ وغلاةُ المتصوفةِ الاتحاديةِ وغيرِ الاتحادية - فهم لابدَّ أن يُقِرُّوا الغُلُوَّ في الأنبياء حتى تُوافِقَهم الناسُ على الغُلُوَ في أئمتِهم. وهذا كلُه من شُعَب النصرانية الذين وَصفَهم الله بالغلو في القرآن، وذمَّهم عليه ونهَاهم فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ

- نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الغلو

فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)) (1) الآية، وقال تعالى: (يأهلَ اَلكتاب لَا تَغلُواْ في دِينكم غير الحق و َلَا تَتبِعُوَاْ أَهواء قوم قد ضَلواْ مِن قَبلُ وَأَضلُواْ كثيرا وَضَلُواْ عَن سَواء السَّبِيلِ (77)) (2). وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" (3). وقال: "إيّاكم والغُلوَّ في الدين، فإنما أهلكَ مَن كان قبلكم الغُلُوُّ في الدين" (4). وهذا قال لهم بسبب رَمْي الجمارِ لئلاَّ يَغْلُوا فيها، فكيف فيما هو أعظم من ذلك؟ وهؤلاء أهلُ الغلوِّ النصارى ومن شابَهَهم من هذه الأمة في الغلوّ - كما ثبتَ عنه في الصحيحين (5) أنه قال: "لَتَركَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخلتُموه" - هم قَصَدوا تعظيمَ الأَنبياء والصالحين بالغُلوّ فيهم، فوقعوا في تكذيبهم وبُغضِهم ما جاءوا به، فإنّ المسيح قال للنصارى كما أخبر الله عنه أنه قال: (مَا قلتُ لهم إلا مَاَ أَمرَتَني بِهِ أَنِ اَعبُدُواَْ اللهَ رَبِى وَربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقِيبَ عَلَيهِم وَأَنت على كل شئ شَهِيد (117)) (6) وقال المسيح: (إِني عَبدُ

_ (1) سورة النساء: 171 - 172. (2) سورة المائدة: 77. (3) أخرجه البخاري (3445،6830) عن عمر بن الخطاب. (4) أخرجه أحمد (1/ 215،347) والنسائي (5/ 268،269) وابن ماجه (3029) عن ابن عباس. وصححه النووي في "المجموع" (8/ 171) والألباني في "الصحيحة" (1283). (5) البخاري (3456،7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري. (6) سورة المائدة: 117.

- هذا باب دخل فيه الشيطان على خلق كثير

الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)) (1). والغُلاةُ فيه كذَّبوه وعَصَوه، فقالوا: ما هو عبدَ الله بل هو الله، وأشركوا به الشركَ الذي نهاهم عنه. وكذلك الغاليةُ في عليّ وفي غيرهم (2) من أهل العلم والإيمان، وعليٌّ عليه السلام يقول: "لا أوْتَى بأحدٍ يُفَضلُني على أبي بكرِ وعُمَرَ إلا جَلَدتُه حد المفتري" (3). وحرَّقَ الغاليةَ فيه بالنار، ويقول ما نُقِلَ عنه من نحو ثمانين وجهًا: "خيرُ هذه الأمةِ بعدَ نبيها أبو بكر ثم عمر" (4)، ويَذكُر ذلك لابنِه محمد بن الحنفية كما رواه البخاري في الصحيح (5) عنه، والشيعةُ تكذبُه وتُخالِفُه. فهم معه كالنصارى مع المسيح واليهودِ مع موسى. وكذلك (6) أَتباعُ الشيوخِ الصالحين المهتدين يَضِلُّون فيهم، ويتركون اتّباعَهم على الطريقة التي يُحِبها اللهُ ورسوله. وهذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير فأضلَّهم، حتى يجعل أحدُهم قولَ الحق تنَقُّصًا له، فإذا قيل للنصارى في المسيح:

_ (1) سورة مريم:30. (2) كذا في الأصل، والأولى "غيره". (3) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1/ 83). وانظر "منهاج السنة" (1/ 308،6/ 138). (4) انظر: "منهاج السنة" (1/ 308) وذكر بعضها في هامشه (1/ 12). (5) برقم (3671). (6) في الأصل: "وأولئك"، والتصويب من "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 106).

(مَّا اَلَمسيحُ ابن مَريَمَ إِلا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِن قبلِهِ اَلرسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (1) قالوا: هذا تنقيصٌ بالمسيح وسوءُ أدبٍ معه، وهم مع هذا يَشتُمون الله ويَسُبونه مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إياها أحدٌ من البشر، كما كان معاذ بن جبل يقول في النصارى: "لا تَرحموهم، فلقد سَبُّوا الله مَسَبَّةً ما سَبَّه إياها أحدٌ من البشر". وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: "شَتَمَنِيْ ابنُ آدمَ وما يَنبغي له ذلك، وكَذَّبَني ابنُ آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتْمُه إيّايَ فقوله إن لي ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأما تكذيبُه إيّايَ فقوله لن يُعِيْدَني كما بدأني، أَوَليس أَوَّلُ الخلقِ بأهونَ عليَّ من إعادتِه؟ ". وهؤلاء الغاليةُ يَجمعُون بين شتم الربّ وتكذيبه، وهكذا الغالية المنتسبون إلى هذه الأمّة تجدُ أحدَهم يَغلُو في قُدوتِه، حتى يكرهُ أن يُوصَفَ بما هو فيه، ويُقالَ عليه الحقُّ، وهو مع هذا يقول في الله العظائمَ التي ما قالتْها فيه لا اليهودُ ولا النصارى، حتى يقول: إن الله موصوفٌ بكل ذَم وكل عيب كما هو موصوفٌ بكل حمدٍ وكل مدحٍ، وإنه هو إبليس وفرعون والأصنام، كما قالته النصارى في المسيح، والله سبحانَه عابَ على المشركين ما هو دون هذا، حيثُ قال: (وَجعلَوا للهِ مِمَا ذَرَأ َمِن الحرث والأَنعَام نَصِيبا فَقَالواْ هَذا لله بِزَعمِهِم وَهَذَا لِشرَكائنا فَمَا كانَ لشركائهم فَلَا

_ (1) سورة المائدة: 75. (2) البخاري (3193،4974،4975) عن أبي هريرة.

يَصِلُ إلى اللهِ وَما كانَ للهِ فَهُو يَصلُ إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)) (1)،وقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدوا بِغَيرِ عِلم) (2). وهؤلاء يرِيدون أن يُقالَ في أئمتِهم الحقُّ، ويقولون على الله الباطلَ، ويَرضوْن بأن يُسَبَّ الله ويُشْتَم، ولا يَرضَوْن بأن يُسَبَّ متبوعُ أحدِهم على ما افتراه على الله ورسوله، بل لا يَرضَون أن يُقال فيه الحقُّ أو أن يُضافَ إليه خطأٌ جائزٌ عليه وواقعٌ منه. وقال تعالى حكايةً عن الخليل عليه السلام: (وَكيفَ أَخَافُ مَاَ أشرَكتم وَلَا تَخَافُونَ أَنّكم أَشْرَكتُم بالله ما لَمْ ينُزل بِهِ عليكم سلطانا فأي الفريقين أَحَقُّ بالأَمن إِن كنُتم تعلَمون (81)) (3). قال تعالى: (الَذِينَ أمَنُواْ وَلَم يَلبِسُوَا إِيمَانَهُم بِظلم أُوْلئكَ لَهُمُ الأمنُ وَهُم مهْتَدُونَ (82)) (4). كان المشركون يُخوَفون المؤمنين بآلِهَتِهم، ويقولون: إنكم إذا لم تتخذوها شُركاءَ وشُفعاءَ فإنها تَضرُكم، فأنكر الخليلُ عليه السلام وقِال: (وَكيفَ أَخَافُ مَا أَشرَكتُم وَلَا تَخَافُون أَنكّم أَشرَكتُم بالله مَا لم ينزِل بِهِ عَلَيكمْ سُلطانا)، أي كيف أخاف ما تدعونه من دون الله؟ وهو لا يَضرُّ ولا ينفع إلا بإذن الله، وأنتم لا تخافون اللهَ حيثُ أشركتم به فجعلتم له أندادًا، فأَعدلْتموهم به، تَدعُون من دونه

_ (1) سورة الأنعام: 136. (2) سورة الأنعام: 108. (3) سورة الأنعام: 81. (4) سورة الأنعام: 82.

- من سوى الأنبياء غير معصوم

وتخافونَهم وترجونهم، وهو لم يُنزل بذلك عليكم سلطانًا، وهو الكتاب المنزَّل من السماء، (فأيُّ اَلفَرِيقَين أَحق بالأَمنِ إِن كنُتم تَعلَمُون (81)). وفي الصحيحين (1) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: أَيُّنَا لم يَظْلِمْ نفسَه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (إِنَّ الشركَ لَظلم عظيم (13)) (2) ". وهذا بابٌ يَطول وصفُه، وإنما المقصود التنبيهُ عليه. إذا عُرِفَ هذا فقد اتفقَ سلفُ الأمة وأئمتُها وجميعُ الطوائف الذين لهم قولٌ يُعتَبر أنَّ من سِوَى الأنبياءِ ليس بمعصوم، لا من الخطأ ولا من الذنوب، سواء كان صدِّيقًا أو لم يكن، ولا فرقَ بين أن يقول: هو معصوم من ذلك، أو محفوظٌ من ذلك، أو ممنوعٌ من ذلك. قال الأئمة: كلُّ أحدٍ يُؤخَذ من قوله وْيترَك إلاّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه هو الذي أَوْجَب اللهُ على أهل الأرض الإيمانَ به وطاعتَه، بحيثُ يَجبُ عليهم أن يصدِّقوه بكل ما أخبرَ ويُطيعوه في كلِّ ما أمرَ. وقد ذكرَ اللهُ طاعتَه واتباعَه في قريبٍ من أربعينَ موضعًا في

_ (1) البخاري (32،3360 ومواضع أخرى) ومسلم (124). (2) سورة لقمان: 13.

القرآن، كما قال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (1)، وقال: (وَمَا أَرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (2) وقال تعالى: (فَلَا وَرَبكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمُوكَ فيمَا شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أَنفسهم حرَجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)) (3)، وقال تعالى: (لَّا تَجْعَلُواْ دُعَاء اَلرَسُولِ بَينكم كَدُعاء بَعْضكم بَعْضا)، إلى قوله: (فليحذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أمره أَن تُصيبَهُم فِتنَة أَؤ يُصِيبَهُم عَذَاب أَليم (63)) (4)، وقال تعالى: (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أحق أَن يُرضوُه) (5)، وقال تعالى: (قُل إن كنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاَتَّبِعوني يحْببِكمُ اللهُ) (6)،وقال تعالى: (فَإِن تَناَزعتُم في شَئ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (7)، وقال تعالى: (وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسولَ فَأوْلَئكَ مع اَلَّذِينَ أَنعَمَ اللهَُ عَليهِم مِّنَ النِّبينَ وَالصِّدِيقِين وَالشُهَداءً وَالصّالِحِينَ) (8). وطاعةُ الله والرسول هي عبادةُ اللهِ التي خُلِقَ لها الجنّ والإنس، فهي غايتُهم التي يُحِبُّها اللهُ ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاءَ من بعضِهم ما هو بخلاف ذلك وخَلَقَهم له، فتلك غايةٌ

_ (1) سورة النساء: 80. (2) سورة النساء: 64. (3) سورة النساء: 65. (4) سورة النور: 63. (5) سورة التوبة: 62. (6) سورة آل عمران: 31. (7) سورة النساء: 59. (8) سورة النساء: 69.

- حقيقة العبادة

شاءَها وقَدَّرَها، وهذه غاية يُحِبها ويأمرُ بها ويرضاها. والكلامُ على هذا مبسوط في غير هذا الموضع (1). والعبادة لله أن يجمع غاية الحب له بغايةِ الذل له، فكل خيرٍ وكلِ كمال ومقامٍ وحالٍ قَرَّبَ إليه ونحوُ ذلك مما يُحمَد من العبادِ ويُطْلب منهم ويُرضى لهم فهو داخلٌ في طاعة اللهِ ورسوله أو مستلزمٌ لذلك. ولهذا اتفقت الأمةُ على أنه معصوم فيما يُبلِّغُه عن ربه تبارك وتعالى، فإن مقصودَ الرسالة لا يَتِمُ إلاّ بذلك، وكلُّ ما دل على أنه رسولُ اللهِ من معجزة وغيرِ معجزةٍ فهو يدلُّ على ما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" فإنّي لَنْ أكذِبَ على الله" (2). وقد اتفقوا أنه لا يُقَرُّ على خَطَأٍ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ على الذنوب لا صغائرِها ولا كبائرِها، ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعضُ الصغائرِ مع التوبة منها أو لا يَقَعُ بحالٍ؟ فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا يَقَع منهم الصغيرةُ بحالٍ، وزادت الشيعةُ حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غيرُ خطأٍ. وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من أصحابِ الأشعري وغيرهم فلم يَمنَعوا الوقوعَ إذا كانَ مع التوبة، كما دَلتْ عليه نصوصُ الكتابِ والسنة،

_ (1) انظر مجموع الفتاوى (8/ 159 - 161، 187 - 190،197 - 200،440 - 442). (2) أخرجه مسلم (2361) عن طلحة.

فإن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين ويُحِبُّ المتطهرين، وإذا ابْتَلَى بعضَ الأكابر بما يَتُوب منه فذاك لكمالِ النهاية، لا لنقصِ البدايةِ، كما قال بعضُهم: لو لم يكن التوبةُ أحبَّ الأشياءِ إليه لما ابتلَى بالذنب أكرمَ الخلق عليه. وفي الأثر (1): "إنّ العبد لَيَعْمَل السيئةَ فيدخَلُ بها الجنةَ، وإنّ العبدَ لَيعملُ الحسنة فيدخلُ بها النارَ"، يعني أن السيئة يذكرُها ويتوبُ منها فيُدْخِلُه ذلك الجنةَ، والحسنةُ يُعْجَبُ بها ويَسْتكبرُ فيُدخِلُه ذلك النارَ. وأيضًا فالحسنات والسيئات تَتنوَّعُ بحسبِ المقامات، كما يقال: "حسنات الأبرار سيئاتُ المقرَّبِين"، فمن فَهِمَ ما تَمحُوه التوبةُ وتَرفَعُ صاحبَها إليه من الدرجات وما يَتفاوتُ الناسُ فيه من الحسنات والسيئات زالتْ عنه الشبهةُ في هذا الباب، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيهما (2) من الهدى والصواب. فإنّ الغُلاةَ يتوهمون أن الذنبَ إذا صدرَ من العبد كان نقصًا في حقّه لا يَنْجبرُ، حتى يجعلوا من فضلِ بعضِ الناس أنه لم يَسجدْ لصَنَم قطُّ. وهذا جهلٌ منهم، فإن المهاجرين والأنصار والذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِدَ على الإسلام، وإن كانوا في أولِ الأمر كانوا كُفارًا يعبدون الأصنام، بل المنتقلُ من الضلال إلى الهدى ومن السيئات إلى

_ (1) أخرجه أحمد في "الزهد" (ص 396،397) وابن المبارك في "الزهد" (162) عن الحسن مرسلاً، فهو ضعيف. انظر "الضعيفة" (2031). (2) في الأصل: "فيها"، والتصويب من "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 107).

الحسنات يُضاعَفُ له الثوابُ، كما قال تعالى: (إِلًا مَن تَابَ وَآمَن وَعَمِلَ عملا صالِحًا فَأُوْلَئك يبَدِّلُ الله سيئاتِهِم حَسَنَات وَكاَنَ اللهُ غَفُورا رَّحِيمًا (70)) (1). وقد ثبت في الصحيح (2) أن الله يومَ القيامة يَظهر لعبدِه فيقول: "إني قد أبدلتك مكانَ كل سيئةٍ حسنةً"، فحينئذٍ يَطلبُ كبائرَ ذُنوبِه. وقد ثبت في الصحاح (3) من غير وجهٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أخبر أن الله أشدُ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من رجلٍ أضلَّ (4) راحلتَه بأرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهلَكةٍ عليها طعامُه وشرابُه، فطلبَها فلم يجدْها، فنامَ تحت شجرةٍ يَنتظِرُ الموتَ، فلما استفاقَ إذا بدابَّتِه عليها طعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فَرَحًا بتوبة عبدِه مِن هذا براحلتِه. وهذا أمرٌ عظيمٌ إلى الغاية. فإذا كانت التوبةُ بهذه المنزلةِ كيف لا يكون صاحبُها مَعظَّمًا عند اللهِ؟ وقد قال تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السماوات والأرض والجِبَالِ فَأَبَين أَن يحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَملَها الإنسانُ إِنَّه كانَ ظَلُوما جَهُولا (72) لِيَعُذبَ اللهُ اَلمُنافِقِينَ وَالمُناَفِقات وَالمشركين والمشركات ويتوب الله عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنات وكَاَنَ الله

_ (1) سورة الفرقان: 70. (2) مسلم (190) عن أبي ذر. (3) البخاري (6308) ومسلم (2744) عن ابن مسعود، والبخاري (6309) ومسلم (2747) عن أنس. ورواه مسلم أيضًا (2745،2746) عن النعمان بن بشير والبراء بن عازب. (4) في الأصل: "أظل"، وهو خطأ.

- المقصود من الذنوب والتوبة منها

غَفُورا رَّحيِما (73)) (1)، فوصفَ الإنسانَ بالجهل والظلمِ، وجعلَ الفرقَ بين المؤمن والكافر والمنافق أن يتوبَ الله عليه، إذْ لم يكن له بُدٌّ من الجهل والظلم. ولهذا جاء في الحديث (2): "كل ابنِ آدمَ خَطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابُون". واعلم أن كثيرًا من الناس يَسبقُ إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقةُ ونحوُ ذلك، فيَسْتَعظمُ أن كريمًا يفَعل ذلك، ولا يعلم أن أكثر عُقَلاء بني آدم لا يَسرِقَون بل لا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم، فإن أبا بكر وغيره من الصحابة كانوا قبل الإسلام لا يَرْضَون (3) أن يفعلوا مثلَ هذه الأعمال، ولما بايعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هندًا بنتَ عُتبةَ بن ربيعة أمَّ معاوية بيعةَ النساء على أن لا يَسرقن ولا يزنين، قالت: أوَ تَزني الحُرَّةُ؟ (4) فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنا إلاّ للإماء. ولهذا قولهم "حُرَّة" تُرادُ به العفيفة، لأن الحرائرَ كن عَفائِفَ. وأما اللواط فأكثر الأمم لم يكن يَعرفُه، ولم يكن هذا يُعرَفُ في العرب قطُ.

_ (1) سورة الأحزاب: 72 - 73. (2) أخرجه أحمد (3/ 198) والترمذى (2499) وابن ماجه (4251) عن أنس بن مالك. وحسنه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (2341). (3) في الأصل: "لا يرضوا". (4) ذكره الطبري في "تاريخه" (3/ 61 - 62) بلاغًا ضمن قصة مشهورة. ونقل عنه ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/ 616 - 618).

ولكن الذنوب التي هي في باب الضلال في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يدخل في ذلك من البدع التي هي من جنس العُلُوِّ في الأرض والفخر والخُيَلاَء والحسد والكبر والرياء ونحو ذلك، هي في الناس الذين هم متعفِّفُون عن الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، فإنّ الإخلاص لله والتوكل على الله والمحبة له ورجاء رحمة الله وخوف عذاب الله والصبر على حكم الله والتسليم لأمر الله= كل هذا من الواجبات، وكذلك الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك هو من فروض الكفايات، وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول تفصيلُه في هذا السؤال، حتى يفطن هذا ثم يفتح له الباب. وقد ذكر الله الذين وعدَهم بالحسنى فلم يَنْفِ عنهم الذنوب، ولكن ذكرَ المغفرةَ والتكفيرَ فقال: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)) (1)، وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) (2). وقد ثبت في الصحيح (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لن يَدْخُلَ أحد منكم الجنةَ بعملِه"، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: "ولا أنا، إلاّ أن يَتَغَمَّدَني الله برحمته".

_ (1) سورة الزمر: 33 - 35. (2) سورة الأحقاف: 16. (3) أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) عن أبي هريرة.

- ظلم العبد نفسه أجناس

فصل إذا ثبتَ هذا فظلمُ العبدِ نَفسَه يكون بتركِ ما ينفعُها وهي محتاجة إليه، أو بفِعْلِ ما يَضُرُها، كما أن ظلم الغير كذلك يكون إما بمَنْع حقِّه أو التعدِّي. والنفسُ إنما تَحتاجُ من العبد إلى فعل ما أمرَ اللهُ به، وإنما يضرُّها فعلُ ما نهى الله عنه، فظلمُها لا يَخْرُج عن تركِ حسنة مأمورٍ بها أو فَعْلِ سيئةٍ منهيٍّ عنها، وما يُضْطَرُّ العبدُ إليه من أكلٍ وشرب ولباس وغير ذلك هو داخلٌ في هذا، فإن جميع ذلك هو من الواجبات المأمورِ بها، حتى أكلُ الميتةِ عند الضرورة يجب في المشهورِ من مذهب الأئمة الأربعة، قال مسروق: مَنِ اضْطُرَّ إلى الميتةِ ولم يأكل حتى ماتَ دخلَ النار. وكذلك ما يَضرُّها من جنسِ العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها أو يَقتُلها، أو الاغتسال بالماء البارد الذي يَقتُلها ونحو ذلك، هو من ظلمها المحظور، فالله تعالى أمرَ العبادَ بما ينفعُهم ونهاهم عما يَضرُّهم، كما قال قتادةُ: إن الله لم يأمر العبادَ بما أمرَهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بُخْلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم، ولهذا جاء القرآن بالأمر بالصلاح والنهي عن الفساد في غيرِ موضع. والصلاح كلُّه في طاعة الله، والفسادُ كلُّه في معصيةِ الله، فالصلاح والطلاعة متلازمان، والمعصية والفساد متلازمان، كتلازُم الطيب والحِلّ، وكلُّ طيب حلال وكل حلالٍ طيّبٌ، وكل خبيثٍ

- اختلاف العلماء في المصالح المرسلة

حرام وكل حرام خبيثٌ. والمعروفُ ملازمٌ مع الطاعةِ والصلاحِ، والمنكرُ ملازم مع المعصية والفساد، ولكن بعض الناس قد تبيَّنَ له اتصافُ الفعلِ ببعض هذه الصفات قبلَ بعض، كما يَعلم كثيرًا من العبادات ولا يعلم ما فيها من الصلاح، وكثيرًا من المحرَمات ولا يعلم ما فيها من الفساد، وكذلك قد يَرى مصالحَ كثيرةً ولا يعلم أمرَ الشارع بها. والمؤمنُ يعلم أن الله يأمر بكل مصلحةٍ ويَنهى عن كل مفسدة، فإذا كان في بعض الأفعال رأى أنه مصلحة ولم يأمر به كان مخطئًا من أحد الوجهين: إما أن يكون في نفس الأمر مصلحة لما ترجح فيه من مفسدة لا يعلمها هو؛ وإِما أن يكون داخلاً فيما أمر الله به ولم يعلم. ولهذا تنازعَ العلماء في المصالح المرسلة التي لم يُعلَم أن الشارع اعتبرها ولا أهدرها، فقيل: يُستدَلُّ بكونها مصلحة على أن الله اعتبرها، لأنه لا يُهمِلُ المصالح، وقيل: بل يُستدَلُّ بعدم اعتبارِ الشارع لها على أنها ليست مصلحةً، بل مضرتُها راجحة إذْ لوَ كانت مصلحتها راجحةً لاعتبرها الشارعُ. وتَتَفَاوَتُ فِطَنُ الناسِ في ذلك بحيث تَعرِفها بجهةِ الاعتبارِ والإهدارِ. ومما يجب أن يُعرَف أنَ العبدَ قد يجب عليه أسبابُ أمورٍ لا تَجبُ عليه بدونها، فإن قام بها كان مصلحًا محسنًا إلى نفسِه، وإلاّ كان ظالما لنفسه، وإن لم يكن تركُها ظلمًا في حق من لم يقبل تلك الأسبابِ، مثل من وَلِيَ ولايةً، ففي "المسند" (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) 3/ 22،55 عن أبي سعيد الخدري. ورواه أيضًا الترمذي (1329). وضعّفه الألباني في "الضعيفة" (1156).

- لا يخلو أحد عن ترك بعض الحقوق أو تعدي بعض الحدود

أنه قال: "أحب الخلقِ إلى الله إمام عادل، وأبغضُ الخلق إلى الله إمام جائر". وكذلك (1) مَن لغيره عليه حقوقٌ، كالزوجة والأولاد والجيران، فقد ذكر الله الحقوقَ العشرة في قوله: (*وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (2). فبَدأ سبحانَه بحقِّه، كما في الصحيحين (3) أنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذٍ: "يا معاذُ! أتدري ما حقُّ اللهِ على عبادِه"؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: "أن يَعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، يا معاذ! أتدري ما حق العبادِ على اللهِ إذا فعلوا ذلك"؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يُعذبَهم". فكلَّما ازدادتْ معرفةُ الإنسان بالنفوسِ ولوازمِها وتَقلُبِ القلوب، وبما عليها من الحقوق لله ولعبادِه، وبما حَدَّ لهم من الحدود= عَلِم أنه لا يخلو أحدٌ عن ترك بعضِ الحقوق أو تعدِّي بعضِ الحدود. ولهذا أمرَ الله عبادَه المؤمنين أن يَسألوه أن يَهديَهم الصراطَ المستقيم في اليوم والليلة في المكتوبةِ وحدَها سبعَ عشرة مرةً، وهو صراطُ الذين أنعم الله عليهمِ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن يطع اللهَ ورسوله فهم هؤلاء.

_ (1) في الأصل: "وأولئك" تحريف. (2) سورة النساء: 36. (3) البخاري (2856،5967،6267،6500،7373)، ومسلم (30).

- معنى الصراط المستقيم

فالصراط المستقيم طاعةُ الله ورسوله، وهو دين الإسلام التام، وهو اتباعُ القرآن، وهو لزومُ السنَّة والجماعة، وهو طريقُ العبودية، وهو طريق الخوف والرجاء. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبته (1): "الحمد لله نستعينه ونستغفره" لعلمِه أنه لا يفعل خيرًا ولا يجتنب شرًّا إلا بإعانة الله له، وأنه لابُدَّ أن يفعل ما يُوجِب الاستغفارَ. وفي الحديث الصحيح (2): "سيّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللهمَّ أنت ربي لا إلهَ إلا أنتَ خلقتَني، وأنا عبدك وأنا علىَ عهدِك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شر ما صنعتُ، أَبوءُ لك بنعمتِك عليَّ، وأَبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يَغفر الذنوبَ إلا أنتَ". فقوله "أَبوءُ لك بنعمتك عليَّ" يتناولُ نعمتَه عليه في إعانته على الطاعات، وقوله "أَبوءُ لك بذنبي" يُبيِّن إقرارَه بالذنوب التي تحتاج إلى الاستغفار. والله تعالى غفور شكور، يَغفر الكثيرَ من الزلل، ويَشكر اليسيرَ من العمل. وجاء عن غيرِ واحدٍ من السلف أنه كان يقول: إنّي أُصبِحُ بين نعمة وذنب، فأريد أن أُحْدِث للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا. فقوله "الحمد لله نستعينه ونستغفره" يتناول الشكرَ والاستعانةَ والاستغفارَ، الحمد لله وأستغفر الله ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، كما

_ (1) أخرجه مسلم (868) عن ابن عباس. (2) البخاري (6306،6323) عن شداد بن أوس.

- أصل الشر البدع وأصل الخير اتباع الهدى

كان بعضُ المشايخ يَقرِن بين هذه الثلاثة، فالشكر يتناول ما مضى من إحسانه، والاستغفار لما تقدم من إساءةِ العبد، والاستعانة لما يستقبله العبد من أموره. وهذه الثلاثُ لابدَّ لكل عبد منها دائمًا، فمن قَصَّرَ في واحد منها فقد ظلمَ لنفسِه بحسب تقصيرِ العبد. وأصل الإحسان هو التصديقُ بالحقّ ومحبتُه، وأصل الشرِّ هو التكذيبُ به أو بُغْضُه، ويَتْبعُه التصديقُ بالباطل ومحبتُه. والتصديقُ بالحقّ وحبُّه هو أصلُ العلم النافع والعمل الصالح، والتكذيبُ به وبُغْضُه هو من الجهل والظلم. فالإنسان إذا لم يعلم من الحق ما يحتاج إليه أو لم يُقِرَّ به أو لم يُحِبَّه كان ظالمًا لنفسه، وإن أقرَّ بباطل أو أحبَّه واتَّبَع هواه كان ظالما لنفسه، فظلمُ النفسِ يعود إلى اتباعَّ الظن وما تهوى الأنفس، وهذا يكون في اتباع الآراء والأهواء، فأصلُ الشرِّ البدَعُ، وهو تقديمُ الرأي على النصِّ واختيارُ الهَوَى على امتثالِ الأمر، وأصلُ الخير اتباعُ الهُدَى، كما قال تعالى: (فَإِمَّا يَأتينكمِ مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبعً هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يشقى (123) وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِى فَإِنَ لهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنحشره يَومَ الَقيامَةِ أَعمَى (124)) (1). قال ابن عباس (2): تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآنَ وعمل بما فيه أن لا يَضل في الدنيا ولا يَشْقَى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية. والضلال والشقاء هو خلاف الهدى والفلاح الذي أخبر به عن المتقين الذين يهتدون بالكتاب، حيث قال: (ذلِكَ الكتابُ لَا رَيب

_ (1) سورة طه: 123 - 124. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 163).

- تنزيه الله نبته عن الضلال والغي

فيه هُدًى) إلى قوله (أُوْلئكَ على هُدًى مِّن رَّبهِم وَأُوْلَئكَ هُمُ المفلحون (5)) (1). والضلال والشقاء هو أمرُ (2) الضاليِنِ والمغضوب عليهم المذكورين في قوله (غَيرِ المَغضُوبِ علًيهِم ولا الضاليَن (7)) (3)، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالّون" (4)، فإن اليهودَ عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم. ومن عرفَ الحقَّ ولم يعملْ به كان متبعًا لهواه، واتباعُ الهوى هو الغَي، ومن عَمِلَ بغير علم كان ضالاًّ. ولهذا نزَه اللهُ نبيَّه عن الضلال والغي بقوله: (والنجم إذا هوى (6) مَا ضَل صاحِبُكم وَما غَوى (2)) (5). قال تعالى في صفة أهل الغي: (سَأَصرِفُ عَنْ آياتي الَذِينَ يتَكبَرُون فِي اَلأَرضِ بِغَيرِ الحَقّ وَإِن يرواْ كلَّ أية لا يُؤمِنُواْ بِهَا وَإن يَرَواْ سَبيلَ الرُّشدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) (6)، وقال: (وَاَتلُ عَلَيهِم نَبَأَ اَلَذِيَ أتَيْنَاه آيتِنَا فانسَلَخَ مِنهَا فَاَتبعًهُ الشَيطاَن فَكانَ مِنَ الغَاوِيَن (175)) (7)، وقال في الضلال: (وإنَ كثَيرا لّيُضِلُونَ بِأَهوآئهم

_ (1) سورة البقرة: 2 - 5. (2) في الأصل: "أحد" تحريف. (3) سورة الفاتحة: 7. (4) أخرجه أحمد (4/ 378) والترمذي (2953،2954) عن عدي بن حاتم. وفي الباب روايات أخرى أخرجها الطبري في تفسيره (1/ 185 - 188، 193 - 195 من طبعة دار المعارف). (5) سورة النجم: 1 - 2. (6) سورة الأعراف: 146. (7) سورة الأعراف: 175.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) (1)، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (2). والعبد إذا عَمِلَ بما علم ورَّثَه اللهُ عِلمَ ما لم يعلم، كما قال سبحانَه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68)) (3)، وقال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)) (4)، وقال: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (5)، وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (6). فإذا تركَ العملَ بعلمه عاقَبَه الله بأن أَضلَّه عن الهدى الذي يَعرِفه، كما قال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (7)، وقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (8)، وقال: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) (9). وفي الحديث الذي رواه الترمذي (10) وصححه عن أبي هريرة

_ (1) سورة الأنعام: 119. (2) سورة القصص:50. (3) سورة النساء: 66 - 68. (4) سورة محمد:17. (5) سورة الحديد: 28. (6) سورة المائدة: 16. (7) سورة الصف: 5. (8) سورة الأنعام: 110. (9) سورة البقرة: 10. (10) برقم (3334). وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 297) =

- أجناس الأعمال ثلاثة

عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ العبدَ إذا أذنب نكِتَ في قلبه نكتة سوداءُ، فإذا تاب ونَزَعَ واستغفر صُقِلَ قلبه، فإن زادَ يَزِيدُ فيها حتى يَعْلُوَ قَلْبَه، فْذلك الرَّانُ الذي قال الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (14) (1) ". فهذه الأمور تتبيَّنُ بها أجناسُ ظلمِ العبدِ نفسَه، لكن كل إنسانٍ بحسبه وبحسبِ درجتِه، فما من صباح يُصْبِح إلاّ وللهِ على عبدِه حقوقٌ لنفسِه ولخلقِه عليه أن يفعلَها، وحدود عليه أن يحفظَها، ومحارمُ عليه أن يجتنبَها، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله فرضَ فرائضَ فلا تُضيعُوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّمَ محارمَ فلا تَنتهِكُوها" (2). فإن أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ: مأمور به، فالواجب منه هو الفرائض؛ ومنهيٌّ عنه وهو المحارم؛ ومباح له حدٌّ يُنتَهَي إليه، فتعدِّيه تَعدٍّ لحدود الله، بل قد يكون الزائد على بعض الواجبات والمستحبات تعدٍّ (3) لحدود الله، وذلك هو الإسراف، كما قال المؤمنون قبلنا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) (4). والذنوب

_ = والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (418) وابن ماجه (4244). (1) سورة المطففين: 14. (2) أخرجه الطبراني في الكبير (22/رقم 589) والدارقطني في السنن (4/ 183،184) وأبو نعيم في الحلية (9/ 17) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 110 - 13) عن أبي ثعلبة الخشني، وصححه الحاكم وحسَّنَه النووي، وانظر الكلام عليه في "جامع العلوم والحكم" (2/ 150 وما بعدها). (3) كذا في الأصل، والصواب أن يكون "تعدّيًا". (4) سورة آل عمران: 147.

- معنى قول الصديق لأظلمت نفسي ظلما كثيرا

تتناولُ جنسَ الذنوب، وأما الإسراف فهو تعدِّي الحدودِ، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1). فالإثم جنسُ المنهي عنه، والعدوانُ تعدِّي الحدِّ في المأذون فيه، والبِرُّ جنسُ المأمور به، والتقوى حفظُ الحدود، بل يُفعَل المأمورُ به ويترَكُ المنهيُّ عنه، ويُفعَل المباحُ من غير تعدِّي الحدودِ في ذلك. إذا تبيَّن هذا الأصل فقولُ السائل: "ما مفهوم قول الصديق: "ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا"، والدعاء بين يَدَي الله لا يحتمل المجاز، والصدِّيق من أئمة السابقين، والرسول أمرَه بذلك" يتضمن شُبهةً في هذا الدعاء، ومَثَارُ الشبهةِ أن يُقال: الصدّيقُ أجلُّ قدرًا من أن تكون له ذنوب تكون ظلمًا كثيرًا، فإنّ ذلك ينافي مرتبةَ الصدِّيقيةِ. وهذه الشبهة تزول بوجهين: أحدهما: أن الصديق بل والنبي والرسول إنما كَمُلَت مرتبتُه وانتهت درجتُه، وتَمَّ عُلُوُّ منزلتِه في نهايتِه لا في بدايته، وإنما قَالَ ذلك بفعلِ ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، وأفضلُ أعمالِه بل

_ (1) سورة المائدة: 2.

أفضلُها التوبة، فإن التوبة تكون من الكفر والفسوق والعصيان، وما من صدّيقٍ إلاّ ويمكن أن يتوب من الكفر والفسوق والعصيان كالصديقين من السابقين الأولين، وما وُجِدَ قبلَ التوبة فإنه لم يَنْقُصْ صاحبَه إذا تَعقَّبتْه التوبةُ ولم يُغْضِ من منزلتِه، ولا يتصوَّر أن بَشرًا يَستَغني عن التوبة، كما في الحديث المرفوع: "كل بني آدم خَطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون" (1). وفي صحيح البخاري (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة". وفي صحيح مسلم (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر اللهَ في اليوم مائةَ مرةِ". فقد أَمَر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمتَه بالتوبة عمومًا، وأخبرَ أنه يَستغفر اللهَ ويتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً، بل قولُه الذي في الحديث المتفق عليه (4): "اللهمَّ اغْفِر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنتَ أعلم به مني. اللهمَّ اغْفِر لي هَزْلي وجِدِّي، وخطأي وعَمْدي، وكل ذلك عندي، اللهمَّ اغْفِر لي ما قدَّمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي

_ (1) سبق تخريجه. (2) برقم (6307) عن أبي هريرة، وليس فيه الجزء الأول، وقد أخرجه مسلم (2702) عن الأغرّ المزني. (3) برقم (2702) عن الأغر المزني. (4) البخاري (6398) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري.

- الصديقون يجوز عليهم جميع الذنوب

لا إلهَ إلا أنتَ". فهذا الدعاءُ فيه من الاعتراف أعظمُ مما في الدعاء الذي أمر به الصدّيق. والصدِّيقون يجوز عليهم جميعُ الذنوب بإتفاق الأئمة، فقد يكون الرجل كافرًا ثم يتوب من الكفر ويصير صدِّيقًا، وقد يكون فاسقًا أو عاصيًا ثم يتوب من الفسق والمعصية ويصير صدِّيقًا. وإنما تنازع الناسُ في الأنبياء، وإن كان القولُ بعصمة الأئمة قد يقوله بعضُ من يقوله من الرافضة، حتى الإسماعيلية يقولون: إن بني عُبيد الله بن ميمون القدَّاحِ كانوا معصومين لا يجوزُ عليهم الخطأ ولا الذنوب، فهؤلاءِ زنادقةٌ مرتدون ليسوا من أهل القبلة الذين يُنْصَبُ معهم الخلافُ. والرافضة الذين يعتقدون العصمةَ في الاثنَي عشرَ أجهلُ الخلق وأضلُّهم، ليس لهم عقل ولا نقل، ويُشبِهُهم من يعتقد في شيخِه أو متبوعِه العصمةَ، لكرامة رآها منه أو لحسنِ ظنٍّ به، فهؤلاء كلُّهم من الجهال الذين ليس لقولهم أصل يُبْنَى عليه. ومع هذا فتقديرُ أن يكون أحدُ هؤلاء معصوما أو محفوظًا إنما ذاك عندهم بعد أن يَبلُغ منزلةَ الولايةِ أو الصدِّيقية، وأما قبلَ ذلك فليس بمعصوم باتفاق الناس، وإن كان الصواب الذي عليه أئمة الدين ومشايخُ الدين أن الولي والصديق لا يجب أن يكونَ معصومًا، لا من الخطأ ولا من نحوه، بل قد قال الصدّيقُ الأكبر خيرُ هذه الأمة بعده نبيِّها أبو بكر رضي الله عنه لما ولي الناسَ: "أيها الناسُ! القويُّ فيكم الضعيفُ عندي حتى آخُذَ منه الحقَّ، والضعيفُ فيكم القويُّ عندي حتى آخُذَ له الحقَّ، أطيعوني فيما أطعتُ اللهَ،

فإذا عصيتُ الله فلا طاعةَ لي عليكم" (1). وثبتَ في الصحيح (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَّ رُؤْيا رآها، فقال أبو بكر: دَعْني يا رسول الله أُعبِّرْها، فلما عَبَّرها قال: أصبتُ يا رسول الله أم أخطأتُ؟ فقال: "أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا". وقال الصديق في الكلالة (3): "أقولُ فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان". وأفضلُ هذه الأمة بعدَ أبي بكر عمرُ، وكان محدَّثًا مُلْهَمًا، كما في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "قد كانَ في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمرُ". وفي حديثٍ آخر: "إنَّ الله ضربَ الحقَّ على لسان عمر وقلبِه" (5). فعمر رضي الله عنه أفضلُ المخاطَبين المحدَّثين من هذه الأمة، والصدّيق أفضلُ منه، فإنّ الصديق يتلقَّى عن الرسول لا عن قلبه،

_ (1) أخرجه محمد بن إسحاق من حديث الزهري عن أنس، انظر "سيرة" ابن هشام (2/ 660،661). وصححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (8/ 90، 9/ 415). (2) البخاري (7046) ومسلم (2269) عن ابن عباس. (3) كما في تفسير الطبري (4/ 191 - 192). (4) البخاري (3469،3689) ومسلم (2398) عن أبي هريرة. (5) أخرجه أحمد (2/ 53،95) والترمذي (3683) عن ابن عمر، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2175 - موارد). وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 401).

ولهذا سُمِّيَ صدّيقًا، وما جاء به الرسول فهو معصومٌ أن يَستقِرَّ فيه خطأٌ، فما يأخذُه الصديق فهو صِدقٌ كلُّه وحق كلُّه، وأما المحدّث الذي يأخذُ عن قلبه فقلبُه قد يُصيبُ وقد يُخطِيءُ، فيجبُ على كلِّ محدَّث ومُكاشَفٍ أن يَعرِضَ ما وَقَعَ عليه على الكتاب والسنة، فإن وَافقَ ذلك وإلاّ ردَّه، كما قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إنه لَيَمُرُّ بقلبي النكتةُ من نكتِ القوم، فلا أقبلُها إلا بشاهدينِ اثنين: الكتابِ والسنةِ. وقال: ليس لمن أُلْهِمَ شيئًا من الخير أن يعملَه حتى يَسمَعَ فيه بأثرٍ، فإذا سَمِعَ بالأثر كان نورًا على نورٍ. وقال الجنيد بن محمد: عِلْمُنا هذا مُقيَّدٌ بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتبِ الحديثَ لا يصلحُ له أن يتكلم في علمنا. وقال سهل بن عبد الله التُّسْتَرِي: كل وَجْدٍ لا يَشهد له الكتابُ والسنة فهو باطل. وقال أبو عمرو بن نُجَيد أو غيرُه: من أَمَّر السنّةَ على نفسه قولاً وفعلاً نطقَ بالحكمة، ومن أَمَّرَ الهوى على نفسِه قولاً وفعلاً نطقَ بالبدعة، لأنّ الله يقول: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (1). ومثلُ هذا كثير في كلام المشايخ، فما يُلقَى لأهل المكاشفات والمخاطبات من المؤمنين هو من جنس ما يكون لأهل الرأي والقياس من العلم منهم، وكلُّ ذلك فيه حق وفيه باطل، وليس أحدٌ منهم معصومًا، وكلٌّ منهم عليه أن يَزِنَ ذلكَ بالكتاب والسنة والإجماع،

_ (1) سورة النور: 54.

- منزلة الصديق والفاروق

فما خالفَ ذلك فهو باطل. ومنزلةُ الصديقِ والفاروقِ دَلَّتْ على أنّ [من] يأخُذُ مِن علمِ النبوة الثابتِ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرفعُ منزلةً ممن يأخذ من أهل القلوب عن قلوبهم، فإن غاية الواحدِ من هؤلاء أن يكون مُشابهًا لعمرَ ولا يكونُ مثلَه قط، ومنزلةُ الصدّيقِ أفضلُ، ولهذا كان الصديقُ يُعلم عمرَ ومعاويةَ في غير قصةٍ، كما جرى له معه يومَ الحديبية لما قال عمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال: ألستَ رسولَ الله حقًّا؟ قال: فَلِمَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ في ديننا؟ قال: إني رسول الله، وهو ناصري ولستُ أعصِيْه، قال: ألم تُحدِّثنا أنّا نأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: بلى، فقلتُ لك إنكَ تأتيه في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتٍ البيتَ ومُطَوِّفٌ به. ثم جاء عمرُ إلى أبي بكرٍ، فقال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس هو رسول اللهِ حقا؟ قال: بلى، قال: فَلِمَ نُعطَى الدِّنِيَّةَ في ديِننا؟ قال: إنه رسول اللهِ وهو ناصرُه وليس يَعصِيْه، قال: ألم يكن يُحدِّثُنا أنّا نأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: بلى، أقال لكَ إنك تأتيهِ هذا العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتٍ البيتَ وتطوفُ به (1). فأبو بكر أجابَ بمثل ما أجابَ به رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من غير أن يسمعَ كلامَه في تلك القصةِ التي اضطربتْ فيها أكثرُ الصحابةِ، حتى

_ (1) أخرجه البخاري (2731،2732) ومسلم (1785) عن سهل بن حنيف.

- الكلام على قصة الخضر مع موسى

قال سهل بن حُنَيف - وهو من كبار المؤمنين وشهدَ مع علي صِفّينَ -: "أيها الناس! اتّهمُوا الرأيَ على الدين، فلقد رأيَتُني يومَ أبي جندلٍ، ولو أستطيعُ أن أَرُدَّ أمرَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرددتُه" رواه البخاري (1). فإذا كان الصديق والفاروق - وهما خيرُ الخلق بعدَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهما اللذان قال فيهما: "اقتَدُوا باللذينِ من بعدي أبي بكرِ وعمرَ - هما مع الرسول كما ترى، فما الظن بغيرِهما؟ وبهذا يُعلَمً أن كل من ادَّعَى استغناءَهُ عن الرسالة بمكاشفةٍ أو مخاطبةٍ، أو عصمةَ ذلك له أو لشيخِه ونحو ذلك= فهو من أضل الناس. ومن احتَجَّ على ذلك بقصةِ الخضِر مع موسى ففي غايةِ الجهل لوجوهٍ: أحدها: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجبُ على الخضرِ اتباعُ موسى، بل قال له موسى: إني على علمٍ من علمِ الله عَلَّمنِيهِ الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علمٍ من علم الله عَلَّمك الله لا أعلمه، ولما سَلَّم عليه قال: وأنَّى بأرضِكَ السلامُ؟ قال: أنا موسى، قال: موِسى بني إسرائيل؟ قال: نعم (2). فالخضر لم يعرف موسى حتى عرَّفه نفسَه. وأما محمدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو رسول الله إلى جميع الخلق، فمن لم يتبعْه كان كافرًا ضالاًّ من جميع من بَلَغتْه دعوتُه، ومن قال له كما قال الخضر لموسى كان كافرًا.

_ (1) برقم (4189). ورواه مسلم أيضًا (1785). (2) أخرجه البخاري (4725 ومواضع أخرى) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.

الوجه الثاني: أن ما فعلَه الخضرُ لم يكن خارجًا عن شريعة موسى، ولهذا لما بَيَّن له الأسبابَ التي أُبِيْحَ له بها خَرْقُ السفينة وقتلُ الغلام وبناءُ الجدارِ بغير جُعْلٍ أُقرَّه على ذلك، بل كانت الأسبابُ المبيحةُ لذلك قد عَلِمَها الخِضرُ دون موسى، كما يدخل الرجلُ دارَ غيره، فيأكلُ طعامَه ويأخذ مالَه، لعلمِه بأنه مأذون له في ذلك، وقتلُ الآخرِ لعدم علمِه بالإذن قد يكون سببًا ظاهرًا وقد يكون بسبب باطن، وعلى التقديرينِ هما في الشريعة. الوجه الثالث: أن الخضرَ إن كان نبيًا فليس لغير الأنبياء أن يتشبَّه إليه، وإنْ لم يكن نبيًا - وهو قول الجمهور - فأبو بكر وعمرُ أفضلُ منه، فإنّ هذه الأمة خير أمةٍ أخرجتْ للناس، وخيارُ هذه الأمةِ القرنُ الأول من المهاجرين والأنصار، وخيرُ القرنِ الأول السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخيرُهم أبو بكر وعمر. فإذا كان أبو بكر وعمر أفضلَ من الخضر، وحالُهما مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الحالُ، ونحن مأمورون أن نقتديَ بهما، لا بأن نَقتديَ بالخضر، كان من ترَكَ الاقتداءَ بهما في حالِهما مع محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقتدَى بالخضرِ في حالِه مع موسى= من أضلِّ الناسِ وأجهلِهم. بل من اعتقدَ أنه يجوز له أن يَخْرُجَ عن طاعةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتصديقِه في شيء من أمورِه الباطنة أو الظاهرةِ فإنه يجب أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل كائنًا من كان. وإذا عُرِفَ أنّ التوبة تَرفعُ منزلةَ صاحبِها وإن كان فيه قبلَ ذلك ما كان، لم يكن لأحدٍ أن ينظر إلى صدّيقٍ ولا غيرِه باعتبار مَا وقعَ

- ظلم النفس أنواع مختلفة ودرجات متفاوتة

منه قبلَ التوبةِ والاستغفار، ومن فعلَ ذلك كان جاهلاً أو ظالما مهما أمكن أن يقعَ، إلاّ إذا كانت التوبة قد وُجِدتْ منه، فقد زال أمرُه وارتفعت بالتوبة درجتُه. فلا يُستكبَر بعد هذا أن يقع من صديق قدر ماذا عسى أن يقع، وإن كان صديقُ هذه الأمة كان من أبعد الناس عن الذنوب قبل الإسلام وبعده، حتى إنّه لم يشرب الخمر في الجاهلية ولا الإسلام، وكان معروفًا عندهم بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، لكن المقصود أن يُحسَم مادةُ مثلِ هذا السؤال، لكن مع كونه من أبعد الناس عن الذنوب فكل بني آدم يحتاجُ أن يتوبَ ويعترفَ بظلم نفسه، كما اعترف بذلك من هو أفضل من أبي بكر. وتمام ذلك بالوجه الثاني، وهو أن ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة كما تقدم التنبيهُ عليه، وكل أحدٍ ظلم نفسه على قدر درجته ومنزلته، وما يمكننا أن نحصر ما فعله كل شخص من أشخاص الصديقين، فإن أحوال العباد مع الله أسرار فيما بينهم وبين الله، وإنما يمكن أن يُعرَف أنواع ذلك كما دل عليه الكتاب والسنة، ولا حاجةَ بنا إلى معرفة تفصيل ذلك، فإن هذا ليس مما يُقتدَى فيه بأحدٍ، فإن الاقتداء إنما يكون في الحسنات لا في السيئات التي يثاب فيها. والإنسان لا يَقْنَطُ من رحمة الله ولو عملَ من الذنوب ما عسى أن يعمل، كما قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (1).

_ (1) سورة الزمر: 53.

- حصول التقصير في كثير من الفرائض لعامة الخلق

ونحن نعلم أن التوكلَ على الله فرض، والإخلاص له فرض، ومحبة الله ورسوله فرض، والصبر على فعل ما أمر الله وعما نهى الله عنه وعلى المصائب التي تُصِيبُه فرض، وخشية الله وحدَه دون خشيةِ الناس فرض، والرجاء لله وحدَه فرض، وأمثال ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة والتي يَحصُل التقصيرُ في كثيرٍ منها لعامةِ الخلقِ. وأيُّ نوع من هذه الأنواع إذا تدبَّر بعضُ الصديقين فيه حالَهُ يَجدُه قد ظلم نفسَه فيه ظلمًا كثيرًا، دَعْ ما سوى ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وكالقيام بحقوق الأهل والجيران والمؤمنين، وإكمال كلّ واجبٍ كما أمر به، وأمثال ذلك مما لا يُحصَى. وقد ذكر البخاري (1) عن ابن أبي مُليكةَ قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسِه. وفي الصحيح (2) أن حنظلةَ الكتاب لما قال: نافق حنظلة، قال أبو بكر: إنّا لَنَجد ذلك. فهؤلاء كانوا يخافون على أنفسهم النفاقَ لكمالِ علمهم وَإيمانهم، وِلهذا كان عبد الله بن مسعود وغيره من السلف يستثنون الإيمان فيَقُول أحدُهم: أنا مؤمنٌ إن شاء الله. وقد تقدم التنبيهُ على مجامع الظلم. والله سبحانَه أعلم. وأما ما ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذيُّ من أصناف الرحمة فلا ريبَ أن الرحمة أصنافٌ متنوعة ومتفاوتة، كما ذكره من أن له

_ (1) تعليقًا في صحيحه (1/ 109)، وأخرجه في التاريخ الكبير (5/ 137). وانظر "تغليق التعليق" (1/ 52) و"فتح الباري" (1/ 110). (2) مسلم (2750).

- الكلام على الحكيم الترمذي ومؤلفاته

رحمةً عمَّتِ الخلقَ مؤمنَهم وكافرهم، ورحمةً خَصَّتِ المؤمنين، ثم رحمةً خصَّت خواصَّ المؤمنين على قدر درجاتهم، والحديثُ ليس فيه "رحمة من عندي"، وإنما فيه "فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني"، ولكن مقصوده أن شبه هذا بقوله: (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً) (1)، وهو قد جعلَ هذه المغفرةَ المسئولة من عندِه مغفرةً مخصوصة ليستْ مما تُبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما تُبذَل للعامة. وهذا الكلام في بعضه نظرٌ، فالحكيم الترمذي رحمه الله في الحديث والتصوف، وتكلُّمِه على أعمال القلوب واستشهاده على ذلك بما يذكره من الآثار، وما يُبدِيه عليها (2) من المناسبات والاعتبار= هو في هذا الطريق كغيره من المصنفين في فنونِ (3) العلم كالتفسير والفقه ونحو ذلك. وكثيرًا ما يُوجَد في هذه الكتب من الآثار الضعيفة بل المُضِلَّة ما لا يجوز الالتفاتُ إليه، وكذلك الحكيم الترمذي، فإن له كتبًا (4) متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها، وفي كتبه فوائدُ ومقاصدُ مستحسنة مقبولة، وفيها أيضًا أقوالٌ لا دليلَ عليها وأقوالٌ مردودة يُعلَم فسادُها، وآثارٌ ضعيفةٌ لا يجوز الاعتماد عليها.

_ (1) سورة آل عمران: 8. (2) في الأصل: "على". (3) في الأصل: "صوب". (4) في الأصل: "كتب".

- شرحه لهذا الحديث فيه نظر من وجوه

ومن أضعفِ ما ذكره ما تكلَّم عليه في كتاب "ختم الولاية" (1)، فإنه تكلم على حال من زعم أنه خاتم الأولياءِ بكلام مردودٍ ومخالفٍ لإجماع الأئمة، ويُناقِض في ذلك. وهذا كان سببَ من تكلم في ختم الأولياء وادَّعَى ذلك لنفسِه، كابن العَرَبي وابن حَمُّويَه ونحوهما، فإن الترمذي أخطأ مقدارًا من الخطأ، فزادوا على ذلك زياداتٍ كثيرة حتى خرج بهم الأمر إلى الاتحاد، وكلُّ متكلمٍ في الوجود يُوزَن كلامُه بالكتاب والسنة. وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر: أحدهما: فإنّ قوله "مغفرة من عندَك"، وقِوله (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً) ونحو ذلك، ليس في ذلك ما يقتضي اختصاصَ هذا الشخص الداعي بهذا المطلوب المسؤول، ولو كان كذلك لما كان يَسُوغْ لغيرهِ أن يَدعُوَ بهذا الدعاء، وهذا خلافُ الإجماع. وإن قيل: مراده أن هذا المطلوب يختص من دعا هذا الدعاء. قيل له: كذلك يمكن أن يُقال في كل مطلوبٍ بدعاء، فإن ذلك المطلوب هو مختص بذلك الدعاء. وإن قال: بل غير هذا من المطلوبات قد يُنالُ بلا دعاء. قيل له: وهذا أيضًا قد يُنال بلا دعاء، فمن أين لنا أن هذه المغفرة والرحمة المطلوبة لا تُنال إلا بهذا الدعاء؟ وأن سائر ما

_ (1) ص 367،421 - 422. وانظر نقد المؤلف له في "الصفدية" (1/ 248).

- خطاه في شرح قوله من عندك

يُطلب من الله قد يُنال بغير الطلب. ومن المعلوم أن الدعاء والطلب سببٌ لنيل المطلوب المسؤول، فإن جاز أن يكون للمسؤول سببٌ غيرُ الدعاء في غير هذا الموضع فكذلك في هذا الموضع. وأيضًا فقوله "من عندك" ليس فيه ما يدل على اختصاصِه بالطلب ولا بالمطلوب، وتفسير اللفظ بما لا دليل عليه هو من جنس تفسير القرامطة الذين يُفسِّرون الألفاظ لما أرادوا، وأكثرُ أهلِ الإشاراتِ الذين يقعون في أشياءَ مثل قطعةِ كثيرةٍ من الحكايات المذكورة في "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي، والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون، هي من جنس القياس والاعتبار. وهي كشَبَه غيرِ المنطق بالمنطق لكونه في معناه أوْ أولى بالحكم منه، كما يُفعل مثل ذلك في القياس الفقهي، كما إذا قيل في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) (1) إذا كان المصحفُ الذي كُتِب فيه طاهرًا لا يمسُّه إلاّ البدن الطاهر، فالمعاني التي هي باطنُ القرآن لا يمسُّها إلاّ القلوبُ المطهرة، وأما القلوب المنجسة لا تمسُّ حقائقَه، فهذا معنىً صحيح، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (2). قال بعض السلف: أَمنَعُ قلوبَهم فهمَ القرآن. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أذنبَ العبدُ نكتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن تابَ ونزعَ واستغفر صُقِلَ قلبُه، فإن زادَ زِيدَ فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الرانُ الذي قال الله تعالى فيه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى

_ (1) سورة الواقعة: 79. (2) سورة الأعراف: 146.

قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) (1). فالذنوب تَرِيْنُ على القلوب حتى تَمنعها فهمَ القرآن، وإذا كان هذا المعنى صحيحًا فقياسُ طهارةِ القلب على طهارة البدن فيما يُشتَرط له الطهارةُ من مسِّ القرآن إشارةٌ حَسَنَة، فأما أن يُفسَّر (2) المرادُ للفظ بغير المراد وبما لا يدلُّ عليه اللفظ فهذا خطأ. وقد قال زكريا: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)) (3)، ولم تكن الذرية الطيبة مختصة به ولا بالأنبياء، بل الله يُخرِج الأنبياء من أصلاب الكفار إذا شاء، ولكن بمشيئته - والله أعلم - أنه إذا قال: "من عندك" و"من لدنك"، كان مطلوبًا فعلُ العبد، فإن ما يُعطيه الله للعبد على وجهين: منه ما يكون بسبب فعلِه، كالرزق الذي يَرزقه بكسبه، والسيئات التي تُغفَر له بالحسنات الماحية لها، والولد الذي يرزقه بالنكاح المعتاد، والعلم الذي يناله بالتعلم المعهود، والرحمة التي تصيبها بالأسباب التي يفعلها. ومنه ما يُعطيه للعبد ولا يُحوِجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمر، كما أعطى زكريا الولدَ مع أن امرأته كانت عاقرًا، وكان قد بلغ من الكبر عِتِيًّا، فهذا الولد وهبه الله من لدنه لم يَهَبْه

_ (1) سورة المطففين: 14. والحديث سبق تخريجه. (2) في الأصل: "نفس"، وهو تحريف. (3) سورة آل عمران: 38.

بالأسباب المعتادة، فإن العادة لا تحصل بهذا الولد، وكذلك العلم الذي علَّمه الخَضِرَ من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة، ولهذا قال: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)) (1). وقوله: "مغفرة من عندك"، لم يقل فيه "من لدنك مغفرة" بل "من عندك"، ومن الناس من يُفرِّقُ بين "لدنك" و"عندك"، وهكذا قد يُفرَّق بين التقديم والتأخير، فإن لم يكن بينهما فرقٌ فقد يكون المراد: اغفر لي مغفرةً من عندك لا تَصِلُها بأسبابٍ، لا من عزائم المغفرةِ التي تغفر لصاحبها، كالحج والجهاد ونحوهما ما يُوجب المغفرةَ لصاحبه، بل اغفر لي مغفرة تَهَبُها لي وتَجُودُ بها عليَّ بلا عمل يقتضي تلك المغفرة. ومن المعلوم أن الله تعالى قد يَغفر الذنوبَ بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات الماحية، وقد يغفرها بالمصائب المكفرة، وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد وسؤاله أن يغفر له، فهذه مغفرة من عنده. فهذا الوجه إذا فُسِّر به قوله: "من عندك" كان أحسنَ وأشبهَ مما ذكر من الاختصاص. وأما قوله: "والأشياء كلُّها من عندهِ"، فيقال: [إن] للأشياء وجهين: منها ما جُعِل سببًا من العبد يوفيه عليه، ومنها ما يفعله بدون ذلك السبب، بل إجابةً لسؤالِه وإحسانًا إليه. واستعمال لفظ "من عندك" في هذا المعنى هو المناسب، دون تخصيص بعض الناس دون بعض، فإن قوله "من عندك" دلالته على الأول أبين،

_ (1) سورة آل عمران: 8.

ولهذا يقول الرجل لما يطلبه: "أعطنى من عندك" لما يطلبه منه بغير سبب، بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدَّين والنفقة، فإنه لا يقال فيه "من عندك". والله تعالى وإن كان الخلقُ لا يُوجبون عليه شيئًا فهو قد كتبَ على نفسِه الرحمةَ، وحرَّم الظلمَ علىَ نفسه، وأوجبَ بوعدِه ما يجب لمن وعدَه إيَّاه، فهذا قد يَصير واجبًا بحكم إيجابِه ووعدِه، بخلاف ما لم يكن كذلك. فاستعمالُ لفظ "من عندك" في هذا هو شبيهٌ باستعماله فيما يَطلب من الناس من الإحسان ذو المعاوضات. وأيضًا فقوله "من عندك" يُراد به أن يكون مغفرةً تجود بها أنت عليَّ لا تُحوِجُني فيها إلى خلقِك، ولا يُحتاج إلى أحدٍ يَشْفَع فيَّ أو يَستغفر لي، واستعمال لفظة "من عندك" في مثل هذا معروف، كما في حديث توبة كعب بن مالك (1) لما جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "أَبْشِرْ بخيرِ يوم مرَّ عليكَ منذ وَلدتْك أمُّك"، فقلتُ: يا رسولَ الله! أمن عند الله أو من عندك؟ فقال: "بل من عند الله"، فأخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تابَ عليه من عنده. وكلا الوجهين قول مريم عليها السلام (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)) (2)، فلما كان الرزق لم يأتِ به بشرٌ ولم

_ (1) أخرجه البخاري (4418 ومواضع أخرى) ومسلم (2769) عن كعب بطوله. (2) سورة آل عمران: 37.

يُسْعَ فيه السعيُ المعتاد قالت: "هو من عند الله". فهذه المعاني وما يناسبها هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: كذلك كلامُ الحكيم الترمذي على مثل هذا، وإنه أراد بالتخصيص ما يناسب هذا، كان قولاً محتملاً، وقد قال عمرُ: احمِلْ كلامَ أخيك على أحسنِه حتى يأتيكَ ما يَغْلِبُك منه، والله أعلم.

(2) مسألة فيمن قال: إن نبيا أكله القمل فاشتكى إلى الله، فأوحى إليه: لئن اختلج هذا في سرك مرة أخرى لأمحونك من ديوان الأنبياء

مسألة في رجلٍ قال: إن نبيًّا من الأنبياء أكلَه القُمَّلُ، فاشتكى إلى الله، فأوحى الله إليه: لئن اختلجَ هذا في سِرِّك مرةً أخرى لأمْحُونَّكَ من ديوان الأنبياء. الجواب الحمد لله. لا يجوز لأحدٍ أن يقول مثلَ هذا القول من غيرِ بيانِ حالِه، فإن هذا ليس من المنقول الثابت، بل من النقول الباطلة، ولو كان من النقول الصحيحة لم يَجُزْ لأحدٍ من أمة محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتبعَ مثلَ هذه الحكاية ويَبِنيَ عليها طريقَه إلى الله تعالى. وذلك أن الحكايات الإسرائيليات (1) إن ثبتتْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو نُقِلتْ بالتواتر ونحو ذلك عُلِمَ صحتُها، وإذا صحَّتْ فما وافقَ الشريعةَ اتُبع، وما خالف منها شريعة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتَّبَعْ؛ فإن الله تعالى يقول: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (2). وفي النسائي (3) وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لو كان موسى

_ (1) في الأصل: "الإسرائيلات". (2) سورة المائدة: 48. (3) لم أجده عند النسائي، وقد أخرجه أحمد (3/ 338) والدارمي (441) من =

- لا يجوز لأحد أن يثبت بالإسرائيليات حكما يخالف شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -

حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضلَلْتُم". وفي رواية (1): "لو كان موسى حيًا ما وسعَه إلا اتباعي". وقد قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)) (2). قال ابن عباس (3): ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه العهدَ والميثاقَ لئنْ بُعِثَ محمدٌ وهو حيٌّ ليؤمننَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذَ الميثاقَ على أمته لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمنُنَّ به ولينصُرنَّه. وهذا كما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله بعث محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جميع أهل الأرض، عربِهم وعجمِهم، أمّيَهم وكتابيِّهم، إنسِهم وجِنِّهم. فلا يَقبل الله من أحدٍ عملاً يخالف شريعتَه وإن كان ذلك العملُ مشروعًا لبعض الأنبياء. فمن اتبعَ الشرعةَ والمنهاجَ الذي كان مشروعًا لموسى وعيسى ونُسِخ على لسانِ محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو كافرٌ باتفاق المسلمين، وإذا كان هذا فيما عُلِمَ أنه مشروعٌ للأنبياء، فكيف بما يُحكَى عنهم ولا يُعلَم صِحَّتُه؟ فلا يجوز لأحدٍ أن يثبتَ بالإسرائيلياتِ لا صحيحِها ولا ضعيفِها حكمًا يُخالِفُ شريعةً محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنقولاتُ من

_ = طريق مجالد عن الشعبي عن جابر، وحسَّنه الألباني في "إرواء الغليل" (1589) لشواهِده. (1) لأحمد (3/ 387). (2) سورة آل عمران: 81. (3) أنظر: تفسير الطبري (3/ 237) ونحوه عن السدي في تفسير ابن أبي حاتم (2/ 694).

- إجماع المسلمين على جواز الاشتكاء إلى الله فيما نزل من الضر

الإسرائيليات تارةً يُعلَم صحتُها، وتارةً يُعلَم أنها كذبٌ، وتارةً لا يُدرَى. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذبوهم، فإمّا أن يحدِّثوكم بحقّ فتكذبوه، وإمّا أن يحدِّثوكم بباطلٍ فتصدِّقوه". إذا تبينَ هذا فنقول: أجمع المسلمون على أن المسلم يجوز له أن يشتكي إلى الله ما نزلَ من الضرِّ، والله سبحانَه في كتابه قد أمر بذلك، وذمَّ من لا يفعله، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)) (2)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)) (3)، وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)) (4). وفي الصحيح (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في دعائه: "اللهمَّ إني أعوذ بك من جَهْدِ البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". وفي الصحيح (6) أيضًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: "اللهمَّ إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّلِ عافيتك (7)، وفجاءةِ

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 136) وأبو داود (3644) عن أبي نملة الأنصاري، وله شاهد من حديث جابر أخرجه أحمد (3/ 387). ولا يوجد بهذا السياق في الصحيحين. (2) سورة الأنعام: 42. (3) سورة المؤمنون: 76. (4) سورة الأعراف: 55. (5) البخاري (6347) ومسلم (2707) عن أبي هريرة. (6) مسلم (2739) عن ابن عمر. (7) في الأصل: "تحويل عاقبتك" تحريف.

- الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر

نِقْمتِك، وجميعِ سَخَطِك". وفي الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان لا يَدعو دعاءً إلاَّ خَتَمه بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)). وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العباسَ وغيره أن يسأل العافيةَ في الدنيا والآخرة (2)، وعلَّم رجلاً أن يَدعُوَ فيقول: "اللهمَّ اغفر في وارحمني واهدني وعافني وارزقني" (3)، ومثل هذا كثير. والعبد إذا اشتكى إلى ربِّه ما نَزل به من الضِّرِّ وسألَه إزالتَه لم يكن مذمومًا على ذلك باتفاق المسلمين، والشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر، بل الشكوى إلى الخلقِ قد تُنافِي الصبرَ، فإنَّ يعقوبَ عليه السلام قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (4)، وقال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ). وكان عمر بن الخطاب يقرأ في الفجر بسورة هود ويوسف ونحو ذلك، فلما وصل إلى قوله: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) فسُمِعَ نَشِيْجُه من أواخر الصفوف. وهذا مما يدل على كَذِبَ الحكاية، فإن يعقوب عليه السلام اشتكى إلى الله ما أصابه بفراقِ ولدِه من البثّ والحُزْن، ولم يكن

_ (1) البخاري (4522،6389) ومسلم (2690) عن أنس. والآية من سورة البقرة: 201. (2) أخرجه أحمد (1/ 3،8،11) من طرق عن أبي بكر الصديق. (3) أخرجه مسلم (2697) عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه. (4) سورة يوسف: 83. (5) سورة يوسف: 86.

