جامع المسائل لابن تيمية ط عالم الفوائد - المجموعة الخامسة

ابن تيمية

مقدمة التحقيق

مقَدّمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة خامسة من "جامع المسائل" تحوي 18 رسالة وفتوى لم تُنشر ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض)، اعتمدتُ في إخراجها على أصول خطية، ووجدتُ اثنتين منها (برقمي 3 و 9) ضمن كتب مطبوعة، فاعتمدتُ عليها لعدم العثور على مخطوطاتهما في المكتبات التي زرتُها أو راجعتُ فهارسها. والرسائل الآتية بأرقام (1، 4، 6، 7، 10، 12، 13، 14) تُطبع هنا لأول مرة، والبقية طُبِعتْ من قبلُ طبعاتٍ متفاوتةً في الصحة وعلى مناهج مختلفة في التعليق والتحقيق. ومجملُ ما لاحظتُه في أكثر هذه الطبعات -مع اعترافي بفضل السبق للقائمين عليها- أنهم لم يهتمّوا بضبط النصّ وتحريرِه وإخراجه سالمًا من التصحيف والتحريف والسقط، بل انصرفوا إلى التعليق عليها، ونَقْل كلام المؤلف من كتبه الأخرى في صفحات، والتعريف بالأعلام والبلدان والفرق، وإحصاء الفروق بين النسخ (وجلُّها من تحريف النسّاخ). وألحقَ بعضُهم بالكتاب فصولاً ليست منه، كما في "الأموال السلطانية" (الطبعة الثانية بمكة المكرمة 1409) ص 93 - 99، وفي "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (ط. دار ابن حزم) ص 46 - 55.

- وصف الأصول المعتمدة

ومن أمثلة الاضطراب ما وقع في الكتاب الثاني المشار إليه (ص 39): "وما نقله بعض المفسرين في أنه تزوجها، وإنما هو منقول عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان لا يصلُ إليها". وأن يوسف تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يصدِّق به، فإن هذا لم يخبر بنقله أحد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [وقد] قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذّبوهم". انظر السياق الصحيح في طبعتنا (ص 253، 254) لتعرف مدى الخلط والاضطراب الحاصل في هذه العبارة. ومنهم من اجتهد في إخراج النصّ بالاعتماد على نسخٍ متأخرة وناقصة، ولم يطلع على الأصل القديم الموجود في بعض المكتبات، وبعضهم اعتمد على أصول قديمة ولم يُحسِن قراءتها. والأمثلة على ذلك كثيرة، لا أحبُّ الخوض فيها وبيان ما حصل من الناشرين من أوهام وتصرفات، وأقول: جزى الله من أحسن منهم وتجاوز عمّن أساء، ووفقنا جميعًا لما فيه الخير والصواب، إنه سميع مجيب. • وصف الأصول المعتمدة الأصول التي اعتمدتُ عليها في النشر تتفاوت في الجودة والقِدم، وفيها ما يصعب الاستفادة منها بسبب رداءة الخط وكثرة التصحيف والتحريف، وقد بذلتُ الجهد في قراءتها قراءةً صحيحة دون الإشارة إلى الأخطاء والتحريفات الواقعة فيها، وتوقفتُ عند

بعض العبارات والألفاظ أيامًا حتى توصّلتُ إلى حلّها وفكّ الرموز عنها، وأشرتُ إلى المواضع التي لم أهتدِ فيها إلى الصواب، وهي قليلة. وفيما يلي وصفُ هذه الأصول: (1) "ضابط التأويل": توجد نسخته الخطية في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [2775]، وهو أول كتاب من "مجموعة رسائل" لشيخ الإسلام بخطوطٍ مختلفة في تواريخ متباعدة. عدد أوراقه 22 ورقة، وليس كاملاً، فقد كُتِب في آخره: "آخر ما وُجد، والله أعلم، وليست كاملة". ويبدو أنه مأخوذ من "الكواكب الدراري"، فقد ذكر في آخر الكتاب: "وهو آخر المجلد الخامس بعد المئة من الكواكب الدراري، ولله الحمد والمنة، وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. غفر الله لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولمن نظر فيه ولجميع المسلمين. يتلوه في السادس بعد المئة تفسير سورة سبّح، وهي مكية" وفي النسخة بياض في مواضع، أشرتُ إليها في التعليقات، وفيها اضطراب وغموض وشطب وإلحاق كثير، وكأنّ الناسخ نقلَ من الأصل فرسَم الكلمات كما وجدها دون أن يفهمها. والكتاب في الأصل ردٌّ على من انتقد "الرسالة المدنية في الصفات" التي أرسلها المؤلف إلى الشيخ شمس الدين. الدُّباهي، فقد اقتبس منها ومن كلام المنتقد لها الذي لم يُسمِّه، وأطالَ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا بتمامه. وخطبة الكتاب مسجوعة، ولا غرابةَ فيها، فقد وجدنا المؤلف يميل إلى السجع في مقدماتِ بعض كتبه، مثل

"شرح حديث إنما الأعمال بالنيات" (الذي وصل إلينا بخطه) وكتاب "تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل" (الذي نقل خطبته بتمامها ابن عبد الهادي في "العقود الدرية" ص 29 - 35) وغيرهما. (2) "قاعدة في الوسيلة": توجد نسختها في مكتبة الدولة ببرلين برقم [2088 (We. 1708)] (الورقة 83 - 99)، وذكر المفهرس أنها من القرن التاسع (1). والنسخة بخط نسخي، وفيها بعض الأخطاء من الناسخ الذي لم يذكر اسمه. (3) "الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) ": ذكرها ابن رشيِّق (2) وقال: إنها بضع وعشرون ورقة، وذكرها أيضًا ابن عبد الهادي (3) ولم أعثر على نسخة خطية منها، والمنشور هنا يُمثل قطعة منها توجد في "شرح الكوكب المنير" (2/ 34 - 45 من طبعة جامعة أم القرى سنة 1400). (4) "فتوى في الخضر": ذكر ابن رشيق (4) رسالة في الخضر هل ماتَ أو هو حيٌّ؟، وذكرها ابن عبد الهادي (5) وقال: "واختار أنه مات". وقد نُشر في "مجموع الفتاوى" (4/ 338 - 340) ما يخالف

_ (1) انظر فهرس مكتبة برلين (2/ 449). (2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" ضمن "الجامع" (ص 235). (3) "العقود الدرية" (ص 36). (4) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 237). (5) "العقود الدرية" (ص 54).

هذا الاختيار، واستشهد به أحد علماء اليمن، فردَّ عليه قطب الدين الخيضري (ت 894) في كتابه "افتراض دفع الاعتراض"، وقال (ق 13 أ): "هذا الذي نقله عن ابن تيمية ليس هو اعتقاده في مسألة الخضر، وإنما نقله عن الطائفة القائلين بحياته. والمنقول عن ابن تيمية ترجيح القول بوفاته، وقد تتبعتُ جوابَ ابن تيمية في هذه المسألة الذي نقل عنه الطحاوي هذا الكلام، فلم أزل حتى ظفرتُ به، فوجدتُه قد قال بعد حكاية هذا القول واحتجاج القائلين به ما نصُّه ... ". ثم نقل الفتوى، وقال بعدها (ق 14 ب): "فهذا هو المحفوظ عن ابن تيمية في حال الخضر. وقد تكلم على ذلك في عدة مواضع من تصانيفه وفتاويه، وقد وقفت له على فتاوى كثيرة سئل عنها في هذا المعنى". ونظرًا لأهمية هذه الفتوى ننشرها في هذه المجموعة بالاعتماد على ما ورد في كتاب "افتراض دفع الاعتراض" نسخة مكتبة الدولة في برلين برقم [2530 (Lbg. 604)] ، (الورقة 13 أ-14 ب) (1). والقول بوفاة الخضر هو المعروف عن الشيخ، كما في كتابه "الرد على المنطقيين" (ص 184 - 185) و"مختصر الفتاوى المصرية" (ص 198) و"مجموع الفتاوى" (4/ 337، 27/ 100)، وهو الذي نقله ابن القيم عن شيخه في "المنار المنيف" (ص 68).

_ (1) أشكر أخي الأستاذ أحمد الحاج الذي أوقفني عليه وصور لي الصفحات المطلوبة منه.

(5) "سؤال في يزيد بن معاوية": توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 63 ب-71 ب)، وهي نسخة مصححة ومقابلة على الأصل، فقد كتب في آخرها: "بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد". ولعلها من مخطوطات القرن الثامن. وكانت في ملك الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطي الحنبلي سنة 1280، كما يدلُّ عليه التملك الموجود بخطه على صفحة العنوان. وللشيخ كلام آخر في هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى" (4/ 481 - 488) يختلف عما هنا. وذكر ابن رشيق (1) وابن عبد الهادي (2) له رسالة في أمر يزيد هل يُسبُّ أم لا؟ ولا ندري هل هي إحداهما أو غيرهما. (6) "فصل في اسمه تعالى القيوم": أصله في دار الكتب المصرية برقم [330 تفسير تيمور] (ق 102 - 115) ضمن مجموع، وهو بخط حديث لم يكتب عليه تاريخ النسخ واسم الناسخ، وفي هوامشه بعض التصحيح. (7) "فصل في معنى الحنيف": هو ضمن المجموع السابق (ق 88 - 97). (8) "فصل إذا كان في العبد محبة": توجد مخطوطته ضمن

_ (1) أسماء مؤلفات شيخ الإسلام (ص 237). (2) "العمود الدرية" (ص 54).

مجموعة في مكتبة المكتب الهندي بلندن برقم [عربي 1857 من مجموعة دلهي] (الورقة 117 - 121)، وهي بخط نسخي حديث، وليس عليها اسم الناسخ. وفي أول هذه المجموعة ما يفيد أنها كانت في "ملك الفقير أحمد الباسطي بن عبد الصمد، ثم ملكه عبد الرحمن أحمد خادم الإمامين الأعظمين". وقد نشره الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله ضمن "دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى محمود محمد شاكر" (ص 437 - 452) ط. القاهرة 1403، وهي نشرة جيدة. (9) "فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره": هذا الفصل مقتبس من كلام الشيخ في "حاشية الجمل على تفسير الجلالين" (4/ 236 - 237)، وقد أرشدني إليه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، فجزاه الله خيرًا. ووجدتُه باختصارٍ في مصادر أخرى، مثل: "حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي" (4/ 416) و"حاشية الصاوي على تفسير الجلالين" (4/ 142) و"روح البيان" لإسماعيل حقي (9/ 248 - 249). ولشيخ الإسلام فتوى في هذا الموضوع ضمن "مجموع الفتاوى" (24/ 306 - 313) قرَّر فيها أن أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له وبما يُعمل عنه من البرّ، وأن هذا مما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. ثم سردَ بعض هذه الأدلة.

وقال في "شرح حديث أبي ذر" ضمن "مجموع الفتاوى" (18/ 143): "وقد بيّنا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلاً شرعيًّا يبيِّن انتفاع الإنسان بسعي غيره". وهذا كله يؤكد صحة نسبة الفصل المذكور إلى الشيخ. (10) "رسالة في الاتباع": هي ضمن مجاميع المدرسة العمرية في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع رقم 18 (عام 3755)]. (الورقة 6 - 20)، مخرومة من أولها، وقد ذهب ذلك بعنوانها. وفيها خرمٌ آخر بين الورقتين 14 و 15، فالكلام ليس بمتصل فيهما. والنسخة جيدة كتبت بخط نسخي واضح من خطوط القرن الثامن تقديرًا. وقد عنونها مفهرسُ المجاميع بـ "رسالة في التوحيد" (1)، والكلام فيها يدور حول اتباع السنة ونبذ البدع، فيحسُن أن تسمَّى "رسالة في الاتباع". ولشيخ الإسلام "قاعدة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وأن كلّ خير في العالم فأصله متابعة الرسل" (2)، و"قاعدة في أن كل عمل صالح أصله اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (3)، و"اتباع الرسول بصريح المعقول" (4). (11) "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن": ذكر

_ (1) انظر (فهرس مجاميع المدرسة العمرية" (ص 82). (2) "العقود الدرية" (ص 49). ونشرت ضمن "مجموع الفتاوى" (19/ 93 - 105). (3) "العقود الدرية" (ص 47) و"أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 46). (4) ضمن "مجموع الفتاوى" (10/ 430 - 453).

ابن عبد الهادي (1) أن الشيخ شرح هذا الحديث مراتٍ عديدة. وقد وصل إلينا أحد شروحه للحديث في النسخة الخطية الموجودة بدار الكتب المصرية تحت رقم [20545 ب] (ق 1 - 9)، وقد كتبت بخط نسخي جيد، وليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع تقديرًا. وهذه النسخة كثيرة الأخطاء والتحريفات، وفيها اضطراب شديد في موضع أشرتُ إليه فيما مضى. (12) "فصل في قوله: أصدق كلمة قالها شاعر ... ": هو ضمن المجموع الموصوف سابقًا برقم (7)، الورقة 97 - 102. (13) "المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية": وصلت إلينا ثلاث نسخ منها: إحداها: ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 40] (الورقة 320 - 325) بخط العلاّمة المحدّث ابن الملقِّن (ت 804)، فقد جاء في آخرها: "تمت الفتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين". وهو ابن الملقن كما ذكرنا، ولم يثبت تاريخ النسخ، ولعله كتبها في أواخر القرن الثامن. والنسخة الثانية: في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية [204 مجاميع] الرسالة الخامسة ضمن المجموع، بعنوان "جواب عن حكم

_ (1) "العقود الدرية" (ص 62).

الصلاة خلف المالكية وغلط المانع". وهي بخط قديم (1). والنسخة الثالثة: ضمن "الكواكب الدراري" لابن عروة، في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [578] (الورقة 6 - 8)، وفيها بعض الأخطاء. وتوجد هذه المسألة ضمن "مجموع المنقور" (1/ 111 - 115)، ولكنها مختصرة هناك، واعتمدتُ على النسخة الأولى في إثبات النصّ لكونها أصحّ من غيرها. (14) "رسالة إلى الملك المؤيد": توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة التي سبق وصفها برقم (9)، الورقة 121 ب-126 أ. وقد ذكرها ابن رشيق (2) وابن عبد الهادي (3) بعنوان "رسالة إلى ملك حماة". (15) "رسالة إلى الملك الناصر في شأن التتار": توجد النسخة الفريدة منها في مكتبة كوبريللي برقم [1142] (الورقة 174 - 179)، وقد كتبت سنة 758 بخط نسخي ممتاز. وللشيخ رسالة أخرى إلى الملك الناصر بعد فتح جبل كسروان، نشرتْ ضمن "العقود الدرية" (ص 182 - 194). ولعلها تلك التي أشار إليها ابن رشيق (4) وابن عبد الهادي (5) بعنوان "رسالة إلى ملك مصر".

_ (1) انظر فهرس الخزانة التيمورية (4/ 30). (2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 249). (3) "العقود الدرية" (ص 51). (4) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 249). (5) "العقود الدرية" (ص 51).

(16) "قاعدة في الانغماس في العدوّ": ذكرها ابن عبد الهادي (1)، وتوجد نسخة خطية منه بعنوان "رسالة في الجهاد" ضمن مجموع رسائل لشيخ الإسلام في دار الكتب المصرية برقم [444 فقه تيمور]، وهي في 48 صفحة بخط حديث، كُتِبت في 25 من محرم سنة 1319. وناسخها عبد الحميد ... ، كما في خاتمة الرسالة الثانية من هذا المجموع. والنسخة كثيرة الأخطاء والسقط، وقد أشرتُ إلى بعضها في التعليق. (17) "مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة": هي الرسالة الثالثة ضمن المجموع السابق، في 75 صفحة، بخط الناسخ المذكور. (18) "قاعدة في الأموال السلطانية": توجد منها نسخة في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 23 ب-29 ب)، كتبت في 15 من شعبان سنة 814 بخط نسخي جيّد، وهي مقابلة على الأصل كما يظهر من الدوائر المنقوطة. وقام بنسخها محمد بن أبي شامة في مدرسة أبي عمر بدمشق، وقد قال في أول الرسالة: "نقلتُها من النسخة التي نُقِلت من خط شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن قُوبلتْ". ومنها نسخة أخرى بعنوان "قاعدة شريفة في الأموال المشتركة" في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم [13754] (في 7 ورقات)، وهي مكتوبة بخط فارسي حديثٍ، وليس عليها اسم الناسخ وتاريخ

_ (1) المصدر نفسه (ص 48).

النسخ، ولعلها كُتِبت في أوائل القرن الرابع عشر. وهذه النسخة كثيرة الأخطاء، ولذا لم أرجع إليها إلاّ في مواضع قليلة لاستدراك السقط أو تصحيح الخطأ في النسخة الأولى. وبعد، فهذا وصف إجمالي للأصول المعتمدة في تحقيق هذه الرسائل، وأرجو أنني قد وُفّقت في قراءتها وإخراجها ضمن هذه المجموعة. ولا يفوتني أن أشكر هنا أولئك المحققين الأفاضل الذين قرأوا هذه المجموعة قبل دفعها إلى المطبعة، وأبدوا لي ملاحظات وتصويبات مهمة. والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وهو حسبي ونعم الوكيل. محمد عزير شمس

- نماذج من النسخ الخطية

نماذج من النسخ الخطية

(1) ضابط التأويل

ضابط التأويل

- خطبة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّرْ و [أعِنْ] (1) قال الشيخ الإمام العالم العامل شيِخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية قدَّس الله روحَه ونوَّرَ ضريحَه: الحمد لله ربّ العالمين، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي بعثَ إلينا رسولاً يتلو علينا آياتِه و [يُزكِّينا]، ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنّا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين. إنه أكمل لنا [ديننَا]، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلام دينا، وأخبرَ أنّ الدين عنده الإسلام هذا الدين، فمن يَبتغِ غيرَ الإسلام دينًا فلن يُقبَل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وجعلَ الكتابَ الذي أنزلَه بيانًا للناس وهُدًى وموعظةً [للمتقين]، وأخبرَ أنه أنزلَه بلسانٍ عربيٍّ مبين، كما أخبرَ أنه ليسَ على الرسول [إلاّ البلاغ المبين]، وذكرَ أن آياتِه أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصلَتْ، إذ الإحكام والتفصيل يجمع خبرًا وطلبًا، وكمال القصد واللفظ الذي تتمُّ به وتتبيَّنُ الأشياء، (مِن لَّدُن حَكِيمٍ) يحصلُ بحكمتِه الإحكامُ، (خَبِيرٍ (1)) (2) يُفصِّل الخطاب للمخاطبين. [فليس] كل من هُدِي للحق يسدد الخطاب، كما أنه ليس كلّ من سدّد الخطاب يَبلُغ

_ (1) ما بين الأقواس المربعة في هذه الصفحة مطموس أو مخروم، وقد أثبتنا ما يناسب السياق. (2) سورة هود: 1.

- منهج الصحابة في تلقي العلم وتبليغه

إلى أفهام المستمعين بالإفصاح البليغ يكون قد هُدِي للحق. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي بن أبي طالب (1): "يا عليُّ! سَلِ الهدى والسداد، [واذكُر بالهدى] هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك [السهم] " إلى كمال العلم والقصد والقول والعمل. فهذا الدعاء المبين وما وَصَف سبحانه كتابه ورسوله من البيان والتفصيل والهدى والتبليغ والإفتاء والموعظة والشفاء والقصص والشهادة والرحمة، كقوله سبحانه وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ…) (2). ثم إنه سبحانَه دعا إلى التفكر والتذكر والتأ [مّل] والفقه لهذا البيان عبادَه المبلَّغين، وجَعلَ رسولَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو [المبيِّن] لما حَصَل مجملاً أو مشكلاً على المكلَّفين، وثبتَ بالأدلة المتعددة ضَبْطُ علماء أصحابه لمعانيه كضَبْطهم لحروفه المنقطعة القرين، وكانوا يُلْقُون ما تَلَقًّوه عن رسولهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أصحابهم من التابعين من الكتاب ظَهرًا وبطنًا ومن الحكمة صورةً ومعنًى مشتركين دون مختصّين، فيشتركون كلُّهم أو أكثرهم في كثير من ذلك أو أكثر، ويختصُّ بعضهم ببعضِ ذلكَ وكلٌّ على ما يأثِرُه أمين، شائع بينَهم معرفةُ أصول دينهم وعمل ملّتهم جملةً وتفصيلاً ليسوا فيها مختلفين، وإن كان قد يمتاز بعضهم من زيادة العلم ببعضِ ذلك بما ليس عند الباقين، واستفاضتِ النقول عنهم أنهم تعلَّموا من نبيِّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جميعَ ما يحتاجون إليه فيصيرون من الكاملين وما يصيرون به من الأكملين.

_ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 268). وأصله عند مسلم (2725). (2) سورة النحل: 44.

- ظهور البدع

ولهذا كانت البدعُ محرمةً في وقتِ جماعتِهمِ، لعدمِ مُقْتضيها أو لوجودِ مُنافِيها عن هذا الدين، ثم نبغتِ البدع وتعَدَّت من الصغير إلى الكبير على قضاءٍ سبق من الكتاب المبين، فلما قُتِلَ الخليفة المظلوم الشهيد وافترقت الأمة بعده على خلافة الخلفاء الراشدين نَبغ في آخر خلافة النبوة بدعتانِ متقابلتانِ تقابُلَ المغضوب عليهم والضالّين: الخوارج يُكفِّرون الخليفتين ومن تولاّهما، يُحِلُّون دماءَ أهل القبلة، ويفعلون بأهلِ الإيمان فعلَ اليهود بالنبيين؛ والروافض يَغْلون فيمن يَستحقُّ الولاية والمحبَّةَ، فيُطْرونَه إطراءَ النصارى، حتى وَصفوا البشرَ بالإلهية، وألحقوا الأئمة بالمرسلين. فتولَّى أميرُ المؤمنين عقوبة الطائفتين: بقتالِ الطائفة الممتنعة من المارقين، وقَتْل المقدورِ عليه من الغالين، والتعزير بجَلْدِ المفترين. ثمَّ لما صارتِ الجماعةُ على الأقذاء، وانصرف عن ضبطِ دقيقِ الدين وعنايةِ الأمرِ في أواخرِ عصر الصاحبين حدثتْ أيضًا بدعتان متقابلتانِ: بدعة القدرية والمرجئة على منهاج الأولين، هؤلاءِ عَظَّمُوا أمرَ المعاصِي، حتى أوجَبُوا نفُوذَ الوعيد بجميع أهل الكبائر أو جميع المذنبين، ومَنَعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم الراحمين، وأعظَموا أن يكون الله قدَّرَها أو شاءَها أو يَسَّرها، وسَلَبوا الإيمانَ بالكلية لمن اتصفَ بها من المسلمين. وهؤلاءِ استخفُّوا بأمر الواجبات والمحرمات، حتى استبعدَ بعضُهم نُفُوذَ الوعيدِ على الكبائر المُوبِقاتِ، وزعموا أن ذلك نوع من التخشين. وربما احتجُّوا لنفوسِهم بالقدرِ السابق، وتَشَبَّثُوا بكونهم مجبورين، وسَوَّى عامَّتُهم في الإيمان والدين بين الأبرار والفُجَّار والصالحين والفاسقين.

بدعة الجهمية المعطلة

ثمَّ مَن تمسكَ ببعضِ شُعَب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يُوافِقْهم على أصلِ بدعتِهم وَلا دَعَا إلى مذهبهم كثيرٌ من المتقدمين، وهم جمهور من روى عنه أصحاب الصحيح ممن يُنسَب إلى بعض هؤلاء المخطئين. فقام يَرُدُّ هذه البدعةَ بقايا الصحابة العالمين، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغُرِّ الميامين. ثم لمَّا فرغَ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعًا وخَفْضًا، ومن الدين ببدعتين إبرامًا ونقضًا، شَرَعَ في ربّ العالمين، فحَدَثَتْ بدعتا الجهمية في أواخر عصر التابعين: هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسلُ من الصفات، كأنه عندهم من الأمور المعدومات، مضاهاةً لضُلاَّل الصابئين. ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطُرَّ إلى إثباتِه جعلَه لآخر شاملاً لمخلوقاتِه شمولَ الكلِّ لأجزائِه شائعًا، حتّى قد خصّهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده (1)، وجعلوه الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في مُعيَّنين، وبعضهم يجعله ساريًا في المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات. تعالى الله عن افتراء الظالمين. فشاركوا النصارى في الحلول والاتحاد، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد في الموجودين. ثم ضربُوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصنافَ المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى إليها من المسموعات، تارةً بدعوى النظر الثاقب للنُّظَّار، وتارةً بدعوى الوجد الصادق للعابدين.

_ (1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

- بدعة الممثلة

ثم آل الأمرُ بكثيرٍ منهم إلى أن عمَّمَ هذا فيما جاءت به الرسلُ من الوعد والوعيد، وما وصفتْه من النعيم والعذاب في داري الكفار والمؤمنين، فسَلَبوا داري القرارِ ما عُرِفَ لهما من الصفات ونفوهما، إذ أثبتوهما كإثباتِهم إله المؤمنين، فحملوا مثل ذلك في المحارم والعادات، تارة ينفون عن الأفعال أحكامها الشرعية، وتارةً يثبتُون ذلك في حقّ العموم دون المتميزين، وعصامهم في جميع ذلك نوع تعطيلٍ يسمونه بالمعقول، ونوعُ تحريفٍ يسمونه بالتأويل ويُزخرِفونه بالتزيين. وهؤلاء الممثِّلة يُمثِّلون صفاتِه بصفات المخلوقات، ويجعلونه من جنس المصنوعاتِ وصِنْفِ الآدميين، حتى وصفَه بعضُهم باللحم والدم والعظام -تعالى الله عن ذلك- مُضاهاةً لكثير من اليهود في تمثيلهم لربِّهم بالمخلوق، حتى عَبَدُوا العِجْلَ وكانوا أتباعَ الدّجال اللعين، وإن كان كثير من اليهود أو أكثرُهم معطِّلةً جهميةً ذاتَ تحريفٍ يسمونه التأويل، يَفِرُّون به -زعموا- من تحيُّزِ ذي القوة المتين، فإنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "لَتَركِبُنَّ سنَنَ مَن قبلَكم حَذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتُموه"، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ". وجبَ بمقتضى هذا الخبر البيِّن أن يكون في أمتنا ما كان في أهل الكتابين قبلنا. هذا، ثم المهتدي منهم قبل المبعث ضلَّ بعدم اتباع نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلذلك افترقت أمتنا زيادةً عليهم ثلاثةً وسبعين.

_ (1) أخرجه البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.

- إنكار السلف على الجهمية

واليهود والنصارى فيهم معطِّلةٌ وممثلّةٌ، وإن كان الغالبُ على خاصّتهم التعطيل، فلذلك كانت المعطِّلة فينا أكثر من الممثّلين، حتى إنّ المعطِّلة يكثر وجودُهم، والممثّلة لا يكاد يُوجَد منهم إلاّ الواحد بعد الواحد في الأحايين. فلما حدثتْ بدعةُ التعطيل والتمثيل أنكر ذلك فقهاء التابعين، وكذلك من بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكان ذلك عندهم أعظمَ من جميع بدع المبتدعين، حتى أَعْظَمَ السلفُ أمرَ الجهمية ونحوهم وكَفَّروهم، وإن كانوا عن غيرهم متوقفين، واحتاجوا لانتشار البدع إلى ضبط السنن الدامغة للمبتدعين، وكان أسعدُ الناس بهذه الوراثة أصحابَ الكتاب والآثار المأخوذةِ عن سيّد المرسلين -وهم أهل القرآن والحديث- الباحثين (1) في كلّ باب في العلم عن آثار الصحابة والتابعين، العالمين بصحيحه وعليلِه، الفاهمين بمنطوقِه ودليلِه، السالكين سبيلَ السابقين، الذين أخبرَ بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول: "يَحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهَلين" (2). وكانوا هم أئمةَ الإسلام الذين هم قدوةُ المؤمنين، بحيث كان

_ (1) كذا بالنصب هنا وما بعده، وهو صفة لـ "أصحاب الكتاب ... ". (2) أخرجه البيهقي (10/ 209) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 29) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً. ورُوِي موصولاً من حديث أسامة بن زيد، وصححه العلائي في بغية الملتمس (ص 34).

- محنة خلق القرآن وآثارها

أربابُ هذه البدع في أيامِهم أصاغِرَ مَقموعِينَ، [و] كانت دلائلُ الحقّ وآياتُه ظاهرةً مشهورةً لمن كان لها يستبين. فقُتِلَ برأيهم غَيْلاَن القدري والجَعْدُ بن درهم والجهم بن صفوان المعطِّلان ونحوهم من الظالمين. إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قَلَّ أولئك الهُداةُ وكثُر هؤلاء الغُوَاة، واستعوزُوا إلى باطلهم بعضَ الوُلاَةِ، حتى ظهرتْ محنةُ الصفاتِ في علماء المسلمين، ودَعَوهم إلى القولِ بخلق القرآن، إذ هو مفتاحُ جُحودِ الصفات، وأقربُ من غيرِه إلى المبتدئين. وظهرَ في الإسلام ما لم يُعْهَد مِثلُه من الفتنةِ في الدين، حتى عدَّ الناسُ من قام به ما كان أسى وصبرًا من العلماء، ومن أطفأَ شَرَرها من الخلفاء دفعًا بجراءة، مُفَضلاً على غيرِه من الأولين، وانكسرتْ بذلك سَوْرَةُ أهل البدع ظاهرًا، ولكن في النفوسِ مِن طواياها كَمِيْن مَكيْن. وصارَ من أسباب الفتنة أنَّ نَقَلَةَ الآثار قَلَّ فيهم الفقهُ والعَقْلُ، كما أنّ ذوي النظر والاعتبار ضَعُفَ علمُهم بآثار النبيين، ولن يتِمَّ الدينُ إلاّ بمعرفةِ الآثار النبوية والسَّلَفية وفِقْه لما قَصَدُوه من المعاني الدينية، كما كان علماء السالفين، وصارَ ذلك سببًا لإعراض كثير من طلبةِ العلم من أعيانهم عن النظر في قواعدِ الدين. وظهرَ في الدولة المعتصميّة مُقاربًا للمحنة الجهمية من الطائفة الخرَّمِيَّة مَن يقول بتواتر النبيين جَريًا على منهاج الفلاسفة وسلوكًا لسبيلِ الصابئين، حتى جَرَت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهورٌ عند المؤرخين.

- ظهور القرامطة الباطنية والإسماعيلية

وظهَرَ بأثرِ ذلك من أَبْطَنَ ذلك من القرامطةِ الباطنية والطائفة الإسماعيلية الذين كثُرَ فسادُهم على الخاصة والعامة للدنيا والدين. وانتدبَ للردِّ على صُنُوْفِ الكُفَّار والمبتدعةِ طوائفُ من المتكلمين بِحُجَجٍ بعضها صحيح قويّ وبعضها مَهِيْن، لِصعوبَة الزام (1) علمًا وقصدًا، وعسر الاستبداد في هذا الباب بدرك اليقين، والهوس بفرح ما يقوم لها من الحجة على المنازع قبل تعقب ما يلزم الحجْةَ في سائر المواضع (2). وهذا من أعظم الآفة على الناظرين والمناظرين، فيحتاج أن تطرد تلك الدلالة، ويلتزم من اللوازم ما لا يظن أن فيه إحالة، وإن كان مخالفًا لنصِّ مبين. وهذا هو السبب كثيرًا أو غالبًا في البدع المخالفة للنصوص أو الدافعة لما عليه كلُّ ذي عقل رصين، حتى صار من نَصَرَ السنةَ في غالب الأمر يُعدُّ من متكلميها، وإن اضطرَّه تحققُ حدِّه وطردُ دليلِه أحيانًا إلى ما ينافيها، إذ ذلك غامضٌ إلاّ على الأقلين. وخَرَج كثير ممن ينصر السنة بالآثار إلى الاحتجاج بما لا يَسُوغُ لأولي الأبصار، إمّا لضعف الإسناد، وإمّا لعدم المتن المتين، وكثُر في العلماء المحسنين في أكثرِ قولهم من المتأخرين مَن يقع في كلامِه من المخالفةِ للسنةِ ما يَرُوجُ عليه وعلى كثير من الناظرين، فيردُّ هذا عليه سائر حقِّه لأجل باطلِه، ويُلحِقُه بالمعطِّلين، ويَقبَلُ هذا جميعَ كلامِه لاعتقادِه فيه أنه كالسلف الماضين، ثم إذا صارتِ الشبهاتُ أهواءً أخرجتْ من النفوس الداءَ الدفين.

_ (1) كذا في الأصل. (2) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

- أهل الحديث هم الوسط في هذه الأمة

وصَار كثير من طلبة العلم وأذكياءُ المباحثين يقفون على أقسام محصورةٍ وأمثال مَسْبورةٍ في كلام كثير من الآخرين، فتُوجبَ حُسْنَ الظنّ بعقولٍ تُدرِك تلك المطالب، وافتقارَ رجالٍ ذهبوا تلك المذاهب، وإن كانوا للسلف مخالفين، إذ ليس عندهم من السلف إلاّ أسماءٌ مستطيرة وكلمات ليست بالكثيرةِ المعتبرة. ولولا أُبَّهةُ الإسلام في قلوبهم لعدُّوهم من العَمِيْنَ، وإن كان في الناس مَن يَعتقد هذا أو يتوقف فيه، وإنما سببه ضعف آثار المرسلين. وإذا قيل "أهل الحديث" ذهبتْ أوهامُهم إلى قومٍ من الرواة وضَرْب من النساخ والمستمعين، وإن رفعوا البابةَ إلى قومٍ من الحفّاظ لبعض الأسماء واللغات إذا حدَّثوا، وظهر من الجهل والظلم اللذين وصف الله بهما الإنسان ما أوجبَ نقصَ العلم والدين. فهذا وأمثالُه أسباب لما قضى به قدر الله في العالمين. ثم مع ذلك فللهِ في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسُلِ -كما قال الإمام أحمد (1) - بقايَا من أهل العلم، يَدعُون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويَصبِرون منهم على الأذى، يُحيُون بكتاب اللهِ الموتَى، ويُبَصِّرُون بنور الله أهل العمَى، وإن كانوا هم الأقلينَ. بهم تقوم حجةُ الله في دِقّ الدين وجلِّه، ويُحفَظ بهم عمودُ الدين فرعُه وأصلُه إلى يوم الدين. هم الوَسَطُ في هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هم الوسط في الناس، فهم شُهَداءُ عليهم بما أخذوه عن خاتم النبيين، وهم ورثةُ الأنبياء فيما جاءوا به من العلم، وخُلفاءُ الرسُلِ فيما قاموا به من البلاع المبين،

_ (1) في مقدمة "الرد على الجهمية والزنادقة".

- ذكر مناظرة في الصفات بين المؤلف وبين بعض الناس

وقد يتفرَّقُ فيهم علمُ النبوةِ إذا لم يَقُم به واحد، ويُغفَر للمخطئ منهم في مجتهداتِه إذا لم يكن عن سنن الاجتهاد بحائدٍ، كما يُعذر بعَدَمِ البلاع كثير من المؤمنين. فالحمد لله على ما بيَّن وأمرَ، وعلى ما قَضَى وقدَّر من هذه الأقانين (1)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك [له]، شهادةً تُحصن قائلَها من النارِ وتُوجبُ له نورَ المتقين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسَله بأفضلِ كتاب وأَقْومِ دين، وأيده بأكمل الآيات وأَشرفِ البراهين، وبعثَه في خير أمةٍ وأتمِّ مكان وحِيْنٍ، وبيَّن به الحق بأفصحِ لغةٍ وأبلغ تبيينٍ، وأخرجَ به الخلقَ من الظلماتِ إلى النور المستبين، وجعله سراجًا منيرًا، كما جعلَ الروحَ الذي أوحاه إليه نورًا يَهدِي به المهتدين، وعَصمَه من مخالفةِ سِرِّه لعلانيته لا سيَّما في إيمائِه وخطابِه المستمعين، إذ لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين (2)، ولا يُومِضُ إيماضًا يَخفَى على الحاضرين، كلُّ ذلك تحقيقًا لكمالِ البلاغ وتنزُّهًا عن ظنون الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله كما صلَّى على إبراهيمَ إمام المسلمين، وباركَ عليه وعلى آله كما باركَ على آل إبراهيم في العالمين، إنه سبحانَه حميد مجيب سميع لدعاءِ الطالبين، والسلامُ عليه ورحمةُ الله وبركاته وعلينا وعلى عبادِ الله الصالحين. أما بعد، فقد كان جَرى بيني وبين بعضِ الناس من نحوِ عشرِ

_ (1) كذا في الأصل، ولعله جمع "قانون" على غير المشهور. (2) كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (2683، 4359) والنسائي (7/ 105) عن سعد بن أبي وقاص.

- بعض ما اشتملت عليه تلك المناظرة من القواعد والأصول

سنينَ أو قريبٍ منها أو أكثر منها مناظرة في الصفاتِ والكلام على مذهب أهل التأويل فيها، التمسَ مني بعد ذلك بعضُ الأصحاب حكايتَها، فكتبتُها إليه، مع أن الكتابةَ لابُدَّ فيها من نوع زيادةٍ غيرِ متعمدةٍ ونقصانٍ، لكن المنقوصَ كثير، إذ الخطاب يحتملُ مَن البسط ما لا يحتمله الكتابُ، ومن الوَرعِ أن تنقُصَ من الحكايةِ ولا تزيدَ فيها. وتلك المناظرة -مع ما اشتملت عليه من القواعد المقررة والأصولِ المحرَّرة- لم تخْرُج مخرجَ تصنيفٍ، وإن كان لا غَرْوَ في جَعْلِها تصنيفًا. وصورةُ ما كاتبتُ به الطالبَ: فإن الله سبحانَه وتعالَى خلقَ عبادَه على الفِطرة، وكمَّل فطرتَهم بالنبوة، واصطفَى من الملائكة رسُلاً ومن الناس، ليُعلِّموا الأممَ ما لم يكونوا يعلمونَه، كما قال سبحانَه وتعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)) (1). ولم يَبعَثْ رُسُلَه بغير فطرتِه التي فَطَرَ عبادَه عليها، ولا بإفسادِ عقولهم التي بها ينالون علمَ ما أنزلَه عليهم، بل بَعَثَ الرسُلَ بتعليم ما تَقصُرُ عقولُهم عن دَرْكِه، لا ما تَقضِيْ عقولُهم بإحالتِه، وأمرَهم بتقريرِ الفِطَر لا بتغييرِها. ولهذا قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)) (2)، وقال في صفة المستحقين الرحمةَ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ

_ (1) سورة البقرة: 151. (2) سورة الأعراف: 199.

- الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل

وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) (1). وجَعَلَ حجتَه التي يَستحقُّ العذابَ تاركُها رُسُلَه المنذرين، دونَ مجرَّدِ الفطرةِ والعقل، كما قال سبحانَه وتعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) (2). فأخبر أنه أرسلَ الرسُلَ لئلاّ يَبقَى لأحدٍ حجة، فعُلِمَ أنّ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل، وأنه لم يَبْقَ لأحدٍ بعدهم. و"الحجةُ" اسم لما يُحتجُّ به، سواءٌ كانت بينةً أو شبهةً، وإن كان قد اصطلح كثير من المتأخرين قَصْرَ هذا اللفظِ على البينات دون الشُّبُهات. فإنّ الأول هو لغة القرآن ولغةُ العرب، كما قال سبحانه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (3)، وقال تعالى: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) (4). وهي اسم لما يقصده المُحَاجُّ ويَؤُمُّه في حجاجه، ومثل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أحد أحبَّ إليه العذرُ من الله، من أجلِ ذلك بعثَ الرسُلَ مبشّرين ومنذرين" (5). وقال سبحانه وتعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

_ (1) سورة الأعراف: 157. (2) سورة النساء: 163 - 165. (3) سورة البقرة: 150. (4) سورة الشورى: 15. (5) أخرجه مسلم (2760) من حديث ابن مسعود.

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)) (1). فأخبرَ سبحانَه أن كلَّ عامل يَلزَمُه عملُه، وأنَّ منفعةَ هداه وضلالته عائدةٌ عليه، وأنه لا يَحمل من سيئاتِ غيرِه شيئًا، وأنه لا يُعذَّبُ أحد حتى يُبعَث إليه رسول، وأنّ القُرى إنما تُهلَكُ بعد فِسقِ مُتْرَفيها. وقال سبحانَه وتعالى: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)) إلى قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)) (2). فهذه الآيات تُشْبِهُ تلك الآيات. وأخبر سبحانَه عن عذاب الآخرة مثلَ ما أخبرَ به عن عذابِ الدنيا، فقال سبحانَه وتعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) إلى قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى

_ (1) سورة الإسراء: 13 - 16. (2) سورة القصص: 47 - 59.

بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)) (1). فأخبر سبحانَه عن المعذَّبين من الجن والإنس أن الرسل قد جاءتهم، وأخبرَ أنه لا يُهلِكُ القرى إلاّ بعد الرسل المذكِّرين. وقال سبحانَه: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) (2). فأخبر سبحانَه أنّ الزمر المَسُوقةَ إلى جهنم من الذين كفروا قد جاءتهم رسلُ الله يتلون عليهم آياتِه ويُنذِرونهم يوم القيامة. وقال سبحانه: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) (3). فأخبر سبحانَه وُتعالى أن كلَّ فَوج يُلقَى في النار يَعترِف بمجيء النذير ويُقِرُّ بتكذيبه، وأنه لو كان لهم عقلٌ أو سمع لكان ذلك سببًا لنجاتهم. وهذا نظيرُ قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (4)، وقولي تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى

_ (1) سورة الأنعام: 128 - 131. (2) سورة الزمر: 571 (3) سورة الملك: 6 - 10. (4) سورة الحج: 46.

- ليس المراد بالعقل أو القلب ما يستغنى به عن الرسول

لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (1). ودل ذلك علي أنه ليس مرادُه بالعقل أو بالقلب العاقلِ ما يستغني به عن الرسول بعد مجيئه، لأنه قد أخبر عن هؤلاء الذين قالوا: "لو كنا نسمع أو نعقل" أنّ النذيرَ جاءَ كلَّ فوجٍ منهم، فكذَّبوه وأنكروا رسالته فعلم أن مع هذا التكذيبِ لا يَبْقَى عَقْل مُنْجِي، وإن كان العقلُ باقيًا. وكذلك في الآية الأخرى قال سبحانه وتعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (2)، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (3)، فإنما ذكر ذلك لبيان الاعتبار بآثار المُهْلَكِين من الأمم الذين كذَّبوا الرسلَ وعصوهم، وهذا إنما هو عقلٌ يُنتَفَعُ به في الإيمان بالرسلِ وطاعتهم، وإن لم يحصل ذلك بلسانه أو بأمر لأخبارهم المفصلة، إذْ من الناس من يتدبر بنفسه، ومنهم من يحتاج إلى مُوقِظ. وقد أخبر سبحانَه وتعالى في غيرِ موضع العقلَ المتعلقَ بآياته، كقوله سبحانَه وتعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) (4). وقال سبحانه وتعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدم أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)

_ (1) سورة ق: 37. (2) سورة ق: 36 - 37. (3) سورة الحج: 46. (4) سورة العنكبوت: 43.

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)) (1). فبيَّن سبحانَه أن من تَرَك عهدَ الله إليه وَضَل عنه لم يكن يَعقل. وقال سبحانَه وتعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)) (2). وقال أيضًا: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)) (3). قال ابن عباس (4): تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآن وعَمِلَ بما فيه أن لا يَضِل في الدنيا ولا يَشقَى في الآخرة، وقرأ هذه الآية. فأخبر سبحانَه أن من اتبعَ ما جاءَه من الهدى على ألسُنِ الرسلِ لا يَضِلُّ ولا يَشقى، فلا يحزن ولا يُعذب، وأنّ من أعرضَ عنه فإنه يُعذَّب بالمعيشة الضَّنْكِ، وأنه يكون أعمى يوم القيامة، ضِدّ المتبع لهداه. ثم بيَّن سبحانَه أنه يَعمى في الآخرة وإن كان بصيرًا في الدنيا، لأنَّ آياتِ اللهِ أَتَتْه فتَركها وأعرضَ عنها.

_ (1) سورة يس: 60 - 62. (2) سورة البقرة: 38 - 39. (3) سورة طه: 123 - 127. (4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 147).

- للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إما التصديق وإما التكذيب وإما عدمهما

وفي هذا بيانٌ واضح لأن المعرضَ عن آيات الله بتركِ الاستهداءِ بها يَعمَى ويُعَذَّب، ولا ينفعُه بَصَرُه وعقلُه. وبيَّن أن هذا الحقّ يَلْحَقُه وإن لم يكن مكذّبًا للرسل، لأنه علَّقه بمجرد الإعراض عن ذكره، وبيَّن أن ذلك نِسيانُ آياته التي هي تركها. ثم قال: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ)، فمجردُ عدمِ الإيمان هو المؤثر وإن لم يكن ثَمَّ تكذيبٌ، فإنَّ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما. وكلّ واحد من التكذيبِ وعدمِ التصديق كفرٌ. ولما كانَ الغالبُ على المعرضين عن هدى المرسلين الإعجابَ بآرائهم وبصائرِهم وعقولهم، والاستخفافَ بأتباعِهم، قال سبحانَه عن قومِ هود: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)) (1). فأخبرَ سبحانَه أن السمعَ والبصرَ والفؤادَ لا يُغنِي مع الجحود بآياتِ الله. ومثل ذلك قوله سبحانَه: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (2). فأخبرَ أن المنذَرين

_ (1) سورة الأحقاف: 26. (2) سورة غافر: 83 - 85.

- الرسالة عمت الأمم كلهم

أُعجبُوا بما عندهم من العلم، وهذه حالُ من استغنى بعقلِه وعلمِه عمّا جاءت به الرسلُ. وأخبرَ سبحانَه أنَّه أحاطَ بهم ما كانوا يستهزئون به ممَّا أنذرتْ به الرسلُ. وهذه حالُ عامة المتكايسِين من هؤلاء الذين يُنكرون العقوباتِ التي أخبرتْ بها الرسلُ. وأخبرَ سبحانَه أنَّ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم بقوله سبحانَه وتعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)) (1)، وقال سبحانَه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)) (2). وكما أخبرَ سبحانَه أنه لم يكن معذِّبًا أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث رسولا، أخبر سبحانَه أنه بعثَ في كل أمة رسولاً، لكن قد كان يَحصُلُ في بعض الأوقاتِ فَتَرات من الرسُل، كالفترةِ التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلَّم، كما قال سبحانه وتعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)) (3). وزمان الفَترةِ زمان دَرَسَتْ فيه شريعةُ الرسول وأكثرُ الدُّعاةِ إليها

_ (1) سورة النحل: 36. (2) سورة فاطر: 24. (3) سورة المائدة: 19.

- يبقى في الفترة من الدعاة من تقوم به الحجة

إلاّ القليل، ولم يَدْرُسْ فيها علمُ أصولِ دينِ المرسلين، بل يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ، كما قال الإمام أحمد (1) رحمه الله: "الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمانِ فَتْرَةٍ من الرسلِ بَقَايَا من أهل العلم، يُحيُون بكتاب الله الموتَى، ويُبصِّرونَ بها أهل العَمَى". وكما قال علي بن أبي طالَب -رضي الله عنه- في حديث كُمَيْل بن زياد: "لن تَخلُوَ الأرضُ مِن قائمٍ لله بحجةٍ، لئلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبيِّناتُه، أولئك الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا" (2). فمن قامت عليه الحجةُ في الإيمان والشريعة التي جاء بها الرسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجبَ عليه اتباعُ ذلك، ومَن دَرَسَتْ عنه شرائعُ الرسُلِ أو لم يكن رسولُه جاء بشريعة سوى القدر المشترك بين المرسلين ففرضُه ما تواطأتْ عليه دعوة المرسلين، من الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح، دونَ ما تميَّزَت به شريعةٌ عن شريعة. وهؤلاء -والله أعلم- هم الصابئون المحمودون في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (3).

_ (1) في مقدمة كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" كما سبق. (2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 79 - 80) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 49 - 50) ضمن حديث طويل. قال الخطيب: هذا الحديث من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظًا. وشرحه ابن القيم شرحًا وافيًا في كتابه "مفتاح دار السعادة" (1/ 123 - 153). وفي إسناده أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف، وشيخه عبد الرحمن بن جندب الفزاري مجهول. (3) سورة البقرة: 62.

- الصابئون قسمان: منهم المتمسكون بأصول دين الأنبياء، والكفار

فحمِدَ سبحانَه من هذه الأصناف الأربعة مَن آمن بالله واليوم الآخر وعملَ صالحًا، وجعلَهم من السعداء في المعاد، وهذا يُبيِّن أنّ في الصابئين من يكون سعيدًا في الآخرة حميدًا عند الله. وكذلك قال في سورة المائدة (1): (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ)، والنصارى مقدَّمون على الصابئين كما في سورة البقرة، ويُشبه -والله أعلم- أنهم قُدِّموا هنا لفظًا لتقدُّم زمنِهم، وجيئَ بهم بَصيغة الرفع ليبيّن أن مرتبتهم التأخير، لأنّ المعطوفَ على "إنَّ" واسمِها بصيغة المرفوع إنما يُعطَف بعد تمام الكلام. والصابئ هو الخارج، ولهذا كانوا يُسمُّون مَن خَرج من دينهم الصابئَ. والعلماء وإن كانوا قد اختلفوا في الصابئين فالأشبهُ بظاهر القرآنِ والعربية وما دلَّت عليه السِّيَر وما تقتضيه أصول الشريعة: أنَّ الصابئين هم المهتدون المستمسكون بأصول دين الأنبياء، وهو المتفَّقُ عليه من الإيمان والعمل الصالح دون شريعة معينة، لأنهم يكونون بذلك يَصْدُق عليهم أنهم خارجون من خصوصِ كل شريعة، ويَصدُق عليهم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا. فأما من كان صابئًا لا يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر و [لا] يعمل صالحًا فهؤلاء الكفّار منهم، كعُبَّاد الكواكب ونحوهم، والقوم الذين بُعِث إليهم إبراهيم كانوا صابئة، وكذلك فرعون وقومُه، وكذلك أكثر

_ (1) الآية 69.

- كل هدى حصل به سعادة الآخرة فهو باتباع الأنبياء

أهل الأرض، وكان غالبُهم مشركين، وعلماءُ الصابئين هم الفلاسفةُ، فمن كان من أولئك الفلاسفة مؤمنًا بالله واليوم الأخر عاملاً صالحًا فهو من الصابئين الذين أثنى الله عليهم، ومَن لا فلا (1). وهذا بخلاف المجوس والذين أشركوا فإنّ الله لم يَحْمَد أحدًا منهم، وإنما ذكرَهُم لبيان حكم الله بينهم وبينَ غيرِهم يومَ القيامة في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (2). ولما كان معلومًا أن اليوم الآخر هو يوم القيامة، ولا يؤمن بيوم القيامة إلاّ أتباعُ الأنبياء، إذ مَن لم يتبع الأنبياءَ من الصابئين وغيرِهم إنما يؤمن من المعاد بمعاد الأرواح فقط، كما يؤمن به المجوس وبعض المشركين، وذلك ليس هو اليوم الآخر عُلِمَ أنّ من اهتدى من الصابئين فإنما اهتدى باتباع الأنبياء. فتبيَّن أن كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء، وأنّ كل عذاب اسْتُحِقَّ في الدار الآخرة فهو بالإعراض عمّا جاءوا به، ومَن لم تبلُغْه دعوتُهم فقد ورد أنَّه يُكلَّف في الدار الآخرة، وليس غرضُنا ذِكْر ذلك. ويُبيِّن ما قدَّمناه أنّ من استَقْرأ أخبارَ الأمم -علمائِها وعوامِّها-

_ (1) ذكر المؤلف في "درء تعارض العقل والنقل" (7/ 334) القسمين من الصابئين، كما ذكر هنا. (2) سورة الحج: 17.

- علوم بني آدم نوعان: نوع يختص الله به من يشاء، ونوع مشترك

لم يجدْ أحدًا متمسكًا بتوحيد الله وعبادتِه وحدَه لا شريك له إلاّ من كان متبعًا للأنبياء جملةً وتفصيلا، ومن أعرضَ عن الأنبياء فلابدَّ أن يُشرِك، حتى المنافقين من هذه الأمة لا يَجدُ من أعرضَ عن اتباع حقيقةِ الدين في الباطن إلاّ ولابدّ أن يُشرِك، إلاّ ما شاء الله. وأن اتباعَ الوحي لابُدَّ فيه من فِطرةٍ بها يعقل ويفقه، وأن الهدى متوقف على صلاح الفطرةِ والشِّرعةِ، فلذلك عَمَدَ الشيطانُ من بني آدم، فاجتالَهم تارةً عن الفطرة، وزيَّنَ لهم تارةً تحريف الشِّرعةِ، وغَرَّهُم عن الفطرةِ الصحيحة السليمة بالقياسِ الفاسدِ الذي قد يُسمُّونه معقولاً وإن لم يكن، وعن الوحي المنزلِ بالتحريف الذي يسمُّونه تأويلا وإن كان فاسدًا. وذلك أنّ العلوم لبني آدم نوعان: نوع يَختصُّ الله به من يشاء من عبادِه، كما يوحيه إلى الأنبياء. ونوع مشترك، يُنَالُ بالتعاطي، كالعلوم النظرية الحسابِ ونحوِه. وكلّ واحدٍ من المختصّ والمشترك منه ما يَحصُل في القلب بواسطةِ دليل، ومنه ما يَحصُل لا بواسطةِ دليل، كالعلوم المشتركة التي لا تقف على دليل كالبديهية والحسّيّة، والتي تفتقر إلى دليلٍ هي النظريَّة. والمختصة التي تقف على دليلٍ قد يكون دليلُها أيضًا مختصا، وقد لا يكون مختصًّا، وإنما دَرْكُ العلمِ به هو المختص. وأما المختصة التي لا تَقِفُ على دليل فهو ما يُوحِيْهِ الله إلى قلبِ مَن يشاءُ من عبادِه بلا دليلٍ أصلاً، بل تكون للخاصَّة بمنزلة البديهية للعامَّة.

- النبوة عند الفلاسفة كمال علمي وعملي مكتسب

وزعمَ فريقٌ من المتفلسفة أنَّ علومَ الأنبياء المختصة لابدَّ لها من وسطٍ، وإنما خاصَّتُهم دَرْكُ وَسَطٍ لا يُدرِكُه غيرُهم، وأنّ الحَدْسَ هو دَرْكُ الوسط، ثم الانتقال منه إلى المطلوب، بخلاف التفكُّر فإنه تصوُّرُ المطلوبِ أولاً ثم طلبُ الوسط. وهؤلاء بَنَوا هذا على أصلهم الفاسد في أن النبوةَ كمالٌ علميّ وعملي مِن جنسِ كمالِ النوع المكتَسَب، لكنَّه أرفعُ درجاتِه، وأن النبوةَ ليست خارجةً على القوى المعتادة، ولاهي تنزيلاً خاصًّا من عندِ الله إلى من يختصُّه بمشيئتِه. ولم يعلموا أن لا مانعَ من أن يكون للنبي علم بديهيّ مختص لا يَقِفُ على دليل أصلاً، بل هذا يكون لغيرِ النبي ككثيرٍ من الأولياء، فكيفَ بما يُكلَم الله به النبيَّ أو يَنزِلُ به إليه الملكُ؟ ثمَّ هؤلاء يَزعمون انحصارَ العلم في القياس، ولعَمري إنّ القياسَ لَطريق صحيح إذا استُعمل على وجهِه، لكن لم تَنحصِرْ طرقُ العلم فيه، فوقَعَ عليهم من استعمالِه حيث لا يَمشي ومن نَفْي ما سواه وهو الحق (1). ثمَّ إن كثيرًا من متكلمي أمتِنا وغيرهم من أتباع الأنبياء أقرُّوا بطريق القياس، لكن شركوهم في القياس الفاسد، فصار القياسُ طريقًا لهم في كثيرٍ من العلم الإلهي، وضَعُفَ عِلْمُهم وإيمانُهم بآثار المرسلين، فقابلوها إمّا بالردِّ والتكذيب، وإمّا بالتحريف والتأويل،

_ (1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

- المقصود بالقياس

معتمدين -زعموا- على ما أوجبَه ذلك القياسُ العقلي. وبإحْكَامِ دلالاتِ الوحي والقياس يَبِيْنُ الحقُّ من الباطل. ولستُ أعني بالقياسِ هنا مجردَ قياس التمثيل الذي هو تشبيه أمر معين بأمر معين إما بجامع وإما بغير جامع، وإن كان كثيرٌ من فقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه قياسٌ مجازًا؛ ولا مجرد قياس التأصيل الذي هو إدراج الخاص [تحت] العام، كقولنا: كل مسكرٍ خمرٌ، وكل خمرٍ حرام، وإن كان طائفة من متكلمينا وفقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه باطل. بل أعني به ما هو أعمُّ من ذلك على ما تقتضيه اللغة، فإن جميع هذا قياس. وتسميةُ الأول قياسًا ظاهر، إذ القياس تقدير الشيء بنظيرِه، كما يقال: قِستُ الجراحةَ بالميلِ، وقستُ الأرضَ أو الثوب بالذراع. وأما الثاني فلأن الخاصَّ إذا أدرجتَه تحتَ المعنى العام فلا بدَّ أن يقوم في ذهنك عام مطابق لتلك الأعيان الموجودة وأنتَ تطلبُ مماثلةَ تلك الأعيان الموجودة بذلك المثال المعلوم القائم في قلبك الذي هو مقياس تلك الأعيان، وهو عام باعتبار شموله لكل منها. وهذا العلم هو من لوازم الإنسان وبه [تُدْرَكُ] العلوم العامة الكلية، فإذًا لا يمكنك هذا القياس إلاّ بهذا العلم العام الكلي، والشأن كل الشأن في حصول هذا العلم الكلي العام، فإن المعلوم إذا لم يكن له نظائر يرتسمُ بمعرفة الواحد منها مثالٌ في الذهن يُوزَن به سائرُها، ولا كانت حقيقتُه مما يمكن أن تتعدد، حتى يأخذها العقل كليةً، وإن لم تكن في الوجود متعددة، بل كانت حقيقتُه لا متعددة ولا قابلة للتعدد، بل هو الأحد الذي لا أحد غيره، كيف يمكن أن يُعلَم

- خواص الرب سبحانه لا تعلم بالقياس العقلي

هذا الذات بالقياس العقلي أبدًا؟ ولهذا قال ابن عباس…… (1) فتبيَّن أن خواصَّ الربّ سبحانَه لا تُعلَم بالقياس الكلّي الذي يُسميه المتكلمون الدليل العقلي. بل قد تُعلَم بالقياس الأمور المشتركة بينه وبين غيرِه، لدخولها تحت القياس. ولهذا كان عامةُ ما يُدرِكُه أهلُ القياس من معرفةِ الأمور السلبية أو الإضافية أو المشتركة منهما، لأن نفي الأمر عنه هو حكم على ذلك الأمرِ بالعدم، وذلك الأمر المعدومُ يدخلُ تحت القياس الكلي، وكذلك إضافة أمرٍ إليه هي حكم على ذلك المضافِ باستلزام الإضافة إلى أمرٍ ما، وذلك المضافُ يدخل تحت القياس والأمر بالمعدومات، وأما علم [الصفات] التي هي خواصُّه فتُعلَم تارةً بالفطرة العامة المشتركة بين الخلق، وتارةً بالهداية الخاصة التي يمتاز بها المؤمنون، وتارة بالتعريف الخاصّ الذي يختص به علماء المؤمنين، وتارةً بالوحي الذي يمتاز به الأنبياء، وكلٌّ من هذه الأقسام فأهلُه فيه على درجاتٍ غيرِ محصورةٍ لنا. فهذا أصلٌ ينبغي ضبطُه. وأما الوحي فكتاب الله ثم سنة رسوله، ثم سيرةُ خير قرون هذه الأمة تَشهدُ بأن الله ورسولَه بيَّنَ وهَدَى وشَفَى، وأنه بَلَّغَ البلاغ المبين، وبيَّن باللسان العربي المبين، وأنه لم يُحِلِ الخلقَ على غيرِه في هذا الباب، ولا وَكَلَهم إلى القياس الذي لا يُجدِيْ كما تقدم، بل تولَّى بيانَ ما تحتاج إليه الأمة. وهذه جملةٌ سيأتي -إن شاء الله- تفصيلُها.

_ (1) بعده كتب في الأصل: "بياض".

- مذاهب الناس في التوفيق بين القياس والوحي

ثم لما كان للقياسِ على العقول سلطان عظيمٌ إذا لم يهتدِ إلى مواقفه ومجاريه، وللوحي في القلوب برهانٌ عظيم لعلمِها بما اشتملَ عليه، ورأى أكثرُ الخلقِ أن بينَ مقتضى القياس والوحي تعارضًا بينًا وتنافِيًا واضحًا، تحزَّبَ الناسُ هنا فِرَقًا: فريقٌ غلبَ عليهم معرفةُ القياس دون الأثارة (1)، فاتبعوا موجبَه، ثم ردُّوا ما بلغَهم من الأثارة أو تأولوها. وفريقٌ غلبَ عليهم معرفة الأثارة، ورأوا للقياس وأهلِه سلطانًا عظيمًا، فأحجموا عن النظرِ فيه ومفاوضةِ أهلِه، صونًا لأبْصارِهم من العمَى ولقلوبهم من الحيرة. وهؤلاء أحسن حالاً، بل هم على نهج سلامةٍ. وفريقٌ أعرضوا عن تدبُّرِ هذا والنظرِ في هذا، وشَغَلُوا نفوسَهم بغير هذا. وفريق قَوِيَ إيمانُهم بالأثارة، وأحسُّوا بسُوءِ حالِ أهل القياس، فذَمُّوهم وعابوهم على طريق الإجمال، وإن لم يستطيعوا فَكَّ أقيادِهم ولاتذليلَ قيادهم، وهذه حالُ كثير من علماء الأثارة، وهي حال حسنة، وإن كان قد ترتَّب عليها الجورُ أحيانًا، لكن من كان [من] هؤلاء سببًا لدلالةِ الأثارة نافيًا عنها تحريفَ المخالفين كان من علماء الدين، وإن كان دفعُه للمعارضِ إجماليا.

_ (1) هنا وفيما يأتي وردت كلمة "الأثارة" بدل "الآثار"، وفي القرآن: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)).