- الكلام على الرضا بالقضاء

مذمومًا بذلك، وكذلك أيوب عليه السلام قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)) قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)) (1). وقد قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)) (2). وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)) (3). فهؤلاء الأنبياء قد اشتكَوا إلى الله، وأزالَ ما اشتكَوا منه من الضرِّ والغمِّ والحزنِ ونحوِ ذلك، فكيف يُمحَى [نبيٌّ من] الأنبياء إذا اشتكى من ضُرِّ القمل وغيره؟ أم كيف يمحوه من ديوان النبوة إذا اختلج ذلك في سِرِّه؟ وأكثر ما يُقال: إنّ العبد ينبغي له أن يَرضَى بالقضاء. لكن جواب هذا من وجوه: أحدها: أن الرضا ليس بواجب في أصح قولي العلماء بل يُستحبُّ، وإنما الواجبُ الصبرُ، والصبر لا يُنافي الشكوى. الثاني: أن الرضا لا يُنافي القضاءَ مطلقًا، بل يَرضَى في الحاضر، ويسأل الله في المستقبل أمرًا آخر، فإن الرضا إنما يكون

_ (1) سورة الأنبياء: 83 - 84. (2) سورة الأنبياء: 87 - 88. (3) سورة الشعراء: 75 - 76.

بعد القضاء، والدعاءُ إنما يكون بطلب مستقبل أو دفعِه، فالرضا بما مضى لا يُنافي طلبَ زوالِ المستقبل. وقد يخاف العبد أنه لا يدومُ الرضا، فيسألُ اللهَ زوالَ الشدَّة التي يَخافُ معها زوالَ رضاه، فالداعي قد يكون راضيًا وغيرَ راضٍ، كما أن الراضيَ قد يكونُ داعيًا وغيرَ داع. الثالث: أن اختلاجَ المصيبةِ في السر لا يُنافي الرضا باتفاق العقلاء، ولا يدخل هذا في التكليف، فضلاً عن أن يكون ذنبًا، أو أن يستحق صاحبُه زوالَ نبوته. وبالجملة فهذه الحكايات المخالفة لشريعةِ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تخلو عن وجهين: إما أن تكون كذبًا، وإمّا أن تكونَ غيرَ مشروعةٍ لنا في دين الإسلام، فلا يحلُّ لأحدِ أن يحكيَها لمن يتبعُها، ولا أن يستحسنَ العملَ بها في ديننا، ولا يمدحَ على ذلك.

(3) مسألة في قوله تعالى (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم)، هل من هنا للتبعيض أو زائدة؟ وما حكم من يعتقد زيادتها؟

مسألة في قوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (1)، هل "من" هاهنا للتبعيض؟ فيكون الحكم بالعداوة على البعض؛ أو تكون "من" زائدة؟ فيُحكَم على كلِّ واحدٍ ولدٍ وكل زوج بالعداوة. فإن قلتم: إنها للتبعيض فما حكمكُم على من يعتقد زيادتَها؟ ويزعم أنه يستدل على الحديث والقرآن بكلام العرب، وهل من دليلٍ على ذلك فيما ذكر من القرآن والحديث وكلام العرب؟ فبيِّنُوه، أم ليس الأمر كذلك؟ الجواب الحمد لله. بل "من" هُنا للتبعيض باتفاق الناس، والمعنى أن من الأزواج والأولاد عدوًّا، وليس المراد أنّ كل زوجٍ وولدٍ عدوٌّ (2). فإنّ هذا ليس هو مدلولَ اللفظ، وهو باطل في نفسِه، فإن سبحانَه قد قال عن عباد الرحمن: إنهم يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ

_ (1) سورة التغابن: 14. (2) في الأصل: "عدوا".

- قول من قال إنها زائدة، غلط من وجوه

أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (1)، فسألوا اللهَ أن يَهَبَ لهم من أزواجهم وأولادِهم قرةَ أعين، فلو كان كل زوج وولدٍ عدوًّا (2) لم يكن فيهم قرةُ أعين، فإن العدوَّ لا يكون قرةَ عين بل سُخْنَةَ عين، وأيضًا فإنه من المعلوم أن مثلَ إسماعيل وإسحاق ابْنَي إبراهيم، ومثلَ يحيى بن زكريا وأمثالَهم ليسوا أعداءً. وقول من قال: إنها هنا زائدة، غلط لوجوه: أحدها: أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النحاة أنها لا تُزاد في الإثبات، وإنما تُزاد في النفي تحقيقًا لعموم النفي (3) كقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) (4)، وقوله (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (5) ونحو ذلك، فإنه لولا "من" لكان الكلام ظاهرًا في العموم، فإنه يجوز أن تقول: ما رأيتُ رجلاً بل رجلين، فإذا أدخلتَ "من" فقلتَ: ما رأيتُ من رجلٍ كان نصًّا في العموم، فلا يجوز أن يقال: ما رأيتُ من رجلٍ بل رجلين، مع أن النكرة في سياق النفي للعموم مطلقًا، لكن قد يكون نصًّا وقد يكون ظاهرًا، فإذا كانت ظاهرًا احتملت نفيَ الواحد من الجنس بخلاف النص، وهذا الموضعُ إثبات لا نفي، فلا تُزادُ فيه.

_ (1) سورة الفرقان: 74. (2) في الأصل: "عدو". (3) انظر "مغني اللبيب" (ص 358 وما بعدها). (4) سورة المائدة: 73. (5) سورة هود: 6.

الثاني: أنّ من جوَّز زيادتَها في الإثبات - كالأخفش - لا يُجوَّزه إلاّ إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه، وإلاّ فلو قال قائل: إن من هؤلاء القوم مسلمين، وأرادَ أنَّ جمعَهم مسلمون، لم يجزْ ذلك بالاتفاق. الثالث: أنه إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلاً. الرابع: الزيادة على خلاف الأصل، فلا يجوز ادّعاؤها بغير دليلٍ، والله أعلم.

(4) مسألة فيمن استدل بتحويل النبي - صلى الله عليه وسلم - رداءه في الاستسقاء، وجعل أعلاه أسفله، ورقع ظاهر كفيه إلى السماء، وجعل باطنهما إلى الأرض= على أن الله ليس فوق السماوات على العرش

مسألة فيمن استدل بتحويل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِداءَه في الاستسقاء، وجَعْلِ أعلاه أسفلَه، ورَفْعِ ظاهرِ كفيْه إلى السماء، وجَعْلِ باطنِها إلى الأرض= على أن الله ليس فوقَ السماوات على العرش بائن من الخلق، وأنه بذاتِه لا يختصُّ بجهةِ العُلُوّ، هل هو مصيبٌ في ذلك الاستدلال أم لا؟ وما معنى الحديث؟ وهل لقولِ طائفةٍ من الفقهاء إنه يُستحب لمن هو في شدةٍ أن يَرفعَ ظاهرَ كفَّيهِ إلى السماء دون باطنِها وجهٌ؟ ولو فُرِضَ أن الحديث يدل على ذلك ولو على بُعْدٍ، فهل مثلُ ذلك مع ما يزعمونه أدلةً عقلية دلَّتْ على استحالة ذلك يُعارِض ما ثبتَ بالكتاب والسنة من أن الله تعالى مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقِه فوقَ كل شيء وعالٍ على كل شيء أم لا؟ الجواب الحمد لله رب العالمين. استدلالُ المستدلِّ بهذا وإن سبقَه إلى نحو منه من المتجهمةِ المنتسبةِ إلى الحديث، فإنه يدلُّ على غايةِ الجهل بما فعله رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء، وغايةِ الجهلَ في الاستدلال بذلك على نفي علوِّ الله، إذْ ما فعلَه يدل على نقيضِ مطلوبِ هذا المستدلِّ الجاهل. ونحن نبيّن ذلك بالكلام على ما

- الكلام على ذلك في فصلين

فعلَه من تحويل الرداء، ومن رَفْعِ يديه في الاستسقاء. أما الفصل الأول - وهو تحويلُ الرداء - فما علمتُ أحدًا يستدلُّ به على نفي العلوِّ، ولا فيه شبهةٌ تَقتضي ذلك، وإنما المعروف عن بعضهم أنه يستدل برفع اليدين، فهذا هو الذي يَعترض به بعضُ الناس، فأما الرداء فلا، ولكن نتكلم على الفصلين. أما الأول فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل أعلاه أسفلَه كما قاله هذا المستدل، وإنما جَعلِ الأيمنَ على الأيسر والأيسَرَ على الأيمن، وقَلَبَه فجعلَ باطنَه ظاهرًا وظاهرَه باطنًا، كما جاء مفسَّرًا في الأحاديث المعروفة في الباب، فإن في الصحيحين (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلَّى، فاستسقى، واستقبلَ القبلة، وقَلَبَ رداءه، وصلى ركعتين. وفي لفظ: استقبل القبلة، وحوَّل رداءه. فلفظُ الحديث جاء بلفظ القلب وبلفظ التحويل، ورواه البخاري من وجوهٍ بلفظ التحويل (2)، وذكر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال (3): جعلَ اليمينَ على الشمال. ورواه أبو داود (4) من حديث عبد الله بن زيد أيضًا، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستسقي، قال: فحوَّل رداءَه، وجعلَ عطافَه الأيمنَ

_ (1) البخاري (1012 ومواضع أخرى) ومسلم (894). (2) بأرقام (1005،1012،1023،1024،1025،1028)، وبلفظ القلب، في (1011،1026،1027،6343). (3) برقم (1027). (4) برقم (1163).

على عاتقِه الأيسر، وجعلَ عطافَه الأيسرَ على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز وجل. ورواه مالك (1) وأحمد (2) أيضًا - واللفظ له - من حديث عبد الله ابن زيد قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استسقى لنا أطالَ الدعاء وأكثر المسألةَ، قال: ثم تحوَّلَ إلى القبلة وحوَّلَ رِداءَه فقلبَه ظهرًا لبطنٍ. ورواه الدارقطني (3) أيضًا من حديث عبد الله بن زيد قال: خرج رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلَّى يستسقي، فاستقبلَ القبلةَ، فقَلَبَ رداءَه وصلَّى ركعتين. قال سفيان: جعلَ اليمينَ على الشمال والشمالَ على اليمين. ورواه أحمد (4) وأبو داود (5) أيضًا عنه قال: استسقى النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه خميصة سوداءُ، فأرادَ أن يأخذَ أسفلَها فيجعلَه أعلاها، فثَقُلتْ عليه، فَقَلَبَها الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ] على الأيمن. فهذا فيه أيضًا ما في سائر الأحاديث أنه قلبَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن، لكن فيه ذكر الراوي أنه همَّ بجَعْلِ أسفلها أعلاها، فهذا ليس فيه أنه فعلَ ذلك، وإنما فيه أن الراوي ظن أنه أراد فِعْلَه، والظن قد يُصيب وقد يُخطئ.

_ (1) الموطأ (1/ 190). (2) 4/ 41. (3) 2/ 66. (4) 4/ 41. (5) برقم (1164).

- تحويل الرداء وصفته والمقصود منه

فهذه أحاديث عبد الله بن زيد، وحديثه أشهر حديثٍ في تحويل الرداء وفي صلاة الاستسقاء، وأصحُّ الأحاديث في ذلك، فيها تارةً متصلاً بالحديث وتارةً من تفسير الرواة أنه جعلَ الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ على الأيمن]، وفيها تصريح بأنه لم يفعل الأعلى أسفل ولا الأسفلَ أعلى. وكذلك غيره من الحديث مثل حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد (1) وابن ماجه (2)، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا يَستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبَنَا ودعا الله عز وجل، وحوَّلَ وجهَه نحو القبلةِ رافعًا يَدَيْه، ثم قلَبَ رداءَه، فجعلَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن. وكذلك رواه الدارقطني (3) من حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنةُ الصلاة في العيدين، إلاّ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلَبَ رداءَه، فجعل يمينَه على يسارِه ويسارَه على يمينه، وذكر تمامَه. وفي إسناده مقال يَصلُح للاعتضاد (4) والاستشهاد. وتحويلُ الرداء في دعاء الاستسقاء سنةٌ عند فقهاء الحجاز وفقهاءِ الحديثِ كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قولُ صاحبَي أبي حنيفةَ

_ (1) 2/ 326. (2) برقم (1268). (3) 2/ 66. (4) في الأصل: "للاقتصاد" تحريف. وفي إسناد الحديث محمد بن عبد العزيز، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث.

- فساد استدلال الجهمي من وجوه

أبي يوسف ومحمد، كما أن الصلاة في الاستسقاء سنة عند هؤلاء، وأبو حنيفة لم يَبلُغْه لا الصلاةُ في الاستسقاء ولا تحويلُ الرداء في دعائه. وأما صفة التحويل فجعلُ الأيمنِ على الأيسر كما جاءت بذلك الأحاديث، عند جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور، وهو قول الشافعي إذْ كان بالعراق، وقال في الجديد: في الرداء المُرَاد كذلك، وفي المربع يُجعَلُ أعلاه أسفلَه، لما تقدَّم من هَمِّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحجة الجمهور أنه حوَّله من اليمين إلى اليسار، وأن الخلفاء الراشدين بعده فعلوا ذلك، كما فعلَه عثمان بحضرة الصحابة. وأما تلك الزيادةُ فلو كانت ثابتة لكانت ظنَّا من الراوي لا يتركُ لها ما ثبتَ مِنْ فعلِه المتيقنِ وفعلِ خلفائِه. وروى أبو بكر النجَّاد عن عروة بن أُذَيْنَةَ عن أبيه قال: رأيتُ عثمان يَستسقي بالمصلَّى، فرأيتُه صلى ركعتين جَهَرَ فيهما بالقراءة، ثم خطبَ الناس، ثم حوَّل وجهَه إلى القبلة، ورفع يديه، وحوَّل رداءه، جعلَ اليمينَ على اليسار واليسارَ على اليمين. فقد ظهر فسادُ استدلال الجهمي من وجوه: أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل أسفلَه أعلاه، بل قلَبَه، وإن قيل (1) إنه همَّ بذلك.

_ (1) في الأصل: "فإن قيل".

الثاني: هَبْ أنه جعل أعلاه أسفله، أو أنّ ذلك هو المستحب - كما هو أحد قولَي الفقهاء - لكونه همَّ بذلك وتركَه للعُسْر، وأيُّ شيء في جعلِ أسفلِ الرداءِ أعلاه مما يدلّ على أن الله ليس هو العلي الأعلَى، وأنه ليس هو فوقَ العالم؟ أو أيُّ شيء في ذلك ما يُبطِل أدلةَ القائلين بذلك أو يُعارِضها؟ وهذا جواب عن هذا، وعن توجيهِ اليدين إلى الأرض إن قيل (1): إنه فعل ذلك. وسنبيِّن حقيقةَ ما فعلَه، فإن غاية ما يُقدِّر المقدِّر أنه وجه وجهَه ويَدَيْه إلى الأرض وجعلَ أعلى ردائِه أسفلَه، فليس في بني آدم من يقول: إنه قصدَ بذلك أن الله في الأرض دون السماء، فإن هذا لا يقوله لا مؤمن ولا كافر، ولا مُثبِت ولا منافق، بل جميعُ الخلق متفقون على أنّ الأرض ليست مختصَّة به دون السماء، بل الجهمية تقول: لا فرقَ بين الأرض والسماء، ثم تارةً يقولون: إنه بذاته في الأرض والسماء كما يقوله الحلولية والاتحادية، منهم أكثرُ عُبَّادِهمٍ وعوامِّهم الذين يَدَّعون التحقيقَ والتوحيد من صوفيتهم. وتارة يقولون: بل ليس هو داخلَ العالم ولا خارجَه البتة، ولا فوقَ العرش، ولا في السماء ولا في الأرض، وهذا قول نُظَّارِهم ومتكلميهم. فإذا قُدِّرَ أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصدَ التوجهَ إلى الأرض دون السماء، لم يقل أحدٌ: إنَّ ذلك يدلّ على أن الله في الأرض دون السماء، بل غايةُ ما يقال: يَبْطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليدين أنه فوق

_ (1) في الأصل: "أي قيل" تحريف.

العالم. وسنتكلم على ذلك ونبيِّن أنه لا يَبطُل هذه الدلالة، وبتقدير أن يَبْطُل هذا الدليلُ المعيَّن لا يَبْطُلُ المدلولُ عليه، فنَفْرِضُ أن رفعَ اليدين لا يدل على هذه المسألة، فأدلتها السمعية والعقلية أكثر من أن تُسَطَّر هنا، وفي القرآن نحو ثلاثمائة موضع يدل على ذلك، والأحاديث والآثار في ذلك أشهرُ وأظهرُ من أن تُذكرَ هنا مع الأدلة العقلية، كما قد بسط في غير هذا الموضع (1). ثم يُقال: هَبْ أنه يَبْطُل الاستدلالُ برفع اليدين، فأي شيء أدخلَ تحويلَ الرداءِ في ذلك؟ فإنّا ما علمنا أحدًا استدلَّ بتحويل الرداءِ على أن الله فوقُ حتى تَبطُلَ دلالتُه، فعُلِمَ أن إدخال هذا في هذه المسألة جهالةٌ واضحة، وإنما يُعرَف عن طائفة من المتجهمةِ المنتسبين إلى الحديث أنهم يذكرون رفعَ اليدين، وأما تحويل الرداء فما علمتُ لذكره وجهًا. الوجه الثالث: أن يقال: ما ذكره المستدلُّ إن كان فيه حجة فهي عليه لا له، وذلك أنّ عَائبَنا يقولْ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل أعلى ردائه أسفلَه، أو أنّ ذلك هو المستحب، فيقال له: إن لم يكن في هذا التحويل دليلٌ على مسألة العلوّ بنفي ولا إثباتٍ فلا حجة لك فيه، وإن كانت فيه حجةٌ فثبتَ بحجةٍ على أن الله في العلو، لأنه جعل أسفلَه أعلاه، فيكون قد قصدَ توجيهَ ردائِه إلى ما فوق كما وَجَّهَ قَلْبَه، كما سنذكره إن شاء الله، وهذا مناسب، وهو لا يُمكِنُه

_ (1) انظر مجموع الفتاوى (5/ 12،15،54 - 58،164 - 178،226 - 227).

- الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الاستسقاء

أن يقول: توجيهُه إلى أسفلَ لأن الله في العلوّ، والمثبتُ يمكنُه أن يقول: وَجهَه إلى فوق لكون اللهِ تعالى في العلو، فإن كان فيه حجة فهو للمُثْبِت لا للنافي. ولكن الصواب أنه ليس فيه حجة لا على هذا ولا على هذا، لأن المقصود بذلك تحويلُ السنَةِ من الجَدْب إلى الخِصْب، كما رواة الدارقطني (1) عن جعفر بن محمد عن أبيهَ عليهم السلام قال: استسقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحوَّل رداءَه ليتحوَّل القحطُ. فصل وأما رفع اليدين في الاستسقاء فالأصل فيما ذُكِرَ في السؤال حديثُ أنس بن مالك، وقد أخرجاه في الصحيحين (2) عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يَرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء، فإنه كان يرفع حتى يُرَى بياضُ إِبْطَيْه. لفظ البخاري. وله (3) عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حتى رأيتُ بياضَ إبْطَيه. ولفظ مسلم (4): "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء

_ (1) 2/ 66. (2) البخاري (1031) ومسلم (896). (3) البخاري (1030). (4) برقم (896).

حتى يُرَى بياضُ إبْطَيه". ولمسلم (1) أيضًا عن أنس بن مالك قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في الدعاء حتى يُرى بياضُ إبطيه. وفي لفظٍ لمسلم (2): أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فأشار بظهرِ كفيه إلى السماء. وفي لفظ لأبي داود (3) عنه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستسقي هكذا، ومدَّ يَدَيْه وجعلَ بطونَهما مما يلي الأرضَ حتى رأيتُ بياضَ إبْطَيه. وفي لفظٍ لأبي داود (4): أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حذاءَ وجهِه، أعني في الاستسقاء. وعن عمير مولى آبي اللحم أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستسقي عند أحجار البيت (5) قريبًا من الزَّوراء قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه لا يُجاوِز بهما رأسَه. رواه أبو داود (6) والنسائي (7). وروى الأوزاعي عن سليمان بن موسى قال: لم يُحفظْ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رفع يديه الرفعَ كلَّه إلاّ في ثلاثةِ مواطنَ: في الاستسقاء، والاستنصار، وعشيَّةَ عرفةَ، ثم كان بعدها رفعًا دون رفع فيها. رواه أبو داود في "المراسيل" (8).

_ (1) برقم (895). (2) برقم (896). (3) برقم (1171). (4) برقم (1175). (5) في هامش الأصل: "صوابه الزيت، لأن الزوراء في المدينة، والبيت بمكة، فلا يَحسُن ذكر البيت هنا". وهو كما قال المعلّق، فالرواية "الزيت". (6) برقم (1168). ورواه أيضًا أحمد (5/ 223). (7) 3/ 158. (8) برقم (148).

- الكلام على حديث أنس كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء

وعن ابن عباس قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بعرفةَ بالموقفِ ويَدَاه إلى صدرِه كما يستطعم المسكين. وعن ابن عباس قال: المسألة أن تَرفع يديك حذوَ منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدَّ يديك جميعها (1). وفي لفظ (2): والابتهال هكذا، ورفع يديه وجعل ظهورهما ممّا يَلي وجهَه. [و] رواه أبو داود من طريق آخر (3) عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر نحوه. إذا تبين هذا فنقول: الكلام على حديث أنس في موضعين: أحدهما: قوله "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء". والثاني: ما رُوِي في بعض ألفاظ مسلم "فأشار بظهر كفَّيه إلى السماء". فإن مِن الناس من غَلِط في كلا الموضعين، فظنَّ بعضُهم أن اليد لا تُرفع في الدعاء إلا في الاستسقاء، حتى تركوا رفعَ اليدين في سائر الأدعية، ومنهم من فرق بين دعاء الرغبة ودعاء الرهبة، فقال في دعاء الرغبة: يُجعَل باطنُ كفيه إلى السماء وظاهرهما إلى الأرض، وقال في دعاء الرهبة بالعكس، يجعل ظاهرهما إلى

_ (1) أخرجه أبو داود (1489) عنه مرفوعًا. (2) عند أبي داود (1490). (3) برقم (1491).

- رفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء متواتر

السماء وباطنهما إلى الأرض، وقالوا: إن الراغبَ كالمستطعم، والراهب كالمستجير المستعيذ الدافع. ونحن نتكلم في بيان السنة في صفة الرفع، ثم نبين أنه على كل تقدير لا حجة فيه للجهمية نفاة العلوّ. أما رفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء فقد تواتر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في صحيح البخاري (1) وغيره عن أبي هريرة قال: قدم الطُفيل بن عمرو الدَّوسي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله! إن دَوْسًا قد عَصَتْ وأبتْ فادعُ عليهم، فاستقبل القبلةَ ورفع، وقال: "اللهمَّ اهْدِ دَوسًا وأْتِ بهم". وفي الصحيحين (2) أيضًا عن أبي موسى قال: أُصيب أبو عامر رضي الله عنه في ركبته في غزوة أوطاس، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَّره فيها، فقال لي: اقرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلامَ وقُلْ له: استغْفِرْ لي واستخلِفْني علىَ الناس، وسكت يسيرًا ثم مات. فلما رجعتُ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبرتُه خبرَ أبي عامر وسؤالَه أن يستغفر له، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماءٍ فتوضَّأ، ثم رفع يديه وقال: "اللهمَّ اغفِرْ لعُبَيْدِك أبي عامر". وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عمر قال: بحث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالدَ بن الوليد إلى بني جَذِيْمةَ، فدعاهم إلى الإسلام، فلم

_ (1) بأرقام (2937، 4392،6397). وأخرجه أيضًا مسلم (2524). (2) البخاري (4323 ومواضع أخرى) ومسلم (2498). (3) برقمي (4339،7189). وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 150) والنسائي (8/ 236).

يُحسِنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فجعل خالدٌ يقتل ويأسِرُ، ودفعَ إلى كل رجل منا أسيرَه، حتى إذا كان يوم أمرَ خالدٌ أن يَقتل كلُّ رجل منا أسيرَه، فقلت: والله إني لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيرَه، حتى قَدِمْنَا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكرنا له، فرفع يديه فقال: "اللهمَّ إني أبرأ إليك ممَّا فعلَ خالد"، مرتين. وفي صحيح مسلم (1) عن عائشة قالت: ألا أحدِّثكم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي انقلبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعَ نعليه عند رجليه، وذكرتِ الحديثَ الطويلَ في دعائه لأهل البقيع، فرفع يديه ثلاثَ مرات وأطال القيامَ، ثم انحرف وانحرفتُ، وذكرتِ الحديثَ. وفي صحيح مسلم (2) أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلا قولَ الله عز وجل في إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)) (3)، وقال عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)) (4)، فرفع يديه فقال: "اللهمَّ أمتي أمتي"، قال الله: يا جبريلُ اذهبْ إلى محمد - وربك أعلم - فسَلْهُ ما يُبكيك؟ فأتاه

_ (1) برقم (974). (2) برقم (202). (3) سورة إبراهيم: 36. (4) سورة المائدة: 118.

جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الله: يا جبريل! اذهبْ إلى محمد فقل له: إنّا سنُرضِيك في أمتِك ولا نَسُوْءُك فيهم. وفي صحيح مسلم (1) عن عمر بن الخطاب قال: نظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابُه ثلاثمائة وبضعةَ عشرَ رجلاً، فاستقبل القبلةَ ثم مدَّ يديه وجعل يَهتِف برئه: "اللهمَّ وأَنْجزْ لي ما وعدتَني، اللهمَّ آتني ما وعدتَني، اللهمَّ إن تُهلِكْ هذه العصابَة من أهل الإسلام لا تُعْبَدْ في الأرض"، فما زال يَهتِف بربه مادًّا يديه مستقبلَ القبلة حتى سقطَ رداؤُه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه، فألقاه على منكبيه، والتزمَه من ورائه، وقال يا نبيَّ الله! كذاك (2) مُنا شَدَتُك ربَّك، فإنه سيُنْجزُ لك ما وعدك، فأنزلَ الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)) (3)، فأمدَّهم الله بالملائكة. وفي سنن أبي داود (4) وغيره عن قيس بن سعد من حديث زيارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال فيه: فرفع رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وهو يقول: "اللهمَّ اجْعَل صلَواتِك ورحمتك على آلِ سَعدِ بن عبادة".

_ (1) برقم (1763). (2) هكذا وقع لجماهير رواة مسلم "كذاك" بالذال، ولبعضهم "كفاك" بالفاء. انظر "إكمال المعلم" (6/ 94) وشرح النووي (12/ 85). (3) سورة الأنفال: 9. (4) برقم (5185). وأخرجه أيضَا أحمد (3/ 421) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (325).

وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكَّة نُريد المدينةَ، فلما قدمنا من عَزْوَرَا نَزَل، ثمِ رفع يديه فدعا ساعة، ثم خرَّ ساجدا، قال: "إني سألتُ ربّي وشفَعْتُ لأمتي، فأعطاني ثُلُثَ أمتي، فخَررتُ ساجدًا شكرًا لربي"، وذكر تمام الحديث. وعن أم عطية قالت: بَعَثَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشًا فيهم عليٌّ، قالت: فسمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو رافع يديه يقول: "اللهمَّ لا تُمِتْنِيْ حتى تُرِيَني عليًّا". أخرجه الترمذي (2). و [في] حديث أسامة بن زيد (3) قال: كنتُ رِدْفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرفع يَدَيه يدعو، فمالتْ به ناقتُه فسَقَطَ خِطامُها، فتناولَ الخِطامَ بإحدى يَدَيْه وهو رافع يدَه الأخرى. وقد ذكر فيمن روي عنه رواية رفع اليدين في غير الاستسقاء: أنس أيضا في حديث القنوت، قال أنس: لقد رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما صلَّى الغَداةَ رفع يدَيْه يدعو عليهم. رواه البيهقي (4).

_ (1) برقم (2775). قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1496): إسناده ضعيف، فيه يحيى بن الحسن بن عثمان، وهو مجهول كما في "التقريب". (2) برقم (3737). وقال: حديث حسن غريب. قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (6090): سنده ضعيف. (3) أخرجه أحمد (5/ 209) والنسائي (5/ 254) وابن خزيمة (2824). وإسناده صحيح. (4) في السنن الكبرى (2/ 211).

- الجمع بين حديث أنس وهذه الأحاديث من وجهين

فصل إذا تبيَّن هذا فنقول: الجمعُ بين حديثِ أنسٍ وهذه الأحاديث من وجهين: أحدهما: ما قاله طوائفُ من العلماء في الجمع بين حديث أنس وغيره، وهو أنَّ أنسًا ذكرَ الرفع الشديدَ الذي يُرَى فيه بياضُ إبطيه وينحّي فيه يديه، وهذا هو الذي سماه ابن عباس الابتهالَ، وجعل المراتب ثلاثةً: الإشارة بإصبع واحدة، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشير بإصبعه في التشهد [و] على المنبر يوم الجمعة بإصبَعِه، والحديثُ متعدِّدٌ مشهور. وفي سنن أبي داود (1) عن سعد قال: مرَّ علىَّ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أدعو بإصبعَيَّ، فقال: "أَحِّدْ أَحِّدْ"، وأشار بالسبابة. والثانية: المسألة، وهو أن تجعَل يديك حَذْوَ منكبيك، كما في أكثر الأحاديث. والثالث: الابتهال، وهو أن تمدَّ يديك جميعًا، وفي لفظ: والابتهال هكذا، ورفعَ يديه وجعلَ ظهورهما مما يلي وجهه. فهذا الابتهال هو الذي ذكره أنس في الاستسقاء، ولهذا قال: كان يرفع حتى يُرى بياضُ إبْطيه، وإنما يُرَى بياضُ الإبطَيْن بالرفع

_ (1) برقم (1499). وأخرجه أيضًا النسائي (3/ 38).

- الثاني: أن أنسا أراد الرفع على المنبر يوم الجمعة

الشديد، وهذا الرفع إذا اشتدَّ كان بطون يديه مما يلي وجهَه والأرض، وظهورُهما مما يلي السماء، وكذلك جاء مفسرًا: "رفعَ يديه حذاءَ وجهِه"، وفي لفظ: "جعلَ بطونَهما مما يلي الأرض". ولو كان المرادُ به كما يظنُّه بعضُ الغالطين حيث يجعل يديه حذوَ منكبيه ويجعل ظهورهما مما يلي الوجه والأرض، وتارة يكون الظهور مما يلي السماء، يُؤيِّد ذلك ما رواه أبو داود (1) عن أنس بن مالك نفسه قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو هكذا بباطن كفَّيه وظاهرِهما. وقد يكون أنس أراد بالرفع على المنبر يومَ الجمعة كما في صحيح مسلم (2) والسنن (3) عن حصين بن عبد الرحمن قال: رأى عُمارةُ بن رُؤَيْبَة بشرَ بن مروان وهو يدعو في يوم الجمعة، فقال عمارة: قَبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر ما يزيد على هذه بإصبعه المسبِّحة. وفي مسند أحمد (4) عن غُضَيف بن الحارث الثُّماليّ قال بعثَ إليَّ عبدُ الملك بن مروان أنَّا قد جمعنا الناسَ على أمرين: برفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة، والقَصَص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنّهما أَمثلُ بدعتِكم عندي ولَسْتُ مُجِيْبَكَ إلى شيءٍ

_ (1) برقم (1487). (2) برقم (874). (3) أبو داود (1104) والترمذي (515) والنسائي (3/ 108). (4) 4/ 105. قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (187): سنده ضعيف.

منهما، قال: لِمَ؟ قال: لأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما أحدثَ قوم بدعةً إلاّ رُفِعَ مثلها من السُّنَّة (). فتَمَسُّك بسنّةٍ خير من إحداثِ بدعةٍ. وعلى هذا يُحمَل الحديثُ الذي في سنن أبي داود (1) عن سهل بن سعدٍ قال: ما رأيتُ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهِرًا يَدَيه يدعو على منبرٍ ولا غيرِه، لكن رأيتُه يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعَقَدَ الوسطى بالإبهام، وقد قيل: في إسناد هذا مقال (2)، مع أنه ليس فيه إلا نفي الرؤية. وهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما وجهانِ في مذهب أحمد في رفع الخطيب يديه، فقيل: يُستَحبّ لعموم الأخبار الواردة في رفع الأيدي، وهذا قول ابن عقيل، وقيل: لا يستحبُّ بل يُكْرَه، وهذا أصحُّ، قال إسحاق بن راهويه: ذلك بدعة للخاطب، إنما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشير بإصبعه إذا دعا، لما تقدم من الآثار. وأمّا في الاستسقاء لما استسقَى على المنبر رفعَ يديه، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن أنس، قال: أتى أعرابيٌّ من أهل البدو إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ الجمعة، فقال: يا رسول الله! هلكتِ الماشيةُ وهلكَ العِيالُ وهلك الناسُ، فرفعَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْه يدعو، ورَفَعَ الناس أيديَهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مُطِرْنا.

_ (1) برقم (1105). وأخرجه أيضا أحمد (5/ 337) وابن خزيمة (1450). (2) قال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (1450): إسناده فيه ضعف، أبو الحويرث قال الحافظ: صدوق سيئ الحفظ. (3) برقم (1029 ومواضع أخرى).

- من ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرفع المعتدل جعل ظهر كفيه إلى السماء فقد أخطأ

فقد أخبر أنسٌ في هذا الحديث الصحيح أنه [لما] استسقَى بهم يومَ الجمعة على المنبر رفعَ يديه ورفعَ الناس أيديهم، وقد ثبت أنه لم يكن يرفع على المنبر في غير الاستسقاء، فيكون أنس رضي الله عنه أراد هذا المعنى، لا سيَّما وبعض بني أمية كانوا قد أحدثوا رَفْعَ الأيدي يومَ الجمعة، كما تقدم من حديث عبد الملك وبشر بن مروان، وإنكار عمارة بن رُؤَيْبَة وغُضَيْف بن الحارث عليهما مخالفةَ السنة، وأنسٌ أدرك هذا العصرَ فيكون هو أيضًا أخبر بالسنة التي أخبر بها غيرُه من أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يرفع يديه - أي على المنبر - إلاّ في الاستسقاء. وهذا الوجه يُوافق الذي قبلَه، ويُبين أن الاستسقاء مخصوصٌ بمزيدِ الرفع، وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس، فالأحاديث تَأتلفُ ولا تختلف. وأما الموضع الثاني فنَقُول: من ظنَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ، وكذلك من ظنَ أنه قصدَ توجيهَ ظهرِ يَدَيْه إلى السماء في شيء من الدعاء، فليس في شيءٍ من الحديث ما يدلُّ على أنه قصدَ جَعْلَ كفيْه دُونَ بَطْنِهما إلى السماء، ولا على أنه في الرفع المعتدل أشار بظهرهما إلى السماء، بل الأحاديثُ المشهورة عنه تُبين أنّ سُنَّتَهُ إنما هي قصد توجيه بطن اليد إلى السماء دون ظهرها إذا قصد أحدهما. ففي سنن أبي داود (1) من حديث مالك بن يسار السَّكُوني ثم

_ (1) برقم (1486). وصححه الألباني في "الصحيحة" (595).

العَوْفي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا سألتم الله فَاسْألوه ببطونِ أَكُفكم، ولا تَسْألوه بظُهورِها". ورَوَى أيضًا (1) من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نَظَر في كتاب أخيه بغير إذنِه فإنما ينظر في النار. سَلُوا اللهَ ببطون أكفكم، ولا تَسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم". قال أبو داود: رُوِيَ هذا الحديث من غير وجهٍ عن محمد بن كعبٍ كلُّها واهية، وهذا الطريقُ أمثلُها وهو ضعيف أيضًا. وفي سنن أبي داود (2) وغيره عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن ربكم حَيِيٌّ كريمٌ يَستحي من عبدِه إذا رفعَ يديه إليه أن يردَّهما صَفْرَاوَيْن". وفي سنن أبي داود (3) عن السائب بن يزيد عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهَه بيديه. وقد تقدم في حديث الاستسقاء من حديث عميرٍ مولى آبي اللحم أنه رأى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أحجار البيت (4) قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه. لكن هذا الرفع دون الرفع الذي أخبر به أنس، وذاك كان في موطن آخر، فإن ذاك الرفع جاوزَ بهما رأسَه.

_ (1) أبو داود برقم (1485). (2) برقم (1488). وأخرجه أيضًا الترمذي (3551) وابن ماجه (3865). وصححه ابن حبان (2399 - موارد) والحاكم (1/ 497). (3) برقم (1492). وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، يروي عن حفص بن هاشم، وهو مجهول كما قال الحافظ في "التقريب". (4) في هامش الأصل: صوابه "الزيت"، وهو موضع في طيبة، وقد تقدم ذكره.

- الجواب عن احتجاج الجهمي من ثمانية وجوه

وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضتْ به الأحاديث، وهو الذي عليه الأئمة في دعاء الصلاة، وعليه عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى هذا التاريخ. وأما حديث أنس فقد تقدم أنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه، فصار كفُّه مما يلي السماءَ لشدة الرفع، لا قصدًا لذلك، كما جاء أنه رفعَها حذَاءَ وجهه. وتقدم حديث أنس نفسه أنه رأى رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بباطنِ كفَّيه وظاهرِهما، وتقدم حديث ابن عباس: الابتهالُ هكذا، ورفعَ يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهَه. فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفعِ الشديد رفع الابتهال، تارةً يذكر فيه أنَّ بطونَهما مما يلي وجهَه وهذا أشد، وتارةً يذكر هذا وهذا، فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظَهْرَ اليد ولا بَطْنَها، لأن الرفع يرتفع وتَبقَى أصابعُها نحوَ السماء مع نوع من الانحناءِ الذي يكون فيه هذا تارةً وهذا تارةً. وأما إذا قصد توجيهَ بطن اليد أو ظهرها فإنما كان توجه بطنها، وهذا في الرفع المتوسط الذي هو رفعُ المسألة. فبهذا تآلَفُ الأحاديث ويَظهر السنةُ وتبيَّنُ المعاني المتناسبة. إذا تبين هذا فنقول: الجواب عن احتجاج الجهمي من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نُسلِّم أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصدَ توجيه ظهرِ الكفِّ دونَ بطنِه إلى السماء في شيءٍ من الدعاء، وقد تقدم بيان معنى

حديث أنس وأنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه. الوجه الثاني: أن يقال: لو جاء حديث واحد صحيح صريح بأنه قصدَ رفعَ ظهرِ كفَّيْه إلى السماء لكانت الأحاديث التي هي أكثر منه وأشهر مُعارضةً له في ذلك، فإن أمكنَ الجمعُ بينهما وإلاَّ كان الأكثر الأشهر أولَى بالتقديم عند التعارض. الوجه الثالث: أن يقال: هَبْ أنه قصدَ رَفْعَ كفيه إلى السماء وتوجيهَ باطنِ يديه إلى الأرض، فهذا لا يدلُّ على نفي علوّ الله سبحانَه وتعالى، فإن الناس كلهم متفقون على أن الله ليس في الأرض دون السماء، فلا يجوز أن يقال: قَصَدَ توجيهَ بطنِ يدِه إلى الله، ولم يقل هذا أحدٌ من الخلائق. الوجه الرابع: أن يقال: غايةُ ما في هذا أنه لم يَقصِدْ رفعَ يده إلى السماء، ولا ريبَ أن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ليس واجبًا، فغاية هذا أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع يديه إلى السماء في الدعاء، وهذا لا يدل على أن الله ليس في العلوّ. الوجه الخامس: أن هذا غاية ما فيه أنه يبطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليد على أن الله في العلو، فيقول المعارض: رفع اليد إلى السماء لا يدلُّ على أنه رفعَها إلى الله، كما أن جعلَ الكفِّ إلى السماء لا يدل على أنَّ بطن اليد إلى الله، فغاية ما يقول المعترض أن رفع اليد لا يَبقى فيه دلالة على العلوّ، ومعلومٌ أن انتفاءَ الدليل المعيَّن لا يَنفي الحكم.

الوجه السادس: أنه لا يَتوهَّمُ عاقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد بذلك تعريفَ أمتِه أنَّ الله ليس في العلو، فإن هذا الفعل ليس ظاهرًا في هذا المقصود، ولهذا لم يستدل أحدٌ من الجهميَّة بذلك. والله قد أمرَ نبيَّه بالبلاغ المبين، فكيف يَتْرُك البيانَ الذي جُعِلَ عليه إلى ما لا بيانَ فيه؟ كيف والقرآن والأحاديث مملوءٌ من البيانِ الدالِّ على أن الله في العلو؟ فكيفَ يجوز أن يُقال: إنه قصدَ أن يُعرِّفَهم نفيَ العلوِّ بمثل هذا العلو الذي لا يدلُّ؟ ولا يقالُ: إنه قَصدَ تعريفهم العلوِّ بتلك الدلالات البينة الواضحة الكثيرة المتواترة؟ هذا مما يُعلَم بالاضطرار أنه من نسبَ الرسولَ إليه فهو من أكذَب الخلقِ عليه، وهو في هذا المقام من حبالة أهل السفسطة وَالقرمطة المُبطِلين للعقليات والسمعيات. الوجه السابع: أن يقال: لا ريبَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعاء تارةً كان يُشير بإصبعه، كما ثبت مثل ذلك في الصلاة والخطبة، وأنه كان يدعو بباطن يَدَيه كما جاء في أحاديث متعددة، وقد كان يدعو أحيانًا بلا إشارة ولا رفعٍ، فيقالُ: إذا كان بعض هذه الأفعال دالاًّ على عُلوِّ الله تعالى وقد فعلَه بعضَ الأوقات حصلَ المقصود، وليس تركُ الدلالة في بعض الأوقاتِ نافيًا للمدلول بوجود الرفع دليل العلوّ، وعدمُه لا ينافيه، فلا يَضرُّ إذا كان في بعض الأدعية لم يرفع بطن يديه إلى السماء، إذ قد عُلِمَ أنه لم يَقصِد هنالك توجيهَ بطن يديه إلى غير الله. الوجه الثامن: أنه قد جاء مُصَرَّحًا بأن الإشارة والرفع إلى الله تعالى،

كما تقدم من حديث سلمان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ ربكم حَيِيٌّ كريم يَستحي من عبده إذا رفعَ يديه إليه أن يَرُدَّهما صَفْرَاوين". وفي صحيح مسلم (1) عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس في الصلاة وضعَ يَدَيه على ركبتيه، ورفعَ إصبعَه اليمنى التي تَلِي الإبهامَ فدَعا بها، ويدَه اليسرى على ركبتيه باسطَها. وفي لفظٍ (2): كان إذا قعدَ في التشهد وضعَ يده اليسرى على ركبته [اليسرى]، ووضعَ يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعَقَدَ ثلاثًا وخمسين، وأشار بالسبَّابة. وفي لفظٍ (3): كان إذا جلس في الصلاة وضعَ كفَّه اليمنى على فخذِه اليمنى، فقبض أصابعَه كلَّها، وأشارَ بإصبعِه التي تَلِي الإبهامَ، ووضعَ كفه اليسرى على فخذِه اليسرى. وكذلك في صحيح مسلم (4) حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعدَ يدعو وضعَ يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى [على فخذِه اليسرى]، وأشار بإصبعِه السبَّابة، ووضعَ إبهامَه على إصبعِه الوسطى، ويُلْقِم كَفه اليسرى ركبتَه. وفي صحيح مسلم (5) وغيره من حديث جابر الطويل في صفة

_ (1) برقم (580). (2) عند مسلم أيضًا. (3) عند مسلم في الموضع السابق. (4) برقم (579). (5) برقم (1218). وقد جمع الألباني طرقَه في جزء بعنوان "حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواها عنه جابر،، فليراجَع.

حجة الوداع - وهو أتمُّ حديثٍ جاء في صفة حجَّتِه - قال: حتى إذا زاغت الشمسُ أمرَ بالقَصوَاءِ فرحلتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطبَ الناس فقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألاَ كلُّ شيء من أمرِ الجاهلية تحتَ قدميَّ موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أولَ دمٍ أَضَعُ من دمائنا دمُ ابنِ ربيعةَ بن الحارث، كان مُسترضعًا في بني سعد فصَلَبَه هُذيل، وربا الجاهليةِ موضوع، وإن أول رِبًا أضعُه رِبَانَا رِبَا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلُّه. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَ بأمانة الله، واستحللتُم فروجَهن بكلمة الله، ولكم عليهنّ ألا يوطئنَ فُرُشَكُم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضْرِبُوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقُهن وكسوتُهن بالمعروف، وقد تركتُ فيكم ما لم تَضِلُّوا بعدَه إن اعتصمتُم به كتابَ الله. وأنتم تُسْأَلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقالَ بأصبعِه السبَّابة يرفعها إلى السماء، ويَنْكُتُها إلى الناس: اللهمَّ اشْهَدْ، اللهمَّ اشْهَدْ، ثلاث مرات. ثم أذّن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقامَ فصلى العصر. فهو هنا يدعو ربَّه ويُناجيه، مشيرًا بإصبعه إلى السماء، ثم ينكتها إليهم يقول: اللهمَّ اشهَدْ أنّيْ على ما قالوا. ومن رأى هذا الفعلَ منه وسمعَ هذا الكلامَ منه على هذا الوجه عَلِمَ ضرورةً أنه أشار بإصبعه إلى الله أن يَشهدَ على أمتِه بإقرارهم بالبلاغ. ولو كان يُكابِرُ وقال: هذا لا يدل، فلا يُنازع في أنه ظاهر في ذلك، ولو نازعَ في الظهورِ لم يُنازع في أن دلالة هذا وأمثالِه على علو الله أبينُ

من دلالة تركِ رفع اليدين أو تركِ رَفْع بطونهما على عدم علوِّه، فإن ذلك لا يدلُّ بوجهٍ من الوجوه، فمن تركَ هذه الدلالاتِ المحكماتِ وتمسكَ بالمتشابهات كان من الذين في قلوبهم زيغ.

(5) مسألة في رجال يتركون الصلوات الخمس تهاونا، ويدعون فلا يجيبون

مسألة في رجالٍ يَتْرُكون الصلواتِ الخمسَ تهاونًا، ويُدْعَون في كل وقتٍ إلى فعلها فلا يُجيبُون، فماذا يَجب عليهم؟ وهل إذا سلَّموا على أحدٍ أن يَرُدَّ عليهمَ السلامَ؟ وهل يُهْجَروا في الله؟ وفيهم رجلٌ قال: صليتُ بلا وضوء، وقال أيضًا: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فماذا يجب عليه؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إذا لم يكونوا مُقِرِّين بوجوبِها عليهم فهم كفارٌ مرتدون (1) بإجماع المسلمين، يَجب قتلُهم كلهم إذا لم يَتُوبوا. والذي قال: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فإن هذا كافر باتفاق المسلمين يجب قتله إذا لم يَتُبْ. وإذا أقَرُّوا بالوجوب وامتنعوا من الفعل فإنه يجب عند جماهير أئمة المسلمين أن يُستتابوا أيضًا، فإن لم يتوبوا ويُقيموا الصلاةَ المفروضةَ عليهم فإنه يجب قتلُهم أيضًا. وهل يُقْتَلوا (2) كفرًا أو فسقًا؟ على قولين مشهورين للعلماء، أحدهما: أنهم يُقتَلون كفرًا، وهو قول أكثرِ السلف وقول طائفة من

_ (1) في الأصل: "مرتدين" منصوبًا. (2) كذا في الأصل بحذف النون.

أصحاب مالك والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختاره أكثر أصحابه، كما قال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس بينَ العبد وبين الكفر والشرك إلا تركَ الصلاة". رواه مسلم (1)، وقال: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (2). قال الترمذي: حديث صحيح. وروى الترمذي (3) عن عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة، مَن تركَها فقد بَرِئتْ منه ذمةُ الله ورسوله. وفي صحيح البخاري (4) عن عمر أنه لما طُعِنَ قيل له: الصلاة، فقال: نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاةَ، وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (5)، فعلَّق الأخوَّةَ في الدين على التوبة من الشرك وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة، كما علَّق تركَ القتال على ذلك بقولَه: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (6).

_ (1) برقم (82) عن جابر بن عبد الله. (2) أخرجه أحمد (5/ 346،355) والترمذي (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه (1079) عن بُريدة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (3) برقم (2622). ووصلَه الحاكم في المستدرك (1/ 7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال، وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (579). (4) لم أجده فيه، وقد أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 39 - 40) عن المسور بن مَخرمة عن عمر. (5) سورة التوبة: 11. (6) سورة التوبة: 5.

- هجرهم وترك رد السلام عليهم

وفي الصحيح (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عمن لم يَرَهُ كيف تَعرِفُهم؟ فقال: "يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوضوء". فمن لم يُصلِّ لم يكن فيه علامةُ أمةِ محمد يومَ القيامة. وفي الصحيحين (2) في حديث الشفاعة أنه ذَكَر الجهنَّميين الذين أُخرِجوا من النار بالشفاعة، قال: "فتأكُلُهم النّارُ إلاّ موضعَ السجود، فإن الله حرَّم على النار أن تأكلَ أثَرَ السجود". وأمثال ذلك كثيرة. وأما قول القائل: صلَّيتُ بلا وضوء، فإن كان مستحلاًّ لذلك أو مستهزئًا بالصلاة كَفَرَ باتفاق المسلمين، ووَجَبَ قتلُه، وإن كانَ معتقدًا لوجوب الوضوء للصلاة وأن الصلاةَ بغير وضوء حرام، ففي كفرِه قولان للفقهاء، فإن طائفة من أصحاب أبي حنيفة قالوا: يُكفَّر هذا، واتفق المسلمون على مثل هذا يَستحقُّ العقوبةَ الغليظة. والله سبحانه أعلم. وهَجْرُ هؤلاء وتركُ ردِّ السلام عليهم من أهونِ ما يُعَزَّرُون به، فإنهم يستحقونَ ما هو أغلظ من ذلك، والله أعلم.

_ (1) مسلم (249) عن أبي هريرة. (2) البخاري (6573) ومسلم (182) عن أبي هريرة.

(6) مسألة في رجل مضى عليه زمن لم يصل فيه، ثم تاب ولم يتفرغ لقضاء ما فات، فهل يطالبه الله بذلك؟

مسألة في رجلٍ مَضَى عليه زمنٌ لم يُصَل فيه، ثم تابَ ولازمَ الصلوات الخمس، ولم يتفرَّغ لقضاءِ ما فاتَه من الصلوات، فهل - والحالة هذه - يُطالِبُه الله بذلك أم لا؟ الجواب الحمد لله. أمَّا إن كان أوّلاً ممن لا يعتقد وجوبَ الصلاةِ ويَعزِم على فعلها فهذا في الباطن ليس بمؤمن، وإن كان في الظاهر مسلمًا، كالمنافقين الذين تجري عليهم أحكامُ الإسلام الظاهرة، وهم في الآخرة في الدَّرْك الأسفل من النار. وإن لم يكُنْ مكذِّبًا في الباطن للرسول، بل قد يكونُ مُقِرًّا في الباطن بصِدْقِه، أو مُعرِضًا عن تصديقه وتكذيبه، وهو مع ذلك مُعرِضٌ عما جاء به، لا يَخْطُر بقلبه الصلاةُ هل هي واجبة أو ليست واجبة؟ وهل يلزمُه فعلُها أو لا يلزمُه؟ وإن خَطَر ذلك بقلبه أعرضَ عنه، واشتغلَ بأمورِ دنياه وشهواتِه عن أن يعتقد الوجوبَ ويَعزِمَ على الفعل، فهؤلاء وإن صَلَّوا لم تُقْبَلْ صلاتُهم. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)) (1)،

_ (1) سورة النساء: 142.

- إذا كان ممن لا يعتقد وجوب الصلاة لا يجب عليه القضاء بعد التوبة

وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) (1). وهذا إذا تابَ فاعتقدَ الوجوبَ، وعَزَمَ على الفعل، وأقام الصلاةَ، كان بمنزلة من قد تابَ من الزكاة، وهذا على أصح قولَي العلماء وأكثرِهم لا يُوجَب عليه قضاءُ ما تركَه قبل الإسلام من صلاةٍ وغيرِها، ولهذا لم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر من تاب من المنافقين بإعادة ما فعلوه أو تركوه في حالِ نفاقهم، ولا أمرَ من تابَ من المرتدِّين بقضاءِ ما تركوه في حال الردَّة. وكذلك الصدِّيق والصحابة لما قاتلوا المرتدينَ لم يأمروهم بقضاء ما تركوه في حال الردَّة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في ظاهرِ مذهبِه أنه يَجبُ على المرتدِّ إذا أسلم أن يَقْضيَ ما تركَه حالَ الردَّة، وفي قضاءِ مَا تركَه قبل الردَّة روايتان عن أحمد، ومذهبُ أبي حنيفة ومالك أنه لا يَجب عليه قضاء شيءٍ من ذلك، ومذهب الشافعي: يَقضِي الجميعَ، وقد بَنَوا ذلك على أن الردَّة هل تُحبطُ مُطْلَقًا أو بشرطِ الموتِ عَليها؟ وفي هذا البناءِ وتقريرِ هذه المسائلِ كلام ليس هذا موضعَه، فإن المسئولَ عنه قد عُرِفَ حكمُه بالسنة المعروفة، مِع ما دلَّ عليه القرآن في قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (2). وقد أجمع المسلمون على أن الكافر لا يُصلِّي، سواءً كان حربيًّا أو ذميًّا، لا يجب عليه قضاءُ شيءٍ من هذه الفرائض، مع قولِ الجمهور إنه يُعاقَب على تركِها في الآخرة إذا لم يُسلِم.

_ (1) سورة الماعون: 4 - 7. (2) سورة الأنفال: 38.

- إذا كان مؤمنا يعتقد وجوبها وتكاسل عنها بعض الأوقات يجب عليه القضاء

وأمّا إن كان هذا الذي فوَّتَ بعضَ الصلاة عمدًا مؤمنًا، يَعتقدُ وجوبَها ويَعزِمُ على أدائها، ولكن تكاسلَ عنها بعضَ الأوقات، فهذا يجبُ عليه عند جمهور العلماء، وعند بعضهم إذا تابَ فلا قضاءَ عليه، بخلاف ما لو نامَ عنها أو نسيَها فإن هذا عليه القضاءَ بالسنة والإجماع. ومن قالَ: العامدُ لا يَقضِي، فإن ذنبَه أكبرُ ولا ينفعُه القضاء، لكن إذا تابَ فالتوبةُ تَجُب ما قبلَها. والذين أوجبوا عليه القضاءَ أوجبوه بحسب الإمكان. وأكثرُهم يقولون: إذا كثرتِ الفوائتُ لم يَجبْ قضاؤُها على الفورِ مرتبةً، كأبي حنيفةَ وأحمد في إحدى الروَايتين، وأصحاب الشافعي في أصح الوجهين، يُوجِبون قضاءَ ما تعمَّدَ تركَه على الفور، وأحمد في الرواية الأخرى يُوجب قضاءَ الجميع على الفور مرتبًا لكن بحسب الإمكان، بحيث لاَ يَشْغَله عما لا بدَّ له منه من معيشةٍ ونحوِها، ولا يُضعِفُه عن واجبٍ أو ما لا بُدَّ منه. والكثيرُ الذي لا يجب فيه الفورُ والترتيبُ، قيل: هو صلاة يوم وليلةٍ، كما هو في مذهب أبي حنيفة ومالك. وقيل: ما لا يمكن فعلُه إلاّ بفوتِ الحاضرةِ، كما هو المنقولُ عن أحمد. والذي ينبغي لهذا التائب أن يجتهدَ في المحافظةِ على الصلاةِ فيما بقي من عمره، وإن قَصَّرَ في قضاءِ الفوائتِ فليجتهدْ في الاستكثار من النوافل، فإنه يُحاسَب بها يومَ القيامة، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "أولُ ما يُحاسَب به العبدُ

_ (1) أخرجه بهذا السياق أحمد (4/ 65،5/ 72،377) عن يحيى بن يعمر عن =

- إذا عجز عن القضاء فلم يتفرغ حتى مات بعد التوبة فهذا مغفور له إن شاء الله

صلاتُه، فإن كان أَتَمَّها كُتِبَتْ تامَّة، وإن لم يكن أَتَمَّها قال الله: انظروا هل تجدون لعبدي مِن تطوُّع فَتكمِلونَ به. فريضتَه، ثم الزكاة كذلك، ثم تُؤخَذُ الأعمالُ على حسب ذلك". وأمَّا إنْ قُدِّرَ أنه عَجَزَ عن القضاء، فلم يَتفرَّغْ حتى مات بعد التوبة، فهذا مغفورٌ له، ولا حولَ ولا قوةَ إلاّ بالله. وكذلك لو قضى البعضَ وعجَزَ عن البعضِ، ومن العَجْزِ أن يكونَ بحيثُ لو اشتغلَ بالقضاء لتَضرَّرَ في معيشتِه وما يَحتاج إليه لنفقةِ عيالِه وقضاءِ دُيونِه ونحوِ ذلك، فإنه ليس عليه أن يُواصِلَ القضاءَ مواصلةً تمنعُه عمّا لا بدَّ منه باتفاق العلماء. والله أعلم.

_ = رجلٍ من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعًا. وله شاهدٌ من حديث تميم الداري، أخرجه أحمد (4/ 103) وأبو داود (866) وابن ماجه (1426)، وشاهد آخر من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 290،4/ 103) وأبو داود (865) والترمذي (413) والنسائي (1/ 232،233) وابن ماجه (1425، 1426) من طرق عن أبي هريرة.

(7) مسألة في رجل له عشرون سنة يشرب الخمر ولا يصلي إلا بعض الأعياد والجمع ولكنه يتصدق

مسألة في رجل له عشرين (1) سنة يَشربُ الخمر، ولا يُصلِّي إلاّ بعضَ الأعياد والجمع، لكنه يتصدَّقُ ويُنْظِرُ المُعْسِر، فهل يثابُ على ذلك؟ وهل إذا تابَ يجب عليه قضاءُ ما فاته من الواجبات؟ الجواب الحمد لله. تاركُ الصلاة يجبُ أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلا عُوقِبَ عقوبة شديدة حَتَّى يصلِّي بإجماع المسلمين. وأكثرُ الأئمة كمالك والشافعي وأحمد يقولون: إنه إذا لم يُصَل فإنه يُقتَل، واختُلِفَ هل يُقتَل كافرًا أو فاسقًا على قولين. وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبدِ وبين الكفرِ إلاّ تركُ الصلاة" (2)، وقال: "العهد الذي بينَنا وبينَهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (3). وأما إذا فعلَ شيئًا من الخير فإن الله لا يَظلِمُ، فإنّ اليهود

_ (1) كذا في الأصل، وهو لحن من السائل. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجه.

- إذا فعل شيئا من الخير فهذا لا يدفع عنه عقوبة ترك الصلاة

والنصارى إذا فعلوا خيرًا فإنَ الله يثيبُهم عليه في الدنيا، لكن هذا لا يَدفَعُ عنه عقوبةَ تركِ الصلاة. ويَجبُ عليه المحافظةُ على الصلوات في مواقيتها. ومن تركَ الصلاةَ متَعمدًا فقد قال بعض العلماء: إن الإثم الذي عليه لا يَسقُط ولا غيرُه، ولا يُقبَل منه القضاءُ، بل يتوبُ ويَستغفر. وقال الأكثرون: بل يَقضِي ويَتُوب من التأخير، والله أعلم.

(8) مسألة في رجل عنده زوجة لا تصلي، فهل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة؟ وإذا لم تأتمر فهل يجوز له إبقاؤها زوجة أو يجب عليه أن يفارقها؟

مسألة في رجل عنده زوجة لا تُصلِّي، فهل يجب عليه أو يُستَحبُّ له أن يأمرَها بالصلاة؟ وإذا لم تَأتَمِرْ فهل يجوز له إبْقَاؤُها زوجةً أو يَجبُ عليه أو يُستحبُّ له أن يُفارِقها؟ وماذا يَجبُ على تاركِ الصلاة؟ وهل يَكْفُر بتركِها أم لا؟ الجواب الحمد لله. بل يَجب عليه أن يأمرَها بالصلاة ويجب ذلك عليه، بل يجب عليه أن يأمرَ بذلك كلَّ من يَقدِر على أمره به إذا لم يَقُم غيرُه بذلك، وقد قال الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1)، وقال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (2)، قال علي عليه السلام: عَلِّموهم وأَدِّبُوهم. وينبغي مع الأمر بذلك أن يَحُضُّها على ذلك بالرغبة والرهبة، كما يَحُضها على ما يَحتاج إليه، فإن أصَرَّتْ على تركِ الصلاةِ فعليه أن يُطَلِّقها، وذلك واجبٌ في الصحيح. وتاركُ الصلاة يَستحق العقوبةَ حتى يُصَلِّي باتفاق المسلمين، على أنه إن لم يُصَلِّ قُتِلَ، وهل يُقتَلُ كافرًا أو فاسقًا؟ على قولين مشهورين، والله أعلم.

_ (1) سورة طه: 132. (2) سورة التحريم: 6.

(9) مسألة في رجل عمره سبعون سنة وهو مقيم في بلده مدة ثلاث سنين، ما رآه أحد صلى ولا زكى

مسألة في رجل عمره سَبْعِيْن (1) سنةً وهو مقيمٌ في بلده مدةَ ثلاثِ سنين، ما رآه أحدٌ صَلَّى ولا زكَّى. الجواب هذا الرجل يجب أن يُستتاب لِيُقِيْمَ الصلاةَ ويُؤتيَ الزكاةَ، فإن لم يُقِم الصلاةَ وإلا قُتِلَ عند جماهير العلماء، وهل يُقْتَل كفرًا أو فسقًا على قولين. وإن لم يؤدِّ الزكاةَ وإلاَّ أُخِذَتْ منه قهرًا، فإنْ غَيَّبَ مالَه وامتنعَ من أدائها قُتِلَ أيضًا في أحدِ قولي العلماء، وفي الآخر: لا يزال يُضرَب ضربًا بعد ضرب حتى يُظْهر مالَه فَيُوخَذُ منه الزكاةُ. ومن عَرف حالَ هذا فينبغي أن يَهجُرَهُ، فلا يُسلِّمَ عليه ولا يُعاشِرَه، ويُوَبِّخه ويُغْلظ له حتى يقيمَ الصلاةَ ويؤتيَ الزكاة. قال عمر بن الخطاب: لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة. وقال ابن مسعود: ما تاركُ الزكاة بمسلم. وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (2)، وفي الآية

_ (1) كذا في الأصل منصوبًا. (2) سورة التوبة: 5.

الأخرى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1). وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فَعلوا ذلك عَصَموا منّي دِماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّها، وحسابُهم على الله". فقد بيَّن الله في كتابه وسنة رسوله أنه إنما يُكَفُّ عن قتالهم وإنما يَصيرون إخوةً في الدين إذا كانوا مع توبتهم من الكفر يُقيمون الصلاةَ ويُؤتون الزكاة، فمن لم يُقم الصلاةَ ولم يُؤتِ الزكاةَ لم يكن من هؤلاء، فيُعاقَب على ذلك باتفاق المسلمين، وإن وقعَ نزاعٌ في صفةِ العقوبة، والله أعلم.

_ (1) سورة التوبة: 11. (2) البخاري (25) ومسلم (22) عن ابن عمر.

(10) مسألة في البنت إذا بلغت ولم تصل، وإن قيل لها: صلي تقول: ما أنا كبيرة والمرأة الكبيرة إذا لم تصل فماذا يجب عليها؟

مسألة في البنت إذا بَلَغَتْ ولم تُصَل، وإن قيل لها: صَلِّي تقول: ما أنا كَبيرة. والمرأةُ الكبيرة إذا لم تصل فماذَا يجب عليها إذا كان زوجُها حَلَفَ عليها: لا يَطأهُا ولا يُنفِقُ عليها إلاّ أن تُواظِبَ على الصلاةِ؟ هل يَحْنَث أم لا؟ الجواب الحمد لله رب العالمين. مَن بَلَغَ من الرجال والنساءِ فالصلاة فريضة عليه باتفاق المسلمين، والمرأةُ يَحصُل بلوغُها بحيضِها وبإنزالِ الماء، وكذلك الحبل يَدُلُّ على الإنزال، فمتى حاضت المرأة أو حبلتْ ولم تُقِرَّ بوجوب الصلاة عليها بعد أن تَعرِفَ أن الله أوجبَها عليها فهي كافرة باتفاق المسلمين، ولا تَحل لزوجها، ولا يَصِحُّ عقدُ النكاح عليها، فإنّها مرتدَّة، ونكاحُ المرتدَّةِ باطل عند الأئمة، ويَجبُ قتلُها عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، كما يجبُ قتلُ سَائرِ المرتدَّاتِ عندَهم. وإن كانت لا تُقِرُّ بوجوبها لِظَنِّها أنَ الصلاةَ إنما تَجِبُ على العجوزِ دون الشابَّةِ، فهذه لا يُحكَم بكفرِها ورِدَّتِها حتى تَعْرِفَ أنها واجبةٌ عليها، وهل على هذه إعادةُ ما تركتْه في حالِ جهلِها بوجوب الصلاة عليها؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره.

- المرأة الكبيرة إذا لم تقر بوجوب الصلاة تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت

وكذلك المرأةُ الكبيرةُ إذا لم تُقِرَّ بوجوب الصلاة وامتنعتْ من فعلِها فإنها تُستَتاب، فإن تابتْ وإلاّ قُتِلَتْ عند مالكٍ والشافعي وأحمد وغيرهم. وإذا هَجرها وامتنعَ من وَطْئِها حتى تُصلِّيَ كان محسنًا في الهجر والامتناع، ولا نفقةَ لها هذه المدةَ، فإنَ الذي فَعَلَه واجبٌ عليه. ويَجبُ عليها أن تُطِيعَه فيه، وللزوج إلزامُ زوجتِه بتركِ المحرَّمات، وإنَ أمكنَ الوطءُ مع فعلِها، ولهَ أيضًا إلزامُها بغُسْلِ الجنابةِ وإزالةِ النجاسة، وإن أمكنَ وطؤُها مع الجنابة، وهذا وإن عُلِّلَ بأن النفسَ تَعَافُ وَطْءَ المرأةِ الجُنُب، فالتي لا تُصلِّي شرٌّ منها، وتركُ الصلاة شرٌّ مِن فِعْلِ أكثرِ المحرَّمات، إذا كانتْ تطيعُه فيما له أن يُلزِمَها به، وإن كانتْ ناشزًا فلا نفقةَ لها ما دامتْ كذلك، والله أعلم.

(11) مسألة في أقوام لم يكونون بالمسجد، فإذا حضرت الصلاة قاموا، فيدعون للصلاة فيأبون، فيقال لهم: من لا يصلي ما هو بمسلم، فيقولون: كل من نطق بالشهادتين مسلم

مسألة في أقوام يكونون بالمسجد، فإذا حَضَرتِ الصلاةُ قاموا، فيُدْعَون للصلاةِ فيَأبوْا (1)، فيقالُ لهم: مَن لا يُصلِّي ما هو مسلم، فيقولون: كل من نَطق بالشهادتين هو مسلم. فبينوا لنا حُكْمَ هؤلاءِ وما يَجِبُ عليهم، ومنهم من لا يصلي إلاّ من العيد إلى العيد، ومنهم من لا يصلِّي أبدًا. الجواب الحمد لله رب العالمين، من تركَ الصلاةَ غَيْرَ مُقِرٍّ بوجوبها عليه - وهو من أهل الوجوب - فإنه كافر باتفاق الأئمة وإن كان مقرًّا بالشهادتين، وهذا يُستَتاب، َ فإن تابَ وإلاَّ قُتِلَ كافرًا مرتدًّا باتفاق الأئمة. وإن كان ممن لا يَعرِفَ الوجوبَ لحِدْثَانِ عهدِه بالإسلام أو إنشائِه بمكانِ جهلٍ فإنه يُعرَّفُ الوجوب، فإن أقرَّ به وإلاّ قُتِل كافرًا. والصلاة واجبة على كل عاقلٍ بالغ إلاّ الحائض والنفَسَاء، تجب على الحرِّ والعبد، الذكر والأنثى، والمقيم والمسافر، والآمِن

_ (1) كذا في الأصل.

- المجنون لا صلاة عليه حال جنونه، ولا قضاء عليه بعد الإفاقة

والخائف، والصحيح والمريض، وأهل الأحوال وأهل خوارقِ العادات ذوي المكاشفات والتأثيرات وغيرِ أهل خوارقِ العادات، وأهل حضورِ القلب مع الله وأهل المعرفة والحقائق، وغير هؤلاء، والمتولهين الذين لهم عقل يُميِّزون وغير المتولهين، لا تَسْقُط عن العبدِ مع حضورِ عقلِه بسببٍ من هذه الأسباب. وأما من كان مجنونًا فإنه لا صلاةَ عليه حالَ جنونه، ولا قضاءَ عليه بعد الإفاقة، وإن قَصُرَ زمنُ الجنونِ عند جماهير العلماء، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفِعَ القلمُ عن المجنونِ حتى يُفِيْقَ، وعن الصبيِّ حتى يَحتلمَ، وعن النائم حتى يستيقظَ" (1). والمجانين منهم من يكون مع جنونه له نصيبٌ من الإيمان أو الكشف ونحوه، وقد يُسمَّى هؤلاء عقلاءَ المجانين، وقد يُسمَّون المولَّهِين، فهؤلاء إذا كانوا مجانين كانوا كما قال فيهم بعض أهل العلم: هم قومٌ أعطاهم الله عقولاً وأحوالاً، سَلَبَ عقولَهم وأبقَى أحوالَهم، فأسَقَطَ ما فَرَضَ بما سَلَبَ. وأما من كان عاقلاً فلا تَسقُط عنه الصلاةُ، وإن له من الأحوال والمعارف وخوارِق العادات ما عَسَى أن يكونَ، بل إذا لم يُقِرَّ بوجوب الصلاة عليه فإنه يُسْتَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. وكذلك من قَرَّره على ذلك واعتقدَ أنَّ الصلاةَ لا تجب على مثل هؤلاءِ لِحصولِ

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 100،101،144) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2041) عن عائشة. وله شاهد من حديث علي، أخرجه أحمد (1/ 116،118،140) وأبو داود (4403) والترمذي (1423) من طرقٍ عن علي.

- إذا أقر بوجوب الصلاة وامتنع من فعلها يستتاب، فإن تاب وإلا قتل

مقصود الصلاة لهم ونحو ذلك، فإنه من اعتقد ذلك يُستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. ومن كان نائمًا فإنه يَقْضِي الصلاةَ إذا استيقظَ. وهذا كلُّه لا نِزاعَ فيه بين المسلمين. وأما من أُغمِيَ عليه لمرضٍ أو خوفٍ أو حالٍ وَرَدَ عليه من خشيةِ الله تعالى أو استماع القرآن ونحو ذلك، فهذا قيل: يَجِبُ عليه القضاء مطلقًا، وهو مذهب أحمد ويُروَى عن عمار بن ياسر، وقيل: لا قضاءَ عليه وهو مذهب الشافعي، وقيل: يَقْضِي صلاةَ يوم وليلةٍ، كمذهب أبي حنيفة ومالك. وإن زالَ عقلُه بسبب محرم، كالسُّكْرِ بالخمر والحشيشة وأكل البَنْجِ ونحو ذلك، أو بحال محرَّم مثل أن يستمعَ القصائد المنهيَّ عنها فيغيب عقلُه، فهذا عليه القضاءُ بلا نزاع، وإذا كان السبب محصورًا لا يكون (1) السكرانُ معذورًا. وأما أن أقر الواحدُ من هؤلاء بوجوب الصلاة وامتنع من فعلِها فهذا أيضًا يُستَتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل عند جماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد، ويُقتَل في ظاهرِ مذهبهم بترك صلاةٍ واحدةٍ، فإذا مَضَى مِن وقتِ صلاة الفجر قيل له: صَلِّ، فإن لم يُصَلِّ حلَّ دمُه ولو طار في الهواء ومشى على الماء، فإن الدَّجال يأمُر السماءَ فتُمطِر والأرضَ فتُنبتُ، ويَسْتَتْبعُ معه الكنوزَ، ومع هذا فهو كافرٌ من خلق الله، يَقتُله المَسيحُ بن مريمَ على بابِ الشَّرْقيّ. ولكن لا يُقتَل

_ (1) في الأصل: "يكن".

حتى يستتاب. وهل هذه الاستتابة واجبة أو مستحبة هي موَقتة ثلاثة أيام؟ هذا فيه نزاع معروف. وإذا قُتِلَ فهل يُقتَل كافرًا مرتدًا لا يُدفَن في مقابر المسلمين ولا يُغسل ولا يُصلى عليه، أو يُقتَل فاسقًا كقتلِ قاطع الطريق والزاني إذا كان مُقِرا بوجوبها؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد. وكلامُ أكثرِ السلف يدلُّ على تكفيره، وقد رجحه كثير من أصحاب أحمد وبعضُ أصحاب مالك والشافعي. وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبد وبين الشرك إلاّ تركُ الصلاة" (1)، وقال: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (2). وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة. وقال عمر بن الخطاب لما قيل: الصلاة، فقال لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة، ولم يَقُل ثلاثة أيام. وسُئل ابن مسعود وغيره عن قوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ) (3)، فقال: إضاعتُها تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نَحسب ذلك إلا تركَها، فقال: لو تركوها لكانوا كفَّارًا، وقد قال سبحانه وتعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) (4). وإذا كان هذا الوعيد لمن نَسِيَها عن وقتها فكيف بمن تركها؟

_ (1) سبق تخريجه. (2) سبق تخريجه. (3) سورة مريم: 59. (4) سورة الماعون: 4 - 5.

(12) هل يجوز غيبة تارك الصلاة أم لا؟

مسألة هل يجوزُ غيبةُ تاركِ الصلاةِ أم لا؟ الجواب الحمد لله، إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز، ويَنبغي أن يُشاعَ ذلك عنه ويُهْجَر حتى يُصلي، وأمَّا مع القدرة فيجِبُ أن يُستَتابَ، فإن تابَ وإلا قُتِل.

(13) مسألة فيمن ترك الصلاة عامدا أو غير عامد ولم يزك، وقد قصد الحج، فهل يسقط هذا جميعه ومظالم العباد؟

مسألة فيمن تركَ الصلاةَ عامدًا أو غيرَ عامدٍ، ووجبتْ عليه الزكاةُ ولم يُزَك، وعاق والديه، وقَتَلَ نفسًا خطأ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن حج هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خرجَ من ذنوبِه كيومِ وَلَدتْه أمُّه". وقد قصدَ الحج، فهل يُسْقِط هذا جميعَه ومَظالِمَ العباد؟ الجواب أجمعَ المسلمون لا يَسقُط حقوقُ العباد كالدَّيْن ونحوِ ذلك، ولا يَسقُط ما وجب عليه من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحق المقتول عليه وإن حجَّ. والصلاة التي يَجبُ عليه قضاؤُها يَجبُ قضاؤُها وإن حَج. وهذا كلُّه باتفاق العلماء.

(14) مسألة في رجل مات، وكان لا يزكي ولا يصلي إلا إن كان في رمضان، فهل يصلى على مثل هذا؟

مسألة في رجلٍ ماتَ، وكان لا يُزكَي ولا يُصَلِّي إلاّ إن كان في رمضانَ، فيَجِبُ لنا أن نُصَلِّي على مثلِ هذا؟ الجواب مثلُ هذا يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه، كما تركَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاةَ على قاتلِ نفسِه، وعلى الغالِّ، وعلى المَدِيْنِ الذي لا وفاءَ له. وإن كان منافقَا فمَنْ عُلِمَ نِفاقُه لم يُصلَّ عليه، ومن لم يُعْلَم نِفاقُه فله أن يُصَلِّيَ عليه.

(15) مسألة في أقوام لم يصلوا ولم يصوموا، ومالهم حرام، ويأخذون أموال الناس، ويكرمون الجار والضيف

مسألة في أقوامٍ لم يُصلوا ولم يَصومُوا، والذي يصوم منهم لم يُصَل، ومالُهم حرام، ويأخذون أموالَ الناس، ويُكرِمون الجارَ والضيفَ، ولم يُعرَفوا لهم مذهبٌ (1) وهم مسلمون. الجواب الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إن كانوا تحت حكمِ وُلاةِ الأمور فإنهم يَجبُ أن يأمروهم بإقامة الصلاة ويُعاقِبوا على تركها باتفاق المسلمينَ، وكذلك الصيامُ. فإن أقرُّوا بوجوبِ الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن لم يُقِرَّ بذلك فهو كافر، وإن أقرُّوا بوجوب الصلاة وامتنعوا من إقامتِها عُوقِبوا حتى يُقِيموها. ويَجبُ قتلُ كل من لم يُصَلِّ إذا كان عاقلاً بالغًا عند جماهير العلماء كَمالك والشافعي وأحمد، وكذلك يُقام عليهم الحدودُ، وإن كانوا طائفةً ممتنعةً ذاتَ شوكةٍ فإنه يَجبُ قتالهم حتى يَلتزِمُوا أداءَ الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلواَت والصيام والزكاة، وتركَ

_ (1) كذا في الأصل.

المحرماتِ كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك. ومن لم يُقِر بوجوبِ الصلاة والزكاة فإنه كافَرٌ يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. ومن لم يُؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافرٌ أكفرُ من اليهود والنصارى. وعقوقُ الوالدين من الكبائر الموجِبة للنار.

(16) مسألة فيمن قال: صلاة الجماعة ليست بواجبة، وإنما كانت واجبة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه فقط، ولا يوجد اليوم منافق

مسألة فيمن قال: صلاة الجماعة ليستْ بواجبة، وإنما كانت واجبةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه فقط. قيل له: فقد قال بعضُ العلماء: إن من تركَ الجماعة وصلى في بيته فهو منافق، فقال: مَن قال هذا هو المنافقُ، وقال: إنه لا يُوجَد اليومَ منافق، وإنما كان النفاقُ في زمنِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن يُقالُ اليومَ: زنديق، ولا يقال: منافق. فهل ما قاله هذا الرجلُ صحيحٌ أم لا؟ أجاب الحمد لله، أما من قال إن صلاة الجماعة كانت واجبةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه فقط، فهذا القولُ مخالف لأقوال الأئمة الأربعة وسائرِ أئمة الدين، بل ما نَعْلَمُ إماما قال هذا، وإنما قال هذا بعضُ العلماء في صلاة الخوف خاصةً، زعمَ أنها كانت تُصلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون غيره، وجمهورُ الأئمة على خلاف ذلك. وأما الجماعة المعروفة فالأئمة متفقون فيها على خلاف قول هذا القائل، فمنهم من يقول: هي واجبة على الأعيان على عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسائرِ الأعصار على من يُصلي خلفَه ومن يُصلّي خلفَ غيره. ومنهم من

- إطلاق النفاق على من تخلف عن الجماعة إذا كان بغير تأويل شرعي

يقول: هي واجبة على الكفاية على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيره، ومنهم من يقول: هي سنة مؤكدة على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيرِه. وأما وجوبُها في عصره معه فقط، فهذا قول مخالف لأقوال أئمة الإسلام، وما سمعتُ عالمًا قال هذا. وقد كانت الجماعة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُقامُ خلفَه وخلفَ غيرِه من أئمة القبائل، وكان في كل دارٍ من دار الأنصار مسجد، أي في كلِّ قبيلةٍ من قبائل الأنصار مسجد، وكان لهم إمام راتب يُصلُّون خلفَه، كما كان معاذ بن جبل يُصلي بأهل قُباء، وكان غَسان بن مالك يُصلِّي بقومِه وكذلك غيرهما من الأئمة. وأما الجمعة فلم تكن تُقام إلا في مسجده، فمن قال: إن الصحابة كلهم كان يجب عليهم أن يُصلوا خلفَه الجماعةَ كما كان يجب عليهم أن يصلّوا خلفه الجمعةَ فقد أخطأ خطأً بينًا، وقال قولاً معلومَ الفساد بالتواتر والإجماع. وأما إطلاقُ النفاقِ على من تخلَّف عن الجماعة أو الجمعة، فهذا إنما يكون إذا كان بغير تأويلٍ شرعي، فأما من تخلَّف لعذرٍ شرعي، أو مَن اعتقد أنّ ذلك ليس بواجب عليه، فتخلَّف لأجل هذا الاعتقاد فإنه قد يكون مؤمنًا غيرَ منافق، سواء كان مصيبًا في اعتقاده أو مخطئًا. وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله شرَعَ لنبيِّه سننَ الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما

_ (1) برقم (654).

يُصلِّي هذا المتخلفُ في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيكم لضلَلْتم، ولقد رأيتنا وما يتخلَّفُ عنها إلاّ منافقٌ معلومُ النفاق. فقد أخبر ابن مسعود أنَّ الجماعة لم يكن يتخلَّفُ عنها على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ منافق معلومُ النفاق، وهذا مما يَستدِلُّ به من يُوجبها، لأنه إذا لم يكن يَتركُها حينئذٍ إلاّ منافق معلومُ النفاق عُلِمَ أنها كانت واجبةً إذ لو كانت مستحبةً كقيام الليل وصيام يوم الاثنين والخميس وسنةِ الظهر والمغرب لكان قد يتركها المؤمن، ولم يكن في تركها يُقال: إنه منافق، فإنه قد ثبتَ في الصحيحين (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر ما فرض الله من الصلاة والصيام والزكاة ونحو ذلك لرجلٍ، فقال: والذي بعثكَ بالحق لا أزيد على هذا ولا أَنقصُ منه، فقال: "أفلحَ إن صَدَق". فإذا كان من أدَّى الفرائضَ يكون مُفلحًا وإن لم يأتِ المستحبات، وكانت الجماعة لا يتخلَّف عنها عندهم إلا منافقٌ، عُلِمَ أنها كانت عندهم من الواجبات، ولكن هذا كان لعلمِ الصحابةِ بأقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاني كلامِه، وأنه لم يكن بينهم نزاع على عهده ولا شبهة ولا اختلاف، لظهور العلم والإيمان ومعرفتهم بوجوبِها وتوكيدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها. حتى قال: "لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقُ معي برجالٍ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحُرِّقَ عليهم بيوتَهم بالنار" (2).َ ومعلومٌ أنَّ التحريقَ بالنار لا يكون إلاّ عن كفرٍ أو كبيرةٍ عظيمة.

_ (1) البخاري (46 ومواضع أخرى) ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله. (2) أخرجه البخاري (644، 657، 2420، 7224) ومسلم (651) عن أبي هريرة.

وفي رواية (1): "لولا ما في البيوت من النساء والذزيّة"، وفي رواية لأبي داود (2): "ثم أنطلق إلى رجالي يُصلُّون في بيوتهم، فأحرق بيوتهم بالنار". فلما عَلِمَ الصحابةُ هذا الوعيدَ والتهديدَ كان المؤمنون يطيعون الله ورسولَه، والمنافقون يتخلفون عن الجماعة، فأما اليومَ فقد قل العلمُ والإيمانُ، وكثير من العلماء يخفَى عليه بعضُ السنة فضلاً عن غيرهم، فلهذا صارَ يَتْرُكُها مَن ليس بمنافق معلومِ النفاق، لكن هؤلاء يتشبهون بالمنافقين، إذا لم يكونوا منافقين، وهم تاركونَ للسنة المؤكدة باتفاق المسلمين، وإذا أصرُّوا على ذلك رُدَّتْ شهادتُهم، بل يُقاتَلُون في أحد القولين، وهذا عند من لا يقول بوجوبها. فأما من قال بوجوبها فإنه يُقاتِلُ تاركَها، ويُفَسقُ المصرِّينَ على تركها إذا قامتْ عليهم الحجةُ التي تُبِيْحُ القتالَ والتفسيقَ، كما يُقاتَل أهلُ البغي بعد إزالةِ الشبهة ورَفْع المَظْلمة، بل العلماءُ قد يُعاقِبون مَن تركَ واجبًا أو فَعَل محرما وإن كان متأولا، كما قال مالك والشافعي وأحمد في شارب النبيذ المتأول أنه يُجلَد وإن كان متأولاً، والشافعي لا يردُّ شهادتَه بذلك، ومالك يردُّها، وعن أحمد روايتان. وكذلك البُغاةُ المتأولون إذا قاتلوا، كما قاتلَ علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين، فإنهم عند الأئمة الأربعة لا يُفَسَّقون بذلك البغي، لأنهم كانوا فيه متأولين وإن قُوتلوا.

_ (1) لأحمد (2/ 367). (2) برقم (548، 549).

- دلائل وجوب الجماعة ظاهرة بينة

وهكذا كل ما ثبتَ تحريمُه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خفي ذلك على بعضِ العلماء، فإنه يذكر تحريمه وما ورد فيه من التغليظ والوعيد، وإن كان المتأول المعذور من العلماء لا يَلحقُه الوعيدُ، بل يغفر الله له لأنه اجتهد فأخطأ، وقد قال تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1)، وفي الصحيح (2) أن الله تعالى قال: "قد فعلتُ". وهكذا ما يَتنازعُ فيه الأئمة من واجبات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذا تركه التاركُ متأولاً مع قيامِه بالواجبات وتركه للمحرمات لم يكن بذلك فاسقًا بل ولا آثمًا، بل الله يَغفِر له خطأه. ومع هذا فمن يقول بوجوبه يُبين وجوبَه، ويَذكر ما جاء فيه من الأدلة الشرعية لبيان العلم وإظهارِ السنة، وليتبينَ خطأُ القول المخالفِ للسنة وصوابُ القول الموافق لها، وإن كان المخالفُ مجتهدًا معذورًا، بل يكون المجتهد من أولياء الله المتقين، وعبادِه الله الصالحين، ومن أئمة الدين، والله يَغفِر له خطأه ويَغفِر له ما هو فوقَ الخطأ من الذنوب، إذ لا معصومَ من أن يُقَر على خطأٍ أو ذنبٍ بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان صديقًا أو شهيدًا أو صالحًا، لكن يكونون كما قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) (3). ووجوبُ الجماعة من هذا الباب، فإن دلائلَ وجوبِها في

_ (1) سورة البقرة: 286. (2) مسلم (126) عن ابن عباس. (3) سورة الأحقاف: 16.

الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ظاهر بين، لا يَسترِيبُ فيه بعد معرفتِه ومعرفةِ ما قيل في ذلك عالم منصفٌ، ولكنّ طائفة من العلماء ظنّوا أنّ الوعيد كان في الجمعة خاصةً، والنصوصُ صريحة ثابتة بأنها كانت في الجماعة أيضًا. ومنهم من ظنَّ أن العقوبة إنما كانت للنفاقِ خاصةً لا لتركِ الجماعة، وهذا أيضًا خطأٌ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يُعاقِبُ أحدًا على ما أسرَّه من النفاقِ، وإنما يُعاقِبُه بما أظهره من ترك واجب أو فِعْلِ محرَّم. وأيضًا فإذا [كان] تركُها علامة النفاق، فالدليلُ يَستلزمُ المدلولَ، عُلِمَ أن كلَّ من تركَها كان منافقًا، وهذا دليل الوجوب. وأيضًا فإنه قد ثبتَ في الصحيح (1) أن ابنَ أم مكتوم سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُرخصَ له في تركها، فقال: "هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم. قال: "فأجَبْ". وفي روايةٍ في السنن (2): فقال: "لا أجدُ لكَ رخصة". وابنَ أم مكتوم مؤمنٌ باتفاق المسلمين، وهو الأعمى الذي ذكره الله بقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)) (3)، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستخلِفُه على المدينة، وكان يؤذِّن للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع هذا فلم يَأذَنْ له في التخلف عن الجماعة، فعُلِمَ أنها واجبة على من عُلِمَ إيمانُه. ومن ادَّعَى أنَّ هذا الحديث منسوخ أو مخالف للإجماع فقد

_ (1) مسلم (653) عن أبي هريرة. (2) لأبي داود (552) عن ابن أم مكتوم. (3) سورة عبس: 1 - 2.

- من قال: لا يوجد اليوم منافق، فهو مخطئ

غَلِطَ، فإن العمل عليه عند من يُوجب الجماعةَ، يُوجبُها على الأعمى كما يُوجبُ عليه الجمعة، فإذَا أمكنه الخروج إليَها وَجَبَتْ عليه وإن لم يكن له قائد، إذ الأعمى قد يذهب إلى السوق وغيرِه من حوائجه بلا قائدٍ، فكذلك يذهب إلى الجماعة. فصل وأما من قال: لا يوجد اليومَ منافقٌ، إنما كان النفاقُ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا مخطئ بإجماع المسلمين، بل قد قال حذيفة بن اليمان بعد موتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن النفاق اليومَ أكثرُ منه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنافقُ هو الذي يُبْطِنُ الكفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، وهذا موجودٌ في سائرِ الأعصار، بل إذا كان مع رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآياتِه وسَماعِ كلامِه يكون المنافقون موجودين فبعدَه أولى وأحرى. وأما قوله: إنه يقال زنديق، ولا يقال منافق، فهذا جهلٌ منه، فإن لفظ "زنديق" لفظٌ معرَّبٌ لم يَنطِقْ به رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أصحابُه، ولكن نَطقتْ به الفُرسُ، فأخذَتْه العربُ فعرَّبَتْه. ومعنى الزنديق الذي تنازع الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يُظهِر الإسلامَ ويُبطِن الكفرَ، ولهذا قال الفقهاء: إن الزنديق هو المنافق، وتنازعوا في قبول توبته. واحتجَّ الشافعي وغيرُه ممن يَرى قبولَ توبةِ الزنديق بأن المنافقين الذي كانوا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ علانيتَهم ويَكِلُ سَرائِرَهم إلى الله. وكذلك تكلم

- اسم النفاق قد يطلق على النفاق الأصغر

الفقهاءُ من الطوائف الأربعة وغيرهم في أحكام الزنديق، مثل ميراثِه، ووجوب إعادة ما فعلَه من العبادات، وأمثال ذلك، وكلهم يحتجُّ على ذلك بأحكام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنافقين الذين كانوا على عهده، وذلك لعلم الأئمة أن الزنديق هو المنافق، وكل زنديق يُظهِر الإسلام ويُبْطِنُ الكفر فإنه منافق، يُسمَّى منافقًا، ويَدخُل في المنافقين المذكورين في القرآن، ومَن أنكر هذا فإنه يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِلَ. واسم النفاق والكفر ونحوهما قد يُعبر به عن بعض شُعَبِ الكفر والنفاق، وهذا هو النفاق الأصغر وهو الذي خافَتْه الصحابةُ على أنفسهم، كما في صحيح مسلم (1) أن حَنْظَلَة الكاتب لَقِيَ أبا بكر الصديق فقال: نافقَ حنظلةُ، نافقَ حنظلةُ. وذكر البخاري (2) عن ابن أبي مُليكة قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه. وقد صنَّف جعفر بن محمد الفِرْيابي الحافظ كتابًا في صفة المنافق (3)، ذكر فيه من الأحاديث والآثار ما لا يَتسِعُ له هذا الموضعُ، وقد قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44))، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47))، (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)) (4)،

_ (1) برقم (2750). (2) 1/ 109 (مع "الفتح"). (3) هو مطبوع. (4) سورة المائدة: 44، 45، 47.

قال: كفرٌ دون كفر، وفسوقٌ دون فسوق، وظلمٌ دون ظلم (1). وفي الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الشِّركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النَّمْلِ، والرياءُ شرك" (2) وفي الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ: الطعنُ في الأنساب والاستسقاءُ بالأنواء" (3). وفي حديث آخر: "لا تَرغَبوا عن آبائِكم، فإن كفرًا بكم أن تَرغَبوا عن آبائكم" (4). ونظائر ذلك كثيرة، والله أعلم.

_ (1) انظر تفسير الطبري (6/ 165 - 166). (2) أخرجه أحمد (4/ 403) عن أبي موسى الأشعري. (3) أخرجه مسلم (67) عن أبي هريرة، وفيه: "والنياحة على الميت" بدلاً من "الاستسقاء بالنجوم". (4) أخرجه البخاري (6830 ومواضع أخرى) عن عمر بن الخطاب.

(17) مسألة في رجل له دكان بقرب المسجد، هل يجوز له أن يصلي منفردا، أو يؤخر الصلاة مع الجماعة ويصلي في البيت؟

مسألة في رجل له دكانٌ يبيع فيها ويشتري، وهي بقُرب المسجد من غير حائلٍ بينهما، فهل يَجبُ عليه إذا أقيمتِ الصلاةُ وحضرت الجماعةُ أن يُصلِّي منفردًاَ في الدكان ويَتْرُكَ الجماعة؟ وهل يوجب (1) أن يُؤَخر الصلاةَ مع الجماعة ويُصلي في البيت ويقول: أنا أُؤَخّر الصلاةَ إلى نصف الليل وأُصلِّي في بيتي؟ الجواب لا يَجبُ عليه باتفاق المسلمين أن يُصلي منفردًا في الحانوت، بلَ هو مأمور باتفاق المسلمين أن يُصلِّي مع الجماعة، وإنما يَأمرُ بالصلاة منفردًا دون الجماعةِ أهلُ البدع المُضلَّة كالرافضة، وبعضُ ضُلاَّلِ النُسَّاك ونحوهم، وأما أهلُ السنة والجماعة فمن أعظم شعائرِهم الصلاةُ في الجمعة والجماعة. والصلاةُ في الجماعة من أوكدِ ما شرعَه الله ورسولُه، بل هي واجبة، فقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لقد

_ (1) كذا في الأصل، ولعله "يجوز". (2) سبق تخريجه.

- من صلى منفردا عن الجماعة يستحق العقوبة البليغة

هممتُ أن آمُرَ بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقَ معي رجالٌ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحرِّقَ بيوتَهم بالنار". وفي رواية (1): "لولا ما في البيوت من النساء والذرية". فبيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إنما يَمنعُه من تحريقِ المتخلفين عن الجماعة أن في البيوت نساءً وذرية. وفي الصحيح (2) أن أعمى جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إنّي رجلٌ شاسعُ الدار، ولي قائد لا يُلائِمني، فهل تَجدُ لي رخصةً أن أصلّي في بيتي؟ قال: "هل تَسمع النداء"؟ قال: نعم، قال: "فأَجبْ". وفي رواية (3): "هل تسمعُ النداء؟ " قال: نعم، قال: "لا أجد لك رخصة". وفي الصحيح (4) عن ابن مسعود أنه قال: شرعَ الله لنبيِّه سُننَ الهدى، وإنّ هذه الصلوات الخمس في المساجد التي يُؤذَّن بها من سُنن الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتُم سنةَ نبيكم، ولو تركتُم سنةَ نبيكم لضَلَلْتُم، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق. وإذا ظهر من الرجل [الانفرادُ] بما يجب عليه من الصلاة وواجباتها فإنه يستحق على ذلك العقوبةَ البليغة، التي تَحمِلُه وأمثالَه على أداءَ

_ (1) سبق تخريجها. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجها. (4) سبق تخريجه.

- من يؤخر العشاء حتى يصليها بعد نصف الليل، لا يقر على ذلك بل يعاقب

الواجبات وإقامةِ شرائع الدين، ومتى ادَّعَى ما يظهر خلافه لم يُقْبَل منه، بل يُؤمَر أن يصلي مع المسلمين، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1): "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُبُ أحدُهم الشمسَ حتى إذا كانتْ بين قَرْنَي الشيطانِ قامَ، فَنَقَرَ أربعًا لا يذكر الله فيها إلاّ قليلا". ومن قال: إنه يُؤخر العشاءَ حتى يُصليها بعد نصف الليل، فإنه لا يُقَرُّ على ذلك، بل يُعاقَب حتى يُصلي الصلاةَ في وقتِها وقتِ الاختيار، فإن تأخيرَ العصر إلى [ما] بعد الاصفرارِ وتأخيرَ العشاءِ إلى ما بعد نصف الليل لا يَجوزُ مع القدرة، بل يجوز ذلك لمن لم تُمكِنْه الصلاةُ وقتَ الاختيار، كالحائض تطهر، والمجنون يُفيق، والنائم يستيقظ، والكافر يُسلم، ونحو ذلك، والله أعلم.

_ (1) مسلم (622) عن أنس.

(18) مسألة في مسلم تارك الصلاة ويصلي يوم الجمعة، هل يجب عليه اللعنة؟

مسألة في مسلم تاركِ الصلاة ويُصلي يومَ الجمعة، فهل يَجِبُ عليه اللعنةُ؟ الجواب الحمد لله، هذا يَستوجبُ العقوبةَ باتفاق المسلمين، والواجبُ عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يُستَتابَ، فإن تاب وإلا قُتِلَ. ولعنُ تاركِ الصلاة على وجهِ العموم جائزٌ، وأما لعنةُ المعينِ فالأولى تركُها، لأنه يُمكِنُ أن يتوبَ.

(19) مسألة في رجل يصوم ولا يصلي ويلعب بالنرد

مسألة في رجلٍ يصوم ولا يُصلِّي ويَلْعَبُ بالنَّرْدِ. الجواب الحمد لله رب العالمين، الصلاةُ أعظم من الصيام، وتاركُ الصلاة المفروضة أعظمُ إثمًا من تاركِ الصيام. وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من فاتَتْه صلاةُ العصر حَبطَ عملُه". وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الذي تفوتُه الصَلاةُ صلاة واحدةٌ فكأنما وُترَ أَهْلُه ومالُه" أي سُلِبَ أهلُه ومالُه. فإذا كان هذا فيمن تفوتُه صلاةٌ واحدةٌ فكيف بمن يفوتُه أكثرُ من صلاة؟ فكيف بمن يترك الصلاة؟ وقد ثبتَ في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبدِ وبينَ الشركِ إلاّ تركُ الصلاة". وتاركُها مستحق للعقوبةِ البليغةِ بإجماع المسلمين، ويُستَتاب، فإن تابَ وإلا قُتِلَ. وأما لعبُ النرد فهو حرامٌ باتفاق العلماء.

_ (1) عند البخاري (553، 594) عن بريدة بلفظ "من تركَ صلاةَ العصر ... " ولم يروه مسلم. (2) البخَاري (552) ومسلم (626) عن ابن عمر بلفظ "الذي تفوتُه صلاةُ العصر ... ". (3) سبق تخريجه.

(20) مسألة فيمن عنده زوجة ما تصلي، هل تحرم عليه؟

مسألة فيمن عنده زوجةٌ ما تُصَفَي، هل تَحرمُ عليه؟ أو يَنْفَسِخُ العقدُ الذي عُقِدَ بينهما؟ ولها عليه صداقٌ ثقيل ولم يَقْدِرْ على شي؟ منه، ويخافُ إنْ يُفارِقْها يُطَالَبْ بشيٍ لا يَقدِرُ عليه. الجواب الحمد لله، أما إقرار الزوجةِ أو غيرِها ممن هو تحت طاعةِ الرجل على ترك الصلاة فهو حرام بإجماع المسلمين، والمُقِرُّ على ذلك مع القدرة على الإنكار آثم فاسقٌ عاص بلا نزاع، بل الأمرُ بالصلاة لمن ليسَ تحت طاعةِ الرجل فرض على الكفاية، إذا تركَه الناسُ عَصَوا وأَثِمُوا، واستحقوا جميعهم عقابَ الله، فكيف تَرْكُ الأمرِ بذلك لمن هو في طاعته؟ وقد قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1)، وما أمر اللهُ به نبيه فهو أمرٌ لأمته ما لم يَقُمْ دليل على التخصيص، ولا تخصيصَ هنا بالاتفاق، فيجبُ على كل مسلم أن يأمر أهلَه بالصلاة. وكذلك قال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) (2)، قال عليه الصلاة والسلام: عَلِّموهم وأدِّبُوهم.

_ (1) سورة طه: 132. (2) سورة التحريم: 6.

- تارك الصلاة شر من السارق والزاني باتفاق العلماء

وإذا عَلِمَ الرجلُ أن المخطوبة لا تصلي كان تزوُّجُه أشَرَّ مما إذا علِمَ أنها قَحْبةٌ أو سارقةٌ أو شاربةُ خمر، فإن تاركَ الصلاة شرٌّ من السارق والزاني باتفاق العلماء، إذْ تاركُ الصلاة سواءٌ كان رجلاً أو امرأةً يَجِبُ قتلُه عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، والسارقُ لا يَجبُ قتله، ولا يَجبُ قتلُ الزانية التي لم تُحصن باتفاق العلماء، وإنَ كانت بكرًا بالغًا عند أبوَيها وهي لا تصلي كانت شرًّا من أن تكون قد زَنَتْ عندَهم أو سَرَقَتْ، وإذا كان الناسُ كلُّهم يُنكِرون أن يتزوَّجَ الرجلُ بسارقةٍ أو زانيةٍ أو شاربةِ خمر ونحو ذلك فيجبُ أن يكون إنكارُهم لِتزوُّجِ من لا تصلِّي أعظمَ وأعظمَ باتفاق الأئمة. فإنّ التي لا تصلي شرٌّ من الزانية والسارقة وشاربة الخمر. وليس لقائل أن يقول: فالمسلمُ يَجوزُ له أن يتزوَّجَ اليهوديةَ والنصرانيةَ، فكيف بهذه؟ لأنَّ اليهودية والنصرانية تُقَرُّ على دينها، فلا تُقْتَل ولا تُضْرَب، وأما تاركُ الصلاة والسارق والشارب والزاني فلا يقر على ذلك، بل يُعاقَب إما بالقتلِ وإما بالقطع وإما بالجَلْد، وإن كان عقابُه في الآخرة أخف من عقاب الكافر، لكن لا يجوز لغيره أن يُقِرَّه على فسقِه، فمن أقرَّ فاسقًا على فسقِه ولم ينكر عليه كان عاصيًا آثمًا، ومن أقر ذميًا على دينه لم يكن آثمًا ولا عاصيًا، وقد قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) (1) أي النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، والنساء الطيبات للرجال الطيبين،

_ (1) سورة النور: 26.

- لا يحكم بانفساخ النكاح بمجرد ترك الصلاة

والخبيثة هي الفاجرة، فهي للرجل الخبيث الفاجر. والخُبْثُ إنْ قيلَ المرادُ به الزنا دل على أن تزوجَ الزانيةِ لا يجوزُ حتى تتوب، وهو أصحُّ قولَي العلماء، لقوله تعالى: (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) (1)، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى رجلاً أن يتزوَّج امرأة كان يزني بها اسمها عَنَاق (2)، وأنزَل الله هذه الآية في ذلك، ولهذا كان المتزوجُ بها مذمومًا عند عامةِ العقلاء، حتى يقال: شَتَمَهُ بالزين والقاف، أي قال له: يا زوجَ القَحْبَة. والحديثُ الذي يُروَى في الرجل الذي قال: إن امرأتي لا تَردُّ كف لامسٍ، قد ضعَّفُوه (3)، ولا شكَّ أنَّ الزانيةَ يُخافُ منها إفسادُ الفراش، وهو من هذا الوجه شرٌّ من غيرها، بخلاف مَن كان فسقُها بغير ذلك، ولهذا يقال: ما بَغَتِ امرأةُ نبى قط، لكن عقوبةَ المرأة التي تَترك الصلاةَ أعظمُ من عقوبةِ بعض البغايا فالمتزوجُ بها يكون قد أقر في بيته من المنكرات أعظمَ من أن يُقِر عنده أختَه الزانية وبنتَه الزانية. وأما انفساخ النكاح بمجرد التركِ فلا يُحكَم بذلك، لكن إذا

_ (1) سورة النور: 3. (2) أخرجه أبو داود (2051) والترمذي (3177) والنسائي (6/ 54) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي: حسن غريب. وصححه الحاكم (2/ 166). (3) أخرجه أبو داود (2049) والنسائي (6/ 67، 169، 170) عن ابن عباس. قال النسائي: هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي.

- لكن إذا دعيت إلى الصلاة وامتنعت انفسخ نكاحها عند بعض العلماء

دُعِيَتْ إلى الصلاة وامتنعتْ انفسخَ نكاحُها في أحد قولَي العلماء، وفي الآخر لا ينفسخ، لكن على الرجل أن يقومَ بما يَجبُ عليه. وليس كلُّ من وجبَ عليه أن يطلِّقَها ينفسخُ نكاحُها بلاَ فعله، بل يقال له: مرْها بالصلاة وإلاّ فَارِقْها، فإن كان عاجزًا عن ذلك لِثِقَلِ صَداقِها كان مُسِيْئًا بتزوجه مَن لا تُصلِّي على هذا الوجه، فيتوبُ إلى الله من ذلك، ويَنوِيَ أنه إذا قَدَرَ على أكثر من ذلك فَعَلَه، والله أعلم.

(21) مسألة فيمن لا يصلي هل تجاب دعوته إذا دعا أحدا؟

مسألة فيمن لا يُصلِّي هل تُجَابُ دعوتُه إذا دعَا أحدًا؟ الجواب أما من لا يصلي فلا ينبغي أن يُسلَّم عليه، ولا تُجاب دعوتُه، بل هو مستحق للقتل، فإذا هُجِرَ فلم يُسَلم عليه ولم تُجَبْ دعوتُه كان ذلك أخفَّ ما يُعاقَبُ به. مسألة في رجل ذُكِرَ له الصلاةُ، فقال: قال الله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ) (1)، فقيل له: اقرأ بقيةَ الآية، فقال: كلمةٌ تكفي العاقلَ، وهو يَضحكُ، فما يَجِبُ عليه؟ الجواب هذا الرجلُ مُستهزئ بآياتِ الله، يُستَتاب، فإن تَابَ وإلا قُتِلَ.

_ (1) سورة النساء: 43.

(23) مسألة في الميت وخروجه على زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمرور به بالمقربين، وخروج النساء صحبة الميت، وخروجهم إلى القبر اليوم الثالث، والقراءة على القبر ثلاثة أيام، وغير ذلك

مسألة في الميت وخروجه على زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهل المرور بالميت بالمقربين، وخروج النساء صحبة الميت، وخروجهم إلى القبر اليومَ الثالث، ومَن يصنع موضع غسل الميت خبزا وماء وسراجا إلى ثلاثة أيام، والقراءة على القبر ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث نسق القبر بأيديهم، والضرب بالدفوف والشبابات، هل يُكْرَه ذلك أم لا؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، كان الميتُ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخرُج به الرجال، يَحملونه إلى المقبرة ويُسرِعون به وعليهم السكينة، لا يخرج معهم النساءُ، ولا يَرفعُ الرجالُ أصواتَهم لا بقراءةٍ ولا غيرها. وهذه هي السنة باتفاق علماء المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، لا يستحبون أن يكون مع الميت شيءٌ من الأصوات المرتفعة ولو كانت بالقراءة. قال قيس بن عُبادة -وهو من كبار التابعين الذين صحبوا عليَّ بن أبي طالب-: كانوا يَستحبُّون خَفْضَ الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند التحامِ الحربِ. وذكروا أن عبد الله بن عمر سمعَ رجلاً

- خرج النساء في الجنائز منهي عنه

في جنازة يقول: استغفروا لفلان، فقال عبد الله بن عمر: لا غفر اللهُ للأبعد، قال ذلك نهيًا له عن هذه البدعة. وقال سعيد بن المسيب لما احتُضِرَ: إيايَ وحادِثكُم هذا الذي تَرَحموا على سعيد، استغفرُوا لسعيد. وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يتبع الجنازة بصوت أو نار. وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أَسْرِعُوا بالجنازة، فإن كانت صالحةً فخيرٌ تُعجلونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم". وفي السنن (3): "أسرِعوا بالجنازة ولا تَدِبوا بها دَبِيْبَ اليهود". والآثار في ذلك متعددة. وخروج النساء في الجنائز منهي عنه، لا سيما إذا كان النساء يَنُحْنَ أو يَضْرِبن خدودَهن ويرفعن أصواتَهن، فإن هذا نزاع بلا ريب، سواء فَعلتْه مع الجنازة أو في حال غَيْبَتِها، لكنه معها بحضور الرجال أشدُّ. وفي الصحيحين (4) عن أتم عطية قالت: نُهِينا عن اتباع الجنائز. وفي السنن (5) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نسوةً مع جنازةٍ، فقال لهن: "هل تَحمِلْنَ مع مَن يَحمِلْن؟ " قلن: لا، قال: "هل تَحْفِرن

_ (1) أخرجه أبو داود (3171) وأحمد (2/ 528، 531) عن أبي هريرة. (2) البخاري (1315) ومسلم (944) عن أبي هريرة. (3) بل أخرجه أحمد (2/ 363) عن أبي هريرة. (4) البخاري (1278) ومسلم (938). (5) أخرجه ابن ماجه (1578) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 77) عن علي. وهو حديث ضعيف، انظر "الضعيفة" للألباني (2742).

- النهي عن النياحة

مع من يَحفِرن؟ " قلن: لا، قال: "هل تُدلِيْن مع من يُدْلِي؟ " قلن: لا، قال: "فارجعنَ مأزورات غيرَ مأجورات، فإنكن تَفتِنَّ الحيَّ وتُؤذِينَ الميتَ". ومعنى قوله: "تُؤذِينَ الميت" أي بالنياحة، فإنه قد ثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: "مَن نِيْحَ عليه يُعذَّبُ بما نِيْحَ عليه". وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في غير هذا الموضع (1)، وبيَّنّا أن ما يَحصُل للألم بنياحة الحيِّ ليس عقوبة له على ذنب غيره، بل النائحةُ تُعاقَب على نياحتها، كما ثبت في صحيح مَسلم (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبل موتها فإنها تُلبَسُ يومَ القيامة دِرْعًا من جَرَب وسِربالاً من قَطِران". فالميت ما يَحملُ وِزْرَ النائحة، بل يَحصُل له بنياحتها من الألم الذي يتعذب به ما أخبر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس كلُّ ألم يَحصُل للإنسان بسبب من الأسباب يكون عقوبةً عليه، وفي الصحيحين (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس منا من لَطَمَ الخدودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهليةِ". فقد تَبرَّأ ممن لَطَم الخدود وشقَّ الجيوب، والجيبُ هو طوقُ الثوب، كما يَفعَلُه بعضُ المُصَابين حين يَشُق ثيابَه. والدعاء بدعوى الجاهلية مثل أن يقول: يا رُكْنَاه! يا عضداه! يا ناصراه! ونحو ذلك، وهذا هو الندب، لأنه يَندُب الميتَ، أي يدعوه، والميت لا يُجيب دعاءَه، ولا منفعةَ في هذا الندب لا للحيّ وللميت،

_ (1) انظر مجموع الفتاوى (24/ 369 - 372). (2) برقم (934) عن أبي مالك الأشعري. (3) البخاري (1297، 1298، 1294، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود.

- عمل العرس للميت من أعظم البدع، وكذلك الضرب بالدفوف في الجنائز

بل فيه ضرر عليهما، فإنه قد ثبت أن عبد الله بن رواحة أُغميَ عليه، فجعلتْ أختُه تندُبُ عليه، فلما أَفَاق قال: ما قلتِ فيَّ شيء إلاّ قيل لي: أنتَ كذلك؟ أنتَ كذاك؟ (1). وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه تبرَّأ من الحالقة والصالقة والشاقة. فالحالقة التي تَحلِق شعرَها عند المصيبة، والصالقة التي تَرفع صوتَها بالمصيبة، والشاقةُ التي تشق ثيابَها عند المصيبة. والأحاديث في ذلك كثيرة، حتى قال جرير بن عبد الله البجلي: كنا نَعُدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصُنْعَهم الطعام من النياحة، رواه أحمد (3) أي إذا اجتمعَ الناس وصَنَع أهلُ الميت للناس وليمةً، فهذا من عمل الجاهلية، وإنما السنة أن يُصنَعَ لأهل الميتِ طعامٌ لاشتغالِهم بمصيبتهم، كما قالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتاه نَعِيُّ جعفر: "اصنعَوا لآلِ جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يَشْغَلهم" (4). وعملُ العرسِ للميت من أعظمِ البدع المنكرات، وكذلك الضرب بالدفوف في الجنائز على وجه النياحةَ منكرٌ باتفاق العلماء، لم يرخّصْ أحدٌ من أهل العلم في ضرب الدفوف في الجنائز والموت،

_ (1) سبق تخريجه. (2) البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري. (3) 2/ 204. ورواه أيضًا ابن ماجه (1612)، وصححه النووي في المجموع (5/ 320). (4) أخرجه أحمد (1/ 205) وأبو داود (3132) والترمذي (998) وابن ماجه (1610) عن عبد الله بن جعفر.

- بدع أخرى في الجنائز

فكيف بالشبابات؟ وإنما يُضْربُ بالدَّفّ في عُرسِ النكاح ونحوه، كما جاءت به السنةُ، مع أن بعض السلف كره ذلك مطلقًا، لكن الصحيح أنه يُفَرقُ بين الضرب به في الموت أو في الفرح، وكان دَفهم ليس له صَلاصِلُ، ولهذا تنازعَ العلماء في الدف المصلصل على قولين. وأما الشبابة فلم يُرخّص فيها أحد من الأئمة الأربعة لا في عرس ولا موت. وكذلك ما يفعله بعض المُصَابين من كشف الرءوس ونَشْر الشُّعور، ولُبْسِ المسوح، ونَبْذِ الأواني والبُسُط، أو كَسْرِ بعض ذلك، أو هَلْب الخيل، أو تقليب سُرُوجها، أو تقليب الكيات التي على رءوس أتباعه، أو وضع التين في دارِه، وما أشبهَ هذه الأمور، فكل ذلك من المنكرات التي هي من جنس عمل أهل الجاهلية. وكذلك وضعُ الفواكه والمشمومات عنده، أو إلباسُ الميتةِ حُلِيها أو جميلَ ثيابها كما يُصنَع بالمرأة العروس، ونحو ذلك كله من المنكرات التي هي من جنس عمل الجاهلية، وكذلك وضعُ طعام وشراب في مُغتسلِهِ أو إِيقادُ ضوءِ في مُغتَسَلِه كل ذلك من البدع المنكرة التي لا أصل لها، وكذلك شق تراب قبره بعد ثلاثٍ، بل الاختلافُ إلى قبره صبيحةَ موته أو ثالثه وسابعهُ ورأسَ شهرِه ورأسَ حوله هو أيضًا من البدع التي لم يكن يُفعل عهدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه، وإنما قال عمرو بن العاص لما احْتُضِرَ: اجلسُوا عند قبري قدرَ ما يُنْحَر جَزُور ويُقسم لحمُها، أَستأنِسُ بكم وأَنظُر ماذا أراجِعُ به رُسُلَ ربي.

- الصدقة عن الميت تنفعه، ولكن إخراجها مع الجنازة بدعة مكروهة

وأما الصدقة عن الميت فإنها تنفعه، كما ثبت ذلك بنص سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتفاق أئمة المسلمين، ففي الصحيح (1) أنه قال سعد: يا رسول الله! إنّ أمي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: "نعم"، وأما إخراجُ الصدقة مع الجنازةِ فبدعة مكروهةٌ، وهو يشبه الذبح عند القبر، وهذا مما نَهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في السنن (2) عنه أنه نهى عن العَقْر عند القبر. وتفسيرُ ذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات فيهم كبيرٌ عَقَروا عند قبره ناقة أو بقرة أو شاة أو نحو ذلك، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، حتى نص بعضُ الأئمة على كراهةِ الأكل منها، لأنه يُشبهُ الذبحَ لغير الله. قال بعض العلماء: وفي معنى ذلك ما يفعلُه بعضُ الناس من إخراجِ الصدقات مع الجنازة من غنم أو خبز أو غير ذلك، وهذا فيه عدةُ مفاسدَ: منها: أن مُشَيعي الجنازة تَشتغِلُ قلوبُهم بذلك. الثاني: أنه يتبعُ الميتَ من ليس له غرض إلاّ في أخذِ ذلك. الثالث: أنهم يختصمون عليها. الرابع: أنه يأخذها الغالبُ غيرَ مستحق ويُحرَمُ المستحق.

_ (1) البخاري (1388، 2760) ومسلم (1004) عن عائشة. (2) أخرج أبو داود (3222) والنسائي (4/ 16) وأحمد (3/ 197) عن أنصر مرفوعًا: "لا عَقرَ في الإسلام"، قال عبد الرزاق: كانوا يَعقِرون عند القبر، يعني ببقرةِ أو بشيء.

الخامس: أنه قد يكون على الميتِ دَينٌ أو في ورثتِه صغارٌ. السادس: أنها تُصنَع رياءً. فمن أحبَّ أن ينفعَ ميّتَه بصدقةٍ عنه فليتصدقْ بما يسَّره الله تعالى على من يثيبه الله بالصدقة عليه، فإن الصدقةَ إذا وصلتْ إلى المستحقّ الذي ينتفع بها محمولةً إليه كان أعظمَ للأجر والثواب، وكان في ذلك اتباعٌ للسنة والتخلصُ من البدعة.

(24) مسألة في قوم يقرءون قدام الموتى على طريقة الغناء

مسألة في قوم يقرءون قُدامَ الموتى على طريقة الغناءِ، ويَقِفُون بالميت قليلاً بعد قليل لأجل النقوط، فقالت جماعةٌ: هذا حرام على المقرئ والمعطي، وقالت جماعة: مكروه، والمرادُ بيانُ ذلك. الجواب الحمد لله رب العالمين، نعم الوقوفُ بالميتِ ليقرأَ القُرّاءُ مما يُنْهَى عنه، ولو لم يكن لأجلِ تنقيطِهم، فإذا كان كذلك فهو زيادةُ شرٍّ على شرِّ، بل مجردُ الوقوف بالميت منهي عنه مطلقًا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أَسرِعُوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غيرَ ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم" (1). وقال: "أَسرِعوا بالجنازة ولا تَدِبُّوا دبيبَ اليهود" (2). والقراءةُ على الجنازة بدعة مكروهة باتفاق الأئمة الأربعة، فإذا وَقفوا تضاعفتِ المكروهاتُ، والإعطاءُ نقوطًا لمثل هؤلاء مما يُنْهَى عنه فاعلُه، ولا يثابُ عليه، فإنه بإعطائه أعانَ على ما يَكرهُه الله ورسولُه، والله أعلم.

_ (1) أخرجه البخاري (1315) ومسلم (944) عن أبي هريرة. (2) أخرجه أحمد (2/ 364) عن أبي هريرة بلفظ "انبسطوا بها ولا ... ".

(25) مسألة في المشاهد ومن ابتدعها، وفي زيارتها، وما صح من قبور الأنبياء والصحابة، وهل يجوز التبرك بالمشهد؟

مسألة المسئولُ أن يُبيَّنَ لنا عن هذه المشاهد، ومَن ابتدعها، وفي زيارتها، وما صحَّ من الأنبياء والصحابة في دفنِهم على ما ذكروا عند جامع بني أمية وغيره، وخالد بن الوليد ذُكِر أنه كان تُربتُه [في] حمص ورِجْله تخط الأرض. وهل يجوزُ التبرك بالمشهد أو زيارة رجل ميت؟ ومن يقول: "بحرمة فلان اقْضِ حاجتي" أو يَندُب له؟ وكيف تكون زيارةُ الرجل الصالح وما صحَّ من دَفْن الأنبياء؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذه المسائل متضمن أصلَيْنِ: أحدهما: هذه المقابر والمشاهد وما فيها من حق وباطل، فنقول: القبور ثلاثة أقسام: منها: ما هو حقّ لا ريبَ فيه، مثل قبر نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه أبي بكر وعمر، فإن هذا منقول بالتواتر، وإن كان بعضُ الرافضة تطعَن في قبرِ أبي بكر وعمر، فهؤلاء مُكابرونَ بَهَّاتُونَ، بمنزلة مَن يُنكِر قبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

- منها ما هو كذب بلا ريب، ذكر بعض هذه القبور

ومنها: ما هو كذب بلا ريب، مثل القبر المضاف إلى أبي بن كعب الذي شرقيَّ دمشقَ، فإن الناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية، وكذلك أمهاتُ المؤمنين كلُّهنّ تُوُفِّيْنَ بالمدينة، فمن قال: إنَّ بظاهرِ دمشق قبرَ أم حبيبة أو أم سلمة أو غيرهما فقد كذبَ. ولكن من الصحابيات بالشام امرأةٌ يُقال لها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن، فهذه توفيتْ بالشام، فهذه قبرُها محتملٌ. كما أن قبرَ بلال ممكنٌ فإنه دُفِنَ بباب الصغير بدمشق، فنعلم أنه دُفنَ هناك، وأما القطع بتعيُّنِ قبرِه ففيه نظر، فإنه يقال: إنّ تلك القبورَ حَدَثَتْ. وكذلك القَبرُ المضافُ إلى أُويس القرني غربيَّ دمشقَ كَذِبٌ بلا ريب، وقد روى أبو عبد الرحمن السُّلَمي حكايةً فيها أنه تُوفي بدمشق، وهي باطلة قطعا، فإن أويسًا لم يجِيءْ إلى الشام وإنما ذهبَ إلى العراق. وكذلك القبر المضاف إلى هُوْدٍ بجامع دمشق كذبٌ باتفاق أهل العلم، فإن هودًا لم يَجِئْ إلى الشامِ، بل بُعِث باليمن وهاجرَ إلى مكة، فقيل: إنه ماتَ باليمن، وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاءَ قبرِ معاوية بن أبي سفيان، فإن خلفَ الحائطِ تابوت مكتوبٌ فيه اسمُ معاويةَ بن أبي سفيان. وأما الذي خارجَ باب الصغير الذي يُقالُ: إنه قبرُ معاوية، فإنما هو معاوية بن يزيدَ بن معاوية الذي تولى الخلافة مدةً قصيرةً ثم مات، ولم يَعهَد إلى أحد، وكان فيه دين وصلاح، ولكن لما اشتهر أنه قبر معاوية ظنّ الناسُ أنه معاوية بن أبي سفيان.

- القسم الثالث: قبور اختلف الناس فيها

وهكذا يُقالَ في قبر خالد أنه خالد بن يزيد بن معاوية أخو يزيد هذا، ولكن لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة خالد بن الوليد ظنُّوا أنه خالد بن الوليد، كان قد عزلَه عمر بن الخطاب لما تولى عن إمارةِ الشام. وقد اختُلفَ في هذا الذي بحمص هل هو قبرُه أو قبرُ خالد بن يزيد، وكذلك اختُلِف في قبر أبي مسلمٍ الخولاني الذي بداريَّا على قولين، وكذلك قبورٌ غيرُ هذه اختَلَفَ الناسُ فيها، وهذا هو القسم الثالث، وهو الذي اختلفَ فيه أهلُ النقل، فإن كان مع أحدهما ما يُرَجِّح به نقلَه تَرَجح. وأما المكذوبُ قطعًا فكثيرٌ، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناسِ ودُفِنَ بالبقيع، ويُقَالُ إن قُبةَ العباس بها قبرُه وقبرُ الحسن وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد، وفيها أيضًا رأسُ الحسين، وأما بدنُه فهو بكَرْبَلاءَ باتفاق الناسِ. والذي صحَّ ما ذكره البخاري في صحيحه (1) من أن رأسَه حُمِلَ إلى عبيد الله بن زياد، وجَعل يَنكُتُ بالقَضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبوَ بَرزةَ الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد رُوِي بإسناد منقطع أو مجهولٍ (2) أنه حُمِلَ إلى يزيدَ، وجَعل يَنكُت بالقضيبِ على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرًا وأنكر ذلك. وهذا كذبٌ، فإن أبا برزةَ لم يكن بالشام عند يزيدَ، وإنما كان بالعراق.

_ (1) برقم (3748) عن أنس بن مالك. (2) انظر تاريخ الطبري (5/ 465) والبداية والنهاية (11/ 559).

وهذا كما يرويه الكذابون أن أهل البيت سُبُوا وحُمِلوا على الجمال فنبتت لها سَنامان، فإن كل عاقل يعلم أن هذا كذب، وقد كانت البَخَاتِيُّ موجودةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل ذلك، وكما يروون أن الحجاج بن يوسف قتِلَ أشرافَ بني هاشم، وهذا كذبٌ أيضًا، فإن الحجاج مع ظلمه وغشمِه صَرَفَه الله عن بني هاشم، فلم يقتل منهم أحدًا، وبذلك أمرَه خليفته عبد الملك، وقال: إياك وبني هاشم أن تتعرضَ إلى أحدٍ، فإني رأيت آل حرب لما تعرضوا للحسين أصابَهم ما أصابهم، أو كما قال. ولم يُقتَل في دولة بني مروان من الأشراف بني هاشم مَن هو معروف، لأنّ زيد بن علي بن الحسين لما صُلِبَ بالكوفة، وقد تزوَّج الحجاج ابنةَ عبد الله بن جعفر وأعظَم صداقَها، فلم يَرَوه كفؤًا لها وسَعَوا في مفارقتِه إيّاها، ولكن ذكر الناس أن الحجاج كان يَقتُل الأشراف أشرافَ الناس وهم رؤوسُ قبائل العرب، فظنَّ من ظنَّ أنهم بنو هاشم، وتخصيصُ لفظ الأشراف بهم عُرْفٌ حادثٌ، والشرف هو الرئاسة، كالحديث الذي رواه الترمذي (1) وصححه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما ذئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفسَد لها مِن حرصِ المرء على المال والشرف لدينه". وفي الصحيح (2) عن عائشة أن قريشًا أهمهم شأنُ المخزومية،

_ (1) برقم (2733) عن كعب بن مالك. وأخرجه أيضًا أحمد (3/ 456، 460) والدارمي (2733). ولابن رجب جزء في شرح هذا الحديث. (2) البخاري (6787 ومواضع أخرى).

فقالوا: مَن يكلِّم فيها رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: ومن يَجترئُ عليه إلاّ أسامة بن زيد، فكلَّمه فيها فغضِبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "إنما هلكَ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سَرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفس محمد بيدِه لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها". فهذه كانت من أشرافِ قريش، وكانت مخزوميةً. وكذلك قبرُ نوح الذي بجبلِ بَعلبكَّ كذب قطعًا، وإنما ظهر من مدّةٍ قريبةٍ، وقد بَيَّنْتُ حاله لما سألني عنه أهلُ الناحية وتبيَّن أنه لا أصلَ له. وكذلك مشهدُ الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتلِ الحسين اتفقوا على أن الرأس لم يُعرَف، وأهلُ المعرفة بالنقل يعلمون أنّ هذا أيضًا كذب، وأصله أنه نُقِل من مشهدٍ بعسقلانَ، وذاك المشهدُ بنيَ قبلَ هذا بنحوٍ من ستين سنةً في أواخرِ المائة الخامسة، وهذا بنيَ في أثناء المائة السادسة بعد مقتلِ الحسين بنحوٍ من خمسمائة عام، والقاهرة بُنيَتْ بعدَ مقتلِ الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا المشهد بُنيَ بعد بناءَ القاهرة بنحو مائتَي عام. وكذلك قبرُ علي عليه السلام الذي بباطنةِ النَّجَفِ بالكوفة، فإن المعروف عند أهل العلم أنه دُفِن بقصرِ الإمارة بالكوفة، كما دُفِن معاوية بقصر الإمارة بالشام، ودُفِنَ عمرو بقصر الإمارة بمصر، خوفًا عليهم من الخوارج أن يَنْبشوْا قبورَهم، فإن الخوارج كانوا قد تَحالَفوا على قتلِهم، فقتلَ عبدُ الرحمن بن مُلجم عليًّا عليه السلام

وهو خارج إلى صلاة الفجر بمسجد الكوفة باتفاق الناس، ومعاوية ضربَه الذي أراد قتلَه على ألْيَتِه فعُولج من ذلك وعاشَ، وعمرو بن العاص استخلفَ على الصلاة رجلا اسمه خارجة، فضربَه الخارجي فظنَّه عمرا، وقال: أردتُ عمرا وأرادَ الله خارجةَ. ومثل قبر جابر الذي بظاهر حَرانَ، فإن الناس متفقون على أن جابرًا تُوفي بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها. ومثل قبر عبد الله بن عمر الذي بالجزيرة، فإن الناس متفقون على أن عبد الله بن عمر ماتَ بمكة عامَ قَتْلِ ابن الزبير، وأوصَى أن يُدفن في الحلّ لكونه من المهاجرين، فشق ذلك عليهم، فدَفنوه بأعلى مكة. وكثير من هذه الأسماء يَقع فيها الغلطُ من جهة اشتراك الأسماء، كما وقعَ في قبر معاوية وغيره بسبب اشتراك اللفظ، فلعل رجلاً اسمه جابر أو عبد الله بن عمر دُفِن هناك، فظنَّ الجهال أنه الصاحبُ لشهرتِه، ثم اشتهر ذلك. وكذلك رقية وأم كلثوم مما هو مدفون بالشام أو مصر أو غيرهما، قد يظنّ بعضُ الناس أنه قبر رقية بنت النبي أو أمّ كلثوم بنته، وقد اتفق الناس على أن رقية وأم كلثوم ماتَتَا في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة تحت عثمان بن عفان وبهما يسمَّى ذا النورين، وكذلك زينب بنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفيتْ في حياتِه، ولم يخلف من بناته إلاّ فاطمة، ولم يخرج أحدٌ من بناته إلى الشام ولا مصر ولا غيرهما من الأقاليم.

- القبور المختلف فيها كثيرة

والمسجد الذي بجانب عُرَنَةَ الذي يُقال له مسجد إبراهيم، فإنّ بعض الناس يظن أنه إبراهيم الخليل، وإِنما هو من ولد العباس، والمسجد إنما بنيَ في دولة العباسية علامةً على الموضع الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهرَ والعصرَ يومَ عرفة، فإنه أقام بنَمِرَةَ إلى حينِ الزوال، ثم ركبَ فأتَى بطنَ عُرَنَةَ عند المكان الذي بُني فيه هذا المسجدُ، فخطبَ على راحلته، ثم نزلَ فصلَّى بهم هناك الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، ثم أتى الموقفَ بعرفات. وكان بحرَّان مسجدٌ يقال له مسجد إبراهيم، فيظنُّ الجهال أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الذي كانت دعوة الخلافة العباسية له، وحُبسَ هناك ومات في الحبس، وأوصى إِلى أخيه أبي جعفر الملقب بالَمنصور. والقبورُ المختلَفُ فيها كثيرة، منها قبر خالد بن الوليد كما تقدم، فإنّ فيه قولين ذكرهما أبو عمر ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" (1): توفي بحمص، وقيل: توفي بالمدينة، سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، قال: وروى يحيى بن سعيد القطّان [عن سفيان] (2) عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل قال: بلغَ عمرَ بن الخطاب أن نسوةً من نساءِ بني المغيرةِ اجتمعن في دار يَبكينَ على خالد بن الوليد، فقال عمرُ: وما عليهنّ أن يبكين على أبي سليمان

_ (1) 1/ 409. (2) زيادة من "الاستيعاب".

- ضبط هذه القبور والمشاهد ليس من الدين

ما لم يكن نَقْع أو لقلقلة. وأما قبرُ الخليل عليه السلام قالت العلماء على أنه حق، لكن كان مسدودًا بمنزلةِ حجرةِ النبي، ولم يكن عليه مسجد، ولا يصلِّي أحدٌ هناك، بل المسلمون لما فتحوا البلادَ على عهد عمر بن الخطاب بنوا لهم مسجدًا يصلُّون فيه في تلك القرية منفصلاً عن موضع الديْر، ولكن بعد ذلك نُقبتْ حائطُ المقبرةِ كما هو الآن النقبُ ظاهرٌ فيه، فيُقال: إن النّصارى لما استولَوا على البلاد نَقبوه وجَعلوه كنيسةً، ثم لما فتحَه المسلمون لم يكن المتولي لأمرِه عالمًا بالسنة حتى يَسُده ويتخذَ المسجدَ في مكانٍ آخر، فاتخذ ذلك مسجدًا وكان أهل العلم والدين العالمون بالسنة لا يُصلون هناك. فصل الأصل الثاني: أن هذه المشاهد والقبور المضافة إلى الأنبياء والصالحين إنما اضطربَ النقلُ فيها ووقعِ فيها الكذبُ والاشتباهُ لأن ضبطَها ليسَ من الدين، والله تعالى قد ضمنَ حفظَ ما نزلَه من الذكر بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) (1)، والله قد نزل الكتابَ والحكمة، كما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) (2)، والحكمة: السنة، كما قال ذلك

_ (1) سورة الحجر: 9. (2) سورة البقرة: 231.

- طريقة الزيارة الشرعية للقبور

غيرُ واحدٍ من السلف، كقتادة ويحيى بن أبي كثير والشافعي وغيرهم، بدليل قوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) (1)، والذي كان يتلَى في بيوتهنّ هو القرآن والسنة، فالذكر الذيْ نزَّله الله ضمِنَ حفظَه، فلهذا كانت الشريعة محفوظةً مضبوطةً، ومن الشريعة أن هذه المشاهد والقبور لا تُتخَذُ أربابًا، بل زيارة القبور نوعان: شرعية وبدعية: فالزيارةُ الشرعية أن يُسَلم على الميتِ ويَدعو له، كما يُصلِّي على جنازته، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُعلم أصحابَه إذا زاروا القبورَ أن يقول قائلُهم: "السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمينَ منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ، اللهمَ لا تَحرِمْنَا أجرَهُم، ولا تَفْتِنا بعدَهم، واغفر لنا ولهم" (2). فهذا الدعاء للميت من جنس الدعاء على جنازته إذا حضرتْ، وقد قال الله تعالى لنبيه في حق المنافقين: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (3)، فلما نهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم دلَّ ذلك بطريقِ مفهومِ الخطابِ وتعليلِه على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورَهم، وقد فُسِّر ذلك القيامُ على قبورِهم بالدعاء لهم، فالمؤمن يُقامُ على قبره بالدعاء له، فهذا

_ (1) سورة الأحزاب: 34. (2) أخرجه مسلم (975) عن بريدة. (3) سورة التوبة: 84.

- حكم زيارة المشاهد والقبور لأجل الصلاة والدعاء عندها

هو المشروع. وأما زيارةُ المشاهد والقبور لأجل الصلاة عندها والدعاء عندها وبها، والتمسُّح بها وتقبيلها، وطلب الحوائج من الرزق والنصر والهدى عندها وبها، فهذا ليس مشروعًا باتفاق أئمة المسلمين، إذ هذا لم يفعلْه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أمرَ به، ولا رَغب فيه، ولا تعلَّمه أحدٌ من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، بل ولا كانوا يَبْنُون مشهدًا على قبر ولا مسجدًا ولا غيرَه، وإنما حدثتْ هذه المشاهدُ بعدَ القرونِ المفضلة التي أثنى عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرنِ الذي بُعِث فيهم ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونهم، وإنما انتشرتْ في دولة بني بُوَيْه ونحوهم من أهل البدع والجهل. وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، بل لعنَ من يَفعلُه، كما في الصحيحين (1) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في مرضِه الذي مات فيه: "لَعن الله اليهودَ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، يُحذرُ ما صَنَعوا. قالت عائشةُ: ولولا ذلك لأبرزَ قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (2). وفي صحيح مسلم (3) عن جُندَب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال قبل أن يموتَ بخمس: "إن مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجدَ، إلاّ فلا تتخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".

_ (1) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة. (2) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529). (3) برقم (532).

وفي موطأ مالك (1): "اللهمَّ لا تجعلْ قبرِيْ وثنا يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد". وفي المسند (2) وغيره عن ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن من شِرارِ الناس مَن تُدرِكُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، والذين يتخذونَ القبورَ مساجدَ". رواه أبو حاتم في صحيحه (3). ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن من سلَّم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو غيره من الأنبياء والصالحين عند قبرِه فإنه لا يتمسَّح بالقبر ولا يُقَبله، بل اتفقوا على أنه لا يُشرَع أن يَستَلِم ويُقَبِّلَ إلاّ الحجرَ الأسودَ، والركن اليماني يُستلَم ولا يُقبَّلُ على الصحيح، وإذا سلَّم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأرادَ أن يَدعوَ استقبلَ القبلة، ودعا في المسجد، ولم يَدْعُ مستقبلا للقبر، كما كان الصحابة يفعلون، وهذا ما أعلمُ فيه نزاعًا بين أَهل العلم، وإن نُقِل في ذلك [ما] يُخالف ذلك عن مالك مع المنصور فلا أصلَ لها. وإنما تنازعوا في وقت التسليم عليه: هل يُستَقبَل القبرُ أو يُستقبلُ القبلةُ؟ فقال أصحابُ أبي حنيفة: يُستقبلُ القبلة، وقال الأكثرون: بل يُستقبَل القبر. وكانت حجرتُه خارجةً عن المسجد، فلما كان زمنَ الوليد بن عبد الملك أمر أن يُزَادَ في المسجد، فاشتُرِيَتِ الحجرةُ التي شرقيَّ المسجدِ وقِبْلِيَّها من أهلها وزيدتْ في المسجد،

_ (1) 1/ 172 عن عطاء بن يسار مرسلا. (2) 1/ 405، 435. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (789). (3) انظر موارد الظمآن (340).

فبقيتْ حجرةُ عائشةَ -التي دُفِن فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحباه- داخلة في المسجد، ولما بَنَى عمر بن عبد العزيز والمسلمون عليها الحائط حرفوها عن سمتِ القبلة، وجعلوا ظهرَها مثلثًا لئلا يُصلِّيَ إليها أحدٌ، لما ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال: "لا تَجلسوا على القبور ولا تُصلوا إليها". كل ذلك تحقيقا للتوحيد، وهو عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، فإن الله تعالى قال في كتابه عن قوم نوح: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) (2)، قال غير واحد من السلف كابن عباس وغيره: هولاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اتخذوا تماثيلَهم. وفي رواية: عكَفُوا على قبورهم ولم يَعبُدوها، ثم طالَ عليهم الأمدُ فعبدُوها، فكان ذلك أول عبادة الأصنام. فنبيُّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتَمُ النبيين الذي بعثه الله بالتوحيد حَسَمَ مادةَ الشرك، حتى أَمَر بما رواه مسلم في صحيحه (3) عن أبي هَيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: إلاّ أبعثك على ما بعثني عليه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ " إلا أدعَ قبرا مُشرِفًا إلاّ سوَّيتُه، ولا تمثالاً إلاّ طَمَسْتُه". فأمرَ بتسوية القبور وطَمْسِ التماثيل، فإن هذين كانا سببًا لعبادة الأصنام. ولو كان قصدُ المشاهد هذه التي على القبور لأجل الدعاء أو

_ (1) مسلم (972) عن أبي مرثد الغنوي. (2) سورة نوح: 23. (3) برقم (969).

- لا يجوز الوفاء بنذر المعصية

الصلاة عندها مشروعا لم يُكْرَه الصلاةُ فيها، بل كانت تكون الصلاة فيها أفضلَ، وقد أجمع المسلمون على أن الصلاة والدعاء في المسجد الذي ليس عليه قبرٌ لا رجل صالح ولا غيره أفضلُ من الصلاة والدعاء في المسجد المبني على قبر من المشاهد وغيره، بل صرَّح أئمة المسلمين أنَّ بناءَ المساجد عليها حرام، ونَهَوْا عن الصلاة فيها. وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لَعَنَ الله زواراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". قال الترمذي: حديث حسن. ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه. فقد لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَن يتخذ على القبور مساجدَ وسُرُجا. ولهذا قال العلماء: إنه لا يجوز أن يُنذَر للقبور لا زيت ولا شمع ولا نفقة ولا نحو ذلك، بل هذا نذر معصية. وفي صحيح البخاري (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نَذَر أن يُطيعَ اللهَ فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَه فلا يَعْصِه". ونذرُ المعصية مثل هذا لا يجوز الوفاءُ به بالاتفاق، لكن هل عليه كفارةُ يمين؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما: لا شيءَ عليه، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي. والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في

_ (1) أخرجه أبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575). وتكلم عليه الألباني في "الضعيفة" (225). (2) برقم (6696، 6700) عن عائشة.