- منهج أصحاب الآثار

وفريقٌ فوقَ هؤلاء، آمنوا بالأثارة، ثم أُوتُوا من الهداية الخاصة ما عَلِمُوا به فسادَ القياسِ تفصيلاً، فزالتْ عنهم المعارضاتُ بالكلية، ومنهم من يرفع إلى هداية يدرك بها حقيقة بعض ما جاءت به الآثار، فيكون ذلك مُثبتا لفؤادِه. ثم هذه الطرق قد تنفصل في المسائل، فكثير من أرباب القياس قد خلصَ إليه من الأثارة ما لا يمكن دفعُه، فكان حكمُه في ذلك حكم أرباب الأثارة في غيره، فربّما أخذَ يُؤيِّد بالقياس ما جاءت به الأثارة، وإن كان لولا مجيءُ الأثارة لم يَطمئن إلى موجبِ القياس. وقومٌ منهم ضَعُفَ علمُهم أو إيمانُهم بالأثارة حتى نَأَوْا عن الهُدَى، ثمّ عَظُمَ قدرُ الأنبياء في قلوبهم بكمال التخيل في دعوة الخلق بضروب الاستعارات وأنواع الإشارات. ولا يَشُكُّ لبيبٌ أن الموغلين في القياس إذا طَرَقَ سَمْعَهم جمهورُ ما جاءت به الأثارة بقُوا متحيرين كما يُخبرون به عن نفوسهم، فإن القياس أيضًا يَقضِي باستحالةِ اجتماع هذه الأثارة وهذا القياس، فصار القياسُ يَقضِي بفساد القياس. وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم (1) بالقياس وأهله يرد عليهم، ثم كثير ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد، وما يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدُّد، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة التي لا تشهدُ إلاّ بحقّ، وما يُخبِر به أهل

_ (1) كذا في الأصل.

- قول المؤلف في حكاية المناظرة

البرّ والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سُوءِ حالِ هذا وحُسْنِ حال هؤلاء، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءَه في الحياة الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي توجِب رجحانَ موازينهم وخِفّةَ موازينِ مخالفيهم، صارت تُثبتُ أفئدتهم وتَزيد إيمانهم وتدفع عنهم شُؤم المعارضات. والأمرُ كما أصِفُ وفوقَ ما أصِف، وكان حَصَلَ عندي من هذا ما حَصَلَ، فاجتمع لي من مدة عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي، فلما كان في هذه الأوقات حَدَثَ من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين والنبلاء المتبحرين، عينُ أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومَن تتبيّن الفوائد بمذاكرته وتُستفاد المقاصد بمناظرته، فعَلق عليها من الأسْولةِ ما التمسَ حَلها، ومن المباحثِ ما اقتضى فرعها وأصلها…… (1) قلتُ في حكاية المناظرة (2): "قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلكَ سبيلَ السلامة والسكوت، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة، قُلنا كما قال الشافعي رضي الله عنه: آمنتُ بالله وما جاء عن الله على مرادِ الله، وآمنت برسولِ الله وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإذا سلكنا طريقَ البحث والتحقيق فإن الحقَّ مذهبُ مَن يتأَوَّلُ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَ الصفات من المتكلمين.

_ (1) كتبت بعده في الأصل: "بياض". (2) انظر "مجموع الفتاوى" (6/ 354)

- اعتراض أحد المتكلمين على كلام المؤلف من ثلاثة أوجه

فقلتُ له: أما ما قالَه الشافعي فإنه حق يجبُ على كل مسلمٍ أن يقوله ويعتقدَه، ومن اعتقده ولم يأتِ بقولٍ يُناقِضه فإنه سالك سبيلَ السلامةِ في الدنيا والآخرةِ. وأما إذا بَحَثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ أنَّ الحقَّ مع أهل الحديث ظاهرًا وباطنًا. فاستعظم ذلك وقال… (1). قال الفاضل الباحث على قولنا "إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وجدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلاً": الكلامُ على [هذا] من ثلاثة أوجُهٍ: أحدها: القول الموجب، فإن المخالفة القول بما يُخالف قولَهم ويُناقِضه، لا القول بما لم يُصرِّحوا بنفيه ولا بإثباتِه، ولا أُسَلِّم أنَّ المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، فإنْ نُقِلَ ما ظاهرُه ذلك حَملناه على التأويل بغيرِ دليلٍ أو على غيرِ القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئةِ بعضِهم. وبالجملة فلا أُسلِّم أنَّ معتبرًا حزَمَ تأويلاً يَشهَدُ العقلُ بصحتِه عند الحاجةِ إليه، لعالمٍ متبحرٍ لا يَرضى بأسرِ التقليد، ولا يرى أن يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العباد. فإن قيل: فقد اشتهَرَ النهيُ عن الكلام في التأويل.

_ (1) اقتبس المؤلف من كلامه هذا القدر لأنه المقصود بالبحث هنا، وتتمته في المصدر السابق.

- جواب المؤلف عليه في مقامين

قلتُ: لعلَّ ذلك للعوامِّ، أو على طريق الورع لا التحريمِ، لِمَ قُلتم إن الأمر ليس كذلك؟ والوجه الثاني: لو سلَّمنا أنّ بعضَهم حرَّم ذلك، فهل نُقِلَ التحريمُ عن نصِّ الله أو عن نصِّ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجةَ ليستْ في قولِ البعض، لاسيما إذا خالفوا البعضَ الآخر. الوجه الثالث: أنّا ننقلُ عنهم الإجماعَ على التأويل في بعض المواضع على ما سيأتي، ونطالبُ بالفرق. والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين: المقام الأول: في بيان أنّ هذه الأسوِلةَ هل هي متوجهة واردة يَجبُ الجواب عنها أم لا؟ والثاني: في التبرُّع بالجواب بتقديرِ عَدَمِ وجوبِه. أما المقام الأول فيمكن أن يقال: نحنُ نطالبكم بتوجيه هذه الأسولةِ، فإنه ليس منها شيء واردًا، فضلا عن أن يستوجبَ جَوابًا. أما القول بالموجب فعليه أولاً مناقشة معروفة، وهو أن القول بالموجب إنما يَرِدُ على الأدلة دون الدعاوي، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه، ولهذا قيل: إن القول بالموجب سؤال يَرِدُ على كل دليلٍ. لكن المعترض يَدَّعي أنه يقول بموجب دليلِ المستدلّ من غير التزامٍ لدعواه، ببيان عدم دلالتِه على محلّ النزاع،

- ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالف أهل الحديث باطل

وحاصلُه أنه يمنع دلالةَ الدليلِ على محل النزاع، ويُضيف إلى ذلك أنه قائلٌ بموجبه، وموجبُه غيرُ محلِّ النزاع، فالقولُ بالموجب إبداءٌ لسندِ المنعِ. أما الدعوى قبلَ ذكرِ دليلِها، فإذا قيل بموجبها، بأن كانَ قولاً بموجب قصد المدعي، فهو موافقةٌ في المسألة وليس باعتراضٍ، فإن من قال: لا يُقتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، فقيل له: تقول بموجب هذا؟ أي تقول بما قصدتَه بهذه العبارة، كان هذا وفاقًا لا سؤالاً، وإن كان قولاً بموجب لفظه لا يوجب معناه، بأن يكون اللفظ مشتركًا أو مجملاً ونحو ذلك، فيقال بموجبه الذي لم يقصده المدعي، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يُقتَل مؤمنٌ بكافرٍ: تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلامًا قليل الفائدة، ولم يُعَد من الأسولةِ الواردةِ، بل يُعَدُّ من المناقشات اللفظية إن لم يكن ظاهرُ اللفظ ينفي القول بالموجب. فإنه يقال له: لم تحرّر الدعوى، بل ادَّعيتَ الذي ادعيتَ بلفظٍ مجملٍ أو مبهم بخلاف مقصودك. فأما إن كان ظاهره يَنفي القولَ بالموجب فلا مناقشة فيه أصلاً. ثمَّ إذا توجَّهت المناقشة اللفظية مِن الناس مَن يترك مثلَ هذا السؤال ويقول: هو خروجٌ عن مقصود المسألة، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة المتكلم على لفظٍ قد لحن فيه. ومنهم من يُورِده ويَعدُّه من ضَبْطِ آداب المناظرة، والأمر في ذلك قريب. أما مسألتُنا فالدعوى محرَّرةٌ تمنع القول بالموجب إلاّ على سبيل الموافقة، وعلى سبيل الموافقة لا يَبقَى نزاعٌ، فإنا قلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وفحصَ وجدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون

به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ الحقَّ مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا". والمخالفةُ لا تكون إلاّ بما يخالف قولَهم ويناقضه، فنصيرُ مدَّعينَ أنَّ قولَ المتكلمين الذي يناقض قولَ أهلِ الحديث قول باطل، كما لو قلنا: إنّ قول المتكلمين الذي يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقولَ قول باطل. وهذا ليس بدليلٍ حتى يكون القول بموجبه سؤالاً جاء في دلالته، وإنما هي دعوى، فإمّا أن نُوافَق عليها أو نُخالَف، فإنْ خُولفْنا فالسؤال على الدليل الآتي، وإن وُوْفِقْنا فالحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات. يَبقَى أن يُقال: فهل للمتكلمين قولٌ يخالف قولَ أهلِ الحديث، بحيث يكون الكلام في وجوده؟ أم هو كلام على هذه الحقيقة مع قطع النظرِ على وجودها وعدمها؟ ولا شكَّ أن مرادَنا هو القسم الأول، وإن كان تفسير اللفظ بالثاني ممكنًا، بأن نقول: إن كان للمتكلمين قول مخالف لأهل الحديثِ فهو باطل، وإلاّ فلا نصَّ. ومثل هذا السؤال إذا قيل: كلّ قول للفلاسفة يخالف الأنبياء فهو باطل، فإن المتفلسف المتأول يزعم أن الفلاسفة موافقون الأنبياءَ لا مخالفون، وإنما يَعتقد مخالفتَهم لهم عوامُّ أهلِ الملل ومتكلمو أهلِ الجدل، فإذا قال: أنا قائل بموجب قولكم لم يكن هذا سؤالاً، لكن إن فهم من المتكلم دعوى وجود المخالفة فله أن يطالب بتعيينها. ومع هذه المناقشة فتسميةُ مثل هذا الكلام قولاً بالموجب لا تأباه اللغة العربية، بل تساعد عليه، وقد يستعمله الناسُ في مناظراتهم، فإن السائل يقول: ما أوجبتَه بدعواك من بطلان أحد القولين المتناقضين

أنا أقولُ به، لكن لم تُوجَد المناقضةُ بين القولين، فكأنك تدَّعي بطلانَ ما لا وجودَ له، وأنا قائلٌ بموجب عبارتك لا بموجب إرادتِك. وأنتَ تحكمُ على أهل الكلام بمخالفة أهل الحديث، وهذا لم يُوجَد. لكن إذا قال السائل هذا قال له المدَّعي: أنتَ كما قد وافقتَني على مُدَّعايَ، فإن لفظي إمّا أن يَعنِيَ نوعًا أو عَينًا، إن عُنِيَ به النوعُ فليس من ضرورة الحكم على النوع وجودُه في الخارج، بل قد يقول: [من] كذب بسورة يس أو جحد بشيء من القرآن فهو كافر، إن لم يعلم وجود ذلك. وإن عُنِيَ به العينُ كان التقديرُ: هذا التأويل المعيَّن الذي يخالف أهلُ الكلام [فيه] أهلَ الحديث تأويل باطل، فإذا قيل بموجب هذا كان موافقة في بطلان التأويل المعين، ثم تَبقَى المنازعةُ في تسميتِه خلافًا لأهل الحديث. ومعلوم أن هذا ثَلْمٌ للمسألة ونزاع في نَفْيِها. فحاصلُه أن القول بالموجب تسليم للمسألة إن عُنِي بها النوعُ وتنازع في وجودِها، أو تسليم لعينها ونزاع في صفتِها، فإن كان الأول فهو نزاع فيما لم يدلَّ عليه اللفظ، وإن كان الثاني فهو تسليم للمسألة، ولا يَضُرُّ بعد ذلك النزاعُ في اسمها. وتحريرُ السؤال أن يقال: لا نُسَلِّم أن أهلَ الكلام خالفوا أهلَ الحديث، فإنهم لو خالفوهم لقلنا: الصوابُ مع أهلِ الحديث، وهو أن القول بالموجب على تقدير ثبوت المخالفة تسليم للمسألة بتقديرِ وجودِها، وقد منع ذلك في السؤال بقوله: لو سلّمنا أن بعضهم حرَّم ذلك فهل نُقِلَ التحريم عن الله أو رسوله أو أهلِ الإجماع، ومن سَلَّم الحكمَ لم يكن له أن يُطالِبَ بالدليل، لأنه منعٌ بعد تسليم، وهو غير مقبول.

- أمهات المسائل التي خالف فيها المتكلمون أهل الحديث ثلاث

وأما السؤال الثالث -وهو نقلُ الإجماع على بعض التأويلات- فلا يَرِدُ أيضًا، لأن ذلك إن صحَّ لم يدخل في الدعوى، لأنّا قلنا: تأويلُ المتكلمين المخالفُ لأهل الحديث باطل، وما أجمعوا عليه ليس من هذا الباب. نعم، يبقى هذا من باب المعارضة لأهل الحديث، وهي أن يقال: كيف تُبطِلون بعضَ التأويلات وتُصحِّحون البعض؟ والمعارضة لا تورد عند الدعوى، وإنما تورد بعد الأدلة. وأيضًا مما يُبيِّن عدمَ ورودِ هذه الأسوِلة: السؤال الأول، وهو منعُ الاختلاف بين أهلِ الحديث وأهل الكلام في التأويل، فإن المناظرة كانت مع مَن يدَّعي أن الحق مع أهل التأويل دونَ مَن خالفَهم، فإن لم يكن لهذا وجود كان ردًّا على من نَصَرَ أهل الكلام المخالفين لأهل الحديث، لا على من نَصَرَ أهلَ الحديث. وأيضًا فإنه عَقِبَ هذا الكلام قد قلنا (1): "إنّ أمهاتِ المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين لأهل الحديث ثلاث: مسألة وصفِ الله بالعلُوّ، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات". وهذا تعيين لهذه المسائل الثلاثة المختلَف فيها، والخلاف في هذه المسائل أشهرُ من أن يُحتَاجَ إلى نَقْلٍ. فإن قيل. لا نُسلِّم أن أحدًا خالفَ أحدًا في هذه المسائل، بل كلُّ تأويلٍ فيها للمتكلمين فإنّ أهلَ الحديث لم يَنفُوه، بل سكتوا عنه.

_ (1) "مجموع الفتاوى" (6/ 354، 355).

- نحن لم نقل: إن كل تأويل باطل حتى ينقض علينا بصورة

قيل: النقل المتواتر والعلم الاضطراري وما مَهَّدَتْه الكتب المصنَّفَة دليلٌ على وقوع الخلاف في أعيان هذه المسائل وأدلتها السمعية. وأيضًا فإنّ الفاضل المُباحِث -أيَّده الله- قد حكَى في مَباحثِه هذه عن القاضي عياض (1): "أما من قال منهم بإثباتِ جهةِ "فوق" له تعالى من غير تحديدٍ ولا تكييف مِن دَهْماءِ المحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين منهم فيَتأوَّل "في السماء" بمعنى على، وأما دَهْماءُ النُّظَّار والمتكلمين وأصحاب الإثبات [والتنزيه] المُحِيْلِيْنَ أن يختصَّ به جهة أو يُحيط به حدٌّ، فلهم فيه تأويلات بحسب مقتضاها". ومعلوم بأنّ هذا تصريح بأنّ لهؤلاء النُّفاةِ تأويلاتٍ يخالف فيها المثبتون لكونه فوقَ العرش، وهذه التأويلات مما قضَينا بإبطالها، فكيفَ يَتوجَّهُ مع هذا أن يُقال: ليس للمتكلمين تأويل يخالفون به أهلَ الحديث؟ ونحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ، بل قلنا: كلُّ تأويلٍ للمتكلمين يخالفهم فيه أهلُ الحديث فهو باطلٌ. ومعلوم أن هذا تكفِي فيه صورة واحدة، وهذه صورة قد سلمتُموها وحكيتُموها. وهَبْ أنهم أجمعوا على تأويلها -وإن كنَّا سنتكلَّم على هذا إن شاء الله- لكن مضمون هذه العبارةِ أن التأويل الذي أثبتَه المتكلمون ونَفَاه أهلُ الحديث باطل.

_ (1) إكمال المعلم (2/ 465).

- مذهب السلف وأهل الحديث أنها تصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل

وأيضًا فقد قلنا في عَقِبَ هذا (1): "إنَّ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل، وتكييفٍ يُفضي إلى تمثيل". وقلتم: هذا حقٌّ صريح وحكم صحيح، فهذا التأويلُ الذي يُفضي إلى التعطيل معلومٌ أنه قد وُجِدَ، فإن كثيرًا من المتأوِّلينَ يَنفي الصفات كلَّها وأحكامَها، وبعضهم يثبتُ أحكامَها، وبعضهم يثبت أحوالَها، وبعضهم يثبت بعضها دونَ بعض، فهؤلاء مُعطِّلةُ الصَفاتِ أو بعضِها، وأهلُ الَحديث يخالفونهم في هذا. ولم نُرد بالتعطيلِ تعطيلَ اللفظ عن معنًى، فإن التأويل لا يتصَوَّر أن يُفضي إلى هذا التعطيل، لأنَّ المتأوّل لابُدَّ أن يَحمِلَه على معنًى مَّا، فلا يكون قد عَطَّله عن جميع المعاني، وإنما عَطَّل الصفةَ التي دلَّ عليها النصُّ، وعَطَّلَه عن معناه المفضول المفهوم. ومعلوم أن التأويل المُفْضي إلى هذا التعطيل قد وقعَ فيه كثيرٌ من المتكلمين نُفَاةِ الصفاتِ أو بعضِها، ومعلوم أنّ هذا التأويل يُنكِره أهل الحديث، وكلُّ من وافقَهم من المتكلمين على إثباتِ صفةٍ فإنه يُنكِر التأويلَ الذي يُفضي إلى تعطيلها. فكيف يَصِحُّ بعد هذا أن يُقال بالموجب إلاّ بالموافقة؟ نعم، لو قيل: بعضُ هذه التأويلات التي ينفونَها نقول بصحتها، لكان هذا سؤالاً متوجِّهًا، وهو غير السؤال المذكور، ومع هذا فليس هذا موضعَه، وإنما موضعُه الأدلة.

_ (1) "مجموع الفتاوى" (6/ 355).

ثمّ إنا قد فرضنا بأن الدعوى عامة، وإنما أقمنا الدليلَ على بطلان التأويل في صفة اليد، وهي بعض صورة الخلاف، لأن هذا حكاية مناظرةٍ جَرَتْ، وكان الكلامُ في صفة اليد نموذجًا يُحتَذَى عليه غيرُه من الكلام في غيرِها. وأيضًا فإنا قلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وَجَدَ ما يقولُ المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلا". فكان موجبه القول بالموجب: إنّا لا نُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين، وليس هذا المنع مطابقًا للدعوى، فإنّا لم نقلْ: إن تأويل المعتبرين من المتكلمين الذين يخالفون به المعتبرين من المحدثين باطل، وإنما قلنا: "تأويل المتكلمين المخالف"، ومعلوم أن المتكلمين اسم عام، فتأويلُهم المخالفُ لأهل الحديث يَدخُلُ فيه تأويلُ كلِّ متكلم من الجهمية والنجارية والمعتزلة، بل ومن الفلاسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية، فما الذي أوجبَ أن يُحملَ هذا اللفظُ العام على تأويل خاص من تأويلات المتكلمين؟ من غيرِ أن يكون في اللفظ ما يدلُّ عليه، بل تمامُ الكلام يُصرِّح بالعموم حيثُ قلنا: "أمهات المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين -ممن يَنتحِلُ مذهب الأشعري- لأهل الحديث ثلاثة". فهذا يدلُّ على أن المتقدمين من المتكلمين خالفوا أهلَ الحديث في أكثر من ذلك، وهذا هو الواقع، فكيف يكون المنعُ المتوجّهُ "لا نُسلم أن معتبري المتكلمين خالفوا معتبري أهل الحديث"؟ وهل هذا إلاّ بمنزلةِ أن يُقال: ما خالفَ به الفلاسفةُ الأَنبياءَ فهو باطل، فيقال: لا نُسَلِّم أن فُضَلاءَ الفلاسفة خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: ما خالفَ به

- قول المعترض: "لا أسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين"

المتكلمون للكتاب والسنة فهو باطل، فيقال: لا نُسلِّم أن معتبريهم خالفوا الكتاب والسنة؛ أو يقال: ما خالف فيه بنو آدم للأنبياء فهو ضلال، فيقال: لا نُسَلِّم أنَّ معتَبرِي الآدميين خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: كُفَّارُ مكةَ من قريش والعرب في النار، فيقال: لا نُسَلِّم أن المعتبرين من أهل مكة أو قريش والعرب كفروا. وأيضًا فقولكم -أحسن الله إليكم-: "لا أُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين"، أما الذين تَعنُون بالمعتبرين من المتكلمين لا يَخلُو: إمّا أن تُريدوا بالمعتبرين ناسًا معيَّنينَ أو موصوفينَ، فإن أردتم ناسًا معيَّنين فاذكروا مَن شِئتم من جميع أعيان المتكلمين، حتى أذكُرَ لكم أنَّ أقوامًا من أعيان المتكلمين رَدُّوا عليه تلك التأويلات وأبطلوها، فضلاً عن أهلِ الحديث. بل سَمُّوا مَن شِئتم، حتَّى أُبيِّنَ أنه نفسه يَرُدُّ بنفسِه على نفسِه، وأنّه يتأوَّلُ التأويلَ في كتابٍ، ثمَّ يمنعُه أو يُبطِلُه في كتابٍ آخر، وربما فَعَلَ ذلك في المصنَّفِ الواحدِ. وإن أردتم بالمعتبَرِين موصوفِين، مثل أن يقال: المعتبرُ مَن له بَصَرٌ ثاقب وعلم بما يجوز ويجب ويمتنع على اللهِ وما يَسُوغُ في لسان العرب، حتى يتأوَّل بعقلِه وعلمِه ومعرفتِه بالمعقولاتِ والمسموعاتِ تأويلاً سائغًا= فهذا أوسعُ عليكم من الأول، فإن المتكلمين أنواعٌ مختلفة، وكلٌّ منهم يَرُدُّ على الآخر تأويلاتِه ويُبطِلُها ويُحرمُها عليه، بل كثير منهم يُكَفِّر الآخر ببعضِ تلك التأويلات، حتى إنّ التلميذَ منهم يُكَفِّر أستاذَه.

- أمثلة على ذلك

وأهلُ الحديث موافقون لهم جميعهم في إنكار تلك التأويلاتِ لا في إثباتِ شيء منها: فنُفاةُ الرؤيةِ من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة يتأولون النصوصَ فيها تارةً برؤية أفعال الله، وتارةً برؤية القلب الذي هو زيادة العلم، ومُثبِتُو الرؤية من أهل الحديث والكلام يَرُدُّون ذلك ويُنكِرونَه. ومُنكِرُوْ الكلامِ الحقيقي يتأولون "قال الله ويقول" بمعنى أنه أحدثَ في غيرِه كلامًا خاطبَ به عبادَه، ومُثبِتو الكلامِ الحقيقي من أهل الحديث والكلام يُبطِلون هذا التأويلَ ويُحرِّمونَه. ونفاةُ الصفات يتأولون (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (1) و (ذُو الْقُوَّةِ) (2) والسمع والبصر ونحو ذلك، ومُثبتو الصفاتِ من أهل الحديث والكلام يُنكِر [ونَ] هذه التأويلات. بَل الأشعريةُ المتمسكون بالقولِ الثاني -كالأشعري في "الإبانة"، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاّني، وابن شاذان، وابن فورك وغيرهم- يُنكِرون على من يتأؤلُ صفةَ اليد والوجه وغير ذلك، كما صَرحوا به في كُتُبهم (3). والمسلمون جميعًا يُنكِرون على متكلمي الفلاسفة الذين يتأوَّلون ما وردَ في صفة الملائكة والجنّ والجنّة والنّار والقيامة وحَشْر الأجساد. وأهلُ الإثبات جميعًا -أهل الحديث وأهل الكلام- يُنكِرون

_ (1) سورة النساء: 166. (2) سورة الذاريات: 58. (3) انظر "الإبانة" للأشعري (ص 35 - 39) و"التمهيد" للباقلاني (ص 295 - 298).

على القدرية الذين يتأولون آياتِ الإضلال والختم والطبع والإغواء ونحو ذلك من نصوصِ القدر. وأهلُ الحديث قاطبةً مع مَن وافقَهم من أهل الكلام يُنكِرون على من يتأوَّلُ النصوصَ المُدْخِلةَ للأعمال في الإيمان. وجميعُ أهل القبلة إلاّ الوعيديَّة يُنكِرون على الخوارج والمعتزلة تأويلهم نصوصَ الشفاعة. والمسلمون جميعًا يُنكِرون على القرامطة والباطنية والإسماعيلية وزنادقةِ الفلاسفة وغُلاةِ الصوفيةِ تأويل نصوصِ الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والجنايات ونحو ذلك. وأهلُ الحديثِ قاطبةً والفقهاءُ والصوفية مع من اتبعَهم من المتكلمين وجماهير أهل القبلة يُنكرون على المتكلمين والمتفلسفة الذين يتأولون نصوصَ الفوقية والعلوّ. وكذلك يُنكرون على الذين يتأوَّلون نصوصَ الصفات بما سنذكره إن شاء الله. وأهلُ القبلة جميعًا محدِّثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم إلا الخوارج والمعتزلة ينكرون تأويلَ هاتينِ الفرقتين النصوصَ المُدخِلةَ للعُصاةِ في اسم الإيمان في الجملة. دعَ التأويلات المتعلقةَ بأصول الدين، هؤلاء الفقهاء لا يزال بعضُهم يَرُدُّ تأويلاتِ بعضٍ ويُبيِّنُ فسادَها قديمًا وحديثًا، ويُوافقُهم على ذلك الردّ أهل الحديث، مع أن الفقهاء معتبرون، فكيف يقال: لا نسلِّم أن معتبرًا ردَّ تأويلَ معتبرٍ، بل مفسِّرو القرآن وشُرَّاح الحديث

- ما معنى "المعتبر" في قول المعترض؟

لا يزال أهل الحديث وغيرهم يَرُدُّون بعض تلك التفسيرات والتأويلات وينكرون، وذلك أشهرُ وأكثرُ من أن يُسَطَّر. ثمّ كلٌّ من هؤلاء الممنوع من ذلك التأويل المردود تأويلُهُ معتبر، بمعنى أنه ذو ذهنٍ ذكيّ وعلمٍ واسع وفضيلةٍ جيدة، بل كثير من هؤلاء المردود عليهمِ يَعتقد أتباعُه فيه أنه أفضلُ من كثيرٍ من المعظَّمين عند غيرِه، فإن فسَّرتَ "المعتبر" بأنه المهتدي أو الذي أجمع المسلمون على أمانته، فالجواب من وجوه: أحدها: أنا لا نُسلِّم أن تأويلَ مثلِ هذا لا يُرَدُّ، بل تأويلُه الباطل يُرَدُّ، كما تُرَدُّ فتواه الضعيفة وحديثُه الذي غَلِطَ فيه. الثاني: أن مثل هذا لا يدخل في مطلق اسم المتكلمين عندنا، كما يَشهَدُ به استعمالُ لفظ المتكلمين. الثالث: أنّ هذا منع لغير ما ذُكِر، فإنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف لتأويل المحدثين باطل، فقيل: لا نُسَلم أن تأويل من [عُلِمَ] هداه أو من استفاض عند الأمة هداه باطلٌ، ونحنُ ما ادَّعَينا هذا قَطُّ، وما ذكرناه من هذا الكلام إنما هو نزولٌ مع المخاطب، فإنه فَهِمَ من قولنا "أهل الحديث" المحدثين الذين يروون الحديث أو يحفظونه، وهذا لا يدلُّ عليه لفظُنا ولم نَعْنِه، فإنّ أهلَ الحديث هم المنتسبون إليه اعتقادًا وفقهًا وعملاً، كما أن أهل القرآن كذلك، سواء رَوَوا الحديث أو لم يَروُوه، بحيث يدخلُ في مثل هذه العبارة اسم التابعين وتابعيهم، كالفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب وذَوِيْه، وعلقمة والأسود وطبقتهما، وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي

- كل من تأول فتأول بدليل من عنده وعلى القواعد العلمية عنده

والزهري ومكحول ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني وابن عون ويونس بن عبيد ومالك والحمادَيْن والسفيانَين والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر بن الحارث. فإن قلتم: مرادُنا لا نسلِّم أن المعتبرين من المحدثين حرَّموا على المتكلم المعتبر أن يتأوَّل، بمعنى أنهم لم يمنعوه من جنس التأويل، لا أنهم لم يمنعوه من التأويل المعيَّن، لكن سوَّغوا له أن يتأول، كما يسوغ للمفتي أن يفتي وللقاضي أن يقضي، وإن كان يخالف في بعض أقضيته وفتاويه، كذلك المتأول قد يخالف في بعض تأويلاتِه، وإن لم يكن ممنوعًا من جنسها. قلنا أولاً: كلامُكم يخالف هذا، لأنكم قلتم: إنْ نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ من التأويل حَملناهُ على التأويل بغير دليل أو على غيرِ القواعد الكلية، ومعلوم أنّ كلَّ من تأوَّلَ تأويلاً من المشاهير وقد ردَّه عليه غيرُه فإنما تأؤله بدليل من عندِه، وعلى القواعد العلمية عنده، بل يُقيم الأدلة التي يَزعُم أنها قاطعة في وجوب ذلك التأويل وامتناعِ الإقرار على الظاهر، مع مخالفةِ جماهير علمَاءِ القبلة وقَطْعِهم بأنه ضالٌّ أو مخطئ في تأويلِه، ولعلَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم أو كلّهم قد يُكفِّرونه بذلك التأويل، كما يُكفِّرون نُفاةَ حَشْرِ الأجساد، وإنْ تأوَّلُوا ما جاءت به الرسُلُ لأدِلَّةٍ ادَّعوها وعلى قواعدَ وَضَعوها. وأعجب من هذا -ولا عَجَبَ- قولُكم: "توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم من تخطئِه بعضهم"، فهل إلى هذا من سبيل؟ وقد عُلِمَ بالاضطرار اختلافُ أهلِ القبلةِ في كثيرٍ من تأويل الآيات والأحاديث: هل تُصْرَف عن ظاهرها أم تُقَرُّ على ظاهرِها؟ وإذا صُرِفَتْ فهل تُصْرَفُ

إلى كذا أم إلى كذا؟ بل الكتبُ والنقول مشحونةٌ بتكفير بعض المتأولين فضلاً عن تخطئتِه. وأما تخطئةُ بعضِ المتأولين فهذا أمرٌ معلومٌ بالاضطرار في الأصول والفروع والتفسير والحديث والشعر واللغة وغير ذلك، بل عامةُ الاختلاف بين أهل القبلة إنما هو من تخطئةِ بعضهم في فهمِه للكتاب والسنة وتأويلهما على وجهٍ يخالفُه فيه الباقونَ. فإن قلتم: كلُّ من تأوَّلَ بدليلٍ على القواعد سَوَّغناه له، وإن كان قد يُخطِئُ. قلنا: فيكون تأويلُ الجهمية والقدرية والخوارج والروافض والوعيدية والباطنية والفلاسفة كلُّها سائغةً وإن كانت خطأً، وهذا مما عُلِمَ بالإجماع القديم بل بالاضطرار من دينِ الإسلام أنَّ جميعَ هذه التأويلات ليست سائغةً، بل تسويغ جميعِ هذه التأويلات على خلافِ إجماع هذه الفرق كلها، فإن جميع فرق الأمة لا يسوِّغ جميع التأويلات. وقلنا ثانيًا: فنحنُ إنما قلنا: "تأويل المتكلمين الذي يخالفون به أهلَ الحديث باطل"، وهذا تأويل موصوف، ولا يلزم من بطلانِ النوع المقيَّد بطلانُ الجنس المطلق، فإذا أبطلنا التأويلَ المخالفَ لأهل الحديث [لا] يلزمنا أن نمنعَ كلَّ تأويلٍ في الدنيا، وأن نُحرِّم على كلّ معتبرٍ أن يتأوَّل تأويلاً لا يخالف أهلَ الحديث…… (1).

_ (1) كتب في الأصل بعده: "بياض".

- من قال "كل مجتهد مصيب" لا يمكنه أن يقول: كل متأول مصيب

وقلنا ثالثًا: نحنُ قلنا: "هذه التأويلات باطلة"، أما كونُها سائغةً أو محرمةً فهذا لم نتعرضْ له في هذا الكلام، فقولكم "إن المعتبرين لم يمنعوا المعتبرين أن يتأولوا، وإنّ معتبرًا لم يُحرِّم التأويل الموصوف" كلامٌ لا يَمَسُّ كلامَنا ولا يُقابلُه، بل هو أجنبيٌّ عنه غيرُ متوجهٍ، فلا يستوجبُ الجواب. نعم، َ إن ادَّعيتم أن كل تأويل المتكلمين أو بعضه حق أو صوابٌ فهذا نقيضُ قولنا، ففَرقٌ بينَ صحةِ التأويل وفسادِه وبينَ حرمتِه وحِلِّيتِه، ألا تَرى أن الفقهاء في تأويلهم نصوصَ الأحكام يجوزُ لهم التأويلُ في الجملة، وإن كان كثيرٌ من تأويلِ بعضهم قد يَظهر أنه خطأ، كما يجوز للفقيه الاجتهادُ في الفتيا والقضاء، وإن كان قد يُحكَم ببطلان بعض الفتاوى والأقضية. على أنّ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ، فإن المتأول يقول: الله أراد بهذه الآية كذا، والآخر يقول: لم يُرِد هذا، والنفيُ والإثبات لا يجتمعان، اللهم إلاّ أن يقول قائلٌ: إن الله أراد من زيد أن يفهم هذا، وأراد من عمروٍ أن يفهم هذا، وهذا في الأمور الاعتقادية ما يكادُ يقوله إلا من يخالفه جمهورُ الناس، وإن كان قد قاله في العمليات طائفة من المتكلمين. فإن قلتم: أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صِنفًا من الطوائف كالمتكلمين من أصحاب الأشعري مثلا، أو كافة المعتزلة أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك. فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أنه ما من واحدٍ من هؤلاء إلاّ له تأويلاتٌ يُنكِرُها عليه

- أصحاب الأشعري ثلاثة أصناف في التأويل

بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم، بل من هؤلاء [مَن] هو نفسه يُحرِّم التأويل أو يُبطِله تارةً، ويُسِيْغُه ويُصحِّحه أخرى لأصحاب الحديث. أما المعتزلة فمن أكثر الناس في التأويل، وأهلُ الحديث وغيرهم من علماء المسلمين يُنكِرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريمًا وإبطالاً. وأما أصحاب الأشعري فهم ثلاثة أصناف: صنف يُحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين، ويُبطِل ذلك. وهذا هو الذي ذكره الأشعري في "الإبانة"، حكاه عن أهل السنة جميعهم، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن الباقلاني أفضلُ أصحابه (1)، وأبو علي ابن شاذان، وذكره أبو بكر ابن فورك في اليد وغيرها، وعليه الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني. وصنف يُحرِّم التأويل، ولا يتكلم في صحته ولا فسادِه. وهذا الذي ذكره أبو المعالي الجويني في رسالته "النظامية" (2)، وهو قولُ أكثرِ المفوِّضة من المتكلمين. وصنف يُبيحه للعلماء عند الحاجة، ومنهم من يُبيحه مطلقًا. وهذا قولُ الجَويني في "إرشادِه" (3) وغيره، وجميعُ هؤلاء مختلفون في صحة بعض التأويلات وفسادها.

_ (1) سبقت الإحالة إلى كتابي الأشعري والباقلاني فيما مضى. (2) ص 32 - 33. (3) ص 67 - 71.

فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريمًا وجوازًا، وصحةً وفسادًا. وأما المعتزلة فهم وإن كانوا أكثر تأويلاً فإنهم مختلفون في عامة التأويلات صحةً وفسادًا، ومختلفون أيضًا في جنس كثير من التأويل، مثل اختلافهم في نصوص عذاب القبر ونعيمه: هل تُتأؤل أو تُجرَى على ظاهرها؛ وفي نصوص الصراط والميزان والحوض: هل تُتأوّل أو لا تُتأوّل، إلى غير ذلك. منهم من يُبيح تأويلَ ذلك ويصححه، ومنهم [مَن] يُحرِّمُه ويُبطِله. وسأذكر إن شاء الله مذاهبَ الأمة في أجناس التأويلات، وإنما الغرض هنا أن من تعصَّب لفرقةٍ من أهل الكلام وجَعَلَهم هم المعتبرين دون غيرهم، بحيث يُبيح لهم التأويل ويَدَّعي أن أحدًا من المعتبرين لم يَحْظُره عليهم= لم يصحَّ له ذلك؛ إذ ما من طائفة إلاّ وقد حُرِّم وأنكِرَ عليها أنواع من التأويل. الوجه الثاني: أن تعيينَ القائل طائفةً دون غيرِها وتسميتها بالمعتبرين لا يَخفَى أنه نوعٌ من التحكّم والتعصب، فإن مجرَّد [قول] القائل: أنا معتزلي أو أشعري، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله، بحيث يُباحُ له في الشرع بذلك ما كان محظورًا، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورًا عليه. الوجه الثالث: أنّا قلنا: "تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل"، وذلك لا يُوجب أن يكون تأويلُ طائفة معينة باطلاً،

- قول المعترض: "فإن نقل ما ظاهره المنع حملناه على التأويل بغير دليل أو على غير القواعد العلمية"

ولا يُوجب أن يكون تأويل معتبرٍ باطلاً، فلا يَرِدُ هذا علينا. الوجه الرابع: أنّا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يُبيِّن ما عليه أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن شاء الله. فهذا كلُّه في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سَنَده "لا نُسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين". قولكم: "فإن نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ حَملناه على التأويل بغير دليل، أو على غير القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئة بعضهم" غير واردٍ لوجوهٍ: أحدها: أن التأويل بغير دليلٍ وبغير قواعدَ لا يُبيْحه ولا يَسلكه أحدٌ من عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم، سواءَ كانوا كفّارًا أو مؤمنين، مستنة أو مبتدعة، فإن أشد الناس تأويلاً من الفلاسفة والباطنية إنما يتأولون -زَعَموا- لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم، ويزعمون أنهم يُجرونَها على القواعد العقلية والسمعية. وأما المعتزلة فأمرهم في ذلك أظهر، فإنهم يزعمون أنهم فُرسان الكلام ودُعاة الإسلام، الحافظين (1) له بالقواعد العقلية والموارد السمعية، وأن مَن خالفَهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية والكُلاّبية والكرَّامية وغيرهم هم حَشْوُ الناس. وهم أهل فتنة واضطراب،

_ (1) كذا في الأصل منصوبًا.

ثم بَين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به عليم، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم، وكلٌّ منهم إنما يتأوَّل بدليلٍ عنده وعلى القواعد العلمية. بل الأشعرية ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في التأويل صحةً وفسادًا وحِلاًّ وحَظْرًا، والمتأوّل منهم إنما يتأول للدليل وعلى القواعد. فإذا كان كلُّ متأوّل إنما تأوَّل بدليلٍ وعلى القواعد، فقد خالفَه غيره من أهل الحديث وغيرهم في التأويل، فكيف يمكن أن يُحمَل إنكارُهم على التأويل الخالي من الدليل والقواعد؟ فإن قلتم: إنما أنكروا التأويل الذي لا يَعضُده دليل صحيح، ولم يكن جاريًا على القواعد الصحيحة، وإن كان متأوِّلُه يزعم اعتضاده بدليل صحيح وقواعد صحيحة. قلنا: فهكذا نقول في جميع تأويلات أهل الكلام المخالفة لأهل الحديث: إنها خاليةٌ عن دليلٍ صحيح وعن القواعد الصحيحة. وإذا كان هذا مدّعيًا لم يَسُغْ أن يقال بموجبه إلاّ على سبيل الموافقة لنا، وإنما يسوغ أن يطالب ببيان خلوها عن الدليل والقواعد الصحيحة، أو أن يُبين المتأوّل اقترانَ تأويلِه بدليلٍ وقواعد ليبين فساد قوله. الوجه الثاني: أن المنكرين للتأويل إبطالاً وتحريمًا صرَّحوا بذلك في أعيان التأويلات التي ادَّعى المتأولون اقترانَها بالدليل، وسنذكر إن شاء الله من ذلك بعضَ ما حَضَر. وصرَّحوا أيضًا بتحريم التأويل وإن زعمَ صاحبُه اقترانَه بدليل.

- قول المعترض: "لا أسلم أن معتبرا حرم تأويلا يشهد العقل بصحته عند الحاجة إليه"

الوجه الثالث: أنّا لم نحكم إلاّ ببطلان تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث، فإذا قلتم بإبطال أو بتحريم التأويل الخالي عن الدليل والقواعد لم يكن هذا نفيًا لوجود ما أبطلناه، لأنه يمكن أن يقال: هذا التأويل الذي رفعناه خليٌّ عن الدليل والقواعد، فإنا أبطلنا نوعًا من التأويل، ووافقتم على إبطالِ نوع منه. فإن قلتم: هذه التأويلات جارية على الأدلة والقواعد، نازَعْناكم فيها. فحاصله أن ما ذكرتموه لا يَصلُح مستندًا لمنع أن يكون أهل الحديث خالفوا المتكلمين في أعيان التأويلات. الوجه الرابع: قولكم "إن التأويل المقرون بدليلٍ الجاري على القواعد العلمية صحيح"، لا نُنازِعُكم فيه، وإنما الشأنُ في تقريرِ الدليلِ المصحِّح للتأويل وتثبيتِ القواعد المحقِّقة له، فإنكم تعلمون أن جميع أهل التأويل من القبلة لهم قواعدُ يضعون تأويلاتهم عليها. ثمَّ هذا القدر لا يَصلُح أن يكون سندًا لقولكم "لا نُسَلِّم أنّ أهلَ الحديث منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين" كما تقدم، والغرضُ هنا أنّ القول بالموجب لا يتوجه. وأما تقرير مذهب أهل الحديث فليس هذا موضعَه، لأنّا بعدُ في تحرير الدعوى وما يَرِدُ عليها. قولكم: "لا أسلِّم أن معتبرًا حرَّم تأويلاً يَشهدُ العقلُ بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحرٍ لا يرضى بأَسْر التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرة الذي هو من أجلّ نعم الله على العبيد". فنقول أوّلاً: مَن الذي حكى عن أحدٍ من الناس تحريمَ مثلِ

هذا؟ هذا شيء لم نذكره ولم نَقصِده، فمنعُه منعُ شيء أجنبي خارج عن كلامنا، وهذا منع لا توجيهَ له. ونقول ثانيًا: نحن قررنا بطلانَ التأويل وفساده، لم نتعرض لتحريمه بنفي ولا إثبات، والكلام في صحة التأويل وفسادِه غيرُ الكلام في حله وحَظْرِه، ولا يلزم من عدم تحريم الاجتهاد والإفتاء والحكم أن يكون الاستدلال والفتيا والقضاءُ صحيحًا، كذلك لو فرضنا جواز الإقدام على هذه التأويلات لم يلزم أن تكون صحيحةً، بل جاز أن تكون باطلةً، يعني أنها غير مطابقة لمراد المتكلم، سواء كان آثمًا أو معفوًّا عنه أو مأجورًا. ونقول ثالثًا: التأويل الذي نتكلم فيه هو صرفُ الكلام [من] الاحتمالِ الراجح إلى المرجوح لدليل يعتضد، كما تقدم بيانه. وكلّ تأويل فإنما هو بيان مقصودِ المتكلم أو مرادُه بكلامه، ومعلومٌ أن العقل وحده لا يَشهد بمعرفةِ مقصود المتكلم ومرادِه، فإن دلالة الخطاب سمعية لا يستقلُّ بها العقلُ، نعم العقلُ أخذَ باستفادته هذه الدلالة، فإذا انضمَّ [إلى] المعقول العلمُ بلغة المتكلم وعادتِه في خطابه فقد يَحصُل بمجموع هذين العلمين العلمُ بتأويلِ كلامِه، نعم قد يُعلَم بالعقلِ وبأدلةٍ أخرى أن المتكلِّم لم يُرِد معنًى من المعاني، سواء قيل: إنه ظاهر اللفظ، أو قيل: إنه ليس بظاهره، كما يعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (1) أنها أوتيتْ مُلْكَ

_ (1) سورة النمل: 23.

السماوات وملكَ سليمان وفَرْجَ الرجل ولحيتَه؛ ولم يُرِد بقوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) (1) أنها تُدمر السماوات والجنة والنار؛ ولم يُرِدْ بقوله: (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (2) شمولَ ذلك للخالق بصفاتِه. ونعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (3) يَدَيْنِ مثل يَدَي الإنسان، ولم يُرِد بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (4) نفيَ الصفاتَ المذكورة في الكتاب والسنة. فإذا كان العقلُ وحدَه يَشهد بصحة تأويلٍ، وإنما قد يَشهدُ بعدمِه، فالتأويل الذي يدَّعي صاحبُه أنه عَلِمَ بمجردِ العقل صحتَه تأويلٌ مردودٌ محرمٌ. نعم إن فَسَّرتم كلامَكم أن العقلَ بما استفاده من العلوم السمعية وغيرِها يعلم صحةَ التأويل، فهذا حقٌّ وإن لم يكن ظاهرُ اللفظ دالاًّ عليه، ونحن ما حكينا تحريمَ مثلِ هذا التأويل عن أحدٍ، ولا يَمنعُ تحريمَه كلامٌ آخر. وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين، فإنّ الغرضَ تقريرُ الحقائق وتحصيلُ الفوائد، لا ما يَقصِده المبطلون من التجاهل والتعانُد. ونقول رابعًا: قولكم "عند الحاجة إليه" موافقة لما يقوله كثير من الناس من [أنّ] التأويل اضطرَّ إليه العلماء، وبيانُ ذلك أنّا إذا علمنا بالأدلة العقلية والسمعية مثلاً انتفاءَ أمرٍ من الأمور، ورأينا بعضَ

_ (1) سورة الأحقاف: 25. (2) سورة الأنعام: 102. (3) سورة ص: 75. (4) سورة الشورى: 11.

النصوص تقتضي إثباتَه ظاهرًا، احتجنا إلى تأويله، لأنا إن قلنا بمقتضى الدليلين لزِمَ الجمعُ بينَ النقيضين، وإن قلنا بنفيهما لزمَ انتفاءُ النقيضين، ثم فيه تعطيلُ الدليلَين من دلالتهما، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور، إذ غايتُه تعطيلُ دلالة أحدهما، فلابدّ من ثبوتِ أحدهما وانتفاء الآخر، ولا يجوز أن يُقدَّم الدليلُ المُثْبت لأنه ظاهر، والنافي قطعي، والقطعي لا يجوز تخلُّفُ مدلولَه عنه، بخلافِ الظنّي. فتعيَّنَ إثباتُ مدلولِ الدليل القطعي دون الظاهر. ولأن القَطعي إذا كان عقليًّا، فلو رَجَّحنا عليه الظاهرَ السمعيَّ لَزِمَ القدحُ في ذلك الدليل العقليّ، والعقلُ أصل السَّمْع، فالقدحُ في العقلي القطعي قَدْحٌ في أصل السمعي، والقدحُ في الأصل قدح في فرعِه، فيصيرُ تقديمُ السمعي قدحًا في السمعي، وإثباتُ الشيء بما يقتضي نفيه محال. وإذا تعيَّن إثباتُ مدلولِ القطعي العقلي دون الظاهر السمعي، فنحنُ بين أمرين: إمّا أن نُفَوِّض معنى الظاهر إلى الله سبحانَه وتعالى، مع علمنا بانتفاءِ دلالتِه الظاهرة، أو أن نؤوِّله على وجهٍ يسوغ في الكلام. والقائلون بهذا التقرير يُسمُّون طريقَ المفوِّضة النفاة طريقَ السلف، وهو عندهم طريق أهل الحديث وأحدُ قولَي الأشعري وغيرِه من أهل الكلام. ثم هم في هذا على أقوالٍ: فغُلاةُ المتكلمين يُحرِّمون هذا ويُوجبون التأويل، وذهب إلى هذا ابنُ عقيل في أحد أقوالِه، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية، ومن هؤلاء مَن يُفيد كلامُه بأنه يجب على العلماء دون العامة.

- تقرير رأي المتكلمين في الحاجة إلى التأويل

ومنهم من يُحرم التأويلَ، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه (1). ومنهم من يُحرِّمُه على أكثر الخلق إلاّ على القليل، كأبي حامد الغزالي (2) وغيره. ومنهم من يُسوغِّ كلَّ واحدٍ من التفويض والتأويل، ويَعُدُّ هذا من العلوم التطوُّعية التي لا تجب ولا تحرم، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم والأحاديث الإسرائيليات، والأحاديث المتضمنة لأوصافِ الملائكة والجنّ ونحو ذلك، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضًا على الكفاية. منعُكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم، فلا يحرم على العالم المتبحر لوجوهٍ: أحدها: أن لا مُوجب لتحريمه، والأصل الإباحة، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل. الثاني: أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مرادِ الله ورسوله، وجنس العلم خير من جنس الجهل، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا محرَّمًا؟ الثالث: أن المخالف للحق من الكفّار والمبتدعة إن لم نتأوَّل لهم هذه النصوص لَزِمَ سوءُ الظن بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووقوعُ شبهة

_ (1) في "العقيدة النظامية" كما سبق. (2) في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام".

الاختلاف في كلام الله وكلامِ رسوله، ونفورُ الناس عن القرآن والإسلام، ونفورُ أهل الباطل عن الحق. والتأويلُ هو أسرعُ إلى القبول وأدعَى إلى الانقياد، فأقلُّ أحوالِه أن يكون بمنزلةِ تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة، فإن التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم والإيمان ما لا يَحصُل بدونها، مع أن الحاجة لا تدعو إليها، فكيف بتأويل الخطاب الذي عارض ظاهرُهُ القواطع العقلية والسمعية. الرابع: أن الطالب الذكي يَضيق صدرُه بأسْرِ التقليد، ويُحِبُّ أن يخرج إلى بُحْبُوحة العلم، فلا تقنَع نفسُه ويَرضَى عقلُه إلاّ بالوقوفِ على التأويل، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرفَ التأويل اطمأنّ قلبُه وانشرحَ صدرُه ورَضِيَ عقلُه، والبدنُ لو احتاجَ إلى طعام وشراب لغذاءٍ أو دواءٍ يَحصلُ له الضَّرَرُ بفَقدِه لأباحَهُ الله له، بل قد أباحَ الأكلَ في الصوم الواجب للمريض والمسافر إذا وَجَدَ مشقةً بالصوم، وأباحَ تركَ القيام في الصلاة إذا خافَ زيادةَ المرض أو لِطول البُرْء. فكيف لا يُبيحُ ما يَضرُّ عَدَمُه القلوبَ لِعقولها والنفوس لِوجودِها، ويَزِيد بعَدَمِه مرضُ القلب والدين، أو يتأخر بفَقْدِه الشفاءُ من مرضِ الكفرِ والنفاق. وكما أَن الأطعمة والأشربة تختلف شهوةُ الناس وحاجتُهم إليها باختلاف قُواهم وأمزاجهم، فرُبَّ مزاج يَقْرَمُ إلى اللحم ما لا يَقْرَمُه غيرُه، ومن كان مقيمًا بطَيْبَةَ إبَّان الجدادِ كانت شهوتُه إلى الرُّطَب بخلافِ شهوة سُكّان الشام، ومن كانت رياضتُه البدنية أقوى وأكثر -كالحمّالين والحرَّاثين- كانت حاجتهم إلى الطعام أشدَّ.

كذلك العلوم والطرق، فمن كان ذكيًّا كان شوقُه إلى دَرْكِ الأمور الدقيقة أشدَّ، ومن راضَ عقلَه بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافِها كانت حاجتُه إلى الازديادِ منها والوقوف عليها أشدَّ. والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما لا يحصل لغيرهم من المعرضين. وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يَستلزمُ الحاجةَ والشوقَ إلى أشياءَ، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك. ولهذا من لم يَرَ المطاعم الشهيَّة والمناظرَ البهيَّة لا يشتهيها كشهوةِ المبتلَى بها. فمن لم تَنفتِحْ عينُ بصيرتِه لصنوف المعارف، ولا توسَّعَتْ في قلبه أنواع المعالم، لا يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقَّادَة والمعارف المستفادة، ولا يَشتاق كاشتياقِهم. وهذا تقريرُ قولِ السائل -أيدهُ الله-: "لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسرِ التقليد". الخامس: أن نعمة الله على عبادِه بنفوذ البصيرة من أفضل النِّعَم، وإدراك حقيقة مرادِ الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق، فكيف يحرم استعمال هذه النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلاّ أقبح من تحريم استعمال قُوَى الأبدان في دَفْع أعداءِ الدين وعبادةِ ربّ العالمين، وتحريم إنفاق الأموالِ في سبيَل الله. بل تحريمُ هذا تحريم لطلب الدرجاتِ العُلَى والنعيم المقيم، والله لا يُحرم مثلَ هذا، بل يَستحبُّه إن لم يُوجِبْه. السادس: أن إبقاءَ النصوصِ المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين بنفيها ذريعةٌ إلى اعتقادِ موجبِها وتقلُّد مقتضاها. وتأويلُها

يَحْسِم هذه المادةَ، فيصير الأولُ مثلَ بناء الأسوار للأمصار، والثاني كتركِها بلا سوْرٍ. بل الأول بمنزلة كشفِ النساءِ الحِسان لوجوههن، والثاني كسَتْرِها، أو الأول بمنزلة تركِ المُرْدَانِ الصِّباحِ يُعاشِرون الأجانبَ، والثاني كصَوْنهم من هذه العِشرة. فإن لم يكن الثاني واجبًا أو مستحبًّا فلا أقلّ من أن يكون مباحًا. وهذا معنى قولِ بعضِ الناسْ طريقةُ السلَف أسلمُ، وطريقةُ الخلفِ أَحْزَم وأَحْكَم؛ لأنّ طريقة أهل التأويل فيها مخاطر بالإخبار عن مُرادِ الله بالظنّ، الذي يجوز أن يكون صوابًا ويجوز أن يكون خطأً، وذلك قولٌ عليه بما لا يُعلم، والأصلُ تحريمُ القول عليه بالظنّ، وكان تركُها أسلم. وفي طريقة أهلِ التأويل حَسْمُ موادِّ الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة، فكانت أحْزَمَ وأحكمَ. وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغَهم أن العدوَّ قاصدُهم، وبيتُ المالِ خالٍ، فهل يسوغُ أن يجمع من أموالهم ما يَبني به سُورَهم لحفظِهم من العدوّ إلى لحوق الذرى، واندفاع العدو بشدة البرد (1) المخاطرة بأخذِ الأموال بغيرِ طيب نفوسِ أصحابها، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال، والَحَزْم بضبطِ الدين عن الانحلال. وهَبْ هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قومٌ الحظرَ، وقومٌ الوجوب، وقوم يُخيِّرون بين الأمرين، وقوم يُوجبون فعلَ الأصلح. ويختلفُ الأصلحُ باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص.

_ (1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

- رد المؤلف عليه

السابع: أن السلف تكلَّموا في تفسير القرآن كلِّه، وما رأيناهم حَرَّموا تفسير شيء منه، إلاّ أن يُنقَل عن أحدِهم أنه تَرَكَ القولَ فيه، أو حرَّم القولَ على غيرِه بغيرِ علم، أو تَركَه خَوفَ الخطأِ على سبيل الورع ونحوه. وكتبُ التفسير مشحونة بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرِها، فكيف يَدَّعِي هذا أن المعتبرين حَرَّموا ذلك؟ فهذا (1) تقرير لما ذكرتموه من قولكم: "لا نُسَلِّم أنَّ معتبرًا حِرَّم تأويلاً يَشهَدُ العقل بصحتِه عند الحاجة إليه، لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسْرِ التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرةِ الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العبيد". وجوابه من وجوهٍ: أحدها: ما تكلَّمنا في تحريم جنس التأويل وجوازه شيئًا، وإنما تكلمنا في صحته وفسادِه، فقلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ [الحديث] باطلاً، وتيقَّن [أن] الحق مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا". وسنبيِّنُ إن شاء الله بالنقول المستفيضة أن الخلاف وقعَ في أعيانٍ هل هي صحيحة أو فاسد، بل قد بيّنَّا في نفس تلك المناظرة

_ (1) الكلام السابق في أربع صفحات من قوله (ص 79) "منعكم أن التأويل" إلى هنا تقريرٌ وتوضيحٌ من المؤلف لكلام الخصم، ثم بدأ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا تمامُه.

- الأسئلة تارة تكون موجهة واردة، وتارة لا تكون كذلك

فسادَ تأويلِ اليدِ بما ذكروه فيها من التأويل (1)، ولم نتعرض للتحريم ولا للتحليل. وإذا كان أوَّلُ الكلام وأوسطُه وآخره إنما هو في صحة التأويل المعيَّن والمطلق وفسادِه، فالكلامُ في التحريمِ نفيًا وإثباتًا كلامٌ آخر ليس بواردٍ علينا. ولولا أنّا في هذا المقام غرضنا بيان عدمِ ورود الأسولةِ علينا بالكلية لذكرنا نصوصَ المختلفين، وإنما نؤخر ذلك إلى المقام الثاني إن شاء الله. إن الأسولةَ تارةً تكون موجَّهةً واردةً، وتارةً لا تكون كذلك، والسؤال الواردُ منه [ما] يُوجبُ انقطاعَ المستدلّ، ومنه ما لا يُوجب انقطاعه، إن أجاب عن ضبط حدود النظر والمناظرة هُدِيَ إن شاء [الله] إلى الهدى والسَّداد، اللَّذَين أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليًّا بمسألتِهما من الله، والغرض الضبط العلمي الديني، لا الضبط العِنادي الذي مضمونُه الكلامُ بلا علمٍ أو عدمُ قصد الحقّ. وأما الاصطلاح المحضُ فأنتَ فيه بالخيار، ويَجِب أن تعرف حقيقة هذا النقل وتدين في قولهم: "الإسنادُ من الدين، لولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاءَ" (2). فإن كان النقلُ مشهورًا -مثل أن يقال: مذهبُ أهل الحديث أنّ الله يُرى في الآخرة، والإيمان بالشفاعة، أو جمهورهم ونحو ذلك- لم يُطلَب في مثل هذا الإسنادُ. فإن نُقِلَ: مذهبُ أهلِ الحديث بأن الله يُرى هو الصحيح، فقد تضمنَ هذا نقلاً وحكمًا، فيجوز أن يُقالَ: لا نُسلِّم أنه هو الصحيح، وقد يقال أيضًا: من أين علمتم؟

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (6/ 362 - 372). (2) قاله عبد الله بن المبارك، كما روى ذلك عنه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 15).

فالمستدلُّ في الأدلة في خطاب أو كتابٍ إذا قال: مذهبُ فلانٍ كذا، لم يَرِدْ علمه لا مَنْع ولا معارضتُها، وقد يُعتَرضُ النقلُ بنقل آخر. وفي الحكم ورد عليه منعُ النقلِ ومعارضتُه بأن: مَن ذكرَ هذا؟ أو مَن حكاه؟ أو قد نَقَلَ فلان عنه بخلافِه. لكن فرق بين مَنع النقل وبين منع الحكم وبين منع الدلالة، فإن النقل لا يُمنَع منعًاَ محضًا إلاَّ أن يكون المانعُ يعلم انتفاءَ ذلك المنقول، مثل أن يعلم أن مذهب الشخص أو روايته بخلاف ذلك، كمن قال: سَمِعَ مالك ابنَ عمر يقولُ كذا، فحقول المعترضُ: ما سمعَ مالكٌ منه شيئًا. وأما إن كان صدقُه ممكنًا، فإن غَلَبَ على الظنّ خيرته وعدالتُه اكتفي بذلك. (آخر ما وُجِد، والله أعلم. وليست كاملة).

(2) قاعدة في الوسيلة

قاعدة في الوسيلة

- مسألة فيمن عاب أقوالا نقلها جماعة من أكابر الأئمة، وزعم أن فيها تنقصا بعباد الله الصالحين واستخفافا بحرمة البيت

بسم الله الرحمن الرحيم ما تقولُ السادةُ العلماءُ أئمةُ الدين وهُداةُ المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن عابَ أقوالاً نَقَلَها جماعة من أكابرِ الأئمةِ وأعيانِ ساداتِ هذه الأمة: أولها: ما أوردَه الشيخ أبو الحسين القُدوري الحنفي في كتابه الكبير في الفقه المسمَّى بشرح الكرخي (1) في باب الكراهية، وصورةُ اللفظ: "قال بِشرُ بن الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا ينبغي لأحدٍ أن يَدعُوَ الله إلاّ به، وأكرهُ أن يقولَ: بمَعَاقدِ العِز من عرشِك أو بحقِّ خَلْقِك. وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: "بمعقدِ العزِّ من عرشك" هو الله، فلا أكرهُ هذا. وأكرهُ أن يقولَ: بحقِّ فلانٍ، أو بحقِّ أَنبيائك ورسلك، وبحقّ البيتِ والمشعرِ الحرام. قال القدوري: المسألة بخلقِه لا تجوز، لأنه لا حقَّ للخلقِ على الخالق، فلا يجوز.

_ (1) شرح مختصر الكرخي من أمهات الكتب في الفقه الحنفي، توجد نسخه الخطية في مكتبات تركيا والهند. انظر "تاريخ التراث العربي" (3:1/ 102). والمسألة مذكورة في "نتائج الأفكار شرح الهداية" لقاضي زاده أفندي (10/ 64) و"الفتاوى الهندية" (5/ 318) وحاشية ابن عابدين (6/ 395 - 397).

وثانيها: ما ذكره الشيخ أبو القاسم القُشَيري في كتابه المسمَّى "التحبير في علم التذكير" المشتمل على تفسير معاني أسماء الله عزَّ وجلَّ، وصورةُ اللفظ أنه قال (1): عَلِمَ الحقُّ سبحانَه أنه ليس لك أَسَام مرضية، فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، (2) وَلأن تكون بأسماءِ ربك داعيًا خيرٌ لك من أن تكونَ بأسماء نفسك مَدْعِيًّا، فإنك إن كُنتَ بك كنتَ بمن لم يكن، وإذا كُنتَ به كنتَ بمن لم يَزَلْ، فشَتَّانَ بين وصفٍ وبين وصفٍ. وقال (3): مَن عرفَ اسمَ ربَه نَسِيَ اسمَ نفسِه، بل مَن صَحِبَ اسمَ ربِّه تَحَقَّق بروحِ أنْسِه قبلَ وصوله إلى دارِ قُدْسِه، بل مَن عرفَ اسمَ ربِّه سَمَتْ رتبتُه، وعَلَتْ في الدارينِ منزلتُه. وثالثُها: ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه (4) المشهورة، وصورةُ اللفظِ أنه قال: لا يجوزُ التوسُّلُ في الدعاء بأحدٍ من الأنبياء والصالحين إلاّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن صحَّ حديث الأعمى. وزعمَ العائبُ لهذه الأقوالِ والطاعنُ على معانيها أنَّ فيها تنقُّصًا بعبادِ الله الصالحين، واستخفافًا بحرمةِ البيتِ والمشعر الحرام. فهل في هذه الأقوال المذكورةِ تنقُّصٌ واستخفافٌ والحالةُ هذه أو لا؟

_ (1) ص 23. (2) سورة الأعراف: 185. (3) التحبير (ص 22). (4) ص 83.