- يجب الوفاء بنذر الطاعة، وإن كان أصل عقد النذر مكروها

الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارةُ النذر كفارة يمين". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا نذرَ في معصيةِ، وكفارته كفارة يمين". وإذا نذرَ طاعة لله، مثلَ صلاة مشروعة أو صيام شرعي أو صدقة شرعية فعليه الوفاء بذلك، وإن كان أصلُ عقد النذرِ مكروهًا لما في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرَجُ به من البخيل". فنفسُ عقد النذرِ منهيٌّ عنه باتفاق الأئمة، لكنه إذا نَذَرَ نذرًا فإن طاعةً لله وَفَى به، وإن كان معصيةً مثل نَذْرٍ للكنائس والبيَع، ونَذْرِ الزيت والشمع والكسوة والنفقة للمشاهد التي على القبَورَ، فهذا لا يجوز الوفاءُ به، وهل عليه كفارةُ يمين؟ على قولين للفقهاء. ولو سافرَ لزيارة القبور التي عليها المساجدُ فلا أعلمُ أحدًا من السلف أَذِنَ في ذلك، لكن رَخَّصَ فيه طائفةٌ من متأخري الفقهاء، ومَنَعَ منه آخرون، وقالوا: هو بدعةٌ منهيٌّ عنها، حتى قالوا: لا يجوز فيها قصرُ الصلاة، لأنه قد ثبتَ في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُشَدُّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا". وفي السنن (5) أن بَصْرة بن أبي بَصْرة لما

_ (1) مسلم (1645) عن عقبة بن عامر. (2) أخرجه أبو داود (3290 - 3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/ 26، 27) وابن ماجه (5125) عن عائشة. (3) البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر. (4) البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة. (5) أخرجه أحمد (6/ 7) والنسائي (3/ 113) عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري.

رأى بعضَ من زار الطُّورَ -الطور الذي كلم الله عليه موسى- نهاهُ عن ذلك، وقال له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُشَدُّ الرحَالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد". فهذا يُبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثارُ الأنبياء أو غير الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمةُ العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو نذرَ السفرَ إلى بُقْعةٍ بعينها غيرِ المساجد الثلاثة لم يجب الوفاءُ بنذره، ولو كان ذلك طاعةً عندهم لوجبَ الوفاءُ به، واتفَقوا على أن نذرَ الإتيانِ في المسجد الحرام يجبُ الوفاءُ به، وتنازعوا في مَن نَذر إتيانَ مسجدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسجد الأقصى، فقال أبو حنيفة: لا يجبُ الوفاءُ بذلك، لأنّ من أصلِه أنه لا يَجِبُ بالنذر إلاَّ ما كان من جنسِه واجبًا بالشرع، وقال مالك والشافعي وأحمد: بل يجب الوفاءُ بذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نذر أن يُطيعَ الله فليُطِعْه" (1)، وهذا طاعةٌ لله بالاتفاق، فيُستحب الوفاءُ به. فإذا عُلِمَ أنَّ غيرَ المساجدِ الثلاثة لم يَقُولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر إليه، عُلِمَ أن ذلك ليس بطاعةٍ، حتى مسجد قُباء، قالوا: من قَصَدَه إذا أتى المدينةَ فحسنٌ، وأما شدُّ الرحْلِ له فلا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من تطهر في بيته فأحسنَ الطهور، ثم أتى مسجد قباءَ لا يُرِيد إلاّ الصلاةَ فيه كان له كأجر عمرة" (2). فإذا رَغبَ في إتيانِ من

_ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه أحمد (3/ 487) والنسائي (2/ 37) وابن ماجه (1412) عن سهل ابن حنيف.

- أمرنا الله بالعبادة في المساجد لا في المشاهد

يأتيه من بيته فيمن سَافر إليه، وكذلك للرجل أن يقصدَ مسجدَ مدينتِه وقريتِه، وليس له أن يُسافرَ إلى مسجد مدينةٍ أو قريةٍ غيرِ المساجد الثلاثة، بالاتفاق. فهكذا يَزور القبورَ الزيارةَ الشرعيةَ، فيسلِّم على الميت، ويَدعو له، إذا كان قريبًا من مدينةٍ هو فيها، أو اجتازَ به، ونحو ذلك، فأما السفر لأجل ذلك فليس بمشروع. وإنما عَظُمَتْ هذه البدعُ من أهل الأهواء الذين عَطَّلُوا المساجدَ عًن الجمعات والجماعات، وابتدعوا الإشراك الذي يَفعلونَه عند المشاهد، حتى صَنَّفُوا كتبًا فيها مناسك حج المشاهد. والله تعالى في كتابه إنما أمرَنا بالعبادة في المساجد لا في المشاهد، فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) (1)، ولم يقل: مشاهد الله، وقال تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (2)، ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (3)، ولم يقل: كل مشهد، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) إلى قوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) (4)، ولم يقل: يعمر مشاهد الله، وقال تعالى: (أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18))، ولم يقل: وأن المشاهد لله.

_ (1) سورة البقرة: 114. (2) سورة البقرة: 187. (3) سورة الاْعراف: 29. (4) سورة التوبة: 17 - 18. (5) سورة الجن: 18.

- قول القائل بحرمة فلان الميت أن تقضي حاجتي أو تغفر لي ليس بمشروع

وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "صلاة الرجل في المسجد تَفضُل على صلاتِه في بيته وسوقِه بخمس وعشرين درجة. وذلك أن الرجلَ إذا تطهَّر في بيته فأحسن الطهورَ، ثم أتى المسجدَ لا يُنْهزُه إلاّ الصلاةُ فيه، كانت خطوتاه إحداهما تَرفَعُ درجةً والأخرى تَحُطّ خطيئةً، فإذا جلسَ فإنه في صلاةٍ ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تُصفَي على أحدِكم ما دامَ في مصلاه الذي صفَى فيه: "اللهمَّ اغفرْ له، اللهُمَّ ارْحَمْه " ما لم يُحدِثْ أو يَخْرُجْ من المسجد". وأما قول السائل: "بحرمة فلانٍ الميت أن تَقْضِيَ حاجتي أو تَغفر لي " فهذا ليس بمشروع، فإن هذا لم يفعله أحدٌ من السلف، ولا استحبَّه أحدٌ من الأئمة، ولا فيه أثرٌ عمن مضى، والعبادات مبناها على الاستنان والاتباع، لا على الهوى والابتداع، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه) (2)، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي تمسّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالة" (3). ولو كان هذا مشروعًا لأحدٍ أو في حقّ أحدٍ لكان أحقُّ الناس بذلك أصحابَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه أفضلُ الخلق

_ (1) البخاري (647) ومسلم (بعد رقم 661) عن أبي هريرة. (2) سورة الشورى: 21. (3) أخرجه أحمد (4/ 126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43، 44) من حديث العرباض بن سارية.

- المقصود بزيارة القبور

وأكرمُهم على ربّه، وأقربُهم إليه وسيلةً حيًا وميتًا، وقد ثبتَ في صحيح البخاري (1) عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أجدبَ استسقَى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهمَّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبنا نتوسَّلُ إليك بنبيِّنا فتَسقينا، وإنّا نَتَوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسْقِنا، فيُسقَون. فأخذوا العباسَ يتوسَّلُوا به، وجعلَ يدعو ويَدعُون معه، كما كانوا يتوسَّلون بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الاستسقاء، ولم يجيئوا إلى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدعُوا هناك، ويَفعلون ما يفعلُه كثير من الناس عند من ليس مثلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من سؤاله أو السؤال منه وغير ذلك. ولهذا ذكر العلماءُ في الاستسقاءِ ما فعلَه الصحابةُ، ولم يذكروا ما ابتدعَه الجاهلون. فالمقصودُ بالزيارة الدعاء للميت على جنازته، والله تعالى يثيْبُ العبدَ على دعائِه له، كما يثيبُه على الصلاة عليه، وقد يكون الداعيْ أفضلَ من المدعوِّ له، وقد يكون المدعوُّ أفضلَ، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمعتُم المؤذنَ فقولُوا مثلَ ما يقولُ، ثم صَلُّوا علي، فإنه مَن صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنه درجة في الجنة لا تَنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبدَ، فمن سأل اللهَ لي الوسيلةَ حَلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة". رواه مسلم (2)، والله أعلم.

_ (1) برقم (1010،3710). (2) برقم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(26) مسألة في امرأة توفيت وهي حامل في سبعة أشهر، فهل يشق بطنها أو تضع على بطنها شيئا ثقيلا أو تسطو عليه القوابل؟

مسألة في امرأةٍ تُوفّيَتْ وهي حاملٌ في سبعة أشهر، فهل يُشَق بطنُها أو تَضَعُ على بطنِها شيئًا ثقيلاً أو تَسْطو عليهِ القوابلُ؟ الجواب الحمد لله، ينبغي أن يُسعَى في خروج الجنين من فَرْجها، إما أن تَسْطُو القوابلُ عليه فيُخرِجْنَه، وإمّا أن يُفتَح فَرجُها بَالمفتاح المصنوع لذلك، فإذا اتسعَ أخرِجَ منه الولدُ، فإن تعذَّر ذلكَ ففيها قولان مشَهوران: أحدهما: لا يُشَقُّ بطنُها، لأنه مثلةٌ، والعادة أن الولد يموتُ بموتِ أمِّه، فلا يبقى حيا، فيكون تمثيل بالميِّت بلا استبقاءِ الحي، بل لو اضطُرَّ الجائعُ إلى أكل ميتٍ معصوم لم يَجزْ، لأن بقاءَ نفسِه في أحد القولين مع أن الحياة منتفية وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كَسْرُ عظم ميتٍ ككَسْرِ عظم الحي" (1). وهذا مذهبُ مالك وأحمد وغيرهما.

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 58،105،168،200،264) وأبو داود (3207) وابن ماجه (1616) عن عائشة. وصححه الألباني في "الإرواء" (763).

- هذا النزاع إذا رجي خروجه حيا، فأما إذا ظهر موته فلا يشق بطنها

والثاني: بل يُشَق بطنُها لإخراج الولدِ، فإن مراعاةَ حقِّ الولد الحيِّ أولى من مراعاة الميت. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وفي مذهب الشافعي وجهٌ كالأول، وفي مذهب الإمام أحمد وجهٌ كالثاني. وهذا النزاعُ إذا رُجِيَ خروجُه حيًّا، فأما إذا ظهرَ موتُه، فإنه لا يُشَقُّ بطنُها بلا خلافٍ.

(27) مسألة في رجل توفي إلى رحمة الله بالقاهرة، فهل يجوز الصلاة عليه غائبة في مصر أو في القلعة؟ وكم قدر مدة البعد الذي يجوز الصلاة على الغائب فيه؟ وكم مقدار بعد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنجاشي؟

مسألة في رجلٍ تُوفِّي إلى رحمة الله بالقاهرة، فهل يجوز الصلاةُ عليه غائبةً في مصر أو في القلعةِ؟ وكم قدرُ مدةِ البُعْدِ الذي يَجوز على الغائب فيه؟ وكم مقدارُ بُعدِ صلاة النبي على النجاشي؟ وهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى على الغائب أو أحدٌ من الصحابة في مقدارِ بُعدِ القاهرة إلى مصر أو أحدٌ من الأئمة؟ الجواب أصل هذه المسألة هي مسألة الصلاة على الغائب، وفيها للعلماء قولان مشهوران: أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر أصحابه. والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابنُ أبي موسى (1) - وهو ثبت في نَقْلِ مذهبِ أحمد - رجحانَها في مذهبه.

_ (1) في "الإرشاد إلى سبيل الرشاد" (ص 122).

- سبب هذا الاختلاف

وسببُ هذا النزاع أنه قد ثبتَ بالنصوص الصحيحة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي وكان غائبًا، ففي الصحيحين (1) عن أبي هريرة أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَى النجاشيّ في اليوم الذي مات فيه، وخرجَ بهم إلى المصلَّى، فصفَّ بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات، وقال: "استغفروا لأخيكم". وفيهما عن جابر (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي فكبر أربعًا، وللبخاري عنه (3): أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي، فكنتُ في الصف الثاني أو الثالث. وله (4): "قد تُوفي اليومَ رجل صالح من الحبش، فهَلُمَّ فصلُّوا عليه". فصففنَا، فصلَّى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن صفوف. ولمسلم (5): إن أخًا لكم قد ماتَ، فقوموا فصلُّوا عليه"، فقُمنا فصَفنا صفين. وروى مسلم (6) عن عمران بن حُصين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أخًا لكم"، وفي لفظ: "إن أخَاكم قد ماتَ، فقومُوا فصلُّوا عليه"، يعني النجاشي. فهذه السنةُ ثبتَتْ، ولم يُنقَلْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلَّى على غائب غيره، إلا حديث ساقط (7) رُوِيَ فيه أنه صلى على مُعاوية بن معاوية

_ (1) البخاري (1245،1327) ومسلم (951). (2) البخاري (1334) ومسلم (952). (3) برقم (1317). (4) برقم (1320). (5) برقم (952). (6) برقم (953). (7) جمع الحافظ ابن حجر طرقه في "الإصابة" (3/ 436،437)، وقوّاه بالنظر إلى مجموع الطرق في "الفتح" (3/ 188). وقال ابن عبد البر في =

الليثي في غزوة تبوك لكثرةِ قراءتِه "قل هو الله أحد"، وهوِ حديثٌ لا يُحتجُّ به. وقد ماتَ على عهده خلائقُ من أصحابه في غيبتِه فلم يُصلِّ عليهم، وكذلك لم يُصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صَلَّوا على أبي بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة. ولهذا تنازعَ العلماء، فقالت طائفة: لا يُصلَّى على الغائب، إذ لو كانت سنةً لكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثرَ من ذلك، ولكان المسلمون يَعملونَ بذلك في مَحْيَاه ومماتِه، واعتذروا عن قضية النجاشي بعذرين: أحدهما: أن ذلك [كان] مختصًّا به، قالوا: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشاهدُه، أو لأنه حُمِلَ إلى بين يديه. وهذا عذرٌ ضعيفٌ، لأن ذلك لم ينقله أحدٌ، ولأن الصحابة الذين صَلَّوا خلفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُشاهِدوه، ولا فرقَ بين الإمام والمأموم، ولأن المانع عندهم هو البعد أو التكرار، وكلاهما موجودٌ شهد أو لم يشهد، ولأن مثلَ هذا قد كان ممكنًا في حق غير النجاشي، فبطلَ الاختصاصُ به. ولأن الأصلَ مشاركةُ أمتِه في الأحكام ما لم يقمْ دليلُ اختصاصِ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والعذر الثاني: قالوا: إنّ النجاشي قد كان بين قومٍ نصارى،

_ = "الاستيعاب" (3/ 395): أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة.

- أدلة المانعين ومناقشتها

وكان يُخفِيْ قومَه إسلامَه حتى سَعَوا في محاربته، ولم تكن شريعة الإسلام ظهرتْ هناك حتى يكونَ عنده من يُصلِّيْ عليه، لعدم صلاة القريب عليه. وهذا العذرُ أقربُ من الأول، وبه يَظهر تخصيصُ النجاشي بالصلاة دونَ غيرِه من الموتى. ثم من قال هذا ولم يجوِّز الصلاةَ على الغائب بحالٍ نقضَ كلامَه، ومن قال هذا [و] جوَّز الصلاةَ على الغائب الذي لم يُصل عليه فقد أحسنَ فيما قال، ولعل قولَه أعدلُ الأقوال، فإن الشريعةَ استقرتْ على قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1)، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أَمَرتكَم بأمر فَأْتُوا منه ما استطعتم" (2). فما تعذَّر من العبادات سقط بالعجزِ، وإذا كانت الصلاة على الميت مأمورًا بها ولم تكنْ إلاّ مع الغَيبةِ كانتْ هي المأمورَ به. وقالت طائفة: بل تجوز الصلاةُ على كل غائب عن البلد وإن كان قد صُلِّيَ عليه، كما ذكرناه عن أصحاب الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هولاء: يجوز على الغائب عن البلد، سواء كان فوقَ مسافةِ القصر أو دونَها، وسواءٌ كان الميتُ خلفَ المصلِّي أو أمامه. وأما الغائبُ في البلد الواحد فالأكثرون من أصحاب الإمامين مَنَعُوا الصلاةَ عليه، [و] لم يَرِدْ بها أثرٌ ولا نُقِلَ ذلك عن أحد من

_ (1) سورة التغابن: 16. (2) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) عن أبي هريرة.

السلف، فالفاعلُ لها مبتدعٌ دِينًا لم يشرعْه الله، ولو ساغَ ذلك لم يكن لذلك ضابطٌ، بل كان يجوزُ أن يُصلِّي الرجل في هذه الدار أو الدَّرْبِ على من مات في هذا الدرب أو هذه الدار، ومعلومٌ أن هذا ليس من عمل المسلمين، ولو كان هذا جائزًا لكان قربةً، ولكان السلفُ يبادرون إليه، لاسيَّما ولا يزال في المسلمين من لا يُمكِنه شهودُ الجنازة من مريض ومحبوسٍ ومشغول. فلما لم يَفْعَل هذا أحدٌ من السلف عُلِمَ أنَّه غيرُ مشروع، وإنْ كانَ يُشرَعُ الدعاءُ للميتِ على كل حالٍ، بطهارة أو غير طهارة، إلى القبلة وغيرها، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، بتكبير وغير تكبيرٍ، وأما صلاةُ الجنازة فيُشتَرط لها الشروطُ الشرعية. وجوَّزَ طائفة من أصحاب الإمامين الصلاةَ على الغائب في البلد الواحد، ثم محقِّقُوهم قيَّدوا ذلك بما إذا ماتَ الميتُ في أحد جَانِبَي البلدِ الكبير، ومنهم من أطلق في أحد جانبي البلد لم يُقيِّدها بالكبيَرة، كما إذا ماتَ في أحدِ جانبي بغدادَ فَصُلِّي عليه في الجانب الآخر. وكانت هذه المسألة قد وَقعتْ في عصر أبي حامد وأبي عبد الله بن حامد، مات ميت في أحد جانبي بغدادَ، فصلَّى عليه أبو عبد الله بن حامد، وطائفة في الجانب الآخر، وأنكر ذلك أكثرُ الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كأبي حفص البرمكي وغيره، واتفق الفريقان على أنه من مات في الجانب الواحد لا يُصلَّى عليه فيه إذا كان غائبًا، كما إذا كان الرجل عاجزًا عن حضور الجنازة لمطرٍ أو مرضٍ فإنه لا يُصلِّي على الغائب وفاقًا.

لكن بعض متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي أجرى الوجهين في الغائب في البلد وإن أمكن حضوره، وألحقَ ذلك بالوجهين في القضاء على الغائب عن مجلس الحكم إذا لم يمكن حضورُه، فإنّ فيه وجهًا ضعيفًا بجواز الحكم عليه، فقاس الصلاةَ عليه على القضاء عليه. وهذا إلى غاية الضعف والشذوذ، مع ما بين الصلاة والحكم، ولا يَستريب من له أدنى معرفة أن تشريعَ مثل هذا حَدَث وبدعة ظاهرةٌ. وأمثالُ هذه الوجوه تُخَرَّجُ عند ضِيْق مناظرةِ المخالف طردًا لقياسٍ واحترازًا عن نقضٍ، ولا يُدَانُ الله بها. وعلى القول المشهور في المذهبين وأنه لا يُصلَّى إلاّ على الغائب عن البلد لم يَبلُغني أنهم حَدُّوا البلدَ الواحدَ بحدٍّ شرعي، ومقتضى اللفظ أن من كان خارجَ السُّوْرِ أو خارجَ ما يُقدَّر سورًا يُصلَّى عليه، بخلاف من كان داخلَه، لكن هذا لا أصلَ له في الشريعة في المذهبين، إذ الحدود الشرعية في مثل هذا إمّا أن تكون العبادات التي تجوز في السفر الطويل والقصير، كالتطوع على الراحلة والتيمم والجمع بين الصلاتين على قول، فلابُدَّ أن يكون منفصلاً عن البلد بما يُعَدُّ الذهابُ نوع سفر. وقد قالت طائفة من أهل المذهبين كالقاضي أبي يعلى أنه يكفى خمسين خطوة. وإما أن يكون الحدُّ ما يجب فيه الجمعةُ، وهو مسافةُ فرسخ، حيث يسمع النداءَ، ويجب عليه حضور الجمعة، كان من أهل الصلاة في البلد فلا يُعدُّ غائبًا عنها، بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فإنه بالغائب أشبه.

وإما أن يُقال مسافة العدوَى في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو ما لا يمكن الذاهبَ العودُ إليه في يومه، وهذا يُناسب قولَ من جعل الغائبَ عن البلد كالغائب عن مجلسِ الحكم. وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا كان كذلك شق الحضورُ، بخلاف مَن يُمكنه العَوْد. ولكن إلحاقَ الصلاة بالصلاة أولى من إلحاق الصلاة بالحكم. فهذه هي المآخذ التي يَنْبني عليها جوابُ هذه المسألة. إذا تبيَّن ذلك فنقول: القلعة والقاهرة تشبه جانبي بغداد، فمن جوَّز الصلاةَ في أحد جانبي بغداد على من مات في الجانب الآخر كقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد، فإنه يُجوِّز أن يُصلَّى على من مات في القلعة أو القاهرة على من مات في الآخر، وعلى قول هؤلاء فصلاةُ أهل القاهرة على من مات في مصر بالعكس، وصلاةُ أهل القلعة على من مات بمصر وبالعكس أولى بالجواز، فإن القاهرة والقلعة يجمعهما سورٌ واحدٌ، ومصر خارجة عن ذلك، لأنهما بالبلد الواحد الكبير الذي له جانبانِ أشبه، لكن أكثر العلماء كأصحابِ أبي حنيفة ومالك واكثر أصحاب الشافعي وأحمد لا يُجوِّزون الصلاة في أحد جانبي البلد وإن كان كبيرًا على من مات في الجانب الآخر، حتى صرَّحوا بأن بغدادَ - مع كونها محالَّ كثيرةً، ولها جانبان بينهما دجلةُ، ومع كون الجمعة تُقامُ بها في مواضع من حين بُنيَتْ بغدادُ من زمن أبي جعفر المنصور وإلى الساعة - صَرَّحوا مع ذلك أنه لا يُصلَّى في أحد جانبيها على من مات في الجانب الآخر.

ومما يُبيِّن ذلك أن أمصار المسلمين الكبار التي فيها قِطع كثيرة كبغداد كثيرة القطع، وليس من عمل المسلمين أن يُصلُّوا في هذه القطعة على من مات في القطعة، فلم يُعرَف أن المسلمين كانوا يُصلُّون في قطعةِ مصر أو دمشق أو غيرهما على من مات بالمدينة وبالعكس، ولا عُرِف أنهم كانوا يُصلُّون بمصر على من مات بالقلعة وبالعكس مع اشتمالِ هذه الأمصار على أئمةٍ من أصحاب الشافعي وأحمد، وهم أهل الترخُّصِ في هذه المسألة، وإن لم يقلْ بهذا القول. والأضعفُ الصلاةُ على الغائب جدًّا، فإنا قد علمنا أن المسلمين في جميع الأمصار لم يُصلُّوا بمنى وعرفات على من مات بمكة وبالعكس، ولا كانوا يُصلُّون بقُباءَ والعوالي على من مات بالمدينة وبالعكس، وقد ماتَ خلق كثير على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقباءَ والعوالي ونحوهما، مما هو عن المدينة مثل مصر والقاهرة، وأبعد من دمشق والصالحية، ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابةُ والتابعون يُصلُّون في أحدِهما على من مات في الآخر. وأما الصلاةُ بمصر على من يموتُ بالقلعة أو بالقاهرة وبالعكس على المشهور - وهو منعُ الصلاة في أحد جانبي البلد على من يموت في الآخر - فمبني على ما ذكرناه في معنى البلد الواحد، هل المراد به ما خرج عن السُّوْرِ، أو ما يجب فيه الجمعةُ، أو مسافة العدوى؟ فعلى المأخذ الأول يجوز ذلك، وعلى المأخذين الآخرين لا

- مقدار بعد النجاشي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معروف

يجوز، فقد تبين مما ذكرناه على أن الصلاة بالقاهرة والقلعة على من مات بمصر وبالعكس لا تجوزُ عند جمهور العلماء، وتجوز عند بعضهم في مذهب الشافعي وأحمد. وأما قول السائل: كم مقدارُ بُعْدِ النجاشي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فذلك كثير معروف، فإن النجاشي كان بالحبشة، وبينهما اليمن ثم تهامةُ، وهو مسافة كبيرة. وأما قوله: هل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أحدٌ من الصحابة أو التابعين أو الأئمة صلى على الغائب في مقدار هذا البعد؟ فالجواب أنه لم يُنقَل ذلك عن أحدٍ من هؤلاء، وغاية ما بلغَنا في مثل ذلك ما ذكرناه من النزاع في جانبي بغداد، وكان هذا بعدَ الأئمة، وأما في زمن الشافعي وأحمد بن حنبل فلم يَبْلُغْنا أن أحدًا صلَّى في أحد جانبي بغداد على من مات في الآخر، مع كثرةِ الموتى وتوفُّرِ الهِمَم والدواعي على نقل ذلك. فتبينَ أن ذلك مُحْدَث لم يفعَلْه الأئمة. وأما ما يفعلُه بعضُ الناس من أنه كل ليلة يُصلِّي على جميعِ من مات من المسلمين، فلا ريبَ أيضًا أنه بدعة لم يفعلها أحدٌ من السلف، والله أعلم.

(28) مسألة في روح ابن آدم إذا خرجت منه هل تعود إليه في قبره كما كانت في دار الدنيا؟ ومعنى الروح في قوله تعالى (ويسألونك عن الروح)، وهل يموت المهدي إذا أم بعيسى قبل إتمام الصلاة؟

مسألة في روح ابن آدم إذا خرجتْ منه وإذا نزل في قبره، هل تَعُود إليه كما كانتْ في دار الدنيا أم لا؟ وقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (1) هل هي روحُ ابن آدم أو روحُ الله؟ وهل يموت المهدي إذَا أمَّ بعيسى بن مريم قبل إتمامِ الصلاة؟ وقد رُوِي أن جنازة مرَّتْ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت عائشة: يا رسول الله! ما أحسنَ هذه! عصفورٌ من عصافير الجنة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وما يُدْريْكِ أن الله خلقَ خَلْقًا، فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي". أجاب نعم، إذا وُضِع الميتُ في قبره فإن الروحَ تَعادُ إليه، ويُسأل عن ربه ودينه ونبيه، ويَسمَعُ الميتُ خَفْقَ نعالِ المشيِّعين إذا وَلَّوا عنه مُدبِرين، وما من رجل يَمُرُّ بقبر الرجل كان يَعرِفُه في الدنيا فيسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلام. ومع هذا فمُستَقَرُّ أرواحِ المؤمنين الجنةُ، لكن للروح شان آخر بعدَ الموت

_ (1) سورة الإسراء: 85.

- الروح المسئول عنها في الآية هي روح ابن آدم

ليس لها نظيرٌ في هذا العالم. وأما المسيح فإنه يَنزِل على المنارةِ البيضاءِ شرقِيَّ دمشقَ، ويُدرِكُ الدجَّالَ فيقتلُه بباب لُدٍّ الشرقي، ويأمر الله تعالى بعدَ قتلِ الدجال أن يُحصن الناسَ إلى الطُّور، ويقال له: يا روحَ الله! تقدَّمْ، فصل بنا، فيقول: لا إن بعضَكم على بعضٍ أميرٌ، فيُصلِّي بالمسلمين بعضُهم، ويتمُّ الصلاةَ ولا يموت فيها. وأما الروح المسئول عنها فأكثرُ الناس على أنها روحُ ابن آدم، وهي وإن كانت من أمر اللهِ فهي موجودة مخلوقة باتفاق العلماء المعتبرين، والآدمي كلُّه عبدُ الله، جسمُه وروحه. وأما حديث عائشة فصحيح (1)، فإنا لا نشهد لأحد بعينه أنه [من أهل الجنة] إلا ما شَهِدَ له النصُّ، أو شَهِدَ له الناسُ شهادةً عامةً على أحد القولين، فإن الله خلقَ للجنةِ أهلاً، خلقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلقَ للنار أهلاً، خلقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم، فنقولُ بطريق العموم: المؤمنون في الجنة والكافرون في النار، ولا نُعيِّن أحدًا أنه في جنة أو في نار إلا أنْ نَعلَم عاقبته. والمهدي الذي أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسمُه محمد بن عبد الله من ولد الحسن بن علي رضي الله عنه، يقوم إذا شاء الله، وهو خليفة صالح يملأ الأرضَ قسطًا وعدلاً، كما مُلِئَتْ ظلمًا وجورًا، ويَحثُو المالَ حَثْوًا. وقد جاءتْ أخبارُه في الترمذي وسنن أبي داود ومسند

_ (1) أخرجه مسلم (2662).

الإمام أحمد، ووقع التنبيهُ عليه في الصحيحين (1). وأما ما يدَّعيه الضالُّون أن الحسن بن علي العسكري المتوفى في سامرَّاء، كان له ابنٌ اسمه محمدٌ دخلَ سرداب سامرَّاء بعد موت أبيه وهو صغير، وأنه المهدي، فهذا كذبٌ باطل باتفاق علماء بني آدم وعقلائهم، وليس هو المخبر به في الأحاديث، فإن هذا حسيني وذاك حسني، وأيضًا فإن الحسن بن علي العسكري عند العارفين بالأنساب محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما لم ينسلْ ولم يُعقبْ، والذين أثبتوه زعموا أنه خليفة معصوم حجة الله على أهل الأرض، وأنه باقٍ إلى الآن، وهذا مخالفٌ للعقل والكتاب والسنة، فإن هذا لو كان حقا لكان يتيمًا يَجبُ الحَجْرُ عليه في نفسِه ومالِه، ولا يجوز أن يُوَلَى مثلُ هذا ولَايةً أصلا، ولا معصومَ بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أحدَ يَجبُ أبدًا طاعته في كل شيء إلاّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يجوز أن يُكلِّفَ الله العبادَ طاعةَ من لا سبيلَ إلى العلمِ بأمرِه، ولا وجهَ لهذه الاحتجاجاتِ. والله أعلم.

_ (1) سبق تخريج هذه الأحاديث في المجموعة الثالثة.

(29) مسألة في رجل مات، وأوصى أن يعمل له ختمة في أسبوعه وتمام شهره، هذا جائز أم لا؟

مسألة في رجل ماتَ، وأوصى أن يُعمل له ختمة في أسبوعِه وتمام شهره، جائز أم لا؟ الجواب الحمد لله، الصدقةُ عن الميتِ أفضلُ من عمل ختمةٍ من هذه الختمِ له، فإنّ الصدقة تَصِلُ إلى الميت باتفاق الأئمة، وقد ثبت في الصحيح (1) أن سعدًا قال: يا رسول الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: "نعم". وأما قراءة القرآن ففي وصوله إلى الميت نزاعٌ إذا قُرِئ لله، فأما استئجارُ من يقرأ ويُهدِي للميّتِ فهذا لم يستحبَّه أحدٌ من العلماء المشهورين، فإن المُعطِيَ لم يتصدقْ لله، لكن عاوضوا على القراءة، والقارئ قرأ للعوض، والاستئجارُ على نفس التلاوة غيرُ جائز،

_ (1) البخاري (1388،2760) ومسلم (1004، وبعد رقم 1630) عن عائشة بهذا اللفظ دون ذكر اسم السائل. وهو سعد كما في حديث ابن عباس عنده البخاري (2756، 2762).

وإنما النزاع في الاستئجار على التعليم ونحوه مما فيه منفعةٌ تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلاّ إذا كان العمل للهِ، وما وقعَ بالأجر فلا ثوابَ فيه وإن قيل: يصحُّ الاستئجار عليه، ولأن ذلك يتضمن أن يأكل الطعامَ من ليس يحتاج إليه، وأن يُقرأ القرآنُ والناسُ يتحدثون لا يسمعون، وأن القراءَ ينتهبون الطعامَ، وهذا كلُّه أمورٌ مكروهة. وإذا تصدَّق على من يَقرأ القرآن ويُعلِّمه ويَتعلَّمه كان له مثلُ أجرِ من أعانَه على القراءة، من غير أن يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، وينتفع الميت بذلك. وإذا وصَّى الميتُ بأن يُصرَف مالٌ في هذه الختمة، وقَصْدُه التقربُ إلى الله، فصُرِفَتْ إلى مَحاوِيجَ يقرؤون القرآنَ ختمةً وأكثرَ، كان ذلك أفضل وأحسن من جَمْع الناس على مثل هذه الختم، والله أعلم.

(30) في رجل جامع زوجته ولم تغتسل، ثم ماتت، فهل يجزئها كسل الموت؟

مسألة في رجل جامعَ زوجتَه ولم تغتسِلْ، ثم ماتتْ، فهل يُجزِئُها غسلُ الموت؟ الجواب الحمد لله، يُجزِئُها غسلُ الميت عن الأمرين.

(31) مسألة في رجل غسل صبيا، وأبو الصبي يسكب عليه الماء، والغاسل لا يحفظ القرآن، فهل بجوز تغسيله أم لا؟ وهل يجوز للذي لا يحفظ القرآن أن يصلي عليه؟

مسألة في رجل غسلَ صبيًا، وأبو الصبيّ يَسكُب عليه الماءَ، والغاسلُ لا يحفظ القرآنَ، فهل يجوزُ تغسيلُه أم لا؟ وهل يجوز للذي لا يَحفظ القرآنَ أن يصلِّي عليه؟ الجواب الحمد لله، نعم يجوزُ تغسيلُه، والفرضُ في ذلك أن يعمَّ جميعَ بَدنه بالماء كلّه، وهو أخفُّ من اغتسالِ الحي، فإن الحيّ يتمضمضُ ويَستنشِقُ، والميتُ لا يُفعَلُ به ذلك، لكن يُستَحبَّ أن يَمْسَح مَنخَريْه وفمَه بالماء. والسنة أن يُنَجَّى ثم يُوَضَّأ، ثم يُفاضُ عليه الماء كالحيّ، لكن ينبغي أن يُغسل الميتُ ثلاثًا. ويجوز أن يُصلِّي على الميت إذا كان يَحفظُ الفاتحة والصلاةَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء للميت.

(32) مسألة في سماع حضره رجل فصاح وخر ميتا، فقال بعضهم: هذا لا يصلى عليه، ودفن ولم يصل عليه، فماذا يجب على من أفتى بذلك؟ وهل يصلى على مثل هذا؟

مسألة في سماع يسمع رجل الحادي بذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصاحَ وخرَّ ميتًا، وكان ثَمَّ فقير، فقال: هذا لا يُصلَّى عليه، ودُفِنَ ولم يُصلَّ عليه، فماذا يجب على من أفتَى بذلك؟ وهل يُصلَّى على مثل هذا؟ الجواب أما الميت فتجوز الصلاة عليه، ويُصلَّى على قبرِه إلى شهر، بل تجبُ الصلاةُ عليه. وأما سماعُ المُكاء والتصدية فبدعة مكروهة، كان المشركون إذا اجتمعوا عند الميت يصفقُون ويصوتون، والتصفيق هو التصدية، والتصويت هو المُكَاء، فأنزل الله تعالى بذمّهم: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (1). وأما حبّ الله ورسوله فهو أصلُ الإيمان، لكن من تمام ذلك أن يعبدَ الله بما شَرَعَ، لا يعبد بالبدع، ولكن من اجتهد في عمل يُقَرِّبُه إلى الله متحريًا لاتباع الكتاب والسنة، وأصاب، فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطأه مغفورٌ له. والله تعالى قد غَفَر للمؤمنين خَطأَهم، فالذي عَمِلَ السماعَ مجتهدًا، والذي أنكره وتركَ الصلاةَ عليه مجتهدًا، حكمُهم ذلك إلى اللهِ. والله أعلم.

_ (1) سورة الأنفال: 35.

(33) هل صح أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون؟ وكيف تعرض أعمال الأمة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره؟ وإذا صلى علبه أو سلم عليه العبد هل يرد عليه السلام؟

مسألة هل صحَّ أن الأنبياءَ أحياء في قبورِهم يُصلُّون؟ وكيف كيفيةُ عرضِ أعمالِ الأمةِ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبره؟ على روحه الكريمة؟ أم تعادُ روحُه إلى جسدِه؟ وإذا صلَّى عليه أو سلَّم عليه العبدُ هل يَرُدُّ عليه السلام؟ الجواب الحمد لله، الأنبياءُ أحياء في قبورهم، وقد يُصلُّون كما ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مررتُ بموسى ليلةَ أُسرِيَ بي يُصلِّي في قبره" (1). وثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من مسلم يُسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي، حتى أردَّ عليه السلام" (2). وقال: "صلُّوا عليَّ حيثُ ما كنتم، فإنَّ صلاتكم تَبلُغُني" (3). وقال: "أكثِرُوا من الصلاة عليّ يومَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضةٌ عليّ"، قالوا: كيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إنَّ الله حَرَّم على الأرضِ

_ (1) أخرجه مسلم (2375) عن أنس. (2) أخرجه أحمد (2/ 527) وأبو داود (2041) عن أبي هريرة. (3) أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2042) عن أبي هريرة.

- عرض الأعمال عليه حق، وأما مخل ذلك فلا يتعلق به غرض

أن تأكلَ لُحومَ الأنبياء" (1). وأما عرضُ الأعمالِ عليه فإنها تُعْرَضُ عليه، وهو حق، وأمَّا مَحَلُّ ذلك فمما لا يتعلقُ به غَرَضٌ، والله أعلم.

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 8) وأبو داود (1047،1531) والنسائي (3/ 91) وابن ماجه (1085،1636) عن أوس بن أوس.

(34) مسألة- في حديث قيس: لابد لك من قرين يدفن معك وهو حي، فهل يبرز العمل في قبره في صورة؟

مسألة في حديث قيس يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "واعلم يا قيسُ أنه لابدَّ لك من قرين يُدفَن معك وهو حي، وتُدفَن معه وأنت ميت، فإن كان كريمًا أكرمَك، وإن كان لئيمًا أسلمَكَ، ثم لا يُحشَر إلاّ معك، ولا تُسأَل عنه، ألا وهو فعلُك أو عملُك". فهل ذلك كذلك من كون عمل الإنسان يبرز له في قبره في صورة، فإن كان صالحًا كان شابًّا حسن الوجه طيبَ الريح فيأنَسُ به، وإن كان طالحًا فبعكسِه فيستوحش منه إلى يوم القيامة أم لا؟ الجواب الحمد لله، أما هذا المعنى فقد رُوِي في أحاديثَ حسانٍ بأن العمل الصالحٍ يُصوَّر لصاحبه صورةً حسنة، والعمل السيء يُصوَّر لصاحبه صورة قبيحة، فالأولى تُنعِم صالحًا والثانية تُعذبه. وجاء أيضًا مخصوصةً بأعمال مثل قراءة القرآن وغيرها من الأعمال (1)، وذلك في البرزخ في القبر وفي عَرَصاتِ القيامة، فأما جَرْيُ الأعمال بالعُمَّال فإن كان معناه أن عبورَهم على الصراط

_ (1) كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه أحمد (2/ 174) مرفوعًا: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ... " وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1429).

- تصوير العمل لصاحبه على الصراط، لم يبلغني فيه شيء

يكون بحسب أعمالهم الصالحة، فمنهم من يَجرِي كالبرق، ومنهم من يَجرِي كالريح، ومنهم من يسعى كأجَاوِيد الخيل، ومنهم من يَسعى كركاب الإبل، ومنهم من يَعدُو عَدْوًا، ومنهم من يَمشي مشيًا، ومنهم من يَزْحَف زَحْفًا، وذلك على قدر أعمالهم الصالحة، فهذا حق (1). وأما تصويرُ العمل لصاحبه على الصراط فهذا لم يَبلُغْني فيه شيءٌ، والله أعلم.

_ (1) وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث عائشة الذي أخرجه أحمد (6/ 110)، وحديث ابن مسعود الذي أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 590 - 592) مرفوعًا و (2/ 376) موقوفًا. وصححه الألباني في تعليقه على "شرح الطحاوية" (ص 415).

(35) مسألة في أن لله ملائكة نقالة ينقلون من قبور المسلمين إلى قبور اليهود والنصارى، وكذلك العكس، هل ورد في ذلك خبر أم لا؟

مسألة فيما هو شائع بين الناس أن لله ملائكةً نقَّالةً يَنقُلون من قبورِ المسلمين إلى قبورِ اليهود والنصارى، وكذلك من قبورِهم إلى قبورِ المسلمين، هل وردَ في ذلك خبرٌ أم لا؟ الجواب الحمد لله، أما الأجساد فإنها لا تُنقَل من القبور، ولكن يُعلَم أن في بعض من يكون ظاهرُه الإسلام ممن يكون منافقًا إما يهوديًّا أو نصرانيا أو زنديقا معطِّلاً فقد يكون في الآخرة مع نُظَرائِه، كما قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) (1) أي أشباهَهم ونُظراءَهم، وقد يكون في بعض من مات وظاهرُه كافرٌ أن يكون آمنَ بالله ورسوله قبل الغَرْغَرة، ولم يكن عنده مؤمن، وكتمَ أهلَه حالَه إما لأجل ميراثٍ أو لغيرِ ذلك، فيكون مع المؤمنين وإن كان مقبورًا بين الكفار. وأما أثر في نقلِ الملائكة فما سمعتُ في ذلك بأثرٍ، والله أعلم.

_ (1) سورة الصافات: 22.

(36) مسألة فيمن يقرأ القرآن العظيم أو شيئا منه، هل الأفضل أن يهدي ثوابه لوالديه ولموتى المسلمين؟ أو يجعل ثوابه لنفسه خاصة؟

مسألة فيمن يقرأ القرآن العظيم أو شيئًا منه هل الأفضلُ أن يُهدِيَ ثوابَه لوالديه ولموتى المسلمين؟ وكذلك إذا دعَا عَقِيبَ القراءةِ يقولُ: اللهم أوصِلْ ثوابَه لوالديه ولموتى المسلمين أو يجعلُ ثوابَه لنفسِه خاصةً؟ الجواب أفضلُ العبادات ما وافقَ هَدْيَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهَدْيَ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في خطبته (1): "إن خيرَ الكلامُ كلام الله، وخيرَ الهَدْيَ هَدْيُ محمد، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة"، وقد قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (2)، فرَضِيَ عن السابقين مطلقًا، ورَضِيَ عمن اتبعَهم بإحسان. وقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح (3) من غير وجه أنه قال: "خيرُ

_ (1) أخرجه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله. (2) سورة التوبة: 100. (3) أخرجه البخاري (2652،3651،6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651،4628،6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين.

القرونِ القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم"، وقال عبد الله بن مسعود (1): من كان منكم مُستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا يُؤمَنُ عليه الفتنة. أولئك أصحابُ محمدٍ أبرًُ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامِة ديِنه، فاعرِفُوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم. وقال حُذيفةُ بن اليمان (2): يا معشرَ القُرَّاءِ! استقيموا وخُذُوا طريقَ مَن قبلَكم، فواللهِ لقد سَبَقْتُم سَبْقًا بعيدَا، ولئِنْ أَخذتُم يمينًا وشَمالاً لقد ضَلَلتم ضلالاً بعيدًا. وهذا باب واسع، والدلائل عليه كثيرة، وقد قال تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، قال الفُضيل بن عِياض: أخلصُه وأصوبُه. قالوا: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون صوابا خالصًا، والخالص أن يكون لله، والصوابُ أن يكون على السنة. وهذا الذي قاله الفُضَيل من الأصولِ المتفق عليها، فإنه قد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن أحدثَ في ديننا ما

_ (1) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 97) من طريق قتادة عنه، فهو منقطع. ورُوي نحوه عن ابن عمر، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 305 - 306). (2) أخرجه البخاري (7282). (3) سورة هود: 7، سورة الملك: 2.

ليسَ منه فهو ردٌّ" (1)، وصحَّ عنه أنه قال: "الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نَوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ يتزوجُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه" (2). وهذان الأصلان اللذان ذكرهما الفضيل، وقد أوجب الله الإخلاص له في غير موضع من كتابه، كقوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (3)، وقوله (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)) (4)، وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ) (5) وغير ذلك، وقد ذَمَّ من دانَ بغير شرعِهِ في غير موضع، كقوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (6)، وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)) (7). فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ فالأمر الذي كان معروفا بين المسلمين في القرون الفاضلة أنهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعةِ فرضِها ونَفْلِها، من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير

_ (1) أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة. (2) أخرجه البخاري (1، ومواضع أخرى) ومسلم (1907) عن عمر بن الخطاب. (3) سورة البينة: 5. (4) سورة الزمر: 2. (5) سورة غافر: 14. (6) سورة الشورى: 21. (7) سورة يونس: 59.

- حكم إهداء ثواب العبادات البدنية والمالية

ذلك، وكانوا يَدْعُون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك، يَدْعُون لأحيائِهم وأمواتِهم في صلاتِهم على الجنائز وعند زيارةِ قبورِهم وغيرِ ذلك. ورُوِيَ عن طائفةٍ من السلف أن عند كل خَتْمَةٍ دعوة مجابة، فإذا دعا الرجلُ عقيبَ الختمةِ لنفسه ولوالديه ومشايخِه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات كان هذا من الجنس المشروع، وكذلك دعاؤُه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الإجابة، وقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمرَ بالصدقة عن الميت، وأنه أمر بأن يُصامَ عنه الصوم الذي نذره (1)، فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة، وكذلك ما جاءت به السنةُ في الصوم عنهم ونحو ذلك. وبهذا وغيرِه احتجَّ من قال من العلماء: إنه يجوزُ إهداءُ ثوابِ العباداتِ البدنية إلى موتى المسلمين، كما هو مذهبُ أحمد وأبي حنيفة وطائفةٍ من أصحاب مالك والشافعي، فإذا أُهدِيَ لميّتٍ ثوابُ صيام أو صلاةٍ أو قراءة جازَ ذلك، و [قال] أكثر أصحاب مالك والشافعي: إنما يُشْرَع ذلك في العبادات المالية كالصدقة والعتق ونحوِ ذلك دون العبادات البدنية، بناء على أن هذه تَقْبَل النيابةَ ويجوز التوكيلُ فيها بخلاف تلك، والأولون يقولون: هذا ثوابٌ ليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يَستنيبَ عنه، وله أن يُعطِيَ أجرتَه لمن شاء. وأصحابُ أبي حنيفة من أبعدِ الناسِ عن الاستنابةِ في الصيام ونحوه، وجوَّزوا مع هذا إهداءَ الثواب، والنيابةُ إنما تجوز في مواضعَ مخصوصةٍ بخلاف الإهداء.

_ (1) سبق ذكر الأحاديث الواردة في الباب فيما مضى.

ومن احتجَّ على منع الإهداءِ بقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (1) فهو مُبْطِلٌ لتواترِ النصوصِ واتفاقِ الأئمةِ على أن الإنسانَ قد ينتفع بعملِ غيرِه، والآيةُ إنما نَفَتِ الاستحقاقَ لسعي الغيرِ لم تنفِ الانتفاعَ بسعي الغير، والفرق بينهما بَيِّنٌ، ومع هذا فلم يكن من عادات السلفَ إذا صَلَّوا تطوعًا أو صاموا تطوعًا أو حجوا تطوعًا أو قرأوا القرآنَ أن يُهْدُوا ثوابَ ذلك إلى موتى المسلمين بل ولا بخصوصهم، بل كان من عاداتِهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يَعدِلُوا عن طريق السلف فإنه أفضلُ وأكملُ. وقد بَسطنا الجوابَ في الإهداءِ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جواب كبير (2)، وبيَّنا أنه ليس بمشروع، وذكرنا ما يتعلق بذلك من الحِكًمِ والمعاني، والله أعلم.

_ (1) سورة النجم: 39. (2) سيأتي فيما بعد.

(37) مسألة في رجل حفر قبرا في مصيف المسجد بقصد أن يدفن فيه، هل يجوز له ذلك؟

مسألة في رجل في مسجدٍ وللمسجد مَصِيْفٌ، وإن الفقير قد حَفَر فيه قبرًا وبنى فَسْقِيَّةً (1) بقصد أن يدفن فيه، وقد حصلَ من يُنازِعُه في ذلك، وهل يجوز له أن يُدْفَن فيه؟ وهل يجوزُ أن يُقَر هذا البناءُ في المكانِ أم لا؟ الجواب الحمد لله، لا يجوز أن يُدفَن أحدٌ في المسجد، فكيف في مسجد بنيَ قبلَ موته؟ فإن دَفْنَ الميتِ في مثل هذا المسجد حرامٌ بإجماع المسلمين. ولا يجوزُ لأحدٍ أن يَبنيَ قبرًا بفَسْقِيَّةٍ ولا غيرِ فسقية في مسجد، ولا فرقَ بين سَقْفِ المسجد ومَصِيْفِه، والمساعِدُ على ذلك عاصٍ لله ورسوله آثمٌ مخطيءٌ باتفاق المسلمين، والمُنكِر لذلك الناهِيْ عنه مطيعٌ لله ورسوله، ويَجبُ على كل مسلم قادرٍ إعانتُه، ويجبُ أن يُهدَمَ ما بُنيَ في المسجَدِ من المَصِيفِ وغيرِه من فسقيةِ المقبرة باتفاق المسلمين. والسنةُ التي كان عليها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابُه والتابعون وسائر الأئمة والمشايخ أن يُدفَنوا في مقابر المسلمين، لم يأمر منهم أحدٌ

_ (1) الفسقية: حوض من الرخام ونحوه مستديرٌ غالبًا، تَمجُّ الماءَ فيه نافورة.

- النهي عن اتخاذ القبور مساجد

أن يُدفَن في مسجدٍ، ولا دُفِنَ أحدٌ منهم في مسجدٍ، بل لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يفعل ذلك، كما ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال قبلَ أن يموت بخمس: "إن من كان قبلَكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك". وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذِّرُ ما فعلوا، قالت عائشة (3): ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كَرِهَ أن يتخذَ مسجدًا، وقال (4): "إنّ من شِرارِ الناس من تُدرِكُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، والذين يتخذون القبورَ مساجد". فهذا سيد ولد آدم يَكرهُ أن يتَّخَذَ قبرُه مسجدًا، ودَفَنوه في حُجرتِه لأن لا [يُجْعَل] قبرُه مسجدًا، وكان المسلمون يُدفَنون في مقابرهم، فالذي يَقصد أن يُدفَن في دارٍ لِيُصَلَّى عنده مقصودُه خلافُ مقصودِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ومن قصدَ ذلك فقد ضادَّ أمرَ الله ورسوله. وفي السنن (5) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لعنَ الله زَوَّاراتِ القبور

_ (1) مسلم (532) عن جندب بن عبد الله. (2) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة. (3) أخرجه البخاري (1330،1390،4441) ومسلم (529) عنها. (4) أخرجه أحمد (1/ 405،435) وابن خزيمة في صحيحه (789) عن ابن مسعود. (5) أخرجه الترمذي (320) وغيره عن ابن عباس. وقد سبق تخريجه.

والمتخذينَ عليها المساجدَ والسُّرُجَ". فمن قَصدَ أن يُدفَن بعضُ الشيوخِ في موضع ليُنْذَرَ له ويُسْرَجَ عليه فقد لعنه الله ورسولُه، وليس لهم أن يُغيّروا المسجد بفتح شبّاكٍ لأجلِ ذلك، والله سبحانه أعلم.

(38) مسألة في عمل طعام في الختم هل هو جائز؟ ومن يتحدث بين الناس بكلام أو حكايات مفتعلة كلها كذب هل يجوز ذلك؟

مسألة في عملِ طعام في الخَتْمِ هل هو جائز؟ ومن يتحدثُ بين الناس بكلامٍ أو حكاياتٍ مفتعلةٍ كلها كَذِبٌ هل يجوز ذلك؟ الجواب الحمد لله، أما المتحدث بأحاديثَ مُفتعلةٍ ليُضْحِكَ الناسَ أو لغرضٍ آخرَ فإنه عاصٍ لله ورسوله، وقد رَوى بَهْزُ بن حَكيم عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال (1): "إن الذي يُحدِّثُ فيَكذِبُ لِيُضْحِكَ القومَ منهم ويلٌ له ثم ويلٌ له ثم ويل له"، وقال ابن مسعود: إنّ الكذبَ لا يَصلح في جدٍّ ولا هَزْلٍ، ولا أن يَعِدَ أحدُكم صَبيَّه شيئًا ثم لا يُنْجِزَه. وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلمٍ وضررٌ في الدين فهذا أشدُّ تحريمًا من ذلك، وبكل حالٍ ففاعلُ ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تَرْدَعُه عن ذلك.

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 2،5،7) وأبو داود (4990) والترمذي (2315) والدارمي (2705).

- الصدقة عن الميت تنفعه

وأما ما يُصْنَع للميّت فالذي يَنفع الميتَ ويَصِلُ إليه باتفاق العلماء هو الصدقةُ ونحوُها، فإذا تَصدَّق عن الميت بذلك المال لقومٍ مستحقينَ لوجهِ الله تعالى ولم يَطُلْب منهم عملا أصلاً كان ذلك نافعًا للميتِ وللحيِّ الذي يَتصدقُ عنه باتفاق العلماء، كما في الصحيحين (1) أن سعدًا قال: يا رسولَ الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسها، وأراها لو تكلمتْ تصدَّقتْ، فهل يَنفعها إن أَتصدَّقْ عنها؟ قال: نعم. وأما اكتراءُ قوم يقرأون القرآنَ ويُهْدُون ذلكَ للميتِ فهذه بدعةٌ، لم يفعلها السلفُ ولا استحبَّها الأئمة، لكن لو قرأ الإنسانُ القرآنَ لله وأهداه للميتِ وصلَ إليه الثوابُ عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما كما تَصِلُ إليه الصدقةُ، فإن هذا تصدقَ لله وهذا قرأَ لله، وذلك عمكٌ صالح ينفعُ الله به الحيَّ والميتَ، بخلاف الذي يَكْتَرِي من يقرأ، فإن القارئَ إنما قرأ لأجلِ العوضِ، والمُعطِي إنما أَعطَى عِوضًا عما استعملَه فيه. والفقهاء تَنازعوا في الاستئجار على تعليم القرآن، فأما استئجارُ من يقرأ ويُهدِيْ فما علمتُ أحدًا من العلماء ذَكَرَ ذلك، ولكن إذا قُرِئَ القرآنُ فاستماعُه حسن.

_ (1) سبق تخريجه.

- حكم الأكل من الطعام المصنوع من مال الوارث ومن تركة الميت

وأما الأكل من الطعام فإن كان قد صَنَعَه الوارثُ من مالِه لم يَحْرُم الأكلُ منه، وإن كان قد صُنِعَ من تَرِكةِ الميتِ - وعليه ديون لم تُوْفَ، وله ورثة صغار، وفي ذلك من حقوقِهم - لم يُؤكَل منه.

(39) مسألة في رجل مات وتزوج أخوه امرأته، ثم إنها ماتت، فهل يحل أن تدفن مع زوجها الأول في قبر واحد؟

مسألة في رجل ماتَ وتزوج أخوه امرأتَه ثم إنها ماتتْ، فهل يَحِلُّ أن تُدفَن مع زوجها الأولِ في قبرٍ واحد؟ الجواب الحمد لله، يُكرَه دفُن اثنين في قبرٍ واحدٍ إلاّ لحاجةٍ، سواء كان أجنبيًا أو لم يكنْ، وإذا احْتِيْجَ إلى ذلك جُعِل بينهما حاجزٌ. مسألة في الصلاةِ على الجنازةِ قُدَّامَ الإمامِ. الجواب تنازع العلماء في الصلاة قُدَّامَ الإمام في الجنازة والجمعة وغير ذلك، فقيل: يصحُّ مطلقًا كقول مالك، وقيل: لا يصحُّ مطلقًا كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه في مذهبه، وقيل: يَصحُّ عند العذر، فإذا كان زَحْمة وتَعذَّر معها الصلاةُ خلفَه صلَّى أمامَه، وذلك خير من أن يَدَعَ الصلاةَ، وإن أمكنَه الصلاةُ لم يُصَلِّ أمامَه، وهذا أعدلُ الأقوال.

(41) مسألة فيمن يصلي على جنازة قدام الإمام وقدام الجنازة، هل تصح أم لا؟

مسألة فيمن يُصلِّي على جنازةٍ قُدَّامَ الإمام وقُدَّامَ الجنازةِ، فهل تَصِحُّ أم لا؟ وهل تَصِحُّ صلاتُه لمن هو لابِسٌ مَدَاسَه؟ الجواب أما صلاته قُدَّامَ الإمام في الجمعة والجنازة والصلوات الخمس وغيرِ ذلك فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يجوز، وهو مذهبُ أبي حنيفة وهو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: يجوز، وهو قول مالك والشافعي في القديم. وقيل: إن كان للحاجة جاز، وإلاَّ فلا، مثل أن يكون قُبَالَ وجهِه ولا يُمكِنُه الصلاةُ إلا قُدَّامَ الإمام، فالصلاةُ أمامَه خيرٌ من ترك الصلاة، وأما إذا أمكنَه الصلاةُ خلفَه فلا يُصلِّي إلاّ خلفَه. وهو أعدل الأقوال وأقواها، وهذا قولٌ في مذهب أحمد وغيرِه، والأحاديث هكذا وردت بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(42) مسألة في رجل كلما ختم القرآن أو قرأ شيئا منه يهدي ثوابه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلى جميع أهل الأرض، فهل يجوز ذلك أو يستحب؟ وهل يجب إنكار ذلك على فاعله؟

مسألة في رجل كلَّما ختمَ القرآنَ أو قرأ شيئًا منه يقول: اللهمَّ اجعلْ ثوابَ ما قرأتُه هديةً مني وَاصِلةً إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إلى جميعِ أهلِ الأرضِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها. فهل يجوز ذلك أو يُستحبُّ؟ وهل يَجبُ إنكارُ ذلك على فاعلِه؟ وهل فَعَلَه أحدٌ من علماء المسلمين؟ الجواب الحمد لله، هذه المسألة مبنية على أصلِ، وهو أن إهداءَ ثواب العبادات إلى الموتى هل يَصِلُ إليهم أم لا؟ فأما العباداتُ المالية كالصدقة فلا نزاع بين المسلمين أنها تَصِلُ إلى الميت، إذ قد ثبتَ في الصحيح (1) أن سعدًا قال: يا رسول الله! إني أمي افْتُلِتَتْ نفسَها، وأراها لو تكلَّمتْ لتصدقتْ، فهل يَنفعُها إن أتصدَّقْ عنها؟ قال: نعم. وأما العباداتُ البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ففيها قولان: أحدهما: يجوز إهداءُ ثوابها إلى الميت، وهو مذهب أبي

_ (1) سبق تخريجه.

- الكلام على إهداء ثواب القرآن إلى الميت

حنيفة وأحمد وطائفة من أصحاب مالك والشافعي. والثاني: لا تَصِلُ، وهو المشهور عند أصحاب مالك والشافعي، وقد ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي نَذرتْ صيامَ شهرٍ، فقال: "صُومِي عن أمك". فهذه الأحاديث الصحيحة تدلُّ على أن العبادات البدنية تُفعَلُ عن الميت كالعبادات المالية، وفي الترمذي (2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يُضَحِّيْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدَ موته، ويَذكُر أنه أَمَرَه بذلك. إذا عُرِفَ هذا فإهداءُ ثواب القرآنِ إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إلى جميع أهل الأرض هو مثلُ إهداءِ ثوابَ الصيام التطوع والصلاة التطوع ونحوهما، ومثلُ إهداء ثواب الصدقة والعتق والحج على أحد القولين إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسائر المسلمين، ولم يَبلُغْنا أن أحدًا من السلف والصحابة والتابعين وتابعيهم كان يَفعلُ ذلك، وأقدمُ مَن بَلَغَنا أنه فعلَ شيئًا من ذلك عليُّ بن الموفَّق أحدُ الشيوخ من طبقةِ أحمد الكبار وشيوخِ الجنيد. وبعضُ الناس يُنكِر هذا لأجل كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلَى من أن أحدًا يُهدِي إليه شيئًا، وهذا الإنكارُ ليس بجيدٍ، فإنّا مأمورون أن نُصلِّيَ

_ (1) البخاري (1953) ومسلم (1148) عن ابن عباس. (2) برقم (1495). قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث شريك.

على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن نُسلِّم عليه وأن نسألَ له الوسيلةَ، وقد ثبتَ عنه أنه قال (1): "إذا سمعتم المؤذِّنَ فقولوا مثلَ ما يقول، ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكونَ ذلك العبدَ، فمن سألَ اللهَ لي الوسيلةَ حَلَّتْ عليه شفاعتي يومَ القيامة". والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: "لا تنسَنا مِن دعائِك" (2)، ولما أخبره بأُوَيس القَرَنِيّ قال: "إن استطعتَ أن يَستغفِرَ لك فليستغفرْ لك" (3). وكذلك الصدقة عن الميت والصوم عنه يجوز، وإن كان الميتُ أفضلَ ممن يصوم عنه ويتصدقُ عنه، فكونُ الشخصِ الميتِ أفضلَ من الحيّ أو كونُه نبيًّا أو صِدِّيقًا لا يَمنَعُ أن يُشرَعَ للحيّ الدعاءُ له، كما أنه يُصلِّي على جنازته، ولا يُمنَع أيضًا أن يُهدِيَ إليه ما يُهدِيْ إلى الميت من ثواب الأعمال الصالحة، والله تعالى بفضلِه يرحم هذا وهذا، كما قال (4): "من صلَّى عليَّ واحدةً صلى الله عليه عشرًا". و"من سألَ لي الوسيلةَ حلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة" (5).

_ (1) أخرجه مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (2) أخرجه أحمد (1/ 29) وأبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) عن عمر بن الخطاب. وضعَّفه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (2248). (3) أخرجه مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب. (4) أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة. (5) سبق تخريجه.

- ينبغي للإنسان أن يفعل المشروع من الصلاة والتسليم عليه - صلى الله عليه وسلم -

لكن إهداء ثواب الأعمال إلى جميع الناس ما سمعتُ أحدًا فَعَلَه، ولا سمعتُ أن أحدًا كان يُهدِيْ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلاَّ ما بَلَغَني عن علي بن الموفَّق ونحوه. والاقتداءُ بالصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، فينبغي للإنسان أن يفعلَ المشروعَ من الصلاة عليه والتسليم، فهذا هو الذي أمر الله به ورسولُه. وفي السنن (1) عنه: "أَكثِرُوا على من الصلاة يومَ الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكُم معروضة عليَّ"، قالوا: وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إن الله حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكلَ لحومَ الأنبياءِ". وقال له رجل: أَجعلُ لك ثُلُثَ صلاتي، فقال: "إذًا يكفيك الله ثُلُثَ أمرِك"، قال: أجعلُ نصفَ صلاتي، فقال: "إذًا يكفيك الله نصفَ أمرك"، قال: أجعلُ ثُلُثَيْ صلاتي، قال: "إذًا يكفيك الله ثُلُثَيْ أمرِك"، فقال: أجعلُ صلاتي كلَّها عليك، قال: "إذا يكفيك الله ما أَهَمَّك من أمرِ دنياك وآخرتك" (2). وفي فضل الصلاة عليه - بأبي هو وأمي - من الآثار ما يَضِيْقُ هذا الموضع عن ذكره، وكذلك الدعاءُ للمؤمنين والمؤمنات والاستغفار لهم هو الذي جاء به الكتاب والسنة، قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (3)، وفي السنن (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 8) وأبو داود (1047،1531) والنسائي (3/ 91) وابن ماجه (1085،1636) عن أوس بن أوس. (2) أخرجه أحمد (5/ 136) والترمذي (2457) عن أبي بن كعب. (3) سورة محمد: 19. (4) لم أجده فيها.

مر بعلي وهو يدعو فقال: "يا عليُّ! عُمَّ فإن فضلَ العموم على الخصوصِ كفضلِ السماء على الأرض"، وفي السنن (1): "أسرعُ الدعاءِ إجابةً دعوةُ غائب لغائبٍ". وفي الصحيح (2): "ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهرِ الغيب بدعوةٍ إلاّ وكَّلَ اللهُ به ملكًا، كلَّما قال الملك الموكَّلُ به آمينَ قال: ولكَ بمِثْل". فالأفعال الشرعية هي التي ينبغي للمؤمن أن يتحرَّاها، والله أَعلم.

_ (1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (623) وأبو داود (1535) والترمذي (1980) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وضعَّفه الترمذي لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي. (2) مسلم (2732) عن أبي الدرداء.

(43) مسألة في الميت هل غسله طاهر أم نجس؟ وهل تلحد المرأة الرجل أو الرجل المرأة؟ وهل يجب أن يحج عن المرأة الرجل وعن الرجل المرأة؟

مسألة في الميت هل غِسْلُه طاهر أم نجس؟ وهل تُلْحِدُ المرأةُ الرجل أو الرجلُ المرأةَ؟ وهل يجب أن يَحُجَّ عن المرأةِ الرجلُ وعن الرجلِ المرأةُ؟ وما يُعطِي الحاجُّ عن الميت؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، بل غِسْلُه طاهر عند جماهير العلماء، فإن ابن عباس وغير واحد من الصحابة قال: الميتُ لا ينجس حيًّا ولا ميتًا، وثبت في الصحيح (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيَ بعضَ أصحابه في طريقٍ فاختفى منه، فذهبَ فاغتسلَ ثم جاء، فقال: "أين كنت"؟، قال: إني كنتُ جُنُبًا، قال: "سبحان الله! إنّ المؤمنَ لا يَنْجسُ". ولهذا قال جمهور العلماء على أن الماء المستعمل من غُسْلِ الجنابةِ والحيضِ والوضوءِ طاهر. وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأَ وصبَّ وَضوءَه على جابر. وأما دَفْنُ الرجلِ للمرأة فإذا كانت المرأة تُدفَن في المقابر

_ (1) أخرجه البخاري (283، 285) ومسلم (371) عن أبي هريرة. (2) البخاري (194 ومواضع أخرى) عن جابر.

- يجوز أن يحج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل

فالسنةُ أن لا يَشهَدَ جنازتَها إلا الرجالُ لا يحضر النساء، فحينئذٍ فيَدفِنُها رجلٌ من أهل الخير، كما ثبتَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة أن يَنزِلَ في قبر ابنته (1). وهذا وإن كان فيه مسُّ المرأة فوقَ الكفنِ فهو جائز لأجل الحاجة، لأن خروج النساء مع الجنائز منهيٌّ عنه. وأما إن قُدِّرَ أن المرأةَ تُدفَن في موضع فيه النساءُ، فإلحادُ المرأةِ لها أولى من إلحادِ الرجل إذا لم يكن في ذلك مفسدة. والرجلُ يُلْحِده الرجالُ إلاّ إذا احتِيْجَ إلى إلحادِ النساء له، فإن ذلك جائز، وإلحادُ النساءِ الرجالَ أخفُّ من تغسيلهن له، وفي جواز تغسيلِ ذواتِ محارمِه له وتغسيلِ الرجلِ لذواتِ محارمِه نزاعٌ مشهور بين العلماء، وفي إلحاد الرجلِ للمرأة أيضًا نزاعٌ، لكن الذي ذكرناه صحَّتْ به السنة. ويجوز أن يَحُجَّ الرجلُ عن المرأة باتفاق العلماء، وكذلك يجوز للمرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة، وخالفهم بعضُ الفقهاء لأن حجَّها أنقصُ، وليس بشيء، فإنه قد ثبتَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ امرأةً أن تَحُجَّ عن أبيها (2)، وليس لأحدٍ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولٌ. ويُحَجُّ عن المُعتَقةِ كما يُحجُّ عن الحرَّةِ الأصل، فإن كان الحج وجبَ عليهما في حياتهما وجبَ أن يُخرَج عنهما من رأسِ المال في

_ (1) أخرجه البخاري (1285،1342) عن أنس. (2) أخرجه البخاري (1513 ومواضع أخرى) ومسلم (1334) عن عبد الله بن عباس. وفي بعض الروايات عندهما عن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس.

مذهب الشافعي وأحمد ومن وافقهما، وأما أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما فيستحبون الإخراج عنهما، ولا يوجبونه إلاّ إذا وَصَّتْ به، ويكون من الثلث، وينبغي أن يُخرَجَ عنها حجةٌ تامةٌ من حيث أمرتْ بالحاجّ، ويخرج عنها حجة مثلها، وإذا أُخرِجَ من القاهرةِ ما ينوي الخمسَ مئة إلى الألف كان مقاربًا. وإن لم يجب الحجُّ عليها في حياتها فيُستحَبُّ أن يُحَجَّ عنها بعد موتها، والحجة تامةً أفضلُ من حجةٍ مقامية، ويُعطَى الحاجُّ ما يكفيه بالمعروف. وأما إذا دَبَّرها - وهي التي يُعتِقها بعد موته - إذا ماتتْ في حياتِه فلا حَجَّ عليها بإجماع المسلمين، لكن إن أُخرِجَ عنها حجُّ التطوع كان ذلك حسنًا، والله أعلم.

(44) مسألة في معنى حديث ابن مسعود ما تعدون الرقوب فيكم؟

مسألة في حديث في مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تَعُدُّون الرَّقُوبَ فيكم؟ "، قال؟ قلنا يا رسول الله! الذي لا يُولَد له، قال: "ليس ذلك بالرقوب، ولكنه الرجلُ الذي لم يُقدِّمْ من ولدِه شيئًا"، الجواب عن الرقوب ما هو؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، الرَّقُوبُ في اللغة هو الذي لا وَلدَ له أو الذي لا يَعيش له ولد، وهو مشتق من الرُّقْبَى، والرقبى أن يَرقُبَ كل واحدٍ من الشخصين موتَ الآخر، كما أن المفلس في اللغة هو الذي لا وفاءَ لِدَينه، والمسكين في اللغة هو الطوَّاف، فقوله عن الرقوب مثل قوله (2): "ما تَعُدُّونَ المفلسَ فيكم؟ "، قالوا: من ليس له درهم ولا دينار، قال: "لا، ولكن المفلسَ من يجيء يومَ القيامة بحسناتٍ أمثالِ الجبال، قد ظَلَمَ هذا وشَتَم هذا وأخذَ مالَ هذا، فيأخذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإذا لم يَبْقَ له حسنةٌ أُخِذَ من سيئاتِهم فألُقِيَتْ عليه، ثم يُلْقَى في النار".

_ (1) برقم (2608). (2) أخرجه مسلم (2581) عن أبي هريرة.

فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّن لهم أن المفلسَ الحقيقي هو من أفلسَ في الآخرة، والرقوب الحقيقي الذي ليس له ولدٌ يُؤجَر عليه، ومن لم يُقدِّم من ولده شيئًا لم يُؤجَرْ على الولد، والإنسان إنما يطلب بولده وماله النفعَ، ويَعُدُّ عَدَمَ ذلك مصيبة، فبين لهم أن النفع الحقيقي والمصيبة الحقيقية التي ينبغي للعاقل أن يَعُدَّها منفعةً ومصيبةً هو حالُ من نَظَرَ في عواقب الأمور ونهاياتِها لا في أوائلِها وبداياتِها، والله أعلم.

(45) مسألة في رجل عزم على حفر قبره في حال حياته

مسألة في رجل عَزَمَ على حَفْرِ قبرِه في حال حياته، فماذا يُستحبُّ أن يَفعلَ مع ذلك من الأجر الموجب لثواب الله سبحانه والأفضل فيه؟ عَرِّفُونا مبسوطًا. الجواب لا يُستحبُّ للرجل أن يَحفِرَ قبرَه قبل أن يموت، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعلِ ذلك هو ولا أصحابُه، وأيضًا فإن الله تعالى يقول: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (1)، والعبد لا يدري أين يموت، وكم مَن أعدَّ له قبرًا وبني عليه بناءً وقُتِلَ أو ماتَ في بلدٍ آخر، وإذا كان مقصودُ الرجل الاستعدادَ للموت فهذا يكون بالعمل الصالح، فإن العبد إنما يُؤنسُه في قبره عملُه الصالح، فكلَّما أكثر من الأعمال الصالحة - كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كان ذلك هو الذي ينفعه في قبره، لا ينفعه بناءُ القبر ولا توسيعُه ولا ترتيبُه، بل قد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يُجصَّصَ القبرُ وأن

_ (1) سورة لقمان: 34. (2) مسلم (970) عن جابر.

- من ظن أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمه وتحسينه ينفعه فقد تمنى على الله الأماني الكاذبة

يُبنَى عليه، فكيف بمن يَبني القبور كأنها قصور؟ فهذا من أعظم ما يُنكَر من الأمور، وهو باتفاق المسلمين لا يَنفع الميّتَ شيئًا، وإنما ينفعه العملُ الصالح، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الكيِّسُ من دَانَ نفسَه وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ من أَتْبَعَ نفسَه هَواها وتَمنَّى على اللهِ الأماني" (1). فمن ظنَّ أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه فقد تمنَّى على الله الأماني الكاذبةَ، وإنما يكون في قبره بحسب ما في قلبه، وكلَّما كان الإيمانُ في قلبه أعظم كان في قبره أسرَّ وأنعمَ، قال الله تعالى:) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)) (2)، فجمعَ سبحانَه بين ما في القبور وما في الصدور، وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للمشركين عامَ الخندق: "ملأَ الله قبورَهمِ وأجوافَهم نارًا كما شَغَلُونا عن الصلاةِ الوسطى صلاة العصر حتى غرَبتِ الشمسُ". وهذا باب واسعٌ لا يتسعُ له هذا الموضع، والله أعلم.

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 124) والترمذي (2459) وابن ماجه (4260) عن شداد بن أوس. (2) سورة العاديات: 9 - 11. (3) البخاري (2931، 4111، 4533،6396) ومسلم (627) عن علي.

(46) مسألة في أطفال المؤمنين الذين يموتون دون الثلاث، هل لهم صحائف أعمال بكتب فيها ما يهدى لهم من قرآن وصدقة أم لا؟ وهل يسألون في قبورهم ويحاسبون أم لا؟ وهل يدومون على حالتهم أم يكبرون؟ والبنات اللاتي يدفن أبكارا هل يزوجن في الجنة؟ و

مسألة في أطفال المؤمنين الذين يموتون دون الثلاث، هل لهم صحائفُ أعمال يُكتَب فيها ما يُهدَى لهم من قرآنٍ وصدقة أم لا؟ وهل يُسأَلون في قبورهم ويُحاسَبون أم لا؟ وهل يَدُومون على حالتهم التي ماتوا عليها في القيامة أم يَكبرون ويتزوجون إذا دخلوا الجنة؟ والبنات اللاتي يُدفَنَّ أبكارًا هل يُزَوَّجْنَ في الجنة؟ وهل في الجنة حَبل وولادة في الناسِ كلِّهم أم ناس دون ناس؟ وهل ذلك صحيح؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، أما ما يُهدَى إلى الأطفال من صدقة ونحوها من العبادات المالية فتَصلُ إليه بلا نزاع، وفي العبادات البدنية قولان مشهوران، لكن مذهب أحمد وأصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي أنها تَصِلُ أيضًا كما تصل المالية وهو الصحيح، والمُهدَى إلى الصغارِ والكبارِ سواء في باب كتابتِه، فلا يقال إنَ ما يُهدَى إلى الكبارِ يُكتَب دون ما يُهدَى إلى الصغارِ، بل حكمُ النوعين واحد. وأما سؤالهم في القبر ففيه قولان مشهوران لأصحاب أحمد وغيرهم من أهل السنة:

أحدهما: أنهم لا يُسأَلون، وهذا قول القاضي وابن عقيل وغيرهما، قالوا: لأن السؤال في القبر إنما يكون لمن كان مكلفًا في الدنيا، والصبي والمجنون ليس بمكلف فلا يُسأَل. والقول الثاني: وهو قول أبي حكيم النهرواني، وهو الذي نقله أبو الحسن علي بن عبدوس عن أصحاب أحمد أنهم يُسأَلون، لما في "الموطأ" (1) أن أبا هريرة صلَّى على صغير لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهمَّ قِهِ عذابَ القبرِ وضيقةَ القبر. وهذا قد ينبني على امتحانِهم في عرصاتِ القيامة، وقد جاءت بذلك أحاديث (2). وأما حالهم في الآخرة فإنهم إذا دخلوا الجنةَ دخلوها كما يدخلها الكبارُ على صورةِ أبيهم آدمَ، طولُ أحدِهم ستونَ ذراعًا في عَرْضِ سبعةِ أَذرعُ، ويتزوجون كما يتزوج الكبار، ومن مات من النساء ولم تتزوجْ فإنها تتزوجُ في الآخرة، وكذلك من مات من الرجال فإنه يتزوج في الآخرة.

_ (1) 1/ 228. (2) سبق ذكرها في المجموعة الثالثة.

(47) مسألة في مقبرة للمسلمين، وأهل الذمة يدفنون فيها، هل يجب على وفي الأمر منعهم أم لا؟

مسألة في مقبرة للمسلمين، وأهلُ الذمة يُدفَنون فيها، هل يَجبُ على ولي الأمرِ منعُهم أم لا؟ الجواب الحمد لله، ليس لأهل الذمة دَفْنُ موتاهم في شيء من مقابرٍ المسلمين لا الشهداءِ ولا غيرِهم، بل لابدَّ أن تكون مقابرُهم متميزة عن مقابرِ المسلمين تميزًا ظاهرًا، بحيث لا يختلطون بهم ولا يشتبه قبورُ المسلمين بقبور الكفار، وهذا أوكدُ من التمييز بينهم حالَ الحياة بلُبْسِ الغِيار ونحوه، فإن مقابر المسلمين فيها الرحمةُ، ومقابر الكفار فيها العذابُ، بل ينبغي مباعدةُ مقابرِهم عن المسلمين، وكلَّما بَعُدَتْ عنها كان أصلحَ، والله أعلم.

(48) مسألة في الخلائق إذا حشروا يوم القيامة هل يحشرون جميعهم عراة أو بعضهم عراة وبعضهم بأكفانهم؟ وهل يموت إدريس من الصعقة؟

مسألة في الخلائقِ إذا حُشِروا يومَ القيامة هل يُحشَرون جميعُهم عَرَايَا، أو بعضُهم عُراةً وبعضُهم بأكفانِهم؟ وقول أبي سفيان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بَالِغُوا في أكفانِ موتاكم، فإن أمتي تُحشَر بأكفانها، وسائرُ الأمم عراة" كما ذكره الغزالي. وهل يموتُ إدريسُ من الصَّعْقَة؟ الجواب الذي في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الميت يُبعَث في ثيابه التي قُبِض فيها". أخرجه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه (1) وغيرُه. وقد رُوِي أن أبا سعيد لما حضرتْه الوفاةُ دَعَا بثيابٍ جُدُدٍ، فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الميتُ يُبعَث في ثيابه التي يموتُ فيها" (2). فأبو سعيد على هذا حملَ الحديثَ على أن الثياب التي يموتُ

_ (1) بر قم (2575 - موارد). (2) أخرجه أبو داود (3114) والحاكم في "المستدرك" (1/ 340) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 384). وصححه الألباني في "الصحيحة" (1671).

فيها العبدُ يُبعَث فيها، ولم يقل: إنه يُبعَث في أكفانه، فإن الكفن غير الثياب التي يموتُ فيها، فإن عامة الموتى لا يُكفَّنون في ثيابهم التي يُقبَضون فيها، لا سيما والكفن الذي كُفِّن فيه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيه مما يُمسى فيه، فإنها لم يكن فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، فإنه إذا عُرِفَ أن الحديث المأثور إنما هو أنه يُبعَث في ثيابه التي قُبض فيها، فقيل: يُبعَث في نفس الثوب الطاهر. وقال طوائف من أهل العلم - كأبي حاتم وغيرِه -: إن المراد بذلك أنه يُبعث على ما مات عليه من العمل، سواء كان صالحًا أو سيئًا، كما قال أكثر المفسرين في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)) (1) أن المراد به إصلاح العمل وتطهير النفس من الرذائل (2). ومثل هذا كثير في كلامهم، كما قيل: ثِيابُ بني عوفٍ طَهارَى نقية (3) ويقال: "فلانٌ طاهر الثياب". يؤيد هذا شيئان: أحدهما: أن الذي جاء في الحديث أنه يُبعَث على ما مات عليه من خيرٍ وشرٍّ، كما جاء، فما خُتِم له به يُبعَث عليه، كما في حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُبعَث كل عبدٍ على ما مات عليه".

_ (1) سورة المدثر: 4. (2) انظر تفسير الطبري (29/ 91،92) وابن كثير (4/ 470). (3) عجزه: وأوجههُم عند المشاهدِ غُرَّانُ. والبيت لامرئ القيس في ديوانه: 83.

رواه أبو حاتم في صحيحه (1). الثاني: أن الأحاديث الصحيحة تُبين أنهم يُحشَرون عُراةً، كما في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُحشَر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً"، ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (3). وفي لفظٍ في الصحيح (4): "أوّلُ من يُكسَى إبراهيم الخليل". وفي الصحيح (5) أيضًا عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُحشَر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرلاً"، قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضُهم إلى بعض! قال: "يا عائشة! الأمرُ أشدُّ من أن يَنظُر بعضُهم إلى بعضٍ". فهذا وأمثالُه أحاديث صحيحة لا يجوز أن تُعَارَضَ بمثل ذلك اللفظ المجمل. وأيضًا فإن بَعْثَه على ما مات عليه من خيرٍ وشرٍّ ظاهر، فإن الأعمال بالخواتيم، وقد ثبت في الصحيح (6) "أن العبد ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيَسبِق عليه الكتابُ، فيعملُ بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن العبد ليعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيَسبِق عليه الكتابُ،

_ (1) 9/ 210 (ط. الحوت). وأخرجه أيضًا مسلم (2878) وأحمد (3/ 314، 331،366). (2) البخاري (6527) ومسلم (2759) عن عائشة. (3) سورة الأنبياء: 104. (4) البخاري (6526) ومسلم (2860) عن ابن عباس. (5) هو الحديث الذي مضى آنفًا. (6) البخاري (3208 ومواضع أخرى) ومسلم (2643) عن ابن مسعود.

- أما إدريس فقد روي أنه مات في السماء

فيعملُ بعمل [أهل] الجنة فيدخلُ الجنة". فهذا وأمثاله تُبين أنه في الآخرة يُحشَر على ما ماتَ عليه. وأما ثوبُه الذي كان عليه وقتَ الموت فلا مناسبةَ في بَعْثِه فيه، فقد تموتُ الأنبياء والصالحون (1) في الثياب الرَّثَّةِ، وقد يموتُ الكفار والمنافقون في ثياب حسنةٍ، فهل يكون قيامُ الكفّار والمنافقين من قبورهم أجملَ وأبهَى من قيام الأنبياء والمؤمنين؟ ولو كان صحيحًا لكان تكفينُه في ثيابه التي مات فيها ويُبْعَثُ فيها أولى من تكفينه في غيرِها، وليس الأمر كذلك، بل قد يختلف الحكم في ذلك. وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا كَفنَ أحدُكم أخاه فليُحسِنْ كَفنه". وقد رُوِي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ بشَدِّ الفخذِ في بعض الجنائز، وقال: "إن هذا لا يُغنِيْ شيئًا، وإنما تَطِيب نفسُ الحيِّ" (3)، ولو كان الميتُ يُبْعَث في ثياب موته لوردت السنة بتجميلها. وأما الأكفانُ فلا أصلَ لكونه يُبعَث فيها بحالٍ. وأما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء (4)، فلا يحتاج إلى موتٍ ثانٍ، والله سبحانه قد أخبرَ بصَعَقِ من في السماوات ومن في

_ (1) في الأصل: "الصالحين". (2) مسلم (943) عن جابر. (3) لم أجده فيما بين يديّ من المصادر. (4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 72) عن كعب الأحبار. انظر "البداية والنهاية" (1/ 234 - 236).

الأرض إلاّ من شاء الله (1)، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر "أن الناس يَصعَقون يومَ القيامة فأكونُ أوَّلَ مَن أفيقُ، فأجدُ موسى باطش بساقِ العرش، لا أدري هل أفاقَ قبلي أم كان ممّا استثنى الله" (2). فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد توقَّف في مثل هذا فكيف يَجْزِمُ أحدنا بما لا علمَ له به؟ والله أعلم.

_ (1) سورة الزمر: 68. (2) أخرجه البخاري (6517 ومواضع أخرى) ومسلم (2373) عن أبي هريرة.

(49) مسألة في معنى قوله من قتل دون ماله فهو شهيد، وهل يجب على الشخص أن يبذل ثلث ماله أم يجوز ذلك

مسألة في معنى قوله "من قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد" (1)، وهل يجب على الشخص أن يَبذُل ثُلُثَ مالِه قبلَ القتال - كما هو متعارفٌ بين الناس - أم يجوز ذلك؟ وهل الواجب عليه الدفعُ عن نفسه وأهلِه ومالِه دون البذل؟ الجواب قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتِلَ دونَ حُرمتِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دينه فهو شهيد" (2). واتفق العلماءُ على أن قُطَاعَ الطريق إذا تعرَّضوا لأبناءِ السبيل يُريدون أموالَهم فإن لهم أن يقاتلوهم دفعًا عن أموالِهم، إذا لم يندفعوا إلاّ بالقتال، ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال لا قليلاً ولا كثيرًا، لا الثلث ولا غير الثلث، لكن إن أحبُّوا هم أن

_ (1) أخرجه البخاري (2480) ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (2) أخرجه أحمد (1/ 190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/ 116) عن سعيد بن زيد.

- يجوز له ذلك ولا يجب

يبذلوا ذلك ويتركوا القتال فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلاّ أن يكونوا عاجزين عن القتال، فحينئذ يُصالِحونهم بما أمكن، ولا يُقاتِلون قتالاً تذهبُ فيه أنفسُهم وأموالُهم. وأما الوجوب فلا يجب عليهم الدفعُ عن أموالِهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها ولهم أن يبذلوها، لأنّ إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد يَفعَلُ أصلحَ الأمرينِ عنده. وأما الدفعُ عن الحرمة مثل أن يريد الظالمُ أن يَفجُر بامرأةِ الإنسان أو ذاتِ محرمِه أو بنفسِه أو بولدِه ونحو ذلك، فهذا يجب عليه الدفعُ، لأن التمكينَ من فعلِ الفاحشة لا يجوز، كما لا يجوز بذل المال، فيجب عليه أن يدفع ذلك بحسب إمكانه، وإذا لم يندفع إلاّ بالقتال وهو قادرٌ عليه قاتَلَ. وأما دفعُه عن دمِه فهو جائز أيضًا، لكن في وجوبِه قولانِ للعلماء هما روايتان عن أحمدَ: أحدهما: لا يجب، لأن ابن آدم المظلوم لما أراد أخوه قَتْلَه لم يَدفعْ عن نفسِه، وقال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)) (1). وكذلك أمير المؤمنين عثمان لما طلب الخوارجُ قتلَه لم يدفع

_ (1) سورة المائدة: 28 - 29.

- النهي عن القتال في الفتنة

عن نفسه، وأمرَ الذين جاءوا ليقاتلوا عنه - كغلمانِه وأقاربِه والحسن ابن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم - أن لا يقاتلوا، وكان ذلك من مناقبه رضي الله عنه. والقول الثاني: يجب الدفعُ عن نفسه، لأن قتلَه بغير حقٍّ محرَّمٌ، فلا يجوز له التمكين من محرَّمٍ. وهذا إذا لم تكن فتنة، وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل رجلانِ أو طائفتان على مُلْكِ أو رئاسةِ أو على أهواء بينهم، كأهواءِ القبائل والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيسٍ أعتقَهم، فيقاتِلون على رئاسةِ سيدهم، وأهواءِ أهل المدائن الذين يتعصَّبُ كل طائفة لأهلِ مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب والطرائق كالفقهاء الذين يتعصَّب كل قومِ لحزبهم ويقتتلون، كما كانَ يَجري في بلادِ الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة يُنهَى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا التقى المسلمانِ بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أرادَ قتلَ صاحبِه" (1). وفي الصحيح (2) أنه قال: "مَن قُتِل تحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبةٍ ويدعو لِعَصَبةِ فليس منا - أو قال: - هو في النار". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ستكون فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من

_ (1) أخرجه البخاري (31،6875) ومسلم (2888) عن أبي بكرة. (2) مسلم (1848) عن أبي هريرة.

الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خيرٌ من المرجِع" (1). والأحاديث الصحيحة كثيرة في نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القتال في الفتنة، بل عند التداعي بسعارِها، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سمعتموه يتعزَّى بعَزَاءِ الجاهلية فأعِضوهُ هَنَ أبيه ولا تكنُوا" (2)، يعني: إذا قال الداعي: يا لفُلان! أو يا للطائفة الفلانية! فقولوا له: اغْضَضْ ذَكَرَ أبيك. وفي الصحيحين (3) عنه أن المسلمين كانوا معه في سفرٍ، فاقتتل - يعني - رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أبدعوى الجاهلية وأنا بينَ أظهرِكم؟ دَعُوها فإنها مُنْتِنَةٌ". وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (4)، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ

_ (1) أخرجه البخاري (3601،7081،7082) ومسلم (2886) عن أبي هريرة. (2) أخرجه أحمد (5/ 136) والبخاري في "الأدب المفرد" (963) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (975،976) عن أبي بن كعب. وانظر كلام الألباني عليه وتصحيحه في "الصحيحة" (269). (3) البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جابر. (4) سورة البقرة: 193.

وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (1). قال ابن عباس: تَبيَضُّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتَسودُّ وجوهُ أهل البدعة والضلالة. وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (2). وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلا فضلَ لعربيّ على عجمي، ولا لعجميّ على عربي، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلاّ بالتقوى، الناسُ من آدمَ وآدمُ من تراب" (3). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسَّهَر" (4). فالله قد جعل المؤمنين إخوةً مع الاقتتال، وأَمَر بالعدل بينهم، فقال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ

_ (1) سورة آل عمران: 102 - 106. (2) سورة الحجرات: 13. (3) أخرجه أحمد (5/ 411) عن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 100) عن أبي نضرة عن جابر، وفي إسناده بعض من يُجهل. وانظر "الصحيحة" (2700). (4) أخرجه البخاري (6430) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير.

أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (1). فجعلنا إخوةً مع الاقتتال والبغي، وأمر بالعدل بينهم. فيجب على كلِّ أحدٍ أن يُعَظِّمَ أهلَ التقوى والحق ويكونَ معهم، سواء كانوا من طائفته أو لم يكونوا، ويَقصِدَ أن يكونَ الدينُ لله لا لمخلوقٍ، فإذا فُضِّل هؤلاء على هؤلاء لم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل يَسعَى بينهم بالعدل والإصلاح. فإذا طُلِب قتلُ الرجلِ في هذه الحال وهو لا يُريد أن يُقاتِلَ أحدًا، فهل له أن يَدفعَ عن نفسِه في هذه الحال؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا يَدفَعُ عن نفسه وإن قُتِل، حتى لا يكون مقاتلاً في الفتنة، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للسائل لما سأله عن ذلك: "دَعْهُ حتى يَبُوْءَ بإثمِه وإثْمِك" (2). والثاني: يجوز لعموم الحديث، والأحاديث الخاصة تُبين أنه نهَى عن القتال في الفتنة وإن قُتِل مظلومًا، ولهذا لم يقاتل عثمان رضي الله عنه، لأنه رأى أن ذلك يُفضِي إلى الفتنة. والله أعلم.

_ (1) سورة الحجرات: 9 - 10. (2) أخرجه مسلم (2887) عن أبي بكرة.

(50) مسألة في سؤال منكر ونكير، وهل نعود الروح في جسد الميت عند ذلك؟

مسألة سؤال منكر ونكير، الميتُ إذا ماتَ تدخل الروح في جسده ويجلس ويُجاوِب منكر ونكير، فيحتاج موتًا ثانيًا؟ الجواب عودُ الروح في بدن الميت في القبر ليس مثل عَودِها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكملَ من بعض الوجوه، كما أن النشأة الآخرة ليست مثلَ هذه النشأة وإن كانت أكملَ منها، بل كل موطنٍ في هذه الدار وفي البرزخ والقيامة له حكم يَخُضُّه. ولهذا أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الميت يُوَسَّع له في قبرِه ويُسْألَ ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير. فالروح تُعادُ إلى بدن الميت وتُفارِقُه، وهل يُسَمَّى ذلك موتًا؟ فيه قولان: قيل: يُسمَّى ذلك موتًا، وتأوَّلوا على ذلك قولَه (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (1). قيل: إن الحياة الأولى في هذه الدنيا، والحياة الثانية في القبر، والموتة الثانية في القبر.

_ (1) سورة غافر: 11.

- الروح تتصل بالبدن وتفارقه متى شاء الله

والصحيح أن هذه الآية كقوله (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (1). فالموتة الأولى قبل هذه الحياة، والموتة الثانية بعد هذه الحياة، وقوله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت. قال: (*مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)) (2)، وقال: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)) (3). فالروح تتصل بالبدن متى شاء الله، وتُفارقه متى شاء الله، لا يتوقَّتُ ذلك بمرّةٍ ولا مرَّتين، والنومُ أخو الموت، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول إذا أَوَى إلى فراشِه: "باسمك اللهمَّ أموتُ وأحيَا". وكان إذا استيقظ يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النُّشُور" (4). فقد سمَّى النومَ موتًا والاستيقاظَ حياةً. وقد قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)) (5)، فبيَّن أنه يتوفَّى الأنفسَ على نوعين، فيتوفاها حينَ الموت، ويتوفّى الأنفس التي لم تَمُتْ بالنوم، ثمَّ إذا ناموا فمن مات في منامِه أمسكَ نفسَه، ومن لم يَمُتْ

_ (1) سورة البقرة: 28. (2) سورة طه: 55. (3) سورة الأعراف: 25. (4) أخرجه البخاري (6312،6314،6324،7394) عن حذيفة. وأخرجه البخاري (6325،7395) عن أبي ذر. (5) سورة الزمر: 42.

أرسلَ نفسَه. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أَوَى إلى فراشِه قال: "باسمك ربّي وضعتُ جَنْبي، وبك أرفعُه، فإن أمسكتَ نفسي فارحمْها، وإن أرسلتَها فاحفظْها بما تحفَظُ به عبادك الصالحين" (1). والنائمُ يَحصُلُ له في منامِه لذّةٌ وألمٌ، وذلك يحصلُ للروح والبدن، حتى إنه يحصلُ له في منامِه من يَضْرِبُه، فيُصبِحُ والوجَعُ في بدنِه، ويَرى في منامِه أنه أطعِمَ شيئًا طيبًا، فيُصْبِحُ وطَعْمُه في فمِه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يَحْصُل لروحِه وبدنِه من النعيم والعذاب ما يُحِسُّ به والذي إلى جَنْبِه لا يُحِسُّ به، حتى قد يَصِيح النائمُ من شِدَّةِ الألم والفزع الذي يحصُل له ويسمع اليقظان صياحَه، وقد يتكلَّم إمّا بقراَن وإمّا بذكرٍ وإمّا بجواب، واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينُه مُغْمَضَة، ولو خُوطِب لم يَستَمعْ، فكيف يُنكَرُ حالُ المقبور الذي أخبرَ الرسولُ بأنه يَسمعُ قرعَ نعالِهم، وقال: "ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم" (2). والقلبُ يُشبَّه بالقبر، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فاتته صلاةُ العصر يومَ الخندق: "مَلأَ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا" (3)، وفي لفظ: "قلوبهم وقبورهم نارًا"، وفرّق بينها في قوله: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)) (4).

_ (1) أخرجه البخاري (6320،7393) ومسلم (2714) عن أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (1370،3980،4026) عن ابن عمر. (3) سبق تخريجه. (4) سورة العاديات: 9 - 10.

وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك، ولا يجوز أن يقال: ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب مثلُ ما يجده النائمُ في منامِه، بل ذلك النعيم والعذاب أكملُ وأبلغُ وأتمُّ، وهو نعيمٌ حقيقي وعذابٌ حقيقي، ولكن يُذكَر هذا المثل لبيان إمكانِ ذلك إذا قال السائل: الميتُ لا يتحرك في قبرِه، أو الترابُ لا يتغير، ونحو ذلك. مع أن هذه المسألة لها بسط يطولُ وشرح لا يحتمل هذه الورقة. والله أعلم.

(51) إذا أدرك الميت في أيام مرضه شهر رمضان، وتوفي وعليه صيامه والصلاة مدة مرضه، ووالداه بالحياة، فهل تسقط الصلاة والصيام عنه إذا صاما عنه وصليا؟

مسألة الميت في أيام مَرَضِه أدركَه شهرُ رمضانَ، ولم يكن يَقدِر على الصيام، وتوفي وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدةَ مرضِه، ووالداه بالحياة، فهل تَسقُط الصلاة والصيام عنه إذا صامَا عنه وصلَّيَا إذا وَصَّى أو لم يُوص؟ الجواب إذا اتصلَ به المرضُ ولم يُمكِنْه القضاءُ فليس على ورثته الاطعام عنه. وأما الصلاة المكتوبة فلا يُصلَّى عن أحدٍ، ولكن إذا صلَّى عن الميت واحدٌ منهما تطوُّعًا وأهداه له، أو صامَ عنه تطوعًا وأهداه له، نفعَه ذلك.

(52) مسألة في الشهداء: هل يشفع الشهيد منهم في أربعين من أهل بيته أم لا؟ وهل هم سبعة أو تسعة؟ وهل يشفعون جميعهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عاصيا يكون منهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عليه دين أو مظلمة يطالب بها أم لا؟

مسألة في الشهداء، هل يَشفَع الشهيدُ منهم في أربعين من أهلِ بيته أم لا؟ وهل هم سبعةٌ أو تسعة؟ وهل يشفعون جميعهم أم لا؟ وهل إذا كان الشهيد عاصيًا يكون منهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عليه دَيْن أو مَظلمةٌ يُطالَبُ بها أم لا؟ الجواب الحمد لله، أما الشهيد المقتول في الجهاد في سبيل الله - وهو الذي يُقتَل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غيرَ مُدبرٍ، ويكون قتالُه لتكون كلمةُ الله هي العليا، لا حميَّةً ولا لدُنْيا ولا غير ذلك - فهذا جاء فيه أنه يُشَفع في اثنين وسبعين من أهل بيته (1). وأما سائر الشهداء فهم أكثر من ذلك، وقد جاء أنهم سبعةٌ (2):

_ (1) وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث المقدام بن معدي كرب الذي أخرجه أحمد (4/ 131) والترمذي (1663) وابن ماجه (2799). وفيه "سبعين". (2) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 233،234) وأحمد (5/ 446) وأبو داود (3111) والنسائي (4/ 13،14) وابن ماجه (2803) عن جابر بن عتيك. وصححه ابن حبان (1616 - موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 352). وهو صحيح بشواهده.

المبطون شهيد، والغريق شهيد، والذي يموت تحت الرَّدْمِ شهيد، وصاحب ذاتِ الجنب شهيد، والمرأة التي تموت بالطَّلق شهيد. وإن كان أحدهم مذنبًا يُرجَى أنَّ الشهادة يُغفَر له بها، لكن حقوق الآدميين دَيْنٌ عليه لابدَّ لصاحبها من استيفائها. والله أعلم.

(53) هل يجوز نقل الموتى من تربة في مكان منقطع إلى تربة مستجدة أم لا؟

مسألة في أقوامٍ لهم تُربةٌ، وهي في مكانٍ منقطع، وقُتِل فيها قَتيلٌ، وقد بَنَوا لهم تُربةً أخرى، هل يجوز نَقْلُ موتاهم إلى التربة المستجدَّة أم لا؟ الجواب لا يُنْبَش الميتُ لأجل ما ذُكِر. والله أعلم.

(54) مسألة في إهداء ثواب الأعمال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى أزواجه وأولاده

مسألة فيمن يَحُضُّ الناسَ من أهل الإيمان على أن يصوموا ويُصلُّوا ويتصدقوا، ويقرأوا القرآن، ويهللوا ويسبحوا، ويسألوا الله أن يتقبلَ منهم، ويُوصِلَ أجورَ ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى أزواجه وأولاده، فَسُئِل عن ذلك، فقال: لأنه كان يُحِبُّ الهدية، ويأمر بها للتحابب، فقيل له: ذلك في الدنيا، فقال: إن الإمام علي رضي الله عنه كان يُضحِّيْ عنه بعد موته، وإن أبي بن كعب قال: إني أُكثِرُ الصلاةَ عليك، فكم أجعلُ لك من صلاتي؟ قال: "ما شِئْتَ"، قال الربع؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: النصف؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: الثلثين؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: يا رسول الله! فاجعلُ لك كلَّها، قال: "إذًا تكفَى هَمَّك، ويُغفَر ذنبُك". فما هذه الصلاة المقسَّمةُ بالربع والنصف والثلثين والكل؟ فإن كانت الصلاةُ عليه فكلُّها له، وللمصلي أجرها، وكانت الزيادة فيها تكون بالأعداد من واحد إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألف، فأكثر من ذلك، فانصرفَ المفهومُ أنها صلاةُ نوافلِه وتطوعاتِه، وأنْ يَجعَلَ له ربعَها ونصفها وثلثيها وكلَّها، فهل أصابَ فيما أمرَ به وحَضَّ عليه؟ وبَنَى على ما رواه الدارقطني: أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، كان لي أبوانِ، وكنتُ أبرُّهما حالَ حياتهما،

- ذهب إليه طائفة من المتأخرين

فكيفَ لي بالبرِّ بعد موتهما؟ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من البر بعد البرّ أن تُصَلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصومَ لهما مع صيامِك، وأن تَصَدَّقَ لهما مع صدقتِك". فقيل: إن عمل الولد من الخير ملحقٌ بالوالدين، لوجوبِ حقِّهما. فقال: حقُّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبُ، وحق أزواجه أمهاتِ المؤمنين أوجبُ من أمهاتِ الأولاد. فقيل له: فهلاَّ فعلَ أبو بكر ذلك؟ قال: وما يُدرِيْك؟ قد فعلَه عليٌّ رضي الله عنه حين ضَحَّى عنه. فقيل: إن النبي دعا الناسَ إلى الهدَى والخيرِ كلِّه، وله أجرُ كلِّ من تَبِعَه. فقال: إن الواحديَّهَ حقٌّ لله في الأزل والأبد لا يُزِيلُها إنكارُ منكرٍ لها، ويثابُ المقر بها طوعًا راضيًا مختاراً، والكون وما فيه مُلْكُه ثانيًا لا يُزِيلُه ملكُ مالكٍ، ونحن نتقرَّبُ منه بِشِقِّ تمرةٍ. فما الحكم في ذلك مع صحة القصد وما ذهب إليه من التأويلات؟ أفتونا مأجورين. أجاب رضي الله عنه أما ما ذهب إليه هذا المسئول عنه مِن إهداءِ ثواب القُرباتِ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد ذهب إليه طائفة من المتأخرين من الفقَهاء والعُبَّاد، ولكن لم يسلكوا هذا الطريقَ التي ذكرتَ عنه، ولكن بَنَوا ذلك على

- مستندهم في ذلك

إن إهداء ثواب القُرَب إلى موتى المؤمنين جائز، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل المؤمنين، ولاَ ريبَ أن الصدقة عن الميت جائزة باتفاق العلماء، وكذلك سائر العبادات المالية، هان تنازع الأئمة في العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة، فمنهم من سَوَّى بين النوعين كأحمد، وهو المذكور في كتب الحنفية، وذهب إليه طائفة مِن أصحاب مالك والشافعي، ولكن أكثر أصحاب مالك والشافعي فرَّقوا بين العبادات البدنية والمالية، لأن المالية يدخلها النيابة والتوكيل، فيجوز للرجل أن يَستنيبَ في صدقتِه، ولا يجوز له أن يستنيبَ في صلاته وصيامه. والأولون أجابوا عن هذا من وجهين: أحدهما: أن النيابة في العبادات البدنية تجوز للحاجة، كما ثبتَ في الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من مات وعليه صيامٌ صامَ عنه ولله"، ولكن فرض الصلاة لا نيابة فيه، لأن الإنسان لا يَعجز عما وجب من الصلاة، فلا عذرَ له في (2)، والصوم له بَدَلٌ وهو الإطعام، كما قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (3)، فلما نُسِخَ ذلك وتعيَّنَ الصيامُ على القادر بقي العاجزُ كالشيخِ الذي لا يُرجَى قدرتُه والمريضِ المأيوسِ من بُزْيه، فإنه يُفطِر باتفاق العلماء، وأكثرهم

_ (1) البخاري (1952) ومسلم (1147) عن عائشة. (2) هنا كلمة مطموسة في الأصل. (3) سورة البقرة: 184.

يوجبون عليه الفِدْيةَ، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، أما مالك فلا يُوجِب عليه فديةً. وأما الصوم عن الميت فقيل: لا يُصام عنه بحالٍ، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، لكن الشافعي وطائفة يقولون: يُطعَم عنه إذ الإطعامُ هو البدل، وقيل: بل يُصام عنه الفرضُ والنذرُ، وهو قول للشافعي، وقيل: يُصام عنه النذر، وأما الفرض يُطعَم عنه، وهو مذهب أحمد وغيره اتباعًا لابن عباس في تفريقه بينهما، وهو الذي روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليّه" (1)، ورَوَتْه عائشة أيضًا (2)، وكلا الحديثين في الصحيح، وقد جاء حديث ابن عباس مفسّرًا في النذر كما في الصحيحين (3) عنه: "أن امرأة قالت: يا رسولَ الله! إن أمي ماتتْ وعليها صومُ نذرِ، أفأصومُ عنها؟ قال: "أرأيتِ لو كان على أمّكِ دَيْنٌ فقضيتِه أكان يُؤدِّي ذلك عنها؟ "، قالت: نعم، قال: "فصُومي عن أمكِ". وفرقوا بين الفرض والنذر بأن الله قد جعل لما فرضه بدلاً، وهو الإطعام من مال من وجب عليه، كما جعل في الكفارة من عجز من صوم الشهرين المتتابعين أطعم ستين مسكينًا، والبدل من ماله أولى من بدن غيره، والله لا يوجب على عباده ما يَعجِزون

_ (1) سيأتي لفظه برواية ابن عباس. (2) سبق تخريجه. (3) البخاري (1953) ومسلم (1148).

- ويقول: إن إهداء ثواب العمل إلى الميت ليس نيابة عنه

عنه، ولهذا لو استمر به المرض المرجوُّ إلى ما بعدَ رمضانَ ولم يتمكنْ من القضاء فلا إطعامَ عنه ولا قضاءَ باتفاق الأئمة، بخلاف ما أوجبه العبد على نفسِه فإنه قد يُوجب ما يَعجِزُ عنه، كما يَستدينُ ما لا يُطِيق وفاءَه، فيكون فعلُ الغيرِ عنه كقضاءِ الذَينِ عنه، وذلك جائز. وحقيقة هذا القول أن من عَجَز عن الصيام والفدية فلا شيء عليه، فلا يحتاج أن يصوم عنه، ومن قَدَر على أحدِهما فلا بد له من أحدهما. والمقصود هنا أن الشارع سَوغ الصومَ عن الميت كما سَوغ الحج عنه في الجملة، فلا يجوز أق يقال: لا تدخله النيابة بحالٍ. والوجه الثاني: أنهم قالوا: إهداء ثواب العمل إلى الميت ليس نيابةً عنه، وإنما العامل عَمِلَ لنفسِه لا عن الميت، والإنسان ليس له إلاّ ما سعى، فهذا السعي للحى لا للميتِ، لكن الميت استحق عليه أجرًا من الله، فتبرعَ به للميت كما يتبرع الأجيرُ بأجرتِه لغيره، وإن كان عمله في الإجارة لنفسِه لا للغير، ولهذا يفرق في الإجارة بين من يعمل لغيره وبين من يعمل لنفسه، ويُعطِي الأجرة لغيره، فالأول كالأجير المشترك الذي التزمَ العملَ في ذمته، إذا أعطاه لبعض الناس ليعمل عنه كان ذلك عملاً بطريق النيابة عمَن وجب عليه العمل، وهو نظير قضاء الدين. والثاني كالأجير الخاصّ أو المشترك الذى عَمِلَ ما عليه، وأَخذَ أجرتَه فأعطاها لغيره، ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة لا يُجوزون النيابة في العبادات البدنية، ويُجوزون إهداءَ ثوابها، وكذلك أصحاب أحمد يُجوِّزون إهداء

- احتجاج بعض الناس لعدم وصول ثواب القرب إلى الميت بقوله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)

ثواب العبادة حيث لا يُجوِّزون النيابةَ، حتى يُجوِّزون إهداءها إلىَ الحي في أصح الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد، وفي إهداء ثواب الفريضة لهم وجهان. وبعض الناس يَحتجُّ على أنَّ إهداء ثواب القُرَب لا يَصِلُ إلى الميت بقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (1). واَحتجاجُه بهذه الآية حجة باطلة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فإن القرآن قد دلّ على الاستغفار للمؤمنين، كما في استغفار الملائكة والأنبياء لهم، وذلك ليس من سَعْيِهم، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)) (2) الآية، وقال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (3)، وقال تعالى عن نوح: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (4)، وقال عن إبراهيم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (5). وقد اتفق المسلمون على سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الصلاة على الميت والدعاء له والشفاعة فيه، واتفقت الأمة على أن الصدقة تنفع

_ (1) سورة النجم: 39. (2) سورة غافر: 7. (3) سورة محمد: 19. (4) سورة نوح: 28. (5) سورة إبراهيم: 41.

- التفسير الصحيح للآية

الميتَ كما ثبت في الصحيحين (1): أن سعدًا قال: يا رسول الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسَها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدقْ عنها؟ قال: "نعم ". فما كان جوابُ هذا المحتجّ عن الدعاء والصدقة عن الميت كان جوابًا لغيره عن الصيامِ عنه ونحوِ ذلك من العبادات. وقد ذكر الناس عن الآية أجوبةَ متعدد (2)، على أنها منسوخةٌ، وقيل: مخصوصة، وقيل: مختصة بشرعِ مَن قبلنا، وقيل: سببه الإيمان الذي هو شرط وصول الثواب من سَعْيِه. والآية لا تحتاج إلى شيء من هذا، فإن الله أخبرَ عما في الصحف أنه (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (3)، ولم يقل: لا يَنتفعُ إلاّ بما سعى، وأنَ الإنسان فيما ينتفع به في الدنيا قد ينتفع بما يَملِكه وبما لا يَملِكه، فلا يلزم من نَفْيِ الملكِ نَفْي الانتفاع، لكن هو يستحقُّ الثوابَ على سَعْيِه لأنه حفُه، فلا يَخاف منه ظلمًا ولا هَضْمَا، وأما سعيُ غيرِه فهو لذلك الغير، فإن سعَى له ذلك الغيرُ أثابَ الله ذلك الساعيَ على سَعْيه، ونفعَ هذا مِن سَعْيِ ذلك بما شاء، كما يثيبُ الداعيَ على دعَائِه لغيره وينتفع المدعوُّ له. كما ثبت في الصحيح (4) أنه قال: "ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهرِ الغيبِ

_ (1) سبق تخريجه. (2) انظر تفسير القرطبي (17/ 114 - 115). (3) سورة النجم: 39. (4) سبق تخريجه.

بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلما دعا لأخيه بدعوةٍ قال الملكُ الموكَلُ به: آمين، ولك بمثلٍ ". ومن ذلك: الصلاة على الميت، فقد ثبتَ عنه أنه قال: "من صلَّى على جنازةٍ فله قيراط" (1)، وثبت عنه: أن الله يقبل شفاعة مائةٍ (2)، ورُوِيَ أربعين (3)، ورُوى ثلاثة صفوف (4). فهو يثيب الداعيَ وينفع المدعوَّ له، وكذلك المتصدّق عن الميت بما يصل إليه من ثواب الصدقة. ومن هذا الباب الصلاةُ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطلبُ الوسيلة، كما ثبت عنه في الصحيح (5) أنه قال: "من صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا"، وقال: "ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبدَ، فمن سأل اللهَ لي الوسيلةَ حَفَتْ عليه شفاعتي يومَ القيامة". فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه فِعلُ القرَبِ عن الأموات مطلقًا، وبعضُ الناس يعارض هذا بما ليس بدليل شرعي، بمثل أن

_ (1) البخاري (47، 1325) ومسلم (945) عن أبي هريرة. (2) مسلم (947) عن عائشة. (3) مسلم (948) عن ابن عباس. (4) أخرجه أحمد (4/ 79) وأبو داود (3166) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) عن مالك بن هبيرة السكوني. وحسَّنه الترمذي والنووي في "المجموع" (5/ 212). (5) سبق تخريجه.

- قول بعضهم: إن النبي أجل من أن يهدى له ثواب أو يفعل عنه قربة

يقول عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيره من النبيين أو الصديقين: هذا أجل مِن أن يُهدَى له ثوابٌ أو أن يُفْعَلَ عنه قُربةٌ، ويرى أن هذا من باب الخَفْضِ من منزلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه من باب حاجتِه إلى هذا الفاعلِ. وهذا الكلام ليس بشيء، فإن الله أمرنا أن نصلِّيَ عليه ونسلِّمَ تسليمًا، والصلاة عليه من أفضل العبادات مع الدعاء في الصلاة وغيرها، حتى قال عمر بن الخطاب: "إن الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض، لا يَصْعَدُ منه شيءٌ حتى تُصلِّيَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، رواه الترمذي (1) وقال: حديث حسن. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) وغيره أنه قال: "إذا سمعتم المؤذّنَ فقولوا بمثل ما يقول، ثم صَلُّوا على، فإنه من صَلّى عليَّ مرةً صلَّى الله عليه عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبدٍ من عبادِ الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبدَ، فمن سألَ الله لي الوسيلةَ حلَّت عليه شفاعتي يومَ القيامة". وفي السنن (3): "ثم سَلْ تُعْطَه ". فهذه أربعُ سننٍ أُمِرَ بها عند استماع الأذان: أن يقول كما يقول المؤذن، وقد جاء مفسَّرًا بالأمر بذلك في الحَيْعَلَة والحوقَلَة، لأنه دعاء للَادميين لا ذِكْرٌ، فيقالُ ما يُستَعان به على فعلِ ما دُعِيَ العبدُ إليه. ثم أن يصلِّيَ عليه، ثم أن يسألَ له الوسيلةَ، ثم قال: "سَلْ تُعْطَه"، فإن هذا ليس بِمَظَان إجابةِ الدعاء.

_ (1) برقم (486). (2) سبق. (3) أبو داود (524) عن عبد الله بن عمرو.

وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلّوا على فإن صلاتكم تَبلُغني حيثُ ما كنتم ". وعن أبي ليلى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن المَلَكَ جاءني فقال: يا محمد! إن اللهَ يقول لك: أما ترضى إلاّ يُصلِّي عليك عبدٌ من عبادي إلاّ صلَّيتُ عليه عشرا؟ ولا يُسلِّم عليك تسليمةً إلاّ سلَّمتُ عليه عشرًا؟ قلت: بلى أيْ رَب". رواه النسائي (2) وأبو حاتم وغيره. وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من أفضل أيامِكم يومَ الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرِجَ منها، فأَكثِروا فيه من الصلاة عليَّ، فإن صلاتكم معروضة"، قالوا: وكيف تُعرَضُ عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إنّ الله حَرَّم على الأرضِ أن تَأكلَ أجسادَ الأنبياء". رواه أبو داود والنسائي وأبو حاتم في صحيحه (3).

_ (1) سبق تخريجه. (2) 3/ 445. وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 29، 30) والدارمي (2276) وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (915) والحاكم في "المستدرك" (2/ 420)، كلهم من حديث أبي طلحة الأنصاري، لا أبي ليلى. (3) أخرجه أبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/ 91، 92) وابن ماجه (1585، 1636) وأحمد (4/ 8) وابن حبان في "صحيحه " (555) والحاكم في "المستدرك " (1/ 278) ..

- الدعاء مشروع من الأدنى للأعلى ومن الأعلى للأدنى

وفي سنن أبي داود (1) عنه قال: "ما من مسلم يُسلَم على إلاّ رَدَّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام ". وفي النسائي وأبي حاتم (2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لته ملائكةً سيَّاحينَ في الأرضِ يُبلَغونّي عن أمتي السلامَ". والأحاديث في ذلك كثيرة، وهذا مما أجمع عليه المسلمون، والصلاة والسلام [عليه]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي من هذا الباب من باب الدعاء، والدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى، والداعي إذا دعا لغيره أثابَ الله الداعيَ على دعائِه، ونفعَ المدعوَ له بالدعاء، فلم يكن لأحدٍ عليه مِنَّة بصلاتِه عليه وسلامه، إذ كان الله يُصقَي على المصلِّي عليه عشرًا، ويُسلِّم على المسلَمِ عليه عشرًا، فيُعطِيه بالحسنةِ عَشْرَ أمثالها، فللهِ المِنَّةُ على من استعمله في الصلاة عليه والسلام، ولله المنةُ على رسوله وعلى جميع عباده إذ نَصَبَ أسبابًا يَرحمُهم بها، والخلقُ كلُّهم فقراءُ إلى الله تعالى، والله يرحم عباده بما شاء من الأسباب، فمن جَعلَ أحدًا من الأنبياء أو غيرهم مستغنيًا عن مزيد الرحمة والرضوان وعُلوَ الدرجاتِ فهو جاهل بالته، ومن ظنَّ أن دعاء الداعي للأنبياء وصلاته عليهم بل صلاته على المؤمنين منه مِنة عليهم فهو جاهل بذلك، فإن الله يُثيبه

_ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (1114، 9204) وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (914) وأحمد (1/ 387، 441، 452) وا لدارمي (2777) والحاكم في "المستدرك" (2/ 421) وغيرهم.

على عملِه ولا يظلمه، والمنةُ لله على هذا وعلى هذا. ومن هذا الباب دعاء الملائكة للمؤمنين وسائر الأسباب، بل من هذا الباب جميع ما يعمله العباد من القُرَب والطاعات، فإن للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثلَ أجورهم من غير أن يَنْقُص من أجَورهم شيئًا، كما ثبت عنه في الصحيحَ (1) أنه قال: "من دعا إلى هُدً ى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعَه، من غيرِ أن يَنْقُصَ من أجورهم شيئًا، ومن دَعَا إلى ضلالة كان له من الوِزْرِ مثلُ أوزارِ من اتبعَه من غير أن يَنقُص من أوزارِهم شيئًا". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2): "من سَن سنةً حسنةً كان له أجرُها وأجرُ من عَمِلَ بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا". وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد سن سُنَنَ الهدى جميعَها لأمته. ومن هذا الباب يَبيْنَ جوابُ المسألة، فإن القائل يقول: إذا كان إهداءُ القُرَب إلى الموَتى مشروعا وإن كانوا فضلاء، فما بالُ السلف لم يكونوا يفَعلون القربَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن الخلفاء الراشدين؟ بل ولا عن شيوخهم معلّميْهم ومؤدّبيهم الذين علَّموهم العلمَ والإيمان؟ والسلفُ كانوا أحرصَ على الخير منا، فلا يمكن أن يقال: تركوه جهلا به ولا رغبة عنه، وهذا هو الذي يَظهر به إشكالُ المسألة، فإن ما تقدم يَحتبئُ به من يستحب إهداءَ ثواب القرباتِ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء والعبّادَ من أصحاب أحمد وغيرهم، وأقدمُ من بَلغَنا ذلك عنه علي بن الموفق أحد

_ (1) مسلم (2674) عن أبي هريرة. (2) مسلم (1017، وقبل رقم 2674) عن جرير بن عبد الله.

- حجة من لا يستحب إهداء الثواب إلى الميت ويراه بدعة: أن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم بالخير وأرغب

الشيوخ المشهِورين، كان أقدمَ من الجُنيد وطبقتِه، وقد أدرك أحمدَ وعصرَه وعاش بعده. ومن لا يَستحبُّ بل يراه بدعةً -وهو الصواب المقطوعُ به- يحتجُّ بأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم بالخير وأرغبُ، وليس فعلُ [المذكورِ] وأمثالِه ولا قولُ طائفة من متأخري الفقهاء مما يُعارَضُ به أقوالُ السلف. وأما احتجاج المحتجَّ بتضحية علي رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقال له: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي (1) من حديث حَنَش الصنعاني، قال: رأيتُ عليًّا عليه السلام يُضحِّيْ بكَبْشَين، فقلتُ له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاني أن أضحِّيَ عنه، فأنا أُضحِّيْ عنه". وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شَرِيك. ومثل هذا الإسناد قد يقال: لا تقومُ به سنة، فإن حنشًا تكلم فيه غير واحد، قال أبو حاتم: كان كثير الوهم، وشَرِيك بن عبد الله القاضي في حديثه لين. وإن صح هذا الحديث فإنه إنما ضحَّى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإذنه، وهذا جائز ولو لم يردْ هذا الحديث، فإن الميت إذا أوصى أن يُضحَّى عنه كان كما لو أوصى أن يُحجَّ عنه، فإن الأضحية عبادة بدنية مالية كالحج عنه، ولو وصَّى بالصدقة عنه جارْ بإجماع المسلمين، بل

_ (1) أبو داود (2790) والترمذي (1495) وأحمد (1/ 107) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/ 149، 150) من الطريق المذكور.

- الكلام على حديث أبي بن كعب الذي فيه: أجعل صلاتي كلها لك

هذا الحديث إن صح فقد يُستدل به على أنهم لم يكونوا يفعلون عنه عبادة إلا بإذنه، ولو كان مشْروعًا عندهم التضحيةُ عنه بدون إذنه لما أُنكِر ذلك على عليّ، ولبيّن عليٌّ أنه يُشرَع هذا وغيره من الأعمال عنه بغير إذنه. وأما احتجاجه بحديث أبي بن كعب الذي فيه "أجعل صلاتي كلَّها لك، قال: إذًا تُكفَى همَّك ويُغفَر ذنبك"، فيقال له: ليس حَمْلُك هذا الحديثَ على صلاتِه المتطوعة بأولى من حَمْلِ غيرك له على الدعاء، إذ قد سلّمتَ أنه ليس المراد به الصلاة الواجبة ذات الركوع والسجود، فيقال له: كما لم يدخل هذه الصلاة فلا يدخل ما كان من جنسها وهو التطوع، فإنهما من جنس واحد، ولم يُعرَف أن في السنة أن يكون جميع ما يتطوع به العبد من الصلاة لغيره، كما لم يُعرَف مثل ذلك في الصيام والحج. فإن قيل: يحصل له من أجر الإهداء أكثرُ من ثواب التطوع، قيل: فسَوُّوا ذلك في الفريضة، واجعلوا من المسنون أن يُهدِيَ الرجلُ ثوابَ فرائضه لبعض الموتى، ويكون ما يحصل من ثواب ذلك أعظمَ من أجر الفريضة مع أن ذمته بريئة. وقد تقدم أن في إهداء ثواب الفريضة قولين في مذهب أحمد وغيره. والذين جوزوا ذلك قالوا: الفرضُ له مقصودان: براءة الذمة باندفاع العقاب، وحصول الأجر والثواب، فأما براءة الذمة وهو الذي امتاز به عن النافلة فلا يمكن إهداؤُهُ، وأما الأجر وهو المشترك بينهما فيمكن إهداؤُهُ، ولا ريبَ أن الحديث لا يمكن

- الكلام على حديث الدارقطني: إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك

حَمْلُه على الصلاة عليه كما ذكر السائل. بَقِيَ المفهومُ الثالث وهو الدعاء، فإن الصلاة من أهل اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (1)، فيكون هذا السائل له دعاء يدعو به لنفسه، فيمكن أن يجعل ثُلثَه دعاءً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالصلاة عليه صلاة، ويمكن أن له شَطْرَه، ويمكن أن يكون جميعُ دعائِه دعاءً للنبي، مثل أن يُصلِّي عليه بدلَ دعائه. وقد ثبتَ (2) أنه من صلَّى عليه مرة صلَّى الله عليه عشراً، فيكون أجر صلاته كافيا له، ولهذا قال: "يَكفِيْ همَّك ويَغفِر ذنبَك"، أي إنك إنما تطلب زوالَ سبب الضرر الذي يُعقِب الهمَّ ويُوجب الذنب، فإذا صليتَ على بدل دعائك حصل مقصودك، وهذا معنى مناسب، فإنه قد ثبت (3) أن من دعا لأخيه بظهر الغيب بدعوةٍ قال الملَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمثلٍ. وثبت عنه (4) أنه قال: "واللهُ في عونِ العبد ما كان العبدُ في عون أخيه"، فإذا كان بدلَ دعائِه لنفسه يدعو للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصلَ له أعظمُ مما كان يطلب لنفسه. واحتجاجه بحديث الدارقطني يقال له: إنما في الحديث فعل العبادات عن الوالدين، وهذا في العبادات المالية متفق عليه بين الأئمة، وإنما تنازعوا في النذر، وقد ذكر مسلم في صحيحه (5) عن

_ (1) سورة التوبة: 103. (2) سبق تخريجه. (3) سبق. (4) مسلم (2699) عن أبي هريرة. (5) 1/ 16.

- احتجاج بعض المتأخرين بأحاديث رويت فيمن مر على القبور فقرأ كذا وكذا

أبي إسحاق الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك: الحديث الذي جاء في البر بعد البر أن تُصلِّيَ لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، قال فقال عبد الله: يا أبا إسحاق! عمن هذا؟ قلت له من حديث شهاب بن خِراشٍ، قال ثقة، قال: عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قلت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: يا أبا إسحاق! إنَّ بين الحجاج بن دينار ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفاوزَ تَنقطعُ فيها أعناق المَطِيِّ. وليس في الصدقة خلاف. ولو احتجّ في هذا الباب بحديث عمرو لكان أقوى، كما في مسند أحمد (1) عن عبد الله بن عمرو أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بَدَنةٍ، وأن هشام بن العاص نحرَ حصتَه خمسين، وأن عمرًا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: "أما أبوك فلو أقرَّ بالتوحيد فصمتَ أو تصدقتَ عنه نفعه ذلك". وقد رواه أبو داود (2)، ولفظه: "لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه نفعَه ذلك". وهذا اللفظ إنما فيه الأعمال المالية. وقد احتجّ بعض المتأخرين من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما بأحاديثَ رُوِيتْ فيمن مرَّ على القبور فقرأ كذا وكذا، وليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية. وقد قدَّمنا أنه ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارضَ لها أن الوليَّ يصومُ عن الميتِ الصومَ الذي نذره كما يحجُّ عنه، وقد جاء ذكرهما في حديث صحيح

_ (1) 2/ 181. (2) برقم (2883).

رواه مسلم (1) وغيره عن بُريدةَ بن الحُصَيب أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفيُجزئ أو يقضي أن أصوم عنها؟ قال: "نعم"، وفي رواية: وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: "صومي عنها"، قالت: يا رسول الله! إنها لم تحجَّ، فقال؟ "حُجِّي عنها". ولا يقال: هذا مختصّ بالولد، ففي الصحيحين (2) عن ابن عباس: أن امرأة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: "أرأيتِ لو كان على أختِكِ دَين أكنتِ تقضيه؟ " قالت: نعم، قال: "فحقُّ الله أحقُّ". وفي رواية (3): أن امرأة ركبتْ في البحر، فنذرتْ إن نَجَّاها الله أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرتْ ذلك، فقال: "صومي عنها". وأيضًا فقوله في الحديث الصحيح: "صام عنه وليُّه" يتناول الولد وغيره ممن يكون وليا للميت، فلا يجوز أن يقال: الحكم مختص بالولد. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (4): "إذا مات ابن آدم

_ (1) برقم (1149). وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 349، 351، 359، 361) وأبو داود (1656، 2877، 3309) والترمذي (667، 929) وابن ماجه (1759، 2394). (2) البخاري (1953) ومسلم (1148). (3) لأحمد (1/ 216). (4) مسلم (1631) عن أبي هريرة.

انقطع عملُه إلاّ من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له". فهنا خصّ الولد بالذكر لأنه استثناه من عمل الميت، وولُده من كَسْبِه، كما قال تعالى: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)) (1) وإن ولده من كَسْبه. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي قال له: إن أبي أراد أن يجتاحَ مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك" (2). وقد قال تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)) (3)، فَجعل الولد موهوباً للوالد، فجعل بيت الولد بيت الرجل في قوله تعالى: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) (4) ولم يذكر بيوت الأولاد، لأن بيت ولدك بيتك، وهذا الحكم مختص بالأب فإنه المولود له، كما قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (5). فلما كان الولد من كسب الوالد استثناه من عملِه المنقطع، كما استثنى ما ينفق من الصدقة والعلم النافع، وهذا مما احتج به من يقول: إن مال الابن للوالد بمنزلة المباح، فيُهْلِكُ منه ما لا يضرُّ بولده. وهذا الحديث لا يدل على أن غير الولد لا ينفع دعاؤه

_ (1) سورة المسد: 2. (2) أخرجه، ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله، وفي الباب عن جماعة من الصحابة خرَّج أحاديثهم وتكلَّم عليها الألباني في "إرواء الغليل" (838) وصحَّحها. (3) سورة الشورى: 49. (4) سورة النور: 61. (5) سورة البقرة: 233.

للميت، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين. إذ هم متفقون على أن الدعاء والصلاة على الميت ينتفع بها، سواء كانت من ولده أو من غير ولده، فهذا بيان أن الحكم لا يختص بالولد أن ذلك لوجوب حقهما، فلا حاجةَ إلى تعليل ذلك بوجوب حقهما. وأما جوابه لمن قال له: "النبيُّ قد دعا إلى كل خير، فله أجر من اتبعه " بأنّ الواحديَّهَ لله حق ثابت، وكل شيء له، ونحن نتقرب إليه بشِقِّ تمرة -فهذا مثلٌ ضعيف، وذلك أن الأشياء كلها لته ملكٌ له، إذ هو خالقها وربّها ومليكها، وله أسلمَ من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا، وهذا الملك لا يتعلق به ثوابُ العباد ولا عقابُهم ولا وعدُهم ولا وعيدُهم، فإن هذا حكم ربوبيته الشاملة وقدرته الكاملة، التي تتناول المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، وأما تقربُ العباد إليه فهو بالفعل الذي يحبه ويرضاه لهم، وهذا مما افترقوا فيه. فبعض العباد آمنَ به وعبدَه وأطاعَه وفعلَ ما يحبه ويرضاه، وبعضهم كفرَ به وفسقَ وعصى، وكلاهما يتناوله حكم ربوبيته وقضائِه وقدرِه، والذي يتقرب إليه بشقِّ تمرة إذا أقرضَه قرضًا حسنًا لم يدخل في ملكه ما لم يكن فيه، بل جميع ما بذله بل هو وفعله وقدرته داخل في ملك الرّب وقدرته، سواء كان المبذول من رضاه أو سخطه، لكن بِبذلِه في الجهة التي يُحِبُّها ويرضاها صار العبد مستوجبًا لما وعده في تلك الجهة، كما أن حركات بدنه هي مخلوقة له على كل حال، فإن كانت حركة يحبها ويرضاها أثابه عليها، وإن كانت حركة يكرهها ويسخطها عاقبه عليها، وهذا يتعلق بحكم إلهيته وأمره الديني الشرعي الذي هو

- الفرق بين الأمر الديني والأمر الكوني

الفارق بين أوليائه وأعدائه. قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)) (1)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)) (2)، وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)) (3). والأول يتعلق بحكم ربوبيته وأمره الكوني الشامل لوليه وعدوه، كما قال: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)) (4). وقد بسطنا الكلام على هذا المقام الذي ضلَّت فيه أممٌ من الأنام، وبينا الفرقَ بين كلماته الدينية والكونية، وإرادته الكونية والدينية، وإذنه الكوني والديني، وكذلك حكمه، وأمره، وتحريمه، وبعثه، وإرساله، والفرق بين الحقيقة الكونية التي يُقِرُّ بها المشركون وهي الحقيقة القدرية، وبين الحقيقة الدينية الحَي يختص بها المؤمنون، وكيف اشتبه على كثير من الخائضين في الحقيقة هذا الباب بهذا الباب، حتى لم يفرقوا بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والخطأ والصواب، بل آل الأمر بكثير منهم إلى أنهم لم يفرقوا بين الخالق والمخلوق، حتى دخلوا في الحلول والاتحاد الذي هو من أعظم الكفر وأكبر الالحاد، فالأشياء

_ (1) سورة القلم: 35. (2) سورة الجاثية: 21. (3) سورة ص: 28. (4) سورة هود: 56.

التي هي لله إذا جعلناها له وتقربنا بها إليه بحكم ربوبيته، فليست هذه الإضافة تلك الإضافة، فإن تلك الإضافة إضافتهٌ بحكم ربوبيته، وهذه إضافة إليه بحكم ألوهيته، كما أن لفظ العبد يعني به المعبَّد، فجميع الخلق عباد الله بهذا الاعتبار حتى الكفار والفجار، قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)) (1)، وقد يعني به العابد، فيَختص به المؤمنين الأبرار، كما قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (2)، وقال الشيطان: (وَلَأُغْوِيَنَهُم أَجمعِينَ (39) إِلَّا عبادَكَ مِنهُمُ اَلمُخلَصِينَ (40)) (3)، وقال: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (4)، وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (5)، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (6)، وقال: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) (7). وبهذا يظهر الفرق بين قوله: (وَطَهِّر بَيتِيَ) (8) وقوله: (نَاقَةَ الله وَسُقياهَا (13)) (9)، وبين سائر البيوت والنُّوقِ، فإن سائر البيوت

_ (1) سورة مريم: 93. (2) سورة الحجر: 42. (3) سورة الحجر: 39 - 40. (4) سورة الإنسان: 6. (5) سورة الفرقان: 63. (6) سورة الإسراء: 1. (7) سورة النجم: 10. (8) سورة الحج: 26. (9) سورة الشمس: 13.

والنوق وإن كانت ملكًا لله لكن ليست محلَّ عبادتِه وطاعته والصلاة عليه، كالمساجد التي هي بيوت عبادته، لا سيما المسجد الحرام الذي هو بيت الطواف ببيته والعكوف وتضعيف [الأجر فيه]، فالإضافة العامة بحكم الربوبية الخلقية، وهذه الإضافة الخاصة بحكم الألوهية الأمرية. وكذلك الناقة التي جعلها آية له وجعلها من شعائره وحرماته التي يجب تعظيمها، فالفرق بين هذا البيت وبيت الكنيسة مثلاً كالفرق بين المؤمن الذي هو عبد الله والكافر الذي هو خلقه، وهو معبَّدٌ له وإن كان لا يعبده، وكذلك قوله عز وجل: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (1)، وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (2)، فإضافةُ الأنفال والخمس إليه كالإضافة العامة الثابتة لكل مخلوق، كقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (3). بل هذه الإضافةُ بحكم أمره ودينِه الذي بعث به رسوله، ولهذا قَرنَ هذا بالرسول، فإنّ أمْرَه الذي أمرَ به ما يُحبُّه ويَرضاه هو ما جاء به الرسول، وهذه الأموال الشرعية التي يحكم بها بأمر الله ورسوله ليست كالأموال التي ملكها لعباده. ولهم أن يفعلوا فيها ما أحبوا إذا لم يكن محرمًا، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسمٌ أَضَع حيثُ أُمِرْتُ" (4).

_ (1) سورة الأنفال: 1. (2) سورة الأنفال: 41. (3) في مواضع كثيرة من القرآن. (4) أخرجه البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية.

وهذا باب قد نبهنا على أصله، وبينا الفرقَ بين النوعين، وإذا كان كذلك ظهر ضعف القياس الذي قاسَه، وتبين أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عمل المؤمن من أمته عملاً فله مثل أجره، فإذا أهدى له ثوابه فإنما أهدى له مثل ما حصل للرسول سواء بسواء، وهما من جنس واحد ومقدار واحد، وإنما ملكه الرب لعباده إذا أنفقوه في طاعته، فليس كونه أنفق حيث يحبه ويرضاه مثل كونه مملوكًا ملكًا قدره وقضاه. يُبيِّن هذا أن الله سبحانه هو يملك الأموالَ المحرمة في الشريعة، فالظالم والغاضب إذا أخذ مالاً فالله هو أيضًا مالكه، وقد ملَّكَه إياه قدرًا لا شرعًا ودينًا، ولو أنفقَ منه لم يتقبل الله منه، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله لا يتقبل صلاةً بغير طهورٍ ولا صدقةً من غلولٍ" رواه مسلم (1) وغيره، فالنفقة المقبولة لابد أن تكون من مال أُذِنَ في إنفاقه شرعًا، لا يكفي الإذن القدري الكوني، واسم الرزق في كتاب الله يُرادُ به ما مُلِكَ شرعًا ويراد به ما يتنعَّم به الحيُّ، فالأول يختص بالحلال، والثاني يتناول كل ما ينتفع به الحيوان وإن [كان] مما لا يملك كالبهائم، وإن كان حرامًا، فالأول كقوله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)) (2)، والثاني كقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (3). والقدرية منعوا أن يكون الحرام مرزوقًا

_ (1) برقم (224) عن ابن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 19، 39، 51، 57، 73) والترمذي (1) وابن ماجه (272). (2) سورة البقرة: 3. (3) سورة هود: 6.