- الجواب: ليس فيها تنقص ولا استخفاف

وهل يجوز ردُّها بمجرد رأي الإنسان وما جَرَتْ به عَوائدُ بعضِ أهل الزمانِ أم لا؟ وهل اشتهرَ عن الأئمة الأكابرِ المتبوعين خلافٌ لهذه الأقوال؟ وهل صحَّ حديثُ الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعِه (1)؟ وهل في صريح لفظِه ما يُبطِلُ الأقوالَ المذكورةَ ويُوجِبُ اعتقادَ خلافِها؟ وهل يجوز الحلفُ بغير الله تعالى؟ وإذا لم يَجُزْ هل يجوز التحليفُ والإقسامُ بغير الله؟ والرادُّ لهذه الأقوالِ المتقدمِ ذكرُها والطاعاتِ فيها، إذا لم يكن عنده دليل شرعي قاطع يدفعُها به، هل يُردَعُ عن ذلك ويُزْجَرُ؟ فأجاب -رضي الله عنه- الحمد لله، ليس في شيء من هذه الأقوال تنقُّصٌ ولا استخفاف، لا بصالحي عبادِ الله ولا بشعائرِ الله، وإنما يكون متنقِّصًا من نقصَهم عن منزلتِهم التي جعلَهم الله بها، كمن لا يَرى حجَّ البيتِ قُربة وطاعةً لله، ولا يَرى الوقوفَ بعَرفةَ ومزدلفةَ ومِنًى، كما كان بعضُ أهلِ الجاهلية لا يَرَونَ الصفا والمروةَ من شعائرِ الله، وكان بعضهم يَخافُ -إذْ كانوا يُعظِّمونها في الجاهلية- أن لاتكون من شعائرِ الله

_ (1) برقم (3578). وسيأتي الكلام عليه.

- من تمام تعظيم البيت أن يعبد الله فيه كما شرعه الرسول

في الإسلام، فأنزلَ الله قولَه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (1) جوابًا للطائفتين، كما ثبت ذلك في الصحاح (2). وكمن لا يَرى تعظيمَ الهَدْي والضحايا التي قال الله فيها: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)) (3). وكمن لا يَرى تعظيمَ حُرُماتِ الله، فلا يُحرِّمُ صيدَ الحرم ونباتَه وسائرَ ما حرَّم الله تعالى من المحرّمات، فإنّ الواجبَ على الخَلقِ فِعلُ ما أمر الله به من العبادات، واجتنابُ ما حرَّمه من المحرَّمات، فإنَّ هذا وهذا من دين الله الذي بَعثَ به رُسُلَه، ولهذا قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (4). ومن تمام تعظيم البيتِ أن يُعبَد اللهُ فيه كما شَرعَه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيُطَاف به، ويُستَلم الركنانِ اليمانيانِ، ويُقبَّل الحجرُ الأسودُ. فلو قال قائلٌ: من تعظيمه استلامُ الركنينِ الشاميينِ، وتقبيلُ مَقام إبراهيم والمَسْحُ به، أو تقبيلُ غيرِ الحجرِ الأسودِ من جُدران الكعَبة، ونحو ذلك مما قد يَظنُّه بعضُ الناس تعظيما= كان هذا غلطًا. وإذا نهاهُ ناهٍ عن ذلك فقال: نَهْيُك لي عن هذا تنقُّصٌ واستخفاف بحرمة البيت، كان قد غَلِطَ غلطًا ثانيًا.

_ (1) سورة البقرة: 158. (2) أخرجه البخاري (1643) ومسلم (1277) من حديث عائشة. (3) سورة الحج: 32 - 33. (4) سورة الحج: 30.

- دين الإسلام مبني على أصلين: أن لا يعبد إلا الله، وأن يعبد بما شرع

ولهذا لمّا طافَ ابنُ عباس ومعاويةُ بالبيت فكان ابن عباس لا يَستلم إلاّ الركنينِ اليمانيين، واستلم معاويةُ الأركانَ الأربعةَ، فقال ابن عباس: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستلم إلاّ الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيتِ شيء مهجور، فقال له ابن عباس: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (1)، فسَكتَ معاويةُ ووافقَ ابنَ عباس (2). فمعاويةُ احتجَّ بأنّ البيت كلَّه معظَّم لا يُهجَر منه شيء، فأجابَه ابن عباسٍ بأن العباداتِ يجبُ فيها اتباعُ ما شَرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمّتِه، ليس لأحدٍ أن يَشرعَ برأيه عبادةً لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر. فوافقَه معَاويةُ، وعَلِمَ أنَ الصوابَ مع ابن عباسٍ. وكذلك ما ثبت في الصحيحين (3) أن عمر بن الخطاب لمّا قَبَّلَ الحجرَ الأسودَ قال: والله إني أعلَمُ أنكَ حجرٌ لا تَضرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أني رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبِّلُك لَمَا قَبَّلْتك. بيَّن عمر -رضي [الله] عنه- أنّ العباداتِ مبناها على متابعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذْ كان دينُ الإسلام مبنيًّا على أصلينِ: أحدهما: أن لا يعبُد إلا الله، لا يُشرِك به شيئًا.

_ (1) سورة الأحزاب: 21. (2) أخرجه بنحوه أحمد (1/ 217) من طريق مجاهد عن ابن عباس. وللحديث طرق أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (3/ 473، 474). وأصله عند البخاري (1608)، والجزء المرفوع منه فقط عند مسلم (1269). (3) البخاري (1597، 1605، 1610) ومسلم (1270).

- معنى قول عمر المشهور في الحجر الأسود

والثاني: أن يَعبده بما شرع من الدين، لا يعبده بشَرْع مَن شرعَ مِن الدين ما لم يأذَن به الله، كالذين قال فيهم: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (1). فأخبرَ عمرُ أنا لم نُقبِّلْك نَرجو منفعتَك ونخافُ مَضرَّتَك، كما كان المشركون يفعلون بأوثانهم، بل نعلم أنك حجر لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أن الرسول قَبلك -وقد أمرنا الله باتباعِه، فصارَ ذلك عبادةً مشروعةً- لما قبَّلْتك، لسنا كالنصارى والمشركين وأهل البدع الذين يعبدون غيرَ الله بغيرِ إذن الله، بل لا نعبد إلاّ الله بإذن الله، كما قال لنبيه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)) (2)، فبيَّن أن رسوله يدعو إليه بما أذن فيه من الشَّرع، لا بما لم يأذن به، كالذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. وكذلك قال عمر (3): فِيْمَ الرملُ الآن والإبداءُ عن المناكب؟ وقد أَطَّأَ الله الإسلامَ ونفَى الشركَ وأهلَه، ثم قال: لا نَدَعُ شيئًا كُنَّا نفعلُه على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ فعلناه. وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابَه في عمرة القضيةِ بالاضطباع وبالرمل ليُرِيَ المشركين قوتَهم، ولهذا لم يأمرهم بالرمل بين الركنين

_ (1) سورة الشورى: 21. (2) سورة الأحزاب: 45 - 46. (3) أخرجه أبو داود (1887) عنه. وأصله عند البخاري (1605).

- لم يشرع التمسح إلا بالركنين اليمانيين، والتقبيل إلا للحجر الأسود

اليمانيين، لأن المشركين كانوا بقُعَيْقِعَانَ جَبَلِ المروةِ ينظرون إليهم (1). ثمَّ إنه لما حَجِّ اضطَبَعَ ورَمَلَ من الحجر الأسود إلى الحجرِ الأسود، فجعلَ ذلك شرْعًا لأمتِه. فبيَّن عمرُ أنه لو لم يُشْرَع ذلك لما فَعَلْناه، لزوالِ السببِ الذي أوجبَه إذْ ذاك. ومعلوم أن مكَّةَ -شرَّفَها الله- فيها شَعَائرُ الله، وفيها بيتُه الذي أوجبَ الحجَّ إليه، وأمرَ الناسَ باستقباله في صلاتهم، وحَرَّم صَيْدَه ونباتَه، وأثبتَ له من الفضائل والخصائص ما لم يثبتْه لشيء من البقاع. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكة: "والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضَ الله إلى الله -وفي رواية: وأحبُّ أرضِ الله إليَّ-، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ لما خَرَجتُ" (2). قال الترمذي: حديث صحيح. فإذا كان الله لم يَشرع أن يتمسَّح إلا بالركنين اليمانيينِ لكونهما على قواعدِ إبراهيم، ويُقبَّل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله في الأرض (3)، فلا يُقبَّل سائرُ جُدرانِ الكعبة، ولا يُقَبَّل مقامُ إبراهيم الذي هناك ولا يتمسَّح به، ولا يُقبَّل مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان يُصلي فيه ولا يُتَمسَّح به، ولا يُقبَّل قَبرُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يتمسَّح به= فمعلوم أن

_ (1) كما في رواية ابن عباس المعلقة عند البخاري (4256)، ووصلها الإسماعيلي كما ذكر الحافظ في "الفتح" (7/ 510). (2) أخرجه أحمد (4/ 305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. (3) أخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/ 96) وعبد الرزاق في المصنف (5/ 39). موقوفًا على ابن عباس، وهو صحيح عنه. ويُروى مرفوعًا عن جابر وغيره، ولا يثبت رفعُه. انظر "الضعيفة" (223) و"جامع المسائل" (13/ 63).

- لا يقبل شيء من قبور الأنبياء والصالحين، ولا يستلم ولا يطاف به

قُبورَ سائرِ الأنبيِاء والصالحين التي ببقية البلاد (مثلَ ما بالشامِ وغيرها من الأمكنة التي يُقال: إنها مقام إبراهيم أو المسيح أو غيرهما، كمقامِ إبراهيم ببَرْزَةَ، وكمغَارةِ الدّم، والرَّبوة التي يُقال: إنه كان بها المسيحُ وأمُّه، وكطورِ موسى وغارِ حِرَاءَ وغيرِهما من الجبالِ والمغاراتِ، وكسائر قبور الصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهما، وكصَخْرةِ بيتِ المقدس وغيرها) أولَى [بأن] لا يُقبَّلَ شيء من ذلك ولا يُستَلَم ولا يُطافَ به، فلا يكون شيء من ذلك بمنزلةِ الركنين اليمانيين ولا بمنزلة الحجر الأسود. ولهذا قال عمر: والله إني لأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تَنفعُ، ولولا أني رأيت رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبِّلُك لما قَبَّلتك. يدلُّ على أنه ليس من الأحجارِ ما يُقبَّل، إذ كان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يشرع تقبيلَ شيء من ذلك. والحديث الذي يرويه بعضُ الكذابين: "لو أحسنَ أحدُكم ظَنَّه بحجرٍ لَنفَعَه الله به" (1) كَذِب مُفترى باتفاقِ أهلِ العلم، وإنما هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام الذين يُحسِنون ظنَّهم بالحجارةِ، وقال تعالى لهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)) (2)، وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)) (3)، وقال الخليل: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ

_ (1) موضوع لا أصل له، قال المؤلف في مجموع الفتاوى (24/ 335): إنه من المكذوبات. وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 139): هو من وضع المشركين عباد الأوثان. (2) سورة الأنبياء: 98. (3) سورة البقرة: 24.

- المؤمن يحسن ظنه بربه

وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شيئًا (42)) (1)، وقال تعالى عن عُبَّاد العِجْل: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) (2). وذكر تعالى عن الخليل أنه قال لقومه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شيئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)) (3). وفي الموضع الآخر: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)) (4). فهؤلاء المشركون كانوا قد أحسنوا ظنَّهم بالحجارة، فكان عاقبتُهم أنهم في النار خالدون. وإنما يُحسِن العبدُ ظنَّه بربِّه، كما

_ (1) سورة مريم: 42. (2) سورة الأعراف: 148. (3) سورة الأنبياء: 52 - 67. (4) سورة الصافات: 95 - 96.

- العبادات مبناها على توقيف الرسول

ثبتَ في الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقولُ الله: أنا عندَ ظنِّ عبدِي بي، وأنا معَه إذا دعاني، فإن ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسِي، وإن ذكرَني في مَلأٍ ذكرتُه في مَلأٍ خير منه". وفي صحيح مسلم (2) عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَموتَن أحدُكم إلاّ وهو حَسَنُ الظنِّ بالله". وبالجملة فهذا أصل متفقٌ عليه بين أئمةِ الدين أنَّ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ وطاعةِ أمرِه والاقتداءِ به، فلا يكون شيءٌ عبادة إلاّ أن يَشرعَه الرسولُ، فيكون واجبًا أو مستحبًّا، وما ليسَ بواجب ولا مستحبٍّ فليسَ بعبادةٍ باتفاقِ المسلمين. ومن اعتقدَ مثلَ ذلك عبادةً كان جاهلاً، وإن ظَنَّ أنّ ذلك تعظيمٌ لمن يَجِبُ تعظيمُه، فإن التعظيم المشروع لا يكون إلاّ واجبًا أو مستحبًّا. ومَن نُهِيَ عن اتخاذ الأحبارِ والرُّهبانِ أربابًا من دونِ الله والمسيح ابن مريم، وعن اتخاذ الملائكةِ والنبيين أربَابًا، وعن الغُلُوِّ في الأنبياء والصالحين، فزَعمَ أنَّ هذا تنقُّصٌ واستخفافٌ بالأنبياء والصالحين والملائكة، فهو من جنس النصارى وأشباهِهم من المشركين وأهلِ البدع، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

_ (1) البخاري (7405) ومسلم (2675) عن أبي هريرة. (2) برقم (2877).

وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)) (1). وقد قال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2). وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (3). فهذه الأمور التي ذمَّ الله بها النصارى، إذْ نُهُوا عنها قالوا: هذا تنقُّص بالمسيح والأحبار والرهبان، وكانوا كفّارًا بجعلِهم هذا النهيَ تنقُّصًا مذمومًا، إذ كانوا عظَّموا الأنبياء والصالحين تعظيمًا لم يُشرَع لهم.

_ (1) سورة النساء: 171 - 173. (2) سورة آل عمران: 79 - 80. (3) سورة التوبة: 30 - 31.

- من اتخذ قبورهم مساجد أو سجد لهم أو دعاهم وسألهم بعد مماتهم فإنه مشرك مبتدع

وكذلك من اتخذَ قبورَهم مساجدَ تعظيمًا لهم، أو سَجَدَ لهم تعظيمًا لهم، أو دَعَاهم وسألهِم -كما يَدعُو الله ويسألُه- بعد مَماتِهم وفي تغيّبِهم، أو رَجَاهم وخافهم كما يَرجو الله ويخافه= فإنه مشركٌ مبتدع. وإذا نُهِيَ عن ذلك فقال: هذا تنقُّصٌ، زادَ ضلالةً، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) (1) وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)) (2). فجعل الله الخشيةَ والتقوى والتوكُّلَ والرغبةَ لله وحدَه، وجَعَلَ للرسول أن يُطاعَ، فمن يُطِع الرسولَ فقد أطاعَ الله، وأن يرْضَوا بما آتاه، وهو ما حَلَّلَه، فلا يَطلب ما حرَّمه الله، بل الحلالُ ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعَه. ويجب أن يكون أحبَّ إلى المؤمنين من أنفُسِهم وأهليهم، إلى غيرِ ذلك من حقوقِه (3). ولا يُعبَد إلاّ الله، ولا يتَوكَّل إلاّ على الله، ولا يُرغَب إلاّ إلى الله، ولا يُخشَى ولا يُتَّقى إلاّ الله. وقد اتفقتْ أئمة المسلمين على أن من قَصَد الصلاةَ في المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، وقَصَد الدعاءَ عندها، معتقدًا أن الصلاةَ فيها والدعاءَ عندها أفضلُ من الصلاةِ والدعاءِ في المساجد

_ (1) سورة النور: 52. (2) سورة التوبة: 59. (3) في الأصل: "حقوقهم".

- لا يشرع لأحد أن يستلم ويقبل غير الركنين اليمانيين

المبنية لله لا على قبرِ أحد= فإنه مخطئ ضالٌّ، وإن كان كثير من الجهال يَرَى ذلك من تعظيمهم. وكذلك اتفقَ الأئمة الأربعةُ وغيرهم على أنه لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ، لا قبورَ الأنبياء ولا حجرةَ بيت المقدس ولا غيرَ ذلك، ولا مقامات الأنبياء كمقام إبراهيم الذي بمكة، والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين وغير ذلك مما يَستلمُه ويُقبِّلُه كثير من الجهال، ويَرون ذلك من تعظيمها، وذلك ليس بواجب ولا مستحبّ باتفاق المسلمين. ومن فَعَلَ ذلك معتقدًا أنّه بِرّ وقُربة فهو ضالّ مبتدعٌ مشابهٌ للنصارى. واتفق أيضًا أئمةُ المسلمين على أنّه لا يُشرَعُ لأحدٍ أن يَدعوَ ميتًا ولا غائبًا، فلا يدعوه ولا يَسألُه حاجةً، ولا يقول: اغْفِرْ ذنبي، أو انصُرْ ديني، أو انصُرْني على عدوّي، أو غير ذلك من المسائل، ولا يَشتكي إليه، ولا يَستجير به، كما يَفعلُه النصارى بمن يُصوِّرون التماثيلَ على صورته، ويقولون: مقصودُنا دعاءُ أصحاب هذه التماثيل والاستشفاعُ بهم، فمثلُ هذا ليس مشروعًا -لا واجبًاَ ولا مستحبًّا- في دين المسلمين باتفاقِ المسلمين. ومَن فَعَلَ ذلك معتقدًا أنه يُستحبُّ فهو ضالّ مبتدع. بخلافِ طلب الدعاءِ والشفاعةِ من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصالحين، كما كان أصحابُه يَطلبُون منه الدعاءَ ويَستشفعون به ويتوسَّلُون بدعائِه في حياته، كما ثبت في صحيح البخاري (1) عن عمر بن الخطاب أنه

_ (1) برقمي (1010، 3710).

- الأحاديث الواردة في هذا الباب

قال: "اللهمّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك [بنبيِّنا فتَسْقِينا، وإنّا نتوسَّلُ إليك] بعَمِّ نبيِّنَا فَاسْقِنا"، فيُسْقَون. وقد ثبت في الصحيحين (1) حديث أنس لما توسَّلُوا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستشفعوا به، فطلبوا منه أن يَدعُوَ لهم، حينَ قال له الأعرابي: جُهِدتِ الأنفسُ وجاعَ العِيالُ وهَلكَ المالُ، فادعُ الله لنا، فدَعَا الله لهم، فأُمْطِروا سَبْتًا. ثم شَكَوا إليه بهَدْم الأبنية وانقطاع الطُرق، وسألوه أن يدعُوَ الله بِكَشْفِها عنهم، فدَعاه، فكَشَفَها عنهم. وكذلك يومَ القيامة يَتوسَّلُ به أهلُ الموقفِ ويستشفعون به، فيَشفعُ لهم إلى ربّه أن يَقْضِي بينهم. ثمَّ يشفعُ شفاعةً أخرى لأهلِ الكبائرِ من أمَّتِه، ويَشفَعُ في أن يُخرِجَ الله من النار مَن في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان، كما استفاضتْ بذلك الأحاديثُ الصحيحة (2). ولما ماتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاسِ عَمِّه، ولم يتوسَّلُوا به بعد موتِه، فإنهم إنما كانوا يتوسَّلُونَ بدعائه في حياتِه، وذلك ينقطع بموته، فتوسَّلُوا بدعاء العباس. وكذلك معاويةُ بن أبي سفيان استشفَعَ في الشام وتوسَّلَ بيزيدَ ابنِ الأسودِ الجُرَشي، وقال: "اللهمَّ إنّا نتوسَّلُ إليك بخيارنا، يا يزيدُ! ارفَعْ يديك"، فرفَعَ يَدَيْه فدعَا ودَعَا الناسُ، حتى نزلَ المطَرُ (3).

_ (1) البخاري (933 ومواضع أخرى) ومسلم (897). (2) وهي مخرجة في الصحيحين وغيرهما. (3) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (1/ 602) والفسوي في المعرفة=

- التوسل بالنبي في حياته ليس توسلا بذاته بل بدعائه

ولهذا قال الفقهاء: يُستحَبُّ الاستسقاءُ بأهلِ الصلاح والدين، والأولى أن يكونوا من أهلِ بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اقتداءً بعمرَ لما استسقَى بالعبّاس. ولو كان توسُّلُهم في حياتِه هو إقسامًا به على الله وتوسُّلاً بذاتِه من غيرِ أن يدعُوَ لهم، لأمكنَ ذلك بعدَ مماتِه، ولكانَ توسُّلهم به أولَى من توسُّلِهم بالعباس. ولكن إنما كانوا يتوسَّلون بدعائه، كما ثبتَ ذلك في الصحاح أنهم توسَّلُوا في الاستسقاء بدعائه. وفي صحيح البخاري (1) عن ابن عمر قال: ربّما ذكرتُ قولَ الشاعر: وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهِه … ثِمَالُ اليتامَى عِصْمَةٌ للأرامِلِ ولم يقل أحد من المسلمين إنهم كانوا في حياتِه يُقسِمُون به ويتوسَّلون بذاتِه، بل حديثُ الأعمى الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم (2)، ألفاظُه صريحة في أن الأعمى إنما توسلَ بدعاءِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قد بسطت ألفاظه في موضع

_ = والتاريخ (2/ 380) عن سليم بن عامر، وصححه الحافظ في "الإصابة" (3/ 673). وفي طبقات ابن سعد (7/ 444): أُخبِرتُ عن أبي اليمان عن صفوان بن عمرو عن سليم، فذكره. وانظر "البداية والنهاية" (12/ 161). (1) برقم (1009). والبيت من قصيدة أبي طالب التي أوردها ابن هشام في "السيرة" (1/ 272 - 280)، ثم قال: هذا ما صحّ لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها. (2) أخرجه أحمد (4/ 138) والترمذي (3578) والنسائي في عمل اليوم والليلة (658، 659) وابن ماجه (1385) وابن خزيمة (1219) وغيرهم من حديث عثمان بن حنيف، وصححه الترمذي والحاكم (1/ 313، 519) وغيرهما.

آخر (1). وفي أول الحديث أن الأعمى سألَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدعوَ الله أن يَرُدَّ إليه بَصَرَه، فهو طلبَ من النبي الدعاءَ، فأمرَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ ويُصلِّيَ ركعتينِ، ويقول: "اللهمّ إني أسألَك وأتوجَّهُ إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمةِ، يا محمد يا رسولَ الله إني أتوسَّلُ بك إلى ربي في حاجتي لتَقضِيَها، اللهمّ فشَفِّعْهُ فيَّ". وفيِ رواية ثانيةٍ رواها أحمد والبيهقى وغيرهما (2): "اللهمَّ شَفِّعْه فيَّ وشفِّعْنِي فيه". فلما سألَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدعوَ أمرَه أن يدعوَ هو أيضًا. كما قال له ربيعةُ بن كعب الأسلمي: أسألُ مرافقتك في الجنة، فقال: "أعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود" (3). فإنّ شفاعةَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسؤالَه الإنسان قد يكون مشروطًا بشروطٍ، وقد يكون هناك مانعٌ، كاستغفارِه للمنافقين. فدعاؤه من أعظم الأسباب في حصولِ المطلوب، ولكن السبب قد يكون له شروطٌ وموانعُ، فإذا كان إبراهيم قد استغفر لأبيه فلم يُغفَر له، وقيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنافقين: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (4)، وقيل له: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (5)، لم يَمنَعْ ذلك أن يكونَ دعاءُ

_ (1) انظر "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ضمن مجموع الفتاوى (1/ 265 - 279). و"الرد على البكري" (ص 128 - 138). (2) هذه الرواية أخرجها أحمد (4/ 138) والحاكم في المستدرك (1/ 313، 519) والبيهقي في كتاب الدعوات وغيرهم. (3) أخرجه مسلم (489) وأبو داود (1320) والنسائي (2/ 227) عن ربيعة. (4) سورة المنافقون: 6. (5) سورة التوبة: 84.

إبراهيم ومحمد عند الله أعظمَ الدعاءِ إجابةً، وجَاهُهما عند الله أعظمَ جَاهٍ للمخلوقين، وهما الخليلان، وهما أفضل البريَّةِ. لكنَّ الدعاءَ وإن كان سببًا قويًّا فالكفرُ مانعٌ معارضٌ، فإن الله لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ به، وقد حرَّمَ الجنةَ على الكافرين والمنافقين وإن استغفرَ لهم محمد وإبراهيم، لوجودِ المانع لا لنَقْصِ جَاهِ الشفيع العظيمِ القدير. وكذلك ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال: "استأذنتُ ربّي في أن أستغفِرَ لأمِّي فلم يأذَنْ لي، واستأذنتُه في أن أزورَ قبرَها فأذِنَ لي". وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2)، ثم اعتذرَ عن إبراهيم بقوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (3). فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لربيعة: "سَلْ"، قال: أسألُ مرافقتَك في الجنة، فقال: "أَوَ غيرَ ذلك"؟ فقال: بل هو ذاك، قال: "أَعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ". فإن المطلوبَ عَالٍ لا يُنَالُ بمجرَّدِ الدعاءِ، بل لابُدَّ من عملٍ صالحٍ يكونُ من صاحبه، يكونُ عونًا للداعي، فقال: "أعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود".

_ (1) مسلم (976) عن أبي هريرة. (2) سورة التوبة: 113. (3) سورة التوبة: 114.

- التوسل بدعائه وشفاعته هو التوسل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه

كذلك أَمَرَ الأعمى -لما طلبَ منه الدعاءَ له- أن يُعِينَه هو أيضًا بصلاتِه ودعائِه، وقال: "صَلِّ ركعتينِ ثم قُلْ: اللهمّ إني أسألكَ وأتوسَّلُ إليك بنبيك محمد نبيِّ الرحمة" أي بدعاءِ نبيِّك وشفاعتِه. كما قال عمر: "كنّا نتوسَّلُ إليك بنبينا، وإنا نتوسلُ إليك بعم نبينا". ومعلومٌ أنهم إنما توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاس، كما كانوا يتوسَّلُون بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا فَعَلَه عمرُ بين المهاجرين والأنصار عامَ الرَّمَادَةِ، ولم يُنكِرْهُ أحدٌ ولم يَقُلْ له: بل التوسُلُ بذاتِ النبي أو الإقسامُ به مشروعٌ، فلِمَ يَعْدِلُ عن التوسُّلِ بالرسولِ إلى العباس؟ فلما أقرُّوا عمرَ على ذلك ولم يُنكِره أحدٌ عُلِمَ أنَّ ما فَعَلَه عمرُ وأصحابُه معَه هو المشروعُ دونَ ما يُخالِفُه. وكذلك أمرَ الأعمى أن يتوسَّلَ بدعائِه وشفاعتِه، ويَدُلُّ على ذلك قولُه في آخر الحديث: "اللهمَّ فَشَفِّعْه فيَّ"، عُلِمَ أنه كان يدعو ويَشْفَع له، وأن الأعمى إنما توسَلَ بدعائِه وشفاعتِه، وإلاّ فكان يقول: "اللهم وهذا شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". والتوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه، وهو معنى التوسُّل به عندهم، كما قد بَيَّن ذلك حديثُ عمر وحديثُ الأعمى. ولكن من الناس مَن ظنَّ أن المراد بلفظ التوسُّل به هو التوسُل بذاتِه أو الإقسامُ بذاتِه، وهذا غلطٌ على الصحابة. وأما كلامُ العلماء في أن ذلك مشروعٌ أو لا؟ فقد ذكرَ السائلُ النقلَ عن أبي حنيفةَ وأبي يوسف وغيرِهما أن ذلك منهيٌّ عنه،

- نقد قول العز بن عبد السلام في استثنائه الرسول إن صح حديث الأعمى

وما ذكرَه عن أبي محمد بن عبد السلام يوافقُ ذلك. وأما استثناؤُه الرسولَ إن صحَّ حديثُ الأعمى، فهو -رحمه الله- لم يَستحضِر الحديثَ بسياقه حتى يتبيَّنَ له أنه لا يُناقِضُ ما أفتَى به، بل ظنَّ أنه يَدُلُّ على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته. والحديثُ صحيح، لكن لا يدلُّ على هذه المسألة كما تقدَّم. وأما ما نقله (1) السائلُ عن القُشَيري فأَجنبي عن هذه المسألة، لا يَدُلُّ عليها بنفيٍ ولا إثباتٍ. وقد ذكرَ المرُّوذي في مَنسَكِه عن الإمام أحمد بن حنبل أن الداعي المسلِّمَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوسَّلُ به في دعائِه. فهذا النقلُ يُجعَل معارضًا لما نُقِلَ عن أبي حنيفة وغيره. ونقل أيضًا عن عثمان بن حُنَيف أنه أمر رجلاً بعد موتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يَدعُوَ بهذا الدعاءِ، لكن لم يقل فيه: "اللهم فشفَعْه فيَّ". وقد تكلَّمتُ على إسناد ذلك، وهل هو ثابت أم لا؟ وبَسطتُ الكلام على ذلك في غير هذا الموضع (2)، وبيَّنتُ أنه [على] تقديرِ ثبوته يكون معارضا لما فَعَلَه عمرُ بمحضرٍ من المهاجرين والأنصار، وإذا كانت مسألة نزاعٍ رُدَّتْ إلى الله والرسول. وما نُقِلَ عن أحمد رضي الله عنه فإنه يُشبهُ ما نُقِلَ عنه من جوازِ الإقسامِ برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه يجب بذلك الَكفارةُ، فإن الإقسامَ به

_ (1) في الأصل: "فعله". (2) انظر مجموع الفتاوى (1/ 268 - 276).

- جمهور السلف والخلف على أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق، لا الأنبياء ولا غيرهم

في اليمين كالإقسامِ به على الله، وكالتوسُّل بذاتِه. وهذه الرواية عن أحمد لم يُوافِقْها [أحد] من الأئمة، بل جمهورُ الأئمة على الرواية الأخرى عنه، وهو أنه لا يُشرَع الحلفُ بمخلوقٍ لا النبيِّ ولا غيرِه، ولا يجب بذلك كفارة. وتلك الرواية اختارها طائفة من أصحابه ونَصَرُوها في الخلاف، كالقاضي والشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهم. ثمّ أكثر هؤلاء يقولون: هذا الحكمُ مختصٌّ به، لكون الإيمان به بخصوصه ركنًا في الإيمان، لا يتمُّ الإيمان إلاّ بالشهادتين. وذكر ابن عقيل أن حكم سائر الأنبياء كذلك في انعقاد اليمين بالحلف بهم. وأما جماهيرُ علماء المسلمين من السَّلَف والخلف فعلَى أنه لا ينعقد اليمينُ بمخلوقٍ، لا الأنبياء ولا غيرِهم، كالرواية الثانية عن أحمد. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة واختيارُ طائفةٍ من أصحاب أحمد، وهذا القول هو الصواب، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تحلفوا إلاّ بالله"، وقال: "من كان حالفًا فليحلِفْ بالله أو ليَصْمُت". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشرك". وقال ابن مسعود وابن عباس: "لأن أحلفَ كاذبًا أحبُّ إليَّ

_ (1) البخاري (3836، 6108، 6646، 6648) ومسلم (1646) عن عبد الله بن عمر. (2) أخرجه أبو داود (3251) والترمذي (1535) عن عبد الله بن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

- الحلف بغير الله من باب الشرك

[من] أن أحلفَ بغيرِه صادقًا" (1). وذلك لأن الحلفَ بغير الله شركٌ، والشركُ أعظمُ إثمًا من الكذب. وهذا يوافقُ أظهرَ قولَي العلماء أن النهيَ عن الحلف بالمخلوقات نهيُ تحريم لا نهيُ تنزيهٍ، وهذا قول أكثرِ العلماء، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وإذا كان الحلفُ بغير الله من باب الشرك، فمعلومٌ أنه لا يجوز أن يُشرَكَ به ولا يُعْدَلَ به ولا يُسَوَّى به الأنبياءُ وغيرُهم، قال تعالى: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2)، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (3). قال طائفة من السلف (4): كان قوم يدعون الملائكة والأنبياء، فأنزلَ الله هذه الآية بيَّن فيها أن الملائكة والأنبياء قد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، كما أن سائر العباد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، فلا يجوز دعاءُ الملائكةِ والأنبياءِ. وقد قال رجلٌ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما شاءَ الله وشئتَ، فقال: "أجَعَلْتَني لله نِدًّا؟ قُلْ: ما شاء الله وحدَه" (5). وقال: "لا تقولوا ما شاء الله

_ (1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف" (8/ 469) عن ابن مسعود. (2) سورة آل عمران: 80. (3) سورة الإسراء: 56 - 57. (4) انظر صحيح البخاري (4714، 4715) وتفسير الطبري (15/ 72 - 73) وابن كثير (5/ 2103). (5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (783) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"=

وشاءَ محمدٌ، بل قولوا ما شاء الله ثمَّ شاءَ محمدٌ" (1). فنهاهم [أن] يُشرِكوا به حتى في مثلِ هذه الأقوالِ. وقد أمرَ الله أن يقولَ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) (2) الآية. ولما قال الأعرابي: ومَن يَعْصهما فقد غَوى، قال: "بئسَ الخطيبُ أنتَ، قُلْ: ومن يَعْصِ الله ورسولَه" (3). مع أنه قد رُوِيَ عنه أنه قال: "ومَن يَعْصِهما" (4)، وذلك لأن هذا إذا قاله من جَعَلَ طاعةَ الرسولِ تابعةً لطاعة الله ويجعله عبدًا للهِ ورسولاً، لم يُنكَر عليه الجمعُ بينهما في الضمير، بخلافِ من قد لا يَفهم ذلك، بل يجعل الرسولَ ندًّا، كقولِ القائل: ما شاء الله وشاء محمد. وأيضًا فقد نهَى معاذًا وغيرَه عن السجودِ له، وقال: "أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ ساجدًا لقبرِي"؟ قال: لا، قال: "فإنه لا يَصلُح السجودُ إلاّ لله" (5).

_ = (988). وابن ماجه (2117) من حديث ابن عباس. وفي إسناده الأجلح الكندي مختلف فيه. والحديث صحيح لشواهده. (1) أخرجه أحمد (5/ 393) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (984) وابن ماجه (2118) من حديث حذيفة بن اليمان. وله شواهد من حديث الطفيل بن سخيرة وقتيلة بن صيفي وجابر بن سمرة. (2) سورة آل عمران: 64. (3) أخرجه مسلم (870) وأبو داود (1099، 4981) والنسائي (6/ 90) عن عدي بن حاتم. (4) أخرجه أبو داود (1097، 2119) عن ابن مسعود، وصححه النووي في شرح مسلم (6/ 160). (5) أخرجه الدارمي (1471) وأبو داود (2140) عن قيس بن سعد.

وأيضًا فقد ثبتَ في الصحيح (1) أنهم لما صَلَّوا خلفَه قيامًا وهو قاعدٌ لمرضِه قال: "لا تُعظِّموني كما تُعظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضًا". فنهاهم أن يقوموا -مع أنّ قيامَهم كان لله- لئلاّ يُشبِهوا مَن يقوم له. وقال: "اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد" (2). وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال [في] مرض موته: "لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذر ما فَعَلُوا. قالت عائشة (4): ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذَ مسجدًا. وفي السنن (5) عنه أنه قال: "لا تتخذوا بيتي عيدًا، وصَلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني". وفي الصحيح (6) عنه أنه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطْرتِ النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا [عبدٌ] فقولوا: عبد الله ورسوله". فهذه النصوص وغيرُها تُبيِّن أنه نهاهم عن الشركِ به والغُلوِّ فيه، وسَدَّ هذه الذريعةَ بنَهْيِهم أن يتخذوا قبرَه مسجدًا، وأن يقولوا

_ (1) أخرجه مسلم (413) عن جابر بمعناه. (2) أخرجه أحمد (2/ 246) والحميدي في مسنده (1025) بإسناد صحيح عن أبي هريرة. (3) البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس. (4) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529). (5) أخرجه أبو داود (2042) وأحمد (2/ 367) بسند حسن عن أبي هريرة. (6) أخرجه البخاري (3445، 6830) عن عمر بن الخطاب.

- كل ما كان من خصائص الرب فلا يجوز أن يفعل بمخلوق، لا الأنبياء ولا غيرهم

ما شاء الله وشاء محمد، وأنه دُفِنَ في بيتِه ولم يُظْهَر قبرُه خوفَ الإشراك. وإذا كان كذلك، والقسم بالمخلوقِ شرك بالمخلوق، والشرك لا يجوز به ولا بغيرِه، فلا يجوز القسمُ به، كما قال الجمهورُ، ولا تنعقدُ اليمينُ به، ولا يجبُ بذلك كفارة. وقد تنازعَ العلماءُ في الصلاة عليه عند الذبيحةِ، فكرِهَ ذلك مالك وأحمد وغيرهما، لئلاَّ يُذكرَ على الذبيحة غيرُ الله، خوفًا من الإهلال بها لغيرِ الله من أن ذلك صلاة عليه. ورخَّصَ في ذلك الشافعي وأبو إسحاق ابن شاقلا من أصحاب أحمد، قالوا: لأن الصلاة عليه من باب الإيمان، وهذا بخلافِ الإقسَامِ به، فإنَ الإقسامَ بسائرِ المخلوقات شرك به، والشرك به لا يجوز بحال. وكلُّ ما كان من خصائص الربِّ: كالعبادة لله، والنذر لله، والصدقة لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والخشية لله، والرغبة إلى الله، والاستعانة به، وغير ذلك مما هو من خصائص الربِّ= فإنه لا يجوز أن يُفعَل بمخلوق، لا الأنبياءِ ولا غيرِهم، ولا يُستثنَى من ذلك أحد. وإذا كان الإقسامُ به منهيًّا عنه لا يَنعقِدُ به اليمينُ ولا يجبُ به الكفّارة، فالاقسام به على الله أولى أن يكون منهيًّا عنه، وكذلك الإقسامُ بسائرِ المخلوقات على الله. وكذلك التوسُّلُ بذواب الملائكة والأنبياء والصالحين أيضًا كذلك، فإن أعظم الوسائل للخلقِ إلى الله هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعظم وسائل الخلقِ إلى الله التوسّل بإيمانٍ به: بتصديقِه فيما أخبرَ،

- التوسل إلى الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقه وطاعته

وطاعتِه فيما أوجبَ وأمرَ، وموالاةِ أوليائِه ومعاداةِ أعدائه، وتحليلِ ما حَلَّل، وتحريمِ ما حرَّم، وإرضائِه ومحبتِه، وتقديمِه في ذلك على الأهلِ والمال. فهذه الوسيلة التي أمرَنا الله بها في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (1). فالوسيلة ما يتوسَّلُ به، [و] هو ما يتوصَّل [به]، والتوسل والتوصل إلى الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقِه وطاعتِه، لا وسيلةَ للخلقِ إلى الله إلاّ هذه الوسيلة. ثمّ من آمن بالرسول إذا دَعا له الرسولُ وشفعَ فيه، كان دعاءُ الرسولِ وشفاعتُه مما يتَوسَّلُ به. فهذا هو التوسُّلُ بالرسول. فأمّا إذا قُدِّر أن الرجلَ لم يُطِعْه، وهو لم يَدْعُ للإنسانِ، فنفسُ ذاتِ الرسول لا يَنفعُ الإنسانَ شيئًا، بل هو أعظمُ الخلقِ عند الله قَدْرًا وجاهًا، وذلك فضلُ الله عليه وإحسانُه إليه، وإنما يَنتفِعُ العِبادُ من ذلك بما يقومُ بهم من الإيمان به، أو ما يقومُ به من الدعاءِ لهم. فأما إذا قام بهم دعاؤُه والإقسامُ به فهذا لا يَنفعُهم. والدعاء من أفضل العبادات، ولم يَنقُل أحدٌ عنه أنه شَرَع لأمتِه الإقسامَ بأحدٍ من الأنبياء والصالحين على الله، فمن جَعَلَ ذلك مشروعًا -واجبًا أو مستحبًّا- فقد قَفَا ما لا عِلْمَ له به، وقال قولاً بلا حجةٍ، وشرع دينًا لم يأذَنْ به الله. وإذا لم يكن ذلك واجبًا ولا مستحبًّا كان من فَعَلَه معتقدًا أنه واجبٌ أو مستحب مُخطِئًا في ذلك، وإذا كان مجتهدًا [أو] مقلِّدًا

_ (1) سورة المائدة: 35.

- شأن أهل البدع أنهم يبتدعون بدعة ويوالون عليه ويعادون

فله حُكْمُ أمثالِه من المجتهدين والمقلدين يُعفَى عنِ خَطَئِه. فأما إذا أنكرَ على غيره بلا علم، ورَدَّ الأقوالَ بلا حجةٍ، وذمَّ غيرَه ممن هو مجتهد أو مقلد، فهو مستحق للتعزير والزجر، وإن كان المنازع له مخطئًا، فإن المجتهدَ المخطئَ غَفَر الله له خَطأَه، فكيف إذا كان المنازعُ له المصيبَ وهو المخطئُ؟! ولكنّ شأنَ أهل البدع أنهم يبتدعون بدعةً، ويُوالونَ عليها ويُعادُون، ويَذُمُّون بل يُفسِّقون بل يُكفرون من خالفهم، كما يَفعلُ الخوارجُ والرافضةُ والجهميةُ وأمثالُهم. وأما أهل العلم والسنة فيتبعون الحقَّ الذي جاءَ به الكتابُ والسنة، ويَعذُرونَ مَن خالفَهم إذا كان مجتهدًا مخطئًا أو مقلدًا له، فإنَّ الله سبحانَه وتعالى تجاوَز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال في دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1). وقد ثبتَ في الصحيح (2) أن الله استجابَ هذا الدعاء، وقال: قد فَعلتُ. والكلامُ على هذه المسائل قد بُسِطَ في مواضعَ غيرِ هذا، وصنّفت فيه مصنفات، وللعلماء في ذلك وما يتعلقُ به من الكلام ما لا يَتَّسِعُ له هذا الموضع. والله أعلم. (آخره. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلَّم تسليمًا).

_ (1) سورة البقرة: 286. (2) أخرجه مسلم (125) عن أبي هريرة، و (126) عن ابن عباس.

(3) الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله)

الفُتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله)

- من قال: "إن القرآن عبارة عن كلام الله"، وقع في محذورات

(قال في فُتيا له تُسمى "بالأزهرية":) ومن قال: إنّ القرآن عبارة عن كلام الله تعالى، وقعَ في محذوراتٍ: أحدها: قولهم "إنّ هذا ليسَ هو كلامَ الله"، فإنَّ نَفْيَ هذا الإطلاقِ خلافُ ما عُلِمَ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ، وخلافُ ما دلَّ عليه الشرعُ والعقلُ. والثاني: قولهم "عبارة" إن أرادوا أنَّ هذا الثاني هو الذي عَبَّرَ عن كلامِ الله تعالى القائمِ بنفسِه، لَزِمَ أن يكونَ كلُّ تالٍ مُعبِّرًا عمّا في نفسِ الله تعالى. والمعبِّرُ عن غيرِه هو المُنشِئُ للعبارةِ، فيكونُ كلُّ قارئٍ هو المُنْشِئ لعبارةِ القرآن. وهذا معلومُ الفسادِ بالضرورة. وإن أرادوا أنَّ القرآنَ العربيَّ عبارة عن معانيه، فهذا حق، إذْ كلُّ كلامٍ فلفظُه عبارة عن معناه، لكنَّ هذا لا يَمنع أن يكون الكلامُ متناوِلاً للفظ والمعنى. الثالث: أنَّ الكلام قد قيل: إنّه حقيقةٌ في اللفظِ مجازٌ في المعنى، وقيل: حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وقيل: بل حقيقة في كلٍّ منهما. والصوابُ الذي عليه السلفُ والأئمةُ أنه حقيقةٌ في مجموعهما. كما أنَّ الإنسانَ قيل: هو حقيقةٌ في البدنِ فقط، وقيل: بل في الروحِ فقط. والصوابُ أنه حقيقة في المجموع. فالنزاعُ في الناطق كالنزاع في مَنْطِقِه.

- بيان خطئهم في قولهم "هو العبارة عن المعنى القائم بالذات" من وجهين

وإذا كان كذلك فالمتكلِّمُ إذا تكلَّم بكلامٍ له لفظ ومعنى، وبُلِّغَ عنه بلفظِه ومعناه، فإذا قيل: مَا بلَّغَه المبلِّغُ من اللفظ إنّ هذا عبارة عن القرآن، وأرادَ به المعنى الذي للمبلَّغِ عنه= نَفَى عنه اللفظَ الذي للمبلَّغ عنه، والمعنى الذي قام بالمبلِّغ. فمن لم يثبتْ إلاّ القرآن المسموعَ الذي هو عبارة عن المعنى القائمِ بالذات، َ قيل له: فهذا الكلامُ المنظومُ الذي كانَ موجودًا قبلَ قراءةِ القُرَّاءِ هو موجود قطعًا وثابت، فهل هو داخلٌ في العبارةِ والمعبرِ عنه أو غيرُهما؟ فإن جَعلتَه غيرَهما بَطَلَ اقتصارُك على العبارة والمعبرِ عنه، وإن جعلتَه أحدَهما لَزِمَك إن لم تُثْبتْ إلاّ هذه العبارةَ والمعنى القائمَ بالذاتِ أن تجعلَه نفسَ ما سُمِعَ منَ القرّاء، فتَجعلَ عينَ ما بلغَه المبلِّغون هو عين ما سمعوه، وهذا الذي فررتَ منه. وأيضًا فيقالُ له: القارئ المبلِّغُ إذا قَرأ فلابُدَّ له فيما يقوم به من لفظٍ ومعنى، وإلاّ كان اللفظُ الذي قام به عبارةً عن القرآن، فيجبُ أن يكون عبارةً عن المعنى الذي قامَ به، لا عن معنًى قامَ بغيرِه. فقولهم "هذا هو العبارةُ عن المعنى القائم بالذات" أخطأوا من وجهين: أخطأوا في بيان مذهبِهم، فإنَّ حقيقةَ قولهم: أنَّ اللفظَ المسموعَ من القارئ حكايةُ اللفظِ الذي عَبَّر به عن معنى القرآن مطلقًا، وذلك أنَّ اللفظ عبارةٌ عن المعنى القائم بالذات، ولفظُه ومعناه حكايةٌ عن ذلك اللفظ والمعنى.

- أول من قال هذا في الإسلام: ابن كلاب

ثمَّ إذا عُرِفَ مذهبُهم بَقِيَ خَطَؤُهم في أصولٍ: منها: زَعْمُهم أنَّ معاني القرآنِ معنىً واحد هو الأمرُ والنهيُ والخبرُ، وأنَّ معنى التوراةِ والإنجيل والقرآنِ معنى واحدٌ، ومعنى آية الكرسي معنى آيةِ الدَّين. وفسادُ هذا معلومٌ بالضرورة. ومنها: زَعْمُهم أنَّ القرآنَ العربيَّ لم يتكلَّم الله به. (وأطالَ في ذلك وبَرهنَ عليه بما يَطولُ هنا ذِكْرُه، وقال بعد ذلك:) وأوَّلُ من قال هذا في الإسلام عبدُ الله بن سعيد بن كُلاَّب، وجَعَلَ القرآنَ المنزَّلَ حكايةً عن ذلك المعنى. فلما جاءَ الأشعريُّ واتبعَ ابنَ كُلاَّب في أكثرِ مقالتِه ناقشه على قوله: "إنّ هذا حكايةٌ عن ذلك"، وقالً: الحكايةُ تُماثِلُ المحكيَّ. فهذا اللفظُ يَصِحُّ من المعتزلةِ، لأنَّ ذلك المخلوقَ حروفٌ وأصواتٌ عندهم وحكايةٌ مثله، وأما على أصلِ ابن كُلاَّبٍ فلا يَصِحُّ أن يكون حكايةً. بل نقولُ: "إنّه عبارةٌ عن المعنى". فأوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ. وكان البلاقلاَّني -فيما ذُكِرَ عنه- إذا دَرَّسَ مسألةَ القرآن يقولُ: هذا قولُ الأشعري ولم يَتبيَّنْ صحتَه، أو كلامًا هذا معناه. وكان الشيخ أبو حامدٍ الإسفراييني يقول: مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري، وقولُهم هو قولُ الإمام أحمد (1).

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (12/ 160 - 161).

- من قال: "إن القرآن حكاية كلام الله" فقد غلط وضل

وكذلك أبو محمد الجويني ذكرَ أنَّ الأشعريَّ خالفَ في مسألةِ الكلامِ قولَ الشافعيِّ وغيرِه، وأنه أخطأ في ذلك. وكذلك سائرُ أئمةِ أصحابِ مالكٍ والشافعيّ وغيرِهما يَذكرون قولَهم في حَدِّ الكلام وأنواعِه من الأمر والنهي والخبر العامّ والخاصّ وغير ذلك، ويجعلونَ الخلافَ في ذلك مع الأشعري، كما هو مبيَّنٌ في أصول الفقه التي صنفها أئمةُ أصحابِ أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم. (ثم قال بعدَ ذلك:) ومن قالَ من المعتزلةِ والكُلاَّبيَّة: إنّ القرآنَ المنزَّلَ حكايةُ ذلك، وظَنّوا أنَّ المبلِّغ حاكٍ لذلك الكلامِ، ولفظُ الحكايةِ قد يُرادُ به مُحاكاةُ الناسِ فيما يقولونه ويفعلونَه اقتداءً بهم وموافقةً لهم؛= فمن قال: إنَّ القرآن حكايةُ كلامِ الله تعالى بهذا المعنى، فقد غَلِطَ وضَلَّ ضلالاً مُبينًا، فإنّ القرآنَ لا يَقدِرُ الناسُ على أن يأتوا بمثلِه، ولا يَقدِر أحد أَن يأتي بما يَحكِيْه. وقد يُراد بلفظ "الحكاية" النقلُ والتبليغ، كما يقال: "فلان حكَى عن فلانٍ أنه قال كذا"، كما يقال عنه: "نقلَ عنه". فهذا بمعنى التبليغ للمعنى. وقد يقال: "حُكِيَ عن فلان أنه قالَ كذا وكذا"، لِما قالَه بلفظِه ومعناه، فالحكايةُ هنا بمعنى التبليغ للفظ والمعنى، لكن يُفَرَّق بينَ أن يقول: حَكيتُ كلامَه على وجهِ المماثلةِ له، وبينَ أن يقول: حكيتُ عنه كلامَه، وبَلَّغتُ عنه أنه قال مثلَ قوله من غيرِ تبليغ عنه، وقد يُرادُ به المعنى الآخر، وهو أنه بَلَّغَ عنه ما قالَه. فإن أُرِيدَ المعنى الأولُ جازَ أن يُقالَ: هذا حَكايةُ كلامِ فلانٍ،

وهذا مِثلُ كلامِ فلانٍ، وليسَ هو مبلِّغًا عنه كلامَه. وإن أُريدَ به المعنى الثاني -وهو ما إذا حكى الإنسانُ عن غيرِه ما يقولُه وبلَّغَه عنه- فهنا يُقال: هذا كلامُ فلانٍ، ولا يُقال: هذا حكايةُ كلامِ فلانٍ. كما لا يُقال: هذا مثلُ كلام فلان. بل قد يُقال: هذا كلامُ فلان بعينه، بمعنى أنه لم يُغيِّرْه ولَم يُحرِّفْ، ولم يَزِدْ ولم يَنقُص.

(4) فتوى في الخضر

فتوى في الخضر

- ليس في حياة الخضر خبر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة

بسم الله الرحمن الرحيم (قال بعد حكاية القول بحياة الخضر واحتجاج القائلين به ما نصه:) وقالت طائفةٌ: هو ميت، فإنَّ حياتَه ليس فيها دليلٌ يَصلُح مثلُه للخروج عن العادة المعروفةِ في بني آدم، وذلك بأنَّ حياتَه ليس فيها خبرٌ صحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أصحابه. والحديث المذكور في مسند الشافعي (1) مرسل ضعيف. والحديث الذي يُروَى في اجتماع الخضر وإلياس كلَّ عامٍ بالموسم وافتراقِهما على تلك الكلمات (2) هو أضعفُ من ذلك الحديث، والكلماتُ كلماتٌ حسنةٌ، لكنَّ الخبرَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باجتماعِهما كلَّ عامٍ وافتراقِهما على هؤلاء الكلمات خبرٌ ضعيف. وإذا لم يكن فيه خبرٌ صحيح عمن عَلَّم أمَّتَه كلَّ شيء،

_ (1) انظر ترتيبه لمحمد عابد السندي (1/ 216). ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (7/ 268) عن علي بن الحسين مرسلاً. وفي إسناده شيخ الشافعي القاسم العمري متروك. وروي من وجه آخر ضعيف، ولا يصحّ. انظر "البداية والنهاية" (2/ 258). (2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 426 - 427) وابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 195) عن ابن عباس. قال الدارقطني في "الأفراد": هذا حديث غريب من حديث ابن جريح، لم يحدّث به غير هذا الشيخ عنه. يعني الحسن بن رزين. وقال ابن المنادي: هو حديث واهٍ. انظر "البداية والنهاية" (2/ 261).

- لو كان حيا لكان اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به وجاهد معه

وقال أبو ذر (1): لقد توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما طائرٌ يُقلِّب جَناحَيْه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا، ونحو ذلك، مع أنه أخبرَهم بقصته مع موسى وتفصيلِ ما جَرى له معه، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وَدِدْتُ أنَّ موسى صَبَرَ حتى يُقَصَّ علينا من خبرِهما" (2). فلو كان حيًّا كانت حياتهُ أعجبَ من ذلك كلِّه، فكيف لا يُخبِر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أم كيف يُخبِرُ به فلا يُبلغُه أصحابُه ولا كانَ هذا معروفًا عندهم؟ وأيضًا فلو كان حيًّا لكان يجتمع بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد اجتمعَ به ليلةَ المعراجِ من ماتَ قبلَه، فكيفَ لا يَجتمعُ به مَن هو حَيّ في وقتِه؟ وأيضًا كان يجب عليه الإيمانُ به والمجاهدةُ معه، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) (3) الآية. قال ابن عباس (4): ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه الميثاقَ لئن بُعِثَ محمد وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به ولينصُرَنَّه، وأمرَه أن يأخذ الميثاقَ على أمتِه لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصُرُنَّه. والخضر إما نبيٌّ أو من أتباع الأنبياءِ، وعلى التقديرين فعليه أن يُؤمنَ بمحمدٍ ويَنصُرَه، ومعلوم أن ذلك لو وقعَ لكان مما تَتوفَّر الدَّواعي والهِمَمُ على نقلِه، فقد نَقَلَ الناسُ مَن آمنَ بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأحبارِ

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 153، 162) عنه. (2) أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب. (3) سورة آل عمران: 81. (4) انظر تفسير ابن كثير (2/ 728).

- لو وقع اجتماعه به لتوفرت الدواعي والهمم على نقله

والرُّهبان، فكيف لا يُنقَل إيمانُ الخضرِ وجهادُه معه لو كان قد وقعَ؟ وقولُ من قال: "الخضر كان حيًّا في حياته" بمنزلةِ قولِ من يقولُ: "يُوشَع بن نُون كان حيًّا أو بعضُ أنبياءِ بني إسرائيل كإلياسَ"، وهذا باطلٌ لمقدمتين: إحداهما: لو كانَ حيًّا لوجبَ عليه أن يُؤمنَ به ويُهاجِرَ إليه ويُجاهِدَ معه. والثانية: أنَّ ذلك لو وقعَ لتوفَّرتِ الدواعيْ والهِمَمُ على نقلِه. وإذا كانَ هارونُ ونحوُه تبعًا لموسى، وكان أنبياءُ بني إسرائيلَ تبعًا لموسى، فكيفَ لا يكون الخضرُ ونحوُه إنْ قُدِّرَ نبوتُه تبعًا لمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي ما خَلَقَ الله خلقًا أكرمَ عليه منه، وما تَلَقَّوه عن الله بواسطةِ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضلُ مما تَلَقَّوه بغيرِ واسطةِ موسى. وأيضًا فإنَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرَ بنزولِ المسيح ابنِ مريمَ آخرَ الزمانِ، وذكرَ أنه يَحكُمُ فينا بكتاب الله وسنة رسوله (1)، والمسيحُ أفضلُ من الخضرِ، فلو كان الخضرُ حَيًّا لكان يكونُ مع محمدٍ ومع المسيحِ ابنِ مريمَ. وقول بعضِ الناس (2): "إن الرجلَ الذي يقتلُه الدَّجَّالُ هو الخضرُ" لا أصلَ له.

_ (1) أحاديث نزول المسيح متواترة، وقد جمعها السيوطي وغيره. (2) قال معمر: بلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه. انظر مصنف عبد الرزاق (20824). وقال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان راوِي صحيح مسلم: يقال إن هذا الرجل هو الخضر. انظر صحيح مسلم (2938). وليس في مثل هذا البلاغ حجة، ولا مستندَ لهذا القول.

- ليس في العلم بحياة الخضر بتقدير صحتها منفعة للمسلمين

(ثم قال:) وعدمُ إيمانه بموسى إنما كان لأنَّ موسى لم يُبعَثْ إليه، كما في الحديث الصحيح (1): إنَّ موسى لمّا سلَّم عليه قال له: وأنَّى بأرضِك السلامُ؟ فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيلَ؟ قال: نعم. وقال في أثنائِه: يا موسى إني على علمٍ علَّمنِيْه الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علم من علمِ الله عَلَّمَكَه الله لا أَعْلَمه. وأما محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعوتُه عامةٌ لجميع الخلقِ أَسْودِهم وأَحْمرِهم، فلا يُمكِنُ الخضرَ وغيرَه أن يُعامِلَ محمَدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويُخاطِبَه كما عاملَ موسى وخاطبَه، بل على كلِّ من أدركَ مبعثَه أن يُؤمِنَ به ويُجاهِدَ معَه، ولا يَستغنِيَ بما عنده عما عنده. وكلُّ مَن جَوَّزَ لأحد ممن أدركَتْه دعوةُ الرسولِ أن يكونَ مع محمدٍ كما كان الخضرُ مع موسى= فهو ضَالّ ضلاَلاً مُبِيْنًا، بل هو كافرٌ يُستَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ. ولهذا لم يكن في العلم بحياةِ الخضرِ بتقديرِ صحتِها ولا في وجودِه حيًّا مَنفعة للمسلمين، ولا فائدة لهم في ذلك، فإنه في المسند والنسائي عن جابرٍ (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى بيدِ عمر بن الخطاب ورقةً من التوراةِ، فقال: "أَمُتَهَوكَونَ يا ابنَ الخطّاب؟ لقد جِئتكُم بها بَيضاءَ نقيَّة، لو كان موسى حيًّا لَما وَسِعَه إلاّ اتباعِيْ". فإذا كانَ هذا حالَ الأمةِ مع موسى فكيفَ مع الخضرِ وأمثالِه؟

_ (1) أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب. (2) أخرجه أحمد (3/ 387) والدارمي (441). وفي إسناده مجالد ضعيف. ومع ذلك صححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/ 458). وقد حسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1589) لشواهده.

والمسيحُ إذا نَزلَ إنّما يَحكُم في الأمَّةِ بكتابِ ربِّها وسنَّةِ نبيها. فليستْ هذه الأمة محتاجةً في شيء من دِينها إلى غيرِ كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى شيء آخر، ولا إلى غيرِ نبيٍّ لا خَضِرٍ ولاَ غيرِه، فإن الذي يَجيْئُهم إن جاءَهم بما عُلِمَ في الكتاب والسنَّةِ لم يُحْتَجْ إليه فيه، وإَن جاءَهم بخلافِ ذلك كانَ مردودًا علَيه. ولهذا كان أكثرُ من يتكلم في هذه الأشياءِ أهلُ الضَّلالِ والحيرةِ والتهوُّكِ الذين لم يَستبينُوا طريقَ الهدى من كتاب الله وسنَّةِ رسوله، بل يتعلقون بالمجهولاتِ ويرجِعون إلى الضلالاتِ. ونجدُ كثيرًا منهم يَعنُون بالخضر الغوثَ. (ثم أطالَ الكلامَ في تقريرِ ذلك).

(5) سؤال في يزيد بن معاوية

سؤال في يزيد بن معاوية

- هل كان صحابيا؟ وهل في الصحابة من اسمه يزيد؟

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في يزيد بن معاوية هل كان صحابيًّا؟ وما حكمُ مَنْ يعتقدُ أنه [كان] صحابيًا أو أنه كان نبيًّا؟ وهل في الصحابة مَنْ اسمه يزيد؟ فأجاب رضي الله عنه فقال: الحمدُ لله رب العالمين. يزيدُ بن معاوية بن أبي سُفيان الذي تولَّى على المسلمين بعد أبيه معاوية بن أبي سفيان لم يكن من الصحابة، ولكن عمه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة. فإن أبا سفيان بن حرب كان له عدّة أولاد: منهم يزيد بن أبي سفيان، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، ومنهم أمُّ حبيبة أمُّ المؤمنين، تزوَّجها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت قد آمنت قبل أبيها وأخويها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ثم حَلَّتْ من زوجها، فخطبها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وزوَّجَها ابن عمها خالدُ بن سعيد (1). وأصدقَ النجاشيُّ صَداقَها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2).

_ (1) انظر طبقات ابن سعد (8/ 99). (2) أخرجه أحمد (6/ 437) وأبو داود (2107) والنسائي (6/ 119) عن أم حبيبة.

وزوجة أبي سفيان هندُ بنت عتبة بن ربيعة. فلما كان عامُ فَتْحِ مكة أسلم أبو سفيان وامرأتُه وأولاده، وأسلم سائرُ رؤساء قريش مثل سُهَيْل بن عمرو، والحارث بن هشام أخي أبي جهل بن هشام، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عمّ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير هؤلاء، وأسلم أيضًا عِكْرِمَةُ بن أبي جهل، وصَفْوان بن أمية، وغيرُهما. وهؤلاء كانوا سادات قريش وأكابرَهم بعد الذين قُتلوا منهم ببدْر، وكانوا قبل ذلك كُفَّارًا مُحاربين لله ورسوله، قد قاتلوه يوم أحُد ويوم الأحزاب، ثم لما فتح النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة مَنَّ عليهم وأطلقهم فسُمّوا الطلَقَاء. وكان قد أخذ بعضادتَي البيت فقال (1): ماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نقولُ: أخٌ كريم وابنُ عم كريم، قال: إني قائل لكم ما قال يوسف لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)) (2). وكان إسلامُ أبي سفيان قبل دخول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة بمرّ الظهران. وهرب منه عكرمة ثم رجع فأسلم. وصفوان وغيره شهدوا حُنينًا وهم كُفّار، ثم أسلموا بعد ذلك.

_ (1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 143) بإسناد حسن، ولكنه مرسل. وانظر طبقات ابن سعد (2/ 141 - 142). (2) سورة يوسف: 92.