- من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - له مثل أجور أمته، فلا حاجة إلى الإهداء

بناءً على أصلهم في أن الله لم يخلق أفعال العباد، فتناول العبد له ليس عندهم مقدورًا لله، ولا هو ملكه إياه، وهو قول باطل. فإن قيل ما ذكره المعترض عليه -من كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له مثل أجور أمته، فلا حاجةَ إلى الإهداء- ضعيف من وجهين: أحدهما: أن الابن من كَسْبِ أبيه، ودعاؤه مستثنى من عمله المنقطع، ومع هذا فالابن يتصدق عن أبيه بالسنة والإجماع، وكذلك يحج عنه، بل ويصوم عنه، بالسنة الصحيحة. الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا حصل له مثل أجر العالم من أبيه أمكن أن يحصل له مثل ذلك أيضًا بطريق الإهداء إليه، فلا منافاةَ بين الأمرين. قيل عن الأول من وجهين: أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل للأب مثلَ عملِ جميع أمته، ولا يعلم دليلاً على ذلك، وإنما جعل ما يدعوه الابن له من عمله الذي لا ينقطع، بخلاف الداعي إلى هدى كان له، حصل له مثل أجر المدعوّ، وهذا الفرق ظاهر، وهو أن الداعي إلى هدى أراد إرادة جازمة فعلَ ذلك الهدى بحسب قدرته، وهو لم يقدر إلا على الأمر به والدعاء إليه، ومن أراد عملاً إرادةً جازمة وعمل منه ما يقدر عليه كان بمنزلة العامل له، كما قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع، وبينا فصلَ الخطاب فيما تنازع الناس فيه من الإرادة ونحوها من أعمال القلوب إذا لم يدربه من عمل الجوارح، هل

يترتب عليه عقاب أم لا؟ فمن الناس من جزم بالأول، ومنهم من جزم بالثاني، وقد يحكى ذلك إجماعًا. واحتجّ هؤلاء بأحاديث الهمِّ (1) ونحوها، وهؤلاء بقوله؟ "إنه أراد قتلَ صاحبه" (2)، وقوله: "فهما في الأجر سواءٌ" (3) ونحوهما. وقد بينا أن الإرادة الجازمة لابد أن يدربها من عمل الجوارح ما يَقدر عليه العبد، وحينئذٍ فيترتب عليها العقاب، كالذي يَهُمُّ بالذي يتمنى وينظر، ويفعل بعض المحرمات ويترك الباقي عجزًا، كالذي أراد قتل أخيه بذل مقدوره في قتله حتى قتل، بخلاف من هَمَّ ولم يفعل مقدورَه كالذي همَّ بسيئةٍ ولم يفعلها أصلاً، فهذا لا تكون إرادته جازمةً. وكذلك قوله: "فهما في الأجر سواء، وهما في الوزر سواء"، لأن كلاًّ منهما قال بلسانه: لو أن لي مثلَ ما لفلانٍ لفعلتُ فيه مثلَ ما فعل، فلما أراد إرادة جازمة وفعل مقدوره صار كالفاعل. والله تعالى في كتابه ذكر الفعلَ، وذكر ما يتولَّد عنه، وجعله من عملِ العبد، كما في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ

_ (1) منها حديثا أبي هريرة وابن عباس في الصحيحين، انظر صحيح البخاري (42، 6491) وصحيح مسلم (128 - 131). (2) أخرجه البخاري (31، 6875، 7983) ومسلم (2888) عن أبي بكرة. (3) أخرجه أحمد (4/ 230، 231) والترمذي (2325) وابن ماجه (4228) عن أبي كبشة.

الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (1)، فهذه الأمور لم يفعلوها، ثم قال: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ) (2)، فالإنفاقُ وقطع الوادي نفس عملهم، فكتب، وما تقدم أثر عملهم الصالح، فكتب لهم به عمل صالح، كدعاء الولد فإنه أثر عمل الوالد، وإن كان الوالد لم يقصد دعاءه، كما لم يقصد هؤلاء ما حصل من الظمأ والمخمصة والنصب، وأما الداعي إلى الهدى فهو قصد هدى المدعوين ولم يفعلوا ما أمرهم به، وبذل مقدوره في فعلهم، فصار قاصدًا للفعل عاملاً ما يقدر عليه في حصوله، فله أجر الفاعل، وكذلك من سَنَّ سنةً حسنةً ومن سَنَّ سنة سيئةً، والبيان للفعل الذي هو رَسَمَه ليُحتَذَى، فهو يقصد أن يُتَّبع فيه. فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أول من سنَّ القتلَ". وهو لم يقصد أن يقتل كل قاتل. قيل: هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل هنا إنَّ عليه مثلَ ألمِ كل قاتل، بل قال: "عليه كِفلٌ من دمها"، لأن ذلك من أثر فعلِه، كما كتب ابتداءً بهذا الفعل، وقد قال تعالى في حق أئمة الكفر: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ

_ (1) سورة التوبة: 120. (2) سورة التوبة: 121. (3) البخاري (3335، 6867، 7321) ومسلم (1677) عن ابن مسعود.

مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)) (1)، وقال: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (2). فما تولد عن فعل العبد يحصل له منه ثواب وعقاب وإن لم يقصده، ولكن حصول مثل أجر العامل فرع أخص من ذلك. الجواب الثاني، وهو من الوجه الثاني بأن يقال: إذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحصل له مثل أجر العامل، فأهدى له العامل عملاً، فلابدَّ أن يُثابَ العاملُ على إهدائه، فيكون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل إهداء الثواب أيضًا، فإهداءُ هذا الثواب إن جُوِّزَ لزم التسلسلُ، وإن لم يُجوَّزْ فما الفرق بين عمل وعمل؟ بَخلاف الولد إذا بَرَّ والدَه بدعاءٍ أو صدقةٍ عنه أو نحو ذلك، فإن الله يُثيب الولدَ على ذلك، ولا يلزم أن يحصل للوالد مثل أجر الابن وإحسانه إلى أبيه، لأن الأب لم يدعه إلى هذا الإحسان. ولا يلزم من صلَّى منا أو سلَّم عليه بأن الله يصلّي على المصلِّي عشرًا، ويُسلِّم على المسلم عشرًا، ويحصلُ للرسول مثلُ ذلك لدعائه إلى هذا الهدى، ولا يُفضِي إلى هذا التسلسل، فإن هذا الأجر ليس من عمل المصلي، بخلاف ما إذا أهدى الثواب، فإن إهداء الثواب عمل فيلزم أن يحصل له مثلُه، فإن جوزنا أن يهدى ثواب الإهداء لزم التسلسل. فنحن بين أمرين: إما أن نقول: يُهدَى إليه عملٌ، فيلزم أن يُهدَى إليه ثواب الإهداء،

_ (1) سورة العنكبوت: 12. (2) سورة النحل: 25.

- لماذا لم يكن السلف يحجون ويعتمرون ويذبحون عن أئمتهم؟

وهلم جرًّا، [وهذا] يلزم التسلسل. أو نقول: لا يُهدى إليه، بل ما حصل له من الأجر المساوي لأجر العامل هو غاية المقصود، وعلى هذا لا يحصل التسلسل. وعلى هذا فيقال: لا يُهدى إلى من له مثل ثواب العامل كالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكالمعلم للخير من الشيوخ ونحو ذلك، وهذا موافق لطريقة السلف في كونهم لم يكونوا يُهدُون لمثل هؤلاء لا ثواب العباداتِ البدنية ولا المالية. وأما تضحية علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن صحَّ ذلك فإنه كان بإذنه، كما لو وصَّى بصدقة وغيرها فإنها تنفذُ باتفاق المسلمين، فإن الوصي بمنزلة الوكيل في ذلك، والمُوصِيْ هو العامل لذلك في الحقيقة، كالمستنيب في إيتاء الزكاة وفي ذبح الأضحية وغير ذلك، فليس هذا من هذا، وإنما كانوا يدعون لهم. ولكن يقال: هَبْ أن هذا مستقيم فيما يعمله الإنسان لنفسه من الفرائض والنوافل، فإذا أنشأ عملاً آخر ليجعل ثوابه لهم فما المانع من ذلك من العبادات البدنية والمالية؟ وهلاَّ كان السلف يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويذبحون عن أئمتهم الذين علّموهم الدين؟ وسيد هؤلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الصدقة عن الموتى ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين. فيقال: الجواب عن هذا هو الجواب عن الأول، وذلك أنهم إذا أَهْدَوا لهم ثوابَ عملٍ وجب أن يكون لهؤلاء أجرٌ على هذا الإهداء، وأن يكون لمن دعاهم إلى هذا الخير وعلَّمهم إياه مثل أجرهم كلى ذلك، وهذا الداعي إلى الخير عَنَى أن يهدى إليه ثواب

العمل، فلم يبق في الإهداء فائدة، بل فيه إخراج العامل الثوابَ عن نفسه من غير فائدة تحصل لغيره، إذِ العامل يثيبه الله على عمله، ويعطي من دعاه إليه مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئًا، فإذا أهداه وبَذَل ثوابه لغيره فإن لم يثب على هذا الإهداء بمثل ثواب العمل كان ذلك ضررًا في حقه، من غير منفعة حصلت للمهدى إليه، لأن هذا العامل فاته ثواب العمل أو كمال الثواب، وذلك المهدى إليه كان قد حصل له مثل هذا الثواب، فلم يحتج إليه. ولو قدرنا أنه يحصل له ثوابه مرتين فلا ثواب يبقى لهذا، فالله تعالى لا يأمر بمثل هذا ولا يشرعه، ولا يأمر أحدًا أن ينفع غيره في الآخرة بغير منفعةٍ تحصل له لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل الله تعالى إنما يأمر بالإحسان لأنه يجزي المحسنين على إحسانهم، والجزاء من جنس العمل، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1): "من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كُرَبِ الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سَتَر مسلمًا سَتَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وقال (2): "من صلى عليّ مرةً صلى الله عليه عشرا"، وقال (3): "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال

_ (1) أخرجه مسلم (2699) عن أبي هريرة. (2) أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة. (3) أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء.

الملك الموكل: آمين، ولك بمثل". والأحاديث في ذلك كثيرة. وإن قيل: إنه يثَاب على هذا الإهداء مثل ثواب العمل لزم أن يكون لمعلمه مثل ذلك ولزم التسلسل، فصار الأمر دائرًا بين ضرر العامل -والله لا يأمر به- وبين التسلسل في الجزاء على العمل الواحد، وهو ممتنع، فلهذا لم يشرع مثل ذلك. فإن قيل: فهذا ينقض بدعائه لمن دعاه وعلَّمه ونحو ذلك. قيل: هذا ونحوه من باب المكافأة، كما في الحديث (1): "من أَسْدَى إليكم معروفًا فكافِئُوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه". وقد قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ (60)) (2). وهم إذا كافأوا المحسنَ بالدعاء انتفع بدعائهم له، وحصل لهم ثوابُ المكافأة، فحصل له مثل ثوابهم على المكافأة التي دعاهم إليها فلم يتضرر، وإن لم يتسلسل الأمر بل يكون فعلهم المكافأة له لفعله المكافأة لغيره وسائر ما يعملونه من العدل والإحسان الذي دعاهم إليه. ولهذا جاءت الشريعة في حق نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة عليه والتسليم وسؤال الوسيلة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليما، فنحن إذا صلينا عليه أُثِبْنَا على صلاتنا عليه، وله مثل ذلك الأجر لكونه هدانا إلى ذلك، وذلك من

_ (1) أخرجه أحمد (2/ 68، 99، 127) والبخاري في الأدب المفرد (216) وأبو داود (1672، 5109) والنسائي (5/ 82) عن ابن عمر. (2) سورة الرحمن: 60.

- الفرق بين الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين إهداء الثواب للوالدين ونحوهما

المنفعة التي حصلت له بالدعاء. وبهذا تزول شبه تعرض في هذا الموضع، فإن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى عليّ مرة صلّى الله عليه عشرا" يوهم أنه يحصل للمصلي أكثر ما يحصل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثلها، من جهة كونه دعاه إلى هذا الخير لا من جهة صلاة العبد، ويحصل بصلاة العبد أيضًا ما جعله الله لذلك. فقد ظهر الفرق بين هذا وبين إهدائه لوالديه ونحوهم، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعد بن عبادة بالصدقة عن أمه ولم يكن واجبًا عليها، إذًا ثبت بالسنة أنه يفعل عن الوالد الواجب وغير الواجب، فقد ظهر الفرق من وجهين: أحدهما: أنه لم يثبت أن كل عمل يعمله الولد يكون لأمه أو لأبيه مثل أجره، وإنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفَع به، أو ولد صالح يدعو له" (1). وفي الحديث الآخر: "إن الرجل إذا قرأ القرآن فإنه يُكسَى والداهُ من حُلَلِ الجنة" (2)، ويقال: بأخْذِ ولدِكما القرآن"، ونحو ذلك مما فيه أن الوالد يحصل له نفع وثواب بعمل ولده، لكن لا يجب أن يكون مثله، ولو كان لكل والد من عمل أولاده لكان لآدم

_ (1) أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة. (2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (20/ 72، 73) والبيهقي في "الشعب" (4/ 556، 557) عن معاذ بن جبل. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 160): فيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك، وأثنى عليه هشيم خيرًا، وبقية رجاله ثقات.

من أعمال الأنبياء من ذريته، وكذلك نوح وغيره، وليس كذلك، بخلاف الداعي إلى الخير كنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن له مثل أعمال أمته التي دعاهم إليها، فأجر المعلم الداعي للخير مثل أجر المدعوِّ العامِل، بخلاف الوالد والولد، ولهذا حقّ النبي وخلفائه في دعوته على المدعوين والمعلمين أعظم من حقوق الآباء، كما قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (1)، وفي القراءة الأخرى: "وهو أب لهم" (2). وقد تكلم الناس في هذا المقام بكلام كثير، قالوا: هذا هو الأب الروحاني، وهذا هو الأب الجثماني، وهذا هو سببٌ للسعادة الأبدية من الدار الآخرة، وهذا سببٌ لوجوده في الدنيا. وبالجملة فالداعي إلى الخير قصد أن يعمل المدعوُّ ذلك الخير، وسعى في ذلك بحسب وُسْعِه، فهو قد قصد العمل الصالح الذي فعله المدعو، أو قصد نفع المدعو، وأما الوالد فقد يقصد هذا وقد لا يقصدهُ، ولو قصده بالدعوة إلى حصول المدعو أقرب من نفس وجود الولد إلى حصول سعادته، فإنها هي السبب القريب ووجود السبب البعيد، ومعلوم أن الإنسان يجب عليه إن يطع معلِّمَه الذي يدعوه إلى الخير ويأمره بما أمره الله به ورسوله، ولا يجوز له أن يطيع أباه في مخالفة هذا الداعي، بل طاعة هذا الداعي طاعة لله ورسوله، وطاعة الوالد لمخالفة هذا الداعي طاعة

_ (1) سورة الأحزاب: 6. (2) انظر تفسير القرطبي (14/ 123).

للشيطان، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1)، فوصاه سبحانه بوالديه، ثم نهاه عن طاعتهما إذا جَاهَداه على الشرك، فكان في هذا بيان أنهما لا يطاعان في ذلك وإن جاهداه، وأمرَ مع ذلك فصاحِبْهما في الدنيا معروفًا، وأمره باتباع سبيل من أناب إليه، وسبيلُ أهل الإنابة هي سبيل المؤمنين المتقين، أهل طاعة الله ورسوله. فالداعي إلى هذا السبيل هو أمر بما أمره الله به، فيجب عليه طاعته، فإذا أطاعه كان للداعي بمثل أجره. أما الوالد فيصاحبه في الدنيا معروفًا ويُحسِن إليه، وإن من يجب عليك طاعته إلي من تؤمر بمعاشرته بالمعروف والإحسان إليه وتُنهى عن طاعته إذا خالف الأول، فهذا المعلم فأجره أعظم وطاعته أوجب. وأما الوالد فلا يستحق مثل أجر الولد إذا لم يدعه إلى ما عمله، فيكون في الإهداء إليه تحصيل أجر لم يحصل له مثله. وظهر الفرق الثاني، وهو أنه إذا لم يستحق مثل أجره أمكن أن يهدي إليه الثواب، ويثاب الولد على بِرِّهما بذلك، فيكون له مثل أجر بره لهما، فلا يُفضِي ذلك إلى التسلسل في ثواب العمل الواحد، ولا إلى تضرُّرِ الولد، فلهذا كان مشروعًا مسنونًا، ولو قُدِّر أن المعلم كان والدًا، وعلَّم ولدَه الخيرَ كلَّه، كان له مثلُ أجر عمل

_ (1) سورة لقمان: 14.

الولد من حيث هو معلم، وله أجر بعمله الصالح، وإن لم يكن مثل أجر الوالد، والولد إذا تصدّق عن هذا من حيث هو والده كان هذا أيضًا مشروعًا لما تقدم. وتبين بهذا الجوابُ عن الوجه الثاني، وهو قوله "يمكن حصول الثواب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين" بوجهين أيضًا، أحدهما: أن ذلك يُفضِيْ إلى التسلسل، إذا كان للعامل بإهدائه مثل أجره وإن لم يكن له أجر، فقد تبين بما ذكرناه ما يعلم به جواب السؤال. وقول القائل "حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب من حق الوالد" كلام صحيح، إذ حقه بوجوب طاعته، فله بمثل أجرها بخلاف الوالد كما تقدم. وأما أزواجه أمهات المؤمنين فلهن من الاحترام ما ليس لأم الوالدة، ويحرم نكاحهن كما يحرم نكاح أم الولادة، لكن أم الولادة ذات محرم يجوز الخلوة بها والنظر إليها والسفر معها، كما يجوز لسائر ذوات المحارم. وأما أمهات المؤمنين فلا يجوز ذلك في حقهن إذ هن أمهات في الحرمة لا في المحرمية. وأما قول القائل: "هلا فعل ذلك أبو بكر وعمر" فكلام صحيح، وأما قول الآخر "وما يُدرِيك قد فعلَه عليٌّ حينَ ضحَّى عنه" فليس بجواب صحيح، فإنا نعلم أنه لم يكن يفعل ذلك لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وتضحية عليّ إن صحَّ الحديثُ فيها فإنما فعله بإذنه كما تقدم، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه من باب النيابة عن الوصي، وقد تقدم أن نفس حديث التضحية ما

يدل على أنه لا يفعل هذا وأمثاله بغير إذنه، فإن في الحديث أن حنش الصنعاني قال: رأيتُ عليًّا يضحِّي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه. فسؤال حنش لعلي دليل على أنه لم يكن من المعروف عندهم أن تُفعَل العباداتُ البدنيةُ أو الماليةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجوابُ علي له بقوله "إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاني أن أضحِّي عنه" دليل على أنه إنما فعل ذلك لأجل الوصية، وأنه لو لم يُوصِّه لم يفعل ذلك. ولو كان هذا ونحوه مما يُفعَل بوصية وبغير وصية لكان عليّ يجيب بهذا الجواب أيضًا، فإنه يكون أعم فائدة وأقطع لسؤال السائل، لأنه هو الذي نقل أنه وصاه، وأما كون ذلك يفعل عنه فدليل هذا يشترك فيه عليٌّ غيرَه، ثم كان ينتفع بذلك في جميع العبادات أو في العبادات المالية. وأما قول القائل: "إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دعا الناس إلى الهدى والخير كله، وله أجر كل من اتبعه" فكلام صحيح كما تقدم، لكن قد تقدم فساد هذا القياس وبطلان هذا، وتبين أن كونه سبحانه وتعالى مالكًا لكل شيء وربّه وخالقه لا يستلزم وجود الإيمان والعمل الصالح من العبد إلا بأمره بذلك وبهديه إليه، فإنه سبحانه رب المؤمن والكافر والبر والفاجر، وله الدنيا والآخرة، وهذه الربوبية العامة الشاملة لكل شيء يشترك فيها أولياؤه وأعداؤه، وأهل جنته وناره، وإنما يفترقون في توحيد إلهيته، وهي عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله، فمن قام بهذا التوحيد والطاعة كان مؤمنًا سعيدًا، ومن لم يقم بها كان كافرًا شقيا، وأنه

- عودة إلى الكلام على الفرق بين الحقائق الكونية والحقائق الدينية

ربُّ هذا وهذا: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)) (1). وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل العظيم في مواضع كثيرة، وبيّنا ما وقع من غلط الغالطين الذين لم يفرقوا بين الحقائق الكونية المتعلقة بمشيئته، وبين الحقائق الدينية المتعلقة برضاه ومحبته وإلهيته، فإن الحقيقة الكونية أقرَّ بها اليهود والنصارى بل المشركونِ عُبَّادُ الأصنام، كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (2)، وقال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (85) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)) (3). وكثير من أهل السلوك يشهدون هذه الحقيقة وتوحيد الربوبية، فيظنون أنهم وصلوا إلى الغاية المطلوبة من أهل التحقيق والمعرفة والتوحيد، حتى إن منهم من يكون في الباطن من المعاونين للكفار والفسَّاق بحاله، ويظن أنه متصرف بأمر لمشاهدته الحقيقة الكونية،

_ (1) سورة الإسراء: 18 - 20. (2) سورة لقمان: 25، سورة الزمر: 38. (3) سورة المؤمنون: 84 - 89.

ومنهم من يظن أنه من وصل إلى مشاهدة هذه الحقيقة سقط عنه الأمر والنهي الشرعيان، ومنهم من قد يتوهم أن وجود الخالق هو المخلوق فيقع في وحدة الوجود، فيكون في أول أمره يقول (1): الربُّ حقّ والعبد حقّ يا ليتَ شِعْرِيْ مَنِ المكلَّفْ إن قلتُ عبدٌ فذاك ربٌّ أو قلت ربّ أنَّى يُكَلَّفْ وفي آخر أمره يقول: فالآمر الخالق المخلوق، والآمر المخلوق الخالق، والعلم والعالم هويته وصورته، وهو الموصوف بكل مدح وذم وكل جمال وكل نقص، وأمثال ذلك مما قد عُرِفَ من كلام هؤلاء الملحدين الذين يقولون من الكفر ما لم يقله اليهود ولا النصارى ولا عُبَّاد الأصنام، ويدَّعون أن هذا تحقيق وعرفان وتوحيد. وأصل ذلك عدم الفرق بين ما يحبه ويرضاه وما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان قد قدَّره وقضاه، فيجعلون المخلوقات متساوية، ثم يسوُّون بين الخالق والمخلوق، ويجعلونه إياه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، ولهذا يُفرق بين عباد الله: بين العبد الذي عبد الله بقدرته ومشيئته وربوبيته، وبين العابد الذي عبد الله فعبده وحده لا يشرك به شيئا، وأطاع أمره الشرعي الديني، فالأول كقوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)

_ (1) انظر الكلام على البيتين وبيان ما فيهما من الإلحاد في "مجموع الفتاوى" (2/ 111 - 120).

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94)) (1)، والثاني كقوله: (إِنَ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلْطَان) (2)، وقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (3)، وقوله: (عَينًا يشرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)) (4)، وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (5)، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (6)، (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) (7)، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) (8). وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في الفرق بين الإرادة الكونية والدينية، كقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (9)، وقوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (10)، وبين الأمر الكوني والديني، والإذن الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، وكذلك القضاء والحكم والكتاب والتحريم وغير ذلك مما يفرق به بين الحقائق الدينية الإيمانية

_ (1) سورة مريم: 93 - 94. (2) سورة الحجر: 42، سورة الإسراء: 65. (3) سورة الفرقان: 63. (4) سورة الإنسان: 6. (5) سورة الإسراء: 1. (6) سورة الجن: 19. (7) سورة البقرة: 23. (8) سورة النجم:10. (9) سورة البقرة: 185. (10) سورة الأنعام: 125.

- التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك لمالكه لوجوه كثيرة

القرآنية النبوية الشرعية الإلهية الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، والحقائق الكونية الوجودية الخلقية القدرية الملكية. فإذا عُرِف هذا فتَقرُّبُ العباد بفعلِ ما أمرهم من صلاة وصدقة وغير ذلك مما يحصل لهم من الإيمان والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه ما يحصل ويستحقون به الثواب في الدنيا والآخرة، وليس بحاصل من مجرد كون الأشياء مخلوقة له، بل إنما يحصل من جهةِ أمره لما يحبه ويرضاه، وإرساله الرسل بذلك وإنزاله الكتب، ودعوتهم للعباد إلى ذلك، ثم هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم. والتقرب إلى الله بالأعمال وطاعته منها ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك لمالكه من وجوه كثيرة، أحدها أن الأمر كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجةً إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً به، وإنما أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وأما السيد والملك فهو يأمر عبده وجنوده بما هو محتاج إليه. وفي الحديث الصحيح الإلهي (1) يقول الله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". وفيه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسَه". وقد قال سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (2)،

_ (1) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر. (2) سورة فصلت: 46، سورة الجاثية: 15.

وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (1)، قال لقمان: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (2)، وقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (3). فهو سبحانه يبين غناه عن أعمال خلقه، وأنهم إنما يعملون لأنفسهم، وإنما هو سبحانه لكمال إحسانه وإنعامه على عباده المؤمنين أمرهم بالجهاد، وأمرهم بالصدقة، وأخبر أن ذلك نَصْرٌ له، وإقراضٌ منه، فقال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (4)، وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) (5)، وهم إنما يجاهدون ويتصدقون بإعانته لهم، وهو المحسن بالأمر إليهم، وهو المحسن بالإعانة لهم، وهو المحسن بالجزاء لهم، وقد قال تعالى (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (6). وكذلك لو شاء أن يغني الفقراء فلا يقترض لهم من الأغنياء ما يثابون عليه إذا أعطوه لهم، وهذا النصر له والقرض بحكم إلهيته المتضمنة لعبادته وحده لا شريك له وطاعته طاعة رسوله، ثم الذي هو يخلق ذلك ويُبَشِّره بحكم ربوبيته، فله الحمد في الأولى

_ (1) سورة الإسراء: 7. (2) سورة لقمان: 12. (3) سورة آل عمران: 97. (4) سورة محمد: 7. (5) سورة البقرة: 245، سورة الحديد: 11. (6) سورة محمد: 4.

والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. لا رب غيره ولا إله إلا هو، كما أنه هو المنعم بالنعمة، والمنعم بالشكر عليها، والمنعم بجزاء الشاكرين. ولهذا التوحيد أسرار علويةٌ مذكورة في غير هذا الموضع، تتعلق بتحقيق مسائل الصفات والشرع والقدر ليس هذا موضعها، قد نبهنا إليها في غير هذا الموضع. فمن سوى بين ... (1) كان من جنس الذين قال فيهم (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (2)، فإن هؤلاء المجادلين جعلوا اقتراضه كاقتراض المخلوق من المخلوق لحاجته، وكيف يقترض من هو خالق المقترض والمقرض وخالق أعيان ذلك وصفاته وأفعاله، فمن جهة الربوبية العامة الشاملة للبر والفاجر جمع المقرض، ولكن تصح من جهة الألوهية التي أقر بها أهل التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا هو، وأنه المستحق للعبادة والطاعة دون من سواه، فيكونون عابدين له بالجهاد، ولهذا كان الكفار رحمة في حق المؤمنين الذين جاهدوهم فنالوا بجهادهم أعلى الدرجات، وكذلك وجود الفجار في حق من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حتى ينال أعلى الدرجات. وكذلك وجود الفقراء في حق الأغنياء الذين بهم حصل لهم ثواب الصدقات، والله قد ابتلى بعضنا ببعض، فمن أعانه على أن أطاعه في الابتلاء كان الابتلاء رحمة في

_ (1) بياض في الأصل بقدر كلمة. (2) سورة آل عمران: 181.

حقه، بخلاف من خذله فعصاه. ويشهد لهذا الحديثُ الذي في صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن بقضاءٍ إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سَرَّاء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء فصبر كان خيرًا له". فالمؤمن الذي منّ الله عليه بالشكر والصبر يكون جميع القضاء خيرًا له، بخلاف من لم يشكر ولم يصبر. الوجه الثاني من الفرق: أن الله إذا أمر العباد بأمر فهو الذي يعينهم على طاعته فيه، فهو الآمر، وهو الخالق للمأمور والمأمور به لذاته وصفاته وأفعاله، فله الحمد في خلقه وأمره، والعبد إذا أمر العبد كأمر السيد عبده فهو محتاج إلى ما أمره به، وليس هو خالق أفعاله، بل إنما يفعله العبد بإعانة الله له، ولكن على السيد نفقته وكسوته بالمعروف، فالأمر بينهما فيه معاوضة. وكذلك معاملة المخلوق للمخلوق فيها معاوضة من الطرفين، هذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، وهذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، حتى تتم مصلحتها في الدنيا والآخرة، والخالق تعالى هو المعين للجميع، الخالق المحسن إلى الجميع، وأعظم نعمته عليهم أن أمرهم بالإيمان وهداهم إليه، فهؤلاء همِ أهل النعمة المطلقة المذكوريِن في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (7)) (2)، كما قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ

_ (1) برقم (2999) عن صهيب، مع اختلاف في اللفظ. (2) سورة الفاتحة: 6 - 7.

- كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه

أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (1). الوجه الثالث: أن الله سبحانه منَّ عليهم بالثواب على العمل وينعم عليهم بذلك، والعبد إذا عمل لسيده لم ينتظر ثوابًا غير ما يستحقه من النفقة عليه. فهذا القائل الذي قال: "الكون كله له، ونحن نتقرب إليه منه بشق تمرة"، وقاس على هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون له مثل أجرنا ويهدي إليه من ذلك ما يهديه، غالطٌ غلطًا عظيمًا. بل حقيقة هذا القول يؤدي إلى الكفر العظيم. وإن كان هذا الذي قاله لم يَفْطَنْ لما يؤدي إليه، حيث جعل حصول الثواب المُهدَى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة الصدقة التي يتقبلها الله، فجعل وصول ثواب الأعمال إلى المخلوق بمنزلة ما يتقرب به إلى الخالق من صدقة وغيرها، وأين هذا من هذا؟ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه، والحاجة والفقر للمخلوق وصف لازم، لا يفارقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل العبد محتاج إلى الله من جهة ألوهيته ومن جهة ربوبيته، فهو محتاج إلى أن يعبد الله لا يعبد غيره، ومحتاج إلى أن يستعيِن بالله لا يستعين بغيره، كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) (2)، فإن لم يعبده بل عبدَ غيرَه أو أعرضَ عن العبادة خَسِرَ الدنيا والآخرة، وإذا وجبه سبحانه على عبادته لكان مخذولاً لا يقدر لعبده، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،

_ (1) سورة النساء: 69. (2) سورة الفاتحة: 5.

ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجأ إلا إليه. ولهذا قيل: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جعل سرَّها في الكتب الأربعة، وجعل سرّ الأربعة في القرآن، وسرّ القرآن في المغصل، وسرِّ المفصل في الفاتحة، وسرّ الفاتحة في (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وهذه هي التي نصفها للرب ونصفها للعبد، فإن العبادة حقّ لله، كما قال في الصحيحين (1): إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذِّبَهم". والكلام في استحقاقه العبادة لها أسرار ليس هذا موضع بسطه، وإذا كان العباد كلهم فقراء إلى الله، والله يرحمهم بما يشاء من الأسباب، ومن ذلك دعاء بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم إلى بعض، وإن كان هو سبحانه يثيب الداعي والمحسن، والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، وليس في هذا غضاضة بالأعلى، فإن الله هو الذي أمر الأدنى بالدعاء كما أمرنا بالصلاة والسلام على خير الخلق، وهو الذي يثيبنا على ذلك بالحسنة عشرا للأمة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل لله عليه أكمل المنة والنعم، ونعمة الله عليه أعظم نعمة أنعم بها على مخلوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما منَّ به علينا من الثواب على الصلاة عليه وسائر أعمالنا فقد منَّ عليه بمثله، لدعائه

_ (1) البخاري (2856، 5967، 6267) ومسلم (30).

- على العبد آن يلاحظ التوحيد والإنعام

لنا إلى ذلك، مضافا إلى ما منّ به عليه من أجر عمله. والخالق سبحانه إذا تقربنا إليه بأن نتصدق على العباد بشق تمرة فذاك إحسان منا إلى أنفسنا، وهو الذي أعاننا على ذلك، وإذا كان هو يحب ذلك ويرضاه بل يفرح بتوبة التائبين كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فحبه ورضاه وفرحه لمخلوق عليه منه منة، فإنه الذي خلق ذلك كله، بل له النعمة على المخلوق الذي أنعم عليه بذلك. كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عقيب الصلاة (1): "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". فعلى العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام، قال تعالى: (فادعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين) (2)، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)) (3) فالخالق سبحانه ليس محتاجًا إلى المخلوق بوجه من الوجوه، بل هو الغني عنه، وما أحبه ورضيه وفرح به من أعمال العباد فهو الذي خلقه سواء كان صدقة أو غير صدقة، والمخلوق سواء كان نبيًّا أو غير نبي هو محتاج إلى الخيرات، والله هو الذي يعينه بأسباب يُيَسِّرها، وإذا ساق إليه خيرًا على يدي العباد أثاب العباد على ذلك، فما يسوقه على يَدَيِ العباد من النفع بصلاتهم عليه وسلامهم

_ (1) أخرجه مسلم (594) عن ابن الزبير. (2) سورة غافر: 65. (3) سورة الفاتحة: 2.

- من شبه الله بخلقه فقد كفر

عليه ومسألتهم له الوسيلةَ ونحو ذلك هو خالقه، وهو مُجازِي العباد، والله غني عن كل ما سواه، وهو الخالق لكل ما يحبه ويرضاه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ فمن شبه الله بخلقه فقد كفر. ومثل ذلك مثل المشركين والنصارى ومن ضاهاهم من ضُلاَّل هذه الأمة الذين يجعلون التقرب إلى الله بمنزلة التقرب إلى الملوك، ويقولون إذا كان المتقرب إلى الملوك يحتاج إلى وسائلَ ووسائطَ وشُفعاءَ من خواصِّ الملك، فكذلك المتقرب إلى الله، على هذا بَنَتِ الصابئةُ والنصارى وغيرهم دينَهم الفاسد، وهذا أصل عظيم، فإن العباد إنما يحتاجون إلى الوسائط في تبليغ أمر الله ونهيه وخبره، وهو سبحانه قد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وأما وجود الأعمال منهم والثواب على الأعمال فالله خالق ذلك، لا يحتاج فيه إلى رسول، لكنه قد خلقه بأسباب وهو يخلق الأسباب، فالرسل ليسوا أسبابًا في خلق ذلك، وإنما هم أسباب في تبليغ الرسالة. ولهذا قيل لأفضل الرسل: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)) (1)، وقال: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) (2)، وقال تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (3)،

_ (1) سورة القصص: 56. (2) سورة النحل: 37. (3) سورة الأنعام: 50.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (1)، وأنواع ذلك مما يحقق فيه أنه عبد الله، مطيع لربه، مبلِّغ لرسالته، وأن الله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويهدي ويضل. كما كان يقول في دبر الصلوات: "اللهمّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" (2). وكان ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو أكمل المقامات، وأعلى الدرجات، وهو بذلك سيد ولد آدم، وخير الخلق، وأكرمهم على الله، إذ ليس بين الخالق والمخلوق إلا نسبة العبودية، فمن كانت عبوديته لله أكمل كان عند الله أفضل، (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)) (3)، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (4). فبين أن المخلوق ليس له ملك، ولا شريك في الملك ولا ظهير يعين الملك، بل غايته الشفاعة عند الله، ولكن الشفاعة لا

_ (1) سورة الأعراف: 188. (2) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة. (3) سورة النساء: 172. (4) سورة سبأ: 22 - 23.

تنفع إلا لمن أذن له، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)، (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (28)) (1). ولهذا كان سيد الشفعاء - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاء الخلائق يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيعتذر، ثم يطلبونها من نوح، ومن إبراهيم، ثم موسى، ثم من عيسى، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررتُ ساجدا، فأحمد ربي بمحامدَ يفتحها عليّ لا أُحسِنُها الآن، فيقول: أي محمد، ارفعْ رأسَك، قُلْ تُسمعْ، وسَلْ تُعطَه، فأشفع" (2). فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه. إذا أتى ربه لا يشفع حتى يؤذن له، بل يبدأ بالسجود لله، والثناء عليه، فيأذن له ربه في الشفاعة. وهذا باب واسع. فإنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق، فجعلوا إهداء الهدية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة الهدية إلى الله، وكأنهم يتقربون إلى النبي كما يتقربون إلى الله، فجعلوا المخلوق كأنه الرب الغني عنهم المجازي لهم على أعمالهم،

_ (1) سورة الأنبياء: 26 - 28. (2) متفق عليه من حديث أنس وأبي هريرة ضمن حديث الشفاعة الطويل. انظر صحيح البخاري (4712، 7510 ومواضع أخرى) وصحيح مسلم (193، 194).

وجعلوا الربً محتاجًا إلى عباداتهم، مفتقرًا إلى صدقاتهم، وإنهم يبغون ضره ونفعه، وهذا دين المشركين والنصارى، بل المؤمن يعلم أن كل ما يعمله من الخير مع أنبياء الله وأوليائه فإنما يطلب أجره من الله لا منهم، والمؤمنون الذين أولهم أبو بكر الصديق إنما يطلب أجر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم وصدقاتهم من الله لا من - مخلوق، ولله يعملون لا لمخلوق، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (1): "إن أَمنَّ الناسِ عَليَّ في صحبته وذاتِ يدِه أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلا". قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)) (2). وهذه الآية نزلت في الصديق (3)، وإن كانت متناولة لغيره، فإنه قد يُرادُ بها قطعًا، وهي مما استدل به أهل السنة على أنه الأتقى، فيكون أكرم الخلق من هذه الأمة، كقوله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (4)، قالوا: ولا يجوز أن تكون نزلت في على دونه، لأن عليًّا عليه السلام كان فقيرًا في كفالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَفَلَه لمَّا وقعتْ بمكة المجاعةُ، فبعث الله نبيه وعليٌّ عنده صغير في كفالته، فآمن به كما آمنت به خديجة، ولم يكن له مالٌ ينفقه عليه.

_ (1) البخاري (3954) ومسلم (2382) عن أبي سعيد الخدري. (2) سورة الليل: 17 - 20. (3) انظر تفسير الطبري (30/ 146) وابن كثير (4/ 556). (4) سورة الحجرات: 13.

- المقصود أن الأعمال لا تعمل إلا لله، ولا يطلب أجرها إلا من الله

وأما أبو بكر فكان رجلاً بالغًا مُوْسرًا، فأعانه بنفسه وبماله، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أمنَّ الناسِ علينا في صحبته وذاتِ يده أبو بكر" (1)، وإن كانت نفقة أبي بكر في سبيل الله، لم تكن في مؤنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مستغنيًا في نفقة نفسه عن أبي بكر وغيره، ولكن أعانه بالنفقة في سبيل الله، حيث اشترى سبعةً يعذَّبون في الله منهم بلال وغيره، وفعلَ غير ذلك. والمقصود هنا أن الأعمال لا تُعمَل إلا لله، ولا يُطلب أجرُها إلا من الله، وإن وصل بها نفع عظيم إلى الأنبياء وغيرهم، فالله هو المعبود، والرسل دعوا إلى عبادة الله وطاعتهم، وبينوا أن الجزاء على الله لا عليهم، قال تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)) (2)، وقال تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)) (3)، وقال: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)) إلى قوله (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)) (4). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله" (5).

_ (1) سبق تخريجه. (2) سورة الرعد: 40. (3) سورة يونس: 46. (4) سورة الغاشية: 21 - 26. (5) البخاري (2946) ومسلم (21) عن أبي هريرة.

وكثير من أهل الجهل والضلال يطلبون جزاء أعمالهم من أولياء الله أو أنبيائه، كأنهم يعبدونهم أو كأنهم عملوا لأجلهم، وإنما هم لهم دعاة وهداة ومرشدون ومعلمون، ومعينون لهم على الخير بحسب ما يمكنهم من دعاء وغير دعاء، يطلبون أجرهم من الله لا ممن دعوه وأعانوه، ولهذا كان كل من الرسل يقول: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)) (1) وقال:) (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)) (2)، وهذا الاستثناء منقطع، وكذلك الاستثناء في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (3). كما قد فسر ذلك ابن عباس، وحديثه في الصحيحين (4). وكذلك من عمل صالحًا ينتفعون به من ذكر وأنثى فإنما يطلب أجره من الله، فنحن كل خير نفعله هو ببركة دعوة الرسول لنا إلى الخير، وأجرنا في ذلك على الله لا على غيره، وله مثل أجورنا من الله لا منا، ولهذا أمرنا عند زيارة القبور أن نسلِّم عليهم وندعو لهم كما نصلي على جنائزهم، ويكون أجرنا في ذلك على الله، لا من صلينا على جنازته ولا على من زرنا قبره، ويكون رغبتنا إلى الله، كما قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) (5).

_ (1) سورة الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180. (2) سورة الفرقان: 57. (3) سورة الشورى: 23. (4) رواه البخاري (4818)، ولم أجده عند مسلم. (5) سورة الشرح: 7 - 8.

ولكن كثير من أهل الضلال صار يُشبه النصارى، فيُنزل المخلوق بعد موته بمنزلةِ الخالقِ، يطلب منه ماَ يطلب من الخالق، ويتقرب إليه بالهدية وغيرها، يَطْلُب الثوابَ منه كما يطلب من الخالق، وهذا إنما يفعل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم، لأنهم في حياتهمِ لا يمكنون أحدًا من الإشراك بهم، كما قال المسيح: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)) (1)، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2)، فمن اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر. ولهذا كان خاتم الرسل المبعوث بملة إبراهيم قد أقام الملَّة الحنيفية كما نعت ذلك في الكتب المتقدمة، وثبت ذلك في الصحيح (3): "إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لستَ بفظّ ولا غليظٍ ولا صخّاب بالأسواق، ولا تَجزِيْ بالسيئة السيئةَ، ولكن تَجزِي بالسيئة الحسنةَ والعفوَ، ولن أقبضه حتى أُقيمَ به الملةَ العوجاء، فأفتح به أعينًا عُمْيًا وآذانًا صفا وقلوبًا غُلْفًا، بأن يقولوا: لا إله إلا الله".

_ (1) سورة المائدة: 117. (2) سورة آل عمران: 79 - 80. (3) البخاري (4838) عن عبد الله بن عمرو بن العاص نقلاً عمَّا في التوراة.

وفي الصحيح (1) أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تُطروني كما أَطْرَتِ النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله". وفي الصحيح (2) أيضًا: أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا، قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا". وفي الصحيح (3) أنه قال قبل أن يموت بخمسٍ: "إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ [مساجدَ]، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي السنن (4) عنه أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تتخذوا قبري عيدا، وصلُوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم". وقد ثبت عنه في الصحيحين (5) أنه قال: "لتركبِن سَنَنَ من كان قبلكم حذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ ". وقد شرحنا هذا الحديث وتكلمنا على جمل ما وقع في ذلك من مخالفة الصراط المستقيم في غير هذا الموضع (6). والمقصود

_ (1) البخاري (3445، 6830) عن عمر بن الخطاب. (2) سبق تخريجه. (3) سبق. (4) سبق. (5) البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري. (6) يشير إلى كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم".

- في النصارى إشراك وغلو وابتداع، وكذا في كثير من ضلال هذه الأمة

هنا أن النصارى فيهم إشراكٌ وغلوّ وابتداع، قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (1)، وقال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه) (2)، وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (3)، وقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (4). فصار في كثير من الضلال في هذه الأمة إشراكٌ وغلو وابتداع، كما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهؤلاء الذين يعملون العبادات ويهدونها إلى الأنبياء والأولياء بعد موتهم طالبين الأجر من أولئك الذين يهدونها إليهم، كما يطلبون الأجر من الله فيما يتقربون به إليه من الصدقة وغيرها من الأعمال، فيهم إشراك وابتداع وغلو، أما إشراكهم فقد ضَاهَوا المخلوق بالخالق، وأما ابتداعهم فإن هذا العمل لم يَسُنَّه لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا خلفاؤه الراشدون.

_ (1) سورة التوبة: 31. (2) سورة الحديد: 27. (3) سورة النساء: 171. (4) سورة المائدة: 77.

- لله حقوق لا يشركه فيها غيره

وقد ثبت عنه في الصحيحين (1) أنه قال: "من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ". وقال (2): "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". والغلو حيث جعلوا في البشر شَوبًا من الربوبية والإلهية والغِنَى عن صاحبه إلى زيادة النفع مضاهاة للنصرانية، وهم في تقربهم إلى غير الله بالعبادات والأعمال يشبهون المتوكلين على غير الله المستعينين بغير الله. والله تعالى له حقوق لا يشركه فيها غيرُه، ولرسله حقوق لا يشركهم فيها غيرُهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق، كما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)) (3)، فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، والتسبيح بكرةً وأصيلاً لله وحده، وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) (4)، فالطاعة لله والرسول، والخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)) (5)، فالإيتاء لله والرسول. كما قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا

_ (1) البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة، واللفظ لمسلم. (2) سبق. (3) سورة الفتح: 8 - 9. (4) سورة النور: 52. (5) سورة التوبة: 59.

نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1)، فإن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ويأذن فيما أذن الله. قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (2)، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (3). وأما التوكل فعلى الله وحده، فلهذا قالوا: حسبنا الله، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، كما قالوا: سيؤتينا الله من فضله ورسوله، فإن الحسيب هو الكافي، والله وحده كافي عبادِه، كما قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (4)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)) (5)، أي الله كافيك وكافي المؤمنين المتقين، [هذا] الذي اتفق عليه السلف. ومن ظن أنه معناه "أن الله والمؤمنين يكفونك" فقد غلط غلطًا عظيما من وجوه كثيرة في اللغة والتفسير والمعنى، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع، وهذه القواعد كلها مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا أن الإشراك أن يُجعَل لله نِدٌّ فيما يختص به من العبادة أو التوكل، ومن البدعة أن يُعبَدَ الله بعبادة لم يَدُلَّ عليها دليلٌ شرعي. ومن الغلو أن يُرفع المخلوقُ إلى درجةِ الخالق.

_ (1) سورة الحشر: 7. (2) سورة النساء: 80. (3) سورة النساء: 64. (4) سورة الزمر: 36. (5) سورة الأنفال: 64.

- أصل الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع

وأصل الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع. كما قال الفضيل ابن عياض في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (1) قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، فهذه العبادات التي فيها شركٌ وغلو ولم تثبت بدليل شرعي، لا هي خالصة لله ولا هي على موافقة السنة، فهي منهي عنها من هذين الوجهين. وهؤلاء الذين ابتدعوا إهداءَ العبادات إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتمع فيهم هذا وهذا، وإن تخلَّصوا من الإشراك والغلو لم يتخلَّصوا عن الابتداع، فإن هذا عمل مبتدع لمِ يقم على استحبابه دليل شرعي. وقد بيَّنا فسادَ ما احتجّ به من سَوَّغه، وإنا لم نعلم أحدًا من القرون الثلاثة المفضلة فعلَ مثلَ هذا. والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، لكن إذا تبين الحق وجبَ اتباعُه. والله أعلم.

_ (1) سورة هود: 7، سورة الملك: 2.

(55) مسألة فيمن قال: إن إبليس أودع ولده لآدم، وأن آدم طرده مرتين، وبعد الثالثة ذبحه وسلقه وأكله، فلهذا يجري الشيطان في ابن آد مجرى الدم

مسألة فيمن قال: إن إبليس أودعَ وَلَدَه لآدم عليه السلام، وأنّ آدم طرده مرتين، وبعد الثالثةِ ذَبَحَه وسَلَقَه، وأكله، فلهذا يَجري الشيطان في ابن آدم مجرى الدم. وهل عُرِضَ على إبليسَ أن يسجد عند قبرِ آدمَ أو يُعْرَضُ عليه في القيامة؟ وفي قوله تعالى (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)) (1) هل هذا القولُ عن الكافر خاصَّةً -وهو إبليس- أو عن الكفّار؟ الجواب أما الحديث المذكور عن آدم عليه السلام فمن أقبح الكذب والبهتان، لا يقولُه أحدٌ من العقلاء فضلاً عن أهل العلم والإيمان. ولم يذكر هذا أحدٌ من أهل العلم والدين، وإنما يَروِي هذا أو يُصدِّقُه أجهلُ العالمين. وأكلُ الشيطان إذا كان من الممكنات هو من أعظم المحرَّمات، فإن الله تعالى قد حرَّم الخبائث من الحيوان -كالخنزير وغيره- على آدم وذريته، كما حرَّم علينا مع ذلك كلَّ ذِي نابٍ من السباع، لأنَّ

_ (1) سورة النبأ: 40.

هذه البهائم فيها البغيُ والعدوان الذي هو وصف الشيطان، فنهَى الله تعالى عن أكلِها لئلا يَصِيرَ في أخلاق المسلمين البغيُ والعدوانُ الذي هو بعض أوصاف الشيطان. فكيف يأكل الشيطان الذي هو جامعٌ لكل خبيث؟ ولو كان الشيطان مما يُؤكَل فهل في كل الشيطان إلاّ شيطان؟ وبالجملة فمثلُ هذا الكلام يَستحقُّ من يقولُه أو من يُصدِّقُه العقوبة البليغة التي تَردَعُه وأمثالَه. وأما عَرضُ السجودِ لقبرِ آدم عليه السلام على إبليس فهذا قد ذكره بعضُ الناس، لكن ليس له إسناد يُعتَمد عليه. وأما عرضُ السجود له على إبليسَ في الآخرة فلم يذكره أحدٌ مما علمتُه. وكلاهما باطل وإن قاله من قاله؛ فإن الله تعالى قد أخبرَ عن إبليسَ بما أخبرَ به من إنظارِه وإغوائِه الذرّيّة، وقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (1)، وأخبر أنه عدوّ لهم بقوله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (2)، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)) (3). وأخبرَ بما يكون من الشيطان يوم القيامة حيث قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي

_ (1) سورة ص: 85. (2) سورة الكهف: 50. (3) سورة يس: 60 - 61.

كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (1). وهذا وأمثالُه مما يُبيّن أن الشيطان حَقَّتْ عليه كلمةُ العذاب، وقد ظهر ذلك للخلق، ولا يُحتاجُ إلى إعادةِ ذلك الأمر كما لا يحتاج إعادة الأمر. وأما قوله: (وَيَؤمَ يَعَضُّ الظَالِمُ عَلَى يَدَيه) (2)، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)) (3)، فالكافر اسم جنس، ليس كافرًا بعييه، بل قد جاء في الحديثِ: "إن البهائمَ يُقتَصُّ بعضُها من بعضٍ، ثم يقال لها: كوني ترابًا" (4)، فأعيدت البهائم إلى أصلها. وأما إبليس فهو مخلوقٌ من مارجٍ من نارٍ، وذلك لا يناسب عودَه إلى التراب.

_ (1) سورة إبراهيم: 22. (2) سورة الفرقان: 27. (3) سورة النبأ: 40. (4) أخرجه أحمد (2/ 363) عن أبي هريرة.

(56) مسألة في رجل قال لزوجته: علي الطلاق ما تروحي لبيت أبيك (ثلاث مرات)، فغصبتها أمها وأخذتها، وراحت إلى دار أبيها من غير رضى منها ولا إذن الزوج، فهل تقع الثلاث أو واحدة؟

مسألة في رجل قال لزوجته: على الطلاق ما تَروحِيْ لبيتِ أبوكِ (1) لسنةٍ، فلحت عليه، قال: عليَّ الطلاق ما تروحي لبيت أبوكِ (1) لسنةٍ، فلحت عليه، قال: علي الطلاق ما تروحي لبيتِ أبوك (1) لسنة، فجاءت أمُّ الزوجة، فقالت لها: قُومِي الدار، فقالت: ما أقدِرُ أروح، فغَصَبَتْها أمُّها وأخذتْها، وراحتْ إلى دار أبيها من غيرِ رضيً منها ولا إذن الزوج، فهل تقع الثلاث أو واحدة؟ وهل يكون تَأثيرًا (2) لإكراهها في الخروج بغير رضاها؟ أفتونا مأجورين. الجواب الحمد لله. إذا أخرجتْها مكرهةً ولم تقدرْ أن تمتنعَ لم يحنث الحالف، ولو قَدَرَتْ أن تمتنع، واعتقدت أن الإخراج الذي أخرجته ليس محلوف (3) عليه، فلا تكون مخالفةً له به، لم يحنث الحالف أيضًا. وأما إذا فعلَتِ المحلوفَ عليه عالمةً فإنه يحنث.

_ (1) كذا في الأصل بالرفع ملحونًا من السائل. (2) كذا في الأصل منصوبًا، وهو لحن من السائل، والصواب الرفع. (3) كذا في الأصل، والصواب "محلوفًا".

- لا يقع به إلا واحدة

ثم إن كان نوى بتكرير اليمين توكيدَها لم يقع به أكثر من طلقبة، وإن كانت أيمانًا ففيه قولان: هل يقع به ثلاث أو واحدةٌ، والأظهر أنه لا يقع به إلا واحد، فإنه لو كرَّر اليمين بالله على فعلٍ واحدٍ لأجزأتْه كفارةٌ واحدة في أصحّ القولين. ولكن وقوع الثلاث هو المشهور عن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وفرَّقوا بين اليمين (1) بالله وبين الطلاق. والله أعلم.

_ (1) تكررت في الأصل "بين اليمين".

(57) فصل: ما ضمن بالعقد الصحيح صمن بالعقد الفاسد، والضمانات ثلاثة

فصل ما ضُمِن بالعقد الصحيح ضُمِن بالعقد الفاسد، وما لم يُضمَن بالعقد الصحيح لم يُضمَن بالعقد الفاسد. والضمانات ثلاثة ضمانات: ضمان العقد، كالنكاح والإجارة وما أشبههما. وضمان اليد، الغصب والخؤنة (1) وما أشبههما. وضمان الإتلاف. كلُّ من أتلفَ لغيرِه بمباشرةِ أو سببٍ محرم وما أشبهها. والله أعلم.

_ (1) كذا في الأصل، ويبدو أنها بمعنى الخيانة، ولم أجدها في المعاجم.

(58) مسألة في رجل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين، فقال له آخر: هذا ما هو صحيح

مسألة في رجلِ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين"، فقال له آخر: هذا ما هو صحيح. الجواب الحمد لله. ليس هذا الحديث بصحيح، وليس هو في شيء من كتب المسلمين المعروفة، وإنما الحديث المعروف عن مَيْسَرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله! متى كنتَ نبيًّا؟ وفي لفظٍ: متى كُتِبْتَ نبيًّا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" (1). وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إني كنتُ مكتوبًا عند الله خاتمَ النبيين وإنَّ آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأوّل ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشام" (2).

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 59) وابن أبي عاصم في "السنة" (410) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 53). وانظر "الصحيحة" (1856). (2) أخرجه أحمد (4/ 128) والبزار كما في "كشف الأستار" (2365) والحاكم في المستدرك (2/ 600) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 89 - 90). وتكلم عليه الألباني في "الضعيفة" (2085).

ففي هذه الأحاديث المعروفة عند علماء المسلمين أن الله كتب نُبوَّتَه وأظهرها بين خلقِ آدم وبين نفخ الروح فيه، كما ثبت في الصحيح (1) عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - -وهو الصادف المصدوق- أن خَلْقَ أحدكم يُجمَع في بطن أفه أربعين صباحًا، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يُبعَث إليه المَلَك، فيؤمَر بأربعِ كلمات، فيقال: اكتبْ رزقَه وأجلَه وعملَه وشقيّ أو سعيد، ثمّ يُنفخ فيه الروحُ. قال: فوالذي نفسي بيده إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة. فبيّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث الصحيح أنه بعد أن يخلق الجسد وقبلَ نفخِ الروح يُكتَب رزقُ العبد وأجله وعملُه وشقيّ أم سعيد. وآدم هو أبو البشر، ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد ولد آدم، فكتب الله نبوتَه بعد خلقِ آدم وقبلَ نفخ الروحِ فيه. فأما قول القائل بين الماء والطين" فهذا الكلام باطل، فإن الماء هو بعض الطين، إذ الطين ماءٌ وترابٌ، ولم يكن آدم قطُّ بين الماء والطين، وإنما كان بين الروح والجسد، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذٍ مكتوبًا عند الله خاتم النبيين. وأما تبيّن ذاته وصفاتِه وجَعْلُ الله له نبيًّا ورسولاً فإنما كان حتى خَلَقَه، ونبّأه الله على رأس أربعين سنة، فأول ما أنزل الله عليه

_ (1) البخاري (3208 ومواضع أخرى) ومسلم (2643).

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (1)، فكان نبيًّا، ثم أنزل الله عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)) (2). فكان رسولاً. ومن زعم أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل عليه به جبريل فهو ضالٌ مفترٍ بإجماع المسلمين. وما يُروى في هذا الباب من الأحاديث -مثل: أنه كان كوكبًا في السماء يُرَى قبل الخلق، أو نحو ذلك- فهي أحاديث مكذوبة باتفاق علماء المسلمين. والله أعلم.

_ (1) سورة العلق: 1. (2) سورة المدثر: 1.

(59) مسألة في قوله تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقوله تعالى (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)، فمن هو في هؤلاء أعلى درجة؟

مسألة في قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1)، وقوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الآية (2)، فمن هو في هؤلاء أعلى درجةً؟ الجواب الحمد لله. أما قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)) فهي تتناول جميع أولياء الله الفاضل والمفضول، وكلُّ من ذُكِر في غير هذه الآية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهو صنفٌ ممن دخلَ فيها، وبعضُ هذه الأصناف أعلى من بعضٍ. ولا يقال: إن بعض هذه الأصناف أعلى ممن ذُكِر في الآية، لأن أولئك بعضُ هذه الجملة، إلاّ أن يُراد أن البعض الذي هو أعلى أصنافِها أفضلُ أهلها. ولا يقال أيضًا: إن كل من في هذه الآية أفضل ممن ذُكِر في غيرها، لكن يقال: إن مجموع المذكورين فيها أفضل من بعضهم.

_ (1) سورة يونس: 62. (2) سورة النور: 37.

- الآية الثانية تتناول أيضا من دخل في تلك الآية، والأفضلية بحسب الإيمان والتقوى

وأما قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) الآية، فهؤلاء ممن دَخَل في تلك الآية، وهم من أولياء الله المتقين، وهم أفضل من غيرهم، وقد يكون من له تجارة وبيعٌ لا تُلهِيْه أفضل ممن ليس كذلك، وقد يكون ذلك أفضل من هذا بحسب الإيمان والتقوى، فلذلك قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)) (1) هذا مدح لهذا الصنف. والصدق في الوفاء واجبٌ على كل مؤمن، وهؤلاء أفضل من غيرهم، وقد يكون بعض من لم يعاهد أفضل من بعض من عاهد، وقد يكون بالعكس. والله أعلم.

_ (1) سورة الأحزاب: 23.

(60) مسألة في غلام حلف بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان، فأخذه غصبا، واستخدمه بالضرب، فلما ضربه حلف يمينا ثانيا بالطلاق الثلاث أنه ما يخدم، فما الحكم؟

مسألة في غلام حلفَ بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان، فأخذه غصبًا، واستخدمه بالضرب، فلما ضربه حلفَ يمينًا ثانيًا بالطلاق الثلاث أنه ما يخدم، فما الحكم؟ الجواب إن أمكنه الامتناعُ عن الفعل وامتنع فلا حِنْثَ عليه، وإن أُكرِهَ على فعلِ المحلوف عليه فلا حنثَ عليه. والله أعلم.

(61) مسألة في رجل صلى صلاة الصبح إماما بسورة المدثر ولا أقسم بيوم القيامة في الركعتين، فقال بعض الناس: هذه الصلاة ليست من الشرع، ولا يصلى خلفه

مسألة في رجلٍ صلَّى صلاةَ الصبح إمامًا بسورة المدثر و"لا أقسم بيوم القيامة" في الركعتين، وسبَّح في الركوع والسجود ما بين سبع تسبيحاتٍ إلى عشر، فقال بعض الناس: هذه الصلاة ليست من الشرع ولا يُصلَّى خلفه. فهل يجب على وليّ الأمر تعزيرُ من يقول هذا القول واستتابتُه؟ وما على من يُنكِر هذه الصلاة؟ أفتونا رحمكم الله أجمعين. الجواب الحمد لله. بل هذه الصلاة مشروعة باتفاق أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن السنة للإمام أن يقرأ في الفجر بطوال المفصّل، والمفصَّلُ من قاف. وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر ما بين الستين آية إلى المئة (1)، وكان يقرأ فيها بقاف ونحوِها من السُّور (2)، وهي أطول مما ذُكِر، وقرأ فيها أيضًا بالصافات (3)،

_ (1) أخرجه البخاري (771) ومسلم (461) عن أبي بَرْزَة الأسلمي. (2) أخرجه مسلم (457) عن قطبة بن مالك، و (458) عن جابر بن سمرة. (3) أخرجه أحمد (2/ 40) عن ابن عمر.

و"ألم تنزيل" و"هل أتى" (1)، وبسورة المؤمنين، لكن أدركته سَعلةٌ في أثنائها (2)، وقد قال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلّي" (3). وكان عمر بن الخطاب يقرأ فيها بيونس ويوسف وهود، وكان عثمان يقرأ بطِوال المفصّل، وقرأ أبو بكر الصديق مرةً فيها بسورة البقرة، فقيل له: كادتِ الشمسُ تطلعُ، فقال: لو طلعتْ لم تجدنا غافلين. ومثل هذا معروف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه الراشدين، وقد أَمَرَنا باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين فقال: "إنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة" (4). وفي السنن (5) أن أنس بن مالك لما صلّى خلف عمر بن عبد العزيز قال: ما رأيتُ أشبهَ بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاة هذا الفتى، وكان يُسبِّح في الركوع والسجود من عشر تسبيحات. وفي الصحيحين (6) أن أنس بن مالك قال: لأصلّين بكم صلاةَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا قام من الركوع يقوم حتى يقول القائل: قد نسي،

_ (1) أخرجه البخاري (891، 168) ومسلم (880) عن أبي هريرة. (2) أخرجه مسلم (455) عن عبد الله بن السائب. وعلّقه البخاري (106). (3) أخرجه البخاري (631) عن مالك بن الحويرث. (4) سبق تخريجه. (5) أخرجه أبو داود (888) والنسائي (2/ 224) وأحمد (3/ 162). (6) البخاري (800، 821) ومسلم (472).

- من أنكر ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعزر

وإذا قَعَدَ من السجود يقعد حتى يقول القائل مثل هذا. مع أن الركوع والسجود لا ينقص عن ذلك باتفاق المسلمين، بل يكون مثل ذلك أو أطول. وفي الصحيحين (1) عن البراء بن عازب قال: رَمقتُ الصلاةَ خلفَ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان قيامُه فركوعه فاعتدالُه في الركوع فسجودُه فجلوسُه بين السجدتين فسجودُه فجلوسُه ما بين السلام والانصراف قريبًا من السَّواء. وفي رواية: ما خلا القيام والقعود. وفي الصحيحين (2) عن أنس قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخفَّ الناس صلاةً في تمام. فهذا الذي فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو من التخفيف الذي أَمَرَ به، كما قال: "إذا أمَّ أحدُكم الناسَ فليُخَفِّفْ، فإنّ من ورائِه السقيمَ والكبيرَ وذا الحاجة" (3). وقال لمعاذٍ: "أفَتَّان أنتَ يا معاذ؟ " (4) لما قرأ في العشاء الآخرة بسورة البقرة. فهذا التطويل الذي فعله معاذٌ يُنهَى عنه الإمام. ومن أنكرَ ما شَرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنه ليس من الشرع، فإنّه يُعزَّر على ذلك تعزيرًا يُناسِبُ حالَه، زجرًا له ولأمثالِه. والله أعلم.

_ (1) البخاري (792، 801، 820) ومسلم (471). (2) البخاري (706، 708) ومسلم (469). (3) أخرجه البخاري (703) ومسلم (467) عن أبي هريرة. (4) أخرجه البخاري (705 ومواضع أخرى) ومسلم (465) عن جابر بن عبد الله.

- لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام لغير حاجة

مسألة في رجلٍ إمامِ مسجدٍ: هل يجوز له أن يُكبِّر أحدٌ خلفَه من المؤتمِّين؟ أو يواضبَ (1) على السجدة في فجر كل جمعة؟ أو يَدعِيْ (2) هو والمؤتمين (3) عقب كل صلاة؟ أفتونا يرحمكم الله ويوفقكم للصواب. الجواب الحمد لله. لا يُشرَع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي يُسمَّى التبليغ لغير حاجةٍ باتفاق الأئمة، فإن بلالاً لم يكن يُبلِّغ خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو ولا غيره، ولم يكن يبلّغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لمّا مرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى بالناس مرةً وصوتُه ضعيف، فكان أبو بكر يُصلِّي إلى جنبه يُسمعُ الناسَ التكبيرَ (4). فاستدلَّ العلماء بذلك على أنه يُشرَع التبليغ عند الحاجة، مثل ضعف صوتِ الإمام ونحو ذلك، فأما بدون الحاجة فاتفقوا على أنه مكروهٌ غيرُ مشروع.

_ (1) كذا في الأصل بالضاد، والصواب بالظاء. (2) كذا في الأصل بالياء. (3) كذا في الأصل منصوبًا. (4) أخرجه البخاري (712) ومسلم (418) عن عائشة.

- دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة ليس من سنن الصلاة الراتبة

وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعلُه على قولين، والنزاعُ في الصحة معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، مع أنه مكروه باتفاق المذاهب كلّها. وأما في دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة جميعًا رافعينَ أصواتَهم أو غيرَ رافعين، فهذا ليس من سنة الصلاة الراتبة، [و] لم يكن يفعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد استحسنه طائفة من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد في وقت صلاة الفجر وصلاة العصر، لأنه لا صلاة بعدها، وبعض الناس يستحبُّه في أدبارِ الخمس. لكنّ الصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن ذلك ليس من سنة الصلاة، ولا يُستحبُّ المداومةُ عليه، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يفعله هو ولا خلفاؤه الراشدون، ولكن كان يذكر الله عقيب الصلاة ويُرغَب في ذلك، ويجهر بالذكر عقيب الصلاة، كما ثبت في ذلك الأحاديث الصحيحة: حديث المغيرة بن شعبة (1) وعبد الله بن الزبير (2) وغير ذلك. والناس في هذه المسألة طرفانِ ووسطٌ: منهم من لا يستحبّ ذكرًا ولا دعاءً، بل بمجرد انقضاء الصلاة يقوم هو والمأمومون كأنهم فَرُّوا من قَسْوَرة، وهذا ليس بمستحب. ومنهم من يدعو هو والمأمومون رافعين أيديهم وأصواتهم. وهذا أيضًا خلافُ السنة.

_ (1) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593). (2) أخرجه مسلم (594).

- السجدة يوم الجمعة ليست واجبة

والوسَطُ هو اتباع ما جاءت به السنةُ من الذكر المشروع عقيب الصلاة، ومكث الإمام يستقبل المأمومين على الوجه المشروع. لكن إذا دعوا أحيانًا لأمرٍ عارضٍ كاستسقاءٍ أو استنصارٍ أو نحو ذلك فلا بأس بذلك، كما أنهم لو قاموا ولم يذكروا لأمرٍ عارضٍ جاز ذلك ولم يُكرَه، وكل ذلك منقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1). وقد كان في أكثر الأوقات يستقبل المأمومين بوجهه بعد أن يُسلِّم، وقبلَ أن يستقبلَهم يَستغفر ثلاثًا ويقول: "اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام" (2). وكان يجهر بالذكر، كقوله: "لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" (3). وأحيانًا كان يقوم عقيبَ السلام إذا عرض له أمر، كما قامَ مرةً يخطب خطيبًا (4) للناس، وقال: "ذكرتُ ذُهَيْبَةً كانت عندنا، فكرهت أن تبيت عندي". وأما السجدة يوم الجمعة فليست واجبةً باتفاق العلماء، ويُكرَه أن يتعمد الرجل سجدة غير "الم تنزيل". وأما قراءة "هل أتى"

_ (1) أخرجه البخاري (851) عن عقبة. (2) أخرجه مسلم (591) عن ثوبان. (3) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة. (4) كذا في الأصل.

و"الم تنزيل" في فجر الجمعة فقد جاءت الأحاديث (1) بهذه السنة كما جاءت، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين (2). لكن لا ينبغي المداومة على ذلك خشيةَ أن يَظُنَّ الناس أنها واجبة، كما لم يواظب (3) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مثل ذلك، بل كان يقرأ في الجمعة والعيدين سورًا متنوعة، لا يلازم شيئًا بعينه. والله أعلم.

_ (1) سبق تخريجها في أول المسألة. (2) أخرجه مسلم (879) عن ابن عباس. (3) في الأصل "يواضب" بالضاد.

(63) مسألة في رجل متمسك بأحد المذاهب الأربعة، نزلت به نازلة فاستفتى بعض العلماء، فأفتاه بقول أحد الأئمة، فعارضه آخر وقال: من استفتى غير أهل مذهبه فهو زنديق فهل هذا المنكر مصيب أم مخطئ؟

مسألة في رجل متمسك بأحد المذاهب الأربعة، كمذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، وقد نزلت به نازلة في طلاقٍ أو غيرِه، فاستفتَى بعض العلماء، فأفتاه بقولِ أحد الأئمة المذكورين، فعارضَه آخر وقال: من استفتَى غيرَ أهلِ مذهبه فهو زنديق أو نحو هذا الكلام، فهل هذا المنكِر مصيبٌ في هذَا الإنكار أم مخطئ؟ وهل يجب عليه القتل أو غير ذلك من أنواع التعزير؟ أفتونا رحمكم الله. الجواب الحمد لله. بل هذا المنكر مُخطئ في ذلك باتفاق الأئمة، بل هو آثمٌ في ذلك مستحق للعقوبة التي تَزجُره وأمثالَه عن مثلِ ذلك، فإن كان يفهم معنى الزنديق وأنّ الزنديق الكافر، وجعلَ اتباعَ المسلم في بعض المسائل لإمامٍ غيرِ إمامِه كفرًا: فإنه يُستَتاب من هذا الكلام، فإن تاب وإلاّ قُتِل؟ وإن كان يظن أن الزنديق هو العاصي الجاهل الفاسق ونحو ذلك فإنه يُعزر على هذا الكلام. ولا يجب على أحدٍ أن يتَّبع واحدًا بعينه في كلّ ما يقوله، وإنما يجب على الناس طاعة الله ورسولِه، ومن قال: إنه يجب

على الناس طاعة شخصٍ بعينِه غيرِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو متناقض مخالف لإجماع المسلمين، فإنهم متفقون على أن كلَّ أحدٍ من الناس يُؤخَذُ من قولِه ويُترَكُ إلاّ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والأئمة الأربعة رضي الله عنهم نَهَوا الناسَ أن يُقلِّدوا واحدًا بعينِه في جميع ما يقوله وإنْ وُجدَتِ الحجة بخلافه. والذي كَرِهَه العلماء للرجل أن يكون رخيصًا يَستفتي في كلّ حادثة بما يكون له فيه رخصة. فأما أخذُه في بعض المسائل بقولِ إمام وفي بعضها بقولِ إمامٍ مع تحرِّي التقوى فهو جائز عند أئمة الإسلام. والله أعلم.