- جعل أبو بكر يزيد بن أبي سفيان أميرا للجيش ووصاه بوصية معروفة

وعامةُ هؤلاء الذين أسلموا عام الفتح حَسُنَ إسلامُهم، مثل سُهَيْل بن عمرو، ومثلُ عِكْرِمَة بن أبي جهل، ومثل يزيد بن أبي سفيان، ومثل الحارث بن هشام، ومثل أبي سفيان بن الحارث. فإنّ هؤلاء صاروا من خيار المسلمين. فلما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستُخْلِفَ أبو بكر وقام بجهاد المرتدِّين والكافرين أمَّر الأمراءَ لقتال النصارى بالشام وفَتْحِ الشام. فكان ممن أمَّره يزيدُ بن أبي سفيان أخو معاوية وعمُّ يزيد الذي تولّى الملك. وأمر خالدَ بن الوليد، وأمَّر عمرو بن العاص، وأمَّر شرحبيل بن حَسَنَة، وهؤلاء كلُّهم من الصحابة. ومشى أبو بكر الصديق في ركاب يزيد بن أبي سفيان ووصاه بوصية معروفة عند العلماء ذكرها مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيرهم، واعتمد عليها العلماء في الجهاد. ففي "الموطأ" (1) عن يحيى بن سعيد أنّ أبا بكر الصدّيق بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج معه يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع. فزعموا أنَّ يزيد قال لأبي بكر: إمَّا أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله. ثم قال: إنك ستجد قوما حَبَّسوا أنفسهم لله، فَذَرْهُمْ وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له. وستجد قومًا فَحَصُوا عن أوساط

_ (1) 2/ 447 - 448.

- ثم كان من نواب عمر بن الخطاب على الشام

رؤوسهم، فاضربْ ما فحصوا عنه بالسيف. وإنِّي موصيك بعشرٍ: لا تقتلنّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تَقطعنَّ شجرًا مثمرًا، ولا تخربنّ عامرًا، ولا تعقرنّ شاةً ولا بعيرًا إلاَّ لمأكلة، ولا تحرقنّ نخلاً ولا تُفَرِّقنه، ولا تَجْبُنْ ولا تغلُلْ. وذكر وصية أخرى. ويزيد هذا الذي أمَّرهُ الصدّيقُ وكان من الصحابة هو عند المسلمين من خيار المسلمين، وهو رجلٌ صالح، وهو عند المسلمين خَيْر من أبيه أبي سفيان ومن أخيه معاوية. فلما فتح المسلمون بلاد الشام في خلافة أبي بكر وعمر وتُوفي أبو بكر واستُخلِفَ عمر، كان أبو عبيدة بن الجراح ويزيدُ بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيلُ بن حَسَنَة نُوّابًا لعمر بن الخطاب على الشام. وكان الشامُ أربعةَ أرباع: الربعُ الواحد: ربعُ فلسطين، وهو بيتُ المقدس إلى نهر الأردُنّ الذي يقال له الشريعة. والربعُ الثاني: ربع الأردُنّ وهو من الشريعة إلى نواحي عجْلون إلى أعمال دمشق. والربع الثالث: دمشق. والربع الرابع: حمص. وكانت سِيْسُ وأرضُ الشمال من أعمال حمص.

- توفي يزيد بن أبي سفيان في أثناء خلافة عمر

ثم إنه في زمن معاوية أو يزيد جُعل الشام خمسة أجناد، وجُعلت قِنِّسْرين والعواصمُ أحدَ الأخماس. وكان المسلمون قد فتحوا الشام جميعها إلى سيْس وغيرها، وفتحوا قبرص. كان معاويةُ قد فتحها في خلافة عثمان بن عفّان. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر بغزوات البحر، وأخبر أمّ حَرَام بنت ملحان أنها تكون فيهم (1)، فكان كما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فلما كان في أثناء خلافة عمر بن الخطاب مات في خلافته أبو عُبيدة بن الجرّاح، ومات أيضًا يزيد بن أبي سفيان. ولما كان المسلمون يُقاتلون الكفّار، ويزيد بن أبي سفيان أحدُ الأمراء، كان أبوه أبو سفيان وأخوه معاوية يُقاتلان معه تحت رايته، وأُصيب يومئذ أبو سفيان، أُصيبتْ عينُه في القتال. فلما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، ولى عمر مكانه على أحد أرباع الشام أخاه معاوية بن أبي سفيان. وبقي معاوية أميرًا على ذلك، وكان حليمًا كريمًا، إلى أن قُتِلَ عمر. ثم أقرّه عثمانُ على إمارته، وضم إليه سائرَ الشامِ، فصار نائبًا على الشام كُلّه. وفي خلافة عثمان وُلد لمعاوية ولدٌ سمّاه يزيد باسم أخيه يزيد.

_ (1) أخرجه البخاري (2788، 2789 ومواضع أخرى) ومسلم (1912) عن أنس ابن مالك.

- ليس هو من الصحابة ولا من الخلفاء الراشدين

وهذا يزيد الذي وُلد في خلافة عثمان هو الذي تولّى الملك بعد أبيه معاوية، وهو الذي قُتِل الحسينُ في خلافته، وهو الذي جرى بينه وبين أهل الحرّة ما جرىَ. وليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين المهديين، بل هو خليفةٌ من الخلفاء الذين تولَّوا بعد الخلفاء الراشدين، كأمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس. وهؤلاء الخلفاء لم يكنْ فيهم مَنْ هو كافر، بل كلهم كانوا مسلمين، ولكن لهم حَسَنات وسَيئات، كما لأكثر المسلمين، وفيهم مَنْ هو خير وأحسنُ سيرةً من غيره، كما كان سليمانُ بن عبد الملك الذي وَلّى عمر بن عبد العزيز الخلافة من بني أمية، والمهديُّ والمُهْتَدي، وغيرُهما من خلفاء بني العباس، وفيهم مَنْ كان أعظم تأييدًا وسلطانًا، وأقهرَ لأعدائه من غيره، كما كان عبدُ الملك والمنصورُ. وأما عمرُ بن عبد العزيز فهو أفضل من هؤلاء كلهم عند المسلمين، حتى كان غيرُ واحد من العلماء كسُفيان الثَّورِيّ وغيره يقولون: الخلفاءُ خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمرُ ابن عبد العزيز. وإذا قيل: "سيرة العمرين" فقد قال أحمد بن حنبل وغيرُه: العُمران عمرُ بن الخطاب وعمرُ بن عبد العزيز. وأنكر أحمد على من قال: العمران أبو بكر وعمر. وكان عمر بن عبد العزيز قد أحيا السُنَّة، وأمات البدعة، ونشر العدل، وقَمَعَ الظَّلَمَة مِنْ أهل بيته وغيرهم، وردَّ المظالم التي كان الحجاجُ بن يوسف وغيرُه ظلموها للمسلمين، وقمع أهلَ البدع - كالذين كانوا يسبّون عليًّا، وكالخوارج الذي كانوا يكفّرون عليا

- غيره من الخلفاء لم يبلغوا في العلم والدين والعدل مبلغه

وعثمان ومَن والاهما، وكالقدرية مثل غيلان القَدَريّ وغيره، وكالشيعة الذين كانوا يثيرون الفتن- بعلمه ودينه وعدله. وأما غيره من الخلفاء فلم يبلغوا في العلم والدين والعدل مبلغه، ولكن كانوا مسلمين باطنًا وظاهرًا، لم يكونوا معروفين بكفرٍ ولا نِفاقٍ، وكان لهم حسناتُ كما لهم سيئات. وكثير منهم أو أكثرُهم له حسناتٌ يرحمُه الله بها، وتترجح على سيئاته، ومقاديرُ ذلك على التحقيق لا يعلمه إلاّ الله. ويزيدُ هذا الذي ولي الملك هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية. وقد روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أول جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ له". ومَن قال إنَّ يزيد هذا كان من الصحابة فهو كاذب مُفْتَرٍ، يُعَرَّفُ أنه لم يكن من الصحابة، فإن أصرَّ على ذلك عوقب عقوبةً تردعُه. وأما من قال إنه كان من الأنبياء فإنه كافر مرتدٌّ يُستتاب، فإن تابَ وإلا قُتل. ومَن جعله من الخلفاء الراشدين المهديين فهو أيضًا ضالٌّ مُبْتَدِعٌ كاذب. ومَن قال أيضًا إنه كان كافرًا، أو إنَ أباه معاوية كان كافرًا،

_ (1) برقم (2924) عن أم حَرام بنت ملحان لا ابن عمر.

- ديوان الشعر الذي يعزى إليه عامته كذب

وإنه قتل الحسينَ تشفّيًا وأخذًا بثأر أقاربه من الكفار فهو أيضًا كاذبٌ مفترٍ، ومَن قال إنه تمثل لما أُتي برأس الحسين: لمّا بدتْ تلك الحمولُ وأَشْرَفَتْ ... تلكَ الرؤوسُ على رُبى جَيْرونِ نَعَقَ الغُرابُ فقلتُ نُحْ أو لا تَنُح ... فَلَقَدْ قضيْتُ مِنَ النَّبيّ دُيوني (1) أو "من الحسين ديوني". والديوان الشعري الذي يُعزى إليه عامته كذب، وأعداءُ الإسلام كاليهود وغيرهم يكتبونه للقدح في الإسلام، ويذكرون فيه ما هو كذب ظاهر، كقولهم إنه أنشد (2): ليْتَ أَشْياخي ببَدْرٍ شَهِدُوا … جَزَعَ الخزْرجَ مِنْ وَقْعِ الأسَلْ قَدْ قَتَلْنا الكَبْشَ مِنْ أَقْرَانِهم … وَعَدلْناهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ وأنه تمثل بهذا ليالي الحرّة فهذا كذب. وهذا الشعر لعبد الله بن الزّبَعْرَى أنشده عام أُحُدٍ لما قتل المشركون حمزة، وكان كافرًا ثم أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامُه، وقال أبياتًا يذكر فيها إسلامه وتوبته.

_ (1) الشعر ليزيد في "تذكرة الخواص" لسبط ابن الجوزي (ص 261) والمصادر الشيعية، ولا شك أنه كذبٌ عليه. (2) ذكر ذلك محمد بن حميد الرازي وهو شيعي، ونقله عنه ابن الجوزي في "المنتظم" (5/ 343) وابن كثير في "البداية والنهاية" (11/ 558). والبيتان من قصيدة لعبد الله بن الزبعري في سيرة ابن هشام (2/ 136 - 137).

- لا يجوز الغلو في يزيد ولا غيره، بل يجب أن يتكلم بعلم وعدل

فلا يجوز أن يُغْلَى لا في يزيد ولا غيره، بل لا يجوز أن يتكلم في أحدٍ إلا بعلم وعدل. ومن قال: إنه إمام ابنُ إمام، فإن أراد بذلك أنه تولّى الخلافة كما تولاها سائر خلفاء بني أمية والعباس فهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يوجب مدحَه وتعظيمَه، والثناء عليه وتقديمه، فليس كلُّ مَن تولّى أنه كان من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، فمجرّدُ الولاية على الناس لا يُمدحُ بها الإنسانُ ولا يستحقُّ على ذلك الثواب، وإنما يُمدحُ ويثابُ على ما يفعلُه من العدل والصدق، والأمرِ بالمعروف والنهْي عن المنكر، والجهاد وإقامة الحدودِ، كما يُذمُّ ويُعاقَبُ على ما يفعلُه من الظلم والكذب والأمرِ بالمنكر والنهْي عن المعروف وتعطيلِ الحدودِ، وتضييع الحقَوق، وتعطيلِ الجهاد. وقد سُئل أحمد بن حنبل، عن يزيد أيُكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، أليس هو الذي فعل بأهل الحرَّة ما فعل؟ وقال له ابنه: إنَّ قومًا يقولون إنا نحب يزيد. فقال: هل يحبّ يزيد أحد فيه خير؟ فقال له: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟ ومع هذا فيزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولا حُمِلَ رأسه إلى بين يديه، ولا نكتَ بالقضيب على ثناياه، بل الذي جرى هذا منه هو عبيدُ الله بن زياد، كما ثبت ذلك في "صحيح البخاري" (1)، ولا طِيْفَ برأسه

_ (1) برقم (3748) عن أنس.

- كان بالعراق طائفتان: النواصب (منهم الحجاج بن يوسف)، والشيعة (منهم المختار بن أبي عبيد)

في الدنيا، ولا سُبي أحد من أهل الحسين، بل الشيعة كتبوا إليه وغرّوه، فأشار عليه أهلُ العلم والنُّصْحِ بأن لا يقبلَ منهم، فأرسل ابنَ عمه مسلم بن عقيل، فرجع أكثرُهم عن كتبهم، حتى قُتل ابن عمه، ثم خرج منهم عسكر مع عمر بن سعد حتى قتلوا الحسين مظلومًا شهيدًا، أكرمه الله بالشهادة كما أكرم بها أباه وغيره من سلفه سادات المسلمين. وكان بالعراق طائفتان: طائفة من النواصب تُبغِضُ عليًّا وتشتمه، وكان منهم الحجاج بن يوسف، وطائفة من الشيعة تُظهِر موالاة أهل البيت منهم المختارُ بن أبي عبيد الثقفي. وقد ثبتَ في "صحيح مسلم" (1) عن أسماء، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "سيكون في ثقيف كذّابٌ ومُبير" فكان الكذّاب هو المختارُ بن أبي عبيد الثقفي، والمبير هو الحجاجُ بن يوسف الثقفي. وكان المختارُ أظهرَ أولاً التشيّعَ والانتصارَ للحسين، حتى قَتل الأمير الذي أمَرَ بقتل الحسين وأحضر رأسه إليه، ونكتَ بالقضيب على ثناياه: عُبيد الله بن زياد. ثم أظهر أنه يوحى إليه، وأنّ جبريل يأتيه، حتى بعث ابنُ الزبير إليه أخاه مُصعبًا فقتله، وقتل خَلْقًا من أصحابه. ثم جاء عبد الملك ابن مروان فقتل مصعب بن الزبير. فصار النواصبُ والروافض في يوم عاشوراءَ حزبيْن، هؤلاء يتخذونه يوم مأتم ونَدْبٍ ونياحة،

_ (1) برقم (2545).

- صار النواصب والروافض في يوم عاشوراء حزبين، هؤلاء يتخذونه يوم مأتم وندب ونياحة، وهؤلاء يتخذونه يوم عيد وفرح وسرور

وهؤلاء يتخذونه يوم عيدٍ وفرح وسرور. وكلّ ذلك بدعة وضلالة. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". وروى الإمام أحمد (2) عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "ما من مسلمِ يُصابُ بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدُمَتْ فيُحْدِثُ لها استرجاعًا إلاًّ أعطاه من الأجر مثل أجره يوم أُصيب بها". فدلّ هذا الحديث الذي رواه الحسين على أنّ المصيبة إذا ذُكِرتْ وإن قَدُم عهدُها فالسنّة أن يُسترجع فيها، وإذا كانت السنة الاسترجاع عند حدوث العهد بها فمع تقدّم العهد أولى وأحرى. وقد قُتل غيرُ واحدٍ من الأنبياء والصحابة والصالحين مظلومًا شهيدًا، وليس في دين المسلمين أن يجعلوا يوم قتل أحدهم مأتمًا، وكذلك اتخاذُه عيدًا بدعة. وكلُّ ما يُروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم عاشوراء غير صومه فهو كذب (3)، مثل ما يُروى في الاغتسال يوم عاشوراء، والاكتحال، وصلاة يوم عاشوراء، ومثل ما يُروى: "مَن وسّع على أهله يوم عاشوراء وَسّع الله عليه سائر سنته" (4). قال أحمد

_ (1) أخرجه البخاري (1294، 1297، 1298، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود. (2) 1/ 201. ورواه أيضًا ابن ماجه (1600). (3) انظر "جامع المسائل" (3/ 94 - 95) و"مجموع الفتاوى" (25/ 299 وما بعدها). (4) أخرجه البيهقي في "الشعب" (7/ 375) وابن عبد البر في "الاستذكار" (10/ 140) =

- أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان، يتولون الصحابة وأهل البيت جميعا

ابن حنبل: لا أصلَ لهذا الحديث. وكذلك طبخ طعام جديد فيه الحبوبُ أو غيرُها، أو ادّخارُ لحم الأضحية حتى يُطبخ به يوم عاشوراء. كلُّ هذا من بدع النواصب، كما أن الأول من بدع الروافض. وأهلُ السنّة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان، يتولّون أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهل بيته ويعرفون حقوق الصحابة وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسولُه، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبت عنه في الصحاح (1) من غير وجهٍ أنه قال: "خيرُ القرون القرنُ الذي بُعِثتُ فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه". وثبت عنه في "صحيح" مسلم (3) عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناسَ بغدير يُدعى خُما بين مكة والمدينة، وذلك منصرفَه

_ = عن جابر. قال الحافظ ابن حجر: هذا حديث منكر جدًّا. أنظر "اللآلئ المصنوعة" (2/ 63). وتكلم المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى" (25/ 300 وما بعدها)، ونقل كلام أحمد في "منهاج السنة" (7/ 39). (1) أخرجه البخاري (2652، 3651، 6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651، 4628، 6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين. (2) البخاري (3673) ومسلم (2541) عن أبي سعيد، ومسلم (2540) عن أبي هريرة. (3) برقم (2408).

من حجّةِ الوداع. فقال: "يا أيها الناس! إني تاركٌ فيكم الثقَلَيْن أحدهما كتاب الله". فذكر كتاب الله وحضّ عليه، ثم قال: "وأهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بَيتي، أُذكّركُم الله في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: مَنْ أهلُ بيته؟ قال: الذين حُرِموا الصدقة: آل عليّ، وآل العبّاس، وآل جعفر، وآل عقيل. قيل له: كلُّ هؤلاء من أهل بيته؟ قال: نعم. وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنّ يزيد بن معاوية الذي تولّى على المسلمين بعد أبيه لم يكن من الصحابة، بل وُلد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولكن عمّه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة، وهو من خيار طبقته من الصحابة، لا يُعرف له في الإسلام ما يُذَمُّ عليه، بل هو عند المسلمين خير من أبيه أبي سفيان، ومن أخيه معاوية. ولما مات يزيد بن أبي سفيان ولّى عمرُ أخاه معاوية مكانه، ثم بَقي متوليًّا خلافة عمر وعثمان، ثم لما قُتل عثمان وقعت الفتنةُ المشهورةُ. وكان عليٌّ ومَنْ معه أولى بالحقّ مِنْ معاوية ومَنْ معه. كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تَمرقُ مارقةٌ على حينِ فُرْقَةٍ من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين". فمرقت الخوارج لما حصلت الفُرْقة، فقتلهم عليٌّ وأصحابه. فدلَّ على أنهم كانوا أولى بالحق

_ (1) مسلم (1065) عن أبي سعيد.

- كثرة الفتن والفرقة والاختلاف بعد معاوية

من معاوية وأصحابه. ثم لما قُتل عليّ وصالَحَ الحسنُ معاوية، وسلّم إليه الخلافة كان هذا من فضائل الحسن التي ظهر بها ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري (1) عن أبي بكرة قال: سمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولُ للحسن: "إن ابني هذا سيّد، وسيُصْلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". ومات الحسن في أثناء مُلْكِ معاوية. ثم لما مات معاويةُ تولّى ابنُه يزيد هذا، وجرى بعد موت معاوية من الفتن والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: "سيكون نبوّة ورحمة، ثم يكون خلافةُ نبوةٍ ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك عضوض" (2). فكانت نبوّةُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبوّة ورحمة، وكانت خلافةُ الخلفاء الراشدين خلافةَ نبوّةٍ ورحمة، وكانت إمارةُ معاوية مُلكًا ورحمة، وبعده وقع مُلكٌ عَضُوض. وكان عليّ بن أبي طالب لما رجع من صِفّين يقول: لا تسبّوا معاوية، فلو قد مات معاوية لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها. وكان كما ذكره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

_ (1) برقم (3746). (2) أخرجه أحمد (4/ 273) والبزار في مسنده (1588) عن النعمان بن بشير. وصححه الألباني في "الصحيحة" (5).

وقد روى مسلم في "صحيحه" (1) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "النجومُ أمَنَة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمَنَة لأصحابي، فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أمَنَة لأمتي فإذا ذهبتْ أصحابي أتى أمتي ما يوعَدون". وكان كما أخبر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإنّه لمّا توفي ارتدّ كثير من الناس، بل أكثر أهل البوادي ارتدّوا، وثبتَ على الإسلام أهلُ المدينة ومكة والطائف، وهي أمصار الحجاز التي كان لكل مصر طاغوت يعبدونه من الطواغيت الثلاثة المذكورة في قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)) (2). فكانت اللاّت لأهل الطائف، والعُزى لأهل مكة، ومَنَاةُ لأهل المدينة، حتى أذهب اللهُ ذلك وغيرَه من الشرك برسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ارتدّ مَن ارتدّ عن الإسلام وقَعَ في أكثر المسلمين خوف وضَعْف، فأتاهم ما يُوعَدون، فأقام الله أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه وجعل فيه من الإيمان واليقين، والقوّةِ والتأييد، والعلمِ والشجاعة، ما ثبَّتَ الله به الإسلامَ، وقمع به المرتدّين، حتى عادوا كلهم إلى الإسلام، وقتل اللهُ مُسَيْلِمةَ الكذّاب المتنبي المدّعي للنبوة، وأقر جاحدو الزكاة بها. ثم شرع في قتال فارس والروم: المجوس والنصارى، ففتح

_ (1) برقم (2531). (2) سورة النجم: 19 - 22.

- ظهور أهل البدع والفجور بعد الخلفاء الراشدين

الله بعضَ الفتوح في خلافته. ثم انتشرت الفتوحُ والمغازي في خلافة عمر بن الخطاب، ففي خلافته فُتحت الشام كلها، ومصر، والعراق، وبعض خراسان. ثم فُتحت بعض المغرب وتمام خراسان وقبرص وغيرُها في خلافة عثمان. ثم لما قُتل كان المسلمون مشتغلين بالفتنة، فلم يتفرغوا لقتال الكفّار وفتح بلادهم، بل استطال بعضُ الكفّار عليهم حتى احتاجوا إلى مداراتهم، وبذلوا لبعضهم مالاً. ولما اجتمعوا فتحوا في خلافة معاوية ما كان قد بقي مِن أرض الشام وغيرها. وكان معاوية أوّلَ الملوك. وكانت [ولايتُه] ولايةَ ملكٍ ورحمةٍ. فلما ذهبت إمارة معاوية كثرت الفتن بين الأمة، ومات سنة ستين، وكان قد مات قبله عائشةُ والحسنُ وسعدُ بن أبي وقّاص وأبو هُريرة وزيدُ بن ثابت وغيرُهم من أعيان الصحابة، ثم بعده مات ابنُ عمر وابنُ عباس وأبو سعيد وغيرُهم من علماء الصحابة. فحَدَثَ بعد الصحابة من البدع والفتنِ ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكان المسلمون لمَّا كانوا مجتمعين في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن لأهلِ البدع والفجورِ ظهور، فلما قُتلَ عثمان وتفرّق الناسُ ظهرَ أهلُ البدع والفَجور، وحينئذ ظهرتِ الخوارجُ، فكفَّروا عليَّ بن أبي طالب وعَثمانَ بن عفان ومن والاهما حتى قاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب طاعةً لله ورسوله وجهادًا في سبيله.

واتّفق الصحابةُ على قتالهم، لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في الجَمَلِ وصِفّين. وقد صحّ الحديثُ فيهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال الإمام أحمد بن حنبل من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري حديثهم من غير وجهٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1). وحدثَتْ أيضًا الشيعةُ، منهم مَنْ يفضل عليًّا على أبي بكر وعمر، ومنهم من يعتقد أنّه كان إمامًا معصومًا نصّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خلافته، وأنّ الخلفاء والمسلمين ظلموه، وغاليتُهم يعتقدون أنّه إله أو نبيّ، والغاليةُ كفّار باتفاق المسلمين، فمن اعتقد في نبيٍّ من الأنبياء كالمسيح أنه إله، أو في أحدٍ من الصحابة كعليّ بن أبي طالب، أو في أحدٍ من المشايخ كالشيخ عَدِيّ أنّه إله، أو جعل فيه شيئًا من خصائص الإلهية فإنه كافرٌ يستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل. وقد عاقب عليّ بن أبي طالب طوائف الشيعة الثلاثة فإنه حرق الغالية الذين اعتقدوا إلهيّته بالنار، وطَلَبَ قَتْلَ ابن سبإٍ لما بلغه أنّه يسبّ أبا بكر وعمر فهربَ منه. وروي عنه أنه قال: لا أُؤتَى بأحدٍ يُفضّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدتُه حدَّ المفتري (2). وقد تواتر عنه أنه قال: خيرُ هذه الأمَّة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر (3). ولهذا كان

_ (1) جمع ابن كثير في "البداية والنهاية" (10/ 592 - 631) هذه الأحاديث وطرقها، وبيّن من خرجها من الأئمة بإسانيدهم. (2) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1/ 83). (3) قال المؤلف في "منهاج السنة" (1/ 308): "رُوِي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجها، ورواه البخاري وغيره". وهو عند البخاري برقم (3671) عن محمد بن الحنفية عن علي.

- ظهور المرجئة والقدرية والجهمية في أواخر عصر الصحابة

أصحابه الشيعة متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر عليه. ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت المرجئة والقدريَّة، ثم في أواخر عصر التابعين حدثت الجهميَّة، فإنما ظهرت البدع والفتن لما خفيت آثار الصحابة. فإنهم خير قرون هذه الأمة وأفضلها، رضي الله عنهم وأرضاهم. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا. (بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد).

(6) فصل في اسمه تعالى "القيوم"

فصل في اسمه تعالى "القيُّوم"

- القيوم والقيام والقيم كلها مبالغات في القائم

فصل في اسمه تعالى "القيُّوم" وقد قرأ طائفةٌ "القَيَّام" و"القَيِّم"، وكلُّها مبالغاتٌ في القائم وزيادة. قال الله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (2)، (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (3). فهو قائمٌ بالقِسط وهو العدلُ، وقائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبت، وقيامُه بالقسط على كلِّ نفس يَستلزمُ قدرتَه، فدلَّ هذا الاسمُ على أنه قادر وأنه عادل. وسنبيِّن أن عدلَه يستلزمُ الإحسانَ، وأن كلَّ ما يفعله فهو إحسانٌ للعبادِ ونعمةٌ عليهم. ولهذا يقول (4) عقيبَ ما يعدده من النعم على العباد: (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13))، وآلاؤه هي نِعَمُه، وهي متضمنةٌ لقدرته ومشيئته، كما هي مستلزمةٌ لرحمتِه وحكمتِه. وأيضًا فلفظ "القيام" يقتضي شيئين: القوةَ والثبات والاستقرار، ويقتضي العدلَ والاستقامةَ، فالقائم ضدّ الواقع، كما أنه ضدّ الزائل،

_ (1) انظر تفسير الطبري (3/ 109 - 110)، ففيه ذكر هذه القراءات وبيان أن معناها متقارب. (2) سورة آل عمران: 18. (3) سورة الرعد: 33. (4) في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة.

- شرح ذلك بالأمثلة

والمستقيم ضدّ المعوجّ المنحرف، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "ما من قلب من قلوب العباد إلاّ وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه". (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) (2)، وقال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (3). ومنه تقويم السَّهم والصفّ، وهو تعديله، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أقيموا صفوفكم، فإنّ تسويةَ الصفّ من تمامِ الصلاة" (4). وكان يُقوِّمُ الصَّفَّ كما يُقوَّم القِدْحُ (5). ومنه الصراط المستقيم والاستقامة، وهذا من هذا، كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (6) من طريقة أهل التوراة. وما يَهدِي إليه القرآن أقومُ مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبلَه]، وإن كان ذلك يَهدي إلى الصراطِ المستقيمِ، لكن القرآن يَهدي للتي هي أقوم. ولهذا ذكر هذا بعد قوله: (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) (7)، ثم قال: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 182) وابن ماجه (199) عن النواس بن سمعان.، وله شاهد من حديث أم سلمة أخرجه الترمذي (3522) وقال: حديث حسن. (2) سورة آل عمران: 8. (3) سورة الصف: 5. (4) أخرجه البخاري (723) ومسلم (433) عن أنس بن مالك. (5) كما في حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه مسلم (436). (6) سورة الإسراء: 9. (7) سورة الإسراء: 2.

ولمّا كانَ القيامُ بالأمور بطريقةِ القرآن يَقتضي شيئين: القوة والثبات، مع العدل والاستقامة، جاء الأمرُ بذلك في مثل قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه) (1)، و (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) (2). وقولُه: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (3) يقتضي أنه يأتي بها تامّةً مستقيمةً، فإن الشاهد قد يَضعُفُ عن أدائها وقد يُحرِّفها، فإذا أقامَها كان ذلك لقوته واستقامته. وكذلك إقامُ الصلاةِ يَقتضيْ إدَامتَها والمحافظةَ عليها باطنًا وظاهرًا، وأن يأتيَ بها مستقيمةً معتدلةً. ولمّا كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجلِ الجهاد قال: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (4)، فإن الرجل قد يصلّي ولا يقيمٍ الصلاة لنقصِ طمأنينتِها والسكينةِ فيها، فلا تكون صلاتُه ثابتة مستقرةً، أو لنقصِ خضوعِه لله وإخلاصِه له، فلا تكون معتدلةً، فإن رأسَ العدلِ عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، كما أن رأسَ الظلم هو الشرك، إذ كان الظلمُ وضعَ الشيء في غيرِ موضعه، ولا أظلم ممن وضعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها فعَبَدَ غيرَ الله، فعبادةُ الله أصلُ العدل والاستقامة. قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (5)، فأمرَ بإقامةِ الوجهِ له عند كلِّ مسجد،

_ (1) سورة النساء: 135. (2) سورة المائدة: 8. (3) سورة الطلاق: 2. (4) سورة النساء: 103. (5) سورة الأعراف: 29.

وهو التوحيدُ وتوجيهُ الوجهِ إليه سبحانَه، فإنّ توجيهَه إلى غيرِه زَيغ. وبالإخلاصِ يكون العبدُ قائمًا، وبالشركِ زائغًا، كما قال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) (1)، وقال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (2). وإقامتُه: توجيهُه إلى الله وحدَه، وهو أيضًا إسلامُه، فإن إسلام الوجهِ لله يَقتضِي إخضاعَه له وإخلاصَه له. وفي القرآن إقامةُ الوجه، وفيه توجيهه لله وإسلامُه لله، وتوجيهُه وإسلامُه هو إقامتُه، وهو ضدُّ إزاغتِه. فلما كانت الصلاةُ تضمنت هذا وهذا، وهو عبادتُه وحدَه وإخلاصُ الدين له وتوجيه الوجه إليه، كما فيها هذا العدل، فلابُدَّ من هذا ولابُدَّ من الطمأنينةِ فيها، وهي إنما تكون مُقَامَةً بهذا، وهذا هو الخضوع، فإن الخشوع يجمعُ معنيَينِ: أحدهما الذلُّ والخضوعِ والتواضع، والثاني السكون والثبات. ومنه قوله تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (3)، ودوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) (4)، وهو الانخفاض والسكون. ومنه خشوع الأرض، وهو سكونُها وانخفاضُها، فإذا أُنزِلَ عليها الماءُ اهتزَّتْ بدلَ السكون، ورَبَتْ بدلَ الانخفاض. وقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (5)، (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) (6). و"القَوَّام"

_ (1) سورة الروم: 30. (2) سورة الروم: 43. (3) سورة القلم: 43. (4) سورة الشورى: 45. (5) سورة النساء: 135. (6) سورة المائدة: 8.

- الفرق بين "قوام" و"قيام"

هو القَيَّام، فإنَّ "قَيَّام" و"قَيُّوم" أصلُه قَيْوَام وقَيْوُوم، ولكن اجتمعت الياء والواو وسبقتْ إحداهما بالسكون فقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ إحداهما بالأخرى، لأنّ الياءَ أخفُّ من الواو. قال الفراء (1): وأهل الحجاز يصرفون الفَعَّال إلى الفَيْعَال، ويقولون للصوَّاغ: صَيَّاغ. قلتُ: هذا إذا أرادوا الصفةَ، وهي ثباتُ المعنى للموصوف، عَدَلُوا عن "فَعَّال" إلى "فَيْعَال" كما في سائرِ الصفاتِ المعدولة، فإنّ مِن هذا قلبَ المضعَّف حرف عينه، والحروف المختلفة أبلغُ من حرفٍ واحد مشدَّد. وأما إذا أرادوا الفعلَ فهو كما قال تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، ولم يقل "قيَّامِينَ". وقد قرأ طائفة من السلف: "الحيُّ القيَّام"، ولم يقرأ أحدٌ قطُّ: "كونوا قيَّامين بالقسط"، لأن المقصودَ أمرُهم أن يقوموا بالقسط، والأمرُ طلبُ فعل يُحدِثُه المأمورُ. بخلافِ الخبرِ عن الموصوف بأنه صَيَّاغ، فإنه خبرٌ عن صفةٍ ثابتةٍ له. ولهذا جاء في أسماء الله "القيَّام"، ولم يَجئْ "القَوَّام"، قرأ عمر بن الخطاب وغيرُ واحد "القيَّام"، وقرأ طَائفةٌ "القَيِّم". قال ابن الأنباري (2): هي كذلك في مصحف ابن مسعود. ومِن دعاءِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (3): "ولك الحمدُ، أنتَ قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن".

_ (1) "معاني القرآن" (1/ 190). (2) "الزاهر في معاني كلمات الناس" (1/ 186). (3) البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس.

ولما كان لفظ "القيام" يتضمن القوةَ والثبات، وقد يتضمن مع قيام الشيء بنفسِه إقامتَه لغيرِه، خُصَّ لفظ "القَوم" بالرجال دون النساء، فلا تُسمَّى النساءُ بانفرادِهنّ "قومًا"، ولكن قد يدخلن في اللفظ تبعًا. قال تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) (1)، فإنه قال: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (2). ومنه قول الناظم: ومَا أدرِيْ وظَنِّي كلُّ ظَنٍّ … أقَوْم آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ (3) ولمّا كان "القيام" يقتضي الثباتَ -وهو ضدُّ الزوال- قال: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (4)، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) (5). وهو يقتضي الاعتدال مع الثبات، وهو خلْقُهما معتدلتَيْنِ كما قال: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) (6)، وقال: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (7). والعدل لازم في كلّ مخلوق، ومأمور به كلّ أحدٍ، كما قد بُسِطَ في قوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)) (8). ولِما في لفظ "القيام" من العدل سُمِّيَ ما يُساوِي المبيعَ: قيمةَ

_ (1) سورة الحجرات: 11. (2) سورة النساء: 34. (3) البيت لزهير بن أبي سُلمى في ديوانه (ص 136) برواية مختلفة. (4) سورة الروم: 25. (5) سورة فاطر: 41. (6) سورة البقرة: 29. (7) سورة الملك: 3. (8) سورة الأعلى: 2. وانظر تفسير الآية في "مجموع الفتاوى" (16/ 127 - 135).

عَدْل، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "مَن أعتقَ شِركًا له في عَبْدٍ، وكان له من المال ما يَبْلُغ ثمنَ العبد، قُومَ عليه قيمةَ عَدْلٍ لا وَكْس ولا شَطَط، فأُعْطِيَ شركاؤُه وعُتِقَ عليه العبدُ". وكذلك يُسمَّى تعديلُ الحساب تقويمًا، فإذا جُمِعتْ حركةُ الشمس والقمر وغيرهما السريعةُ والبَطيئةُ، وأحدٌ يُعدِّلُ ذلك، سُمِّي ذلك تعديلاً وتقويمًا، ويُسمَّى ما يُكتَب فيه ذلك تقويمًا، كما يُصنَع بالمكان إذا أَخَذَ مُغَلُّه في إقبالِه وإدبارِه، فإنه يوجد معدّلُ ذلك، ويُقوم باعتبار ذلك. ويقال: قامتِ السوقُ، إذا حَصَلَ فيها التبايعُ بالتراضي الذي هو أصل العدل، ولابدَّ أن يَبقَى ذلك زمنًا، ففي قيام السوق معنى العدل والثبات، قال الشاعر: أقامتْ سُوْقها عشرينَ عامًا ومنه قوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) (2)، أي يقوم عليه كما يقوم القيِّمُ على ما يقوم عليه وإن كان جالسًا معه. والإقامةُ أبلغُ من القيام، فإنّ فيها زيادةَ الهمزة والزيادة لزيادة المعنى، وهي تقتضي من الثبات والدوام أبلغَ مما يدلُّ عليه لفظُ القيام. والمُقامُ بالمكان هي السُّكنَى فيه واستيطانُه، والمقيم خلاف المسافر.

_ (1) أخرجه البخاري (2521 - 2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر. (2) سورة آل عمران: 75.

- عودة إلى بيان معنى "القيوم"

ولما كان اسمه "القَيوم" يتناول هذا وهذا، وهو قَيُّومُ السماوات والأرضِ ومُقِيمُ كل مخلوقٍ من الأعيان والصفات، دَلَّ ذلك على أنّ كلَّ مخلوق له نصيب من القيام، فهو قائم بالقيم الذي أقامه، كما أن له قدرًا بالخلق، فإن اسمه "الخالق" يَقتضي الإبداعَ والتقدير، فقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)) (1)، وقال: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) (2). وإذا كان لكل شيء مخلوق قيام وقدر، دَلَّ ذلك على فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ، ومَن قال: العَرَضُ لا يَبْقَى زمانَيْنِ. فإن الذين يقولون بالجوهر الفرد يثبِتُون شيئًا لا تتميَّزُ يمينُه عن يَسارِه، ولا يُعرَف بالحسِّ، وهو ممتنع وجودُه، فإنَّ وجودَ ما لا يَتميَّز منه جانب عن جانب ممتنع، وإنما يَفرِضُونَه في الذهن. وعلى قولهم لا قدرَ له، والله تعالى قد جعلَ لكل شيء قدرًا، فما لا قدرَ له لم يُخلَقْ، بل هو ممتنع. وما يَفرِضُه أهلُ الهندسةِ من نقطةٍ مجرَّدةٍ وخطٍّ مجرَّد وسَطْحٍ مجرَّد، هي أمور مقدَّرة في الأذهان واللسان، لا تُوجَد مجرَّدةً في الخارج، بل لا تُوجَد إلاّ نقطة معينة مثلُ نقطة الماء والحِبْرِ ونحوِ ذلك مما يتميز منه جانب عن جانب، لقوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3))، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)) (3).

_ (1) سورة القمر: 49. (2) سورة الطلاق: 3. (3) سورة الفرقان: 2.

- الله خالق كل شيء وقيومه، ولا يخرج شيء أصلا عن تخليقه وتعليمه

والله سبحانَه خالقُ الموجوداتِ العينية ومُعلِّمُ الصور الذهنية، وأول ما نزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (1). ومن الناس من يقول: المعدومُ شيء ثابت في الخارج، وليس بمخلوق، بل ثبوتُه قديم. وآخرون يقولون: الماهياتُ غيرُ مجعولةٍ. وهؤلاءِ وهؤلاءِ اشتبهَ عليهم ما في الأذهانِ بما في الأعيانِ، فأخرجوا بعضَ مخلوقاتِه عن أن تكونَ مخلوقةً له. وتحقيقُ الأمر أن كلَّ ما يُقدَّر فإمّا أن يكون ثابتًا في الأعيانِ والموجودِ الخارج، أو في العلم والوجودِ الذهني، وهو سبحانَه خالقُ هذا ومُعلِّمُ هذا، فلا يَخرجُ شيء أصلاً عن تخليقِه وتعليمِه، بل هو الذي خلقَ فسوى، وقدَّرَ فهدَى، وقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)) (2). فهو خالقُ كلِّ شيء وقَيُّومه، وكلُّ ما أقامَه القيوم فله قِيام، والحركةُ وإن وُجدتْ شيئًا فشيئًا فلابدَّ لها من لُبْثٍ، لا يتصوَّر أن تُعْدَمَ قبلَ أن تلبَثَ زمنًا من الأزمان، وقيُّومُ السماوات هو الخالقُ الذي يُبدِعُه ويَجعلُ له ذلك القدرَ، فجَعَلَ للأعيانِ قدرًا، وللحركاتِ قدرًا، ولزمانِها قدرًا، وبعضُ ذلك يُطابِقُ بعضًا، فإن الزمان مُساوِقٌ للحركة، والحركة هي مبدأ الأحداث. قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (3)،

_ (1) سورة العلق: 1 - 5. (2) سورة الشمس: 7 - 8. (3) سورة الحج: 61.

- الرد على من أنكر استحالة الأجسام وقال بالجوهر الفرد

والإيلاج هو بسبب الحركة الحولية، كما أن اختلافَ الليل والنهار وتكويرَ الليل على النهار وتكويرَ النهار على الليل هو بسبب الحركة اليومية. وهو سبحانَه (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) (1)، وهو (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) (2). فذكر أنه فالقُ الإصباح بعد ذكره فَلقَ الحب والنوى، فإنه بسبب فَلْقِه الإصباحَ وجَعْلِ الليلِ والنهارِ يَتِمُّ ما يخلقُه ويَنمو ويَحصُلُ مصلحتُه، ثم ذلك يحصل بتسخير الشمس والقمر وجَعْلِهما بحساب على وفْقِ العدلِ في الحكمة، لا يتقدم شيء على وقتِه ولا يتأخر شيء عن أجلِه، وهو سبحانَه يَسوقُ المقاديرَ إلى المواقيتِ. واستحالةُ الأجسامِ بعضِها إلى بعضٍ معلوم بالمشاهدة، وهو مما تَطابقَ عليه أهلُ الطبائع والشرائع وأهل العادات، والأطباء يعرفون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، وغيرهم. وكذلك الفقهاءُ تكلَّموا في استحالةِ الطاهرِ إلى النجس، واستحالةِ النجسِ إلى الطاهر، وفي الماء والمائعِ إذا خالطَتْه النجاسة هل يستحيل أم لا؟ والذين أنكروا ذلك وقالوا بالجوهر الفرد زعموا أن كلَّ ما شهدَ العبادُ أنَّ الله يخلقُه من سحاب ونباتٍ ومطرٍ وإنسان وحيوانٍ، فإنَّ الله -فيما زعموا-[لَمْ] يُبدِعْ تلك الأعيانَ والجواهرَ القائمةَ بأنفسها،

_ (1) سورة الأنعام: 95. (2) سورة الأنعام: 96.

- مخالفة هؤلاء للحس والعقل والشرع

وإنما يُحدِثُ أعراضًا، وهو تركيبُ الجواهرِ بعضِها مع بعض، ثم زعموا أن الجواهر إنما يُعلَم أنه خلقَها بالاستدلال، وهو أنها لا تخلو من الأعراضِ الحادثة، وما لا يخلو إذن فهو حادث. وعلى هذا اعتمدوا في خَلْقِ الله للعالم وفي إثباتِ الصانع، وجعلوا ذلك أصلَ دين المسلمين، ثمَّ التزموا لوازمَ من إنكار الصفات أو بعضها، ومن إنكارِ الرؤية، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك. فتسلَّطَ عليهم السلف والأئمةُ وعلماءُ السنة بالتبديع والتكفير مع التجهيل والتضليل، وتسلَّط عليهم طوائف العقلاء الذين فهموا كلامَهم بالتجهيل والتضليل، وخالفوا الحسَّ والعقلَ والشرعَ الذي هو خبر الصادق، وهذه الثلاثة هي مدارك العلم عندهم وعند غيرهم، كما ذكروا ذلك في أولِ كتبهم. أما مخالفة الحسّ فقولهم: إنّ الله لم يُبدِع عين الإنسان والحيوان، ولا عينَ الثمار والمطر والسحاب، وإنما أحدثَ تأليفًا. وعلى قولهم تلك الجواهرُ التي كانت في بني آدمَ باقية بأعيانها في كلِّ واحدٍ من ولدِه، ومعلومٌ أنّ هذا غير ممكن، فإنَ مَنِيَّ الرجلِ الواحد لا يحتمل أن ينقسمَ أقسامًا بعددِ كلِّ مَن وُلِد من الآدميين. وكذلك عندهم أن كلَّ بني الآدميين فيه جزء من بني نوحٍ، لأنه عندهم لم يُبدِع الله عينًا، بل نفسُ مَنِيِّ الأبِ فيه الجواهر، ركَّبَها تركيبًا آخر، وضَمَّ إليها جواهرَ أُخرَ. وأما مخالفة العقل فإثباتُ الجوهر الفرد إثباتُ شيء موجودٍ لا يتميز منه شيء عن شيء، فإذا وُضِعَ جوهر بين جوهرينِ، فإن كان

الذي يُمَاسُّ هذا الجانب فقد التقَى الجوهران، وإن كان غيره فقد ثبت الانقسام. وأيضًا فنحنُ نشاهد الهواءَ يستحيل ماءً إذا وُضِعَ في الزجاج، ونحوه ثلج صار عليه ماء يَقطُر، ومعلومٌ أن الثلجَ لم يَثْقُب الزُّجاجَ، بل الهواء الذي أحاطَ به بَردَ فاستحالَ ماءً، كما يُحِيلُ الله سحابًا وماءً. هذا مشهود، يكون الإنسانُ على حَيْدٍ، فيَرى البُخَارَ قد صَعِدَ من البحار فانعقَد سحابًا، وينظر تحته وهو أعلى منه في الشمس على رَأس الجبل. وكذلك الهواءُ يستحيلُ نارًا، فإذا قرّبَ ذُبَالةَ المصباحِ إلى النار أوقدَ، مع أنه لم يخرج من تلك النار شيء، ولكن الهواء المحيط بالذُّبالةِ استحالَ نارًا لمّا سَخُنَ سُخونةً شديدةً. فالهواء يَبْرُدُ فيستحيلُ ماءً، ويَسْخُنُ فيستحيل نارًا. وكذلك ما يَقْدحُ النار، قال تعالى: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)) (1)، وقال: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)) (2) الآيات، وقال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)) (3). والعرب يقولون: "في كلّ شجرٍ نار، واستَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ" (4)، يأخذون عُودَينِ أخضرين يَحُكُّون أحدَهما بالآخر حتى يَسْخُن، فإن الحركة

_ (1) سورة العاديات: 2. (2) سورة الواقعة: 71. (3) سورة يس: 80. (4) انظر أمثال أبي عبيد (ص 136) و"جمهرة الأمثال" (1/ 173) و"فصل المقال" (ص 171) وغيرها من كتب الأمثال.

- رجوع إلى بيان معنى "القيوم"، والتنبيه على بعض ما دل عليه من المعارف

تُوجبُ السخونةَ، والسخونةُ تحصلُ بالحركة وبالنار وبالشُّعاع، فإذا سخَنَ انقدحَ منه نارٌ باستحالةِ بعض تلك الأجزاء نارًا، وما كان هناك قبلَ هذا نارٌ، بل سبحانَه يُحدِثُ النارَ عند باقية بعينها، وهي جوهر يقوم بها الصورة كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة، فقوله خطأ، بل المادة استحالتْ فخُلِقَ منها شيءٌ آخر، والأولى هلكتْ وأعدمَها الله على هذا الوجه، كما أوجدَ ما خلقَ منها على هذا الوجه. وقد بُسِط الكلام على هذا في موضع آخر. والمقصود الكلامُ على اسمه "القَيُّوم"، والتنبيهُ على بعضِ ما دلَّ عليه من المعارف والعلوم، فهو سبحانَه قَيُّومُ السماوات والأرض، لو أخذَتْه سِنَةٌ أو نومٌ لهلكتِ السماوات والأرض. والمخلوقُ ليس له من نفسِه شيء، بل الربُّ أبدعَ ذاتَه، فلا قِوَامَ لذاتِه بدون الربِّ، والمخلوق بذاتِه فقيرٌ إلى خالقِه، كما أن الخالقَ بذاتِه غنيٌّ عن المخلوق، فهو الأجَل الصَّمَدُ، والمخلوقُ لا يكون إلاّ فقيرا إليه، والخالقُ لا يكون إلاّ غنيّا عن المخلوق، وغِناهُ من لوازم ذاتِه، كما أن فَقْرَ المخلوقِ إلى خالقه من لوازم ذاتِه. وهذا المعنىَ مما يتعلق بقول الله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)) تعلُّقًا قويًّا. والناسُ يشهدون إحداثه لمخلوقاتٍ كثيرة وإفناءَه لمخلوقاتٍ كثيرة، وهو سبحانَه يُحدِثُ ما يُحدِثُه من إرادةٍ يُحِيلُها ويُعدِمُها إلى شيء آخر، ويُفْنِي ما يُفنِيه بإحالتِه إلى شيء آخر، كما يُفنِي الميتَ بأن يَصِيرَ ترابًا. وعلى هذا تترتبُ مسائل المعاد، فإن الكلام على النشأةِ الثانية فرعٌ عن النشأةِ الأولى، فمن لم يتصور الأولى فكيف يَعلم الثانية؟

- مسألة فناء العالم وأقوال المتكلمين فيها

قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)) (1). فهؤلاء غَلِطُوا في معرفة النشأة الأولى، فكانوا في معرفة النشأة الثانية أغلطَ، كما قد ذُكِرَ هذا في غير هذا الموضع. وكان غلطهم لأنهم ظَنُّوا أن الله يُفنِي العالمَ كلَّه ولا يَبقَى موجودٌ إلاّ الله، كما قالوا: إنه لم يكن موجود إلاّ هو، فقَطَعوا بعَدَمِ كلِّ ما سوى الله. ثم اختلفوا، فقال الجهم: إنّه يُفْنِي العالمَ كلَّه، وإنّه وإن أعادَه فإنه يُفنِي الجنةَ والنارَ، فلا يَبقَى جنة ولا نار، لأن ذلك يَستلزمُ دوامَ الحوادث، وذلك عند الجهم ممتنع بنهايةٍ وبدايةٍ في الماضي والمستقبل. وقال الأكثرون منهم: بل هو إذا أعدمَ العالمَ بالكلية فإنه يُعِيدُه ولا يُفنِيه ثانيًا، بل الجنة باقية أبدًا، وفي النار قولان (2). وهؤلاء قطعوا بإفناءِ العالم، وللنُّظَّار فيه ثلاثة أقوال: أحدها: القطع بإفنائه. والثاني: التوقف في ذلك، وأنه جائز، لكن لا يُقطَع بوجودِه ولا عدمِه. والثالث: القطع بأنه لا يُفنِيه. وهذا هو الصحيح، والقرآن يدلُّ على أن العالم يَستحيلُ من حالٍ إلى حالٍ، فتَنشَقُّ السماءُ فتَصير

_ (1) سورة الواقعة: 58 - 62. (2) انظر "قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار".

- معنى قوله تعالى (كل من عليها فان (26))

وردةً كالدِّهان (1)، وتُسَيرُ الجبالُ (2) وتُبَسُّ بَسًّا (3)، وتُدَكُّ الأرضُ (4)، وتُسَجَّرُ البحارُ (5)، وتنكدرُ النجومُ (6) وتتناثَر (7)، وغير ذلك مما أخبر الله به في القرآن، لم يُخبِر بأنه يُعدِمُ كلَّ شيء، بل أخبارُه المستفيضةُ بأنه لا يُعدِمُ الموجوداتِ. فقوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)) (8) أخبر فيه بفناءِ مَن على الأرض فقط، والفناءُ يُرادُ به الموتُ ولا يُرادُ به عَدَمُ ذَواتِهم، فإن الناس إذا ماتوا صارتْ أرواحُهم إلى حيثُ شاء الله من نعيمٍ وعذاب، وأبدانهم في القبور وغيرها، منها البالي وهو الأكثر، ومنها ما لا يًبْلَى كأبدان الأنبياء (9)، والذي يَبْلَى يَبقَى منه عَجْبُ الذَّنَب، منه بَدَأ الخَلْقُ ومنه يُرَكَّبُ (10). فهؤلاء لما قالوا: إنّه يُفنِي جميع العالمِ وإنّ ذلك واقع وممكن، احتاجوا إلى تلك الأقوالِ الفاسدة، وإلاّ فالفناء الذي أخبرَ به القرآنُ هو الفناء المشهودُ بالاستحالة إلى مادة، كما كانَ الإحداثُ

_ (1) كما في سورة الرحمن: 37. (2) كما في سورة النبأ: 20. (3) كما في سورة الواقعة: 5 - 6. (4) كما في سورة الفجر: 21. (5) كما في سورة التكوير: 6. (6) كما في سورة التكوير: 2. (7) كما في سورة الانفطار: 2. (8) سورة الرحمن: 26. (9) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (4/ 8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/ 91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس. (10) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (2955).

بالحق من مادة. فاسمُه سبحانَه "القَيوم" يَقتضي الدوامَ والثباتَ والقوةَ، ويَقتضي الاعتدال والاستقامةَ، وقد وَصَفَ نفسَه بأنه قائم بالقِسط (1)، وأنه على صراطٍ مستقيم (2). ومنه قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) (3)، ومنه قَامَةُ الإنسانِ وهو اعتدالُه، ومنه قيام الإنسان، فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال وطمأنينةٍ، ومنه قول الشاعر (4): أَقِيْميْ أمَّ زِنْباع أَقِيْميْ … صُدُورَ العِيْسِ شَطْرَ بني تَميمِ فإنه أراد: وجهي صدورَ العِيْس نحوَ بني تميم. والعِيْسُ هي الإبل التي تُركَبُ ويُحَملُ عليها، ويقال: الإبلُ العِيْسُ، جمعُ عَيْسَاءَ.

_ (1) كما في سورة آل عمران: 18. (2) كما في سورة هود: 56. (3) سورة التين: 4. (4) البيت لأبي جندب الهذلي مطلع قصيدة له في "شرح أشعار الهذليين" (1/ 363). قال الأصمعي: وتُروى لأبي ذُؤيب. وفي "لسان العرب" (شطر) لأبي زنباع الجذامي. والرواية فيهما: أقول لأم زنباع ...

(7) فصل في معنى "الحنيف"

فصل في معنى "الحنيف"

- الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ

فصل في معنى"الحنيف" فإن هذا الاسمِ قد تكرَّر في القرآن، وقد فرضَ الله على الناس أن يكونوا حُنَفَاءَ، فرَضَه الله على أهل الكتاب ثم على أمة محمد، وأوجبَ عليه وعليهم أن يتبعوا ملةَ إبراهيم حنيفًا، فقال تعالى في أهل الكتاب: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) (1)، وهذا أمر لجميع الخلقِ من المشركين وأهلِ الكتاب وغيرِهم. وقال تعالى: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)) (2) وقال عن إبراهيم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)) (3)، وقال تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)) (4)، وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (5)، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا

_ (1) سورة البينة: 5. (2) سورة البقرة: 135. (3) سورة آل عمران: 67. (4) سورة آل عمران: 95. (5) سورة النساء: 125.

- الحنيفية ملة إبراهيم، وهي عبادة الله وحده والبراءة من الشرك

وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) (1)، وقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)) (2)، وقال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (3)، وقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)) (4). والقرآنُ كلُّه يدلُّ على أن الحنيفيَّةَ هي ملةُ إبراهيم، وأنها عبادةُ الله وحدَه والبراءةُ من الشرك. وعبادتُه سبحانَه إنما تكون بما أمَرَ به وشرعَه، وذلك يدخل في الحنيفية. ولا يدخلُ فيها ما ابتُدِعَ من العبادات، كما ابتدَعَ اليهودُ والنصارى عباداتٍ لم يأمر بها الأنبياءُ، فإنّ موسى وعيسى وغيرَهما من أنبياء بني إسرائيل ومن اتبعَهم كانوا حُنَفاءَ بخلافِ من بَدَّلَ دينهم فإنه خارج عن الحنيفية. وقد أمر الله أهلَ الكتاب وغيرَهم أن يعبدوه مخلصين له الدين حنفاء، فبدَّلوا وتصرَّفوا من بعد ما جاءتهم البينة. وكلامُ السلفِ وأهل اللغة يدلُّ على هذا وإن تنوعتْ عباراتهم. روى ابنُ أبي حاتم (5) بإسناده المعروف عن عثمان بن عطاء

_ (1) سورة الأنعام: 161. (2) سورة النحل: 120. (3) سورة الحج: 30 - 31. (4) سورة الروم: 30 - 31. (5) 2/ 674. وانظر لهذه الأقوال والآثار التي ذكرها المؤلف: تفسير الطبري=

الخراساني عن أبيه في قوله: (حَنِيفًا مُسْلِمًا) قال: مخلصًا مسلمًا. قال: ورُوِيَ عن مقاتل بن حيان مثلُ ذلك. وقال خُصَيْف: الحنيف المخلص. وذكر ذلك الثعلبي وغيرُه عن مقاتل بن سليمان بإسناده عن أبي قُتَيبةَ البصري نُعيمِ بن ثابتٍ عن أبي قِلابةَ قال: الحنيف الذي يؤمن بالرسُلِ كلِّهم. وقال محمد بن كعب: الحنيف المستقيم. وبإسناده المعروف عن سفيان الثوري عن ابن أبي نَجيح عن مجاهدٍ: (حَنِيفًا) قال: متبعًا، وقال: الحنيفية اتباعُ إبراهيم. وذكره طائفة من المفسرين عن مجاهد، ورُوِي نحو ذلك عن الربيع ابن أنس. قال مجاهد: هو اتباعُ إبراهيمَ فيما أتى به من الشريعةِ التي صار بها إمامًا للناس. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (حَنِيفًا) قال: حاجًّا. وقال ابن أبي حاتم: ورُوي عن الحسن والضحاك وعطية والسدّي نحو ذلك. ونقل طائفة عن الضحاك أنه قال: إذا كان مع الحنيف المسلمُ فهو الحاجّ، وإذا لم يكن معه فهو المسلم.

_ = (1/ 441) والبغوي (1/ 119) و"زاد المسير" (1/ 150) وتفسير ابن كثير (1/ 419) و"الدر المنثور" (1/ 337، 338).

- الأمور التي هي داخلة في الحنيفية

وذكرَ الثعلبي ومَن اتبعَه كالبغوي (1) وغيرِه عن ابن عباس قال: الحنيف المائلُ عن الأديان إلى دين الإسلام. قالوا: وأصلُه من حَنَفِ الرِّجْل، وهو مَيْل وعِوَج في القَدَم، ومنه قيل للأحنف بن قيس ذلك، لأنه كان أحنفَ القدم. قلتُ: والحج داخل في الحنيفية من حينِ أوجبَه الله على لسان محمد، فلا تتمُّ الحنيفيةُ إلاَّ به، وهو من ملَّة إبراهيم، وما زالَ مشروعًا من عهد إبراهيم، فحجَّه الأنبياء موسى ويونسُ وغيرُهما، وما زال مشروعًا من أول الإسلامِ، وإنما فرِضَ بالمدينةِ في آخر الأمر بالاتفاق. والصوابُ أنه فُرِض سنةَ عَشْرٍ أو تسعٍ، وقيل: سنةَ ستٍّ، والأولُ أصحُّ. والله أمرَ محمدًا وأمتَه أن يكونوا حنفاءَ، فقال في النحل (2) -وهي مكية-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، فكان الحج إذْ ذاك داخلاً في الحنيفية على سبيل الاستحباب والتمام، لا على سبيل الوجوب. وأمرَ الله أهلَ الكتاب أن يكونوا حنفاءَ، ولم يكن الحج مفروضًا عليهم، بل كان مستحبًّا. ومثلُ هذا ما رواه ابن أبي حاتم (3) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الحنيف الذي يستقبل البيتَ بصلاتِه، ويَرى حجَّه عليه واجبًا إن استطاعَ إليه سبيلاً.

_ (1) في تفسيره (1/ 119). (2) الآية 123. (3) 1/ 242.

- الصائبة نوعان: حنفاء ومشركون

فهذا تفسيرُه للحنيف بعدَ أن حُولَتِ القبلةُ إلى الكعبة وأُمِرَ الناسُ باستقبالِها وبعدَ أن فُرِضَ الحجُّ، وإلاّ فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن اتبعَه وهم بمكة حنفاءَ وهم يُصلُّون إلى بيت المقدس لما كانوا مأمورين بذلك، وإنما أُمِرُوا باستقبالِها بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وكذلك موسى ومن اتبعَه والمسيحُ ومن اتبعَه كانوا حُنَفَاءَ أيضًا، وكانوا يصلون إلى بيت المقدس. وروى ابن أبي حاتم (1) وغيرُه من التفسير الثابت عن قتادة تفسير ابن أبي عَرُوبةَ عنه قال: الحنيفية شهادةُ أن لا إله إلا الله، يدخلُ فيها تحريمُ الأمهاتِ والبناتِ والأخواتِ والعماتِ والخالاتِ وما حَرَّمَ الله والختانُ، وكانت حنيفية في الشرك، وكانوا يُحرِّمون في شركِهم الأمهاتِ وما تقدَّم من القرابات، وكانوا يحجون البيتَ وينسكون المناسكَ. فذكرَ قتادةُ أنها التوحيدُ واتباعُ ملَّةِ إبراهيم بتحريم ما حرَّم الله والخِتان، وأنهم في شِركِهم كانوا ينتحلونَ الحنيفيةَ، فيُحرِّمون ذواتِ المحارمِ ويحجُّون ويَختَتِنونَ، وهذا مما تَمسَّكوا به من دينِ إبراهيم مع شِركِهم الذي فارقوا به أصلَ الحنيفية، لكن كانوا ينتحلونها. وكان هذا فارقًا بينهم وبين المجوسِ ومن لا يُحرم ذواتِ المحارم، وبين النصارى ومن لا يرى الخِتانَ، وبين سائر أهل الملل ممن لا يرى حجَّ البيت. فإن الحج كان من الحنيفية، لكن كان من مستحباتها

_ (1) 1/ 242.

لا من واجباتها. وكذلك قال أبو الحسن الأخفش (1): الحنيف المسلم، وقال غيره: إذا ذُكِرَ مع الحنيفِ المسلمُ فهو الحاج. قال أبو الحسن الأخفش: وكانوا في الجاهلية يقولون لمن اختتن وحج حنيفًا، لأن العرب لم تتمسك بشيء من دين إبراهيمَ غيرِ الختانِ والحج، فلما جاء الإسلامُ عادتِ الحنيفية. وقال الأصمعي: مَن عَدَلَ عن دين اليهودِ والنصارى فهو حنيفٌ عند العرب. قلتُ: ولهذا يُوجَد في كتب بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرِهم وفي كلامِهم معاداةُ الحنيف، وهم هؤلاء العرب الذين كانوا يحجون ويختتنون وهم مشركون، فإن النصارى لا يحجون ولا يختتنون ولا يتعبدون بالختان، بل أكثرهم ينهى عنه، وفيهم من يختتن. وفي كلام طائفةٍ ممن ينقلُ المقالاتِ والأديانِ المقابلةُ بين الصابئين والحنفاء، وهذا يتناولُ الحنيفيةَ المحضةَ ملّةَ إبراهيم ومن اتبعَه من الأنبياء وأممِهم، فإنهم كانوا يعبدون الله وحدَه، بخلافِ الصابئين المشركين. والصابئون نوعان: صابئون حنفاءُ، وهم الذين أثنى عليهم القرآن، وصابئون مشركون. وأما المجوس وسائر أنواع المشركين فليسوا حنفاءَ.

_ (1) انظر "لسان العرب" (حنف).