(64) مسألة في رجل لم يؤد الصلوات الفرض وتوفي، وخلف ولا صالح، وهو بعد أن يصلي الصلوات المكتوبة يصلي صلوات دائما ويحتسبها لوالده عن فرضه، فهل يجوز ذلك عن والده؟

مسألة في رجلِ لم يؤدِّي (1) الصلوات الفرض وتوفي، وخلف ولدٌ صالح، فكان الولد بعد أن يصلي الصلاة المكتوبة عليه يصلِّي صلواتٍ دائمًا، ويحتسبها لوالدِه عن فرضِه، فهل يجوز ذلك عن والده ويحتسب له؟ أفتونا مأجورين يرحمكم الله. الجواب الحمد لله. أما الفرض فلا يَسقُط عنه بصلاة غيرِه، ولكن من مات مؤمنًا فإذا صلّى عنه وَلَدُه أو تصدَّقَ عنه أو أعتقَ عنه أو صامَ عنه نفعَه الله بذلك. وأفضل ذلك الصدقة ونحوها من النفع المتعدي، فإنها تصل إلى المؤمن باتفاق الأئمة. والله أعلم.

_ (1) كذا في الأصل بإثبات الياء.

(65) مسألة في رجل أوقف قطعة أرض، وشرط النظر لشخص من الفقراء، فجاء الحاكم بالناحية واجر الأرض مدة عشر سنين بدون أجرة المثل، فهل تجوز هذه الإجارة؟

مسألة في رجل أوقف زاويةً قطعةَ أرضٍ مخللة بنَخْل، بعضه طازج وبعضُه غير طازج، وشرطَ النظرَ لشخصٍ من الفقراء، فجاء الحاكم بالناحية، واَجَرَ الأرضَ مدةَ عشر سنين بدون أجرة المثل. فهل تجوز هذه الإجارة؟ وهل للحاكم أن يُؤجر مع وجودِ الناظر الذي شرط له الواقفُ النظرَ أم لا؟ أفتونا مأجورين. الجواب الحمد لله. إذا كان لها ناظر خاص قائم بالواجب فليس للحاكم أن يؤجرها، ولا يتصرف فيها بدون أمره، لكن [لو] خرج الناظر عما يجب عليه فإن الحاكم يعترض عليه، فيُلْزِمه بالواجب، أو يَستبدل به، أو يَضمُّ إليه أمينًا. وليس للناظر ولا الحاكم أن يؤجرها بدون أجرة المثل. والله أعلم.

(66) مسألة: متى فرض الصوم والصلاة والزكاة؟

مسألة متى فُرض الصوم والصلاة والزكاة؟ الجواب الحمد لله. صوم رمضان فُرِضَ من السنة الثانية من الهجرة، وأدرك رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعَ رمضانات. وأما الصلاة والزكاة فأُمِر بهما بمكةَ قبلَ الهجرة، لكن فرائض الصلاة شُرِعت بالمدينة. والله أعلم. مسألة هل يجب للحائض أن تَغسِلَ باطنَ فرجِها من الحيضِ والجنابة؟ الجواب الحمد لله. لا يجب على المرأة غَسْلُ باطن الفرج من غسل الحيض والجنابة. والله أعلم.

مسائل وردت من الصلت

مسائل وردت من الصلت

(1) مسألة في الكلب إذا ولغ في طست لبن أو طعام أو شراب، هل يحل أكله وبيعه أم لا؟

مسألة في الكلب إذا وَلَغَ في طستِ لبنٍ أو طعام أو شراب، هل يحل أكلُه أم بيعُه أم لا؟ فأجاب -رضي الله عنه- إذا كان فيه أثرُ الولوغ أو كُشِطَ وجهُه جاز أكلُه في أحد قولَي العلماء. مسألة في الفأرة إذا وقعتْ في سمنٍ أو زيتٍ وهو مائع، هل يَحِلُّ أكلُه أم بيعُه أم لا؟ فأجاب -رضي الله عنه- إذا لم يتغير يُلقَى وما قَرُبَ منها، ويُوكَل المال ويُبَاعُ في أظهر قولَي العلماء. والله أعلم.

(3) مسألة في رجل يدخل على امرأة أخيه وبنات أخيه وبنات عفه وبنات خاله، هل يجوز له ذلك أم لا؟

مسألة في رجلٍ يدخُل على امرأة أخيه وبناتِ عمِّه وبناتِ خالِه، هل يجوز له ذلك أم لا؟ الجواب لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره ومن غير خلوةٍ ولا ريبةٍ جاز له ذلك. والله أعلم. مسألة في التيمُّم، هل يجوز لأحدٍ أن يصلّيَ به السُّنن والرواتب والفريضة ويقتصرَ عليه إلى حين الحَدَث أم لا؟ الجواب نعم، يجوز في أظهر قولَي العلماء أن يصلي بالتيمم كما يصلي بالوضوء، فيصلّي به الفرضَ والنفلَ، ويتيمم قبل الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يَنقُض التيممَ إلاّ ما يَنقُض الوضوءَ والقدرةُ على استعمال الماء.

(5) سئل عن رجل يأمر الناس بالصلاة ولم يصل، فماذا يجب عليه؟

سئِل عن رجلِ يأمر الناسَ بالصلاة ولم يُصَلِّ، فماذا يجب عليه؟ الجواب من لم يُصلِّ فإنه يستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. والله أعلم. وسُئِل أيضًا فيمن يصلّي الفرضَ خلفَ من يُصلِّي نفلاً. الجواب يجوز ذلك في أظهر قولَي العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وسُئل أيضًا عن الماء إذا غَمَسَ الرجلُ يدَه، هل يجوز استعمالُه أم لا؟ الجواب لا ينجس بذلك، بل يجوز استعمالُه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعنه رواية أخرى أنه يَصير مستعملاً.

(8) سئل عن صلاة التراويح، هل يجوز قبل العشاء أم لا

وسُئل أيضًا عن صلاة التراويح، هل يجوز قبل العشاء أم لا؟ الجواب السنة في التراويح أن تُصلّي بعد عشاء الآخرة. والله أعلم. وسُئل أيضًا عن الرجل يَمَسُّ المرأةَ، هل ينتقضُ الوضوء أم لا؟ الجواب إن توضأ من ذلك فحسن، وإن صلّى ولم يتوضأ صحَّتْ صلاتُه في أظهر قولَي العلماء.

(10) سئل عن الرجل إذا اغتسل من الجنابة، ولم يتوضأ بعده ولا قبله وصلى بالغسل، فهل يجوز ذلك أم لا؟

وسُئِل عن الرجل إذا اغتسلَ من الجنابة، ولم يتوضأ بعدَه ولا قَبلَه وصلَّى بالغُسل، فهل يجوز ذلك أم لا؟ الجواب نعم، إذا اغتسل للجنابة أجزأتْه الصلاةُ بذلك الغسل وإن لم يَنوِه عند جمهور العلماء. والله تعالى أعلم. وسُئل أيضًا عن الرجل لا يُواظِب على السُّنن الرواتب. الجواب من أَصرَّ على تركِها دَلَّ ذلك على قلَّةِ دينه، ورُدَّتْ بذلك شهادته في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما. وسُئل أيضًا فيمن يَحلِفُ بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا، ثم أراد أن يفعلَه. الجواب يجوز أن يَفعَل ما حَلَفَ عليه ويُكفِّر عن يمينه. والله أعلم.

(13) سئل عن الرعاف هل ينقض الوضوء أم لا؟

وسُئل أيضًا في الرُّعَاف هل يَنقُض الوضوءَ أم لا؟ الجواب إن توضأَ منه فهو أفضلُ، ولا يجب عليه في أظهر قولَي العلماء. والله أعلم. مسألة أيضًا في الفصاد في شهر رمضان، هل يُفسِد الصوم أم لا؟ الجواب إن أمكنَه الفصادُ بالليل أخَّرَه، وإن احتاجَ إليه لمرضٍ افتصَدَ، وعليه القضاء في أحد قولَي العلماء، والله أعلم.

(15) سئل في سفر يوم رمضان، هل يجوز له أن يقصر فيه أو يفطر أم لا؟

وسُئل أيضًا في سفر يومِ رمضان، هل يجوز له أن يقصر فيه أو يُفطِر أم لا؟ الجواب هذا فيه نزاع، والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في رمضان، كما قصر أهلُ مكَّة خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ومزدلفة، وعرفةُ عن المسجد بَرِيدٌ. ولأن السفر مطلقٌ في الكتاب والسنة. وسُئل أيضًا عن رجلٍ معه مالٌ من حرام وحلالٍ، فهل يجوز أن يأكلَ من عيشِه أم لا؟ الجواب إذا عُرِف الحرامُ بعينِه لم يُؤكَلْ حتمًا، وإن لم يُعرَف بعينِه لم يَحرُم الأكلُ، لكن إذا كَثُر الحرامُ كان تركُ الأكلِ وَرَعًا. والله أعلم.

(17) مسألة في رجل باع متاعا لإنسان تاجر، وكسب عليه وقسط عليه الثمن، والمديون يطلب السفر ولم يقم له كافلا، فهل لصاحب الدين أن يمنعه من السفر أم لا؟

مسألة أيضًا في رجلٍ باعَ متاعًا لإنسانٍ تاجر، وكسبَ عليه، وقَسطَ عليه الثمن، والمديونُ يطلُب السفر ولم يُقِمْ له كافلاً، فهل لصاحب الدين أن يمنعَه من السفر أم لا؟ الجواب إن كان حالاً وهو قادرٌ على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه، وكذلك إن كان مؤجّلاً ومَحِلُّه قبل قدوم المدين، فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق برهنٍ يحفظ المال أو كفيل، وإن كان الدين لا يَحُلُّ إلاّ بعد قدوم المدين ففيه نزاعٌ بين العلماء. والله أعلم.

(18) سئل عن رجل يعمل عملا يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة ويغرس له أغراس في الجنة، ثم يعمل ذنوبا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه في الجنة وهو في النار؟

وسُئل أيضًا عن رجل يعمل عملاً يستوجب أن يُبنَى له قصر في الجنة ويُغرسَ له أغراس باسمه، ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في الجنّة وهو في النار؟ الجواب إن تاب من ذنوبه توبة نصوحًا فإن الله يغفر له، ولا يحرمه ما كان وعدَه، بل يُعطيه ذلك. وإن لم يَتُبْ وُزِنتْ حسناتُه وسيئاتُه، فإن رَجحتْ حسناتُه على سيئاتِه كان من أهل الثواب، وإن رجحتْ سيئاتُه على حسناتِه كان من أهل العذاب، وما أعدَّ له من الثواب يحبط حينئذٍ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عملَ سيئاتٍ استحقَّ بها النار ثم عملَ بها حسناتٍ تذهب السيئات. والله أعلم.

(19) مسألة في رجل استلف من رجل دراهم إلى اجل على غلة، بحكم أنه إذا حل الأجل دفع إليه الغلة بأنقص مما تساوي بخمسة دراهم فهل يحل أن يتناول ذلك منه على هذه الصفة؟

مسألة في رجلٍ استلفَ من رجلٍ دراهم إلى أجل على غلَّةٍ، بحكم أنه إذا حَلَّ الأجلُ دفع إليه الغلَّة بأنقصَ مما تساوي بخمسة دراهم، فهل يَحلُّ أن يتناول ذلك منه على هذه الصفة أم لا؟ الجواب إذا أعطاه عن البيدر كل غرارة بأنقص مما يبيعها لغيره بخمسة دراهم وتراضيَا بذلك جاز، فإن هذا ليس بقرض، ولكنه سلفٌ بناقصٍ عن السعرِ بشيء، وقدر هذا بمنزلة أن يبيعه بسعر ما يبيعه الناس أو بزيادة درهم في كل غرارة أو نقصِ درهم في كل غرارة. وقد تنازع الناس في جواز البيع بالسعر، وفيه قولان في مذهب أحمد، والأظهر في الدليل أن هذا جائز، وأنه ليس فيه حظر ولا غدر، لأنه لو أبطل مثل هذا العقد لرددناهم إلى قيمة المثل، فقيمة المثل التي تراضَوا بها أولى من قيمةٍ بمثلٍ لم يتراضَيا بها. والصواب في مثل هذا العقد أنه صحيح لازم، ولهذا كان الصحيح في النكاح الفاسد أنه يجب فيه المسمَّى لا مهرُ المثل، فإنّا إذا أوجبنا فيه مهرَ المثل أوجبنا ما يستحقُّه نظيرُها في النكاح الصحيح أولى مما يستحقُّه غيرُها في النكاح الصحيح، فإنه على التقديرين

قد أوجب في الفاسد ما يجب في الصحيح، ولكن على أحد التقديرين قد اعتُبِر فاسدُها بصحيحها، وعلى الآخر اعتُبر فاسدُها بصحيح غيرها، والأول أولى، وهي في مسألة البيع بالسعر والإجارة بأجرة المثل. ومنهم من قال: إن ذلك لا يلزم، فإذا تراضيا به جاز. والله أعلم.

(20) مسألة في رجل فاتته صلاة العصر، فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت، فهل يصلي الفائتة قبل أم لا؟

مسألة في رجلٍ فاتته صلاة العصر، فجاء إلى المسجد فوجدَ المغربَ قد أقيمت، فهل يصلّي الفائتةَ قَبلُ أم لا؟ الجواب بل يُصلِّي المغرب مع الإمام ثم يصلّي العصرَ باتفاق الأئمة، ولكن [هل] يعيد المغرب؟ فيه قولان: أحدهما يعيدها، وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. والثاني: لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس وقول الشافعي والقول الآخر في مذهب أحمد. والثاني أصحُّ، فإنّ الله لم يُوجب على العبد أن يصلّي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع. والله تعالى أعلم.

(21) مسألة في رجل خص بعض بناته، فجهزها وملكها بنحو مئتي ألف درهم، وخص بعضهم بوقف بعض ماله عليه، فهل لورثة الواقف فسخ ذلك أم لا؟

مسألة في رجل خَصَّ بعضَ بناتِه، فجهَّزها ومَلَّكَها بنحو مئتَي ألف درهم، وخَصَّ بعضهم بوقفِ بعضِ مالِه عليه، فهل لورثة الواقف فسخُ ذلك أم لا؟ الجواب الحمد لله، بل يجب عليه العدل بين أولادِه كما أمر الله ورسولُه، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لبشير بن سعد: "اتقوا اللهَ واعدِلوا بين أولادكم"، وقال: "لا تُشهِدْني على جورٍ" (2)، وأمره أن يَرُدَّ التفضيلَ بين أولادِه، وإذا ماتَ ولم يَعدِلْ فإنّه يُرَدُّ جَورُه في أظهر قولَي العلماء، كما أمر بذلك أبو بكر وعمر في مالِ سعد بن عبادة. ولسائر الأولاد المظلومين طلبُ حقِّهم وفَسْخ التخصيص الذي فيه ظلمُهم، وإعَانتُهم على إيصالِ حقِّهم إليهم من القُرَب التي يُثابُ فاعلُها. والله تعالى أعلم.

_ (1) البخاري (2587) ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير. (2) هذه رواية لمسلم في الموضع السابق.

(22) مسألة في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هذه القبور التي يزورها اليوم يصح منها شيء أم لا؟

مسألة في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هذه القبور التي يزورها الناس اليومَ -مثل قبر نوح وقبر الخليل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس وإلياس واليسع وشعيب وموسى وزكريا وهو بمسجد دمشق- فهل يصحّ من تلك القبور شيء أم لا؟ الجواب الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره. وأما يونس وإلياس وشعيب وزكريا فلا يُعرَف [قبورهم]، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة إنه قبر هود. والله أعلم.

(23) مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودهم، هل يحل لبس جلود الجميع وأكل لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودهم بالدباغ؟

مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسِنَّور البرّ وابن آوى وجلودهم، وهل يَحِل لُبسُ جلودِ الجميع وأكلُ لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودُهم بالدباغ؟ الجواب أما لحم الضبع فإنه مباحٌ عند مالك والشافعي وأحمد، وجلْدُه يطهر بالدباغ في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك -في روَاية- وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أصحّ قولَي العلماء. وهذا إذا دُبِغ بعدَ موته، وأما إذا ذُكِّيَ ودُبغَ كان طاهرًا في مذاهب الأئمة. وأما سنّور البرّ والثعلب ففي حِلِّهما قولان، وهما روايتان عند أحمد، أحدهما: يحل، ويكون جلده طاهرًا إذا ذُكّي، وهذا مذهب مالك والشافعي. وعلى هذا القول فإذا مات ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك. والقول الثاني: إنهما محرَّمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وعلى هذا إذا ذُكّي كان جلدُه طاهرًا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلده يطهر بالدباغ إذا مات عند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاهر مذهبه أنه لا يطهر.

وأما ابن آوى فإنه حرام عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلده يطهر بالدباغ. وأما القول الذي يقوم عليه الدليل فإنه قد رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنن من وجوهٍ أنه نَهى عن جلود السباع (1)، كما ثبت أنه حَرَّم لحمها (2). فما ثبت أنه من السِّباع -كالنَّمِر وابن آوى وابن عِرسٍ- فلا يَحِلُّ لحمُه ولا لُبْسُ الفِراءِ من جلدِه، ما لم يكن من السِّباع المحرَّمة كالضَّبُع فإنه يُؤكَلُ لحمُه وَيُلبَسُ جلدُه. وأما الثعلب وسِنَّور البرّ ففيه نزاعٌ. والله أعلم.

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 74، 75) وأبو داود (4132) والترمذي (1771) والنسائي (7/ 176) عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه. (2) متفق عليه من حديث أبي ثعلبة، أخرجه البخاري (5530) ومسلم (1932). وفي الباب أحاديث أخرى رواها مسلم وغيره.

(24) مسألة في لحوم الخيل وألبانها، هل هي مباحة أم لا؟

مسألة في لحوم الخيل وألبانها، هل هي مباحةٌ أم لا؟ الجواب أما لحم الخيل فهو مباح عند أكثر علماء المسلمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب أبي حنيفة -كأبي يوسف ومحمد صاحبَيْ أبي حنيفة-، وهو مذهب الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر، وهو قول ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من العبادلة. فإنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّم لحومَ الحُمُر الأهلية يومَ خيبر وأَذِنَ في لحوم الخيل. وثبت في الصحيحين (2) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: نَحَرْنا على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرسًا فأكلنا لحمَها. ولم يثبُت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه حرَّم لحم الخيل في حديث صحيح (3).

_ (1) البخاري (5520) ومسلم (1941). (2) البخاري (5519) ومسلم (1942). (3) انظر الكلام على الحديث المرويّ فيه في "نصب الراية" (4/ 196 - 197).

والقرآن لا يَدُلُّ على تحريمه، فإن قوله (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) (1) امتَنَّ الله بها على عبادِه بما يُقصَد منها في العادة، ولم يُرِد بذلك تحريمَ أكلها، بدليل أن الصحابة بعد نزول هذه الآية أكلوا لحم الحمر يومَ خيبر حتى نهاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآية مكية، فلو كان فيها دليلٌ على التحريم كان الصحابةُ رضي الله عنهم أعلمَ بذلك. وأما الذين نهوا عنها من العلماء كأبي حنيفة فقيل عنه: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه. وأما ألبانها فإن كانت لا تُسْكِر فهي مباحةٌ كلُحْمانِها، وإن كانت مُسكِرةً فهي حرام. رواه البخاري ومسلم (2). ولمسلم (3): "كلُّ مُسْكرٍ خمرٌ، وكلُّ خمرٍ حرامٌ". وتحريم كلِّ مسكرٍ هو مذهب عامة المسلمين، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وغيرِه من أصحابِ أبي حنيفة. ويجوز للرجل أن يأكل لحمَها ويشرب لبنَها إذا لم يكن مسكرًا، كما يجوز أكلُ اللحم باللبن مطلقًا، ولم يُحرِّمْ أكلَ اللحم باللبن إلاّ اليهودُ الذين حرَّموا طيباتٍ أُحِلَّت لهم لظلمِهم وذنوبهم. والله تعالى أعلم.

_ (1) سورة النحل: 8. (2) متفق عليه من حديث عائشة وأبي موسى ومعاذ. البخاري (242، 4344، 4345) ومسلم (2001، والرقم الذي بعده). وفي الباب أحاديث أخرى. (3) برقم (2003) عن ابن عمر.

(25) مسألة فيمن مات وخلف بنتا وأخا لأم وابن عم

مسألة فيمن ماتَ وخَلَفَ بنتًا وأخًا لأمّ وابنَ عمّ. الجواب للبنت النصف، والباقي لابن العمّ، ولا شيء للأخ من الأم باتفاق أئمة المسلمين، وما وصَّى به يُنفَّذ من الثُّلُثِ ثُلثِ التركة، والباقي للورثة. مسألة في رجلٍ حلفَ بالطلاق، ثم استثنَى هُنَيهةً بقدرِ ما يمكن فيه الكلام. فأجاب لا يقع فيه الطلاق، ولا كفّارةَ عليه، والحال هذه لو قيل له: قل "إن شاء الله" ينفعه ذلك أيضًا، ولو لم يَحْضُر له الاستثناءُ إلاّ لما قِيلَ له. والله تعالى أعلم.

مسائل متفرقة

مسائل متفرقة

(1) مسألة في مسجد بيت المقدس وقد جعل فيه أئمة، كل منهم يصلي في موضع منه، فإذا صلى أحد منهم في وقت ثلاة الآخر هل يدخل في النهي، فيكره له ذلك أم لا؟ وأي الأئمة أحق بالصلاة بلا كراهة؟ وهل تبطل صلاة الإمام الذي صلى بعد إقامة الصلاة لإمام

مسألة ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في مسجد بيت المقدس وقد جُعِل فيه أئمة، كلّ منهم يصلّي في موضع منه، فهل إذا صلّى أحدٌ منهم في وقتِ صلاةِ الآخر هل يدخل في النهي فيُكْرَه له ذلك أم لا؟ وهل هذا بدعة مكروه أم لا؟ وأيُّ الأئمة أحق بالصلاة بلا كراهة؟ وهل تَبطُل صلاةُ الإمام الذي صلَّى بعد إقامة الصلاة لإمام غيره أو نُكرَه؟ وهل يصح قول من قال: إن كلَّ بُنْيةٍ فيه لما اختُصَّتْ بإمامٍ صارت كالمسجد المستقلّ؟ فأجاب الشيخ تقي الدين وقال: الحمد لله، صلاة إمامين في وقتٍ واحدٍ في المسجد الأقصى أو غيره من المساجد بدعة، لم يكن السلف يفعلونها، وفيها تفريقُ الجماعات وتقليلُها، والسنةُ اتحاد الجماعة وكثرتُها، ولو كان مثلُ هذا مشروعًا لكان يُشرَعُ في صلاة الخوف أن يُصلًيَ بالناس عدَّةُ أئمة، لكن السنة جاءتْ بصلاتهم خلفَ إمامٍ واحدٍ، مع ما في ذلك من مخالفة الأصول، مثل مفارقة الإمام قبل السلام، والعمل الكثير في الصلاة، واستدبار القبلة، وقضاء المسبوق قبل سلامِ إمامِه،

وتخلُّف الصفّ الثاني عن متابعة الإمام. فهذا كلُّه جاءت به السنة ليصلُّوا جميعًا خلفَ إمامٍ واحد. والعلماء قد تنازعوا في المسجد الذي له إمام راتبٌ هل يُصلِّي فيه جماعةً من فاتته الجماعةُ، أو يُفرَّق بين المساجد التي ينتابها الناس وغيرها، أو بين المساجد العظام وغيرِها، أو بين المساجد الثلاثة وغيرها، على النزاع المشهور بين الأئمة، لأنه لم يكن يرتّب في المسجد إلاّ إمام واحد، وفي هذه الأزمنة قد ترتّب في المسجد عدة أئمة، وإذا فعل ذلك فالذي ينبغي أن يُصلّيَ واحدٌ بعد واحدٍ، ليكون من فاتته الصلاة مع الأول صلّى مع الثاني، ولأنّ إقامة جماعة بعد الجماعة الراتبة مما ذهب إليه كثير من العلماء، وجاءت به السنة في مواضع الحاجة، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن فاتته الصلاة: "إلاّ رجل يتصدَّق على هذا فيصلي معه" (1). ولأن أنس بن مالك أتى المسجدَ وقد صلَّى فيه الناسُ، فأقامَ الصلاةَ وصلَّى فيه جماعةً أخرى (2). فأما إمامةُ اثنين في وقتٍ واحدٍ في مسجدٍ واحدٍ فهذا لا يُعرَفُ أحدٌ من السلف فعله، وكلُّ ما كان أقربَ إلى السنة وأبعدَ عن البدعة فهو أولى بالاتباع. والذي أحدثَ الصلاةَ مع غيره هو أحق بالنهي ممن كان يُصلّي وحدَه. والله أعلم.

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 5، 45، 64، 85) وأبو داود (574) والترمذي (220) وابن خزيمة (1632) عن أبي سعيد الخدري. (2) ذكره البخاري (2/ 131) تعليقًا. قال الحافظ في "الفتح": وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان، وأخرجه ابن أبي شيبة من طرقٍ عن الجعد.

(2) سئل عن رجل يشتري القمح في زمان الصيف، ثم يخزنه إلى زمان الشتاء، فيمسك يده عن بيعه حتى يكثر طالبه، فهل هذا محتكر أم لا؟ وعن رجل رأى في المنام أنه بجامع ولم تدركه اللذة الكبرى والإنزال إلا بعد أن استيقظ، فهل يفسد صومه أم لا؟

وسئل الشيخ -رحمة الله عليه- عن رجل يشتري القمحَ في زمان الصيف من الجند وغيرهم، فإن ذلك الوقت يرى الجند الشِّرَى من عندهم صدقة مما عليهم من الديون وقلة الطالب للقمح، ثم يخزنه المشتري إلى زمان الشتاء، فيطلب فيه ما رزقه الله من الفائدة، فيُمسِك يَدَه عن بيعه حتى يكثر طالبه. فهل هذا محتكرٌ أم لا؟ ولابدَّ أن يُرى في قلبه حبٌّ للغلاء، فهل يأثمُ بذلك أم لا؟ وهل تركُ ذلك خيرٌ أم لا؟ وعن رجل رأى في المنام أنه يجامع، ولم تُدرِكْه اللذة الكبرى والإنزال إلاّ بعد أن استيقظ، فهل يفسد صومه أم لا؟ أفتونا مأجورين. فأجاب -رضي الله عنه- عن ذلك وقال: الحمد لله. أما ما ذكر من اشتراء القمح وخَزْنه فتركُه خيرٌ من فعلِه، فإنه يُورِثُه محبته ارتفاعَ السعر، وأن يجمع المال من عموم المسلمين. قال أحمد: إن مالاً جُمع من عموم المسلمين لمالُ سوءٍ. ولكن هذا عند طائفةٍ من العلماء إذا كان من البلاد الكثيرة القمح الرخيصة السعر إذا لم يضرّ ذلك أهلَها لا يَحرُم، بخلاف ما إذا كان شراؤه وخَزْنه يضرّ أهلَ المكان، فإنّ هذا احتكار محرَّمٌ،

كما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَحتكِرُ إلاّ خاطئٌ". ومن قال بتحريم هذا الاحتكار أخذَ بعموم هذا الحديث، وقولُه متوجِّه. وأما إذا رأى في منامه أنه يجامع ولم يُنزِل حتى استيقظ، فخرج منه الماء بغير اختياره، فإن هذا لا يفطر كما لا يفطر إذا أنزلَ في منامِه، لأن الماء خرج منه بغير اختياره. وإذا خرج منه المنيُّ بغير سعيٍ منه ولا عملٍ لم يُفطِر، كما لو ذَرَعَه القيءُ فخرج منه القيء بغير اختياره فإنه لا يفطر، وإنما يُفطِر من استمنَى واستقاءَ. ولهذا لو غلبَه الفكرُ حتى أنزل لم يَفسُدْ صومُه باتفاق الأئمة، بخلاف ما إذا استدعى الفكرَ حتى أنزلَ، ففي فساد صومِه قولان للعلماء: أحدهما يفسد، وهو مذهب مالك وأحمد في أحد القولين، اختاره أبو حفص وابن عقيل. والآخر لا يفطر، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والقولُ الآخر من مذهب أحمد، اختاره القاضي أبو يعلى وطائفة. وأما إذا كرّر النظر حتى أنزل، فإنه يفسد صومه في مذهب مالك وأحمد، بخلاف مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإنهما لا يريان الفطرَ إلاّ أن يُنزِل بمباشرةٍ كالقُبلة ونحوها. والله تعالى أعلم.

_ (1) برقم (1605) عن معمر بن عبد الله.

(3) مسألة في سورة الأنعام: هل أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة أم آيات متفرقة متتابعة؟

مسألة ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهمٍ أجمعين- في سورة الأنعام: هل أنزلتْ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملةً واحدة أم آياتٍ متفرقةً متتابعةً؟ وقد وُجد في كتاب "الوسيط في تفسير القرآن العظيم" (1) لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي: أخبرنا أبو سعيد (2) محمد بن علي الخفاف، حدثنا أبو عمر (3) محمد بن جعفر ابن مطر، ثنا إبراهيم بن شريك الأسدي، ثنا أحمد بن يونس، أنبأنا سلام بن سليم المدائني، أنبانا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أعن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُنزِلتْ عليَّ سورةُ الأنعام جملةً واحدةً، وتَبعَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليَل". أفتونا مأجورين. فأجاب الشيخ أحمد بن تيمية -رضي الله عنه وعن سائر العلماء- الحمد لله. قد ذُكِر عن طائفةٍ من السلف أنها نزلتْ جملةً واحدةً (4)، وذكره الإمام أحمد بإسناده عن جماعة، ولكن الإسناد

_ (1) 2/ 250. (2) في الوسيط: "أبو سعد". (3) في الوسيط: "أبو عمرو". (4) انظر تفسير ابن كثير (2/ 126).

المذكور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موضوع. وبكل حالٍ فلا تُقرأ في شهر رمضان إلاّ كما تُقرأ في غيرِه، لا تُقرأ جملةً واحدةً دون غيرها، كما يفعله بعض الناس يقرؤونها وحدَها في الركعة الثانية، فإن ذلك بدعة غير مستحبّة باتفاق العلماء. والله أعلم.

(4) مسألة في رجل كسب جارية من ملطية وباعها، ثم اشترى بثمنها جارية، فتبين أنها مسلمة وأبواها مسلمان، فاعتقها، فهل يجب عليه الخمس أم لا؟

مسألة ما تقول السادة العلماء في رجلٍ كسبَ جاريةً من ملطيةَ وباعَها، ثم اشترى بثمنها جارية، فتبيّن أنها مسلمة وأبواها مسلمان، فأعتقها، فهل يجب عليه الخمس أم لا؟ قال الشيخ تقي الدين -رضي الله عنه- بل يجب عليه الخمس الذي أمر الله به ورسولُه أن يُصرفَ إلى مستحقّه. والله أعلم. مسألة ومن كان معه ختمة فله أن يحملها بين قماشِه وفي خُرجة، وحمله سواء كان ذلك القماش لرجل أو امرأة أو صبيّ، وإن كان القماش فوقها وتحتها. مسألة وأما قراءة القرآن بقصد التلحين الذي يشبه تلحين الغناء فهي مكروهة مبتدعة، كما نصّ على ذلك مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم من الأئمة.

(7) سئل عن قوم لهم عيون ما عليها زروع، فجاء رجل فحقن الماء، وأحدث عليه سدا وطاحونا، فتضرر أرباب العيون، فهل لهم إزالة ما أحدثه؟

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- عن قومٍ لهم عيونٌ ما عليها زروع، فجاء رجلٌ فحقَنَ الماءَ، وأحدثَ عليه سدًّا وطاحونًا، فتضرَّر أرباب العيون، فهل لهم إزالة ما أحدثَه؟ فأجاب -رضي الله عنه- إن كان قومٌ يستحقّون الانتفاعَ بتلك العين، وقد أُحدِثَ ما يُزِيل بعضَ المنفعة التي يستحقُّونها بغير إذنٍ منهم، فلهم إزالة ما أحدثَه من الضرر حتى يعودَ حقُّهم كما كان. والله أعلم.

(8) سئل عن رجل خطب ابنة رجل فركن إليه، ثم خطبها آخر، فركب عن الأول وركن إلى الثاني، فهل للثاني تزويجها؟ وهل يكون ملعونا؟

وسُئل -رحمه الله- عن رجلٍ خَطَبَ ابنةَ رجلٍ فركَنَ إليه، ثمّ خَطَبها آخر، فرَغِبَ عن الأول وركَن إلى الثاني، فهل للثاني تزويجُها؟ وهل يكون ملعونًا؟ فأجاب -رضي الله عنه- إذا كانت المرأةُ ووليُّها قد ردًّا الخاطبَ الأولَ وامتنعا من تزويجه جازَ لغيره أن يخطبها. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نهى أن يخطب الرجلُ على خِطبة أخيه (1) حتى ينكح أو يردّ، فمتى رُدَّ الأول جازت الخطبة لغيره باتفاق العلماء. والله أعلم.

_ (1) أخرجه البخاري (5142) ومسلم (1412) عن ابن عمر.

(9) مسألة: السؤال محرم إلا عند الحاجة إليه

مسألة السؤال محرَّمٌ إلاّ عن الحاجة إليه، وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- أنه لو وجد ميتةً عند الضرورة ويُمكِنه السؤال جاز له أكلُ الميتةِ، ولو ماتَ ماتَ عاصيًا، ولو ترك السؤالَ فماتَ لم يَمُتْ عاصيًا. والأحاديث في تحريم السؤال كثيرة جدًّا نحو بضعة عشر حديثًا في الصحاح والسنن، وفي سؤال الناس مفاسدُ الذّلّ والشرك بهم والإيذاء لهم، وفيها ظلم نفسه بالذل لغير الله عزّ وجل، وظلمٌ في حقّ ربّه بالشرك به، وظلمٌ للخلق يسؤالهم أموالَهم. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن عباس: "إذا سالتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله" (1). مسألة لا يحرم على الرجل النظرُ إلى شيء من بدنِ امرأتِه ولا لمسُه، لكن قيل: يُكرَه النظرُ إلى الفرج، وقيل: لا يُكره إلاّ عند الوطء. والله أعلم.

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 293، 353، 307) والترمذي (2516) عن ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد تكلم على الحديث وشرحه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/ 459 وما بعدها).

(11) مسألة في المسافر إذا نزل في موضع وهو يعلم أنه يقيم فيه عشر ليال أو أكثر، فهل يجوز له أن يقصر ويجمع أو يتم؟

مسألة في المسافر إذا نَزَل في موضع وهو يَعلم أنه يُقيم فيه عشرَ ليالٍ أو أكثر، فهل يجوز له أن يقصر ويجمع أو يُتمُّ؟ الجواب السنة للمسافر أن يقصر الصلاةَ ركعتين ركعتين إلاّ المغرب، والجمع إذا احتاج إليه. وإذا كان المسافر نازلاً فالسنّةُ أن يقصر الصلاة، ولا يجمع إلاّ احتاج إلى ذلك. وإذا كان لا يدري كم يُقِيم فإنه يقصر أبدًا، وإن عَلِمَ أنه يُقيم خمسًا أو عشراً أو خمسة عشر ففيه قولان للعلماء، أظهرهما أن يقصر أيضًا. والله أعلم.

(12) مسألة في قضاء الدين إذا أنكر ذلك المدفوع إليه

مسألة قال المجد في الوديعة (1): وإذا قال: أذنتُ في دفعها إلى فلان وقد فعلتُ قُبِل قوله فيهما. وقال في الوكالة (2): ومن وكّل في قضاء دَينٍ، ولم يؤمر بإشهاد، فقضاه بحضرة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، لم يضمن. وإن قضاه في غيبته ضمن. وعنه لا يضمن، كالوكيل في الإيداع. وقال في الضمان (3): وإذا ادعى القضاء وأنكره الآخران فلا رجوعَ له، فإن صدَّقه ربُّ الحق وحده فوجهان، وإن صدّقه المديون وحدَه رجع عليه إن قضى بحضرته أو بإشهاد، وإلاّ فلا. وقيل: لا يرجع فيما قضى بحضرته. فمتى أمر رجل بدفع ألفٍ إلى فلان، فدفعها، فأنكر المدفوع إليه، فإن كان أمره بالإشهاد ولم يشهد ضمن، وإن لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله.

_ (1) "المحرر" (1/ 364). (2) المصدر نفسه (1/ 350). (3) المصدر نفسه (1/ 340).

قال أبو الخطاب وغيره: ومعلوم أنه لم يرد القول قوله على المدفوع إليه، فثبت أنه أراد في حق الأمر. قلت: هذا صريح في الرواية الأولى. وقال الخرقي (1) في الوكالة: ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالاً فادعى أنه دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمِر إلاّ ببينة. قلت: وهذا يوافق الثانيةَ أنه لعدم الإشهاد، فيكون لعدم التفريط، كما هي الرواية. وكذلك قال القاضي وغيره. ويحتمل أن لا يُقبَل قولُه في ذلك إلاّ ببينة أنه فعل، فلو صدَّقه لم يقبل، والله أعلم. هذا القول قول الخِرقي، فيكون الخرقي إنما تكلم في قبول قوله على الآخر. قلت: فهذا الذي ذكره المجد في الوديعة يوافق ما ذكره أبو محمد عموم كلام الخرقي، وإن النزاع في الموضعين فإنه قد يتكرر قضاء الدين، أما إذا صدَّقه في القضاء فيفرق بين أن يفرط أو لا يفرط، وحينئذ لا تختلف مسألة الخرقي ومسألة مهنأ في قضاء الدين ونحوه من نقل الملك، وعلى هذه الرواية التي نقلها الخرقي قد يفرق الأصحاب بين الوفاء وبين الإيداع كما ذكر المجد. وقال الشيخ أبو محمد (2): وإن وكّله في إيداع ماله فأودعَه ولم يُشْهِد، فقال أصحابنا: لا يضمن إذا أنكر المودع.

_ (1) في "مختصره" (ص 61). (2) أي ابن قدامة في "المغني" (7/ 225).

قال: وكلام الخرقي بعمومه يقتضي أن لا يُقبَل قوله على الآمر، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن الوديعة لا تثبت إلاّ بالبينة، فهي كالدين. وقال أصحابنا: لا يصحّ القياسُ على الدَّين، لأنّ قول المودَع يُقبل في الردّ والهلاك، فلا فائدةَ هنا في الاستيثاق، بخلاف الدَّين. فإن قال الوكيل: دفعتُ المالَ إلى المودَع فالقول قول الوكيل، لأنهما اختلفا في تصرُّفه فيما وُكِّلَ فيه، فكان القول قوله فيه. قلت: هذا يخالف ظاهر قول الخرقي على الاحتمال الثاني، وهو أشبه بقوله وما ذكروه من تعليل الأصحاب، ففي دعوى الردّ إذا كان الدفع ببينة رواية عن أحمد كقول مالك، وفي دعوى التلفيق بين ماله روايتان. وقال أبو الخطاب في الوكالة: وإن وكَّله في قضاء دَين، فقضاه في غيبة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، ضمن الوكيل. قال المجد: بهذا قال مالك والشافعي. وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان، وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يضمن، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني. قال: وهذا الذي اختاره أبو الخطاب هنا يُناقِض ما اختاره في كتاب الرهن. وصرَّح القاضي وابن عقيل في كتاب الوكالة بأن المسألة على روايتين.

وقال أبو الخطاب في الوديعة: وكذلك إن قال: أمرتَني أن أدفَعها إلى فلان وقد دفعتُها إليه، فقال المالك: ما أمرتُك، فالقول قول المودع، نمن عليه. قال المجد: بهذا قال ابن أبي ليلى، وبهذا قال مالك والثوري وعبد الله بن الحسن والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي والأوزاعي: لا يُقبل قولُه في ذلك، وهو ضامن. ووافقوا على أنه إذا وافقه على الإذن فإن القول قولُه في الدفع، إلاّ الأوزاعي، فإنه قال: لا يُقبَل قوله بدون بينة، ويضمن. قلت: هذا الذي محلُّ وفاق، فنقل الطحاوي ما ينافي ما ذكره هو وأبو محمد من عموم كلام الخرقي، فإنه قال هنا: وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان. وهذا اختيار الخرقي. فجعل الأمر بدفع الوديعة كالأمر بدفع الدَّين. وهذه المسألة هي بعينها الأمر بدفع الوديعة، ومسألة أبي محمد مسألة الكتاب من التوكيل في الإيداع والوكيل في الإيداع هو أمر بدفع الوديعة إلى مطلق أو معين، لكن قد يقال: إنه في التوكيل في الإيداع لم يعيّن المودع، بخلافه هنا، وهذا فرق عن سويد، كالأمر بقضاء الدين المطلق أو معين، فهذا شيء، وشيء آخر وهو أنه إذا كان منصوص أحمد أنه يُقبل قولُه عليه في الإذن في الدفع من غير إشهاد، فهذا أبلغ من قبول قوله في مجرّد الدفع. وقوله "ادفعها إلى فلان" يتناول ما إذا كان بطريق القضاء والإيداع والهبة وغير ذلك، فهذا موافق لرواية مهنأ، ومخالفة ظاهرة لنقل الخرقي،

- مسألة الضمان

لا سيما إذا حمل قوله على العموم، وعلى ما نقله الخرقي ينبغي أن لا يُقْبَل قولُه هنا بالإذن كقول الجمهور بطريق الأولى، وكلام الخرقي يتناول ذلك، بل ولا في الدفع أيضًا. وأما مسألة الضمان فقال أبو الخطاب: وإذا ادعى الضامنُ قضاء الحق ولا بينة له، فأنكر المضموِن له، حلف وطالب من شاء منهما، فإن طالبَ المضمونَ عنه فأخذ منه لم يكن للضامن الرجوع عليه، سواء صدق في قضاء الدين أو كذبه، لأنه أذن له في قضاء جرى ولم يوجد. وقال المجد: هذه المسألة فيما إذا قضاه في غيبة المضمون عنه وإذنُه له مطلق. وبهذا قالت الشافعية في أحد الوجهين، والثاني أنه يرجع عليه إذا صدق، اختاره أبو إسحاق. فعلى هذا إن كذّبه حلفَ لا يعلم أنه قضى عنه. ثم وجدتُ القاضيَ قد ذكر في "التعليق" مثل ما ذكرتُه، وأن قول الخرقي هو في الوديعة، وأن الخلاف في قبول قوله بحيث لو صدّقه لم يضمن، فقال في مسألة: إذا قبض وديعة بينة ثم ادعى ردّها قُبِل منه، نصَّ عليه في رواية ابن منصور، وذُكِرَ له قولُ سفيان في رجل استودعَ رجلاً ألف درهم، فجاءه فقال: ادفعْ إليَّ دراهمي، قال: قد دفعتُها إليك يُصدَّق. فإن قال: أمرتَني أن أدفعَها

إلى فلان فبينة، فقال أحمد: في كلا الأمرين يُصدَّق. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يُقبَل منه إلاّ ببينة. وقد روى أبو الخطاب عن أحمد مثل مذهب مالك، فقال: قلتُ لأبي عبد الله: إذا كانت وديعة تريد بينة؟ قال: نعم إذا كان قد أشهد عليه لا يُقبَل منه حتى يُقيم بينة. وهذه الرواية صريحة بمثل مذهب مالك، أما الأولى فإنها فيها عموم، والمقصود فيها عموم، فرق سفيان وتسوية أحمد بين الصورتين بين الدفع إليه والدفع إلى فلان. وقول أحمد "يصدَّق" قد يقال: إنه لا ينافي قول من يضمن لتفريطه لا لكذبه. ثم، قال القاضي: وجه الأول أن المودع أمين في أمثال هذا، ويحفظ الشيء لمصلحة صاحبه ومنفعته، لا لمنفعة نفسه وحظِّه، فيجب أن يكون القول قوله في الردّ. وإن شئت قلت: أمانة مجردة، وكان القول قوله في ردّها دليلُه إذا قبض بغير بينة. قلت: الأول كلامٌ مرسلٌ لا أصل له يَشهد له، والثاني قياس في صورة الفرق، من غير إلغاء الفارق. قال: ولا يلزم على هذا: المرتهنُ إذا ادَّعى ردَّ الرهنِ أنه لا يُقبَل قولُه وإن كان أمانة، لأن ممسكٌ للشيء ليستوفي الحق من نفسه لنفسه. فإذا ادَّعى الرّدّ لم يُقبَل منه، نصّ عليه في رواية أبي طالب. وفي مسألتنا لو أقرّ بالوديعة وادّعى الردّ قُبِل منه. ثم قال القاضي: مسألة، فإن أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى

رجل، فدَفَعها إليه بغير بينة، فالقول قول المودع، نصّ عليه في رواية ابن منصور في المسألة التي قبلها. قلت: نصّ أحمد أن يُصدَّق في الإذن في الدفع وفي الدفع أيضًا. قال: وقال أيضًا في رجل أمرَ رجلاً أن يدفع إلى رجلٍ ألف درهم، فدَفَعها، وأنكر المدفوع له أنه قبضَها، فإن كان أمره بالإشهاد فلم يشهد ضمن، وإن كان لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالكٌ والشافعي: لا يُقبل قوله في الدفع. وعلموا الخلاف في الوصيّ إذا ادّعى دفعَ المال إلى اليتيم بعد بلوغه، ولا بينة، فأنكر الصبي ذلك، فالقول قول الوصي، وعندهما لا يُقبل قولُه إلاّ ببينة، واختيار الخرقي ذكره في الوكيل. دليلنا إذا ادعى تسليم الوديعة إلى من يجوز الدفع إليه فكان القول قوله، دليله لو ادعى تسليمها إلى المالك فإن القول قوله، كذلك ههنا. إلى أن قال: واحتجّ المخالف بأن المالك لم يأمره بإتلافها على المالك، لأنه قد يجحد، فلا يُمكنُ المالكَ أن يقيمَ عليه بينة، ولا يقبل الدافع، لأنه ليس بأمين في حقه، فكان مفرطًا في ذلك، يلزمه الضمان بتعديه. قلت: هذه الحجة مضمونها أنه متعدَّ، لا أنه غير مقبول القول كما تقدم، وهذا خلاف ما صدّر به المسألة.

ثم قال: احتجّ بأنه ادّعى التسليم إلى من لم يأتمنه بالحفظ، فهو كما لو ادّعى تسليمها إلى أجنبي. والواجبُ أن الأجنبي لو صدَّقَه صاحبُ الوديعة أنه سلّم إليه ضمن كذلك إذا لم يصدِّقه. وفي مسألتنا لو صدَّقه أنه سلّم إليه لم يضمن إذا ادّعى التسليم، وله فيه حق. وأما إذا كان بحضرة المضمون عنه رجع، ولم يكن مفرطًا بترك الإشهاد عندنا في الصحيح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي. ومن أصحابه من قال: هو كالغيبة، فلا يرون تفريطه بالحضور، فيصير لهم في هذه المسألة ثلاثة أوجه. وكذلك ذكر ابن عقيل والقاضي أنه لا يرجع، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، لأن هذا القضاء لا يُترك في الظاهر بخلاف المشهود به. قلت: فهذا كما في "المحرر"، وفيه الفرق بين مسألة الضمان والثاني، ذكر الوجهين في القضاء في الحضور في مسألة الضمان دون مسألة الوكالة. وكذلك ذكر أبو محمد في "المغنى" مثل ما ذكر المجد في كتابيه، وعلى هذا فالفرق أن يقال: إذا وكَّله في القضاء، ولم يأمره بالإشهاد، فقد فعل ما أمره به من غير تفريط. أما في الضمان فهو لم يأمر الضامن بالوفاء، لكن الوفاء وجب على الضامن بحكم الضمان، فلو أذن له في الضمان فالموجب للوفاءِ الضمانُ دُونَ الإذن، لا سيّما على ظاهر المذهب للضامن الرجوع وإن ضمن بغير إذن. وكذلك من أدى عن غيره واجبًا عليه، كفداء الأسير. وإذا كان الوفاء هنا حصل بإذن الشارع وإيجابه فالمتصرف عن غيرِه بحكم الشرع مأمور بأن يتصرف بحسب المصلحة، بحكم التصرف بالوكالة أنه سمع الأمر. ولهذا لو أذن له فيما فيه ضرر

(13) مسألة شراء الأرض الخراجية وبيعها

عليه وفعله لم يضمن، كما لو أمره أن يبيعَه بدون ثمن المثل ليثمن قدره أو بيعه من غريم غير ملي ونحو ذلك، بخلاف من تصرَّف بحكم المصلحة كالولي. وأيضًا من يُريد أن يرجع بما قضاه عنه فهو مطلب بالبذل كالقرض، لأن وفاء المال إقراض للمدين، بخلاف الوكيل فإنه لا يرجع بشيء. وبهذا يظهر الوجه المذكور فيما إذا كان الوفاء بحضرتِه في الضمان دون الوكالة، لأن الوكيل يفعل عن الموكِّل، فسكوتُه رِضىً بذلك، والضامن يُوفي عن نفسه ما وجب عليه، وهو مقرض للمدين، ومقصود هذا القرض براءة ذمته من الدين. فصل الذي يُكْرَه من شِرَى الأرضِ الخراجية إنما كان لأن المشتريَ يشتريها فيدفع الخراج عنها، وذلك إسقاطٌ لحقّ المسلمين، كما كانوا أحيانًا يُقطِعون بعضَها لبعضِ المجاهدين إقطاعَ تمليك لا إقطاعَ استغلالٍ، كإقطاع المَوَات، فهذا الابتياع والإقطاع يُسقِط حق المسلمين من الرقبة والَمنفعة. والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعةً دائمة للمسلمين، فإذا قُطِعتْ منفعتُه عن المسلمين صارَ ظلمًا لهم، بمنزلة من غَصب طريقَ المسلمين وبَنَى في منى ونحوِها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد. فأما إذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاّه إياها بلا ثمن، وكما لو ورثَها، فإن الإرثَ

مُجمع عليه أن الوارثَ أحقُّ بها بالخراج، وذلك لأن إعطاءَها لمن أُعطِيَتْه بالخراج قد قيل إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقول بعض الكوفيين، وقد قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبَّدة المدة كما يقول أصحابنا والمالكية والشافعية. فكلا القولين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات. فالتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شَبَه من البيع دون الإجارة، ويشبه في خروجها عنها المصلحة على منافع مكانه للاستطراق أو إلقاء الزبالة أو وضع الجذوع ونحو ذلك بعرض ناجز، فإنه يملك العين مطلقًا ولم يستأجرها، وأما ملك هذه المنفعة مؤبدة. وكذلك وضع الخراج، ولو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين وأكروها لكان ينبغي إكراه المساكن أيضًا، لأنها للمسلمين إذ فُتِحَتْ عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين، فإن كَرِى الأرضِ يُساوِي أضعافَ الخراج، ولكان على المشهور عندهم، ولا يستحق الآخذون ما في الخراج من الشجر القائم ومن النخيل والأعناب وغيرها، كمن استأجَر أرضًا فيها غراس، ولكان دفعها مساقاة مزارعةً كما فعل المنصور أو المهدي في أرض السواد -أنفعَ للمسلمين اقتداءً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر، فإنه لا فرقَ إلاّ أن مُلاَّك خيبر معيّنون وملاّك أرض العنوة العمرى مطلقون، وإلاّ فيجوز للمالك أن يؤاجر، ويجوز لربّ الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة.

وأما بيعها فلو كان كذلك لباع المساكن أيضًا، ولا بيع يكون بثمن مؤبَّد إلى يوم القيامة، فالتخريج أصل دلَّت عليه السنَّة والإجماع، فلا يقاس بغيره، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "منعتِ العراقُ قفيزَها ودرهمَها، ومنعت الشامُ مُدْيَها ودينارَها، ومنعتْ مصرُ إردبَّها ودينارها" (1). واتفق الصحابة مع عمر على فعله بوضع ذلك، فإن أصل الخراج في قوله (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (2)، فإن هذا فرق بين العقار والمنقول، ومع هذا فقد أضاف القرى إليهم، فعلم اختصاصهم بها. وإذا كان كذلك فلو أخذه ذمّي من الذمّي الأول بالخراج، وعاوضَه في ذلك عوضًا، لم يكن في ذلك ضررٌ أصلاً، فلا وجه لمنعه، لأنه إن قيل: إنه وقف فهذا لا يخرج بهذه المعاوضات عن أن يكون وقفًا، بل مستحقّ أهل الوقف باقٍ كما كان. وبيع الوقف إنما مُنِع منه لإزالة حق أهل الوقف، وهذا لا يزول بل هو بمنزلة إجارة أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتُكَ هذه بما على من الخراج وبالزيادة التي تُعجِّلها لي، ولهذا انتقل إلى ورثة من هي في يده، والوقف لا يُباع ولا يُوهَب ولا يُورَث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان فالهبةُ مثله، وكذلك المعاوضة، سواء سُمِّيت بيعًا أو إجازةً. ولهذا جوَّز أحمد -رحمه الله- إصداق الأرض الخراجية، وما جاز أن يكون صداقًا جاز أن يكون ثمنًا وأجرةً، وما كان ثمنًا كان مثمنًا، فهذا ينبغي تأملُّه.

_ (1) أخرجه مسلم (2896) عن أبي هريرة. (2) سورة الحشر: 7.

يبقى إذا أخذه المسلم، فقد يكره لما فيه من الصَّغار، ولما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحراثة، فهو مانعٌ آخر غير كونه وقفًا يختلف باختلاف المصالح والأوقات، كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاملَ اليهودَ على خيبرَ لقلّة المسلمين، فلما كثُر المسلمون أجلاهم عمرُ بأمر النبي- - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صار المسلمون يعمرونها. فكذلك الأرض الخراجية، إذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفعَ لهم من أن يَبقَوا فقراءَ محاويجَ، والكفّار يستغلُّون الأرضَ بالخراج اليسير، فإنهم كانوا زمنَ عمر قليلاً وأهل الذمة كثيرًا، وقد انعكس الأمر، فكما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاملَهم على خيبر، ثم عَمرها المسلمون لفا كثُر المسلمون وتضرَّروا ببقاء أهل الذمة في أرض العرب، فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين. فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية وتضرّروا ببقائها في أيدي أهل الذمة، فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمّي ويقوم مقامَه فيها، فإن كان المؤدَّى أجرةً فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها، وإن كان ثمنًا فهو أحق باشترائها، وإن كان عوضًا ثالثاً فهو أحق به أيضًا. ومتى كثُر المسلمون لم يبقَ صَغار ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في الزمن المتقدم. كما لو أسلم الذمي الذي هو مسئول عليها، فإنها تبقى في يده مؤديًا لخراجها، ويسقط عنه جزية رأسه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ وإذا جاز أن يبقى بيده بعد إسلامه، فما المانع أن يدفعَها إلى مسلم غيره بعوضٍ أو غيرِه؟

والمسلم لا صَغارَ عليه بحالٍ، فلو كان المانع كونها صغارًا لم يجامع الإسلام لجزية الرأس، ولا يقال: هي الرقّ يمنع الإسلام ابتداء ولا يمنع دوامه، لأن الرقّ قَهَرْناهم عليه بغير اختيارهم لم نُعاوضْهم عليه، فكذلك جزية الرأس لا نمكِّنهم من المُقَام بالأرض الإسلامية إلاّ بهما، فهي نوع من الرقّ، لثبوتها بغير اختيار المسترقّ. وأما الخراج فإنما ثبت بمعنى الخارج واختياره، ولو لم يقبل الأرض ما لم يدفعها إليه، بمنزلة المساقاة المزارعة التي عامل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها أهلَ خيبر، سواء كان هناك العوض جزءًا من الزرع وهُنا العوض مسمى معلوم، وهناك لا يستحقّ شيئا إلاّ إذا زرعوا، وهنا يستحقّ إذا أمكنهم الزرعُ. فنظيرُه أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقلّ من الجزء الذي استخرج، وأن المضارب يدفع المال مضاربةً، لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق. وبالجملة فالموانع من غير جزية كونها وقفا ينظر فيها العاقبة، أما جهة الوقف يتوجه كونها مانعًا على أصول الشريعة أبدًا، وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد فهذا قائم في جميع الأرضين عُشْرِيّها وخراجيّها، وذلك شيء آخر. ونظير هذا الغلط ما علَّلوا به أرضَ مكة.

فصل ونظير ذلك مكة، فإنه لا ريبَ فُتحتْ عنوةً، ومن قال: إنها فُتحت صلحًا فاستقرَّ ملكُ أصحابها عليه، ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره، كما يقوله الشافعي= فقوله ضعيفٌ لوجوهٍ كثيرة من المنقولات. وأيضًا فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمامُ قومًا من المشركين بغير جزية ولا خَرَاجٍ لم يَجزْ إلاّ لحاجة، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامَ الحديبية. أما إذا فُتِحت الأرض فتحَ صلحٍ وأهلُها مشركون من غير أهل الجزية، فإنه لا يجوز إقرارُهم بغير جزية بإجماع المسلمين. وأيضًا فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل في العام المقبل لما حجَّ أبو بكر لمن لم يُسلِم منهم أجلَ أربعة أشهر، وإلاّ جعلَه محاربًا يستبيح دمه وماله، ولو كان قد فتحها صلحًا لم يجز ذلك. وأيضًا فإنه قد استباح قتلَ جماعةٍ سماهم، لكن فتحها عنوةً وأمَّنَ من تركَ القتالَ منهم على نفسه وماله إلاّ نفرًا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان مع أبي سفيان، فمنهم من قَبلَه فانعقدَ له، ومنهم من لم يقبل فحاربَ أو هَرَب، والأمان لا يثَبت إلاّ بقبول المؤتمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتالَ فلم يؤمِّنْه بحالٍ، لكن خصَّ وأمَّ في ألفاظ الأمان، والمقصود واحد، فإن قوله: "ومن دخل المسجدَ فهو آمن، ومن دخلَ دارَه فهو آمن، ومن ألقى

السلاحَ فهو آمن، ومن دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن" كلها ألفاظ معناها: من استسلمَ فلم يقاتل فهو آمن. ولهذا سمَّاهم الطُلَقاء، كأنهم أسرَهم ثمَّ أطلقَهم كلَّهم. فقالت الحنفية: لما فَتَحها عَنْوةً ولم يَقْسِمْها، بل أقرَّها في يد أهلِها، صار هذا أصلاً في أرض العنوة أنه لا يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا هم وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين: ولهذا لم يجز بيعُها وإجارتُها، لكونها فُتِحتْ عنوةً ولم تُقسَم كسائر أرض العنوة. وربما قالوا: صار إنزال أهل مكة للناس عندهم هو الخراج المضروب عليهم. وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج على مزارعِها، فقد عُلِمَ بالنقل المتواتر فسادُ قوله مع إجرائِه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوهٍ: أحدها: أن أرض العنوة يجوز إجارتُها بالإجماع، وبيوت مكة أحسنُ ما فيها أنه لا يجوز إجارتُها، بل يجوز بذلُها للمحتاج بغير عوض. فهذا هو الذي يدكُ عليه الكتاب والآثار والقياس، وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون فتحها عنوةً لما منع إجارتها. الثاني: أن أرض العنوة إنما تُمنَع من بيع مزارعها، فأما المساكن فلا يُمنَع ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا تمنع فيها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق.

الثالث: أن مزارع مكة ما علمنا أحدًا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعَها أو إجارتَها، وإنما الكلام في الرباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من هذا؟ الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، فقد طلبوا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إعادتَها إليهم فلم يَفْعَل، ولو كانت كسائر العنوة لكان قد أعادها إلى أصحابها، لأن الأرض إن كانت للمسلمين، واستولى عليها الكفار، ثم استنقذناها، وعُرِف صاحبُها قبل القسمة= أعيدت إليه. الخامس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا منقولها ولا عقارها ولا شيء أخذ من ذراريهم، ولو أَجرَى عليها أحكامَ غيرِها من العنوة لغنمَ المنقول والذرية. بل الصواب أن المانع من إجارتها كونُها أرضَ المشاعر التي يَشتركُ في استحقاق الانتفاع بها جميعُ المسلمين، كما قال تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (1)، فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه، لأنهم سبقوا إلى المباح، كمن سبقَ إلى المباح من طريق أو مسجد أو سوق. وأما الفاضل عليهم بذلوا لأنهم إنما لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العرصةَ مشتركة، وصار هذا بمنزلة من يبني بيئا في رباطٍ أو مدرسةٍ أو نحو ذلك له اختصاصٌ بسُكناه وليس له المعاوضة عليه، أو من يبني بيتًا في خانات السبيل، أو في دور الرباط التي تكون في الثغور، ونحو ذلك. كما تكون الأرض فيه مشتركة

_ (1) سورة الحج: 25.

المنفعة للحج والجهاد وللمرور في الطرقات أو للتعليم أو التعبد ونحو ذلك. فإذا قال: البناءُ لي، قيل له: والعرسة ليست لك، وأعيان الحجر ليست لك، التأليف أو التأليف والابعاض مما ليس لك، لا يجوز لك أن تعاوض عنه، وما هو لك فقد اعتضتَ عنه بتقديمك في الانتفاع بالعرصة. أو لأن المكي لما صار الناس يهدون إليهم الهدايا ويجب عليهم قَسْمُها فيهم صارَ يجب على المكيين إنزال الناس في منازِلهم، مقابلةَ الإحسان بالإحسان. فصاحب الهَدْي له أن يأكلَ منه مثلاً حيث يجوز، ويُعطي من شاء ولا يعتاض عنه، وكذلك صاحب المنزل يَسْكُنُه ويُسْكِنُه ولا يعتاضُ عنه. وهذا المعنى الذي قد ذكرناه هو السبب الموجب لإبقائها بيدِ أربابها من غيرِ خراجٍ مضروب عليهم أصلاً، لأن للمقيمين بمكة حقًّا وعليهم حقًّا وليست لغيرها من الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوةً متناسبًا لمنع إجارتها كما ذكرناه لإلحاقها بسائر أرض العنوة. فإن قيل: فالأرض إذا فُتِحتْ عنوةً يجوز أمانُ أهلِها على نفوسهم وأموالِهم كذلك؟ قيل: نعم يجوز قبل الاستيلاء أن يؤَمَّن من تركَ القتالَ على نفسه ومالِه، لما فيه من الانتفاع بتركِ قتالِه، وهو أمان بشرط.

بل إذا جوزنا المنَّ على الأسير بعد الأسر للمصلحة كيف لا يجوز ذلك قبل الأسر للمصلحة كيف ارباب على ماله، لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا على حكم حاكمٍ فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عَصَمَ نفسَه ومالَه، لأنه لم يتمّ القهر. فأما أهل مكة كان قبل القهر ودخلَها قهرًا، ولهذا التجوز تظهر الشبهة التي أدحضتْ كلاًّ من القولين، وأما بعد القهر فيجوز أن يمنّ على المقهورين ويدفع إليهم الأرض مُخارجةً. فالذين حاربوا بمكة أو هربوا، ثمّ أمَّنَهم بعد قهرهم والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمنّ، ولهذا سمَّاهم الطُلقاء. وأما في أموالهم فالأرض قد ذكرت بسبب ذلك فيها. والله أعلم.

(14) مسألة: أيهما أولى: معالجة ما يكره من أعمال القلب -مثل الحسد والحقد والغل والكبر والرياء والسمعة وقسوة القلب- من درنه وخبثه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة من الصلاة والصيام وأنواع القربات؟

مسألة أيُّهما أولَى: معالجةُ ما يكره الله من قلبك، مثل الحسد والحقد والغِل والكِبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب وغير ذلك مما يختصّ بالقلب، من دَرَنِه وخَبَثِه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة من الصلاة والصيام وأنواع القربات من النوافل والمندوبات مع وجود الأمور في قلبه؟ أفتونا مأجورين. جوابُ شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحراني -رضي الله تعالى عنه- الحمد لله. من ذلك ما هو أوجب، وإن الأوجب أفضل وزيادة، كما قال تعالى فيما يروي عنه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تقرَبَ إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضتُ عليه"، ثم قال: "ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبه" (1). والأعمال الظاهرة لا تكون صالحةً مقبولةً إلاّ بتوسطِ عملِ القلب، فإن القلب مَلِكٌ والأعضاءُ جنودُه، فإذا خبثَ الملكُ خبث جنودُه. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلاّ وإن في الجسد مُضْغَةً إذا

_ (1) أخرجه البخاري (6502) عن أبي هريرة.

صَلَحتْ صَلَح لها الجسدُ كلّه، وإذا فَسَدَتْ فَسدَ لها الجسدُ كلّه، إلاّ وهي القلب" (1). وكذلك أعمال القلب لابُد أن تؤثر في عمل الجسد، وإذا كان المتقدم هو الأوجب سُمي باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يُسمَى باطنًا أوجبَ، مثل تركِ الحسد والكبرياء، فإنه أوجبُ عليه من نوافلِ الصيام. وقد يكون ما سُميَ ظاهرًا أفضل، مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد تركِ بعضِ الخواطر التي تَخْطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها. وكل واحدٍ من عمل الباطن والظاهر يَعنِي الآخر، والصلاةُ تَنهى عن الفحشاء والمنكر، وتُورِث الخضوعَ ونحو ذلك من الآثار العظيمة، هي أفضل الأعمال، والصدقةُ. والله تعالى أعلم.

_ (1) أخرجه البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير.

(15) مسألة في مدين لا تذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها وأكارعها، ثم يضع ذلك ويبيعه في الأسواق، فهل يحرم شراء ذلك وأكله أم لا؟

مسألة ما تقول السادة أئمة الدين - رضي الله تعالى عنهمِ أجمعين - في مدينة لا يُذبَحُ فيها شاة إلاّ ويأخذ المكّاسُ سقطها ورأسَها وأكارعَها مَسْكًا، ثم يضع ذلك ويبيعُه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمنع عن شراء ذلك وأكلِه من أهل الذمة وغيرها، وليس يُباعُ في المدينة رءوسٌ وأكارعُ وأسقاطٌ إلاّ على هذا الحكم، ولا يمكن غير ذلك. فهل يَحْرُم شراءُ ذلك وأكلُه والحالةُ هذه أم لا؟ أفتونا مأجورين. فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- هذه حكمُها حكم ما يأخذها الملوكُ من الكُلَفِ التي ضربوها على الناس، فإن هذه في الحقيقة تُؤخذ من أموال أصحاب الغنم التي يبيعونَها للقصابين وغيرهم، فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك. وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن كانت تؤخَذ من المشتري فهي في الحقيقة من مالِ البائع. وهذه الكُلَفُ دخَلَها التأويل والشبهة، منها ما هو ظلم محض، ولكن تعذَّرَ معرفةُ أصحابه وردها إليهم، فوجبَ صرفُه في مصالح

المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم. فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة من اشترى المغصوب المحضَ الذي لا تأويلَ فيه ولا شبهة، وليس لصاحبه ولاية بيعه، حتى يقالَ: إنه فعلَ محرَّمًا يفسق بالإصرار عليه. وفي المنع من شرائها إضرار بالناس وإفسادٌ بالأموال من غير منفعةٍ تعودُ على المظلوم، والمظلومُ له أن يطالب ظالمَه بالثمن الذي قبضَه إن شاءَ أو بنظيرِ مالِه. والتورع عن هذه من التورع عن الشبهات، ولا يُحكَم بأنها حرام محض، ومن اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يُقال: إنه فَعَلَ محرَّمًا لا تأويل فيه، فإن طائفة من الفقهاء أفتَوا طائفة من الملوك بجواز وضعِ أصل هذه الوظائف، كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم" (1)، وكما ذكر بعضُ الحنفية. وما قُبض بتأويل فإنه يَسُوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضَه، وإن كان يعتقدَ المشتري أن ذلك العقد محرم. كالذمي إذا باعَ خمرًا وأخذَ ثمنَها، جاز للمسلم أن يعامِلَه في ذلك الثمن وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر، كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "وَلُوهم بيعَها وخُذوا أثمانَها" وهذا ثابت عن عمر -رضي الله عنه- (2)، وهو مذهب الأئمة.

_ (1) ص 283. (2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9886، 10044) عن سويد بن غفلة، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 205 - 206) عن ابن عباس، كلاهما عن عمر.