- كلام ابن فورك من كتاب له في إثبات النبوات

وقد ذكر طائفة في الكلام والمقالات -مثل أبي بكر ابن فُورك وغيرِه- أنّ الذين ادَّعوا النبوةَ من الفُرس مثل زَردَشْت ومَزْدَك وبَهَافَرِيْد (1) كانوا ينتحلون ملةَ إبراهيمَ ويزعمون أَنهم يدعون إلى دينه. قال ابن فُورك في مصنَّفٍ له لمَّا تكلَّم على إثباتِ النبوات والردِّ على من أنكرَها من البراهمةِ حكماءِ الهند، وذكرَ ما ذكرَه غيرُه من أهل الكلام والمقالات، قال: إنَّ البراهمة صنفان: صِنف أنكروا الرسُلَ أجمعين، وصِنفٌ أقرُّوا بنبواتِ بعضِهم، فمنهم من أقرّ بنبوةِ إبراهيم وجَحَدَ من كان بعده. قال: فإن قال قائل: قد دَلَّلتَ على جواز بعثةِ الرسُل، فما الدليلُ على أن الأنبياءَ الذين بَعثَهم الله إلى خلقِه مَن ذكرتم دونَ غيرِهم؟ قيل له: الدليل على ذلك أنه قد نُقِلَ إلينا من الجهاتِ المختلفاتِ التي لا يجوز على ناقليها الكذبُ أنهم أتَوا بمعجزاتٍ تَخرجُ عن عادةِ الخلقِ، مثل: فلقِ البحر، وقلب العصا حَيَّةً، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وانشقاق القمر، ولم يُنقَل لغيرهم من المعجزات ممن ادَّعَى النبوةَ كما نُقِل لهم، فدلَّ ذلك على أنهم هم الأنبياء دونَ غيرِهم ممن ادعى النبوةَ ولم يكن لهم معجزة تدلُّ على صدقهم. قال: وممّا يدلُّ على صِدْقِهم أنّا وجدنا كل واحدٍ منهم في زمانه قد مَنَعَ الناسَ عن الشهواتِ واتباع الهوى، وقَبَضَ على أيديهم، وحالَ بينهم وبين مرادِهم، وما سرت إليهَ أنفسهم، ثم مع ذلك كلَّفوهم

_ (1) إليه تُنسَب الفرقة البهافريدية من المجوس. انظر: "البدء والتاريخ" (4/ 26).

- زردشت ومزدك وماني وغيرهم ادعوا أنهم على دين إبراهيم

البراءةَ من الآباء والأبناءِ والأقارب، ونَبْذَ أهاليهم وراءَ ظهورِهم، وبَذْلَ أموالهم، وخَفْض الجناح لهم، والائتمار لأمورهم، والجَرْي تحتَ أحكامِهم. وكلُّ هذه الأحوال مما يَنْفِرُ عنها البشرُ وتَفِرُّ وتَمَل من تكلفهم، فلولا أنهم صادقون فيما ادَّعَوه، وصحَّحوا دعواهم بمعجزاتٍ ظاهرةٍ وبراهينَ بيّنةٍ تُخرِج ذلك عن حِيَلِ المحتالين ومَخْرَقةِ الممخرقين، لما كان يُوجِبُ ظاهرُ فِعْلِهم قبولَه. ولو كان الخلق مُكرَهين في حياةِ واحدٍ منهم لنفاذِ أمرِه وقوته وغلبتِه لكانوا من بعد موته ومفارقتِه هذا العالمَ يرجعون إلى ما شاءوا عليه، كما يرجع الملوك في الدنيا. فلما وجدنا الخلقَ جيلاً بعدَ جيلٍ وقرنًا بعد قرنٍ يزدادُوْنَ في كل يومٍ لهم محبةً وطاعةً ووُلوعًا بهم وجَزَعًا على ما فاتَهم منهم من الرؤية والصحبة= دلَّ ذلك على أنهم كانوا أنبياءَ من قِبَلِ الله، صَحَّحوا دعواهم بمعجزاتٍ ظاهرة، وبراهينَ باهرةٍ نَيِّرةٍ، وأخذوا قلوبَ الخَلْق -العالمِ والجاهلِ- بذلك. قال: فإن قال قائل: قد وجدنا من المفترين المدَّعين قد ظهروا في العالم، وصار لهم أتباع مثلُ أتباعِ الأنبياء، قلنا لهم: مَن هم؟ فلا يَتهيَّأ أن يُسَمُّوا أحدًا له تبع ورَسْم قائم غيرَ زَردَشت ومَزْدَك ومَانِيْ وبَهَافَرِيْد. قلنا له: زردشت ومَزْدك وبَهَافَرِيْد فإن ثلاثتهم ادَّعَوا في زَمَانِهم أنَ كلَّ واحد في زمانِه هو المستقيم على دين إبراهيم، ولم يَدع واحد منهم خلافًا عليه أي على إبراهيم. فبِرِيْحِه والانتسابِ إليهَ اجتمعَ له الأتباعُ والأصحابُ، لا بسياستِهم وسلطانهم، وإنهم لم يشرعوا دينًا، بل ادعَى كلُّ واحدٍ منهم في زمانِه أن شريعةَ إبراهيمَ

- المشركون أعداء إبراهيم

هي مَا كلُّ واحدٍ منهم عليه، يُزَادُ فيه ويُنقَص منه لطولِ الزمان الذي أتَى عليه، وكلُّ واحدٍ منهم تَرجَم في كتابه في زمانِه لقومِه وأتباعه على لسانهم. قال: وأما مَانِيْ فإنه ادَّعى أنه من تلاميذ المسيح المستقيم الجاري على منهاج إبراهيم، وأنَّ غيرَه من النصارى قد زَاغُوا عن طريقِه، وأنَّ الإنجيلَ المنزلَ على عيسى هو الذي عنده، وادَّعَى أنه حينَ ارتقَى إلى السماء أُرْقِيَ إلى عيسى، وأنه بأمرِه عَمِلَ ما عَمِلَ وأسَّس ما أسَّس، فبِرِيْحِ المسيحِ تروَّح له ما تروَّح، وتَبِعَه من تَبِعَه، لا برأيِه. قلتُ: والمشركون أعداءُ إبراهيم الذين يُبغِضُونَه ويُحِبُّونَ عدوَّه النّمرودَ موجودون إلى اليوم من مشركي التركِ والصينِ ونحوِهم، يُصورون الأصنامَ على صورةِ النّمرود كبارًا وصغارًا، وفيها ما هو كبيرٌ جدًّا، ويعبدون تلك الأصنامَ ويُسبِّحونَ باسمِ النمرود، ومعهم مَسَابِحُ يُسبحون بها: سبحانَ النمرود! سبحانَ النمرود! وإبراهيم صلواتُ الله وسلامُه عليه هو الذي جعلَه إمامًا لمن بعدَه من الناس، فلا يُوجَد قطُّ مؤمن ولا منافق يُظهِر الإيمانَ إلاّ وهو مُعظِّم لإبراهيم. وإن كان فيهم من يُكذبُ بكثيرٍ مما كان عليه إبراهيم. وقد جعلَ الله في ذريتِه النبوة والكتاب، فالأنبياءُ بعدَه من ذريتِه، فلا يُوجَد مَن يؤمن بالأنبياء إلا وهو مؤمن بإبراهيم، ولا مَن يدعو إلى عبادةِ الله في الجملة وينهى عن الشرك إلاّ وهو مُعظِّمٌ لإبراهيم. وإن كان فيهم من هو مكذِّب بكثيرٍ مما كان عليه إبراهيم، ومكذِّبٌ ببعض الأنبياء والرسُل= فإبراهيم بريء منه، ومن ذريته محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبين، كما كان مُشرِكو العربِ، وكما يُوجَد عليه أهلُ الكتاب،

- إعراب قوله تعالى (ملة إبراهيم حنيفا)

فإنه حينَ بُعِثَ إبراهيمُ كان الشركُ قد طَبقَ الأرضَ، وامتلأتْ بعبادة الكواكب العُلْوية والأصنامِ السُّفْلية، فأظهرَ التوحيدَ ودَعَا إليه، وعَادَىَ الشركَ وأهلَه، ونَصَرَه الله على قومِه. والقرآنُ في غيرِ موضعٍ بيَّن أنه كان حنيفًا، وجعلَ الحنيفيةَ صفتَه، حتَّى إنَّ لفظ "حنيف" يُنصَب على الحال من المضاف إليه، كقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (1) و (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (2)، وهذا منصوبٌ على الحال، والكوفيون يسمونَه نصبًا على القطع، لكونه لم يكن صفةً في اللفظ فقُطِعَ، وهو معنى قول البصريين إنه منصوب على الحال. وقد قالَ بعضُ النحويين: انتصابُ الحالِ على المضاف إليه لا يجوزُ حتى يكونَ المضافُ والمضافُ إليه بمنزلة شيء واحدٍ، كقوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) (3) هو حالٌ من الأخ، لأنه واللحم شيء واحد. وقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) كذلك، لأنّ الملَّةَ بمنزلة البعضِ منه، كقولِ عدي بن حاتم (4) -لمَّا أتاهُ يَعرِض عليه الإسلامَ-: "إني على ديني"، كأنه قال هُجْنةً منه. ولهذا يجوز لك أن تقول: "أعمى زيدٌ علمه ودينه" فتجعلهما بدلاً من زيدٍ. (آخر ما وُجِد. والله أعلم).

_ (1) سورة البقرة: 135. (2) سورة النحل: 123. (3) سورة الحجرات: 12. (4) أخرجه أحمد (4/ 257، 258، 379) عن عدي.

(8) مسألة فيما إذا كان في العبد محبة

مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه

- كثير من الناس يفعلون الخير لحبهم له لا لغرض أخر

بسم الله الرحمن الرحيم فصل فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه، فهو يفعله لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فإن هذا كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم، في قوتي النفس العلمية والعملية، فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة، ولهذا قال أبو داود للإمام أحمد بن حنبل: طلبتَ هذا العلمَ -أو قال-: جمعتَه لله؟ فقال: لله عزيز، ولكن حُبِّب إليَّ أمر ففعلته. وهذا حال أكثر النفوس، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك الحقائق، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد، ويخلق فيها محبة للإحسان والرحمة للناس، فهو يفعل هذه الأمور: لا يتقرب بها إلى أحد من الخلق، ولا يطلب مدح أحدٍ ولا خوفًا من ذَمِّه، بل لأن هذه الإدراكات والحركات يتنعَّم بها الحيُّ ويلتذُّ بها، ويجد بها فرحًا وسرورًا، كما يلتذُّ بمجرد سماع الأصوات الحسنة، وبمجرد رؤية الأشياء البَهِجَة، وبمجرد الرائحة الطيبة.

- مسألة التحسين والتقبيح العقليين وبيان خطأ الفريقين فيها

وكذلك يلتذ ويفرح ويتنعَّم بمعرفة نفسه للأشياء التي تُعرف بالباطن، ويلتذ أيضًا بشهود باطنه وإحساسه، كما يلتذ بشهود ظاهره وإحساسه، وكذلك يلتذ بما تعقله نفسه من الأمور الكلية التي تعقلها، وكذلك في أفعاله وحركاته، كما يلتذ بأكله وشربه ونكاحه، وكما يلتذ برحمته وإحسانه إلى أهل الحاجات من أقاربه وغير أقاربه، ويلتذ بالجود والإعطاء، ويلتذ بالعفو عن المسيء إليه وترك معاقبة المسيء، كما يُذكر عن المأمون أنه قال: لقد حُبِّبَ إليَّ العفو حتى إني أخاف ألا أثاب عليه. فهذه مكارم الأخلاق التي تكون في بني آدم، كما كانت تكون في أهل البادية، فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعَّم به الحي ويتنفع به ويلتذ في الحال. ولا يُقال: إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل فيه جلب منفعة ودفع مضرة في نفسه، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع، ويستدفع به مضرة الجوع، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات، ويستجلب لها بها لذات. ولهذا يُقال: اشتفت نفسه، وشفيت صدري، فيجد شفاءً في صدره، كما يجد شفاءً في جسمه بزوال المرض وحصول العافية. وهذه أمور محسوسة بالباطن والظاهر، وهي التي أدرك حسنها من قال: إن العقل يُقبِّح ويُحسِّن، ومن قال: إن العلم بحسنها لصفة قائمة بها معقولةٍ: إما بالبديهة وإما بالنظر، أو معلومة بالشرع.

- طرق العلم الثلاثة: السمع والبصر والعقل

ولقد صدق في قوله: إن حسنها وقبحها لمعنى قام بها، وصدق أن ذلك قد يُدْرَك بالعقل، وقد يدرك بالشرع. وقد غَلِطَ الأول في نفيه أن يكون ذلك لما فيه من جلب منفعة إلى العبد ودفع مضرة راجعة إلى نفسه، وإن كان ذلك في الدار الآخرة أيضًا، فإن ذلك أمر محسوس. والثاني غَلِطَ حيث اعتقد أن ذلك ليس لصفة في الفعل، وأن الحُسن والقُبح ليس إلا مجرد إضافة الفعل إلى الأمر والنهي، فأصاب بعض الإصابة في كونه جعل ذلك من الملاءمة للطبع والمنافرة عنه، ومن باب كمال المتصف بذلك ونقصه، ولكن غلط في ظنه أن الحُسن والقُبح العقليين صادرَيْن (1) عن ذلك، ولم يَغلَطْ كل الغلط، فإن الحُسن والقبح الذي يُدرك بالحس وبالعقل وبالشرع، وبالبصر والنظر والخبر، بالمشهور الظاهر وبالباطن، وبالمعقول القياسي وبالأمر الشرعي= هو في الأصل من جنس واحد، فإن كلاًّ يُعْلَم بذلك ويثبت به ما لا يُعلم بالآخر ويثبت به. وهذه الطرق الثلاثة: السمع، والبصر، والعقل، هي طرق العلم: فالبصر -وهو المشهود الباطن والظاهر- يدرك ما في هذه الحركات والإرادات من الملاءمة والمنافرة، والمنفعة والمضرة العاجلة. والسمع -وهو وحي الله وتنزيله- يخبر بما يَقْصر الشهود عن إدراكه من منفعة ذلك ومضرته في الدار الآخرة.

_ (1) كذا في الأصل.

- تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها

فتمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها، فإن كل مولود يولد على الفطرة، والله خلق عباده حُنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرَّمت عليهم ما أحل الله لهم، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزِّل به سلطانًا. هكذا أخبرنا الله فيما روى عنه رسوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1). فهم بفطرتهم يحبون الله وحده ويحبون تناول ما يحتاجون إليه من الطيِّبات، والمحبة تتبع الشهود والإحساس، فهذا الذي في فطرهم من الحس والحركة إلى عبادة خالقهم مما يعينهم عليها من طيبات الرزق، هو وجه الحُسن الثابت بالأفعال الحسنة: مأمُورِها ومبَاحِها، فإن ذلك كله حسن، لما فيه من هذه الملاءمة المناسبة والمحبة التي فطروا عليها، فما كان من ذلك مشهودًا في عالم الشهادة أدرك بالشهود والإحساس، وما كان غيبًا أُدرك بالسمع الذي جاء به المرسلون. والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع، فلابد من أن يعقل ما أمر الله به وأخبر، كما لابد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا، فيعقل الشهادة والغيب، بمعنى ضبط العلم بجريان ذلك على وجهٍ كلي ثابت في النفس. لكن زَعْم أولئك أن العقل يُدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءَمة باطل، كما أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا

_ (1) برقم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي.

ملاءمة فيه باطل، فأولئك إنما نَفَوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من جنس ما عقلوه في البشر، وأنكروا الملاءمة في حقه والمنافرة. وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعًا محضا مبنيًّا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة ولا منافرة، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة، وبغضه للمسيئين بها، وهذا هو المعنى الذي يُعَبِّرون عنه في حقنا: الملاءمة والمنافرة، وإنما أتوا من جهة ما فيهم من نوع تَجهُّمٍ (1). ولهذا أنكر أولئك -مع إنكارهم لهذه الصفات- أنكروا القدر، وهو عموم قدرته ومشيئته وخلقه، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي انطوى عليها الأمر والنهي، وأنكروا أيضًا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة والرحمة. فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق، ولكن قصَّروا في إثبات الرحمة والحكمة والعدل، وأولئك أثبتوا شيئًا من الحكمة والعدل، ولكن قصَّروا في ذلك أيضًا، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق، وإن كان كل من الفريقين لا ينكر أمر الشرع ونهيه. لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرًا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي، وقالوا: هذا يخالف الحكمة المعقولة، كما فعل إبليس وذووه. وغلاة هؤلاء دفعوا أيضًا الأمر والنهي وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، كما قال المشركون. وإبليس أغلظ كفرًا، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة والجماعة.

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (8/ 431 - 436).

- المعروف والمنكر

وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف، والتي تبغضها هي المنكرِ، فإن المعروف هو إحساس مع محبة، والإنكار إحساس مع بغْضة. فأما ما لم يُحَسّ بحال فلا يُعرف ولا ينكر، وما لا يُحب وَلا يبغض بحال فلا يُعْرف ولا ينكر. وإذا حُدِّث الرجل بحديث فأنكره لجهله فإنه أنكر ما لا أحبه سمعُه، وكذلك الحديث المنكر عند أهل الحديث هو ما لم يسمعوه فيحبوه لصحته وصدقه، فإذا سمعوا بذلك أنكروه بعد إحساسه. والمقصود هنا أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذمومًا بل محمودًا، ومن فعل هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذمومًا ولا معاقبًا، ولا يُقال إن هذا عمله لغير الله، فيكون بمنزلة المرائي والمشرك، فذاك هو الشرك المذموم. وأما من فعلها لمجرد المحبة الفطرية فليس بمشرك ولا هو أيضًا متقربًا بها إلى الله، حتى يستحق عليها ثواب من عمل لله وعبده، بل قد يثيبه عليها بأنواع من الثواب: إما بزيادة فيها في أمثالها، فيتنعَّم بذلك في الدنيا، ولهذا كان الكافر يُجزى على حسناته في الدنيا وإن لم يتقرب بها إلى الله، ولو كان فِعْل كل حَسَنٍ إذا لم يُفعل لله مذمومًا يستحق به صاحبه العقاب لما أطعم الكافر بحسناته في الدنيا إذا كانت تكون سيئاتٍ لا حسنات، وإذا كان قد يتنعّم بها في الدنيا ويُطعم بها في الدنيا، فقد يكون من فوائد هذه الحسنات ونتيجتها وثوابها في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه، فيكون له عليها أعظم الثواب في الآخرة.

- معنى قول السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله

وهذا معنى قول بعض السلف (1): طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا لله. وقول الآخر لما قيل له: إنهم يطلبون الحديث بغير نيَّة، فقال: طلبهم له نيَّة، يعنى نفس طلبه حسن ينفعهم. وهذا قيل في العلم لخصوصيته، لأن العلم هو الدليل المرشد، فإذا طلبه بالمحبة وحصَّله عرَّفه الإخلاصَ لله والعملَ له. ولهذا قال من قال: هو من النظر الأول الذي هو مُقدمة العِرفان، فإن القصد والنية مشروط بمعرفة المقصود المنوي به، فإذا لم يعرفه بعدُ كيف يتقرب إليه؟ فإذا نظر بمحبة أو غيرها فعلم المعبود المقصود صح حينئذ أن يعبده ويقصده. وكذلك الإخلاص كيف يخلص من لم يعرف الإخلاص؟ فلو كان طلب علم الإخلاص لا يكون إلا بالإخلاص لزم الدَّوْر، فإن العلم هو قبل القصد والإرادة من إخلاص وغيره، ولا تقع الإرادة والقصد حتى يحصل العلم. وعلى هذا فما ذكره الإمام أحمد عن نفسه هو حسن، وهو حال النفوس المحمودة المستقيمِ حالُها. ومن هذا قول خديجة رضي الله عنها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك لتَصلُ الرحمَ وتَصْدُقُ الحديثَ وتَقْرِيْ الضيفَ وتَحمِلُ الكلَّ وتكسِبُ المعدومَ وتُعِينُ على نوائب الحق. فهذه الأمور كان يفعلها محبة لها، خُلق على ذلك وفُطر عليه، فعلمت أن النفوس المطبوعة على محبة الأمور المحمودة وفعلها لا يوقعها الله فيما يضاد ذلك من الأمور المذمومة، لما قال لها: "قد خشيتُ

_ (1) رُوي ذلك عن معمر وغيره، انظر: "جامع بيان العلم" (1/ 748 وما بعدها) و"الجامع" للخطيب (775).

- هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حسن وقبح

على نفسي". قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا .... الحديث، وهو في الصحيحين (1). وقد تنازع الناس في النبوة: هل هي مجرد إنباء الله لعبده، أو هي راجعة إلى صفات كمالٍ فيه؟ كما تنازعوا في النبوة: هل هي مجرَّد تعلق خطاب الشارع، أو هي راجعة إلى صفات يتميز بها، ولابد من خطاب إلهي أو إنباء؟ ولهذا كانت النبوة أجزاءً، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جُزءًا من النبوة". رواه أهل السنن (2)، فهذا في العمل. وقال في العلم: "الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءً من النبوة" (3). وقال: "ثلاث من أخلاق المرسلين" (4). وهذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح، وكل حمدٍ وذم، فإنه لولا الإحساس الذي يُعتد به في حب حبيب وبغض بغيض لما وجدت حركة إرادية أصلاً تحرك شيئًا من الحيوان باختياره، ولَمَا كان أمرٌ ونهي وثواب وعقاب،

_ (1) البخاري (3 ومواضع أخرى) ومسلم (160) عن عائشة. (2) أخرجه أحمد (1/ 296) والبخاري في "الأدب المفرد" (468، 791) وأبو داود (4776) عن ابن عباس. (3) أخرجه البخاري (6989) عن أبي سعيد الخدري. وفي الباب عن أبي هريرة وعبادة بن الصامت وغيرهما في الصحيحين. (4) أخرجه الطبراني في الكبير مرفوعًا وموقوفًا على أبي الدرداء بلفظ "ثلاث من أخلاق النبوة ... ". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 105): الموقوف صحيح، والمرفوع في رجاله من لم أجد من ترجمه.

فإن الثواب إنما هو بما تحبه النفوس وتتنعم به، والعقاب إنما هو بما تكره النفوس وتتعذب به، وذلك إنما يكون بَعْد الإحساس، فالإحساس والحب والبغض هو أصل ما يوجد في الدنيا والآخرة من أمور الحي، وبه حَسُنَ الأمر والنهي والوعد والوعيد. وذاك الأمر والنهي والوعد والوعيد هو تكميل للفطرة، وكل منهما عون على الآخر، فالشريعة تكميل للفطرة الطبيعية، والفطرة الطبيعية مبدأ وعون على الإيمان بالشرع والعمل به، والعبد من دان بالدين الذي يصلحه فيكون من أهل [العمل] الصالح في الآخرة، والشقيّ من لم يتبع الدين ويَعملِ العملَ الذي جاءت به الشريعة، فهذا هذا، والله أعلم.

(9) فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره

فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره

- من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع

قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلاَّ بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة: أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها. ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير. رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير. خامسها: أن الله تعالى يُخرِج من النار من لم يعمل خيرًا قط بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (1) فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما.

_ (1) سورة الكهف: 82.

ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير. تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير. عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها: المدين قد امتنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه حتى قَضى دينَه أبو قتادة (1)، وقضى دينَ الآخر عليُّ بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من عمل الغير. ثاني عشرها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمن صلى وحده: "ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه" (2)، فقد حصل له فضلُ الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع بعمل الغير.

_ (1) أخرجه البخاري (2289، 2295) عن سلمة بن الأكوع. (2) أخرجه أحمد (3/ 5، 45، 64، 85) والدارمي (1375) وأبو داود (574) وابن خزيمة (1632) عن أبي سعيد الخدري.

خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه، وهو عمل غيره. ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد، وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (1)، وقال تعالى: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) (2)، وقال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (3). فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل الغير. عشروها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يَمونُه الرجل، فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها.

_ (1) سورة الأنفال: 33. (2) سورة الفتح: 25. (3) سورة البقرة: 251، سورة الحج: 40.

حادي عشريها: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون، ويثاب على ذلك ولا سعيَ له. ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يُحصى، فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟

(10) رسالة في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -

رسالة في اتباع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

- فرض الله على أهل الأرض طاعة الرسول واتباعه

إلى ما خُلِقوا له من عبادتِه، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)) (1)، وقال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (2)، وقال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)) (3)، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)) (4). وفرض على أهل الأرضِ: عَرَبِهم وعَجَمهم، وإنْسِهم وجنَهم، ودَانِيْهم وقاصيْهم اتّباعَه وطاعتَه، كما قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)) (5)، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (6).

_ (1) سورة الذاريات: 56 - 57. (2) سورة يوسف: 108. (3) سورة الأحزاب: 45 - 46. (4) سورة الشورى: 52 - 53. (5) سورة الأعراف: 158. (6) سورة سبأ: 28.

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فُضَلْنا على الأنبياءِ بخمسٍ: جُعِلَتْ صفوفُنا كصفوفِ الملائكة، وجُعِلتْ لنا الأرضُ مسجدًا طَهورًا، وأُحِلَّتْ لنا الغنائمُ ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلَنا، وكان النبيُّ يبعث إلى قومِه خاصةً وبُعِثتُ إلى الناس عامةً". أخرجاه في الصحيحين (1). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والذي نفسي بيده لا يَسمَعُ بي في هذه الأمة يهوديّ ولا نَصرانيّ ثمَّ لا يُؤمنُ بي إلاّ دَخَلَ النارَ". رواه مسلم (2). وتصديقُه قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (3). ولم يَجعَلْ لأحدٍ بلغَتْه رسالتُه وصولاً إلى الله وإلى رحمتِه إلاّ بمتابعتِه، كما قال تعالى: (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (4)، وقال في الآية الأخرى: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)) (5)، وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)) (6).

_ (1) البخاري (335، 438) ومسلم (521) بلفظ: "أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهن أحدٌ قبلي ... "، وليس فيه "جُعِلَتْ صفوفنا كصفوف الملائكة"، وهذا الجزء ضمن حديث حذيفة عند مسلم (522). (2) برقم (153) عن أبي هريرة. (3) سورة هود: 17. (4) سورة آل عمران: 84 - 85. (5) سورة البقرة: 137. (6) سورة آل عمران: 31.

- افتراق الناس فيما جاء به الرسول ثلاث فرق

وقال الحسن البصري وغيره (1): ادَّعتْ طائفة أنهم يُحبُّون الله على عهدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لهم: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)، فجعلَ اتباعَ الرسول مُوجِبَ محبَّةِ العبدِ ربَّه جلَّ وعلاَ، موجبًا لمحبّهِ الربِّ تعالى عبدَه ومغفرتِه ذنوبَه. وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلُّ الناس يَدخُلُ الجنَّةَ إلاّ من أبَى"، قالوا: يا رسولَ الله! ومن يأبَى؟ قال: "من أطاعَنِي دَخَلَ الجنَّةَ، ومن عَصَانِي فقد أبي". كقوله تعالِى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)) (3)، وقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)) (5). وهذا بابٌ واسعٌ، وهو متفقٌ عليه بين المسلمين. فافترقَ الناسُ فيما جاء به الرسولُ ثلاثَ فِرَق: فرقة امتنعوا من اتباعِه، كاليهود والنصارى والمشركين ونحوهم، فهؤلاء كُفّارٌ تَجِبُ معاملتُهم بما أمر الله به ورسولُه.

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 155) عن الحسن وابن جريج. (2) البخاري (7280) عن أبي هريرة. (3) سورة النساء: 13 - 14. (4) سورة النساء: 65. (5) سورة النساء: 64.

وقسم آمنوا بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، واتبعوا ما جاء به الرسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقسم أظهروا الإيمانَ بألسنتهم، ولم يَدخُلِ الإيمانُ في قلوبِهم. فهؤلاء المنافقون الذين قال الله فيهم: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)) (1) إلى آخر السورة. وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)) (2) إلى تمام ثلاث عشرة آية. وأنزل الله في صفاتهم سورة براءة، وذكرهم في غيرِ موضع من القرآن، وأمرَ رسولَه بجهادِهم كما أمرهُ بجهاد الكفار. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)) (3). وأما الكفار فيجاهَدون حتى يُؤمنوا أو يُؤَدُّوا الجزيةَ إن كانوا من أهلِها، كما قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)) (4).

_ (1) سورة المنافقون: 1. (2) سورة البقرة: 8 - 10. (3) سورة التحريم: 9، وسورة التوبة: 73. (4) سورة التوبة: 29.

- المنافقون قسمان: قوم نافقوا في أصل الدين، وقوم نافقوا في بعض أمور الدين

وأما المنافقون فجهادُهم بإقامةِ الحدود عليهم، هكذا ذكره السلف، لأنهم يُظهِرون الإسلام بألسنتهم، فإذا خَرجوا عن موجب الدين أُقِيمَ الحدُّ عليهم، وهم قسمانِ: قوم نافقوا في أصل الدين، وأظهروا الإيمان بالله ورسوله، وليس ذلك في قلوبهم، بل هم غافلون عما جاء به الرسولُ ومُعرِضون عنه، إلى الاشتغالِ بدينِ غيرِه، والاشتغالِ بالدنيا عن نفسِ إيمانِ القلوب، وأضمروا تكذيبَ الرسولِ أو بُغضه أو معاداتَه أو معاداة ما جاءَ به. فمتى لم يكن الإيمانُ بالله ورسوله في قلوبِهم كانوا منافقين في أصلِ الدين، سواءٌ كانوا معتقدين لِضدِّ ما جاء به الرسولُ أو خَالِينَ عن تصديقِه وتكذيبه، كما أنّ كلَّ من لم يُظْهِر الإسلامَ فهو ظاهرُ الكفر، سواء تكلَّم بَضدِّه أو لم يَتكلَّم. ولا يُنْجِي العبادَ من عذاب الله تعالى إلاّ إيمان يكون في قلوبهم، حتى إذا سُئِل أحدُهم في الَقبر فقيل له: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ قال: ربِّي الله، والإسلامُ ديني، ومحمد نبيِّي، فيُفتَح له باب إلى الجنَّة، وينام نومةَ العروسِ الذي قد دخلَ بامرأتِه، لا يُوقِظُه إلاّ أحبُّ أهلِه إليه. وأما المنافقُ فيقولُ: هاه هاه، لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُ مثلَهم، فيُضْرَبُ بمِرْزَبةٍ من حديدٍ، فيَصِيح صيحةً يَسمعُها كلّ شيء إلاّ الإنسان، ولو سمعَها الإنسانُ لصَعِقَ (1). قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 287، 288، 295، 297) وأبو داود (4753) وابن ماجه (1548، 1549) من حديث البراء بن عازب. وأصله في الصحيحين مختصرًا.

- المعاملة مع من خرج عن بعض أمور الدين

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) (1). والقسم الثاني: المنافقون في بعض أمور الدين، مثل الذي يُكثِر الكَذِبَ أو نَقْضَ العهدِ أو خلافَ الوعدِ، أو يَفْجُر في الخصومة. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهنَّ كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلفَ، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر". أخرجاه في الصحيحين (2). وقد أوجبَ الله تعالى على أهلِ دينه جهادَ مَن خَرَجَ عن شيءٍ حتى يكونَ الدينُ كلُّه لله، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ). (3) فمن خَرَجَ عن بعضِ الدين إن كانَ مقدورًا عليه أُمِرَ بالكلام، فإن قَبِلَ وإلاّ ضرِبَ وحُبسَ حتى يؤديَ الواجبَ ويَتركَ المحرَّم، فإن امتنعَ عن الإقرارِ بما جَاء به الرسولُ أو شيءٍ منه ضُرِبَتْ عُنُقُه. وإن كان في طائفةٍ ممتنعةٍ قُوتِلُوا، كما قاتلَ أبو بكر رضي الله عنه وسائرُ الصحابة مانعي الزكاةِ، مع أنهم كانوا مُقِرِّينَ بالإسلام بَاذِلينَ للصلواتِ الخمسِ، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: واللهِ لو مَنَعُوني عَنَاقًا كانوا يُؤدُّونَها إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتُهم على

_ (1) سورة النساء: 145 - 146. (2) البخاري (34، 2459، 3178) ومسلم (58) عن عبد الله بن عمرو. (3) سورة الأنفال: 39.

- المنتسبون إلى علم أو دين أو إمرة أو رئاسة، فيهم الأبرار والفجار

مَنْعِها (1). وكما قاتلَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومَن معه من الصحابة الخوارجَ، الذين قال فيهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَحْقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم وصيامَه مع صيامِهم وقراءتَه مع قراءتِهم، يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ حَناجرَهم، يَمْرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّة، أينَما لَقَيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قَتْلِهم أجرًا عند الله لمن قَتَلَهم يومَ القيامةِ" (2). وهؤلاء الخوارجُ الحَرُوريةُ هم أولُ من ابتدعَ في الدين وخَرج عن السنةِ والجماعة، حتى إنّ أوَّلَهم خَرجَ عن سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياتِه، وأنكرَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِسْمةَ المالِ، وأنزلَ الله فيهم. وفي أمثالِهم: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (3). قال ابن عباس وغيرُه: تبيضُّ وجوهُ أهلِ السنة وتَسْوَدُّ وجوهُ أهلِ البدعةِ والفُرقة (4). فكلُّ من خرج عن كتابِ الله وسنةِ رسوله مِن سوائر الطَّوائِفِ فقد وجب على المسلمين أن يَدْعُوهُ إلى كتاب الله وسنّة رسوله بالكلام، فإنْ أجاب وإلا عاقبُوهُ بالجَلْدِ تارةً، وبالقتلِ أُخرى على قَدْرِ ذَنبه، وسواء كان مُنْتَسِبًا إلى الدينِ مِنَ العلماء والمشايخ أو مِن رُؤَساء الدنيا من الأمراء والوزراء، فإنَّ من هؤلاء فيهم الأبرارُ والفُجَّارُ.

_ (1) أخرجه البخاري (1400 ومواضع أخرى) ومسلم (20) عن أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (3610 ومواضع أخرى) ومسلم (1064) عن أبي سعيد، وبعضه عند البخاري (3611) ومسلم (1066) من حديث عليّ. (3) سورة آل عمران: 106. (4) انظر تفسير ابن كثير (2/ 747).

فأبرارُهم هم أئمَّةُ الدِّين وهداةُ المسلمين وصالحُو المجاهدين أهلُ الإيمان والقرآن؛ والحاملُ النَّاصرُ للإيمان والقرآن، هُمْ صَفْوَةُ الله من عباده وخِيَرَتُه من خلقِه، وموضعُ نظرِ اللهِ إلى الأرضِ، وورثةُ الأنبياء وخَلَفُ الرُّسُل، قال الله تعالى فيهم: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) (1). والبُشْرَى قد فَسَّرَها النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرؤيا الصَّالحةِ يَراها المؤمنُ أو تُرَى له (2)، وبالثَّناءِ الحَسَنِ مِن المؤمنين (3). ومُرَّ على النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجنازةٍ فأَثنوا عليها خيرًا، فقال: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ"، ومُرَّ عليه بجنازةٍ فأثنوا عليها شَرًّا، فقال: "وَجبتْ وَجَبَتْ"، قالوا: يا رسولَ الله! ما قولك وَجَبتْ؟ قال: "هذه الجنازة أثنيتُم عليها خيرًا فقلتُ وَجَبَتْ لها الجَنَّةُ، وهذه الجنازة أثنيتُم عليها شَرًّا فقلتُ وَجَبَتْ لها النَّارُ، أنتُم شُهَدَاءُ الله في الأرض" (4). فمن شَهِدَ له عُمُومُ المؤمنين بالخيرِ كان مِن أهل الخير، ومَن شُهِدَ له بالشَّرِّ كان من أهل الشَّرِّ.

_ (1) سورة يونس: 62 - 64. (2) أخرجه أحمد (5/ 315، 321) والدارمي (2142) وابن ماجه (3898) عن عبادة بن الصامت. وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره. انظر تفسير ابن كثير (4/ 1759، 1760). (3) أخرجه مسلم (2642) عن أبي ذر. (4) أخرجه البخاري (1367، 2642) ومسلم (949) عن أنس.

وهؤلاء الفُجَّارُ المنتسبون إلى عِلمٍ أو دينٍ أو إِمْرَةٍ أو رِئَاسةٍ كالذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) إلى أن قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)) (1) وقد قالي تعاِلٍي كتابه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)) (2)، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المغضُوب عليهم: اليهودُ، والضَّالِّين هم: النصارى" (3). قال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح. قال العلماء: فمن أُوتِيَ عِلْمًا فلم يَعْمَلْ به كان فيه شَبَهٌ من اليهود الذين عرفوا الحقَّ ولم يتَبعُوه، ومَن عَبَدَ الله بلا عِلمٍ كان فيه شَبَه مِن النصارى الذين ابتدَعُوا الرَّهبانيةَ وعبدُوه بغير شريعةٍ. وأما المؤمنونَ حقًّا فهُمُ المتمسكُونَ بالشريعة والمِنْهَاج المحمَّدِيِّ كما قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (4) وقال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)) (5).

_ (1) سورة التوبة: 34. (2) سورة الفاتحة: 6 - 7. (3) أخرجه أحمد (4/ 378) والترمذي (2953، 2954) عن عدي بن حاتم. وانظر تفسير ابن كثير (1/ 164 - 165). (4) سورة المائدة: 48. (5) سورة الجاثية: 18.

- من أعظم الناس ضلالا: من ابتدع في دين الله مالم يأذن به الله، أو ضم إلى ذلك أنواعا من التكذيب والتلبيس

ومن أعظم هؤلاء ضَلالاً: مَن انتسَبَ إلى إمام أو شيخ من شيوخ المسلمين، وابتدَعَ في دين الله ما لم يأذن به الله، أو ضَمَّ إلى ذلك أنواعًا من التكذيب والتلبيسِ، كهؤلاء المُتَوَلِّهينَ الذين يَفْتِلُونَ شُعُورَهم، ومَن وافقهم من المُظْهِرِين كمُحَرقة النَّار واللاذَنِ وماءِ الوَرْدِ والسُّكَّرِ والعسلِ والدم مِن صُدُورهم، وإمساكِ الحَياتِ زاعمينَ أنَّ ذلك كرامة لهم؛ واحتيالاً عن الصدِّ عن سبيل الله، وأكلِ أموال الناسِ بالباطلِ. أمَّا فَتْلُ الشُّعور ولفِيفُهَا فبدعة ما أمر بها نبىٌّ ولا رجل صالح ولا فعلها مَن يُقتدى به، بل قد شَرَعَ الله ورسوُله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّرجُّل مِن تَسْريح الشَّعر ودَهْنِه. ودخل عليه رجلٌ ثائرُ الشَعر فقال: "أَمَا وَجَدَ هذا ما يُسَكِّنُ به شَعْرَهُ؟ " (1). ولعَنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواصلة والموصولةَ (2)، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (3). وأمر بإحفاءِ الشارب وإعفاء اللِّحية (4)، وقال: "مَن كان له شَعْرٌ

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 357) وأبو داود (4062) والنسائي (8/ 183) عن جابر ابن عبد الله. وصححه ابن حبان والحاكم. (2) أخرجه البخاري (5941) ومسلم (2122) عن أسماء. وفي الباب أحاديث أخرى. (3) أخرجه البخاري (5885) عن ابن عباس. (4) في أحاديث عديدة في الصحيحين وغيرهما.

- من أعظم المنكرات: معاشرة الرجل الأجنبي للنسوة ومخالطتهن

فليُكْرِمُهُ" (1)؛ لا سيما والشَّعْرُ إذا كان لا يَدْخُلُ فيه الماءُ إلى باطنِه، لا يصحُّ الاغتسال من الجنابة، ويبقى صاحبُه لا طهارةَ له ولا صلاةَ، ومَن لا صلاة له لا دين له. وكذلك معاشرة الرجل الأجنبي للنسوةِ ومخالطتُهنَّ مِن أعظم المنكرات التي تأباها بعضُ البهائم فضلاً عن بني آدم، قال الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (2)، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (3). وفي "الصحيح" (4) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إيَّاكم والدُّخُولَ على النِّساءِ" قالوا: يا رسول الله، أَفَرَأيْتَ الحَمْوَ؟ قال: الحَمْوُ المَوْتُ". فإذا كان قد نهَى أن يدخُلَ على المرأة حموُها أخُو زَوْجِهَا، فكيف بالأجنبيِّ؟ وقال (5): "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامرأةٍ، فإنَّ ثالثَهُما الشَّيطَانُ". وقال (6): "لا تسافرِ المرأةُ مَسِيرَةَ يومين إلا مَع زوج أو ذِي مَحْرَمٍ".

_ (1) أخرجه أبو داود (4163) عن أبي هريرة. (2) سورة النور: 30. (3) سورة النور: 31. (4) البخاري (5232) ومسلم (2112) عن عقبة بن عامر لا ابن عباس. (5) أخرجه أحمد (1/ 18، 26) والترمذي (2165) وابن ماجه (2363) عن عمر. (6) أخرجه البخاري (1197) ومسلم (بعد رقم 1338) عن أبي سعيد.

وكان إذا صلى في مسجده يُصلِّي الرِّجالُ خلفَه وخلفَهم النساءُ، فإذا قضَى الصلاةَ مَكَثَ هو والرجالُ حتى يَخْرُجَ النساءُ لئلاَّ تختلط النساءُ بالرجال. وقال (1): "خيرُ صفوفِ الرجالِ أولُها، وشرُّها آخرُها، وخيرُ صفوفِ النساءِ آخرُها، وشرُّها أولُها". وقال أيضًا (2): "يا معشرَ النِّساءِ! لا تَرْفَعْنَ رؤوسكُنَّ حتى يَرْفَعَ الرجالُ رؤوسَهم مِن ضيقِ الأُزْرِ"، لئلاَّ تَبْدُوَ عورةُ الرجالِ فتراها المرأة. وأَمَرَ النساء إذا مَشَيْنَ في الطريق أن يمشينَ على حافةِ الطريق ولا يَحْقُقْنَ الطريقَ (3) -أي: لا يَكُنَّ في وَسَطِه- بل يكونُ وَسَطَه الرجالُ لئلاَّ يَمَسَّ مَنْكِبُ الرجلِ مَنْكِبَ المرأة، حتى يُروَى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تَرَكَ بابًا من أبواب المسجد للنساء، ونهَى الرجال عن دخوله، فكان عبد الله بن عمر لا يدخله (4). وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما مَسَّتْ يَدُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ امرأةٍ لم يَمْلِكْها قَطُّ" (5).

_ (1) أخرجه مسلم (440) عن أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (362) ومسلم (441) عن سهل بن سعد. (3) أخرجه أبو داود (5272) عن أبي أسيد الأنصاري. (4) أخرجه أبو داود (462، 463) مرفوعًا وموقوفًا، وقال: وهو أصح. (5) أخرجه البخاري (2713 ومواضع أخرى) ومسلم (1866).

- التوله والتجانن وقلة العقل ليس قربة وطاعة

ولما جاء النساء يُبايعْنَه، قال: "إنِّي لا أُصافحُ النِّساءَ، وإنَّما قولي لمِئَةِ امرأة كقولي لاَمرأةٍ واحدةٍ" (1). ويروى (2) أنه وَضع يده في إناءٍ فيه ماءٌ، ووضعْنَ أيدِيَهُنَّ فيه، ليكون ذلك عِوَضًا عن مصافحة النساء. كل ذلك لئلا يمسَّ الأجانبَ، وهو رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتزوجَ بتسع؛ وسَيدُ الخَلق وأكرمُهم عند الله تعالى، فكيف بهؤلاء الضُّلاَّل المبتدعينَ الخارجينَ عن الإسلام الذين يجمعون بين النساءِ والرجالِ في ظلمة أو غير ظلمةٍ؟ ويُوهِمُ بعضُهم للنساء أن مباشرة الشيخ والفقراء قربة وطاعة، وأنه مُسْقِطٌ للصلاة، ويتخذونَ الزِّنَا والقيادةَ عِبَادةً، ويتركون ما أمر الله تعالى به من الصلوات واجتناب الفواحش، فما أحَقَّهم بقوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) (3). ثم يَعُدُّونَ التَّوَلُّهَ والتجَانُنَ وقِلةَ العقل والخروجَ عن العقل والدين قُرْبَةً وطاعةً، ويوهِمون الجُهَّالَ والأغْمَارَ من الأعراب والأتراك والفلاَّحين والنِّسوان أنَّ هؤلاء صَفْوَةُ الله تعالى، وإنَّ هؤلاء قد وَرَدَ عليهم مِن الأحوالِ ما جعلهم هكذا، فيتصرَّفُون في النفوس والأموال تَصَرُّفُ اللِّصِّ الخادع والمنافقِ المُخادع، مُوهِمِينَ حُصُولَ البركةِ

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 357) والترمذي (1597) والنسائي (7/ 149، 152) وابن ماجه (2874) عن أميمة بنت رقيقة. وقال الترمذي: حسن صحيح. (2) أخرجه ابن إسحاق في السيرة، كما في "الفتح" (8/ 637). (3) سورة مريم: 59.

- الجنون وأسبابه

لمَنْ أفسدوا عليه دِينَه ودُنْياه، كما يَفعل الرُّهبانُ والقسِّيسونَ بعَوامِّ النصارى، وهذا شيءٌ لم يَبْعَثِ الله به نبيًّا ولا قاله رجلٌ صالح قط، ومَن كان مِن الناس قد ذهب عقلُه حتى صار مجنونًا فقد رُفِعَ القلَم عنه، كما قال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفِعَ القلمُ عن الصبيِّ حتى يبلُغ، وعن النائِم حتى يستيقِظَ وعن المجنون حتى يُفِيقَ" (1). وينبغي أن يُعالَجَ هذا بما يُعالَجُ به المجانين، فإنَّ الجُنُونَ مَرَض من الأمراض أو عارض من الجنّ، ومِن هؤلاء قوم لهم قلوبٌ فيها تأله وإنابةٌ إلى الله تعالى ومحبة له وإعراض عن الحياة الدنيا، قد يُسَمَّونَ "عُقَلاء المَجَانِين"، وقد يُسَمَّون "المُوَلهين" فهم كما قال فيهم بعضُ العلماء: "قومٌ أعطاهم الله عُقُولاً وأحوالاً فسلَب عُقُولَهم وأبقى أحوالَهم، فأسْقَطَ ما فَرَضَ بما سَلَبَ". فالمجانين كالعُقَلاء فيهم مَن فيه صَلاَحٌ، وفيهم مَن لا صَلاَح له. وسَبَبُ جُنُونِ أحدِهم: إمَّا وارِد وَردَ عليه من المحبة أو المخافة أو الحُزْنِ أو الفَرح حتى انْحَرفَ مِزَاجُه. أو خَلْط غَلَبَ عليه من السَّوداءِ. أو قَرِين قُرِنَ به من الجِنِّ. فهؤلاء إذا صحَّ أنهم مجانينُ ومولَّهونَ كانوا في قسم المعذورين الممنوع (2) على الفساد، ولا يحلُّ الاقتداءُ بِمَن فيه منهم صلاح؛

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 100، 101، 144) والدارمى (2301) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2541) عن عائشة وفي الباب عن علي. (2) كذا في الأصل.

ولا اتباعُ ما يقولُ من الأقوالِ والأفعالِ إلاَّ أن يُوافِقَ الشريعةَ. ولا ينبغي تعظيمُهم، فإنهم منقُوصُونَ مجروحون، وصالِحُو العقلاءِ أفضلُ منهم بكثيرٍ كثير، وليس فيهم وليٌّ ولا صالحٌ مشهور، وإنما يَغْتَرُّ بهم بعضُ الجُهَّال، لأنَّ جُنُونَهم يُوجبُ أن يُظْهِرَ بعض ما في بواطنهم من كشفٍ أو زُهْدٍ أو تأثيرٍ فَيَسْتَعْظِمُ الجاهلُ ذلك. وصالحُ العقلاء قد يكونُ معه أضعافُ ذلك، ولا يُظهرُه إلاّ حيث يراه مَصْلَحَةً، وقد يكون كِتْمَانُه أصلحَ لهم؛ فأما هؤلاء المفتلون الشَّعْرَ ونحوهم، فعامَّتُهم مُتَوَلِّهُون لا مُوَلَّهُونَ، يُظهِرُون ذلك كذبًا ومكرًا ومخادعةً للجهّال، كي يَتميَّزُوا بذلك ممَّا يُريدُونَه مِن النفوس والأموال، وحتى لا ينكَرَ عليهم ما يقولونه ويفعلونه من القبيح، فيقول الجاهلُ: هذا مُوَلَّهٌ. وأحدُهم يميِّزُ بين الدِّرْهم والدينار، والغنيِّ والفقير، ويَعْرِفُ الخَيْرَ والشَّرَّ، وله فكرٌ طويلٌ في الحيلةِ التي يَحْتَالُ على الجُهَّال بها، ويَتَوَاجدون عند السماع المُحْدَثِ أو غيره، فيصيحون ويزعقون ويَزْبدون ويتغَاشَى أحدُهم، فبعض ذلك كذبٌ ومكرٌ وحيلة، وبعضُه عادة فاسدة وطريقةٌ سيئه. وقد يُقْرَنُ بأحدهم قرين من الجنِّ فيُعينُه على ذلك، كما أنَّ المصروعَ يُزْبِدُ ويصيحُ كما يجري لهؤلاء؛ وشيوخُهُم يُقِرُّونَهم على ذلك [للاحتيال] على الجهال وأَكْلِ أموال الناس بهم؛ وإلاّ فقد أجمع المسلمونَ بلْ واليهود والنصارى أنَّ هؤلاء ضُلاَّلٌ وفَسَقَةٌ، وأن الواجب توبتُهم واتباعُهم لِمَا أمر الله به وتَرْكُ ما نهَى عنه، بل الواجب إذا رأينا

- عامة ما يبديه هؤلاء المولهون مكر وحيلة

مُوَلَّهًا أو مجنونًا أن نُعالِجَه حتى يصير عاقلاً، فهؤلاء يَعْمِدونَ إلى الصبيانِ يُرَبُّونهم على التولُهِ تربيةً، ويُعَوِّدُونهم الخروجَ عن العقل والدين عادةً كما يُعَوِّدُ الأنبياءُ والصالحونَ أتباعَهم ملازمةَ العقل والدين. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "مروهم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجع". قال العلماءُ: يجبُ على كافلِ الصبيِّ أن يُعَلِّمَه الطهارةَ والصلاةَ، ويمنعَه اعتيادَ المُحَرَّمات. وهؤلاء بخلاف ذلك، وعامَّةُ ما يُبْدُونَه من النار ونحوها مكر وحيلة من جنس حِيَلِ الرُّهبان، فإنهم يتوسَّلُون بالطَّلق ودهْنِ الضَّفادع وماءِ النارَنْج إلى أن يَصفُوَ ذلك، ثم يَطْلُونَ به لحومَهم وثيابَهم، فتَصْبِر على النارِ مُدَّةً طويلةً من الزمان، وكذلك يصنعونَ من دَمِ الأخوين ونَبتٍ يُقال له: أمُّ عربيل ما يُظْهِرون به أنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ من أحدهم وقتَ الوَجْدِ، وكذلك اللاذن ونحوه، وأضعاف ذلك، كفعل الرُّهبان على عوامِّ النصارى حِيَلاً أعظمَ من هذه. وللصالحين كرامات معروفة من تسخير السِّباع والنارِ لهم وتكثير الطعام والشراب ودفع البلاء، ومن المكاشفاتِ وأنواع الخوارق للعادات، في أبواب العلم وأبواب القدرة، لكن طريقةُ الصالحين

_ (1) أخرجه أحمد (2/ 180، 187) وأبو داود (495، 496) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن.

- علامة الفاجر الكذب والفجور

طاعةُ الله ورسوله وملازمةُ الكتاب والسنة، وأقلُّ أحوالهم الصدقُ والبر، كما [أنّ] علامة الفاجر الكذبُ والفجور. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "عليكم بالصدق فإنَّ الصدقَ يهدي إلى البِرِّ وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقًا، وإيَّاكم والكذبَ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذبُ ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّابًا". وهكذا قال الله تعالى في القرآن: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)) (2). فأخبرَ أنَّ الشياطين تنَزَّلُ على الكذَّاب في قوله، الفاجر في فعله، كما كانت تنَزَّلُ على المتنبِّئين الكذَّابين مثل الأسودِ العَنْسِيِّ ومسيلمة الكذاب والمختارِ بن أبي عبيد؛ حتى قالوا لابن عمر أو لابن عباس (3) رضى الله عنهما: إن المختارَ يَزْعُم أنه يُنَزَّلُ عليه فقال: صَدَقَ: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)). وقالوا لآخر (4): إنه يزعُمُ أنه يوحى إليه، فقال: صَدَقَ: (وَإِنَّ

_ (1) أخرجه البخاري (6094) ومسلم (2607) عن عبد الله بن مسعود. (2) سورة الشعراء: 221 - 222. (3) هذا مرويّ عن عبد الله بن الزبير، كما في تفسير الطبري (19/ 77). وروي عن ابن عمر وابن عباس نحوه واستشهدا بآية سورة الأنعام. انظر تفسير ابن كثير (3/ 1356). (4) روي عن ابن عمر في المصدر السابق.

- تفضيل الشيخ على الرسول غلو مثل غلو النصارى

الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) (1). فمن كان من أتباع الكذابين المتنبئين، فإنَّ أولئك كان يَظْهَرُ عليهم أشياءُ، والساحرُ والمُشَعْبذُ يَفعل أشياءَ، فإذا جاءت عَصَا الشريعةِ المحمدية ابتلعتْ ما صَنعَه الخارجون عنها من السِّحْر المُفْتَرَى، (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)) (2). وقد يُفَضِّلُ شيخَه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلُوًّا فيه، كما غَلَتِ النصارى في المسيح بن مريم عليه السلام، وغلتِ الرافضةُ في عليٍّ رضي الله عنه، بل الغاليةُ من النصارى والرَّافضة أَعْذَرُ من هؤلاء الغالية في بعض المشايخ المسلمين، كبعض المنتسبين إلى الشيخ أحمد بن الرِّفاعيّ والشيخ عَدِيٍّ أو الشيخ يونُسَ (3). ... له في الصيام وبعضُهم في الصدقة وبعضُهم في العلم وبعضهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أنواع أُخَرَ، مع اتفاق قلوبِهم واجتماع كلمتِهم واعتصامهم بحبل الله تعالى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)) (4).

_ (1) سورة الأنعام: 121. (2) سورة طه: 69. (3) سقطت بعده ورقة أو أكثر، فذهب بعض الكلام. (4) سورة آل عمران: 102 - 103.

- من اتبع غير الرسول في كل أقواله وأفعاله أو غلا في محبته وتعظيمه فهو مثل النصارى

وقد يتنازعون في بعض أمور الدين، فإذا تنازعوا في شيءٍ من ذلك رَدُّوهُ إلى الله تعالى ورسوله، والكتاب والسنة، كما أمر الله ورسوله، وليس أحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعَ كلُّ ما يقوله ويفعلُه، بل كلُّ أحد يُؤخَذُ من قوله وفعله ويتركُ إلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه الإمامُ الذي فرضَ الله طاعتَه وأوجَب متابعتَه. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبتِه (1): "إنَّ أصدق الكلام كلام الله، وإن خير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". فمن اتبع رجلاً غير الرسول -صلوات الله وسلامُه عليه- في كلِّ أقوالِه وأفعالِه مُعْرضًا عن الكتاب والسنة، أو غَلا في محبَّةِ بعضهم وتعظيمه حتى جاوزَ به حدَّه، وفضَّلَه على نُظَرائه تفضيلاً كثيرًا بلا بيِّنة، فهو مُضَاهٍ للنصارى الذين قال الله في حقهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (2) الآية، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا) (3) الآية، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (4) الآية، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (5) الآية.

_ (1) أخرجه مسلم (867) عن جابر. (2) سورة التوبة: 31. (3) سورة آل عمران: 79. (4) سورة سبأ: 22. (5) سورة المائدة: 77.

فإن الله تعالى ذَمَّ النصارى بكونهم غَلَوْا في الأنبياء والعلماء والعُبَّاد حتى جاوزوهُم حَدَّهم، فعبدُوهم حيث أطاعوهم فيما ابتدع (1) الأحبار والرهبان من الدين، وحللُوا لهم الحرام وحرَّموا عليهم الحلال، هكذا فسَّرَهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ واعتقدوا في المسيح نوعًا من الإلهية، وضاهاهم على ذلك مَن اعتقد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرِه من الأئمة أو بعض الأنبياء نوعًا من الإلهية، ومَن اعتقد في بعض الشيوخ نوعًا من الإلهية، حتى إنهم سجدوا لهم أحياءً وأمواتًا، ويَرْغَبُونَ إليهم في قبورهم في جلب المنافع ودفع المضارِّ، كما كان المشرِكون يرغبون إلى آلهتهم، ولهذا قال سبحانه وتعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (2). قال ابن مسعودٍ وغيرُه (3): كان أقوام يدعون عُزَيرًا والمسيح والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم يتقرَّبون إلى الله كما تتقرَّبون إليه ويرجون الله ويخافونه. كما قال بعضُ الفقهاء: إنَّ بعض الفقراء أوصاه عند موته: إذا كان لك حاجة أو أمر مُهِمٌّ أو ضيقٌ استوحِني أو استوحِ بي. نعوذ بالله من الشرك والضلال، وهم لا يملكون كشف الضرِّ

_ (1) في الأصل: "ابتدعوا". (2) سورة الإسراء: 56 - 57. (3) انظر تفسير الطبري (15/ 72 - 73) وابن كثير (5/ 2103).

عنكم ولا تحويلا، وكما قال سبحانه: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (1) وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2) وقال تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (3). فهؤلاء الضُّلاَّلُ عَمَدوا إلى ما لم يشرَعْه الله تعالى من البدع والضلالات والغُلُوِّ في الصالحين، وتمسَّكوا به وعَمَدُوا إلى دين الله تعالى الذي بَعَثَ به رسولَه فأعرضوا عن بعضِه؛ وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4): "بنيَ الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله وإقام الصلاة وإيتاءِ الزكاة وصومِ رمضان وحَجِّ البيت". وقال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمَّا سأَله جبريلُ عليه السلام عن الإسلام والإيمانِ والإحسان قال (5): "الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وإنَّ محمدًا رسولُ الله وتُقيمَ الصلاة وتُؤتي الزَّكاة وتَصومَ رمضان وتَحُجَّ البيتَ، والإيمانُ أن تؤمن بالله وملائكته [وكتبه] ورسلِه والبَعْثِ بعد الموت

_ (1) سورة سبأ: 22 - 23. (2) سورة البقرة: 255. (3) سورة الأنبياء: 28. (4) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) عن ابن عمر. (5) أخرجه مسلم (8) عن عمر. وأخرجه البخاري (50، 4777) ومسلم (9، 10) عن أبي هريرة نحوه.

- على المؤمن أن يدعو إلى الدين وينتسب إليه

وتُؤمنَ بالقدر خيرِه وشرِّه، والإحسانُ أن تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكن تراه فإنَه يراكَ" وقال: "هذا جبريلُ أتاكمْ ليُعَلِّمَكُم". فالمؤمنُ يدعو إلى الدين وينتسبُ إليه، وعليه أن يَدْعُوَ إلى الإسلام والإيمان والإحسان، ومِن ذلك: عِمارةُ المساجد بالصَّلوات الخمس وقراءةُ القرآن وذكرُ الله تعالى ودُعاؤه وأنواعُ العبادات وتعلُّم العِلم وتَعليمُه، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخُلَفاؤُه عليه، فإنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرَ أنَ أمتَه ستفترقُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كُلُّها في النار إلا واحدةً، قالوا: [مَن هي يا رسول الله؟ قال:] "هي الجماعةُ" (1)، وفي رواية (2): "مَن كان على مِثْلِ ما أنا عليه اليومَ وأصحابي". قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (3) الآية، وقال تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (4) الآية، وقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (5). فأمرَ الله بالصلاة والمحافظة عليها؛ والذَّمُّ لمن أضاعها أكثرُ مِن

_ (1) أخرجه ابن ماجه (3992) عن عوف بن مالك. وفي الباب عن معاوية بن أبي سفيان عند أحمد (4/ 102) والدارمي (2521) وأبي داود (4597). وسعد بن أبي وقاص عند عبد بن حميد في مسنده (148). (2) رواها الترمذي (2641) عن عبد الله بن عمرو، وقال: هذا حديث حسن غريب مفسَّر. (3) سورة النور: 36. (4) سورة الأنعام: 52. (5) سورة طه: 132.

أنْ يُذكر هنا، حتى إنه أوجب الصلاةَ في الأمن والخوف، رجالاً وركبانًا في الإقامة والسفر، وفي الصحةِ والمرضِ، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حُصين (1): "صَلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْبٍ". وحتى إنه إذا عَدِمَ الماء أو خاف الضَّرر باستعماله أُمِرَ بأنْ يتيممَ بالصَّعيدِ الطيِّب والتمسُّحِ له، ولا يجور تأخيرُها عن وقتها بحالٍ من الأحوال، إلا أنه في حال العُذْرِ يكونُ الوقت مشتركًا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فيجوز الجمعُ بين العشاءين. وشرعَ اللهُ ورسولُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلواتِ الخمسَ والجماعاتِ، حتى أمرهُم الله أنْ يُقيموها في الجماعةِ حالَ الخوف، قال الله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) (2) الآية. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3): "لقد هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بالصلاة فتُقامَ، ثمَّ أنطَلِقَ مع رجالٍ معهم حُزَم مِن حَطَبٍ إلى قومٍ لا يشهدونَ الصلاةَ، فأُحَرقَ عليهم بيوتَهم بالنار". وقال (4): "تفضُلُ صلاةُ الجماعة على صلاة الفَذ خَمْسًا وعشرين درجةً".

_ (1) أخرجه البخاري (1117) عن عمران. (2) سورة النساء: 102. (3) أخرجه البخاري (644 ومواضع أخرى) ومسلم (651) عن أبي هريرة. (4) أخرجه البخاري (646) عن أبي سعيد.

- حال الصحابة عند سماع القرآن

وقد شرع الله للمسلمين سماع كتابه في الصلاة وخارج الصلاة، لا سيَّما في صلاة الفجر، كما قال تعالى: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1). وكان أصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (2): "يا أبا موسى ذَكَرْنَا ربَّنا" فيقرأُ وهم يستمعون. وقد رُوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خرج على أهل الصُّفَّةِ فوجدَ فيهم رجلاً يقرأ وهم يستمعون، فجلس معهم يستمعُ (3). وكان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند السَّماع كما ذكر الله تعالى في كتابه توجَلُِ قلوبُهم وتقْشعِرُّ جلودُهم وتَدْمَعُ عيونُهم. قال الله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (4)، وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) (5)، وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (6)، وقال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا

_ (1) سورة الإسراء: 78. (2) أخرجه الدارمي (3496) عن الزهري عن أبي سلمة. (3) أخرجه أحمد (3/ 357، 397) عن جابر نحوه. (4) سورة الزمر: 23. (5) سورة المائدة: 83. (6) سورة الحديد: 16.

- ظهور السماع المحدث في القرن الثالث

لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)) (1). فلما كان التابعون فيهم مَن يموتُ أو يَصْعَقُ عند سماع القرآن فمِنَ السلف مَن أنكرَ ذلك ورآه بدعةً، وأنَّ صاحبَه متكلِّف، وأمَّا أكثرُ السَّلف والعلماء فقالوا: إنْ [كان] صاحبُه مغلوبًا، والسماع مشروعًا، فهذا لا بأس به، فقد صَعِقَ الكليمُ لما تجلَّى ربُّه للجبل، بل هو حال حَسَن محمود فاضِل بالنسبة إلى مَن يَقْسُو قلبُه. وحالُ الصحابة ومَنْ سلك سبيلَهم أفضلُ وأكملُ، فإنَّ الغَشِيَّ والصرَاخَ والاختلاجَ إنَّما يكون لقوة الوارد على القلب، وضَعْفِ القلب عن حَمْلِهِ، فلو قَوِيَ القلبُ -كحال نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه- لكان أفضلَ وأكملَ. ولو لم يَرِدْ على القلبِ ما يحرِّكُه لكان قاسيًا مذمومًا، كما ذمَّ الله تعالى اليهود على قسوة القلوب. وما زال السلفُ كذلك إلى حَدِّ المئة الثالثة، صار قوم من العبَّاد يجتمعونَ لسماع القصائد المرقِّقة، وربما ضَرَبوا بالقضيب لذلك، ويُسَمُّون ذلك التَّغْبيرَ، فأنكر الأئمةُ ذلك، ورأَوا أنه بدعةٌ محدثةٌ؛ إذْ لم يفعلْه السلفَ حتى قال فيهم الشافعيُّ رضي الله عنه: خَلَّفْتُ ببغداد شيئًا أحْدَثَتْهُ الزَّنادقة يُسَمُّونَه التَّغْبِير، يَصدُّون به الناسَ عن القرآن.

_ (1) سورة الأعراف: 204.

وكَرِهَ أحمد الجلوسَ معهم فيه، وقال: هو مُحْدَثٌ أكرهُه، ورأى أنَّهم لا يُهْجَرونَ؛ لأنهم مُتأولُون. وحضر هذا السَّماعَ المُحْدَثَ قوم من الصالحين وكرهوه. وتركُهُ أفضلُ من حضورِه. والذين حضروه اشترطوا له شروطًا كثيرة مثل المكان والخُلاَّن والخلوة من المفاسد. ومع هذا فالحجَّةُ من الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة مع من كرِهَهُ، ونهى عن التعبُّدِ به، وإن كان يُرَخَّصُ في الأفراح للنساء والصبيان في أنواع من الغناء وضرب الدُّف كما جاءت به السنة، فهذا نوع من اللهْو واللعِب، ليس هو من نوع العبادات والقُرب والطَّاعات، كما يفعله المبتدعون للسَّماع المحدث، وبكل حالٍ فالإكثارُ منه حتى يُفعَلَ في المساجد، وحتى يُشتَغل به عن الصلوات، وحتى يُقَدَّمَ على القراءةِ والصلاةِ، وحتى يُجعلَ شعار الشيخ وأتباعِه، وحتى يُضرب بالمعازف، لا ريبَ أنَّه مِن أعظم المنكرات، وهو مُضاهاة لعبادة المشركين الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (1). قال السلف: المكاءُ: الصَّفِيرُ نحوُ الغناء، والتَّصْدِيَةُ: التَّصفِيقُ باليد. فَمَنِ اتخذ الغناءَ والتصفيقَ قُربةً ففيه شَبَه من هؤلاء، وإذا شَغَلَهُ عمَّا أمر به وفَعَلَهُ في المسجد، فقد انْدَرج في قوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ) الآية، وفي قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا

_ (1) سورة الأنفال: 35.

الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) (1)؛ وفي قوله: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) (2)، لا سيما وقد قيل: إنها نزلت في أعيادِ الجاهلية المشابهة لهذا السَّماع المشتمل على اللهو واللعب. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (3)، وقيل: إنَّ هذا من الزُّور. وقد قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (4). وقال الله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) (5). وقال تعالى: (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)) (6). وقد روى الطبراني (7) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الشيطان قال: يا ربِّ اجعلْ لي قرآنًا، قال: قرآنكَ الشِّعرُ، قال: اجعلْ لي مؤذنًا، قال: مؤذنك المزمار، قال: اجعلْ لي بيتًا، قال: بيتك الحمَّام". والأحاديثُ في هذا كثيرة. فإذا كان الشيخ يَزعُمُ أنَه يدعو إلى الله وإلى طاعته، ليس شعارُهُ إلا جمعَ الناس على مزمورِ الشيطان ومؤذِّنِه وقراءتِه، وقَلَّ أنْ يَجمعَهم

_ (1) سورة مريم: 59. (2) سورة الأنعام: 70. (3) سورة الفرقان: 72. (4) سورة لقمان: 6. (5) سورة الإسراء: 64. (6) سورة النجم: 16. (7) في "المعجم الكبير" (11/ 103).

- لم يقل أحد من السلف: إن الغناء قربة أو طاعة

على أذان الله وقراءتِه وصلاتِه، كان إمامًا من أئمة الضَّلال الذين (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)) (1)، وكان من اتَّبعهُ له نَصِيبٌ من قوله تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)) (2). وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (3). والناسُ وإن كانوا قد تكلَّموا في الغناء، هل هو حرامٌ أو مكروهٌ أو مُباحٌ؟ فما قال أحدٌ من المهتدين: إنه قربة أو طاعةٌ، ومَن قال ذلك فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، ودخل في مشابهة النصارى والصابئين، ولهذا ذكر العلماء أنه من إحداثِ الزنادِقَة. وكيف يتصَوَّرُ أن يكون قربةً، وقد مضت القرون الثلاثة: قرنُ الصحابة والتابعين وتابعيهم، وذلك لا يُفْعَلُ في شيءٍ من أمصار المسلمين، لا في الحجاز ولا في اليمن ولا في الشام ولا في العراق ولا في مِصر ولا في خُراسان ولا في المغرب. فالواجب على أهل الإسلام التعاونُ على البر والتقوى، والتواصي

_ (1) سورة القصص: 41. (2) سورة الأحزاب: 66 - 68. (3) سورة الفرقان: 27 - 29.

بالحق، والتواصي بالصبر والبر، واتباعُ شرائع الإسلام، وكَبْتُ هذه الطرق الجاهلية والضَّلالات الخارجية، ورَدُّ ما تنازعَ الناسُ فيه إلى كتاب الله تعالى و [سُنَّةِ] رسوله، وهو الطريق المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتجنُّبُ طريق المغضوب عليهم اليهود ومن شابههم في بعض أمورهم من غواة المنتسبين إلى الفقه والحكمة، ومن طريق الغالين المنتسبين إلى التَّعبُّدِ والتَّصَوُّفِ والفقر. وعلى أهل الإسلام أن ينصَحَ بعضُهم لبعضٍ كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحةُ، الدين النصيحةُ"، قالوا: [لِمَنْ؟، قال:] "لله ولرسوله ولأئمةِ المسلمين وعامَّتِهم". وقد قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) (2)، وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (3). فهؤلاء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أطِبَّاءُ الأديان، الذين تُشفَى بهم القلوب المريضة، وتهتدي بهم القلوب الضالة، وترشُدُ بهم القلوبُ الغاوية، وتستقيم بهم القلوبُ الزائغة، وهم أعلامُ الهدى ومصابيح الدُّجى.

_ (1) أخرجه مسلم (55) عن تميم الداري. (2) سورة آل عمران: 104. (3) سورة التوبة: 71.

والهدى والمعروفُ اسمٌ لكل ما أُمر به من الإيمان ودعائمه وشعَبه، كالتوبة والصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص والرضَا والإنابة وذكر الله تعالى ودعائه والصدق والوفاء وصلة الأرحام وحسن الجوار وأداء الأمانة والعدل والإحسان والشجاعة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك. والمُنْكَرُ اسمٌ لكلِّ ما نهى اللهُ عنه من الكفر والكذب والخيانة والفواحش والظلم والجور والبخل والجبن والكبر والرياء والقطيعة وسوء المسألة واتباع الهوى وغير ذلك. فإن كان الشيخُ المتبوعُ آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، داعيًا إلى الخير، مصلحًا لفساد القلوب، شافيًا لمرضاها، كان من دُعاة الخير وقادة الهُدى وخِيارِ هذه الأُمَّة. نسألُ الله أن يُكثر من هؤلاء ويُقويهم، ويَدْمغَ بالحقِّ الباطلَ، ويُصلحَ هذه الأمة. والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. (تمَّت الرسالةُ بعون الله ومَنِّه من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، قدَّس الله روحه وسقى ضريحه).

(11) شرح حديث "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"

شرح حديث "لا يَزني الزاني حينَ يَزني وهو مؤمنٌ"

- اختلاف الناس في هذا الحديث وأمثاله

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الحافظ الإمام، شيخ الإسلام، وأستاذ العلماء الأعلام، تقي الدين أحمد بن [عبد الحليم بن] عبد السلام، الشهير بابن تيمية رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خيرًا: فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1): "لا يَزني الزَّاني حين يَزني وهو مؤمنٌ، ولا يَشرب الخمرَ حين يَشربُها وهو مؤمن، ولايَسرِقُ السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذاتَ شرفٍ يَرْفعُ النَّاسُ إليه فيها أبصارَهم وهو حين يَنْتَهِبُها مؤمن". وللناس في هذا وأمثاله كلام كثير مضطرب، فإن هذه من مسائل الأسماء والأحكام. فالخوارج والمعتزلة يحتجون بهذا على أن صاحب الكبيرة لم يَبْقَ معه من الإيمان بل ولا من الإسلام شيء أصلاً، بل يستحق التخليد في النار، ولا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها. ومعلوم أن هذا القول مخالف لنصوص الكتاب والسنة الثابتة في غير موضع.

_ (1) أخرجه البخاري (2475 ومواضع أخرى) ومسلم (57) عن أبي هريرة.

- رأي المرجئة والجهمية

والمرجئة والجهمية يقولون: إيمان الفاسق تام كامل لم ينقص منه شيء، ومثل هذا إيمان الصديقين والشهداء والصالحين. ويتأولون مثل هذا الحديث على أن المنفي موجب الإيمان، أو ثمرته، أو العمل به، ونحو ذلك من تأويلاتهم. والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأهل الحديث، وأئمة السنة يقولون: لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، بل يخرج منها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، بخلاف قول الخوارج والمعتزلة. ويقولون: إن الإيمان يتفاضل، وليس إيمان من نفى الشارع عنه الإيمان كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ومنهم من ينفي عنه إطلاق الاسم، ويقول: خرج من الإيمان إلى الإسلام، كما يُروى ذلك عن أبي جعفر الباقر وغيره. وهو قول كثير من أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم، وقال بمعنى هذا القول حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل في غير موضع، وسهل بن عبد الله التُّسْتَرِيّ وغيرهم من أئمة السنة. فإن أصحاب المنزلة بين المنزلتين ينفون اسم الإسلام، وأولئك يقولون بالتخليد في النار، وأولئك يقولون: ليس معه من الإيمان شيء. وهم لا يقولون معه من الإيمان شيء ما يَخرج به من النار ويدخل به الجنة، وبين القولين هذه الفروق الثلاثة. وعلى هذا قول من يقول إن الأعراب الذين قالوا: (ءَامَنَّا)،

- نفي الإيمان وإثباته باعتبارين

وقال الله: (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (1) لم يكونوا منافقين، بل كانوا دخلوا في الإسلام، ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم فيثيبهم الله على الطاعة، ويعاقبهم على المعصية، كما قال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شيئًا) (2). وهذا قول أكثر أهل الحديث. وقيل: بل هؤلاء كان إسلامهم إسلام نفاق، فلا يكون مسلمًا مثابًا على العمل إلا من هو مؤمن. والتحقيق أن نفي الإيمان وإثباته باعتبارين: فمن في قلبه مثقال ذرة من إيمانٍ لم يدخل جميع الإيمان في قلبه، وإنما دخل في قلبه شيء منه، فهذا يثاب على أعماله وهو مسلم ومعه إيمان، ولما يدخل كمال الإيمان في قلبه بل إيمانه ناقص، ولهذ كان الصحابة وجمهور السلف على أن الإيمان يزيد وينقص. فالفاسق معه إيمان ناقص نقصًا هو نقص جزء واجب، وما كان كذلك فإنه يُنفَى، وإن كان قد أُثيب على فعل ما فَعَل لكن ما تبرأ ذمته، ولا يُعاقَبُ عقوبةَ من لم يفعل شيئًا. كمن ترك بعض واجبات العبادة فيقال: صلِّ فإنك لم تُصلِّ، ولا يكون من ترك الطمأنينة كمن ترك جميع الصلاة، ولهذا تكمَل الفرائض يوم القيامة من النوافل، والعبد ينصرف من صلاته ولم يُكتب له منها إلا نصفها،

_ (1) سورة الحجرات: 14. (2) سورة الحجرات: 14.

- بيان كيف ينفى الإيمان بفعل الكبائر

إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها (1). ورُبَّ صائمٍ حظه من صيامِه الجوعُ والعَطَشُ (2)؛ وليس بمنزلة المفطر، بل وإن لم يحصل له ثواب فهل يرفع عنه عقاب الترك؟ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر. وذلك أن الإيمان الواجب لابد أن يكون الله ورسوله أحب إلى صاحبه مما سواهما، ولابد أن يخشى الله ويخافه، فمن لا يحب الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يخشى الله تعالى فهذا ليس بمؤمن، بل قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (3). وقال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)) (4). فبين سبحانه أنه لا يوجدُ مؤمن يوادُّ المحاد لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن المؤمنَ لا يمكنُ أن يتولى الكافر، والمودةُ والموالاةُ تتضمن المحبة، فدلَّ ذلك على أنه لابد في الإيمان من محبة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما ينافي

_ (1) كما في حديث عمار بن ياسر الذي أخرجه أحمد (4/ 321) وأبو داود (796) والنسائي في الكبرى (525). وهو حديث حسن. (2) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه أحمد (2/ 373) وابن خزيمة (1997). (3) سورة المجادلة: 22. (4) سورة المائدة: 81.

محبة من حادَّ الله ورسوله، ولهذا لا تكون موالاة الله ورسوله إلا بمعاداة من عادى الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كقول إبراهيم والذين معه: (قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (1). وفي الصحيحين (2) أنه قال: "والذي نفسي بيدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِهْ والناسِ أجمعين". وفي صحيح البخاري (3) أن عمر بن الخطاب قال: "والله يا رسول الله لأنتَ أحبُّ إليَّ مِن كلِّ شيء إلا من نفسي! ". قال: "لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليكَ من نفسِكَ". قال: "فلأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي". قال: "الآن يا عمر". بل أبلغ من ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)) (4). فهذا وعيد لمن كان أهله الذين يحبهم وأمواله التي يحبها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله. فكيف إذا كان الصور المحرمة والمال المحرم ومكاره كثيرة، فكيف إذا كان هذا وهذا؟ وهو أحب إليه من الله

_ (1) سورة الممتحنة: 4. (2) البخاري (15) ومسلم (44) عن أنس. (3) برقم (6632). (4) سورة التوبة: 24.

- غلط الجهمية والمرجئة أنهم جعلوا الإيمان من باب القول

ورسوله بدون الجهاد. فَعُلِمَ أن الزاني والشارب أبعد عن كون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما من هؤلاء التاركين للجهاد، وإن كانوا يحبون الله ورسوله، لكن لم يقل له: إنها أحب إليه مما سواهما، ولا إنه مُتَّصِف بذلك وقتَ الشّرب، فقد يتصف العبد بالأحبِّية في حال دون حال، ولابد في الإيمان مِن أنْ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة؛ فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول: إمّا قول القلب الذي هو علمه (1)، أو معنى غير العلم عند من يقول ذلك. وهذا قول الجهمية ومن تَبعهم كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب واللَسان كالقول المشهور عن المرجئة؛ ولم يجعلوا عمل القلب مثل حب الله ورسوله ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل. وغلطوا غلطًا آخر غَلِطَت الجهمية فيه أعظم، وهو أنهم ظنوا القلب يقوم به الإيمان قيامًا لا يظهر على الجوارح. فظنوا أن [الإنسْان] (2) يقوم بقلبه تصديق تام للرسول، ومحبة تامة للرسول، وهو مع هذا يشتمه ويلعنه ويَضْربه من غير إكراه، فصاروا لا يجعلون شيئًا من الأعمال الظاهرة مستلزمًا للكفر الباطن، بل يقولون: نحن نحكم بكفره ظاهرًا، وقد يكون في الباطن من أولياء الله.

_ (1) في الأصل: "عمله". والمثبت يقتضيه السياق. (2) في الأصل: "الإسلام". والمثبت يقتضيه السياق.

- الإيمان المنجي من عذاب الله لابد فيه من قول القلب وعمل القلب

وغلطوا غَلْطة ثالثة فقالوا: كل من حكم الشارع بكفره في الظاهر (1) فذلك دليل على أنه لم يكن مصدقًا في الباطن. وهذا مكابرة ظاهرة، فصاروا يقولون: إن إبليس وفرعون وعلماء اليهود وأمثال هؤلاء هم في الباطن جاحدون لوجود الخالق لأنه ثبت أنهم ليسوا مؤمنين في الباطن. والإيمان عندهم مجرد علم القلب، فاحتاجوا إلى نفي هذا. والتحقيق أن الإيمان الباطن المنجي من عذاب الله لابد فيه من قول القلب، وعمل القلب، فلابد فيه من حب الله ورسوله، ولهذا أطلق أكثر السلف القول بأن الإيمان قول وعمل. وإذا كان القلب فيه تصديق للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومحبة تامة له فلابد أن يظهر ذلك على الجسد، فإن الإرادة الجازمة مع وجود القدرة تستلزم وجود المقدور، والمحبة الجازمة تتضمن الإرادة الجازمة لتعظيم الرسول وتوقيره. فإذا كان قادرًا على ذلك امتنع أن يصدر منه موالاةُ من عادى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يصدر منه شتمه وضربه وقتله طائعًا غير مكره؟ وإذا كان كذلك فمعلوم أن الذنوب كالزنا والسرقة وشرب الخمر تتضمن شهوة ذلك ومحبته، فحب الشهوات من الصور والمطاعم والأموال يُوقِعُه في الزنا والشرب والسرقة. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2):

_ (1) في الأصل: "الباطن"، وهو مخالف للسياق. (2) أخرجه أحمد (2/ 291، 392، 442) والبخاري في الأدب المفرد (289،=

"أَكْثَر ما يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الأجوفان: الفَمُ والفَرْجُ، وأكثر ما يُدخِل الناسَ الجنَّة: تقوى الله وحسنُ الخلق". والمحبوب المشتهَى يصرف عنه طلب ما هو أحب إلى المرء منه، ويصرف عنه خوف ما يكون دفعه أحب إلى النفس من ذلك المشتهى. فمن أحبَّ امرأة فأتاه من هو أحبُّ إليه منها، وقيل لا يُعطى هذه إلا بترك تلك اشتغل بها عنها، فإن أُعطي من المال ما هو أحب إليه منها، أو من الأولاد ما هو أحب إليه منها، على طريق المعاوضة، اشتغل عنها بالضدين اللذين لا يجتمعان، إذا كان أحدهما أحب إليه تَرَكَ الآخر لأجله. وكذلك إذا خاف من مقامه معها ضربًا، أو حبسًا، أو أخذ مالٍ، أو عزلاً، كان دفع هذا المكروه أحب إليه منها المغرمُ (1)، وأما المحب الذي لا يؤثر عليها شيئًا من هذه المحبوبات، ولا دفع هذه المكروهات فهذا لا يتركها لذلك. وإذا كان كذلك فالمؤمن المحب لله ورسوله الذي يحبَ الله ورسوله أعظم من كل شيء، والله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والذي يخشى الله ويخافه إذا عصاه هو في حال حصول حبه التام وخوفه في قلبه لا يفعل شيئًا

_ = 294) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) عن أبي هريرة. قال الترمذي: صحيح غريب. (1) كذا في الأصل.

- يعدم الذنب تارة لعدم المقتضي، وتارة لوجود المانع

من ذلك، بل حب الله ورسوله الذي وجد حلاوته وهو أحب إليه من هذه المنهيات التي يبغضها الله ورسوله، ومتى وقع فيها نقص ذلك الحب وتلك اللذة الإيمانية. فلو كانت اللذة الإيمانية الكاملة موجودة (1) لما قَدّم عليها لذة تَنقُصها وتزيلها، ولهذا يجد العبد في قلبه إذا كان مخلصًا لله واجدًا لحلاوة العبادة والذكرِ والمعرفةِ الصارف قلبَه عن هذه المحرمات فلا يلتفت إليها، كالمشغول بالجوهر إذا لاحت له قشور البصل، بخلاف ما إذا عَدِمَ هذه الحلاوة الإيمانية، فإنه حينئذٍ يميل إلى شيءٍ من المحرمات، وكذلك إذا كان في قلبه خوف الله التام وهو مؤمن، فإن هذا المحرم سبب يفضي به إلى عذاب الله وعقابه، بل إلى سخطه وغضبه والبعد عنه، فمتى خاف زوالَ محبوب أحبَّ إليه من ذلك، أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك لم [يعد إلى] (2) هذه المحرمات. فالذنب تارة يُعدَم لعدم المقتضي، وتارة لوجود المانع، والثاني هو الغالب، فإنه الداعي في النفس، والأول موجود إذا حَصَلَ في القلب من حلاوة الإيمان وطيبه ما يغنيه عن الذنب لم يبق له داعِ، كالجائع الذي أكل من الطعام الطَّيب ما يُغنيه عن الرديء، فإذا شبع لم يبق له داع، بل إذا كان قادرًا على هذه كان مكتفيًا عن ذلك. وكذلك العطشان، والنفس مطلوبها ما يَسرُّها ويلذها، فإذا وجدت اللذة والسرور التام في أمر لم تشتغل عنه بما هو دونه في اللذة.

_ (1) في الأصل: "مأخوذة". (2) في الأصل: "لم يبعد".

- الإنسان يفعل السيئات إما لجهله بقبحها وإما لحبه الداعي له إلى ذلك

والإنسان إنما يفعل السيئات القبيحة إما لجهله بقبحها، وإما لحبه الداعي له إلى ذلك، وهو يتضمن حاجته إلى ذلك، فإن المشتهي للشيء من مطعوم أو منكوح أو منظور أو غير ذلك يجد في قلبه فاقة إليه وحاجة إليه، فإذا لم يحصل له بقي في ألمٍ يؤذيه بحسب شهوته، فإذا استغنى بما يزيل عنه الشهوة والحاجة لم يبق عنده داع يدعوه إلى ذلك. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "إذا أَعْجَبَتْ أحَدَكم امرأة فليأتِ أهلَه، فإن معها مثل ما معها". وفي الدعاء المأثور (2): "اللهمَّ أَغْنِنَا بحلالِك عن حرامك، وبفضلِك عمَّن سواك". والناس إذا وقعوا في البدع والمعاصي نقص عليهم إيمانهم، وإلا فمن كان عالمًا بالحق قاصدًا له أغناه ذلك عن أن يعتقد الباطل ويتبعه. ولهذا كانت الصحابة رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن الذنوب والبدع، لاستغنائهم بالعلم والإيمان بالله [وما] تلقوه عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا تجد أحدًا وقع في بدعةٍ إلا لنَقْصِ اتباعِه للسنة علمًا وعملاً. وإلا فمن كان بها عالمًا، ولها متبعًا لم يكن عنده داع إلى البدعة، فإن البدعة يقع فيها الجُهَّال بالسنة، وكذلك الزنا والسرقة وشرب الخمر، إنما يزني من عنده شهوة يطلب قضاءها. فأما من قضى شهوته بما هو أحب إليه وفَتَرَتْ، فلا يبقى عنده داعٍ، ومن أحبَّ طلب شيء آخر فشهوته لم تُقْضَ بل قُضِيَ بعضها،

_ (1) أخرجه مسلم (1403) عن جابر. (2) أخرجه الترمذي (3563) وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 153) عن علي. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وقضاء الشهوة إنما هو حصول المطلوب كله، فممتنع معه أن يطلب ما يُحصل ما قد حَصَل. وكذلك السارق إنما يسرق لِما عنده من إرادة المال، ولكن من الناس من لا يقف عند حدٍّ، بل لو حَصَلَ عنده أي شيء كان أحبَّ الزيادة، ولهذا يسرق وإن لم يكن ثَمَّ منافعُ أُخَر. وكذلك شارب الخمر يشربها لما يطلب بها من حصول اللذة وزوال الغم، فإذا كانت اللذة الحاصلة بالصلاة وذكر الله أكمل وهي تصده عن ذلك لم يكن عنده داعٍ إليها. ومما يُبيِّنُ هذا قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (1)، مع قول الشيطان: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) (2)، وقال تعالى في حق يوسف الصديق: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (3)، فإن عباده تعالى هم الذين عبدوه وليس المراد كل من خلقه، فإن الشياطين عباد بهذا الاعتبار، بل هذا كقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (4)، وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (5)، وقوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (6).

_ (1) سورة الإسراء: 65. (2) سورة ص: 82 - 83. (3) سورة يوسف: 24. (4) سورة الفرقان: 63. (5) سورة الإنسان: 6. (6) سورة الجن: 19.

- عباد الله المخلصين يكون الله أحب إليهم مما سواه، بخلاف المشركين

وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَعِسَ عبدُ الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، إن أُعطِيَ رضي، وإن مُنِعَ سخط، تَعِسَ وانْتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش". فعبدُ الله الذي هو عبدُه لابد أن يكون الله أحب إليه مما سواه، فإن الذين جعلوا لله أندادًا يحبونهم كحب الله مشركون لا مؤمنون، والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، ولابد أن يكون الله أخوف عندهم مما سواه، ومن كان كذلك صُرِفَ عنه السوء والفحشاء كما صُرِفَ عن يوسف. بخلاف المشركين الذين جعلوا لله أندادًا يحبونهم كحُب الله، فهؤلاء ليسوا عباده، و (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (2)، فالمشرك به لا يحصل له ما يقر عينه، ويغني قلبه عن الأنداد، بل هذا لا يحصل إلا بعبادة الله وحده. فإن الله سبحانه خلقَ عِبادَهُ حنفاء؛ وللسلف في "الحنيف" عبارات، قيل: المستقيم، كقول محمد بن كعب القرظي. والمتَّبع، كقول مجاهد. والمُخْلِص، كقول عطاء. وأما تفسيره بالمائل فهذا من قول بعض متأخري أهل اللغة، وهو مبسوط في موضع آخر (3). وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4): "كل مولود يولد على الفطرة". وفي رواية (5):

_ (1) أخرجه البخاري (2886، 2887) عن أبي هريرة. ولم أجده عند مسلم. (2) سورة الأنبياء: 22. (3) انظر "فصل في معنى الحنيف" ضمن هذه المجموعة. (4) أخرجه البخاري (1385) ومسلم (2658) عن أبي هريرة. (5) رواها ابن حبان في صحيحه (1/ 341) عن الأسود بن سريع.

- كل مولود يولد على الفطرة

"على فطرة الإسلام". فالقلب مخلوق حنيفا مفطورًا على فطرة الإسلام، وهو الإستسلام لله دون ما سواه. فهو بفطرته لا يريد أن يعبد إلا الله، فلا يطمئن قلبه ويحصل لذته وفرحه وسروره إلا بأن يكون الله هو معبوده دون ما سواه، وكل معبود دون الله يوجبُ الفساد، لا يَحْصُل به صلاح القلب وكماله وسعادته المقتضية لسَروره ولذته وفرحه، وإذا لم يحصل هذا لا يبقى طالبًا لما يلتذ به فيقع في المحرمات من الصُّوَر والشرب وأخذ المال وغير ذلك. ولهذا لَمَّا كانت امرأة العزيز مشركة طالبةً للفاحشةِ، ويوسف شاب غريبٌ، فالداعي المطيع معه أقوى، لكن معه من الإيمان ما يَصدُّه عن ذلك، وتلك هي وقومها كانوا مشركين، ولهذا قال لهم: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) إلى قوله: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1). وما نقلَه بعضُ المفسرين من أن زوجَها (2) كان لا يصل إليها، وأن يوسف تزوَّجَها بعد ذلك فوجدَها عذراءَ، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يُصدِّقَ به، فإن هذا لم يُخبِر

_ (1) سورة يوسف: 37 - 40. (2) من هنا إلى حديث "إذا حدّثكم أهل الكتاب ... " مضطربٌ في المخطوط غايةَ الاضطراب، وقد تأملتُ في هذه الفقرة حتى اهتديتُ إلى السياق الصحيح. ولا حاجة إلى نقل العبارات المضطربة.

بنَقْلِه أحدٌ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هو منقولٌ عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرُهم. وقد ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا حَدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تُصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم". لا سيما وقد نقلوا في قصة يوسف أشياء تخالف القرآن، وتلك يجب القطع بأنها كذب، وأما ما لم يُعلم صدقه ولا كذبه يتوقف فيه. وهذه الحكاية كذب؛ فإن هذا خلاف العادة الغالبة على بني آدم، وإنما يقع مثل هذا نادرًا ولو وقع لأخبر به. والمراد لو كان الداعي لها مجرد الشهوة لِعَدَم الزوج لكان في الرجال كثرة، وإذا لم يحصل لها يوسف حصل لهَا غيرُه، ومعلوم أن الجائع والشَّبِقَ إذا طلب غلامًا يشتهيه فيتعذَّر عليه لم يصبر عن الجوع والشبق بل يتناول ما تيسَّر له، ولهذا يوجد صاحب الشبق يقضي شهوته بأخسَّ ما يمكن، فمن الرجال من يأتي بهيمةً وكلبًا وحمارًا وطيرًا، ومن النساء مَن تُمكِّن منها قردًا وحمارًا أو غير ذلك لغلبة الشهوة، ومن النساء من تتخذ آلة الرَّجلِ على صورة عضو الرجل عند تَعذر الرجال إلى أمثال ذلك، فكيف إذا حصل للمرأة رجل، وللرجل امرأة؟ فعُلِمَ أن المرأةَ هَوِيَتْ يوسف لجماله، لا لكون زوجها لا يأتيها.

_ (1) البخاري (4485، 7362، 7542) عن أبي هريرة نحوه. واللفظ المذكور في حديث أبي نملة الأنصاري الذي أخرجه أحمد (4/ 136) وأبو داود (3644).

- ما أورده المفسرون في معنى "الهم"، والرد عليه

وكذلك ما ينقله بعضهم عن يوسف أنه حَلَّ سراويله، وأنه رأى صورة يعقوب وغير ذلك، كل ذلك من الأحاديث التي غالبها أن يكون من كَذِب اليهود. فإن الله تعالى قال: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) (1). فقد أخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء فلم يفعل سوءًا ولا فحشاء، فإن ما صرفه الله عنه انصرف عنه. ولو كان يوسف قد أذنب لتاب، فإن الله لم يذكر ذنب نبي إلا مع التوبة، ولم يذكر عن يوسف توبة، فعُلِمَ أنه لم يُذنب في هذه القضية أصلا، والله أعلم. إنما أخبر عنه بالهمِّ وقد تركه لله فهو مما أثابه الله عليه. وفي الصحيحين (2) عن ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: "إن الله كتب الحسناتِ والسيئات ثم بَيَّن ذلك، فمن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هَمَّ بها فعمِلها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله [له عنده حسنةً كاملةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعَمِلها كتبها الله له] سيئةً واحدةً" (3). فقد أخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. وفي الحديث الآخر (4) قال: "يقول الله:

_ (1) سورة يوسف: 24. (2) البخاري (6491) ومسلم (131). (3) الزيادة من الصحيحين ليتم السياق. (4) أخرجه مسلم (129) عن أبي هريرة.

- البرهان الذي رآه يوسف

اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جَرَّائي". أي: من أجلي. فالعبد إذا هَمَّ بالسيئة وتركها لله كان تركها لله حسنة كاملة، ولم يكن عليه إثم بذلك الهمِّ. فيوسف الصديق لم يفعل قط سيئةً، بل هَمَّ وتَرَكَ ما هَمَّ به لَمَّا رأى برهان ربه، فكَتبَ الله له حسنة كاملة. وبرهان ربه ما تبيَّن له به ما يوجب الترك، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)) (1). فالشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة، ويضعف نور الإيمان، ولهذا سماه طائفًا، أي: يطيف بالقلب مثل ما يطيف الخيال بالنائم، ويغيب عن القلب حينئذٍ من أمرِ الله ونهيِه ووعدِه ووعيدِه ما يناقض ذلك، فإذا كان العبد متقيًا لله أمدَّه الله تعالى بنور الإيمان، فذكر ما في الذنب من عذاب الله وسخطه، وما يفوته به من كرامة الله وثوابه. والبرهان ببصيرة القلب، فيوسف الصديق أبصرَ برهانَ ربه بقلبه، فتركَ ما همَّ به كل ذلك. وأما ما يُذكر أنه تمثلَ له يعقوبُ في صورة جبريل وأنه عضَّ يده، أو أن جبريل أو يعقوب مسحَ على ظهره، أو رأى أنه مكتوب (2) =

_ (1) سورة الأعراف: 201 - 202. (2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 1836).

- حكاية مسلم بن يسار

فكل هذا لا يجوز لأحد أن يُصدقَ بشيء منه، بل هذا مما يُعلم كذبه من وجوه متعددة، فإن من لم يتنبَّه إلا بهذا يكون من أفجر الناس، فكيف يقال لمن وصفه الله بالعفة والتقوى ما لا يوصف به إلاّ من هو أفجر الناس؟ قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (1). وما ذُكر يقتضي أنه لم يُصرف عنه إلا الجماع، وإلا فقد فَعَلَ مقدماته وحرص عليه، وهذا كالفاعل، ولو حصل لمشرك دون هذا لامتنع من الفاحشة بدون ذلك، بخلاف امتناع يوسف، مع كمال الدواعي فإن هذا لا يُعرفُ لغيره، فإن التي راودته سيدته التي تملكه، وقد استعانت عليه بعد ذلك بالنساء وحبسوه على ذلك بضع سنين، وهو شاب غريب، وزوجها لم ينهها ولم يعاقبها، ولم ينصر يوسف عليها، وهو في بلد غربة ليس هناك أهله الذين يستحي منهم، بل لو أتاها لم يَعْلَم أَحَدٌ من الناس. وما يُذكر من حكاية مسلم بن يسار (2) أنه رأى يوسف، قال: "أنا يوسف الذي هممتُ، وأَنتَ مسلم الذي لم تَهُمَّ! ". فمُسلم رآه بحسبِ حاله، وفيه دليل على صلاح مُسلم، وإلا فأين حال هذا من حال يوسف؟، تلك امرأة بدوية ظلمته في بريةٍ ولا حُكمَ لها عليه، وهو شيخ كثير العبادة، فدواعي الزنا منصرفةٌ عنه، وموانعه موجودة، بخلاف يوسف؛ فإن دواعي البشرية كانت تامةً في حقه موجودة،

_ (1) سورة يوسف: 24. (2) ذكرها المؤلف في "مجموع الفتاوى" (15/ 144).

- قوله (وما أبرئ نفسي) من تمام كلام امرأة العزيز

وصوارف السوء كانت منتفية، وإنما صُرِفَ عنه السوء والفحشاء بإخلاصه، وترك ما همَّ به لما رأى برهان ربه. وهَمُّهُ الذي تركَه كُتِبَ له به حسنات كاملة، ولو تساوت القضيتان لكان هو أفضل، فكيف وبينهما من الفرقان ما لا يخفى إلا على العُميان؟ وكثير من المؤمنين يُطلب منه الفاحشة، ويراودُه من يراوده ويمتنع، لكن لا تجتمع معه هذه الأمور ولا يكون معهودًا هذا الضمير (1)، ولا يصبر على حبس بضع سنين= يختار ذلك على فِعل ما طُلب منه في خلوة عن الوطء لم يمتنع عن مقدماته، ويوسف صرف الله عنه السوء والفحشاء فلم يفعل كبيرة ولا صغيرة، ولا أَمَرَتْهُ نفسُه بسوء، بل كان ممن رحم الله، فلم تكن نفسُه أمَّارةً بسوءٍ، بل امرأة العزيز هي التي كانت نفسها أمَّارة بالسوء؛ فإنها راودته، وقَدَّتِ القميص، وكَذَبَتْ عليه، واستعانت بالنساء ثم حبسته، ولهذا قالت: (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (2) أي: في مغيبته عني. وقد بُسِطَ الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبُيِّنَ أن قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) هو من تمام كلام امرأة العزيز، وكما دلَّ على ذلك القرآن في غير موضع (3).

_ (1) كذا في الأصل. (2) سورة يوسف: 51 - 52. (3) انظر "مجموع الفتاوى" (15/ 138 - 156)، ففيه رسالة للمؤلف في هذا الموضوع، ولكنها ناقصة الأول.

- بعضهم ينقل من الإسرائيليات مالم يتبين له أنه كذب، فإذا تبين لغيره أنه كذب لم يجز نقله إلا على وجه التكذيب

ومن قال إنه من كلام يوسف فقد قال باطلاً، والنقولات في ذلك عن ابن عباس ضعيفة بل موضوعةٌ. ولو قُدِّرَ أنه قال ذلك فبعضُ ما يُخبره هذا وعبد الله بن عمرو من الإسرائيليات كله مما سمعوه من أهل الكتاب، فلا يجوز الاحتجاج به. والصاحب والتابع فقد يَنقُلُ عنهم ما لم يَتبَيَّن [له أنه كذِبٌ، فإن تبيَّنَ] (1) لغيره أنه كَذِبٌ لم يجز نقله إلا على وجه التكذيب، كما قال كثير منهم: إن الذبيح إسحاق، ودلائل الكتاب والسنة وغير ذلك أنه إسماعيل (2)، وأمثال ذلك. وكثير من السلف يروي أحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إما مسندة وإما مرسلة، فإن كان لم يعلم أنها كذب فيجوز له روايتها، وإن كان غيره ممن عَلِمَ أنها كذب لا يجوز له روايتها. وعامة ما ينقله سلفنا من الإسرائيليات إذا لم يكن عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو دون المراسيل عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكثير؛ فإن أولئك النقلة من أهل الكتاب، والمدة طويلة، وقد عُلِم الكذبُ فيهم والله أعلم.

_ (1) زيادة يستقيم بها السياق. (2) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (4/ 331 - 336). وللقاضي أبي بكر ابن العربي والسيوطي والفراهي رسائل مستقلة في هذا الموضوع.

(12) فصل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد

فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد: ألاَ كلُّ شَيءَ مَاخَلاَ اللهَ باطِلُ

- معنى "الباطل"

فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدقُ كلمةٍ قالَها شاعر كلمةُ لَبيد: ألاَ كلُّ شَيْءً مَاخَلاَ الله باطِلُ فقد جَعَلَ هذه الكلمةَ أصدقَ كلمةٍ قالَها شاعر، وهذا كقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (1)، وقال: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) (2)، ونحو ذلك يتناولُ كلَّ معبودٍ من دون الله من الملائكة والبشرِ وغَيرِهم من كل شيء، فهو باطل، وعبادتُه باطلةٌ، وعابدُه على باطلٍ، وإن كان موجودًا كالأصنام. و"الباطل" يُرادُ به: الذي لا يَنفع عابدَه، ولا ينتفع المعبودُ بعبادتِه. فكلُّ شيء سِوى اللهِ باطل بهذا الاعتبار، حتى الدرهم والدينار، كما في الدعاء المأثور: "أشهدُ أنّ كلَّ معبودٍ من لَدُنْ عرشِك إلى قرارِ أرضِك باطل إلاّ وَجْهَك الكريم" (3)، فإنّ كلَّ نفسٍ لابُد لها أن تألَهَ إلهًا هو غايةُ مقصودِها، فكلُّ ما سِوى اللهِ باطل، وهو ضالّ عن عابِدِه، كما أخبرَ بذلك في كتابِه.

_ (1) سورة الحج: 62. (2) سورة يونس: 32. (3) أخرجه ابن قدامة في "التوابين" (ص 50 - 56) من حديث ابن عباس في حديث إسرائيلي طويل.

و"الضلال" يُراد به الهلاك، كما قال تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (1) قالوا: معناه هَلكْنا وصِرْنَا تُرابًا. وأصلُه من قوله: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن، إذا هَلَكَ فيه وتَلاَشَى. فإذا كان الضَّالُّ في الشيء هالكًا فيه، فالضالُّ عنه هالك عنه. ولهذا قال: (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (2) أي: هَلَكَ وذهبَ، وهو بمعنى بَطَلَ. فكلُّ معبودٍ سِوى الله فهو باطل وضالّ، يُضِلُّ عابدَه ويَضِل عنه، ويَذهبُ عنه، وهالكٌ عنه، إلا وجهَ الله. فعبادةُ ما سِواه فاسدةٌ وباطلٌ وضلال، والمعبود سواه فاسدٌ. قال مجاهد في قوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (3) قال: إلاّ ما أرِيدَ به وجهُه. وقال سفيان الثوري: إلاّ ما ابتُغِيَ به وجهُه. كما يقال: ما يَبقَى إلاّ الله والعملُ الصالحُ. وفي الحديث: "الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذِكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم" (4). فأيّ شيء قصدَه العبدُ وتوجَّه إليه بقلبِه أو رَجَاه أو خافَه أو أحبَّه أو توكَّل عليه أو والاه، فإنّ ذلك هالكٌ مُهلِلك، ولا ينفعُه إلاّ ما كان لله.

_ (1) سورة السجدة: 10. (2) سورة الكهف: 104. (3) سورة القصص: 88. وانظر أقوال المفسرين في تفسير ابن كثير (6/ 2682) و"فتح الباري" (8/ 505). (4) أخرجه الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

- العالم الذي يطلب العلم للدنيا

وهذا بخلاف قوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)) (1)، فإنّه حَصرَ كلَّ مَن عليها ولم يَستثنِ، مع أنَّ هذا المعنى يَدلُّ عليه، فإنّ جميعَ الأعمال تَفنَى، ولا يَبقَى منها شيء يَنفَعُ صاحبَه إلاّ ما كانَ لوجهِ ذي الجلال والإكرام، كما قال مالك: ما كان لله فهو يبقَى، وما كانَ لغيرِ الله لا يدومُ ولا يَبقَى. وقال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) (2)، ولهذا قيل: الناس يقولون: قيمةُ كل امرئٍ ما يُحسِنُ، وأهلُ المعرفةِ يقولون: قيمةُ كلِّ امرئ ما يطلب. ومما رُوِي عن بني إسرائيل: "يقول الله: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، ولكنّي إنما أنظر إلى همتِه". وقد رُوِي أنّ الله سبحانَه يقول (3): "إنّ أدنَى ما أنا صانعٌ بالعالمِ إذا أحبَّ الدنيا أن أَمنعَ قلبَه حلاوةَ ذِكري". وتصديقُ ذلك في القرآن: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (4)، وقال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (5). وفي الصحيح (6) حديثُ الثلاثة الذين أوّل ما سُعِّرتْ بهم النارُ، ذكر منهم العالم الذي يقول: تعلَّمتُ العلمَ فيك وعلمتُه فيك، فيُقال له:

_ (1) سورة الرحمن: 26 - 27. (2) سورة النحل: 96. (3) ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 671) بلا إسناد. قال العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 56): غريب لم أجده. (4) سورة النجم: 29 - 30. (5) سورة الروم: 7. (6) مسلم (1905) عن أبي هريرة. وزيادة خبر معاوية عند الترمذي (2382).

كذبتَ، بل أردتَ أن يقال فلانٌ عالمٌ، وقد قيل، ثمّ يُؤمر به فيُسحَب إلى النار. ومعاويةُ لمّا سمعَ هذا الحديثَ بكَى وقال: صدقَ الله وبلَّغَ رسولُه، ثمَّ قرأ قولَه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)) (1). وكذلك في الحديث في السنن (2): "مَن طَلَب علمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله، لا يَطلبُه إلاّ لِيُصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يَرِحْ رائحةَ الجنَّة". وفي الحديث الآخر (3): "من طَلَبَ علمًا -أو قال: من تعلَّم علمًا- ليُجارِيَ به العلماءَ ويُمارِيَ به السُّفَهاءَ، ويتأكَّلَ به الدنيا، ويَصْرِفَ به وجوهَ الناسِ إليه، لقيَ الله وهو عليه غَضبانُ". وفي رواية: "لم يَجِدْ عَرْفَ الجنةِ". وهذا باب واسعٌ قد بُسِطَ في غير هذا الموضع، وتكلَّمنا فيه على آية هود وآية سبحانَ وآية الشورى وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار في ذمِّ العالمِ وغيرِه المريد للدنيا والقَالَةِ، وبَيَّنا فيه أماراتِ ذلك، وبَيَّنا أن الدينَ كلَّه لله، وأن الله أغنى الشركاء عن الشركِ، وأن الصحابة والسلف كانوا أخوفَ الخلق في هذا المقامِ الخطِر. والمقصود أن هذا العالم لمّا لم يكن مقصودُه إلاّ الدنيا بما عَلِمَه

_ (1) سورة هود: 15 - 16. (2) أخرجه أحمد (2/ 338) وأبو داود (3664) وابن ماجه (252) عن أبي هريرة. (3) أخرجه الترمذي (2654) عن كعب بن مالك، وابن ماجه (253) عن ابن عمر، وابن ماجه (260) أيضًا عن أبي هريرة. وفي أسانيدها ضعف.

من العلم وبما يُعلِّمه، وذلك مما يُبْتَغَى به وجهُ الله، لم يكن له عند الله قيمةٌ، ولم يكن للعلم في قلبه حلاوة، ولم يَرْتَعْ في رياضِ الجنَّة في الدنيا، وهي مجالس الذكر، فلم يَرِحْ رائحة الجنة. فالأولُ طلبَ العلم لكسب الأموال والجاهِ، فكان عقوبتُه أن لا يجدَ رائحةَ الجنَّة. والثاني طَلَبه لمقاصدَ مذمومةٍ من المباهاةِ والمماراةِ وصَرْفِ وجوهِ الناس، فكان جنسُ مطلوبِه محرَّمًا، فلقيَ الله وهو عليه غَضبان. والأول جنسُ مطلوبِه مباحٌ، فلم يجد رائحةَ الجنةِ في الدنيا، فلم يَرتَعْ في رياضِها، فقلبُه محجوبٌ عنها بما فيه من طلب الدنيا. وفي حديث مكحولٍ المرسل (1): "مَن أخلصَ لله العبادةَ أربعين صباحًا تفجَّرتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبه على لسانه". وحُكِي عن أبي حامدٍ قال: أخلصتُ لله أربعين صباحًا فلم يُفَجَّرْ لي شيءٌ، فذكرتُ ذلك لبعضِ أهل المعرفة، فقال: إنك لم تُخلِصْ لله، وإنما أخلصتَ للحكمة. وكذلك الحكاية المشهورة عن الحسن (2) في ذلك الرجلِ الذي كان يَتعبَّدُ ليراهُ الناسُ ولِيُقَال، فكان الناسُ يَذُمُّونَه، ثمَّ أخلصَ لله ولم يُغَيِّر عملَه الظاهر، فألقَى الله له المحبةَ في قلوب الناس، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)) (3).

_ (1) أخرجه المروزي في "زيادات الزهد" (1014) وابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 231) وهنّاد بن السري في "الزهد" (678) مرسلاً. ورُوِي موصولا ولا يصحّ، انظر "الضعيفة" للألباني (38). (2) انظر تفسير ابن كثير (5/ 2254). (3) سورة مريم: 96.

- كل معبود سوى الله باطل

وإذا كانت العبادةُ تبقى ببقاءِ معبودِها فكلُّ معبودٍ سوى الله باطل، فلا تَبقَى النفسُ، بل تَضلُّ وتَشْقَى بعبادةِ غيرِ الله شقاءً أبديا، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (1). إنما كان بقاؤها ببقاءِ معبودِها لأنها مريدةٌ بالذات، فلابُدَّ لها من مُرادٍ محبوبٍ هو إلهها الذي تَبقَى ببقائِه، فإذا بَطَلَ بَطلَتْ وتَلاشَى أمرُها، وما ثَمَّ باقٍ إلاّ الله. والأفلاكُ وما فيها كلُّه يَستحيلُ، والملائكةُ مخلوقون يَستحيلون، بل ويموتون عند جمهور العلماء. والعبدُ ينتفع بما خُلِقَ بشيء من حيث هي من آيات الله له فيها، فهي وسيلة له إلى معرفة الله وعبادته، ولو كان العلمُ هو الموجب لما يَطلُبه هؤلاءِ لكانَ هو العلم بالله، فإنه هو الحق، وما سِواه باطل، ومَن له مِن مخلوقاتِه فالعلمُ به تابع للعلم بالله، والعلمُ الأعلى هو العلم بالأعلى. كما قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) (2)، فهو ربُّ كلِّ ما سِواه، فهو الأصلُ، فكذلك العلم به سيِّدُ جميع العلوم وهو أصلٌ لها.

_ (1) سورة الحج: 31. (2) سورة الأعلى: 1.

(13) المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية

المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية

- قول من قال: لا تجوز الصلاة خلف أئمة المالكية، من أنكر المنكرات وأشنع المقالات، يستحق قائله التعزير البليغ

بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادة الفقهاء أئمةُ الدين وعلماء المسلمين -وفَّقهم الله لطاعته- في رجلٍ يزعم أنه فقيه على مذهب الشافعي، قال للعامة: لا تجوز الصلاةُ خلفَ أئمة المالكية، ومَن صلَّى خلفَ إمامٍ مالكي المذهب لم تصحَّ صلاتُه، ويَلزمُه إعادةُ ما صلَّى خلفَ الإمام المالكي. فلما سمعَ العامةُ كلامَه امتنعوا من الصلاة خلفَهم لأجلِ ما سمعوه منه، وطلبوا فتاوى الأئمة، إما بصحة ما قاله المذكور أو ببطلانه. وإذا لم يصحَّ قولُه ماذا يجبُ عليه؟ وهل على ولي الأمر زَجْرُه ورَدْعُه ومَنْعُه من ذلك حتى يَتَّعِظَ به غيرُه أم لا؟ وإذا رُدع وزُجِر اتعظَ به غيره. أفتونا مأجورين. فأجاب شيخ الإسلام فريدُ عصرِه ونحريرُ زمانِه، المميَّزُ على شيوخه وأقرانِه، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين أبي الفضل عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجدالدين عبد السلام بن تيمية الحراني، فسحَ الله في عمره: الحمد لله وحده. إطلاقُ هذا الكلام من أنكر المنكرات وأشنع المقالات، يستحق مُطلِقه التعزيرَ البليغ، فإن فيه من إظهار الاستخفاف بحرمة هؤلاء الأئمة السادة ما يُوجِبُ غليظَ العقوبة، ويُدخِل صاحبَه

- مذهب الإمام مالك من أعظم المذاهب قدرا

في أهل البدع المُضِلَّة. فإن مذهب الإمام الأعظم مالك بن أنس -إمام دار الهجرة ودار السنة، المدينة النبوية التي سُنَّتْ فيها السننُ، وشُرِعَتْ فيها الشريعةُ، وخرجٍ منها العلم والإيمان- هو من أعظم المذاهب قدرًا، وأجلها مرتبة. حتى تنازعت الأمَّة في إجماع أهل المدينة هل هو حجةٌ أم لا؟ ولم يختلفوا في أن إجماع أهلَ مدينةٍ غيرِها ليس بحجة. والصحيح أن إجماعهم في زمن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان، فإن أمير المؤمنين عليًّا -رضي الله عنهم- انتقل عنها إلى الكوفة. وفيما نقلوه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالصاع وتَرْكِ صدقة الخضرات ونحو ذلك حجة يجب اتباعُها. وكذلك الصحيح أن اجتهاد أهل المدينة في ذلك الزمن مُرجَّحٌ على اجتهادِ غيرِهم، فيُرَجَّح أحدُ الدليلين بموافقة عمل أهل المدينة. وهذا مذهب الشافعي، وهو المنصوص عن الإمام أحمد وقول محققي أصحابه. وكان لمالك بن أنس -رحمه الله- من جلالة القدر عند جميع الأمة، أمرائها وعلمائها ومشايخها وملوكها وعامتها، من القدر ما لم يكن لغيره من نظرائه، ولم يكن في وقته أجلُّ عند الأمَّة منه. وقد رُوِي حديثٌ نبويٌّ (1)، وفُسر به. ومن جاء بعده من الأئمة -رحمهم الله-

_ (1) أخرج أحمد (2/ 299) والترمذي (2680) عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُوشِك أن يَضرِب الناسُ آباطَ المطىّ في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلمَ من عالمِ المدينة". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ثم نقل تفسيره بمالك وغيره.

- اتفق السلف على صلاة بعضهم خلف بعض

مثل الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما؛ فهم أشد الناس تعظيمًا لأصوله وقواعده، ومتابعةً له فيها. وهم متفقون على أن مذاهب أهل المدينة رأيًا ورواية أصحُّ مذاهب أهل المدائن الإسلامية في ذلك الوقت. وكيف يستجيزُ مسلم يُطلِقُ مثلَ هذه العبارة الخبيثة، وقد اتفق سلفُ الأمة من الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلفَ بعض، مع تنازعهم في بعض فروع الفقه، وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها. ومَن نهى بعضَ الأمةِ عن الصلاة خلفَ بعضٍ لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد؛ فهو من جنس أهل البدع والضلال الذين قال الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (1)، وقال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (2)، وقال تعالى: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (3)، إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف. ودلَّتْ نصوصُ الكتاب والسنة وإجماع سلفِ الأمة أنّ وليَّ الأمر -إمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب والفيء، وعامل الصدقة- يُطاعُ في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يُطيعَ أتباعَه في مواردِ الاجتهاد، بل عليهم طاعتُه في ذلك وتَرْكُ رأيهم لرأيه، فإن مصلحة

_ (1) سورة الأنعام: 159. (2) سورة آل عمران: 103. (3) سورة آل عمران: 105.

- شبهة من قال بعدم جواز صلاة بعضهم خلف بعض، والرد عليها

الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظمُ من أمر المسائل الجزئية. ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضُهم حكمَ بعضٍ. وشبهةُ هذا المتفقه وأمثاله، ممن قد سمع بعض غَلَطاتِ بعض الفقهاء، فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبَه، أو فعل ما يعتقد المأمومُ فسادَها به، فإن من الناس من قد يُطلِق القولَ ببطلان صلاة المأموم مطلقًا، ومنهم من لا يصحح الصلاة خلف من لا يأتي بالواجبات حتى يعتقد وجوبها. وهذه الاطلاقاتُ خطأٌ مخالفٌ للإجماع القديم، ولنصوص الأئمة المتبوعين. مثال ذلك: أن يصلي المأموم خلفَ من ترك الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين كالدم، أو خلفَ من ترك الوضوء من مسِّ الذكر، أو ترك الوضوء من القهقهة، ويكون المأموم يرى وجوبَ الوضوء من ذلك، أو يكون الإمام قد ترك قراءة البسملة، أو ترك الاستعاذة، أو ترك الاستفتاح، أو ترك تكبيرات الانتقال، أو تسبيحات الركوع والسجود، ويكون المأموم يرى وجوب ذلك. فالصواب المقطوعُ به صحةُ صلاة بعضِ هؤلاء خلف بعض، وهذا مذهب الأئمة، وإن كان قد يُحكَى عن بعضهم خلافٌ في بعض ذلك. فهذا الشافعي -رضي الله عنه- كان دائمًا يصلي خلف أئمة المدينة وأئمة مصر، وكانوا إذ ذاك مالكية لا يقرأون البسملة سرًّا ولا جهرًا، ولو سمع الشافعي من يطعن في صلاته خلف مشايخه مالكٍ وأقرانه، وهو دائمًا يفعل ذلك؛ لحكمَ عليه بالضلال، وعَدَّه هو وسائر الأمة بعد ذلك خلافًا للإجماع.

- الإمام إذا كان مخطئا في نفس الأمر كان بمنزلة الناسي

والإمام أحمد يرى الوضوء من الدم الكثير، فقيل [له]: فإن كان الإمام لا يتوضأ من ذلك، أَأُصلِّي خلفه؟ قال: سبحان الله! أتقول: إنه لا يُصلَّى خلف سعيد بن المسيب، وخلف مالك بن أنس، أو كما قال. يعني أن هؤلاء الأئمة الذين اجتمعت الأمةُ على الصلاة خلفهم؛ كانوا لا يتوضؤون من الدم من غير السبيلين. وكذلك أبو يوسف -فيما أظن- لما حجَّ مع هارون الرشيد، فاحتجمَ الخليفة، فأفتاه مالك أنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لأبي يوسف: أصليتَ خلفه؟ فقال: سبحان الله! أمير المؤمنين!؟ يريد بذلك أن تَرْكَ الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل [أهل] البدع، كالرافضة والمعتزلة والخوارج. فهذه النصوص وأمثالها عن هؤلاء الأئمة تُخالِف من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأمومُ وجوبَه لم يَصِحَّ اقتداؤه به. يُوضِّحُ ذلك أن مذهب عامة أئمة الإسلام -مثل مالك والشافعي وأحمد- أن الإمام إذا ترك الطهارة ناسيًا، مثل أن يصلي وهو جنب أو مُحدِث ناسٍ لحَدَثِه، ثم تَذكَّر بعد صلاته؛ فإن صلاة المأموم صحيحة، ولا قضاء عليه. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين مثل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهما من الصحابة. فالإمام إذا كان مُخطئًا في نفسِ الأمر كان بمنزلةِ الناسي، وقد دلَّ الكتاب والسنة (1) أنَّ الله تجاوزَ لهذه الأمةِ عن الخطأ والنسيان. فإذا كانت

_ (1) في آخر سورة البقرة: 286 (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). وقد قبل الله =

- غلط الغالط في هذا الأصل

صلاة المأموم تَصِحُّ خلفَ إمام تجبُ عليه الإعادة؛ فخلف إمام لا تجب عليه الإعادة أولى. وذلك أن صلاة المأموم إن لم تكن مرتبطة بصلاة الإمام، بل كلٌّ منهم يصلِّي لنفسه؛ فلا محذور. وإن كانت مرتبطة؛ فالإمام معفوٌّ عنه في موارد الاجتهاد، فصلاته أيضًا باجتهادٍ صحيحةٌ عند المأموم. وإنما غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل بحيث يَتوهَّمُ أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وليس كذلك، فإنه إذا صلى باجتهاده السائغ؛ لم يكن في هذه الحال محكومًا ببطلان عبادته، بل بصحتها، كما يُحكَم بصحة حكمه في موارد الاجتهاد حتى يُمْنَع نقضُه. فأما فعلُ المحظورات ناسيًا فأسهل، فإن أكثر الأئمة -مثل مالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه- لا يرون الكلام في الصلاة ناسيًا يُبطِلُ الصلاة، ولا يوجب الإعادة، فالإمام إذا فعلَ محظورًا متأولاً؛ فالمخطئ كالناسي. وإذا لم تجب الإعادة عليه فكيف لا يصح الائتمامُ به؟

_ = هذا الدعاء كما في حديث ابن عباس الذي رواه مسلم (125، 126). وأخرج ابن ماجه (2045) عن ابن عباس مرفوعَا: "إنّ الله وضعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرِهوا عليه". وقد رُوِي من طرقٍ، وأعلَّه أحمد وأبو حاتم. انظر تفسير ابن كثير (2/ 677).

وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم". وهذا نص صريح في أنّ الإمام إذا أخطأ كان خطؤُه عليه لا على المأموم، والمجتهد غايتُه أن يكون أخطأ بتَرْكِ واجب اعتقدَ أنه ليس واجبًا، أو فِعْلِ محظورٍ اعتقدَ أنه ليس محظورًا. ولا يَحِلُّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالفَ هذا الحديثَ الصحيح الصريحَ بعدَ أن يَبلُغَه. وقد روى الإمام أحمد (2) وأبو داود (3) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَنْ أمَّ الناسَ فأصابَ الوقتَ وأتمَّ الصلاةَ فله ولهم، ومن انتقصَ من ذلك شيئًا فعليه ولا عليهم". وروى ابن ماجه (4) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الإمام ضامنٌ، فإن أحسنَ فله ولهم، وإن أساءَ - يعني: فعليه ولا عليهم". وهذه السنة الصحيحة الصريحة قد اتصلَ بها الإجماعُ القديمُ، وعُمِلَ بها زمنَ القرون الثلاثة الفاضلة في جميع الأمصار، فإنه قد كان في عهد الصحابة من يقرأ البسملةَ سرًّا، ومن يقرأ بها جهرًا،

_ (1) برقم (694). (2) 4/ 145، 154، 156، 201. (3) برقم (580). ورواه أيضًا ابن خزيمة (1513) وابن ماجه (983). (4) برقم (981).

- عدم صحة الاقتداء بالمخالف يوقع في مذاهب أهل الفرقة والبدعة

ومن لا يَقرأ بها سرًّا ولا جهرًا، وكلٌّ منهم يُصلِّي خلفَ الآخر وإن كان يُرجِّح قولَه. ومن أجودِ ما احتجَّ به من يَرى الجهرَ بالبسملة حديثُ معاوية (1)، لما قَدِمَ المدينةَ فتَرك قراءةَ البسملة في الركعة الأولى في أولِ الفاتحة وأولِ السورة، حتى هَتَفَ به الصحابةُ فقرأها في الركعة الثانية. وقد اعتمد الشافعي على هذا الأثر في "الأم"، وفيه إجماع أولئك الصحابة على الصَّلاةِ خلفَه وإن كان قد تركَ ذلك، وإن كانوا قد أنكروا تركَه. ومن قال من المتفقهة أتباعِ المذاهب: إنه لا يَصِحُّ اقتداؤه بمن يخالفُه إذا فَعَلَ أو ترك شيئًا يقدح في الصلاة عند المأموم؛ فقَوْدُ مقالتِه يُوقِعُه في مذاهب أهل الفرقة والبدعة، من الروافض والمعتزلة والخوارج، الذين فارقوا السنة، ودخلوا في الفرقة والبدعة. ولهذا آل الأمرُ ببعض الضالّين إلى أنه لا يُصلِّي خلفَ من يَرفَعُ يديه في المواطن الثلاثة، والآخر لا يرى الصلاة خلفَ من ترك الرفعَ أول مرة، وآخر لا يصلي خلف من يتوضأ من المياه القليلة، وآخر لا يصلي خلف من لا يتحرز من يسير النجاسة المعفو عنها عنده، إلى أمثال هذه الضلالات التي توجب أيضًا أن لا يُصلِّي أهلُ

_ (1) أخرجه الشافعي في "المسند" (1/ 74) و"الأم" (1/ 94) والحاكم في "المستدرك" (1/ 233) عن أنس بهذا. ورواه الشافعي أيضًا من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه بهذا الخبر.

- الواجب على ولاة الأمور المنع من هذه البدع وتأديب من يظهر شيئا من هذه المقالات المنكرة

المذهب الواحد بعضُهم خلف بعض، ولا يُصلِّي التلميذ خلف أستاذه، ولا يصلي أبو بكر خلف عمر، ولا عليٌّ خلف عثمان، ولا يصلِّي المهاجرون والأنصار بعضُهم خلف بعض. ولا يخفى على مسلمٍ أن هذه من مذاهب أهل الضلال، وإن غَلِطَ فيها بعضُ الناس. فهذه الفتوى لا تحتمل بسطَ هذا الأصل العظيم الذي هو جماع الدين. والواجب على ولاة الأمور المنعُ من هذه البدع المُضِلَّة، وتأديب من يُظهِر شيئًا من هذه المقالات المنكرة، وإن غلط فيها غالطون، فموارد النزاع إذا كان في إظهارها فساد عام؛ عُوقِبَ مَن يُظهِرها، كما يُعاقَب من يشرب النبيذ متأولاً، وكما يُعاقَب البغاةُ المتأولون، لكفِّ الجماعة، وان الناس (1) بعضهم عن البعض. وهذه الأصول الثلاثة التي يشتمل عليها هذا الواجب: (أن موارد الاجتهاد معفوّ فيها عن الأئمة، وأن الاجتماع والائتلاف مما تجب رعايته، وأن عقوباتِ المعتدين متعينة) هي من أجلِّ أصول الإسلام. وقد أخرجا في الصحيحين (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه عامَ الخندق: "لا يُصلِّينَّ أحدٌ

_ (1) كذا في الأصل. (2) البخاري (946، 4119). ورواه مسلم (1770) بلفظ: "لا يُصلينّ أحدٌ الظهرَ إلاّ في قريظة". انظر كلام الحافظ عليه في "الفتح" (7/ 408 - 409).