وهكذا مَن عمل معاملةً يعتقد جوازَها في مذهبه وقبض المال، جاز لغيره أن يشتريَ منه ذلك المال، وإذا كان هو لا يَرى جواز تلك المعاملة، فإذا قُدّر أن الوظائف يدفعها من يَعتقِد جوازها لإفتاء بعض الناسِ له بذلك، أو لاعتقادِه أن أخذَ هذا المال وصَرْفَه في الجهاد وغيرِه من المصالح جائزٌ، جاز لغيره أن يشتري منه ذلك المال، وإن كان لا يعتقد جوازَ أصل هذا القبض. وعلى هذا فمن اعتقدَ أن لولاة الأمور فيما فعلوه تأويلا، جاز له أن يشتري ما فعلوه، وإن كان هو لا يُجوز ما فعلوه، مثل أن يَقبض ولي الأمر عن الزكاة قيمتها فيشتري منه، أو مثلَ أن يُصادر بعضَ المالِ مصادرةً يعتقد جوازها، أو مثل أن يرى أن الجهاد وجب على الناس بأموالهم وأن يأخذه من الوظائف هذا من المال الذي يجوز أخذُه وصرفُه في الجهاد، ونحو ذلك من التأويلات التي قد تكون خطأ، ولكنها قد تنازع فيها الاجتهاد. وإن كان قبضَ ولي الأمر المالَ على هذا الوجه جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من نائبه الذي أمرَه بقبضه، وإن كان المشتري لا يُسَوِع قبضه. والمشتري لا يَظلم صاحبَه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضًا يتعقد جوازه، وما كان على هذا الوجه فشراؤه حلالٌ على أصحّ القولين، وليس من الشبهات. فإنه إذا جاز أن يُشتَرَى من الكفار ما قبضوه بعقودٍ يعتقدون جوازَها وإن كانت محرمةً في دين الإسلام، فلأن يجوز أن يُشتَرى من المسلم ما قبضَه بعقدٍ يعتقد جوازَه- وإن كنا نراه محرمًا- بطريق الأولى والأحرى،

فإن الكافر تأويلُه المخالف لدين الإسلام باطل قطعًا، بخلاف تأويل المسلم. ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا إلينا- وقد قبضوا أموالاً يعتقدون جوازها، كالربى وثمن الخمر والخنزير- لم تحرم عليهم تلك الأموال، كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الإسلام ولم يحرم، لقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (1). فأمرهم بترك ما بقي في الذمَم، ولا يحرِّم عليهم ما قبضوه. وهكذا من كان قد عامل معاملاتٍ دنيوية يعتقد جوازها، ثمّ تبيّن له أنها لا لَجوز، وكانت من المعاولات التي تنازع فيها المسلمين، فإنه لا يحرم عليه قبضُه من تلك المعاملات على الصحيح. والله تعالى أعلم.

_ (1) سورة البقرة: 278.

(16) مسألة في الحلاج، هل قتله الشرع مظلوما؟ وهل كان قتله بحكم الشرع أم لا؟ ومن قال: إنه قتل مظلوما مصيب أم مخطئ؟

مسألة في الحلاّج، هل قَتَلَه الشرعُ مظلومًا؟ وهل كان قتلُه بحكم الشرع أم لا؟ وهل إذا قال قائل: إنه قُتِلَ مظلومًا وإن الذي قاله الحلاّج حق- فهل هو مصيب أم مخطئ؟ أفتونا مأجورين. جواب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- بل قُتِل ظالمًا غيرَ مظلوم، وقُتِل على الزندقة التي تُعرِّف حالَه، وإن الذي قالَه كفرًا باطنًا وظاهرًا يُوجبُ قتلَه باتفاقِ أهل الإسلام علمائهم وفقرائهم. فإنْ أصرَّ على خلافَِ ذلك عُوقِبَ عقوبةً مُردعة. ولا ينتصر للحلّاج إلاّ جاهل بحالِه أو منافق عدوّ لله ورسوله. والله أعلم. وأخبار الحلاّج مذكورةٌ في كتب المصنفين، كأبي بكر الخطيب (1) وأبي الفرج ابن الجوزي (2) وسبطِه. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلَمي (3) أن جمهور المشايخ أخرجوه عن الطريق. وكان ساحرًا، وله مصنف في السحر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ (1) في "تاريخ بغداد" (8/ 112 - 141). (2) في "المنتظم" (6/ 160 - 164). (3) في "طبقات الصوفية" (ص 307 - 308).

(17) مسألة في رجل قرأ القرآن وقال: هذا هدية مني للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل يجوز هذا أم لا؟ وهل هو محتاج إلينا حتى نصلي عليه أو نسلم عليه؟

مسألة في رجل قرأ القرآن وقال: هذا هديةٌ مني للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يجوز هذا أم لا؟ وهل هو محتاجٌ إلينا حتى نُصَلِّيَ عليه أو نُسلَمَ عليه؟ الجواب لشيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- الحمد لله. لم يكن من عمل السلف أنهم يصلُّون ويصومون ويقرأون ويُهدُون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ,وكذلك لم يكونوا يتصدَّقون عنه ويعتقون عنه وإن فعلوا ذلك، لأن كلَّ ما يفعله المسلمون فله مثل أجر فعلهم من غيرِ أن يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، لما ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من دعَا إلى هُدىً كان له من الأجر مثل أجور من تَبعَه، مِن غير أن يَنقُص في لك من أجورِهم شيئًا". بخلاف الأبوين، فإنه ليس كل ما يفعلُه الولدُ يكون لوالِده مثلُه، وإن كان الأب ينتفع بعملِ ولدِه.

_ (1) مسلم (2674) عن أبي هريرة.

وأما صلاتُنا عليه وسلامنا عليه وطَلَبُنا له الوسيلةَ فهذا دعاءٌ فيه لنا، يهحيْبُنا الله عليه، ويُستَحبُّ هذا الدعاء في حقّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيزيدُه الله به من فضلِه ويثيب عليه الداعي، ولا منَّةَ له عليه، بل لله المنَّةُ عليه، وسائرُ الخلق محتاجون إلى الله تعالى، والأمة محتاجون إلى ما بعثَ الله تعالى به نبيَّها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنما هداهم الله تعالى به. والله أعلم.

رسالة في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه

رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه

- نص الكلام المردود عليه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .......... أهدابُ الجَفْن التحتاني، والتفرقة الملكية في العُلْوِيَّات أهدابُ الجَفْنِ الفوقاني، والنفسُ الكلّيةُ سوادُها، والروح الأعظم بياضُها، والله تعالى نورُها. وإنما قلنا: إنّ العُلْوِياتِ والسفْلِيّاتِ أجفانُ العين، لأنهما يُحافظان على ظهور النُّور، فلو قُطِعَتْ أجفانُ عينِ الإنسان لتفرق نورُ عينه وانتشرَ، بحيث لا يَرى شيئًا أصلاً، فكذلك العُلْوِيَّات والسفليات لو ارتفعتْ لانْبَسَط، بحيث لا يظهر فيه شيءٌ أصلاً ورأسا. ونَعنِي بعينِ اللهِ ما يَتعيَّنُ الله فيه. هذا هو الحق الصريح المتبع، لا كما يرى المنحرفُ عن منهاج الإسلام ودِينه، المتحيِّر في مبدأ ضلالتِه وجهلِه. فنقول: هذا الكلام لولا أني علمتُ مقصودَ الشيخِ به وأنه عنده كلامٌ عظيمٌ فيه كشفُ حقيقةِ الأمر، وأن مقصودَ الشيخ إنما هو المعرفةُ والهداية، لكُنا نُقابلُه بما يستحقُّه، على حدِّ ما توجبُه الشريعةُ على من قامت عليَه الحجة، لكنّ الله يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)) (1)، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله رفيقٌ يُحب الرفقَ في الأمر كله" (2)، وقال: "إن الله رفيقٌ يُحِب الرفق، ويُعطي

_ (1) سورة الإسراء: 15. (2) أخرجه البخاري (6927) ومسلم (2165) عن عائشة.

- هذا الكلام وأمثاله من أعظم الكفر

على الرفق ما لا يُعطي على العنف " (1)، وقال: "ما كان الرفق في شيء إلاّ زانَه، ولا كان العنف في شئ إلاّ شانَه" (2). وقد قال لموسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)) (3). فهذا الكلام وأمثالُه الذي فيه من الكفر ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخزُ الجبال هدًّا، إذ هو أعظم من قول الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا، إذا صَدَرَ من قومٍ يظنّون ويظنّ بهم مشايخ الإسلام أهل التحقيق والعرفان، احتاج المخاطب لهم إلى شيئين: قوة عظيمة، وغضبٍ لله، وسلطان حجهٍ، وقدرة يدفع بها شَتْمَ الله وسَبَّه والكُفْرَ به؛ ورفقٍ ولينٍ يُوصِل به إلى المخاطبين حقيقةَ البيان. والرفقُ في الجهاد باليد واللسان إنما يكون بالنسبة إلى العنف في الجهاد، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله كتبَ الإحسان على [كلّ] شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتم فأحسنوا الذِّبحةَ" (4). فلابدّ من القتل الشرعي، ولكن الإحسان فيه يكون بأن يقتل أحسن القتلات، وكذلك دفعُ الكفرِ والفريةِ على الله والإلحادِ في

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 87) والبخاري في "الأدب المفرد" (472) وأبو داود (4807) عن عبد الله بن مغفل. وفي الباب عن عليّ أخرجه أحمد (1/ 112)، وعن أبي هريرة أخرجه ابن ماجه (3688). (2) أخرجه مسلم (2594) عن عائشة. (3) سورة طه: 44. (4) أخرجه مسلم (1955) عن شداد بن أوس.

أسمائه وآياتِه وجحودِ ذاتِه وصفاتِه، لا يكون الإحسان والرفق في دفعه إلاّ بأحسن وجوه ذلك، كما قال الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1)، وقال: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (2). فمن ظلم وظَهرَ عنادُه عُوقِبَ حينئذ عقوبة مثله، بالقتل المشروع إن إستحقَّ ذلك، وإلاّ فيما دونَه على حسب الأفعال والأحوال وما يتعلق بذلك. ولا شكَّ أن طريق الله عظيم، وتحقيق الإيمان هو غاية مطلوب الإنسان، وهؤلاء المتكلمون في هذا الباب من حين ظهور دولة التتار قد خَلَّطوا في هذا الباب تخليطًا عظيمًا، وخلطوا التوحيد بالإلحاد، بل منهم من جَرَّد الإلحاد تجريدًا، فيغترُ بإضلالهم خلق كثير معتقدين أنهم على غاية الهدايةِ والحق الصريح، فإذا وضحَ الحقُّ الذي أنزلَ الله به كتبه وبعثَ به رُسُلَه، قامت الحجةُ على من بلغه ذلك. فمن خرج عنه حينئذٍ استوجبَ ما أمر الله به في مثله. وعلمتُ أن الشيخ لما وقفَ على الذي كتبَه إليَ الشيخ نصرٌ في الاتحادية، ظنَ مَن ظنَ أنه قد يَرُدُّ عليهم مَن لم يفهم حقيقة قولهم، فأراد الشيخُ أن يُبيِّن ذلك، ولم يَعلَم أن مثلَ هذا الكلام وأمثالَه قد صار مَضْحَكة عند الصبيان ومُكفِّرةً عند ذوي العلم والإيمان، وأنهم قد علموا من هذا الكلام وأمثاله ما لم يَعلَمْه غيرُهم، وهم أعرف بمذهب كلِّ واحدٍ من هؤلاء من أصحابه، بل من نفسِه. فإن الواحدَ من

_ (1) سورة النحل: 12. (2) سورة العنكبوت: 46.

- هذا مستمد من كلام الشيخ سعد الدين بن حمويه

هؤلاء يتناقض في كلامِه ولا يدري أنه يتناقض، لأن أصلهم فاسد في العقل والدين. ولا ريبَ أن الشيخَ إنما استمدَّ هذا الكلام من كلام الشيخ سعد الدين ابن حمويه، وقد قيل: إذا أردتَ أن تعرفَ خطأ شيخك فاجلس إلى غيرِه. وقد كان من الواجب على من خاطَبَنا في هذا المقام أن يتأمَّلَ مع كلام سعد الدين كلامَ ابن العربي في "الفصوص" وفي كتاب "الهُو" و"الجَلالة"، وفي مواضعَ من "الفتوحات" وفي غير ذلك؟ ويتأمل كلامَ القونوي في كتاب "مفتاح غيب الجمع والوجود"؛ ويتأمَّلَ كلامَ ابن سَبعين في "البُدّ" و"الإحاطة" وغيرهما؛ ويتأمل كلامَ التلمساني في "شرح الأسماء"؛ ويتأمَّلَ آخر قصيدة ابن الفارض التي هي "نظم السلوك"، مثل قوله: (1) لها صَلَواتي بالمقامِ أُقِيمُها وأشهدُ فيها أنها ليَ صفَتِ كلانا مُصلٍّ واحد ساجد إلى حقيقتِه بالجمع في كلِّ سَجْدةِ وما كان لي صلَّى سِوايَ ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل سجدتي ومثل قول ابن إسرائيل (2):

_ (1) ديوانه: (ص 34). (2) هو محمد بن سوار بن إسرائيل، نجم الدين الشيباني الدمشقي، شاعر حذا في بعض شعره حذوَ ابن الفارض. توفي سنة 677. له "ديوان شعر" مخطوط. ترجمته في "فوات الوفيات" (3/ 383 وما بعدها)، وهذا البيت فيه (3/ 384).

- كلام ابن [العربي] والقونوي وابن سبعين والتلمساني وابن الفارض وابن إسرائيل في الحلول والاتحاد شر من كلام اليهود والنصارى

وما أنتَ غير الكون بل أنتَ عينُه ويَفهمُ هذا السر من هو ذائقُ وقوله: وقلقل أن مرَّتْ على جَسدِي يَدي لأنيَ في التحقيقِ لستُ سِواكُمُ إلى أنواع من هذه المنظومات والمنثورات. ثمَّ يتأمَّل بنور الإسلام: هل هذا القول يرضاهُ اليهود والنصارى والمشركون، أم هو شرٌّ من مقالات هؤلاء؟ ويَعرِض ما قاله هو على كتاب الله الذي أنزلَه من السماء وسنةِ رسولي خاتم الأنبياء وما اتفق عليهَ أهل العلم والإيمان، فإن ذلك هو سلطان الله ونوره وهداه وبرهانه، ثمّ بعد هذا يتكلم. ونحن فلم نكن أدخلنا سعدَ الدين ابن حمويه في هؤلاء، لأنه كان قد صحبَ الشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا الشيخ نجم الدين هو من أجلِّ شيوخ تلك البلاد وأصحِّهم إسلامًا وأبعدِهم عما يخالف الكتاب والسنة. وكان الشيخ سعد الدين أخذ منه طريقة صحيحةً، لكنّه أيضًا مَزَجَها بشيء من طريقة هؤلاء. وذلك لأن شيوخ سعد الدين أربعة: عمه صدر الدين، وإليه تنسب خِرقتُه، فإن بني حمويه بيتٌ قديم معروف بالمشيخة والتصوف. والشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا شيخ جليل من أعظم شيوخ تلك البلاد قدرًا وأصحّهم طريقة، وله أصحاب كبار: كالشيخ مجد الدين البغدادي، والشيخ علي لالا، والشيخ سيف الدين

- شيوخ ابن حمويه في الطريقة

الباجوري وغيرهم. والثالث: الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو أيضًا من أجِلاَّءِ المشايخ، وأكثرِهم حِرصًا على متابعة السنة في أعمالِهم. وأما الرابع فهو الملقَّب بمحيي الدين ابن العربي، ومن هذا الشيخ دخل في كلام سعد الدين الاتحادُ. وقد قَدِم علينا أكبر مشايخ تلك البلاد من السعدية حسام الدين الكرماني حاجًّا، وخاطبتُه في حالِ هؤلاء، وبيّنتُ له من كلام ابن العربي وغيرِه ما كان طالبًا له، حتى رَجَعَ عن تعظيم هؤلاء، وكَفَر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، وقال: ما كُنّا نَعرِف حقيقةَ حالِ هؤلاء، ولا نعرف أن كلامَهم مشتمل على هذا كله. مع أنه كان من أكثر المشايخ تعظيمًا لابن العربي، وهو من الغلاة في سعد الدين. وجَرَتْ لنا معه فصول أظهرَ اللهُ بها الحقَّ وبيَّنَ حالَ التوحيد وتلبيسَ هؤلاء المنافقين. وحدَّثني هذا الشيخ عن شيخه عزّ الدين الطاوسي أنه سمعَ الشيخ سعد الدين- وقد سئِل عن ابن العربي وعن الشيخ شهاب الدين، فقال:- أما ابن العربي فبحر لا ساحلَ له، ولكن نور متابعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جبين الشيخ شهاب الدين شيء آخر. وهدْا كلام صحيح، فإن شهاب الدين شيخ مسلم محبّ لسنةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشريعتِه، سالك طريقةَ أمثالِه من المشايخ أهلِ المعرفة والدين، عظيمُ القدر في وقتِه، رضي الله عنه.

- تعقيب المؤلف عليه

وأما قوله عن ابن العربي: "بحرٌ لا ساحلَ له" فلعَمري إنه بحرٌ، لكن مِلحٌ أُجاجٌ، فإنه كثير الخوض في أحوال العالم وطبقات الكائنات، واسع الخيال، قادر على الكلام، وهو في باطلِه أشدُّ تمكُّنًا من الشيخ شهاب الدين في حقّه، فلهذا جعله سعد الدين أوسعَ، وإن كان شهاب الدين أقومَ، لكن الشيخ شهاب الدين من خيار أمة محمد، وإن كان غيرُه من المشايخ الكبار- كالشيخ عبد القادر- الواصلين إلى حقائق التوحيد النبوي الذي بعثَ الله به رسولَه، وما اشتمل عليه من أسماء الله وصفاتِه، التي بها يقتدرون على قَمْع هؤلاء الملاحدة ودَفْع الجهمية وضروبهم؛ أرفعُ درجةً، وأعظمُ عَلمًا وإيمانًا، وأعظمُ جَهادًا ممن ليس مثلهم، ممن يكون معرفته وتوحيده فيه نوع إجمال، لا يتميز فيه أهلُ المعرفة والسنة المحمدية ممن خَرَج عن بعض ذلك من أهل النكرة والبدعة. فهم في ذلك بمنزلة ملوك المسلمين الذين ضَعُفَ إيمانُهم وجهادُهم عن مقاومة جنكسخان ونحوه، بخلاف المؤيَّدين بكمال العلم والإيمان والجهاد، المتبعين لسيرة الخلفاء الراشدين كالأئمة والمشايخ الكبار، فهؤلاء لا يقوم معهم لأهل الضلال والبدع قائمة. فسعد الدين- مع ما فيه من الإسلام والمتابعة- فيه تخليط كثير، فإنه أحيانًا يتكلم بكلام الاتحادية؟ وأحيانًا يُجرد الاتحادَ تجريدَهم، بل يَسلُك لنفسِه مسلكًا أبلقَ لا أبيضَ ولا أسودَ؛ وأحيانًا يتكلم بكلام أهل الإسلام الموافق للكتاب والسنة؛ وأحيانًا يحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وأما صاحبُه الطاوسي ففي كلامه من الكذب على رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والباطلِ شيء كثير جدا. وتكلم في الحروفَ والدوائر بكلامٍ انفرد به، لا يُشبه كلام أبي الحسن الحَرَالّي ولا كلام أبي العباس البُوني، وهو كلام فيه أشياء حسنة مناسبة، وفيه أشياء لا فائدة فيها، وفيه أشياء ضعيفة بل باطلة من جنس كلام سائر الناس، وفيه أشياء من الهذيان والباطل التي لا يقولُها عاقل. والله تعالى يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا يجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا. وإذ قد ابتدأ الشيخُ بدعوى أن هذا هو الحق الصريح، فنحنُ نذكرُ ما تبيّن به حقيقتُه. أوّل ما في هذا الكلام أنه دعوى مجردة بلا حجة ولا دليلٍ، وإذا كان من تكلَّم في مسألة من مسائل الاستنجاء أو الإجارة لم يُقبَل منه إلاّ بالحجة والدليل، فمن تكلم في خالقِ الخلق وربّ العالمين بكلامٍ لا يوجَد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا قاله أحدٌ من السلف ولا شيخ من المشايخ الذين لهم لسان صدقٍ في عمومه، بل جميعُ أهل العلم والإيمان والمشايخ المقبولون يُكفرون من يقوله، ولم يأتِ عليه لا بحجةٍ ولا دليلٍ، كيف يُقبَل منه؟ ثمّ إن هذا الباب كيف يجوز لمؤمنٍ بالته ورسوله أن يتكلم فيه بغير الكتاب والسنةِ؟) ألم يَسمع الله يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (1)، ألم يسمع الله

_ (1) سورة النساء: 171.

- الرد على كلام الشخص المشار إليه من وجوه

يقول: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (1). ونحن ننبه على بعض حقيقة هذا الكلام، وذلك من وجوه: الأول قوله في صدر الكلام: "كان الله ولا شيءَ معه"، فهذه الكلمة مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2). ثم قال في آخره: "وهو الآن على ما عليه كان"، فهذه الكلمة ليست من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يُؤثَر عن أحد من أئمة الدين المقبولين عند عموم الأمة، ولا لها ذِكر في شيء من كتب الحديث. وقد اعترفَ بذلك ابن عربي وغيره، فقال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان الله ولا شيءَ معه"، قال: وزاد العلماء "وهو الآن على ما عليه كان". وأكثر هؤلاء الاتحادية يجعلون هذا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويجعلون هذه الكلمة أُسَّ زندقتهم، وغرضُهم أنه لم يكن معه غير، وهو الآن ليس معه غير ولا سِوى، بل الوجودُ هو عينُه ونفسُه، فلا الأصنام والأوثان والجن والشياطين والنجاسات والأقذار غيره ولا سواه، فإنه كان وليس معه غيرُه، وهو الآن ليس معه غيرُه.

_ (1) سورة الأعراف: 33. (2) أخرجه البخاري (3191، 7418) بلفظين آخرين عن عمران بن حصين. وهذا اللفظ في غير رواية البخاري، انظر "الفتح" (6/ 289).

- لفظ الحديث الذي رواه البخاري

فإذا عُرِف أن هذه الكلمة لا أصلَ لها في الشريعة انهدمتْ قاعدتُهم. ولفظُ الحديث الذي في البخاري (1) عن عمران بن حصين قال: جاء وفدُ بني تميم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم! "، فقالوا: بشَّرتَنا فأعطِنا، فجاء أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم"، فقالوا: جئناك نسألكَ عن أول هذا الأمر، فقال: "كان الله ولا شيءَ قبلَه، وكان عرشُه على الماء، وكتبَ في الذكر كلَّ شيء". قال: وجاء رجل فقال: أَدرِكْ ناقتك، فخرجتُ فإذا السراب ينقطع دونها، فودِدتُ أني كنتُ تركتُها ولم أَقُمْ. والذي ذكره الله في كتابه أنه لا يجوِز أن نجعلَ مع الله إلهًا آخر، فقال تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)) (2)، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)) (3)، وقال: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (4). لم يَقُلْ: لا تجعل مع الله مخلوقًا ولا مصنوعًا، أو لا تجعل مع الله عبدًا ولا مملوكًا، أو لا تجعل مع الله عبادًا له مخلصين، بل صرَّح بأنه مع عباده عمومًا وخصوصًا، فقال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (5)، وقال

_ (1) برقم (7418). (2) سورة الإسراء: 22. (3) سورة الإسراء: 39. (4) سورة الحجر: 96. (5) سورة المجادلة: 7.

لموسى وهارون: (إننى معكما أسمع وأرى (46)) (1)، وقال: (إنا معكم مستمعون (15)) (2)، وقال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40)) (3)،َ وقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (4)، وقال: (واصبروا عن الله مع الصابرين (46)) (5). وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهمَّ أنتَ الصاحبُ في السفر والخليفةُ في الأهل، اللهمَّ اصحَبْنا في سفرنا واخْلُفنا في أهلِنا" (6). وقال "أفضلُ الإيمان أن تعلمَ أنّ الله معك حيثما كنتَ" (7). وفي حديث: اللبيب في الجنة فيفرح الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء (8). فإذا كان ما ثمَّ غيره، ولا معه الآن شيء من الخلق، بل الأمر كما كان قبل أن يخلق الخلق، فمع من يكون ولمن يصحب؟ بل قوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (9) يقتضي أنه ثمَ شيء غيرُه، شيء لا يجوز أن نجعلَه إلهًا، ولكن يجوز أن نجعله غيرَ إله عبدًا ومملوكًا.

_ (1) سورة طه: 46. (2) سورة الشعراء: 15. (3) سورة التوبة: 40. (4) سورة النحل: 128. (5) سورة الأنفال: 46. (6) أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر. (7) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 124) من حديث عبادة بن الصامت، وضعّفه الألباني في "الضعيفة" (2589). (8) لم أجده. (9) سورة الإسراء: 39.

وعلى رأي هؤلاء: أي جعلته إلهًا فما جعلتَ معه إلهًا، إذ ما ثَمَّ غيرُه، فيجوز عندهم أن يُجعل كل شيء إلفا وما يكون قد جعل معه إلهًا، إذ ما ثمّ معه شيء آخر. فهؤلاء يجوزون عبادة الأصنام، كما صرَّح به صاحب "الفصوص"، وقال في فمن الحكمة النوحية: (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)) (1) لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، كأنّه ما عُدِم في البداية، فيُدعَى إلى الغاية ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر، وقالوا في مكرهم: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)) (2) لأنهم لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبودٍ وجها، يَعرِفه من عرفَه ويَجهله من جَهله. كما قال في المحمديين: (*وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (3)، وما قضَى الله بشيء إلاّ وقعَ. فالعارف يعرف من عبد، وفي أيّ صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد عبد الله في كل معبود. ولهم مثل هذا الكلام كثير. فمن كان قوله: إن عُباد الأصنام ما عبدوا إلاّ الله، وإنه لا يتصور أن يُعبَد إلاّ الله، وإن العابد هو المعبود، وإن الوجود هو عين الله= كيف يؤمن بقوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ)؟ وكيف يتصوَّر عنده أن يُنهَى أحدٌ عن أن يَجعل مع

_ (1) سورة نوح: 22. (2) سورة نوح: 23. (3) سورة الإسراء: 23.

- الثاني: قوله يحققوا أن الحق كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسه بوحدته الذاتية عالما بنفسه وبما يصدر منه ...

الله إلها آخر، وليس مع الله شيء لا إله ولا غير إله! وهذا المنهي عندهم هو الله، وليس هو غيره! الوجه الثاني قوله: "يحقِّقوا أن الحقَّ كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسِه بوحدتِه الذاتية عالمًا بنفسه وبما يَصدُر منه، وأن المعلومات بأَسْرِها كانت منكشفةً في حقيقة العلم شاهدًا لها". هذا الكلام مضمونُه أنّ الله كان عالمًا بالأشياء قبلَ كوبها، وهذا صحيح، لكنّ العبارة فيها طولٌ، وفيها ألفاظٌ مُوهِمة، مثل قوله: "بما يصدر منه "، فإن هذا يُوهِم مذهب الدهرية الذين يقولون: إن العالم صدرَ منه وفاض عنه. فلو قيل: "عالم بنفسه وبما يخلقُه وبما يُريد أن يخلقه" كان ذلك من عبارات المسلمين التي جاء بها الكتاب والسنة. وكذلك لو قيل: "كان رائيًا لنفسه" كان ذلك مطابقًا لما جاء به الكتاب والسنة من وصفه بالرؤية، وكذلك يقول العلماء. وأما لفظ التجلّي فإنه لا يكاد يُستعمل إلاّ في ظهور الشيء بعد خفائِه، كما قال: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)) (1)، وكما قال: (فَلَما تَجَلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) (2) ونحو ذلك. فيُشعِر ذلك أنه رأى نفسه بعد أن لم

_ (1) سورة الشمس: 3. (2) سورة الأعراف: 143.

- مناقشة قوله كانت بأسرها منكشفة في حقيقة العلم شاهدا لها

يكن رآها، وهذا باطل. والمتكلم لم يَقصِد ذلك، ولكن بتعمُّقِه في العبارات وخروجِه عن ألفاظ القرآن والسنة يقع في هذه المزالق. وأما قوله "كانت بأسْرِها منكشفةً في حقيقة العلم شاهدًا لها"، فهنا كلامان: أحدهما: أن هذا يقتضي أنه كان يرى المعدوماتِ قبل وجودِها. وهذه مسألةٌ قد تنازع فيها المسلمون، فأما العلم بها قبل وجودِها فهو حقّ، لم يخالف به إلاّ شرذمة كفَّرهم الأئمة كالشافعي وأحمد. وأما سَمْعُ المعدوم ورؤية المعدوم فذهب أكثر العلماء والمتكلمين من أصحاب الشافعي وأحمد والأشعرية والمعتزلة إلى امتناع ذلك؟ وذهب طائفة منهم من السالمية وغيرهم إلى جواز ذلك. وهذا قريب، ليس هذا مما يُخاطَب فيه هؤلاء الاتحادية، فإنّ هؤلاء لو قالوا بقول المعتزلة أو اليهود أو النصارى كان خيرًا من قولهم، وأما قولهم فلم يظهر في الإسلام إلاّ مع ظهور دولة التتار. لكن كان حقّ القائل أن يذكر حجة تَدُكُ على أن المعدومات مشهورة مرتبة، فإن موارد النزاع إذا لم يكن فيها حجة كانت دعوى مجرَّدة. الكلام الثاني: أن يُعلَم أن قولنا "كان يعلم الأشياء قبل كونها" ليس في ذلك إثبات لكون المعدومِ شيئًا في نفسه، فإن مذهب جماهير المسلمين وجماهير العقلاء أن الشيء قبل وجودِه ليس بشيء أصلاً، وأنه وإن كان معلومًا لله فالعلمُ بالشيء لا يقتضي أن يكون موجودًا ولا ثابتًا، إلاّ أن يُقَيَّد فيقال: موجود في العلم وثابت

- الثالث: قوله فلما تحركت الإرادة الأزلية أن يعرض نفسه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة أعيانها في علمه في تجفيه المطلق .....

في العلم. وذلك أنَّ الله يعلم الموجود والمعدومَ والواجب والممكن والممتنع، وقد اتفق العقلاءُ على أن الممتنع ليس بشيء، وإنما نازع بعضُهم في الممكن، فقال فريق من المعتزلة والرافضة: المعدوم الممكن شي ثابت في نفسه خارجًا عن العلم. ثم هؤلاء متفقون على أنه ليس كل ممكنٍ وُجِد. فهذا أيضًا ينبغي أن نعرفه، فلا فرقَ عند أهل السنة وجماهير الخلق بين الوجود والثبوت، بل المعدوم كما قال الله تعالى: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)) (1)، وقال: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)) (2). فإذا قال: "إنه معلومٌ لله" فهذا حقٌّ، لا فرق بين أن يقال: هو ثابت في العلم أو موجود في علم الله. الوجه الثالث قوله: "فلما تحركت الإرادة الأزلية أن يَعرِضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه في تجلِّيه المطلق، نزلتِ الحِلية الإلهية من حقيقةِ كانِه إلى سِرِّ شأنِه، فعند ذلك قارن الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميتْ عقدة "حقيقة النبوة"، فهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل، المطابقة للصفة المعلومية، فصارت مرآةً

_ (1) سورة مريم: 9. (2) سورة مريم: 67.

- مقصود هذا الكلام ومناقشته

لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتمييز صفاته القديمة، فظهر الحق فيه بصورة وصفة واصفًا يصف نفسَه ويُحيط به، فالأول هو الموصوف والثاني هو الواصف؛ والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن. فلهذه الحقيقة طرفان: طرفٌ إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفًا، وطرف إلى ظهور العالم منه، وهو المسمَّى بالروح الإضافي". ومضمونُ هذا الكلام أنّ الله لما أرادَ أن تتجلَّى الحقائق الثابتة في علمِه كما كانت متجلية له نزلَ من الذات إلى الفعل فقال: "أنا"، وظهرتْ حينئذ حقيقةُ النبوة، وهي صورة علم الحق بنفسه، فظهر فيها الوجود المطلق الذي كان في علم الله بطريق الانعكاس، كما ينعكس شعاعُ أحد المرآتينِ إلى الأخرى، وصارتْ محلاًّ لتمييز صفاته القديمة، فصار الحقُّ واصفًا موصوفًا، واصفًا باعتبار ظهورِ علمِه المطابق له وموصوفًا، وجعل الموصوف هو الله والواصف هو الرحمن، وجعل لهذه الحقيقة التي سماها عقدة "حقيقة النبوة" طرفًا إلى الحق لكونها عالمةً به، وطرفا إلى ظهور العالم فيه وهو المسمَّى بالروح الإضافي. وهذا كلُّه عندهم في نفس الرب، وهذا كلُّه عنده قديم أزلي كما قال في آخر كلامه، فيكون المصطفى محمد نبيًا في الأزل والأبد وسطًا بين الله وعبادِه. وأنا أعلم أن هذا الذي يصفونه ليس له حقيقة في الخارج، وإنما هو شيء تخيَّلوه، ولهذا يصعبُ تصوُّرُه، لأن الخيالات

- الله لا يعرض نفسه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء

الفاسدة ليس لها حدٌّ. وما أكثر ما يُوجَدُ هذا في كلام هؤلاء الملحدة في أسماء الله وآياتِه المشابهين للإسماعيلية والنصيرية والفرعونية، ولهذا كان العلماء يقولون عنهم: لهم خيال واسعٌ، والخيال والوهم محل الشياطين الذين يتنزلون عليهم بهذا. فيقال: قولك "تحركتِ الإرادة الأزلية" عبارة فيها إنكار، فلو قال: "توجَّهت أو تعلقت الإرادة" كان أحسن. ومتى كانت هذه الحركة؟ أهي قديمةٌ معه لم تزَلْ أم كان ذلك بعد أن لم يكن؟ فإن كان قديمًا بَطَلَ قولك "فلما تحركت الإرادة الأزلية نزلَ من كَانِه إلى شأنِه"، فإن هذا ظرفٌ لفعلاتٍ يقتضي تحوُّلاً من حالٍ إلى حال، والفعل الذي له ظرف زمانٍ لا يكون إلاّ حادثًا، ولذلك قلتَ: "فعند ذلك قارنَ الألفُ النون فعبر عنها". والقديم ليس له ظرف زمانٍ يتحوَّل فيه، فإنه لم يزل، وإن قلت: إن هذا مُحدَث بَطَلَ قولك بعد هذا بنبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأزل إلى الأبد. وأيضًا فقولك "يَعرِض نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه" كلام باطل، فإنّ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء، وإنما يتجلى لأوليائه يومَ القيامة في الجنة كما جاءت الآثار الصحيحة، ويتجلى أيضًا لعبادِه في عرصاتِ القيامة. وقد قيل: إن محمدًا رآه ليلةَ أُسرِيَ، وأما من سِوى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يراه بعينه في الدنيا، كما ثبت في صحيح

مسلم (1) عن النواس بن سمعان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكر الدجَّال قال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربَّه حتى يموت". وكذلك رُوِي في حديث عبادة ومعاوية وغيرهما: "واعلموا أنكم لن تَرَوا ربَّكم حتى تموتوا" (2). ومن قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى ربه ليلةَ المعراج فإنه لا يقول: إنه تجلَّى له، فإن التجلي كمال الظهور، ولم يكن الأمر كذلك، بل قد روى مسلم في صحيحه (3) عن عبد الله بن شقيق قال: قلتُ لأبي ذر: لو رأيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسألتُه، قال: عمَّا كنتَ تسألُه؟ قال: كنتُ أسألُه هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: قد سألتُه فقال: "نور أنَّى أراه"! وفي رواية: "رأيتُ نورًا". فهذا من يثبت الرؤيةَ يقول: أراد نفي العين، لأن نوره أعشى بصرَه، ومن ينفيها يحتجُّ به على نفيها، فقد اختلف أهل السنة -واختلفت الرواية عن الإمام أحمد- هل يقال: رآه بعينَي رأسه أو بعينَي قلبه، أو يقال: رآه ولا يُقَيِّد؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عند أحمد. فأما رؤية القلب -وهو شهود أهل المعرفة- فهذا موجود في الدنيا لغير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما ولي، وكذلك رؤية المنام، لكنه سبحانَه يُرى في صُوَرٍ بحسب حال الرائي، فإنَّ رؤية المنام تقتضي ذلك. وأما الأحاديث التي فيها: "رأيتُ ربّي في صورة كذا وكذا، فوضعَ

_ (1) برقم (2937). (2) أخرجه أبو داود (4320) عن عبادة. (3) برقم (178).

يدَه بين كتفي حتى وجدتُ بَرْدَ أناملِه على صدري" (1) فهذه كانت في المنام، فإن هذه لم تكن ليلةَ المعراج لأنها كانت بالمدينة، فإنّ فيها أنه احتبسَ عنهم في صلاة الفجر، ورواها معاذ بن جبل وأم الطُّفيل وغيرهما ممن لم يُصلِّ خلفَه إلاّ في المدينة، والمعراجُ كان بمكة بنصِّ القرآن وبالسنة المتواترة والإجماع، ولم يقل أحدٌ: إنه رآه بالمدينة. فأما الأحاديث التي رُوِي فيها أنه رآه في سِكَكِ المدينة أو في الطواف أو في عرفةَ فكلُّها موضوعة مكذوبة (2). والغرض هنا أنه لم يقل قطُّ مسلمٌ: إن الله عَرَضَ نفسَه على معلوماتِه أو مخلوقاتِه، ولا إنه تجلَّى لمعلوماتِه أو لجميع مخلوقاتِه، بل موسى قد سألَ الرؤيةَ فقال: (لَنْ تَرَانِي) (3)، وقال: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) (4). فإذا كان موسى عليه السلام عجزَ عن

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 66، 5/ 378) عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعا مطولا. وأخرجه أحمد (5/ 243) والترمذي (3235) عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل قال، فذكره بطوله. وصححه الترمذي والبخاري. وأخرجه أحمد (1/ 368) والترمذي (3233، 3234) عن ابن عباس. (2) انظر "الموضوعات" لابن الجوزي (1/ 124 - 125) و"اللآلئ المصنوعة" (1/ 27 - 30). (3) سورة الأعراف: 143. (4) سورة الأعراف: 143.

رؤيتِه في هذه الدار، والجبل جعلَه دَكًّا لما تجلى له، وقوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) يدلُّ على أنه لم يكن متجليًا له قبل ذلك= فكيف يقال: إنه عرضَ نفسَه أو تجلَّى للكلاب والخنازير والقرود والديدان والكفار والمنافقين والجنّ والشياطين؟ كما قال: "عرضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة أعيانُها في علمه"، فإن علمه محيطٌ بكل شيء مما ذكر ومما لم يذكر، فإن كان قد عرض نفسه على ذلك كلّه فقد لَزِمَ ما ذكر من الكفر الفاحش وما هو أفحش منه. ثمّ وأيضًا فإنّ المعلوم قبل وجودِه ليس هو سببًا موجودًا ثابتًا يُعرَضُ فيه شيءٌ أو يتجلى له شيءٌ أصلاً، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كالجمل الشرطية المعلقة بشرط معدوم مثل قوله: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) (1)، وقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (2)، وقوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) (3)، وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) (4)، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)) (5)، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (6) ونظائره متعددة.

_ (1) سورة الأنفال: 23. (2) سورة الأنعام: 28. (3) سورة التوبة: 47. (4) سورة السجدة: 13. (5) سورة النساء: 82. (6) سورة الأنبياء: 22.

- الرد على قوله نزلت الحلية الإلهية من حقيقة كانه إلى سر شانه

بل قد يُعلِمُ اللهُ بعضَ عبادِه ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فإنّا نعلم ما مضَى من القرون والأحوال، ونعلم أن القيامة ستقوم، وأنه سيدخلُ قومٌ الجنّةَ وقومٌ النارَ، وقومٌ ما أخبر الله به من أن أهل النار لو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه. ثم إذا علمنا الحوادث المستقبلة لم يكن أعيانُها الحقيقي الخارجية موجودةً في علمنا، بل وكذلك الماضية، فإن نفس السماوات والأرض ليست في نفوسها، فكيف يتصور أن يعرض نفسَه أو يتجلى لشيء ما وُجدَ بعدُ ولا صارَ له حقيقة؟ ولكن علم أن سيُوجَد. فإذا علم الله أَنه سيُولَد وُلِدَ بعدَ حولٍ، فهل يتصوَّر قبلَ أن تَحْبَل به أمُّه أن يعرض عليه شيئًا أو يتجلى له شيء من الحقائق؟ وهل يتصور أن يكون المعدوم -وإن عُلِمَ أن سيُوجَد- هل يتصور أن يكون عليمًا تجلتْ له الحقائق؟ فضلاً عن أن يعرض نفسه عليه. وأيضًا "نَزَلتِ الحلية الإلهية من حقيقةِ كَانِه إلى سرّ شأنِه" فيه أوّلاً لفظه "كانه" كما استعملتْ أولاً، وهذا خطأ، فإن الفعل لا يُضَاف، ولا يُقال: "كانه وصاره وأصبحه"، وإن كان أبو الحكم ابن برجان يستعمل هذا اللفظ في "شرح الأسماء الحسنى"، وهو كتاب جليل كثير الفوائد، لكن هذا اللفظ خطأ. ثم ما هذا "الشأن" الذي نزلَ إلى سرِّه؟ أهو شيء منفصل عنه أم متصلٌ به؟ فإن كان منفصلاً عنه فكيف يكون شيء منفصلاً عنه قبلَ أن يخلق شيئًا؟ لا سيما على أصلهم الإلحادي أنه ما ثم شيءٌ

- هؤلاء تخيلوا خيالات فاسدة، وسمعوا ألفاظا فوضعوها على غير مواضعها

منفصلٌ عنه. وإن كان متصلاً به فكيفَ ينزل مِن كانه إلى متصلٍ به وقائم به؟ وهل كان قبل هذا النزول في غير شأنِه ثم نزلَ إلى شأنه؟ أم لم يزل في شأنه؟ ثمّ عندكم هو الآن على ما هو عليه كان ليس معه شيء، فهذا الشأنُ الذي نزلَ إليه مِن كانِه الأوّل هو شيءٌ أم لا؟ إن كان شيئًا فقد صارَ معه شيءٌ آخر لم يكن معه، وإن لم يكن شيئًا فلم ينزل إلى شيء، فلم يَزل في كانِه ولم يتجدَّد شيء، فما الذي بدا مما بدا؟ هؤلاء قوم تخيَّلُوا خيالاتٍ فاسدةٍ، وسمعوا ألفاظًا، فوضعوها على غير مواضعها بحسب تلك الخيالات، فإذا حُقِّقَتْ معانيها جاء الحقُّ وزهقَ الباطل، إن الباطل كان زهوقا. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)) (1). سمعوا قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)) (2) مع قوله "كان ولا شيء معه"، وقولُ الله ورسولي حق، فإن الله كان ولا شيء معه، وهو في كل يوم في شأنٍ من شئونه، وهو أفعالُه كما جاء في الحديث: "يَغفِرُ ذنبًا ويفرج كَرْبًا ويرفعُ قومًا ويَضعُ آخرين". ليس في هذا نزول عن كانه إلى شأنِه، وإنما هو خالق خلقَ وأبدعَ وفَطَر وأنشأ، ويُحدِث الله من أمرِه ما يشاء.

_ (1) سورة الرعد: 17. (2) سورة الرحمن: 29.

- الرد على عقدة حقيقة النبوة عندهم

وأيضًا "فعندَ ذلك قارنَ الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميت عقدة "حقيقة النبوة"، يقال له: أين كانت الألف والنون قبل ذلك حتى تقارنا حينئذ؟ وما الذي أوجبَ اقترانهما بعد افتراقهما؟ وإن حَدَثا حينئذ فما الموجِب للحدوث؟ وقوله "عبّر عنها بأنا" فقبلَ ذلك ما كان يقال له أنا لما كان ولا شيء معه، لم يكن يستحق أن يقول أنا ولم يقل أنا، ولم يستحق أن يقول أنا حتى نزلَ هذا النزولَ الذي ليس له حقيقة ولا معقول. وكذلك هذه النقطة التي ظهرت، ما الموجب لظهورها؟ وأين ظهرت هذه النقطة؟ ثم أغربُ من هذا كلِّه تسمية هذه النقطة عقدة حقيقة النبوة، ياليتَ شعري مَن الذي سمى هذه النقطة بهذا الاسم؟ هل أنزل الله بهذا الاسم من سلطان؟ أم هي أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان؟ قد علمنا وتحققنا أن هذا الاسم المفترَى ليس له وجود في شيء من الكتب المنزلة من السماء، ولا هو مأثورٌ عن أحدٍ من الأنبياء، ولا تكْلم به أحد السلف القدماء ولا من المشايخ والعلماء إلاّ هؤلاء المقاربون لدولة التتار الذين بشؤم الكفر به استولى الكفار والفجار، وجاسوا خلال الديار، حيث ألحدوا في أسماء الله وآياته، وغيَّروا ما بعثَ الله [به] رسوله من الهدى ودين الحق الذي وَعَدَ أن يُظهِرَه على الدين كلّه. ثم هذه النقطة العجيبة التي سميتموها عقدة حقيقة النبوة أهي من الأعيان التي تقوم بنفسها من غير محل؟ أم هي من الصفات

التي لابُدَّ لها من محلّ؟ فإن كانت عينًا قائمةً بنفسها فإما أن تكون هي الحقّ أو غيره، فإن كانت الحق فلم يتجدد شيء، وإن كانت غيره فقد حدث غير الربّ، فقد جعل الحقّ يظهر فيه وسماه الرحمن، فيكون الرحمن اسمًا لغير الله. وإن كانت صفةً من الصفات، وليس هنا ما يقوم به إلاّ الربّ، فتكون هذه النقطة صفة له، أفهي حادثة أم قديمة؟ فإن كانت قديمة فلم يتجدد شيء، وإن كانت حادثة وهي صورة علم الحق فقد تجدد له علمٌ لم يكن له قبل ذلك، وهذا مع أنه كفرٌ لا يقولون به، لأنه تقدم أنه كان عالمًا بنفسه وبسائر المعلومات. ومقصوده بهذه الكلمات أن الحق صار معلومًا متجليًّا لمعلوماتِه بعد أن كان عالمًا بها وهي متجلية له، وقد قدّمنا أنه لا يتجلَّى لجميعها إلاّ أن يُعنَى بتجليه لها دلالتُها عليه أو علمُها به، كما قيل في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (1). ففي الجملة كون الحقّ يصير معلومًا لبعض الخلق أو كلَهم هذا معنى صحيح، لكن كيف يعلمونه قبل أن يخلقهم. فإن قيل: لأنهم في علمه. قلنا: وهم في علمه عالمون به، فإنه يعلم الأشياء على ما عليه، فيعلم المؤمن مؤمنًا والكافرَ كافرًا، والعالم عالمًا والجاهل جاهلاً، وأيّ حالٍ تجدَّد للشيء فانه يعلمه عليه في علمه قبل أن

_ (1) سورة الإسراء: 44.

يكون، كما يعلم نفس الشيء قبل أن يكون، فلا يتصور أن تصير المخلوقات عالمةً في الخارج إلاّ بعد وجودِها في الخارج، كما لا يُعلم أنها عالمة إلاّ إذا علمتْ هي، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف في الخارج أو العلم محال. فهذا التقسيم والتحقيق يكشف ما أبدَوه من الزخرف والتزويق، فإن هذه الحقيقة إن كانت صفةً لله ليعلم بها نفسَه ومعلوماتِه، فالله علم بذلك قبل ظهور هذه الحقيقة؛ وإن كانت صفةً لغيرِه فلا يتصوَّر وجودُها قبل وجود ذلك الغير. وقوله "ظهرتْ نقطة" لفظ مجمل، أيَعني حدثَتْ؟ فالمحدَث لابدّ له من محدِث، ولابد للصفة من محل، أم يعني انكشفَتْ وتجلت؟ فلمن تجلَّتْ "وما ثَمَّ إذ ذاك إلاّ الله؟ وهو عالمٌ بنفسِه ومعلوماتِه، فأيُّ شيء انكشف له وتجلَّى بهذه النقطة العجيبة الشأن؟ ما أشبهَ هذه النقطةَ بالكلمة التي تعبدها النصارى وتَزعُم أنها دخَلَتِ الناسوتَ، فيقول لهم المسلمون: هذه الصفة صفة هي كلامٌ لله، فإن كان كذلك لم يكن إلهًا يخلق ويرزق ويُعبَد، ولا يحل المسيح دون الموصوف، وإن كان جوهرًا خالقًا فإنما يتقدم بنفسه، فهي الأب أو غيره؟ إن كانت الأب فيكون الأب هو الحال، وإن كان غيره فيكون جوهرانِ منفصلانِ إلهان. فالنصارى في ضلالة وحيرة حيث أثبتوا ثلاثة آلهة وقالوا: هي إلهٌ واحد. وهؤلاء أثبتوا هذه النقطة العالمة العارفة محلاًّ ولم يجعلوا لها محلاًّ، فالشأن كل الشأن في تحقيق هذه النقطة التي هي عقدة

- تفريقهم بين مدلول الله والرحمن، والرد عليه

حقيقة النبوة، فهو "صورة علم الحق بنفسِه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصورة المعلومية التي صارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة التي ظهر الحق فيه بصورة وصفة، واصفًا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو الموصوف، والثاني هو الواصف، والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن". فيقال: قد عُلِمَ أن هذان اسمانِ من أسماء الله، ليسا اسمين لشيء من صفاته كالعزة والقدرة والحكمة، ولا اسمين لشيء سواه، وأسماء الله تعالى كلُّها متفقة في دلالتها على نفسه المقدسة، ولكل اسمٍ خاصَّةٌ ينفرد بها عن الاسم الآخر، فللرحمن الرحمة، وللحكيم الحكمة، وللقدير القدرة. وهكذا أسماء الرسول وأسماء القرآن، ليست هذه الأسماء مترادفة، ولا هي أيضًا متباينةٌ من كل وجه، بل هي باعتبار الذات مترادفة، وباعتبار الصفات غير مترادفة بل كالمتباينة، ولهذا يُسمى هذا النوع المتكافئة. وكلُّ اسمٍ فإنه يدلُّ على ذاتِ الله وعلى خصوصِ وصفهِ بالمطابقة، ويدلُّ على أحدهما بالتضمن، ويدلُّ على الصفة التي للاسم الآخر بالالتزام، فإنه يدلُّ على الذات المستلزمة للصفة الأخرى، فبين كل اسمينِ اجتماعٌ وامتيازٌ إلاّ اسم "الله"، ففيه قولان. ولهذا هل يدخل في الأسماء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما أنه لا يدخل في هذه الأسماء، بل هو متضمنٌ للجميع، وهذا يطابق قول من يقول: ليس بمشتق. والثاني: أنه من الأسماء، وهذا يطابق قول من يقول: إنه مشتق.

والصواب أنه فيه الاشتقاق وعدم الاشتقاق، ففيه الاشتقاق الأصلي لا الوضعي، فليس في الاستعمال مشتقًّا كاشتقاق سائر الأسماء التي هي اشتقاقها اشتقاق الصفات. وأما في الأصل فإنه مشتق، وهذا يُسمَّى الاشتقاق الوضعي، وذاك يُسمَّى الاشتقاق الوصفي. والأسماء جميعها هي أسماءٌ لله رب العالمين، وأما صاحب "الفصوص" وأصحابه الاتحادية فعندهم أسماء الله نِسَب وإضافات بين الوجود ليس موجودة، فهو يقول: إضافة بين الوجود الذي هو الله عنده وبين الثبوت؛ وغيرُه يقول: نسبةٌ بين أجزاء الوجود وجزئياته. وهؤلاء أعظم الناس إلحادًا في أسماء الله. إذا عُرِف هذا فالفرق بين اسم الله والاسم الرحمن أن الرحمن متضمن للرحمة المتعلقة بالخلق، والاسم الله متضمن للعموم أو لخصوص الإلهية التي هي استحقاق العبادة. فأما كون هذا واصفًا والآخر موصوفا فهذا شيء ليس له دخولٌ في معنى اسم الله والاسم الرحمن. ثم يُقال لهم: فهل كان اللهُ في كانِه قبلَ نزولِه إلى سِرِّ شأنِه مستحقٌّ لهذه الأسماء أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهذا كفرٌ، وإن قالوا: نعم، قيل: فأنتم قد جعلتم الرحمن متأخرا عن نزوله إلى سرِّ شأنه!

- قول هؤلاء مضطرب مخبط

فصل اعلم أن قول هؤلاء المنتسبين إلى ابن حمويه مضطربٌ مخبط، فإنه ليس توحيدًا محضًا، ولا إلحادًا محضًا، وإنما يظهر بظهور مذهب أهل التوحيد من المسلمين وسائر أهل الملل، وبظهور مذهب الملحدة الاتحادية مثل أصحاب ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ثمّ يتبينُ قولُ هؤلاء، فنقول: أما مذهب المسلمين وسائر أهل الملل من اليهود والنصارى بل وسائر المقرِّين بالصانع فهو أن الله سبحانه حق موجود بنفسه، متميز عما سواه، وهو ربّ العالمين وخالق الخلق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاتِه شيء من ذاته، وأن جميع الكائنات عبادٌ لله فقراءُ إليه، وهو مالكهم وربهم وخالقُهم. والقرآن من أوّله إلى آخره يذكر هذا التوحيد ويُبيّنه. ومع هذا فلله أسماءٌ وصفاتٌ وصف بها نفسه ووصفَه بها رسولُه، ومن الجهمية من يُنكِرها أو بعضَها، ويَصِف الله بصفاتٍ سلبية تنافي ما جاءت به الرسل، وتكون تلك الصفات مستلزمة للتعطيل، لكن النفاة لا يُقِرُّون أو لا يعتقدون أنها تستلزم التعطيل. والفلاسفة الصابئة القائلون بقِدَم العالم يقولون بواجب الوجود وبأنه ليس هو العالَم ولا جزءًا منه، لكن يُحكَى عن فريقٍ من الدهرية إنكارُ الصانع، وهذا هو الذي ذكره الله في القرآن عن فرعون أنه

- مذهب الجهمية والاتحادية

أنكر ربّ العالمين، ولكن كان هو وقومه كما قال الله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)) (1)، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ 0 وقال له موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) (2). وكان قدماء الجهمية الذين ينكرون أن يكون الله فوقَ عرشه يقولون: إنه بذاته في كلّ مكانٍ، وإنه حالٌ في كل مكانٍ، وهو رأيَ طائفةٍ من متصوفة الجهمية مثل الديلمي ونحوه، وأما علماء الجهمية وفضلاؤهم فلا يصفونه إلاّ بالسلب، ليس داخلَ العالم ولا خارجَ العالم، ولا هو فوقَ العرش ولا في العالم ونحو ذلك. وكان السلف وأئمة الدين يعلمون أن هذا القول يستلزم نفيَ ذاته، ويقولون: إنما يدورون على التعطيل. وهذا هو الذي أوقعَ هؤلاء الملاحدة الاتحادية في زعمهم أنه هو هذا الوجود، فإن العابد لا يَقدِر أن يَعبُد إلاّ شيئًا موجودًا، فإن الإرادة والقصد لا يتعلق بمعدوم، بخلاف الوصف والكلام، فإنه يتعلق بموجود وبمعدوم. فالمتكلمون بالنفي إذا لم يُثبتوا وجودًا تكون قلوبهم خالية من تحقيق العبادة، لأن ذلك ليس هو مطلوبهم ومقصودهم، ولهذا يَغلِب عليهم القسوة والإعراض عن العبادة لله ولغيره، وأما أهل الإرادة والعبادة من الصوفية والعامة ونحوهم إذا لم يتوجهوا بقلوبهم إلى رب العالمين الذي وصفتْه رسلُه

_ (1) سورة النمل: 14. (2) سورة الإسراء: 102.

- اضطراب الاتحادية في تفسير الوجود والثبوت

لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (1)، الذي هو فوق السماوات، فلابُدَّ أن تتعلق قلوبهم بموجودٍ ما، فتارةً يتعلقون بأنه بذاته في كلّ مكان، وتارةً تتعلق بحلوله أو اتحادِه ببعض الأشخاص كالمسيح وعُزَير وغير ذلك، وتارةً يتعلقون بعبادة الملائكة أو الكواكب والأصنام ليتقربوا بها إليه، فإنه لابُدَّ للقلب من صَمَد يُقْصَد إليه بالعبادة حق موجودٍ. والصفات السلبية لا يتعلق بها القلبُ ولا يطمئن، فإنّ قصدَ العدم كعدمِ القصد، وعبادة المعدوم كعدمِ العبادة. فهذا الجهل والضلال بصفات ربّهم هي التي أوقعتْهم في عبادة ما سواه. ثم إنه يحصل من أحدهم توجُّهٌ إلى الله وعباد له، فيشهد بقلبه الوجود القائم بأمره، ويرى أن حكم الله وسلطانَه سارِي في جميع الكائنات، فيعتقد أن ذلك هو الله الخالق، مثل من رأى شعاع الشمس فاعتقد أنه رأى الشمس وإنما رأى أثرها، وهكذا هؤلاء ما شهدوا بقلوبهم إلاّ صُنْعَ الخالق وخَلْقَه وملكَه وسلطانه، ولهذا تارةً يجعلون الربّ في ذلك كالروح في الجسد، وتارةً كالماء في الصوفة، وهذا قولٌ بالحلول، والربُّ -كما قال عبد الله بن المبارك والإمام أحمد وسائر أئمة السنة والمعرفةِ- فوقَ سماواته على عرشِه، بائنٌ من خلقِه. فجاء هؤلاء الاتحادية المستأخرون جعلوه نفسَ الموجودات لم يُخلوه منها، وجعلوا الوجود المخلوق

_ (1) سورة الحديد: 4.

المصنوع هو الوجود الخالق. ثُمَّ قد علموا أنّ ثَمَّ خالقًا ومخلوقًا، فاضطربوا هنا: فأما صاحب "الفصوص" فإنه يقول: أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كما يقول من يقول من المعتزلة والشيعة: إن المعدوم شيء، ويقول: إن نفسَ وجود الحقّ فاضَ عليها وظهرَ فيها، فوجودُها هو وجود الحقّ، وذاتها ليست ذات الحق، ويقول: ما كنتَ به في ثبوتك ظهرتَ به في وجودك، وإنّ الله ما أحسن إلى أحدٍ ولا أنعمَ على أحد، وإنما الذوات الثابتة في العدم هي المحسنة المسيئة بما قبلتْه في فيض وجود الحق عليها. ويجعل أسماء الله هي النسبة بين وجوده وبين ثبوت الممكنات. وهذا القول كفرٌ، وهو باطلٌ من وجهين: من جهة أنه جعلَ المعدومَ شيئًا ثابتًا، وفرَّق بين الثبوت والوجود، فإن هذا قول باطل وفرق فاسد، وشبهتُه ثبوتُها في علم الحقّ، ولا يلزم من علم الحقّ بها ثبوتُها في نفسها ولا وجودُها. الوجه الثاني: أنه لو فُرِض أن الأعيان ثابتة فليس وجودها وجودُ الحقّ، بل الِربُّ أبدعَ وجودَها وخلقها، كما قال تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) (1)، وقال: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (2). وهكذا يقول من يقول بأن المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم،

_ (1) سورة طه: 50. (2) في مواضع كثيرة من القرآن.

يقولون: إنه خلقَ وجودَه، لا يقولون: إن وجوده هو نفس وجود الحق. وأما سائر الاتحادية فلا يفرقون بين الوجود والثبوت، ولا يقولون: إن المعدوم شيء، بل منهم من يفرِّق بين الوجود المطلق والمعين، كالقونوي فإنه يقول: الحق هو الوجود المطلق، فإذا تعيَّن لم يكن هو الحقّ. وعلى قول هذا ليس لله وجودٌ إلاّ ما يقوم بالمخلوقات، فلو زالت لزال وجودُها. وهو أيضًا جَحْدٌ لربّ العالمين في الحقيقة، وإثباتٌ للوجود الذي أقرَّ به فرعون. وأصحاب هذا القول والذي قبلَه يُفرِّقون بين المظاهر والمراتب والمجالي وبين الظاهر المتجلِّي، فيقولون: ظهرَ وجودُه في أعيان الممكنات -على رأي صاحبه "الفصوص"، أو ظهرَ الوجودُ المطلقُ في المتعينات- على رأي صاحبه الرومي. وأما التلمساني وغيرُه فعندهم ما ثمَّ غيرٌ ولا سِوى بوجهٍ من الوجوه، ولا يُفرّقون بين المطلق والمعيّن والوجود والثبوت، بل هو الله عندهم كالبحر وأمواجه. وهم تارةً يُشبِّهون الله بالشمع والفضّة الذي يظهر في صورٍ مختلفة وهو هو. ثم يقول الرومي: هو المادة المشتركة المطلقة، وأما أعيان الصور فليس هو. وأما ابن العربي فيشبهه بظهور النور في الزجاج، يظهر في كل زجاجة بحسب لونها، وهو واحدٌ في نفسه. وأما التلمساني ونحوه فأبلغ من هؤلاء.

- كلام سعد الدين ابن حمويه مركب من مذهب المسلمين ومذهب الاتحادية، وهو إلى الاتحادية أقرب

وأما هذا الكلام المذكور المضاف إلى سعد الدين بن حمويه فهو مركَب من مذهب المسلمين وسائر أهل الملل الذي جاءت به الرسلُ عن الله، ومن مذهب هؤلاء الاتحادية، وهو إلى الاتحادية أقرب، وما فيه من الإلحاد فهو يُشبِه قولَ صاحب "الفصوص" من وجهٍ، وقولَ صاحبِه الرومي من وجهٍ، وليس مَثلَهما. وذلك أنه جعل ثبوتَ الحقائق في علم الله بمنزلة ثبوتها في الخارج ليجعل التجلي عليها، وثبوتُ الحقائق في علم الله صحيح، لكن يمتنع أن يحصل التجلّي على شيء عُلِمَ قبلَ أن يُوجَد. ثم جعل تجلِّيَ الحقّ لها بمنزلة ظهور وجودِه في الأعيان الممكنة. فهذا القول أقل كفرًا، لكنّه أظهرُ تناقضًا، فإنه لم يُصرِّح بأنّ وجودَها عينُ وجودِه، ولا صرّح بثبوتِ ذواتها، لكنّه زعم أن تجلّيه لأعيانها الثابتة في علمه، مثلَ ما ذكرَ صاحبُ "الفصوص" أنه حصولُ وجودِ الحقّ في أعيانِ الممكنات. وتكلّم في التعيّن بكلامٍ قاربَ مذهبَ القونوي، كما سنذكره إن شاء الله. وهذا التفصيل الذي نذكره نحن لمذاهب هؤلاء أكثرُهم لا يفهمونه، ولعل فاضلَهم يَفهم بعضَ مذهبَ نفسِه فقط، لأنها أقوال هي في نفسِها متناقضة، فاضطربوا فيها كما اضطربت النصارى في الأقانيم وفي الحلول والاتحاد. وهذا شأن الباطل، كما قال تعالى. (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)) (1)، وكما قال تعالى.

_ (1) سورة الذاريات: 8 - 9.

(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)) (1). فصاحبُ هذا القول يقول: "هو في كانه يتجلَّى لنفسه بوحدتِه الذاتية، يشهد نفسه ويشهد الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة له، فلما أراد أن يعرض نفسه على تلك الحقائق نزل التجلي من كانه إلى شأنه التي يظهر فيه الحقائق الكونية، فظهر هو في تلك الحقائق". وهنا يضطرب أمرُه، فلم يُصرِّح بأن وجودَه قامَ بالأعيان الممكنة كما صرَّح ابن العربي، فيكون اتحاديًّا محضًا، ولا اكتفَى بمجرَّد كونِه يَعلم أن تلك الحقائق أو بعضها ستعلمه كما هو الواقع، فإن الله إذا عَلِم الأشياء وعَلِمَ أنها ستعلمه لتكن حينئذٍ قد صارت موجودةً عالمةً حتى توجد. بل استعملَ اللفظ المشترك كما فعلَه في عين الحقّ، فجعل ثبوتها في علمه بمنزلة ثبوتها في الخارج، وظهوره لها علمًا بمنزلة ظهور وجودِه في ذواتها. فتدبَّر هذا، فإنه يُبين حقيقةَ مطلوب هذا، ومعلومٌ أن وجودَه الذاتي إن ظهر في الأعيان فأول ما يظهر باسم "أنا"، لأنه على زعمهم في وحدته الذاتية لا يتعين، ولا يكون له اسمٌ إلاّ إذا ظهر في أعيان الحقائق المعلومة، عند هذا وعند ذاك ظهرت، وهذا التعيين هو النقطة الذي قد سماها عقدة حقيقة النبوة، وهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصفة المعلومة،

_ (1) سورة النساء: 82.

- قول غلاة الإسماعيلية والنصيرية

وذلك لأن الحق كان متجليًا نفسه لنفسه، ثم لما نزلت الحلية من كانه إلى شأنه تجلَّى للأعيان المشهودة له، وأعظمها حقيقة النبوة التي هي الإنباء والإخبار عن الوجود المطلق الذي كان في كانه. فهذه النقطة هي في مشهوداته مطابقة لعلمه بذاته. ولهذا كانت صورة علم الحق بنفسه المطابقة للصفة المعلومية لأنه كان يعلم نفسه، وتجلَّى لهذه النقطة كما تجلَّى لنفسه، فصار شهودُها له مطابقًا لشهوده لنفسِه، ولهذا قال: فصارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة. لأن الذي كان في كانه من تجليه لنفسه بوحدته المطلقة ليس فيه عندهم صفات متميزة ولا أسماء، وهذا متفق عليه بين الاتحادية أنه الحق عندهم في نفسه، ليس له اسم ولا صفةٌ أصلاً. وهذا وإن كان مطابقًا لقوله غالية الصابئة الفلاسفة والباطنية الذين يقولون: الحق الأول ليس له اسمٌ ولا صفةٌ، ولا يقولون: هو عالم ولا قادر ولا موجود، ولا يقولون: يعلم ولا يقدر ولا غير ذلك، فأولئك إذا حكى عنهم أنه يجعلونه عينَ مخلوقاته، فإن كان أولئك يجعلونه ساريًا في المخلوقات فقولهم هو قول هؤلاء الملاحدة. وهذا صحيح، فإني وقفتُ على مقالة غلاةِ الإسماعيلية والنصيرية في كتبهم التي يَضنُّون بها إلاّ على خواصّ أكابرهم، فرأيتهم يصرِّحون فيها بنفي الصانع الخالق وجحوده بالكلية، كالمذهب الذي ذكره الله عن فرعون وحِزبِه، وعن الذي حاجَّ إبراهيم في ربّه. وهكذا حكى عنهم من وقف على سرّ دعوتهم، كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر ابن العربي، وقد ذكر كلامهم

والردّ عليهم أبو عبد الله البصري وأبو الوفاء ابن عقيل وأبو حامد الغزالي وأبو القاسم الشهرستاني وغيرهم. وأما غالبُ الخلق فإنما ينقلون عنهم ما يظهره لهم من دون هؤلاء، وهو نفي الأسماء والصفات عن ذاتِه، كما يُظهِره هؤلاء الاتحادية، ليظنّ الجهال أن هذا تحقيق عظيم وتوحيد تائمٌ، وليقربوا بذلك من الصابئة الفلاسفة الذين يقولون: [ليس] له إلاّ صفة سلبية أو إضافية. وقريبٌ منه مذهب الجهمية النافية للصفات، فإن هؤلاء لا ينفون الأسماء ولا الأحكام التي هي الصفات القولية الخبرية، وهو الإخبار عنه بأنه يخلق ويرزق، وإنما ينفون المعاني التي يستحقها بنفسه. وقد قَرَّرتُ فسادَ مذاهب هؤلاء في مواضع، وبيّنتُ في مخالفتَها للكتاب والسنة والإجمَاع ولفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفسادها بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة. وقد رأيتُ هؤلاءِ الغالية من الإسماعيلية الباطنية قالوا في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي هو الدرجة السابعة، وهو آخر المراتب عندهم، وهو جحود الصانع بالكلية وجحودُ النبوات والشرائع والجزاء في الآخرة، قالوا: إن أقرب الطوائف إليهم هم المتفلسفة الصابئة، قالوا: لكن ليس بيننا وبينهم خلافٌ إلاّ في واجب الوجود، يعنون الذي صدرتْ عنه الممكنات، فإنهم يُثبتونه ونحن لا نُثبته. وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء الاتحادية، وكنتُ لما بينتُ له حقائقَ أمرِهم يتعجبُ من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صُمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، حدثني أن

سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلاّ فرقٌ لطيف. وهذا حقيقة هذا القول المحكيّ عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانع بالكلية، وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع، فإذا قال القائل: إن هذا العالم الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في جحود ربّ العالمين. لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهرَ فيه صانعُه، وهذا يقول: هو صانعُه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي له اسم ولا صفة، وله أسماءٌ وصفات، وهي نسبةُ ذلك الوجود إلى مظاهرِه ومجاليه أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كلّ منهم يتخيَّلُ نوعًا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة النبوة، فيحتاج أهل العلم والإيمان إلى مجاهدتهم بالقلب واليد واللسان، فيحتاجون إلى شرح مقاصدهم -لتتبيَّنَ أنواع كفرهم، ولئلاّ يحسب الجهّال بهم أنَّ تحتَها حقائق إيمانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت مجملاً أو مفصَّلا، لأنهم منتسبون إلى الإسلام ومدَّعون أنهم سادات العالم وأفاضل الخلق، حتى قد يتفضلوا على الأنبياء -كاحتياج موسى إلى جهادِ فرعون، وإبراهيم الخليل إلى مناظرة الذي حاجَّه في ربّه، واحتياج المؤمنين إلى جهاد القرامطة الباطنية، فالله يفتح بين أهل العلم والإيمان (1).

_ (1) انتهى ما في الأصل. وكتب بعده فيه: "بياض كبير".

§1/1