العصرَ إلاّ في بني قريظةَ"، فأدركتْهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلِّي إلاّ في بني قريظةَ، فصَلَّوا بعد الغروب، وقال آخرون: لم يُرِد منّا توقيتَ الصلاة، فصلَّوا في الطريق. فبلغ ذلك النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يَعِبْ على واحدةٍ من الطائفتين. فقد أقرَّهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اجتهادهم في حياتِه، فبعدَ وفاتِه أولى وأحرى. والحمد لله وحدَه. (تمت الفُتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي الشافعي، غَفَر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين).

(14) رسالة إلى السلطان الملك المؤيد

رسالة إلى السلطان الملك المؤيَّد

- الهدى كمال القوة العلمية، والرشاد كمال القوة العملية

بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن تيمية إلى المولى السيِّد السلطانِ الملكِ المؤيَّد، أيده الله بتكميل القوتينِ النظريةِ والعلميةِ، حتى يُبلِّغَه أعلى مراتب السعادةِ الدنيويةِ والأخرويةِ، ويجعلَه ممن أتمَّ عليهِ نِعَمَه الباطنَةَ والظاهرة، وأعطاه غايةَ المطالب الحميدةِ في الدنيا والآخرة، وجعلَه معَ الذين أنعمَ عليهم من النبيين والصدِّيقينَ والشهداءِ والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا. ففي الهُدَى كمالُ القوةِ العلمية، وفي الرَّشادِ كمالُ القوة العملية، وبهما أخبرَ أنه أرسلَ رسولَه حيثُ قال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)) (1). فالهدى يتضمنُ كمالَ القوة العلمية، ودينُ الحق يتضمنُ كمالَ القوةِ العملية. وقد نزهه عن ضدِّ ذلك في مثلِ قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) (2). فنزَّهَه عن "الضلالِ" المناقضِ للهدى، وهو النقص في القوة العلمية، وعن "الغَيّ" المناقضِ للرشاد، وهو النقص في القوة العملية.

_ (1) سورة التوبة: 33، سورة الفتح: 28، سورة الصف: 9. (2) سورة النجم: 1 - 4.

- أنواع تكليم الله للعباد ثلاثة

ثم أخبرَ بكمالِه فيهما بقوله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)) وهو هَوى النفس المُفسِدُ للقوة العملية، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) وهو أعلى مراتبِ إعلامِ اللهِ لعبادِه، وإن كان أهلُه متفاضلين فيه. فكمال التنزُّهِ عن الخطأ للأنبياء صلواتُ الله عليهم وسلامُه، وهم فيه متفاضلون، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) (1)، وقال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (2). وقد استوعبَ سبحانَه أنواعَ جنسِ تكليمه لعباده في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (3)، فجعل ذلك ثلاثة أنواع: الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء يَقَظَةً ومنامًا، فإنّ رؤيا الأنبياءِ وحي. والتكليم من وراءِ حجاب، كما كلَّمَ موسَى بن عمرانَ حيثُ نادا وقَرَّبَه نَجِيًّا. والتكليم بإرسال رسول يُوحي بإذنِه ما يشاءُ هو تكليمُه بواسطةِ إرسال الملَكِ، كما قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18)) (4)، أي علينا أن نجمعَه في قلبك، ثمَّ علينا أن نقرأه

_ (1) سورة الإسراء: 55. (2) سورة البقرة: 253. (3) سورة الشورى: 51. (4) سورة القيامة: 17 - 18.

بلسانك. وهذا على أظهر القولين، وهو أن "قَرَأ" بالهمزة من الظهور والبيان، وقولهم: مَا قَرَأَتِ الناقةُ بسَلاَ جَزُوْرٍ قَطُّ، أي ما أَظهرتْه، بخلاف "قَرَى يَقْرِيْ" فإنه من الجَمع، ومنه سُمِّيتِ القريةُ قريةً، والمَقْرَاةُ مُجتمع الماء. فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) أي قرأناه بواسطةِ جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18)). وهذا كقوله تعالى: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) (1)، وإنما ذلك بتوسُّط قراءةِ جبريلَ وتلاوته، كقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (2). فإنّ هذا قد جعله سبحانَه أحدَ أنواع الجنس العامّ المقسوم، وهو تكليمُ الله لعبادِه، ولهذا قال عُبادةُ بن الصامت: رؤيا المؤمنِ كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في منامِه. وأدنَى مراتب ذلك الوحي المشترك: الذي يكون لغير الأنبياء، كقوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) (3)، وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (4). وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجَه في النبوة من الفلاسفةِ مَن أدرجَه، كابن سِينا وأمثالِه، فإنّ أرسطو وأتباعَه القدماءَ ليس لهم في النبوةِ كلامٌ، إذْ كان أرسطو هو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني

_ (1) سورة القصص: 3. (2) سورة. الشورى: 51. (3) سورة المائدة: 111. (4) سورة القصص: 7.

- الإسكندر المقدوني ليس ذا القرنين

الذي يُؤَرَّخ له التاريخ الرومي، وبه يُؤَرِّخ كثير من اليهودِ والنصارى، وكان قبل المسيح عليه السلامُ بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ. وبعدَ المسيح بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ كان قُسْطَنْطِينُ الذي أقامَ دينَ النصارى بالسيف، وفي عهدِه أحدثوا الأمانةَ وتعظيمَ الصليب واستحلالَ الخنزير والقولَ بالتثليثِ والأقانيمِ بمَجْمَعِهِم الأوّل المسَمَّى بمجمعِ نِيْقِيَة. وهذا الإسكندر المقدوني هو الذي ذهبَ إلى أرضِ الفُرْسِ وغَيَّر ممالِكَهم، وليس هو ذا القَرنين المذكور في القرآن، الذي بَنَى سَدَّ يأجوجَ ومأجوجَ، فإنّ هذا كانَ متقدمًا على ذلك، وكان موحدًا مسلمًا. والمقدوني لم يَصِل إلى تلك الأرض، وكان هو وقومُه مشركين يعبدون الهياكلَ العُلْوِيةَ والأصنامَ الأرضيةَ، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلتْ إليهم دعوةُ المسيحِ عليه الصلاةُ والسلام، فأسلمَ منهم من أسلمَ، وكانوا متبعينَ لدينِ المسيحِ الحقِّ، إلى أنْ بُدِّلَ منه ما بُدِّلَ. وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائرِ البحر، لم يَصِلْ إليهم من أخبار إبراهيم وآل إبراهيم -كموسى بن عمران وغيرِه- ما عَرَفوا به حقيقةَ النبوة، ولهذا كان أرسطو أوَّلَ من قالَ بقِدَمِ الأفلاكِ من هؤلاء، بخلافِ مَن قبلَه كأفلاطونَ وشيخِه سُقراطَ، وشيخِ سقراط فيثاغورسَ، وشيخ فيثاغورسَ انبدقلس، فإنّ هؤلاء كانوا يقولون بحدوث صورة الفلك، ولهم في المبادئ كلام طويل قد بَسطناهُ في الكتاب الكبير (1) الذي ذكرنا فيه مقالاتِ العالَم في مسألة

_ (1) لعله يقصد به "درء تعارض العقل والنقل"، فقد أطال فيه الكلام على مسألة حدوث العالم والردّ على حجج الرازي، وخاصة في المجلدين الثاني والثالث منه.

- الصحابة والتابعون أتوا بخلاصة المعقول والمنقول

حدوثِ العالم وقِدَمِه، فإنها منشأُ نزاع الأولين والآخرين في أقوالِ الربّ وأفعالِه، وعنها تنازعَ أهلُ المللَ من المسلمين وأهلِ الكتاب في كلام الربّ: هل هو قديمُ النوع أو العينِ؟ وهل هو قائمٌ به أو مباينٌ لهَ؟ وهل يتكلمُ بقدرته ومشيئتِه أو هو لازمٌ له لزومَ الحياة؟ وكذلك تنازعوا في دوامِ الحدوثِ ووجودِ ما لا يتناهَى منها في الماضي والمستقبلِ: هل هو ممتنعٌ في الماضي والمستقبل؟ كما يقوله الجهمُ وأبو الهذيل، أو هو جائز في المستقبل ممتنعٌ في الماضي؟ كما يقوله كثير من المتكلمين، أم هو جائز فيهما، كما يقوله أئمةُ أهلِ الملل وأئمة الفلاسفة، لكنَّ أئمةَ أهلِ المللِ لا يُجوِّزون ذلك إلا في قديم واحدٍ، لا يُجوزون أن يكون شيئانِ كل منهما قديم أزليّ يقومُ به حوادثُ لا بدايةَ لها ولا نهايةَ، فيكون ما لا يتناهَى لا في الماضي ولا في المستقبل قابلاً لأن يُزادَ عليه. وهذا المحالُ إنما يَلْزَمُ مَن قال بقِدَمِ الأفلاك، وأما أئمة أهلِ السنة -كالصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ومَن سَلَك سبيلَهم من أئمة المسلمين- فهؤلاءِ أَتَوا بخلاصةِ المعقولِ والمنقول، إذْ كانوا عالمين بأنَّ كلاًّ من الأدلة السمعية والعقلية حق، وأنَّها متلازمةٌ، فمن أعطَى الأدلةَ العقليةَ اليقينية حَقَّها من النظرِ التام عَلِمَ أنها موافِقة لِمَا أخبرتْ به الرسُلُ، ودَلتْهُ على وجوب تصديقِ الرسُل فيما أخبروا به. ومَن أعطَى الأدلَّةَ السمعيةَ حقَّها مَن الفهم عَلِمَ أنَّ اللهَ أرشدَ عِبادَه في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية، التي بها يُعلَم وجودُ الخالقِ وثبوتُ صَفاتِ الكمالِ له، وتنزُّهُه عن النقائصِ وعن أن يكون له مِثْل في شيء من صفاتِ الكمال، و [التي تَدُلُّ] على

- طرق العلم ثلاثة: الحس والنظر والخبر

وحدانيتِه ووحدانيةِ ربوبيتِه ووحدانية إلهيتِه، وعلى قدرته وعلمِه وحكمتِه ورحمتِه، وصِدْق رُسُلِه ووجوب طاعتِهمِ فيما أوجَبوا وأَمَروا، وتصديقِهم فيما أعلَموا به وأخبروا، وأنَّهم كمَّلُوا بما أُوتُوا من الهُدَى ودينِ الحق للعِبادِ ما كانتْ تَعْجزُ مجردُ عقولهم عن بلوغِه. إذْ كانت طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر. فأتباعُهم جمعَ الله لهم غايةَ الفضائلِ العلمية والعملية، ولهذا كانت أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير أمةٍ أخرجت للناس، فإنّ الله جمعَ لهم من الفضائل ما فرقَه في غيرِهم من الأمم، فجمعوا إلى ما خصَّهم الله به ما كان عند غيرِهم من أهل الكتاب ومن فلاسفةِ اليونانِ والفُرسِ والهند وغيرِهم. ولما كان سلفُ هذه الأمة عالمين بغاياتِ العلوم العقلية والسمعية وعَلِمُوا تَلازُمَهما، لم يكن بينهم تنازع ولا تعارض. وقد أخبرَ الله في كتابه بما دَلَّ به على أنَّ كلاًّ من العقل والسمع يُوجبُ النجاةَ، فقال تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) (1)، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) (2)، وقال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (3).

_ (1) سورة الملك: 10. (2) سورة الحج: 46. (3) سورة ق: 37.

- الرسول بين للناس الأدلة العقلية

فدَل على أنَّ مجردَ العقل يُوجبُ النجاةَ وكذلك مجردُ السمع، [و] معلوم أن السمع لا يُفيد دونَ العقل، فإنّ مجردَ إخبارِ المخبرِ لا يَدُل إن لم يُعلَم صِدقُه، وإنما يُعلَم صِدقُ الأنبياء بالعقل، لكن طائفةً من أهل الكلام ظنُّوا أنَّ دلالةَ السمع إنما هي من جهةِ المخبرِ فقط، وقد عَلِمُوا أن الخبرَ لا يُفِيد إن لم يُعلَم بالعقلِ صدقُ المخبِرِ، فجعلوا دلالةَ العقلِ خارجةً عما جاءت به الأنبياء. وأما حُذَّاقُ المتكلمين فعَلِموا أن الرسول بَيَّنَ للناسِ الأدلةَ العقليةَ التي بها يُعرَف إثباتُ الصانع وتوحيدُه وصفاتُه وصِدْقُ رسوله، وعَلِمُوا أنه لا يكون عالمًا بالكتاب والسنَّةِ إلاّ مَن عَلِمَ ما فيهما من الأدلة العقلية التي تَدُل على المطلوب، مثلَ العلمِ بصدْقِ المخبِرِ، وأنَّ الله إنما بعثَ رسولاً إلى الخلقِ ليَهديَهم ويُخرِجهم من الظلماتِ إلى النور، ويَهدِيَهم إلى الصراطِ المستقيم، ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسنُ. إذْ بعثَه بالهدى ودينِ الحق، وقد أكملَ له ولأمتِه الدِّينَ، وأتمَّ عليهم النعمةَ. وقد تضمَّنَتْ رسالتُه ما به يُعلَم ذلك من الأدلة العقلية، وإلاّ فمجرَّدُ إخبارِ المخبرِ قبلَ العلمِ بصِدْقِه لا يُفِيدُ علمًا. وكذلك الأدلة العقلية لا يكونُ النَاظرُ فيها قد أعطاها حقَّها حتَّى تَدُلَّه على صِدْقِ الرسول، فإنَّ الأدلة العقلية اليقينية مستلزمة لذلك، وثبوتُ الملزِوِم بدون ثبوتِ اللازم محال. ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى) (1) الآية إلى (السَّعِيرِ (11)). فدَل ذلك على

_ (1) سورة الملك: 8 - 11.

- السلف كانوا عالمين بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنه يمتنع أن تكون متعارضة

أنهم كذَّبوا الرسُلَ فاستحقُّوا العذابَ، ودَلَّ على أنهم لم يكونوا يعقلون، وأنهم لو عَقَلُوا لصَدَّقوا الرسُلَ. فلمّا كانَ السلفُ عالمينَ بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنها متلازمة، عَلِمُوا أنه يَمتنعُ أن تكون متعارضة، فإنّ الأدلةَ القطعية اليقينية يَمتنِعُ تعارضُها، لوجوب ثبوتِ مدلولها، فلو تعارضتْ لَزِمَ إمّا الجمعُ بين النفي والإثبات، وَإمّا رَفْعُهما. والنقيضانِ لا يجتمعانِ ولا يرتفعانِ. لكن جاءَ بعدَهم من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجبُه النظَرُ المعقولُ، َ فظَنُّوا في أقوالِ الربِّ وأفعالِه في مسألة حدوثَ العالَمِ وغيرِها ظُنونًا مُخطِئةً، ليستْ مطابقةً لخبرِ الرسُلِ ولا لموجب العقلِ، وصارَ يَظُنُّ من لا يَعرِف دينَ الرسُلِ أن هذا هو دينُهم، ورأوا في ذلك ما يُناقِضُ صريحَ العقلِ. فكان هذا من أسبابِ اضطرابِ الناسِ في أمر الرسُلِ: فطائفة تقول: إنما جاءوا في العلوم الإلهية بطريقِ التخييل وخطابِ الجمهور. وطائفة تقول: بل جاءوا بطريقٍ لا يَدُلُّ على المقصود، بل يُشْعِرُ بنقيضِه، ليَعرِفَ الناسُ الحقَّ بأنفسِهم لا من جهة الأنبياء. ثمّ يتأوَّلون ما قالتْه الأنبياءُ على ما عندهم. وطائفة تقول: فيما جاءت به الأنبياءُ متشابه لا يَعلَم معناه لا الأنبياءُ ولا غيرُهم، ظَنُّوا أنَّ الوقفَ على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) (1)، وأنه إذا كان الوقفُ على هذا فالمرادُ بالتأويلِ صَرْفُ اللفظِ

_ (1) سورة آل عمران: 7.

- لفظ "التأويل" يأتي لثلاثة معان

عن الاحتمالِ الراجح إلى الاحتمالِ المرجوح. وصارَ مِن هؤلاء مَن يقول: هذه الألفاظ تُجرَى على ظاهرِها، ولا يَعلَم تأويلَه إلاّ الله، فيَجمعُ بين النقيضَيْنِ. ولم يَعلَموا أنَّ لفظَ "التأويلِ" بحسبِ تعدُّدِ الاصطلاحات صارَ مشتركًا في ثلاثة معانٍ: معناه في القرآن هو ما يَؤُوْلُ إليه الكلامُ وإنْ وافقَ ظاهرَه، كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (1). وهذا التأويل لا يَعلمه إلاّ الله، كوقتِ الساعة. ويُرادُ بالتأويل نفسُ الكلام وما قُصِدَ إفْهامُ الناسِ إيَّاهُ، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم. ولا يجوز أن يُنزِل اللهُ كتابا يأمر بتدبُّرِه وعَقْلِه، وقد فسَّرهُ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابُه كُلَّه للمسلمين، ويكون فيه ما لا يَعلَمُ تفسيرَه لا النبيُّ ولا أحد من أمته. ويُرادُ بالتأويل تحريفُ الكلمِ عن مواضعِه، وتفسيرُ الكلامِ بغيرِ مرادِ المتكلِّم، كتحريفِ أهلِ الكتاب لِمَا حَرَّفوه من الكتاب، وتحريفِ الملاحدةِ وأهلِ الأهواء لِما حَرَّفوه من معاني هذا الكتاب. وهذا تأويلٌ باطلٌ يَعلَم اللهُ أنه باطلٌ، لا أنه يَعلَم أنه حقّ، كما قال تعالى: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (2). فإنه سبحانَه

_ (1) سورة الأعراف: 53. (2) سورة يونس: 18.

- السلطان من أحق من تجب معاونته على مصالح الدنيا والآخرة

يَعلم الأشياءَ على ما هي عليه، يَعلمُ الموجودَ موجودًا والمعدومَ معدومًا، فما كان معدومًا لا يَعلمه موجودًا. وهذا باب واسع. والسلطانُ -أيَّدَه الله وسَدَّدَه- هو مِن أحقِّ مَن تَجبُ معاونتُه على مصالح الدنيا والآخرة، لِمَا جَمَعَ الله فيه من الفضائلَ والمناقب. وكان من أسباب هذه التحية أنَّ فلانًا قَدِمَ، ولكثرةِ شكرِه للسلطانِ وثنائِه عليه ودُعاَئِه له حتى في الأسحارِ وغيرِها يُكثِرُ المفاوضةَ في محاسنِ السلطان، ويُجَدِّدُ بحضورِه للسلطانِ من الثناءِ والدعاءِ ما هو مِن بُشْرَى المؤمن، كما قالوا: يا رسول الله! الرجلُ يَعملُ العملَ لنفسِه فيَحْمَدُه الناسُ عليه، فقال: "تلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المؤمنِ" (1). فالسلطانُ جَعلَ اللهُ فيه مِن الاشتمالِ على أهلِ الاستحقاقِ ما يَأجُرُه الله عليه. وفلانٌ هذا من خِيارِ الناس وأصدقِهم وأنفعِهم، ومن بيت معروف، وقد جعلَ الله فيه من المحبَّهِ والثناء على السلطان ما هو من نِعَم الله عليه، وهو من أهل الخيرِ والدين معروف، فجَمعَ الله بسببه للسلطان قلوبًا تُحِب السلطانَ وتَدعُو له. واللهُ تعالَى يَجمع له خير الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى سائرِ من يُحيط به العناية الكريمة. والحمد لله ربِّ العالمين.

_ (1) أخرجه مسلم (2642) عن أبي ذر.

(15) رسالة إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار

رسالة إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار

بسم الله الرحمن الرحيم (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)) (1). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)) (2). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شيئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ

_ (1) سورة التوبة: 33. (2) سورة الصف: 9 - 14.

- تكفل الله بنصر هذا الدين إلى يوم القيامة

وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)) (1). إلى سلطان المسلمين، نصرَ الله به الدين، وقمعَ به الكفّار والمنافقين، وأعزَّ به الجند المؤمنين، وأدالَهم به على القوم المفسدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسألُه أن يُصلي على محمدٍ عبدِه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا. أما بعد، فإن الله قد تكفَّل بنَصْر هذا الدين إلى يوم القيامة، وبظهورِه على الدين كلِّه، وشهد بذلك، وكفى بالله شهيدًا. وأخبر الصادقُ المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلَهم إلى يوم القيامة (2)، وأخبر أنهم بالناحية الغربية عن مكة والمدينة (3)، وهي أرضُ الشام وما يليها. كما أخبرنا أنه لا تقوم الساعةُ حتى تقاتلوا (4) التُّركَ، قومًا صِغارَ

_ (1) سورة التوبة: 38 - 41. (2) أخرجه مسلم (1920) عن ثوبان. وفي الباب عن المغيرة بن شعبة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وعقبة بن عامر وغيرهم أخرج أحاديثهم مسلم وأحمد وغيرهما. (3) في حديث سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه مسلم (1925): "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". (4) في الأصل: "تقاتل".

- ما زالت دلائل النبوة تظهر شيئا فشيئا

الأعينِ دُلْفَ الآنف، ينتعلون الشَّعْرَ، كأن وجوههم المَجَانُّ المُطرقة (1). وأخبر (2) أن أمتَه لا يزالون يقاتلون الأمم حتى يقاتلوا الأعورَ الدجَّالَ، حين ينزل عيسى بن مريم من السماء على المنارة البيضاء شَرْقِيَّ دمشق، فيَقتُل المسلمون جُندَه القادمَ معه من يهود أصبهان وغيرهم. وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كلِّ مئة سنةٍ مَن يُجَدِّدُ دينَها (3). ولا يكون التجديد إلاّ بعد استهدام. وقال: "سألتُ ربّي أن لا يُسلِّطَ على أمتي عدوًّا من غيرهم فيجتاحُهم، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلِكهم بسَنةٍ عامةٍ، فأعطانيها" (4). وما زالت دلائل نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَظهر شيئًا بعد شيء. وقد أظهر الله في هذه الفتنة (5) من رحمته بهذه الأمة وجُنْدِها ما فيه عبرةٌ، حيثُ ابتلاهم بما يُكفر به من خطاياهم، ويُقبِل بقلوبهم على ربّهم، ويجمع كلمتهم على وليّ أمرِهم، ويَنزِعَ الفُرقةَ والاختلاف من بينهم،

_ (1) أخرجه البخاري (2928) ومسلم (2912) من حديث أبي هريرة. (2) كما في حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم (2937) وغيره. (3) أخرجه أبو داود (4291) من حديث أبي هريرة. (4) أخرجه مسلم (2890) عن سعد بن أبي وقاص. (5) يشير بها إلى وقعة قازان سنة 699، التي انكسر فيها جيش السلطان الملك الناصر أمام التتار بوادي الخزندار، وقُتل فيها جماعة من الأمراء وخلقٌ كثير من العوام، وأبلوا بلاء حسنًا. انظر "نهاية الأرب" (31/ 384) و"البداية والنهاية" (17/ 718).

- الجهاد واجب على كل مسلم قادر، ومن لم يقدر فعليه أن يجاهد بالمال

ويُحرك عَزَماتِهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله. فان هذه الفتنة التي جَرتْ، وإن كانت مُؤلمةً للقلوب، فما هي -إن شاء الله- إلاّ كالدواء الذي يُسقَاه المريضُ ليحصل له الشِفاءُ والقوة. وقد كان في النفوس من الكِبْر والجهل والظلم ما لو حَصل معه ما تشتهيه من العِزّ لأعقَبها ذلك بلاءً عظيما. فرحمَ الله عبادَه برحمتِه التي هو أرحم بها من الوالدة بولدها، وانكشف لعامة المسلمين شَرْقًا وغَرْبًا حقيقةُ حالِ هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة الإسلام وإن تكلموا بالشهادتين، وعَلِمَ مَن لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل والظلم والنفاق والتلبيس والبُعد عن شرائع الإسلامٍ ومناهجه، وحَنَّتْ إلى العساكر الإسلامية نفوس كانت مُعرِضة عنهم، ولانَتْ لهم قلوبٌ كانت قاسية عليهم، وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته مالم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابتْ نفوسُ أهلِ الإيمان ببَذْلِ النفوس والأموال للجهاد في سبيل الله، وأعدُّوا العدَّة لجهاد عدوِّ الله وعدوهم، وانتبهوا من سِنَتِهم، واستيقظوا من رَقْدَتِهم، وحمدوا الله على ما أنعمَ به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من الأموال للإنفاق في سبيل الله. فإنّ الله فَرضَ على المسلمين الجهاد بالأموال والأنفس، والجهادُ واجب على كل مسلمٍ قادرٍ، ومن لم يَقدِر أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بمالِه إن كان له مالٌ يتّسَع لذلك، فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس. ومن كَنَزَ الأموالَ عند الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء أو التجّار أو الصُّنَاع أو الجند أو غيرهم، فهو داخل في قوله سبحانه (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

- ذم المخلفين عن الغزو بأقبح الذم

وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)) (1)، خصوصًا إن كانت الأموالُ من أموال بيت المال، أو أموالٍ أُخِذتْ بالربا ونحوه، أو لم تُؤَدَّ زكاتُها ولم تُخرَج حقوقُ الله منها. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحضُّ المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، حتى إنه في غَزَاة تبوك حَضَّهُم، وكان المسلمون في حاجةٍ شديدة، فجاء عثمان بن عفان بألفِ راحلةٍ من ماله في سبيل الله بأَحْلاسِها وأَقْتابِها، وأعوزتْ خمسين راحلة فكمَّلها بخمسين فرسًا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ضَرَّ عثمانَ ما فَعَلَ بعدَ اليوم" (2). وذمَّ الله المخلَّفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذمّ حين قال: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)) (3). وقال: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

_ (1) سورة التوبة: 34 - 35. (2) أخرجه أحمد (4/ 275) والترمذي (3701) من طريق فرقد أبي طلحة عن عبد الرحمن بن خباب السُّلَمي. وفرقد لا يعرف، وباقي رجاله ثقات. وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن سمرة أخرجه أحمد (5/ 63) والترمذي (3702) وحسنه. (3) سورة التوبة: 24.

- من ترك الجهاد عذبه الله عذابا أليما بالذل وغيره

وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) (1). فمن تَركَ الجهادَ عذَّبه الله عذابًا أليمًا بالذُّلّ وغيره، ونَزَعَ الأمرَ منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذَبَّ عنه. وفي الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بالجهاد، فإنه بابٌ من أبواب الجنة (2)، يُذهِب الله به عن النفوس الهمَّ والغمَّ" (3). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4): "لن يُغلَب اثنا عشر ألفًا من قلَّةٍ وقتالٍ، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العُسْر يُسرًا". ومتى جاهدت الأمَّةُ عدوَّها ألَّف الله بين قلوبها، وإن تركتِ الجهادَ شغَلَ بعضَها ببعض. ومن نِعَمِ الله على الأمة أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إن المؤمنين من أهل المشرق قد تحرَّكتْ قلوبُهم انتظارًا لجنود الله، وفيهم من نوى أنه يخرج مع العدوِّ إذا جمعوا، ثُمَّ إمّا أن يقفز عنهم وإمّا أن يُوقع بهم. والقلوبُ الساعةَ محترقةٌ مهتزَّةٌ لنصر الله ورسوله على القوم المفسدين، حتى إن بالموصل

_ (1) سورة التوبة: 39. (2) في الأصل: "أبواب الله". (3) أخرجه أحمد (5/ 319) عن عبادة بن الصامت. (4) أخرجه ابن ماجه (2827) عن ابن شهاب عن أنس. وأخرجه أحمد (1/ 294، 299) وأبو داود (2611) والترمذي (1555) والدارمي (2443) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. وليس عندهم إلاّ الفقرة الأولى مما ذكر هنا.

والجزيرة وجبال الأكراد خَلْقًا عظيمًا مستعدين للجهاد مرتقبين العساكر، سواء تحرك العدوُّ أو لم يتحرك. وكذلك قدمتْ (1) بنتُ بَيْدَرَا (2) وكانت مأسورةً في بيت قازان (3)، فأخبرتْ بما جرى بينه وبين أخيه وأمّه مما يؤيّد ذلك، وهي الساعةَ في نِيتِها تذهبُ إلى مصر، وقد أقامت في بيتهم مدَّةً إلى نصف شوَّال على ما ذكرتْ. وسواء ألقَى الله بينهم الفرقةَ والاختلافَ وأهلكَ رؤساءَهم أو لم يكن، فإن الأمر إذا كان كذلك فهذا عونٌ عظيمٌ من الله للمسلمين. وقد اتصل بالداعي أخبار صادقة من جهات يُوثَق بها بما قد مال مع المسلمين من أمراء تلك البلاد حتى من المغول، ولابدّ أن السلطان يُطالعُ بذلك من تلك البلاد، فإنّ هناك قوم صالحون (4) ساعون في مصالح المسلمين، كشيخ الجزيرة الشيخ أحمد. وجاءتنا أخبار مع غير واحدٍ بأن الخَرْبَنْدا أخا قازانَ (5) قد قَدِمٍ الرومَ وهو يجمع العساكر للقدوم. وقدمتْ بنت لبَيْدَرا كانت مأسورة في بيت قازان (5)، وذكرتْ أحوالاً من الكلام بين قازان (5) وأخيه الخربندا وأمِّه، تَدُلُّ على ذلك، وأن الخربندا هو في نية فاسدة

_ (1) في الأصل: "قدم". (2) كان من ملوك التتار. (3) في الأصل: "قزان". (4) كذا في الأصل مرفوعًا. (5) في الأصل: "قزان".

- لا يحل للمسلمين أن ينتظروا العدو حتى يطأوا بلادهم

للمسلمين، وأمُّه تنهاه عن ذلك، وهو لا يَقبل، ويُوقع بينهم فتنةً. فليس من الواجب أن يترك نَصْرُ الله ورسوله والجهادُ في سبيل الله إذا كان عدوّ الله وعدوّ المسلمين قد وقع البأسُ بينَهم، بل هناك يكون انتهاز الفرصة، ولا يَحِلّ للمسلمين أن ينتظروهم حتى يطأوا بلاد المسلمين كما فعلوا عام أوّل، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما غُزِيَ (1) قومٌ في عُقْر دارِهِم إلاّ ذَلُوا" (2). والله قد فرض على المسلمين الجهاد لمن خرجَ عن دينه وإن لم يكونوا يقاتلونا، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه يُجهّزون الجيوش إلى العدو وإن كان العدوُّ لا يَقصِدُهم، حتى إنه لما توفي رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت مصيبته أعظم المصائب، وتفرق الناس بعد موته واختلفوا، نَفَّذَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيشَ أسامة بن زيد الذي كان قد أمره رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الشام إلى غزو النصارى، والمسلمون إذ ذاك في غاية الضعف. فلما رآهم العدوُّ فزِعوا وقالوا: لو كان هؤلاء .... (3) ما بعثوا جيشًا. وكذلك أبو بكر الصديق لمّا حضرتْه الوفاةُ قال لعمر بن الخطاب: لا يَشغلكم مصيبتكم بي عن جهادِ عدوِّكم (4). وكانوا هم قاصدين

_ (1) في الأصل: "غزا". (2) انظر "النهاية" لابن الأثير (3/ 271). وهو معروف من كلام علي ضمن خطبة له في "البيان والتبيين" (2/ 53) و"الكامل" للمبرد (1/ 30) و"العقد الفريد" (4/ 70) و"الأغاني" (16/ 267) و"نهج البلاغة" (ص 69) وغيرها. (3) بياض في الأصل بقدر كلمة. ولعلها "ضعافًا" أو ما في معناها. وانظر عن تنفيذ جيش أسامة وما كان فيه من المصالح: "البداية والنهاية" (9/ 421 - 424) و"تاريخ دمشق" (30/ 315). (4) انظر تاريخ الطبري (3/ 414).

- أقل ما يجب على المسلمين أن يجاهدوا عدوهم في كل عام مرة

للعدو لا مقصودين. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرض موته، وهو يقول: "نَفِّذوا جيش أسامة، نَفِّذوا جيش أسامة" (1)، لا يَشغَلُه ما هو فيه من البلاء الشديد عن مجاهدة العدوّ. وكذلك أبو بكر. والساعةَ لما ذهب أميرٌ بحلب بعسكرٍ إلى الجزيرة وتصيَّد هناك، طارَ الصيتُ في تلك البلاد بمَجيءِ العسكر، فامتلأت قلوب البنجاي (2) رعبًا، حتى صاروا يريدون أنَ يُظهِروا زيَّ المسلمين لئلاّ يُؤخَذوا، وفي قلوب العدوّ رُعبٌ لا يعلمه إلا الله، وقد هُيِّئ لهم في البلاد إقامات كثيرة من الشعير وغيره، والمسلمون هناك يدعون الله أن يكون رزق المسلمين. وأقلُّ ما يجب على المسلمين أن يُجاهِدوا عدوَّهم في كلِّ عام مرةً، وإن تركوه أكثر من ذلك فقد عَصوا الله ورسولَه، واستحقوا العقوبة، وكذلك إذا تقاعدوا حتى يطأ العدوُّ أرضَ الإسلام. والتجربةُ تدلُّ على ذلك، فإنه (3) لما كان المسلمون يقصدونهم في تلك البلاد لم يزالوا منصورين، وفي نَوبتَيْ حمص الأولى والثانية لما مَكّنُوهم من دخول البلاد كاد المسلمون في تلك النوبةِ أن ينكسروا لولا أن ثبَّتَ الله، وجَرى في هذه المدة ما جرى. وما قَصَدَهم المسلمون قَطُّ

_ (1) أخرجه ابن إسحاق معلقًا كما في "سيرة" ابن هشام (2/ 650) وابن سعد في "الطبقات" (2/ 249) من طريق الواقدي. (2) كذا في الأصل. (3) في الأصل: "فان".

- في الحركة في سبيل الله أنواع من الفوائد

إلاّ نُصِروا، كنوبةِ عينِ جَالوت والفرات والروم، ونحن نرجو أن يستأصلهم الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، فإن البشارات متوفِّرة على ذلك. وقد حدَّثنا أبي رحمه الله أنه كان عندهم كتاب عتيق وقف عليه من أكثر من خمسين سنة قبل مجيئ التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: والتتار يُقلِعهم المصريون. وقد رأى المسلمون أنواعًا من المبشرات بنصر الله ورسوله، وهذا لاشكّ منه إن شاء الله. وليست هذه النوبة كتلك، فإن تلك المرة كان فيها أمورٌ لا يليق ذكرُها عفا الله عنها، وما فعلَه الله بالمسلمين كان أحمدَ في حقّهم. ثمَّ لاشك أنّ الله يَنصُر دينَه وينتقم من أعدائه، وقد قال تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)) (1). ثم في الحركة في سبيل الله أنواع من الفوائد: إحداها (2): طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا (3)، وإلاّ فما دامت القلوب خائفةً لا يستقيم الحال.

_ (1) سورة محمد: 4 - 7. (2) في الأصل: "أحدها". (3) في الأصل الفعلان بإثبات النون.

الثانية: أن البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خير كثير ورزق عظيم ينتفع به العسكر. الفائدة الثالثة: أنه يُقويّ قلوبَ المسلمين في تلك البلاد من الأعوان والنصحاء، ويزداد العدوُّ رُعبًا. وإن لم تَحصُلْ حركة فَتَرت القلوبُ، وربما انقلب قوم فصاروا مع العدوّ، فإن الناس مع القائم. ولما جاء العسكر إلى الشام كان فيه مصلحة عظيمة، ولو تقدم بعضهم إلى الثَّغْر كان في غاية الجودة. الفائدة الرابعة: أنهم إن ساروا أو بعضُهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة من الإقامات والأموال السلطانية من غير إيذاء المسلمين كان من أعظم الفوائد، وإن ساروا قاطنين متمكنين نَزَلتْ إليهم أمراءُ تلك البلاد من أهل الأمصار والجبال، واجتمعت جنود عظيمة، فإن غالب أهل البلاد قلوبهم مع المسلمين، إلاّ الكفّار من النصارى ونحوهم، وإلاّ الروافض، فإن أكثر الروافض ونحوهم من أهل البدع هواهم مع العدوّ، فإنهم أظهروا السرور بانكسار عسكر المسلمين، وأظهروا الشماتةَ بجمهور المسلمين. وهذا معروف لهم من نَوبةِ بغداد وحلب، وهذه النوبة أيضًا، كما فعلَ أهلُ الجبلِ الجرد والكِسْرَوان، ولهذا خَرَجنا في غزوهم لما خرجَ إليهم العسكر، وكان في ذلك خيرة عظيمة للمسلمين. فإذا كانت عامَّهُ القلوب هناك وهنا مع هذا العسكر المنصور، وقد أقامه الله سبحانه وأيَّده وأمده بنعمته على محمد وأمته، وقلوبُ العدوِّ في غاية الرعب منه، والله لقد رأى الداعي من رُعْبِهم مالا

يوصف، حتى إن وزيرَهم يحيى قال قُدام الداعي ومولاي يسمع: واحد منكم يغلب ستةً من هؤلاء، وهكذا يُخبِر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدًّا، فمن نعمة الله على المسلمين أن يُيسِّر غزاةً ينصر الله بها دينَه هنا وهناك. وما ذلك على الله بعزيز. وليس من شريعة الإسلام أن المسلمين ينتظرون عدوَّهم حتى يقدم عليهم، هذا لم يأمر الله به ولا رسولُه ولا المسلمون، ولكن يجب على المسلمين أن يقصدوهم للجهاد في سبيل الله، وإن بدأوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينُهم حتى يَعبُروا ديارَ المسلمين، بل الواجبُ تقدُّمُ العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله تعالى يخـ[ـتار للمسلميـ]ـن في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والحمد لله وحده، وصلّى الله على محمد عبده ورسوله.

(16) قاعدة في الانغماس في العدو، وهل يباح؟

قاعدة في الانغماس في العدوّ وهل يُباح؟

- الإيمان لا يتم إلا بالجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم الحَمْدُ لله نَسْتَعينه ونَسْتَغْفره، ونَعُوذُ بالله من شُرور أَنْفُسِنَا ومن سيئات أَعْمَالِنَا، مَن يَهْده الله فلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضلِل فلا هادي له (1). ونَشْهَدُ أن لا إله إلا الله، ونَشْهَدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أَرْسَلَهُ بالهُدَى ودينِ الحق ليُظهِرَه عَلَى الدِّينِ كلِّه، وكَفَى بالله شهيدًا، صلَّى الله عليه وعَلَى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فهذه مسألة يحتاجُ إليها المؤمنون عُمومًا، والمجاهدون منهم خصوصًا، وإن كان (2) الإيمان لا يَتِمُّ إلاّ بالجِهاد، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) (3) الآية. ولكن الجهاد يكون للكفار والمنافقين أيضًا، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في مَوْضِعَين من كتاب الله (4). ويكون الجهادُ بالنفْس والمال، كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (5). وَيكونُ بغيرِ ذلك ويَنْفعُه، لما ثبتَ في الصحيحين (6) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَنْ جَهَزَ غازيًا فقد غَزَا، ومَن خَلَفَه في أهلِه

_ (1) في الأصل: "إليه"، وهو خطأ. (2) في الأصل: "جاز". (3) سورة الحجرات: 15. (4) سورة التوبة: 73 وسورة التحريم: 9. (5) سورة التوبة: 41. (6) البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد.

بخير فقد غَزَا". ويكون الجهاد باليد والقلب واللِّسان، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "جاهِدُوا المشركينَ بأيديكم وألسنتِكم وأموالِكم"، وكما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (2): "إن بالمدينة لَرِجالاً ما سِرْتُمْ مَسِيرًا ولا قَطَعْتُمْ واديًا إلا كانوا معكم حَبَسَهُم العُذرُ". فهؤلاء كان جهادهم بقلوبِهم ودُعائِهم. وقد قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)) (3). وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4): "السَّاعِي (5) عَلَى الصَّدَقَة بالحقِّ كالمجاهِدِ في سبيلِ الله". وقال أيضًا (6): "المُجَاهِدِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في الله"، كما قال (7):

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 124، 153) والدارمي (2436) وأبو داود (2504) والنسائي (6/ 7، 51) عن أنس بن مالك. (2) البخاري (2839، 4423) ومسلم (1911) عن أنس بن مالك. (3) سورة النساء: 95. (4) أخرجه أحمد (4/ 143) وأبو داود (2936) والترمذي (645) وابن ماجه (1809) عن رافع بن خديج بلفظ: "العامل على ... ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (5) في الأصل: "الساعين". (6) أخرجه أحمد (6/ 21، 22) وابن ماجه (3934) عن فضالة بن عبيد. (7) ضمن الحديث السابق. وبعضه عند البخاري (10، 6484) عن عبد الله بن عمرو، وعند مسلم (41) عن جابر.

- الجهاد في سبيل الله أنواع متعددة

"المؤمنُ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ على دِمائهم وأموالِهم، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى الله عنه، والمسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لِسانِهِ ويِده". والجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة ... (1) سبيل الله، ويفرق بينهما النِّيّة واتِّباع الشَّريعة. كما في "السنن" (2) عن مُعاذٍ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الغَزْوُ غَزْوَانِ: فأمَّا مَن ابتغَى وَجْهَ الله، وأطاعَ الإمامَ، وأنفق الكَرِيمَةَ واجتنبَ الفسادَ؛ فإنّ نَوْمَه (3) [ونُبْهَهُ] كُلّه أجر. وأما مَن غَزَا فَخْرًا ورياءًا وسُمعة، وعَصَى الإمام، وأفسدَ في الأرضِ؛ فإنه لم يَرْجِع بالكَفَافِ". وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! الرجل يُقاتِلُ شَجَاعة ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيلِ الله". وقد قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (5). وهذه المسألة هي في الرجل أو الطائفة يُقاتل منهم أكثر من ضِعْفَيْهم (6)، إذا كان في قتالِهم منفعة للدِّين، وقد غَلَبَ على ظنِّهم

_ (1) هنا بياض في الأصل، والكلام بعده غير متصل. (2) أخرجه أحمد (5/ 234) والدارمي (2422) وأبو داود (2515) والنسائي (6/ 49، 7/ 155). (3) في الأصل: "يومه". (4) البخاري (123 ومواضع أخرى) ومسلم (1904). (5) سورة البقرة: 193. (6) في الأصل: "ضعيفهم" تحريف.

- الانغماس في العدو جائز عند عامة علماء الإسلام

أنهم يُقْتَلُون، كالرجل يَحْمِلُ وَحْدَهُ على صف الكفَّار ويَدْخُل فيهم، ويُسَمِّي العلماء ذلك الانغماس في العدوّ؛ فإنه يَغِيبُ فيهم كالشيء يَنْغَمِسُ فيه فيما يَغْمُره. وكذلك الرجل يَقْتُل بعضَ رُؤَساء الكُفار بين أصحابه، مثل أن يَثِب عليه جَهْرة إذا اخْتَلَسَه، ويرى أنه يَقْتُله ويُقتَل (1) بعد ذلك. والرجل يَنْهزِم أصحابه فيُقاتِل وحده أو هو وطائفةٌ معه العدوَّ، وفي ذلك نِكَاية في العَدو، ولكن يظنُّون أنهم يُقْتَلُون. فهذا كُلُّه جائزٌ عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرِهم، وليس في ذلك إلا خلاف شاذّ. وأمَّا الأئمة المُتَبّعَون كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد نصُّوا على جواز ذلك. وكذلك هو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما. ودليلُ ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة. أما الكتاب فقد قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)) (2). وقد ذُكِرَ أن سبب نزول هذه الآية أن صُهَيبًا خَرَجَ مُهاجرًا من مكة إلى المدينة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلَحِقَه المشركون وهو وحدَهُ، فنَثَل كِنانتَه، وقال: والله لا يأتي رجلٌ منكم إلا رَمَيْتُه. فأراد قتالهمِ وحدَه، وقال: إنْ أَحْبَبْتُم أنْ تَأخُذوا مالي بمكة فخُذُوه، وأنا أدُلُّكم عليه. ثم قَدِمَ

_ (1) في الأصل: "يغتفل"، ولعل الصواب ما أثبته أو "يُعتَقل". (2) سورة البقرة: 207.

على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رَبح البَيع أبا يَحْيَى" (1). ورَوَى أحمد (2) بإسنادِه أن رَجُلاً حَمَلَ وحدَه على العدو، فقال الناس: أَلْقَى بيَدِهِ إلى التَهْلُكة، فقال عمر: كلاّ بل هذا مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)). وقولَه تعالى: (يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيع نفسه، يُقال: شراه وباعَه سواء، واشتراه وابتاعَه سواء، ومنه قوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) (3) أي باعوه. فقوله: (يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيعُ نفسَه لله تعالى ابتغاءَ مرضاته، وذلك يكون بأن يبذل نفسه فيما يُحبُّه الله ويرضاه، وإن قُتِلَ أو غَلَبَ على ظنِّه أنه يُقْتَل. كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)) (4). وهذه الآية وهي قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ

_ (1) انظر تفسير الطبري (2/ 186 - 187) وابن كثير (2/ 525). (2) لم أجده في "مسنده". وانظر المصدرين السابقين. (3) سورة يوسف: 20. (4) سورة التوبة: 111 - 112.

وَأَمْوَالَهُمْ) تدلُّ على ذلك أيضًا، فإنَّ المشترِي يسلم إليه ما اشتراه، وذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله وطاعته، وإن غَلَبَ على ظنِّه أن النفس تُقْتَل والجواد يُعقَر، فهذا من أفضل الشهادة، لما روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما مِن أيَّامٍ العملُ الصالحُ فيها [أَحَبُّ] إلى الله مِن هذه الأيَّامِ" يعني أيام العَشْرِ. قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: "ولا الجهادُ في سبيلِ الله إلا رجل خَرَجَ بنفسِهِ ومالِه ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بشيءٍ". وفي رواية (2): "يعقر جواده وأهريق دمه". وفي "السنن" (3) عن عبد الله بن حُبْشيٍّ أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ أيُّ العمل أفضلُ؟ قال: "طُولُ القِيام". قيل: أَيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: "جَهْدُ المُقْلِّ". قيل: فأيُّ الهِجْرَةِ [أفضلُ؟ قال: "مَن هَجَرَ ما حَرَّمَ الله عليه". قيل: فأيُّ الجهاد أفضلُ؟] قال: "مَن جاهَدَ المشركينَ بنفسِه ومالِه". قيل: فأيُّ القتلِ أشرفْ؟ قال: "مَن أهريقَ دمُه وعُقِرَ جوادُه". وأيضًا فإنَّ الله سبحانه قد أخبر أنه أَمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يَقْتُل ولدَه في محبَّة الله وطاعتِه؟ وقَتْلُ الإنسان ولدَه قد يكون أَشَقَّ عليه من تَعْريضِه نفسه للقتل، والقتالُ في سبيل الله أحَبُّ إلى

_ (1) برقم (969) نحوه. واللفظ المذكور عند أحمد (1/ 224، 346) وأبي داود (2438) والترمذي (757) وغيرهم. (2) أخرجها الطبراني في "الصغير" (889). (3) أخرجه أحمد (3/ 411) والدارمي (1431) وأبو داود (1325، 1449) والنسائي (5/ 58، 8/ 94).

الله مِمَّا ليس كذلك. والله سبحانه أمر إبراهيم بذبح ابنه قُربانًا ليَمْتَحِنه بذلك، ولذلك نسخ ذلك عنه لمَّا عَلِمَ صِدْق عَزْمِه في قتلِه؛ فإن المقصود لم يكن ذبحه لكن ابتلاءُ إبراهيم. والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذلِ أنفسِهم؛ ليُقْتَلوا في سبيل الله ومحبَّة رسوله؛ فإن قُتِلُوا كانوا شهداء، وإن عاشُوا كانوا سُعداء. كما قال: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (1). وقد قال لبني إسرائيل: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) (2). أي ليَقْتُل بعضكم بعضًا. فألقَى عليهم ظلمة، حتى جَعَلَ الذين لم يعبدوا العِجْل يقتلون الذين عَبَدوه. فهذا الذي كان في شرعِ مَن قبلَنا من أَمْرِهِ بقَتْل بعضهم بعضًا قد عَوَّضَنا الله بخيرٍ منه وأنفع؛ وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوَّهم، وتعريضهم أنفسهم لأن يُقتلوا في سبيله بأيدي عدوِّهم لا بأيدي بعضهم بعضًا، وذلك أعظم درجة وأكثر أجرًا. وقد قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (3).

_ (1) سورة التوبة: 52. (2) سورة البقرة: 54. (3) سورة النساء: 66 - 68.

وأيضًا فإنَّ اللهَ أمر بالجهادِ في سبيلِه بالنَّفْسِ والمال مع أنَّ الجهاد مَظنَّة القتل، بل لابُدَّ منه في العادة مِن القتل. وذَمَّ الذين يَنْكُلُون عنه خوف القتل، وجَعَلهم منافقين، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) إلى قوله: (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (1). وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)) (2). فأخبر سبحانه أنَّ الفِرَار مِن الموتِ أو القتل لا ينفع، بل لابُدَّ أنْ يموتَ العبدُ، وما أكثرَ مَن يَفِرّ فيموت أو يُقْتَل، وما أكثرَ مَن ثَبت فلا يُقْتَل (3). ثمَّ قال: ولو عِشتْمُ لم تُمَتَّعوا إلا قليلاً ثمَّ تموتوا. ثمَّ أخبر أنَّه لا أحدَ يعصمهم مِن الله إن أرادَ أنْ يرحمهم أو يعذَبهم، فالفرار مِن طاعتِه لا يُنَجِّيهم. وأخبر أنه ليس لهم مِن دون الله وليّ ولا نصير. وقد بيَّنَ في كتابه أنَّ ما يُوجبُه الجُبْنُ مِن الفرار هو من الكبائر الموجبةِ للنَّار، فقال: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)

_ (1) سورة النساء: 77 - 78. (2) سورة الأحزاب: 15 - 17. (3) بعده في الأصل بعض الآيات السابقة والكلام المذكور في هذه الفقرة، فحذفناه.

- دلالة السنة على ذلك

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)) (1). وأخبرَ أن الذين يخافون العدوَّ خوفًا منَعَهم من الجهاد منافقون، فقال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)) (2). وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه عَد الكبائر؛ فذكر الشرك بالله، وعُقُوق الوالدين، والسِّحر، واليمين الغَمُوس، وقذف المُحْصنات الغافلات المؤمنات. وذكر منها الفرار من الزَّحْف في الصَّفَّيْن. [و] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "شَرُّ ما في المَرْء: شُحٌّ هالِعٌ، أو جُبْنٌ خالِعٌ" (4). وأما دلالةُ سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك فمن وجوه كثيرة: منها: أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها. فعُلِمَ أنَّ القوم يُشْرَع لهم أن يُقاتِلوا من يَزِيدون على ضِعْفِهم، ولا فرقَ في ذلك بين الواحد والعدد، فمُقَاتَلة الواحد للثلاثة كمُقَاتَلة الثلاثة للعَشَرة.

_ (1) سورة الأنفال: 15 - 16. (2) سورة التوبة: 56 - 57. (3) البخاري (2766، 6857) ومسلم (89) عن أبي هريرة. (4) أخرجه أحمد (2/ 302، 320)، وأبو داود (2511).

- ذكر قصة عاصم بن ثابت الأنصاري

وأيضًا فالمسلمون يوم أُحُد كانوا نحوًا من رُبُع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها، وكان المسلمون نحو السّبعمائة أو قريبًا منها. وأيضًا فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقَدْرِهِم مرَّات، فإنّ العدوّ كان أكثرَ من عشرة آلاف، وهم الأحزابَ الذين تَحَزَّبوا عليهم من قريش وحلفائِها وأحزابِها الذين كانوا حول مكة وغَطَفان وأهل نجد، واليهود الذين نَقَضُوا العهد وهم بنو قريظة جيران أهل المدينة، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفَيْن. وأيضًا فقد كان الرجل وحْدَهُ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحمِلُ على العدو بِمَرْأى من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويَنْغمسُ فيهم، فيُقَاتل حتى يُقْتل. وهذا كان مشهورًا بين المسلمين على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه. وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة قال: بَعَثَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشرةَ رَهْطٍ عَيْنًا، وأمَّرَ عليهم عاصمَ بنَ ثابتٍ الأنصاريَّ جَدَّ عاصمِ بنِ عمر بن الخطابِ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهَدْأَةِ بين عُسْفَانَ ومكة ذُكِرُوا لِحي مِن هُذيلٍ يُقال لهم بَنُو لِحْيَانَ، فنَهَدُوا إليهم بقريب مِن مائة رجلٍ رام -وفي روايةٍ: مائتي رجل- فاقْتَفوا آثارَهم، حتى وجدوا مأكَلَهم التمر في منزل نزلوه فقالوا [هذا] تَمْرُ يَثْرِبَ. فلما أحسَّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع -وفي رواية إلى فَدْفَدٍ، أي إلى مكان مرتفع- فأحاط بهم القومُ، فقالوا لهم:

_ (1) برقم (3045 ومواضع أخرى).

انزلوا فأَعْطُوا أيديكم ولكم العَهْدُ والميثاقُ، لا يُقْتَلُ منكم أحدٌ. فقال عاصم بنُ ثابتٍ: أيها القوم! أمَّا أنا فلا أنزلُ على ذِمَّةِ كافرٍ، اللهمَّ أخْبرْ عَنَّا نبيَّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فرموهم بالنَّبْلِ فقتلوا عاصمًا في سبعةٍ. ونزل إليهَم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خُبَيْبٌ وزيد بنُ الدَّثِنَة، ورجلٌ آخر. فلما استمكنوا منهمِ أطلقوا أوتار قسِيِّهم فربطوهم بها. قال الرجل الثالثُ: هذا أوَّلُ الغدْرِ، والله لا أصَحبكم، لي بهؤلاء أُسوةٌ؛ يريد القَتْلَى. فجَرَّروه وعالجوه؛ فأبي أنْ يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدَّثِنَة حتى باعوهما بمكة بعد وقعةِ بدرٍ. فابتاع بنو الحارث بن عامرِ بن نوفلِ بن عبد منافٍ خبيبًا، وكان خبيبٌ هو قَتَلَ الحارثَ بنَ عمرو يومَ بدر. ولبث خبيبٌ عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله. فاستعار مِن بعض بنات الحارث موسى يسْتَحِدُّ بها، فأعارتْه فدَرج بُنَي لها وهي غافلة حتى أتاه [قالت: فوجدتُه] مُجْلِسَه على فخِذِه والموسى بيَدِه؛ قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعةً عرفَها خبيب. فقال: أتخْشَيْنَ أن أَقْتُلَه؟ ما كنتُ لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيتُ أسيرًا خيرًا من خبيب، فوالله لقد وجدتُه يومًا يأكل قِطْفًا من عنبٍ في يدِه، وإنه لمُوثَق في الحديد وما بمكة مِن ثمرٍ. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحَرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خبيبٌ: دعوني أُصلِّي ركعتين. فتركوه فركع ركعتين. فقال. والله لولا أنْ تحْسَبُوا أنَّ ما بي جَزَع لزدتُ، اللهمَّ أَحْصِهِم عددًا، واقتُلْهم بدَدًا، ولا تُبْقِ منهم أحدًا. قال: فَلَسْت أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ جنب كَانَ لله مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلهِ وإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سَنَّ لكلِّ مسلمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاة. وأخبَرَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحابة يوم أُصيبوا خبرَهم. وبعث ناس من قريشٍ إلى عاصم بن ثابت حين حُدِّثوا أنَّه قد قُتل أن يؤتى بشيءٍ منه يُعْرَفُ، وكان قَتَلَ رجلاً مِن عظمائِهم. فبعث الله لعاصم مثلَ الظلَّةِ [مِن الدَّبْر]، فحَمَتْهُ من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئًا. فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المئةَ أو المئتين، ولم يستأسِروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتِّباعهم حتى قتلوه. وهؤلاء من فُضَلاء المؤمنين وخيارهم. وعاصم هذا هو جدّ عاصم بن عمر، وعاصم بن عمر جدّ عمر بن عبد العزيز (1)؛ فإنَّ عمر بن الخطاب كان قد نَهَى الناس أن يَشُوبَ أحد اللَّبنَ بالماء للبيع (2)، فبينما عمر ذات ليلةٍ يَعُسّ إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قُومي فَشُوبي اللبن. فقالت: إنَّ أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك. فقالت: وما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت: لا والله

_ (1) يقصد بالجدّين هنا الجدَّين للأم. (2) بعده في الأصل عبارة لعلها من كتابة أحد القراء على الهامش، فدخلت في الأصل، وهي: (وكذلك في مراسيل الحسن: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك، لأنه يُفْضِي إلى غِشٍّ لا يَعْلَم به المُشْتَري؛ فإن البائع وإن أَخْبَر المُشتري بأنه مغشوش؛ لكنه لا يتميَّز قدر الغِشّ، ولهذا نهى العلماء عن مثل ذلك).

لا نُطِيعه في العلانية ونَعْصِيه في السِّر. فَعَلَّمَ عمر على [الباب] (1)، فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت، فإذا به أهل بيت عاصم هذا الأمير (2) المُسْتَشْهَد، والمرأة المُطيعة ابنته، فخَطَبَها وتزوَّجَها (3). وقد رُوِي أنه زوَّجها ابنه عاصم هذا، وإن كان عمر قبل ذلك تزوَّج ابنة عاصم هذا فولدت له عاصمًا ابنه، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم. وأيضًا ففي السنن (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عَجِبَ ربُّنا مِنْ رَجُلَيْنِ: رجلٍ ثارَ عن وِطائِه مِن بينِ حَيِّهِ وأهله إلى صلاتِه، فيقولُ الله عز وجل لملائكتِه: انظروا إلى عبدي، ثارَ عن فِراشِهِ ووِطائِه مِن أهله وحَيِّهِ إلى صلاتِهِ، رَغْبَةً فيما عندي وشَفَقًا ممَّا عندي. ورجلٍ غَزَا في سبيلِ الله، فانْهَزَمَ مع أصحابه، فعَلِمَ ما عليه في الانهزام وما له في الرُّجُوعِ، فرجع حتى يُهرِيقَ دَمُهُ. فيقولُ اللهُ لملائكتِه: انظروا إلى عبدي رَجَعَ رَغْبةً فيما عندي وشفقًا ممَّا عندي حتى يُهرِيقَ دمه" فهذا رجل انْهَزَمَ هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قُتِل. وقد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ الله يَعْجَب منه؛ [و] عَجَبُ الله من الشيء يدلُّ

_ (1) هنا بياض في الأصل. (2) في الأصل: "أمير المؤمنين". (3) انظر "طبقات ابن سعد" (5/ 331). (4) أخرجه أحمد (1/ 416) وأبو داود (2536) عن ابن مسعود.

على عِظَم قَدْرِه، وأنَه لخروجه عن نظائرِه يعظم درجته ومنزلته. وهذا يدلُّ على أن مثل هذا العمل محبوب لله مَرْضيٌّ، لا يُكتفَى فيه بمجرّد الإباحة والجواز؛ حتى يقال: وإن جاز مُقاتَلة الرجل حيث يَغْلب على ظَنِّه أنه يُقْتَل فَتَرْكُ ذلك أفضل. بل الحديث يدلُّ على أنَّ ما فعله هذا يُحِبُّه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يُقْتَلُ فيه الرجل كثيرًا أو غالبًا، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرَّم، فإنَّه مع هذه التوبة جاهَدَ هذه المجاهدة الحسنة. قال الله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)) (1). وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المُهاجِر مَن هَجَرَ ما نَهَى الله عنه" (2). فمن فَتنهُ الشيطان عن طاعة الله لمَّ هَجَرَ ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان داخلاً في هذه الآية. وقد يكون هذا في شريعتِنَا عِوضًا عمّا أُمِرَ به بنو إسرائيل في شريعتهم لما فُتِنوا بعبادة العِجْل بقوله: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (3). وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)) إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ..) (4).

_ (1) سورة النحل: 110. (2) سبق تخريجه (ص 344). (3) سورة البقرة: 54. (4) سورة النساء: 64 - 66.

- رد شبهة تتعلق بآية المصابرة

وذلك يدل على أن التائب قد يُؤمَرُ بجهادٍ تعرض به نفسه للشَّهادة. فإن قيل: قد قال الله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) (1). وقد قالوا: إنَّ ما أَمَرَ به من مُصابرة الضعف (2) في هذه الآية ناسخٌ لما أَمَرَ به قبل ذلك من مُصابرة عشرة الأمثال. قيل: هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المُصابرة لما زاد على الضِّعف، ليس في الآية أن ذلك لا يُسْتَحَبُّ ولا يجوز. وأيضًا فلفظُ الآية إنما هو خبرٌ عن النَّصر مع الصَّبر، وذلك يتضمن وجوب المُصابرة للضَعف، ولا يتضمَّن سقوطَ ذلك عما زاد عن الضِّعف مطلقا، بل يقتضي أن الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه، فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون ظالمين لم يجب عليهم أن يُصابِروا أكثر من ضعفيهم، وأما إذا كانوا هم المظلومين وقتالُهم قتال وَقَعَ عن أنفسهم فقد تجب المصابرةُ كما وجبت عليهم المُصابرة يوم أُحد ويوم الخندق، مع أنَّ العدو كانوا أضعافهم. وذَمَّ الله المُنْهَزِمين يوم أُحد والمُعْرِضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران والأحزاب، بما هو ظاهر معروف.

_ (1) سورة الأنفال: 65 - 66. (2) في الأصل: "الضعيف" تحريف.

- بيان الخطأ في تأويل قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)

وإذا كانت الآية لا تنفي وجوبَ المُصابرة لِمَا زاد على الضِّعفين في كل حال، فأنْ لا تنفِي الاستحبابَ [و] الجوازَ مُطلقًا أوْلَى وأحْرَى. فإن قيل: قد قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1). وإذا قاتل الرجل في موضع فغَلَبَ على ظنه أنه يُقْتَل فقد أَلْقَى بيده إلى التهلكة. [قيل]: تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا ما زال الصحابة والأئمة يُنْكِرون على من يتأوَّل الآية على ذلك، كما ذكرنا أنَّ رجلاً حَمَلَ وحْدَه على العدو، فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر ابن الخطاب: كلاَّ ولكنه مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) (2). وأيضًا فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي (3) من حديث يزيد ابِن أبي حبيب -عالمِ أهل مصرَ من التابعين- عن أسلم أبي عِمرانَ قال: غزَوْنا بالمدينة نُريدُ القُسطنطينيَّةَ وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والرُّومُ مُلصقُو ظهورهم بحائطِ المدينة، فحَمَلَ رجلٌ على العدوِّ؛ فقال الناس: لا إلهَ إلا الله! يُلْقِي بيدِه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نَزَلَتْ هذه الآية فينا معشر الأنصار، لمَّا نَصَرَ الله نبيَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأَظْهَرَ الإسلامَ قلنا: هَلُمَّ نُقِمْ في أموالِنا ونُصلِحْها، فأنزل الله عز وجل:

_ (1) سورة البقرة: 195. (2) سورة البقرة: 207. (3) أخرجه أبو داود (2512) والنسائي في الكبرى (299، 1029) والترمذي (2972).

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1). فالإلقاءُ بالأيدي إلى التهلكة أن نُقِيمَ في أموالِنا ونُصْلِحَها ونَدَعَ الجهادَ. قال أبو عمران: فَلَمْ يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفِنَ بالقسطنطينية. قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. وأبو أيوب من أجل السابقين الأولين من الأنصار قَدْرًا، وهو الذي نزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتِه لما قَدِمَ مهاجرًا من مكة إلى المدينة. ورَهْطُه بنو النَّجَّار هم خير دور الأنصار، كما أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2)، وقَبْرُه بالقسطنطينية. قال مالك: بلغني أنَّ أهلَ القسطنطينية إذا أجدبوا كَشَفوا عن قبرِه فيَسْتَقُون. وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدوّ مُلقيًا بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله، ضدّ ما يتوهمه هؤلاء الذين يُحَرفون كلام الله عن مواضعِه؛ فإنهم يتأوَّلون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. والآية إنما هي أمر بالجهاد في سبيل الله، ونهي عما يَصُدّ عنه. والأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمة؛ وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) إلى قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ

_ (1) سورة البقرة: 195. (2) أخرجه البخاري (3789 ومواضع أخرى) ومسلم (2511) عن أبي أسيد.

حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)) إلى قوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)) (1). فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل الله، فلا تُناسب ما يُضادُّ ذلك من النهي عمَّا يكمل به الجهاد وإن كان فيه تعريض النَّفس للشهادة، إذ الموت لابُدَّ منه، وأفضل الموت موت الشهداء. فإن الأمر بالشيء لا يُناسب النَّهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يُضِلّ عنه؛ والمناسب لذلك ما ذُكِرَ في الآية من النَّهي عن العُدوان، فإنَّ الجهاد فيه البلاء للأعداء؛ والنُّفُوس قد لا تقف عند حدُود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، فقال: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)). فنَهَى عن العدوان؛ لأن ذلك أمر بالتقوى، والله مع المتقين كما قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)). وإذا كان الله معهم نَصَرَهم وأَيَّدَهم على عدُوِّهم فالأمر بذلك أيسر، كما يَحْصُل مقصود الجهاد به. وأيضًا فإنه في أول الآية قال: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وفي آخرها قال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)) فدل ذلك على ما رواه أبو أيوب من [أنَّ] إمساك المال والبخل عن إنفاقِهِ في سبيل الله والاشتغال به هو التهلكة.

_ (1) سورة البقرة: 190 - 195.

وأيضًا فإنَّ أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلَّم فيها برأيه، وهذا من ثابت روايته عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو حجَّة يجب اتباعها. وأيضًا فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فِعْل ما نَهَى الله عنه. فإذا ترك العباد الذي أُمِرُوا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه من عِمَارة الدنيا، هلكوا في دنياهم بالذلّ وقَهْرِ العدو لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، وردِّه لهم عن دينهم، وعجْزِهم حينئذ عن العمل بالدِّين. بل وعن عِمَارة الدنيا وفُتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه. قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) (1). إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة. فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكًا عظيمًا باستيلاء العدو عليها وتَسَلُّطه على النفوس والأموال. وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يُشاهده الناس، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار. وأما المؤمن المجاهد فهو كما قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)) (2). فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين: إما النصر والظَّفَر وإما

_ (1) سورة البقرة: 217. (2) سورة التوبة: 52.

- الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان

الشهادة والجنة، فالمؤمن المجاهد إن حَيِيَ [حَيِيَ] حياة طيبة، وإن قُتِلَ فما عند الله خير للأبرار. وأيضًا فإن الله قال في كتابه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ) (1). وقال في كتابه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)) (2). فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد إنه ميت. قال العلماء: وخُصَّ الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فَيَفِرّ عن الجهاد خوفًا من الموت. وأخبر الله أنه حيّ مَرْزُوق؛ وهذا الوصف يوجَدُ أيضًا لغير الشهيد من النبيين والصدِّيقين وغيرهم، لكن خُصَّ الشهيد بالنهي لئلا يَنْكُل عن الجهاد لفرار النُّفُوس من الموت. فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميِّتًا واعتقاده ميتًا؛ لئلا يكون ذلك مُنَفِّرًا عن الجهاد فكيف يسمى الشهادة تهلكة؟ واسمُ الهلاك أعظم تنفيرًا من اسم الموت. فمن قال: قوله (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) يُراد به الشهادة في سبيل الله، فقد افترى على الله بهتانًا عظيمًا. وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنِّه أنه يُقتل قسمان: أحدهما: أن يكون هو الطالب للعدو. فهذا الذي ذكرناه. والثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار. فهذا أولى وأوكد. ويكون قتال هذا إمَّا دفعًا عن نفسه وماله وأهله ودينه،

_ (1) سورة البقرة: 154. (2) سورة آل عمران: 169.

- الذي يكره على الكفر فيصبر حتى يقتل ولا يتكلم بالكفر

كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "مَن قُتِلَ دونَ مالِه فهو شهيد، ومَن قُتل دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتل دون حرمته فهو شهيد". قال الترمذي: [حديث حسن صحيح. و] (2) يكون قتاله دفعًا للأمر عن نفسه أو عن حرمته، وإن غلب على ظنه أنه يُقْتَل، إذا كان القتال يُحَصِّل المقصود، وإمَّا فعلا لما يَقْدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه. ومن هذا الباب: الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر؛ فإن هذا بمنزلة الذي يُقاتِله العدو حتى يُقتَل ولا يستأسِر لهم، والذي يتكلم بالكفر بلسانه [وهو] موقنٌ من قلبه بالإيمان بمنزلة المستأسِر للعدو. فإن كان هو الآمر النَّاهي ابتداء كَان بمنزلة المجاهد ابتداء. فإذا كان الأول أَعَزَّ الإيمان وأَذَلَّ الكفر كان هو الأفضل. وقد يكون واجبًا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر عليها وهي الفتنة، فإنَّ الفتنة أشدُّ من القتل. فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لا يحصل بالقتل، وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه= تَرَجَّح القتل واجبًا تارةً ومُستحبًّا أُخرى. وكثيرًا ما يكون ذلك تخويفًا به فيجب الصبر على ذلك. قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/ 116) عن سعيد بن زيد. (2) زيادة ليستقيم السياق. فقول الترمذي هو الحكم على الحديث فقط، وما بعده من كلام المؤلف.

وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) (1). فأخبر أن الكافرين لا يزالون يُقاتِلون المؤمنين حتى يردُّوهم عن دينهم. وأخبر أنَّه من ارتدَّ فمات كافرًا خالدًا في النار. ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه، كما قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)) إلى قوله: (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (2). وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)) (3). وقال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)) (4).

_ (1) سورة البقرة: 217. (2) سورة غافر: 26 - 28. (3) سورة الأعراف: 127 - 128. (4) سورة البقرة: 87.

- قصة الغلام والساحر وذكر أصحاب الأخدود

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (1). وقال تعالى: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)) (2). وقال تعالى: (وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) إلى قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)) (3). وقال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)) إلى قوله: (مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)) (4). وقد روى مسلم في "صحيحه" (5) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صُهيب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كان مَلِك فِيمَنْ كان قَبْلَكُمْ، وكان له سَاحِرٌ، فلمَّا كَبِرَ قال للمَلِكِ: إنِّي قد كَبِرْتُ، فابْعَثْ إليَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فبَعَثَ إليه غُلامًا يُعَلِّمُه. وكان في طريقِه إذا سَلَكَ راهِب، فقَعَدَ إليه وسَمِعَ كلامَه. فكان إذا أتَى السَّاحرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وقَعَدَ

_ (1) سورة آل عمران: 21. (2) سورة البقرة: 61. (3) سورة آل عمران: 110 - 112. (4) سورة البروج: 4 - 7. (5) برقم (3005).

إليه، فإذا أتَى السَّاحِرَ ضَرَبَه، فشَكَا ذلك إلى الرَّاهِب، فقال: إذا خِفت السَّاحرَ فقُل: حَبَسَني أَهْلِي، فإذا خِفْتَ أهلَك فقل حَبَسَني السَّاحرُ. فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابَّةٍ عظيمةٍ قد حَبَسَت الناس، فقال: اليومَ أَعْلَمُ الساحرُ أفضلُ أم الرَّاهِبُ أفضلُ؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهمَّ إنْ كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك مِن أمرِ الساحرِ فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها وقتلها، ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنَيَّ أنتَ اليومَ أفضلُ مِني، وقد بَلَغَ مِن أَمرِكَ ما أَرَى، وإنَّكَ ستبتَلَى فإن ابتُليتَ فلا تَدُلَّ عليَّ. وكان الغلام يُبْرِئُ الأكمهَ والأبرصَ ويُداوي الناس [مِنْ] سائرِ الأدواءِ. وأصبح جليسُ الملك كان قد عَمِيَ فأتَاهُ بِهَدايا كثيرةٍ. فقال: ما ههنا لك إن أنتَ شَفَيْتَنِي. قال: إنِّي لا أَشفي أحدًا إنَّما يَشْفِي الله عز وجل، فإنْ آمنتَ باللهِ دَعَوتُ الله فشفاكَ، فآمنَ بالله فشفاهُ اللهُ عزَّ وجلّ. فأتى المَلَكَ فجلسَ إليه كما كان يجلسُ. فقال له الملك: مَن رَدَّ عليكَ بَصَرَكَ؟ قال: ربي. قال: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قال: ربِّي وربُّكَ الله. فأخذه فلم يزل يعذِّبُه حتى دَلَّ على الغلامِ، فجيءَ بالغلامِ، فقال له الملك: أيْ بُنَيَّ قد بَلَغَ مِن سحرِك ما تُبْرئُ الأكمَهَ والأبرصَ، وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ. قال: فقال إني لا أشفي أحدًا، وإنما يَشفي الله عزَّ وجلّ. فأخذه فلم يزل يعذِّبُه حتى دَلَّ على الراهب. فجيءَ بالراهب؛ فقال له: ارجعْ عن دينكَ؛ فأبَى. فدعا بالمِنْشَارِ؛ فوَضَعَ المِنْشَارَ في مَفْرِقِ رأَسِه، فشَقَّه حَتَّى وقَعَ شِقَّاهُ. ثم جيءَ بجليسِ الملكِ فقيل له: ارجع عن دينكَ؛ فأبي. فوضع المنشار في مِفْرِقِ رأسِه، فشقَّه به حتى وقعَ شِقَّاهُ. ثم جيء

بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي. فدفعَه إلى نَفَرٍ من أصحابه. فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به إلى الجبل فإذا بلغَتم ذِرْوَتَه فإنْ رَجَعَ عن دينه وإلا فاطْرَحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهمَّ اكفنيهم بما شئتَ. فرَجَفَ بهم الجبلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملكِ. فقال له الملكُ: ما فعل أصحابُكَ؟ قال: كفانيهِمُ اللهُ. فدفعَه إلى نفير آخر من أصحابِه فقال: اذهبوا به فاجعلوه في قُرْقُورٍ، ثم توسَّطوا البحرَ فإذا رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهمَّ اكفنيهِمْ بما شئتَ. فانكفَأَتْ بهم السَّفينةُ، فغرِقوا، وجاء يمشي إلى الملكِ، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهمُ اللهُ. فقال: إنَّك لستَ بقاتلي حتى تفعلَ ما آمرُكَ به. فقال: ما هو؟ قال: إنك تجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وتَصلُبُني على جذْعٍ، ثم خذْ سَهْمًا مِن كِنَانَتِي، ثم ضَع السَّهْمَ في كَبدِ القوسِ، ثم قَل: باسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثم ارْم، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصلبَه على جِذْع، ثم أَخَذَ سَهْمًا مِن كِنانتِه، ثم وَضَعَ السَّهْمَ في كبد القوسِ. ثمِ قال: باسمِ الله ربِّ الغلامِ، ثم رماه فوقَع السهم في صُدْغِه، فوَضعَ يده في صُدْغِه، فمات. فقال الناسِ: آمنَّا بربِّ الغُلامِ. فأُتيَ الملكُ، فقيل له: أرأيتَ ما كنتَ تَحْذرُ، قد والله نَزَلَ بك حَذَرُكَ؛ قد آمنَ الناسُ. فأَمَرَ بالأخدُودِ بأفواهِ السِّكَكِ فخُدَّتْ، وأضرمت فيها النيران، وقال: مَن لم يرجع عن دينه فأَقْحِموه فيها أو قيل له: اقْتَحِمْ. ففعلوا، حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها فتَقَاعَستْ. فقال لها الغلام: يا أُمَّهْ اصبِرِي فإنَّكِ على الحَقِّ".

- الصبر على أذى الكفار وإن بلغ إلى حد القتل صبرا

ففي هذا الحديث أنه قُتِل جليس الملك والراهب بالمناشير، ولم يرجعَا عن الإيمان. وكذلك أهل الأخدود صبروا على التَّحريق بالنار وَلم يَرْجِعوا عن الإيمان. وأما الغلام فإنه أَمَرَ بقتل نفسِه لما عَلِمَ أنَّ ذلك يُوجِبُ ظُهُورَ الإيمان في النَّاس، والذي يصبر [حتى] يُقْتَل أو يَحْمِل حتى يُقْتَل لأنَّ في ذلك ظهورَ الإيمان= من هذا الباب. وفي صحيحِ البخاري (1) عن قيس بن أبي حازم عن خَبَّاب بن الأرَتِّ قال: شَكوْنَا إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له فيَ ظِلِّ الكعبةِ. فقلنا: أَلا تَسْتنصِرُ لنا؟ أَلا تَدْعُو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلَكم يُؤخَذ الِرَّجل، فيُحْفَر له في الأرض، فيُجعَل فيها، ثم يؤتى بالمِنْشارِ، فيُوضعُ على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمْشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دون لَحْمِهِ وعَظْمِه، [وما] يَصُدُّه ذلك عن دينه. والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى يسيرِ الرَّاكِبُ مِن صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يَخافُ إلا الله أو الذِّئِبَ على غنَمِه، ولكنَّكم تستعجِلُونَ". وفي رواية (2): أَتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِل الكعبةِ وقد لَقِيْنا مِن المشركينَ شِدَّةً، فقلتُ: أَلاَ تَدْعُو اللهَ. فقَعَدَ وهو مُحْمَرٌّ وجهُه فقال: "لقد كان مَن قبلَكم يُمْشَطُ بأمشاطِ الحديد". والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّما قال لهم ذلك آمرًا لهم بالصَّبر على أذى الكفَّار، وإن بَلَغُوا بهم إلى حدّ القتل صَبْرًا، كما قَتَلوا المؤمنين صَبْرًا؛

_ (1) برقم (3612). (2) عند البخاري (3852).

ومَدْحًا لِمَن يصبِر على الإيمان حتى يُقْتَل. (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت بعونه تعالى في 25 محرم 1319).

(17) مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة؟

مسألة في المرابطة بالثغور أفضلُ أم المجاورة بمكة؟

- المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في الحرمين باتفاق أئمة المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرَّفها الله تعالى؟ الجواب الحمد لله. المُرابَطَة في ثُغور المسلمين -وهو المُقَام فيها بنيَّة الجهاد- أفضلُ من المجاوَرَة في الحرمين باتِّفاق أئمة المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد النِّيَّات في الأعمال الشَّرعيات صار يَخْفَى مثل هذه المسألة على كثير من الناس، حتى صاروا يُعَظِّمون الأماكنَ التي كان المسلمون يُعَظِّمونها لكونها ثُغُورًا ظانِّين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعًا ما أنزل الله بها من سلطان. فإنه يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذِكْر غزة وعسقلان والإسكندرية وجبل لبنان وعكَّة وقزوين، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يُوجِبُ شرف هذه البقاع. وإنما كان ذلك لكونها كانت ثُغُور المسلمين، فكان صالِحُو المسلمين يتناوبونها لأجل المرابطة بها، لا لأجل الاعتزال عن الناس

- كونها ثغرا من الصفات التي تعرض وتزول

وسكنى الغِيْران والكُهُوف، أو نحو ذلك مما يظنّه الجهال أهل البدع والضلال. ثم إنَّ مِن هذه البقاع ما غَلَبَ عليه العدو، أو سَكَنَه أهل البدع والفُسَّاق؛ ففسد حالُ أهله، مثل ما جَرَى على لبنان ونحوه. وكون المكان ثغرًا هو مثل كونه دارَ الإسلام ودارَ الكفر مثل كون الرجل مؤمنًا وكافرًا، هو من الصِّفات التي تعرض وتزول، فقد كانت مكة -شرَّفها الله- أُم القرى قبلَ فتحها دارَ كُفْر وحَرْب تَجبُ الهجرة منها، ثم تَغَيّر هذا الحكم لمَّا فتِحَت. حتى قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1). "لا هِجْرَة بعد الفتح ولكن جهاد ونيَّة". وقد كان البيت المُقَدَّس بأيدي العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى. فالثغور هي البلاد المتاخمة للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يُخِيفُ العدو أهلها ويُخيف (2) أهلها العدو، والمرابطة بها أفضل من المُجاورة بالحرمين باتفاق المسلمين. كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إمَّا على الأعيان وإما على الكفاية. وأما المجاورةُ فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي مستحبَّة أم مكروهة؟ فاستحبها طائفة من العلماء من أصحاب مالك والشافعي، وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره، قالوا: لأن المُقَام بها يُفْضي إلى الملْكِ لها، وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيَتَضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل البلد.

_ (1) أخرجه البخاري (2783) ومسلم (1353) عن ابن عباس. (2) في الأصل: "يخيفوا"، والتصويب من الهامش.

- اعتمار أهل مكة من التنعيم وغيره مخالف للسنة وإجماع الصحابة

قالوا: وكان عمر يقول عَقِب المواسِم: يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم]. ولأن المُقيم بها يفوتُه الحجّ التَّام والعمرة التَّامَّة؛ فإنَّ العلماء مُتَّفقون على أنه إنْ أنشأ سَفَرَ العمرة من دُوَيرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج والعمرة. وهم متفقون على أنه أفضل من التَّمَتعُّ والقِران ومن الإفْرَاد الذي يعتمر عقب الحَجّ. وأما ما يظنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو غيره إلى الحلِّ للاعتمار؛ وهو المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1): "عمرة في رمضان تَعدِلُ حَجَّةً مَعِي"، حتى صار المُجاوِرُون وغيرهم يُحافِظُون على الاعتمار من أَدْنَى الحِل أو أقصاهُ، كاعتمارهم من التَّنعيم التي بها المساجد التي يقال لها مساجد عائشة، أو من الحديبية والجعرانة= فكلُّ ذلك غلط عظيم، مُخالف للسنَّة النبويّة ولإجماع الصحابة. فإنه لم يعتمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قَطُّ، لا قبلَ الهجرة ولا بعدَها، بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة إلاّ عائشة فقط، فإنها قَدِمَت مُتَمَتّعة، فحَاضَت، فمَنَعَها الحيض من الطَّواف قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُعمرها بعد الحج (2)، ثم بعد ذلك بُنيَت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: مساجد عائشة.

_ (1) أخرجه البخاري (1863) ومسلم (1256) عن ابن عباس. (2) أخرجه البخاري (1561 ومواضع أخرى) ومسلم (1211) عن عائشة.

وأما عمرة الحديبية فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ هو وأصحابه من ذي الحليفة، ثم حَلُّوا بالحديبية لمَّا صدهم المشركون عن البيت، فكانت الحديبية حِلَّهم لا ميقاتَ إحرامهم. وهذا متواتر يعلمُه عامَّة العلماء وخاصَّتُهم، وفي ذلك أنزل الله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) (1) الآيات باتفاق العلماء. وأما عمرة الجعرانة فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قاتل هوازن بوادي حنين الذي قال الله فيها: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)) (2). وحاصر الطائف ونَصَبَ عليها بمنجنيق، ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فلما قسَّمها دخل إلى مكة معتمرًا ثم خَرَجَ منها؛ لم يكن بمكة فَخَرَجَ منها إلى الحِلِّ ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل مكة. بل الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك، بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خُرُوجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك، كما قد بَسَطْنا هذه المسألة في غير هذا الموضع (3).

_ (1) سورة البقرة: 196. (2) سورة التوبة: 25 - 27. (3) انظر مجموع الفتاوى (26/ 248 - 301).

- استحباب المجاورة بمكة إذا وقعت على الوجه المشروع

والمقصود هنا أنَّ مِن العلماء مَن كَرِهَ المُجاورة بمكة لِمَا ذكر من الأسباب وغيرها، ولكن الجمهور يستحبونها في الجملة إذا وَقَعَت على الوجه المشروع الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الرَّاجِحة عليها. قال الإمام أحمد، وقد سُئل عن الجوار بمكة، فقال: وكيف لنا [به]، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّكِ لأحب البِقَاع إلى الله، وإنَّكِ لأحب إلي" (1). وجابر جاوَرَ مكة، وابن عمر كان يُقيم بمكة. وقال أيضًا: ما أَسْهَل العِبادة بمكة، النَّظَرُ إلى البيت عِبَادة. واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عَدِيِّ بن الحمراء الزُّهْرِيِّ أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول، وهو واقف بالحَزْوَرَةِ في سوق مكة: "والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله، وأَحَبُّ أرضِ الله [إلى الله]، ولولا أَنِّي أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرَجْتُ" رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي (2)، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أحمد (3) من حديث أبي هريرة أيضًا. وعن ابن عباس قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أَطْيَبَكِ مِن بلدٍ وَأَحَبَّكِ إلَيَّ، ولولا أنَّ قَومي أَخرجوني منك ما سَكَنْتُ غَيرَكِ". رواه الترمذي (4)، وقال: حديث حسن صحيح غريب.

_ (1) سيأتي تخريجه. (2) أخرجه أحمد (4/ 305) والنسائي في الكبرى (4252) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) والدارمي (2513). (3) 4/ 305. (4) برقم (3926).

قالوا: فإذا كانت أحبَّ البلاد إلى الله ورسوله، ولولا ما وَجَبَ عليه من الهجرة لما كان يسكن إلا إيَّاها، عُلِمَ أن المُقام بها أفضل إذا لم يُعارض ذلك مصلحة راجحة، كما كان في حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمهاجرين؛ فإن مُقامهم بالمدينة كان أفضل من مُقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد، بل ذلك كان الواجب عليهم، وكان مُقامهم بمكة حرامًا حتى بعد الفتح، وإنما رَخَّصَ للمهاجر أن يُقيم فيها ثلاثًا. كما في الصحيحين (1) عن العَلاَءِ بن الحَضْرَمِيِّ أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمهاجِر أن يقيم بمكة بعد قضاءِ نُسُكِهِ ثلاثًا. وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا بها، لكونهم هاجروا عنها وتَرَكُوها لله، حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (2)؛ لما عاد سعد بن أبي وقاص، وكان قد مَرِضَ بمكة في حجة الوَدَاع فقال: يا رسول [الله]! أُخَلّف عن هجرتي، فقال: "لعلَّك أن تُخلَّفَ حتى يَنتَفِعَ بكَ أقوام، ويُضَرَّ بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولةَ" يَرْثي لَه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ماتَ بمكة. ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصَى أن لا يُدْفَن في الحرم، بل يخرج إلى الحِلّ لأجل ذلك، لكنه كان يومًا شديد الحر، فخالفوا وصيته، وكان قد توفي عام قَدِمَ الحَجَّاج، فحاصَر ابن الزبير وقَتَلَه لما كان (3) من الفتنة بينه وبين عبد الملك بن مروان.

_ (1) البخاري (3933) ومسلم (1352). (2) البخاري (1295) ومسلم (1628) عن سعد. (3) بعده في الأصل: "للناظرين" ومكانها الصحيح بعد ستة أسطر.

- أفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبر وأتقى

قالوا: ولأن في المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في بلد آخر، فإن الطَّواف بالبيت لا يمكن إلا بمكة وهو من أفضل الأعمال، ولأن الصلاة بها تضاعف هي وغيرها من الأعمال. وقد قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)) (1). رُوِيَ أنه ينزل على البيت في كل يومٍ مئةٌ وعشرون رحمة: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، [وعشرون للناظرين] (2). ولهذا قال العلماء: إن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بالثّغر، مع قولهم: إنَّ المُرابَطة بالثغر أفضل وتضاعف السيئات فيه، وإذا كان المكان دَوَاعِي الخير فيه أَقْوَى، ودواعِي الشر فيه أضعف، كان المُقام فيه أفضلَ مما ليس كذلك. ولا نزاع بين المسلمين في أنه يُشرَعُ قصدُها لأجل العبادات المشروعة فيها، وأن ذلك واجب أو مُسْتَحب. وأما النِّزاع في المجاورة فلما فيه من تعارض للمصلحة والمفسدة كما تقدم. وحينئذٍ فمن كان مجاورته فيما يُكْثِرُ حسناته ويُقِلُّ سيئاته فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك. فأفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبرّ وأتقى، وإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم. ولهذا لما كتب أبو الدّرداء إلى سلمان الفارسي، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد آخى بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق،

_ (1) سورة الحج: 26. (2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (6/ 278) عن ابن عباس. وإسناده ضعيف.

- جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين

فكتب إليه أبو الدرداء أنْ هَلُمَّ إلى الأرض المُقَدَّسة، فكتب إليه سلمان: إنَّ الأرض لا تُقَدِّس أحدًا؛ وإنما يُقَدِّس الرَّجلَ عَمَله الصالح (1). ومقصوده بذلك أنه قد يكون بالأرض المَفْضولة من يكون عمله صالحًا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله. وهذا مما يبين أن جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين كما اتفق عليه الأئمة. فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة، ونيته في هذا خالصة، ولم يكن ثَمَّ عملٌ مفضل يُفضَّلُ به أحدُهما، فالمرابطة أفضلُ؛ فإنها من جنس الجهاد، وتلك من جنس الحَجِّ، وجنس الجهاد أفضل من جنس الحج. ولهذا قال أبو هريرة: لأن أُرَابط ليلةً في سبيلِ الله أحبّ إلي من أنْ أقوم ليلة القدر عند الحَجَر الأسود. وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2) عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: "رِبَاطُ يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أقومَ ليلة القدر في أحد المسجدين -مسجد الحرام ومسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - ومَن رابط أربعين يومًا في سبيل الله فقد استكمل الرِّباط". وقد قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً

_ (1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 769). وفي الأصل: "عمله صالحا". (2) 3: 2/ 193. ورواه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (5/ 280).

عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)) (1). وفي صحيح مسلم (2) عن النعمان قال: كنت عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رجل: لا أُبالِي أن لا أَعْمَلَ عملاً بعدَ الإسلامِ إلا أن أَسْقِيَ الحاجَّ. وقال الآخر: إلا أن أَعْمُرَ المسجدَ الحرام. وقال آخر: الجهادُ في سبيل الله أفضلُ مِمَّا قلتم، فزَجَرَهم عمر بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صَلَّيتُ الجمعةَ دخلتُ فاسْتَفْتَيْتُهُ فيما اخْتَلَفْتُم فيه، فأنزلَ اللهُ: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هو الآية. وعن عثمان بن عفان قال، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " [رِبَاطُ] يومٍ في سبيل الله خيرٌ من ألفِ يوم فيما سواهُ". رواه الإمام أحمد، والنسائي وهذا لفظه، والترمذي (3) وقال: حديثٌ حسن غريب من هذا الوجه، وأبو حاتم بن حبان البستي في "صحيحه" (4). ولفظ الإمام أحمد (5): عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال: سمعت

_ (1) سورة التوبة: 19 - 21. (2) برقم (1879). (3) أخرجه أحمد (1/ 62، 65، 75) والنسائي (6/ 39، 40) والترمذي (1667) والدارمي (2429) وغيرهم. (4) برقم (4609). (5) 1/ 75.

عثمان يقول على المنبر: أيُّها الناس! إنِّي كَتَمْتكُم حديثًا سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كراهية تفرُّقكم عَنِّي، ثم بَدَا لي أن أحدِّثكم، ليَختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "رباط يومٍ في سبيلِ اللهِ خير من ألفِ يومٍ فيما سواهُ من المَنَازِل". فقد بيّن لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة النبوية؛ مُصَلّين في المسجد الذي قال فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ من المساجد إلاَّ المسجد الحرامَ" (1). ودلَّ ذلك على أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعمُّ جميع الأعمال، فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المُداومة عليه من صيام وقيام. كما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله! ما يَعْدِلُ الجهادَ في سبيلِ الله؟ قال: "لا تَسْتَطيعون". قال: فأعادوا عليه مرَّتينِ أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: "لا تَستطيعون". قال في الثالثة: "مَثَلُ المجاهدِ في سبيلِ الله كمَثَلِ الصائمِ القائمِ القانتِ بآيات الله لا يَفتُرُ من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يَرْجعَ المجاهدُ في سبيلِ اللهِ". هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري (3): جاءَ رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: دُلَّني على

_ (1) أخرجه البخاري (1190) ومسلم (1394) عن أبي هريرة. (2) البخاري (2785) ومسلم (1878). (3) الموضع المذكور.

عملٍ يَعْدِلُ الجهاد؟ قال: لا أَجِدُهُ. قال: "هل تستطيعُ إذا خَرَجَ المجاهدُ أن تَدْخُلَ مسجدَك فتَقُومَ لا تَفْتُرَ، وتصومَ لا تُفْطِرَ؟ " قال: ومَن يستطيعُ ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فَرَسَ المجاهد لَيَسْتَنُّ في طِوَلهِ فيُكْتَبُ له حسناتٍ. وفي الصحيحين (1) عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أَيُّ الناسِ أفضلُ؟ فقال: "رجل مجاهد في سبيل الله بمالِه ونفسِه". قال: ثم من؟ قال: "ثُمَّ رجل مُعْتَزِل في شِعْبٍ مِن الشِّعابِ يَعْبُدُ ربَّه، ويَدَعُ الناس مِن شَرِّه". لفظُ مسلمٍ. وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحجّ، كما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمانُ بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيلِ الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حَج مبرور". وفي الصحيحين (3) أيضًا عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "الإيمانُ بالله، والجهاد في سبيلِه". فهذا موافق ما دلّ عليه القرآن من تفضيل الجهاد على الحَجّ. وقد رُوِيَ: "غزوة لا قتالَ فيها أفضل مِن سبعين حجّة". وهذا لا يناقض ما في الصحيحين (4) عن ابن مسعود قال سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) البخاري (2786) ومسلم (1888). (2) البخاري (26، 1519) ومسلم (83). (3) البخاري (2518) ومسلم (84). (4) البخاري (527) ومواضع أخرى ومسلم (85).

- إطلاق الكفر على تارك الصلاة

أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاةُ لِوَقْتِها". قلت: ثم أي؟ قال: "بِرُّ الوالدينِ". قلت: ثم أي العمل أفضل؟ قال: "الجهادُ في سبيلِ الله". حدَّثني بهنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو استزدته لزادني. فإنَّ هذا الحديث أيضًا يدلُّ على فضل الجهاد على الحجّ وغيره. وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مُسَمَّى الإيمان. كما في قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (1) قال البراء بن عازب وغيره (2): صلاتكم إلى بيتِ المقدِس، إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال، ولا ينوبُ فيها أحد عن أحدٍ، ويدخل بها في الإيمان، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها. ثم في صحيح مسلم (3) عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس بين العبدِ وبين الكفر والشرك إلا ترْكُ الصلاةِ". وفي السنن عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي (4)، وقال: حديثٌ حسن صحيح غريب. أطلق الكفر على جاحِد الصلاة (5).

_ (1) سورة البقرة: 143. (2) انظر تفسير ابن كثير (1/ 427). (3) برقم (82). (4) أخرجه أحمد (5/ 346، 355) والترمذي (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه (1079). (5) هذه الجملة جاءت في الأصل بعد آية (وَقَضَى رَبُّكَ ....)، ومكانها هنا. والجحود: إنكار الشيء مع العلم به، والمقصود هنا ترك الصلاة مع العلم بفرضيته.

- بر الوالدين والجهاد

وفي الترمذي (1) عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب محمد لا يَعُدُّون شيئًا مِن الأعمالِ تَرْكُه كفرٌ إلا الصلاة. وفي البخاري (2) أن عمر بن الخطاب لما طُعِنَ وأُغْمِيَ عليه، قيل: الصلاة! فقال: "نعم، ولا حظَّ في الإسلام لِمَن تَرَكَ الصلاة". وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر. فهذه الخاصية التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله: "إيمانٌ باللهِ، وجهاد في سبيله، ثم حج مبرور". وكذلك برّ الوالدين قد قُرِنَ حَقّهما بحقِّ الله، في مثل قوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (3)، وفي قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (4). وكما في الصحيحين الحديث: "كُفْرٌ بالتهِ: تَبَرٌّؤ مِن نَسَب وإن دَق، ومن ادعَى إلى غير أبيهِ فقد كفر، ولا تَرْغَبوا عن آبائِكًم، فإنه كفرٌ بكم أن تَرْغَبوا عن آبائكم" (5).

_ (1) برقم (2622). ووصله الحاكم في "المستدرك" (1/ 7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال. (2) لم أجده عنده. وقد أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 39 - 40) عن المسور ابن مخرمة عن عمر. (3) سورة لقمان: 14. (4) سورة الإسراء: 23. (5) هذه مجموعة أحاديث ذكرها المؤلف في سياق واحد، أخرج بعضها أحمد (2/ 215) وابن ماجه (2744) عن عبد الله بن عمرو، والبخاري (3508) =

- إذا تعارضت الصلاة والجهاد فإنه يفعل كلاهما بحسب الإمكان

وإن كان كذلك فيمكن أن يقال: إنّ هذا دخل في مسمَّى الإيمان أيضًا، أو يقال: بر الوالدين إنما يجب على من له والدان، فذكرهما في حديث ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود كان له والدة؛ فكان ذلك حُكْم مَن حاله كحاله. وأما حيث لم يذكرهما فذكر ما يعمُّ من الأعمال؛ فيدخل فيه من ليس له أبوان. ثم الجهاد إذا صار فَرْضَ عين كان أَوْكَد من مُطْلَق بر الوالدين، فيجاهد في هذه الحال بدون إذنهما، وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المُتَعيّن عليه، وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعيَّن عليه إلا بإذنهما. وأما الصلاة فإذا تعارضَت هي والجهاد المتعيّن فإنه يُفعَل كلاهما بحسب الإمكان، كما في حالة الخَوْف الخَفيف والخوف الشَّديد. قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) (1). قال تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) إلى قوله: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ

_ = عن أبي ذر، والبخاري (6830) عن ابن عباس، والبخاري (6768) ومسلم (62) عن أبي هريرة. (1) سورة البقرة: 238 - 239.

- حكم الصلاة حال المسايفة

مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)) (1). فقد أَمَرَ اللهُ بالجمع بين الواجبين -الصلاة والجهاد- لكنه خفف الصلاة في الخوف من صلاة الأمن؛ بإسقاط أُمور تجب في الأمن، وإباحة أفعال لا تُفْعَل في الأمن. وصلاة الخوف قد استفاضت بها السنن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكرها الأئمة كلهم، وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلاَّها على وجُوه متعددة. وأما حال المُسايفة فللفقهاء ثلاثة أقوال: أحدها: وهو قول الجمهور، أنهم يُصَلُّون بحسب حالهم مع المُقابلة؛ وهذا مذهب الشافعي وغيره وظاهر مذهب أحمد. والثاني: أنهم يُؤخرون الصلاة؛ وهو قول أبي حنيفة. والثالث: أنهم يُخَيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد. وقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) هو مع ما قد ثبتَ في الصحيح (2) عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال عام الخندق: "شَغَلُونا عن الصلاةِ الوُسْطَى

_ (1) سورة النساء: 101 - 103. (2) البخاري (2931، 4111، 4533، 6396) ومسلم (627) عن علي.

صلاةِ العصرِ حتى غربت الشمس، مَلأَ الله أجوافَهم وقبورَهم نارًا"؛ قد احْتُجَّ به وبغيره على أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية. وأجابوا بذلك عمَّا احتج به من جوَّز الأمرين من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (1) عن ابن عمر أنه قال: "لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصرَ إلا في بَني قُريظةَ"، فصَلَّى قومٌ في الطريق وقالوا: لم يرِد مِنَّا تَفْويت الصلاة، وأَخَّر قوم الصلاة حتى وصلوا إلى بني قُريظة، وقد فاتتهم الصلاة، فلَمْ يُعَنِّف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدةً من الطائفتين. فهذا الحديث حُجَّة في جواز الأمرين، لكن قال أولئك: [إنه] منسوخ بالآية. فقد تبين أن الصلاة لما كانت أَوْكَد من الجهاد؛ فإنها عند مُزاحمة الجهاد لها أخفُّ، حتى لا تفوت مَصْلحة الجهاد، وقد يحصلُ من الفساد بترك الجهاد وقتَ الضرورة ما لا يُمكن تَلافيه. وهذا أيضًا كالحج وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين. فإذا تضيق وقته وازدحم هو والمقصود، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبَا إلى عرفة؛ فإنْ صَلَّى صلاة مُسْتَقِر فاتَهُ الوقوف، وإنْ سارَ ليُدْرِك عرفة قبل طوع الفجر فاتته الصلاة. فللفقهاء ثلاثة أقوال: قيل: يُقدِّم الوقوفَ؛ لأن عليه من تفويت الحج ضررًا عظيمًا. وقيل: بل يُقدِّم الصلاةَ لأنها أوكد.

_ (1) البخاري (946، 4119). وعند مسلم (1770) "الظهر" بدل العصر. وانظر كلام الحافظ عليه في "الفتح" (7/ 408، 409).

- الخائف المطلوب يصلي صلاة الخوف، وأما الطالب ففيه خلاف

وقيل: بل يأتي بهما جميعًا، فيُصَلي بحسب الإمكان صلاة لا تُفَوّته الوقوف. وهذا أَعْدَلُ الأقوال، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما. والعلماء مُتفقون على أن الخائف المَطْلوب يُصلي صلاة خائف. فأما الطالب فتنازعوا فيه، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما أنه يُصلِّي أيضًا صلاة الخوف. كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن كأبي داود (1) عن عبد الله بن أنيس قال: بَعَثَني رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خالدِ بن سفيانَ الهُذَليَ، وكان نحوَ عُرَنَةَ وعرفاتٍ، فقال: اذهب فاقْتُلْه. قال: فرأيتُه وحَضَرَت الصلاةُ صلاةُ العصرِ فقلتُ: إني أخافُ أن يكون بيني وبينَه ما إن أُؤَخر الصلاةَ. فانطلقْتُ أَمْشِي وأنا أُصلي أُومِئُ إيماءً نحوَه. فلما دنوتُ منه قال لي: مَن أنت؟ قلت: رجل مِن العرب بلغنيِ أنَّكَ تَجْمَعُ لهذا الرجلِ، فجئتك في ذاكَ، قال: إني لَفِي ذاكَ. فمَشَيتُ معه ساعةً، حتى إذا أَمكَنَني عَلَوتُه بسيفي حتى بَرَدَ. ومن قال هذا القول راعَى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضًا، فلا يمكن تفويت إحداهما، وإن لم يكن من تفويت الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة. ولو كان تكميل الصلاة مُقَدَّمًا على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا علم أنه لابد فيه من تحقيق الصلاة.

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 496) وأبو داود (1249) وابن خزيمة (982، 983).

- حكمة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين بالمدينة أفضل

فلما ثبت بالسنة المتواترة أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة بقَصْرِ العمل الذي هو قصر العدد فإنَّ قَصْر العدد سُنَّة السَّفَر، وأما قَصْر العمل فسنة الخوف. ولهذا إذا اجتمع الأمران شُرِع القَصْر المُطلق، كما في قوله: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (1). والآية على ظاهرها؛ فإن القَصْر المطلق المتضمن لِقصر العدد وقصر العمل إنما يكون مع الأمرين. وقد بيَّنَت السنة أن مجرد الخوف يُفيدُ قصر العمل، ومجرد السفر يفيد قَصْر العدد. فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع الجهاد لم يترك واحد منهما، بل يُصَفَى بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد بحسب الإمكان. وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)) (2). فأمر بالثبات والذكر معاً. وكانت السنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه وأصحابه وخلفاء بني أمية وكثير من خلفاء بني العباس أنَّ أمير الحرب هو أمير الصلاة في المقام والسفر جميعًا. وما ذكرناه يبين بعض حِكمة كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمهاجرين كان مقامهم بالمدينة أفضل على أحد قولي العلماء؛ فإنهم كانوا بها مهاجرين

_ (1) سورة النساء: 101. (2) سورة الأنفال: 45.

- طريقتان للسلف في الرباط

مجاهدين مُرابطين بخلاف مكة. وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين، حتى إنَّ مالكًا رضي الله عنه -مع فرط تعظيمه المدينة وتفضيله لها على مكة وكراهية الانتقال منها- لما سئل عمَّن بدار وهو مقيم بالمدينة يأتي الثُّغور كالإسكندرية وغيره، أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مُقامِهِ بالمدينة. وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرِّبَاط، وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن (1) وغيره مُرابطين. وكان عمر مَنْ يسأله عن أفضل الأعمال إنما يَدُلُّه على الرباط والجهاد، كما سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأمثالهم، ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس. ولهذا يُذْكَرُ من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أُمُور كثيرة. وكانوا على طريقتين: إحداهما: أن يُرابط كل قوم بأقرب الثُّغور إليهم، ويقاتلون من يليهم. كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) (2). وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب

_ (1) كذا في الأصل بدون ذكر الأب. (2) سورة التوبة: 123.

- السكن بالثغور والرباط أمر عظيم

مالك كابن القاسم ونحوه يرابط (1) بالثغور المصرية. والطريقة الثانية: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيه قتال النصارى. فكان عبد الله بن المبارك يَقْدَم من خُراسان فيُرابط بثغور الشام، وكذلك إبراهيم بن أدهم ونحوهما، كما كان يُرابِطُ بها مشايخ الشام كالأوزاعي وحذيفة المرعَشي ويوسف بن أسباط وأبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين وأمثالهم. وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان، وبقيت تحت حكمهم أكثر من ثلاثمائة سنة. وكانت "سِيْس" ثغر المسلمين، و"طَرَسُوس" كانت من أسماء الثغور، ولهذا تُذْكَر في كتب الفقه المُصَئفة في ذلك الوقت، وتولى قضاءها أبو عبيد الإمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما. وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: إذا اختلف الناسُ في شيء فانظروا ما عليه أهل الثَّغْر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (2). وبالجملة إن السَّكَن بالثغور والرِّباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور معمورة بخيار المسلمين علمًا وعملاً، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلُّونه على الثغور.

_ (1) كذا في الأصل بصيغة الإفراد. (2) سورة العنكبوت: 69.

- سبب اختيار من اختار الرباط بثغور النصارى

وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى للحديث الذي في سنن أبي داود (1) عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقال لها أُمُّ خَلاَّد وهي منتَقِبَةٌ تَسْأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جئْتِ تَسْألين عن ابنك وأنتِ منتقبةٌ! فقالت: [إن] أُرْزَأْ ابني فلنَ أُرْزَأَ حيائِي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابنُكِ له أَجْرُ شَهيدينِ". قالت: ولِمَ ذاكَ؟ قال: "لأنه قَتَلَه أهلُ الكتاب". وهذا بعض [الأخبار التي] تبين فضيلة سُكْنَى الشام؛ فإن أهل الشام ما زالوا مُرَابطين من أوَّل الإسلام لمُجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب. ولهذا فضَّل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُنْدَهم على جُنْد اليمن والعراق؛ مع ما قاله في أهل اليمن (2). ففي سنن أبي داود وغيره (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنكم ستُجَنَّدون أَجنادًا؛ جُندًا بالشام وجُندًا باليَمَنِ وجُندًا بالعراقِ"، قال: فقلت يا رسول الله! خِرْ لِي، فقال: "عليكَ بالشامِ، فإنها خِيرةُ الله مِن أَرْضِه، يَجْتَبِي إليها خِيرتَه مِن عبادِه، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليسق من غُدُره فإن الله قد تكفَّل لي بالشامِ وأهلِه". قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعةَ عليه.

_ (1) برقم (2488). (2) أخرجه البخاري (4388) ومسلم (52) عن أبي هريرة. (3) أخرجه أحمد (4/ 110، 5/ 33، 288) وأبو داود (2483) عن عبد الله بن حوالة.

- المراد بأهل الغرب في الحديث أهل الشام

وفي سنن أبي داود (1) أيضًا عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنه سَتكونُ هِجْرةٌ بعدَ هِجرةٍ، فخِيارُ أهلِ الأرضِ ألزَمُهم مُهاجَرَ إبراهيم، ويَبقى في الأرض شرَارُ أهلِها تَلفِظُهم أَرضوهُم، تَقْذَرُهم نفسُ الرحمن، تَحشُرُهم النارُ مع القِرَدة والخنازيرِ". وفي صحيح مسلم (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزالُ أهل الغَرْب ظاهِرين". قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام. يعني: ومن يغرب عنهم؛ فإن التَّغْريب والتشريقَ من الأمور النِّسبية، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكلَّم بذلك وهو بالمدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غَرْب المدينة، كما أن حران والرقَّة ونحوهما خلف مكة. والكلام في هذا ونحوه يطولُ ويَتَعَذَّر، بحيث لا تحتمله هذه الفتوى، لكن هذه الأمور المُتيسّرة تعود إلى أفضل الأحوال: الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص. وقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)) (3). فالجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمنًا؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّث

_ (1) برقم (2482). (2) برقم (1925). (3) سورة الحجرات: 15. (4) برقم (1910).

- إذا كان الجهاد أفضل من الحج فما معنى حديث "أفضل الجهاد حج مبرور"؟

نفسَه بالغزو مات على شُعْبة مِن نفاق". وذلك أن الجهاد فرضٌ على الكفاية، فيُخاطَب به جميع المؤمنين عمومًا، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. ولابد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمورٌ به، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احْتِيجَ إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله. فمن مات ولم يغز أو لم يُحدِّث نفسه بالغزو نَقَصَ من إيمانه الواجب عليه بقَدْرِ ذلك؛ فمات على شُعبة نفاق. فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحجّ بالكتاب والسنة فما معنى الحديث الذي رَوَتْه عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله! أرى الجهادَ أفضلَ العملِ أفلا نُجاهِدُ؟ قال: "لَكُنَّ أفضلُ الجهادِ: حَجّ مبرورُ" رواه البخاري (1)، ورواه النسائي (2)، وفيه: ألا نخرج نُجاهِد مَعَك فإني لا أرى عملاً أفضل من الجهاد. قال: "لا، ولكن أَحْسَن الجهاد وأجمله حجُّ البيت حج مبرور". قيل: أفضل الجهاد للنساء حجّ مبرور. فأخبرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. وكذلك جاء مُبَيّنًا، رواه النسائي (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "جهادُ الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحجّ والعمرة". وفي حديث آخر (4): "الحجُّ جهادُ كل

_ (1) برقم (1520). (2) 5/ 114، 115. (3) 5/ 113. (4) أخرجه أحمد (6/ 294، 303، 314) وابن ماجه (2902) عن أمّ سلمة. وهو ضعيف.

ضعيف". وفي حديث آخر (1): هل على النساء جهاد؟ قال: "جهاد لا قتالَ فيه: الحج والعمرة". سياقُ الحديث المُتَقَدِّم بيَّن ذلك، فإنها قالت: نَرَى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال: "لَكُنَّ أفضل الجهاد: حجّ مبرور". فقد أقرَّها على قولها: "نرى الجهاد أفضل العمل"، ثم ذكر أن "أفضل الجهاد الحج المبرور". وفي اللفظ الآخر (2): ألا نَخْرُج فنجاهِد معكَ فإنِّي لا أرى عملاً في القرآن أفضل مِن الجهاد؟ قال: "لَكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حجّ مبرور". فأقرها على قولها بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الجهاد (3) المعروف قال: "لا، ولكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حج البيت"، وجعل فضلَه بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين؛ فعُلِمَ أنه أراد جهاد النساء، واللام للتعريف، ينصرفُ إلى ما يعرفه المُخَاطب. ومقصود الناقل هنا الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله؛ فَبَيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحجّ؛ فإن السائل ضعيف؛ والحج جهادُ كل ضعيف. وفي صحيح مسلم (4) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المؤمنُ القَوِيُّ خير وأَحَبُّ إلى

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 165) وابن ماجه (2951). (2) هذا لفظ رواية البخاري (1861). (3) في الأصل: "الحج" وهو خطأ. (4) برقم (2664).

- الأحاديث الواردة في فضائل الرباط

الله من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كل خير، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واستَعِن باللهِ ولا تَعْجزْ، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقُل لو أَنِّي فعلتُ كذا لكان كذا، ولكنَ قل: قَدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تَفْتَحُ عملَ الشيطانِ". وقد جاء في فضائل الرِّباط أحاديث في الصحاح والسنن تُبيِّن ما ذكرناه: فرَوَى البخاري في صحيحه (1) عن سهل بن سعد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رِباطُ يومٍ في سبيلِ الله خير من الدنيا وما عليها". وفي صحيح مسلم (2) عن سلمان الفارسي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقِيامِهِ، وإن مات فيه جَرَى عليه [عَمَلُه] الذي كان يعملُه، وأُجْرِيَ عليه رزقُهُ، وأَمِنَ الفتَّان". وفي السنن (3) عن فضالة بن عبيد قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من ميت يموت إلا خُتِمَ عليه عملُه إلا من ماتَ مُرابطًا في سبيل الله، فإنه يَنمُو له عملُه إلى يومِ القيامةِ، ويُؤمَنُ مِن فتنةِ القبرِ" رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه والترمذي بمعناه. وزاد: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "المجاهد [مَنْ جاهَد] نفسه في طاعةِ الله" قال الترمذي: حسنٌ صحيح.

_ (1) برقم (2892). (2) برقم (1913). (3) أخرجه أحمد (6/ 20) وأبو داود (2500) والترمذي (1621).

- الأحاديث المروية بتعيين قزوين والإسكندرية موضوعة

وقد تقدم حديث عثمان: "رباطُ يوم في سبيلِ الله خير مِن ألف يومٍ فيما سواه مِن المنازل". وقد جاء عن السلف آثار فيها ذكر الثُّغور مثل غزَّة وعسقلان والإسكندرية وقزوين ونحو ذلك. وأما الأحاديث المَرْوية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتعيين قزوين والإسكندرية ونحو ذلك فهي موضوعة كَذِب بلا ريب عند علماء الحديث (1)، وإن كان ابن ماجه قد روى في سننه (2) الحديث الذي في فضل قزوين؛ وقد أنكر عليه العلماء ذلك، كما أنكروا عليه رواية أحاديث أخرى بضعة عشر حديثًا من الموضوعات؛ ولهذا نَقَصَت مرتبة كتابه عندهم عن مرتبة أبي داود والنسائي. وقد قدمنا كون البلد ثغرًا صِفة عارِضة لا لازمة؛ فلا يمكن فيه مدح مُؤَبَّد ولا ذَمّ مُؤَبَّد، إلا إذا عُلِمَ أنه لا يزال على تلك الصِّفة. وإذا تبين ما في الرِّباط من الفَضْل؛ فمن الضَّلال ما تجد عليه أقوامًا ممَّن غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما يقاربها، فيسافر السفر الذي لا يُشْرَع بل يُكْرَه، ويترك ما هو مأمور به واجب أو مستحب. مثال ذلك أن قومًا يَقْصِدون التعريف بالبيت المقدس، فيقصدون زيارته في وقت الحجّ ليعرفوا به، ويَدَعو [نَ] المُقام بالثغور التي تُقاربه.

_ (1) انظر موضوعات ابن الجوزي (2/ 55). (2) برقم (2780) عن أنس بن مالك. وفي إسناده داود بن المحبّر وضّاع.

- من أعظم المنكرات: التعريف بقبور المشايخ والأنبياء والسفر لذلك

وهذا في غاية الضلال والجهل والحِرمان من وجوه: أحدها: أن التعريف بالبيت المُقَدَّس ليس مشروعًا لا واجبًا ولا مستحبًّا بإجماع المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قُرْبة فهو ضالٌّ باتفاق المسلمين، بل يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل، إذ ليس السفر مشروعًا للتعريف إلا للتعريف بعرفات. وأقبح من ذلك تعريفُ أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من المشاهد أو السفر لذلك، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. بل تنازع السلف في تعريف الإنسان في مِصْره من غير سفر، مثل أن يذهب عشية عرفة إلى مسجد بلده فيدعو الله ويذكره، فكَرِهَ ذلك طوائف؛ منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما. ورخص فيه آخرون؛ منهم الإمام أحمد، قال: لأنه فعله ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حرب بالكوفة. ومع هذا فلم يستحبه أحمد، وكان هو نفسه لا يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: إنه يستحب. وأما السفر للتعريف بغير عرفة فلا نزاع بين المسلمين أنه من الضلالات، لا سيما إذا كان بمشهد مثل قبر نبيّ (1) أو رجل صالح أو بعض أهل البيت، فإن السفر إلى ذلك لغير التعريف مَنْهِيٌّ عنه عند جمهور العلماء من الأئمة وأتباعهم. كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2): "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومسجدي هذا". وقد رأىَ بصرة بن أبي بصرة الغفاري أبا هريرة

_ (1) في الأصل: "قربى"!. (2) أخرجه البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة.

- الزيارة المشروعة للقبور

راجعًا من زيارة الطور فقال: لو رأيتك قبل أن تزوره لم تزرْه، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومسجدي هذا" (1). [وقد] قال من قال من هؤلاء كأبي الوفاء ابن عقيل وغيره: إن المسافر لمجرد الزيارة لبعض المشاهد لا يقصر الصلاة لأنه عاص بسفره، وإنما رخَّص في هذا السفر طائفة من المتأخرين، ولكن الزيارة المشروعة إذا اجتاز الرجل بالقبور أو خرج إلى ما يُجاوره من القبور كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج إلى البقيع، وكما زار قبر أمه لما اجتاز بها في غزوة الفتح. وقد ثبت عنه في الصحيح (2) أنه قال: "استأْذَنْتُ ربِّي أن أزور قبر أمِّي؛ فأذِنَ لي، واستأذنته في أن أستغفرَ لها؛ فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة". وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهمِ: "السلامُ عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحِقُون، ويَرْحَمُ الله المُسْتَقْدِمينَ منا والمُستأخِرينَ، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرَهم ولا تفتنا بعدَهم" (3). وقد رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال (4): "ما مِن رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ الرجلِ

_ (1) أخرجه النسائي (3/ 114). (2) مسلم (976) عن أبي هريرة. (3) أخرجه مسلم (975) عن بريدة، و (974) عن عائشة، ما عدا الجزء الأخير، فقد روي ضمن الدعاء في الصلاة على الجنازة. (4) أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 234) عن ابن عباس، وصححه =

- المقصود من الزيارة المشروعة السلام على صاحب القبر والدعاء له

كان يعرفه في الدنيا فيُسَلِّم عليه إلا رَدَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام". والزيارة المشروعة للمسلم: أن يُسَلَّم عليه ويُدعَى له، كما أن الصلاة مقصودها الدُّعاء له. ولهذا نهى الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأمرين في حقِّ المنافقين. كما قال تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (1)، نهى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛ فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورهم. وقد قال طوائف من السلف والخلف: وهو القيام على قبورهم بالدعاء والاستغفار. فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له، فأما اتخاذ القبور مساجد أو الاشراك بها فذلك كله حرام بإجماع المسلمين. كما في الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لَعَنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهمِ مساجد"؛ يُحذِّر ما صَنَعوا. قالت عائشة (3): ولولا ذلك لأبْرِز قبره، ولكن كُرِهَ أن يتخَذَ مسجدًا.

_ = عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى" (1/ 345) و"الأحكام الوسطى" (2/ 152، 153). (1) سورة التوبة: 84. (2) البخاري (435، 436 ومواضع أخرى (ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس. (3) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529).

- لا تشرع الصلاة عند القبور، ولا قصدها لأجل الدعاء عندها، ولا التمسح بها وتقبيلها

وفي صحيحِ مسلم (1) أنه قال قبل أن يموتَ بخمس: "إنِّي أَبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو كنتُ مُتَّخِذًا خليلا لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإنَّ مَن كان قبلَكم كانوا يَتَّخذونَ قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، ألا فلا تَتَّخِذوا القبورَ مساجدَ فإني أنهاكم عن ذلك". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لعنَ الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجدَ والسُّرُجَ". وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه لا تُشْرَع الصلاةُ عند القبور، وقَصْدُها لأجل الدعاء عندها، ولا التَّمَسُّح بها وتَقْبيلها؛ سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم. بل ليس تحت أديم السماء ما يُشرع التمسحُ به وتقبيلُه إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يستحب التمسح به. وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه والتابعين (3)، فلم يَمْسَحوا إلا الرُّكنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك؛ فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقامِ غيره من الأنبياء والصالحين؟ وقد قال الله في كتابه: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) (4). قال طوائف من الصحابة

_ (1) برقم (532) عن جندب بن عبد الله. (2) أخرجه أحمد (1/ 229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575) من طريق أبي صالح عن ابن عباس. وانظر الكلام عليه في "الضعيفة" (225). (3) في الأصل: "التابعون". (4) سورة نوح: 23.

- السفر إلى الثغر للرباط أفضل من السفر إلى غيره على الوجه المشروع

والتابعين: "هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلمَّا ماتوا عَكَفُوا على قبورهم، ثم لما طال عليهم الأمد صَوَّروا صورهم، فكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان". ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما رواه مالك في الموطأ (1): "اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا". فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام، فيكون بمنزلة لحم الخنزير، وأما السفر للتعريف ببيت المقدس مثلاً، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد الثلاثة فهو أيضًا مَنْهِيّ عنه، وإن كان وجد في ذلك من عمد إلى هذه البدع التي فيها من الشرك ما فيها، وتعبد بها وأقامَ بها، وقصد ما يقصده من البقاع لأجلها، وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أليس هو ممن استبدل السيئات بالحسنات؟ الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه قَصَدَ بعض هذه البقاع قصدًا مشروعًا مثل السفر إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه، فإن هذا عمل صالح باتفاق المسلمين، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة، مثل البدع التي تفعل هنا من السماع

_ (1) 1/ 172 عن عطاء بن يسار مرسلاً. (2) أبو داود (2042) عن أبي هريرة.

للمكاء والتصدية في النصف وعشر ذي الحجة ونحو ذلك، ومثل استلام بعض ما هناك من الأحجار، فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين للبيت العتيق، ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وظن أجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات. فالزيارة إذا سَلِمَت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية، والسفر إلى الثغر للرباط أفضل منها، والعُدُول عن الفاضل إلى المَفْضُول مع استوائهما غير محمود. الوجه الثالث: أن من الناس من يَقْصِد المُجاورة ببيت المَقْدس ويدع المُجاورة بالثغر الذي هو قريب منه. وهذا البابُ من أفضل الأفضل وأجلها، وهو فرض على الكفاية، ومعلوم أن هذا أعظم خُسْرانًا، وأشد حِرْمانًا، وأبعد عن اتباع الشريعة؛ فإن المُجاور بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المُرابطة لاختلاف المكانين. أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذا إلى هذا لا يصدر إلا من جهل أو من ضعف إيمان، اللهم [إلاّ] إذا نَذَر هذا فيكون هذا معذورًا. وإنما الكلام فيمن يقدر على الأمرين. ولهذا [لما] كان أهل البدع مُهْمِلين أمر الجهاد مُعَظمين للزيارات، استولى الكفار على كثير من الثغور، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين من شاء الله، وكان قد جَرَت فيه بدع كثيرة. ومن ذلك من يقصد بعض هذه البقاع، إما جبل لبنان وإما غيره، إما لزيارته لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم، ويدع أن يقصد للرباط في سبيل الله، فإن هذا أيضًا من الضلال العظيم، وأصل السفر

- السياحة لغير قصد معين ليس مشروعا

إلى الزيارة غير مشروع ولا مأمور به، بل هو من البدع والضلال. وكذلك السِّياحة لغير قصدٍ مُعَيَّن ليس ذلك مشروعًا لنا. قال الإمام أحمد: ليست السياحة من أمر الإسلام في شيء، ولا من فِعْل النبيين ولا الصالحين. والسياحة المذكورة في القرآن ليست هذه السياحة؛ فإن الله قد قال: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)) (1). ومعلوم أن نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونساء المؤمنين لا يُشْرع لهن هذه السياحة. ولكن قد فُسِّرت السياحة بالصيام، وفُسِّرت بالجهاد (2)، وكلاهما مَرْوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما الأول: فرواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرسلاً. وأما الثاني فقال أبو داود في سننه (3): "باب النهي عن السياحة"؛ وروى فيه حديث العلاء بن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذَن لي بالسِّياحةِ؟ قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ سِياحةَ أُمَّتي الجهادُ في سبيلِ الله". وكذلك أيضًا رُوي (4): "إن رَهْبانية هذه الأمة: الجهادُ في سبيل الله". إذ لا رهبانية في الإسلام، وأما ما ذكره في كتابه أن النصارى

_ (1) سورة التحريم: 5. (2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 1712 - 1713). (3) برقم (2486). (4) أخرجه أحمد (3/ 266) عن أنس بن مالك.

- الأمر باتباع السنة والنهي عن البدع

ابتدعوا الرهبانية فقد نهانا الله ورسوله عن البدع. وثبت عنه في صحيح مسلم (1) وغيره عن جابر أنه كان يقول في خطبته: "إنَّ أصدَقَ الحديث كلام الله، وخيرُ الهَدْي هَدْي محمدٍ، وشَرُّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكلُّ بدعة ضلالة". وثبت عنه في السنن (2) الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: وعَظَنا رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظةً بَليغةً فقال رجل: يا رسولَ الله! كأن هذه موعظةُ مُودِّع فماذا تَعْهَدُ إلينا؟ فقال: "أُوصيكم بالسَّمعِ والطاعةِ فإنَّ مَن يَعِشْ منكم سيَرَى بعدي اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المَهْديِّين، تمسكُّوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحْدَثات الأمُور؛ فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة". فكيف بما نهى الله عنه ورسوله من العبادات المُبتدعةِ؟ كما أخرجا في الصحيحين (3) -واللفظ لمسلم- عن أنس بن مالك أنَّ نفرًا من أصحاب النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأَلوا أزواجَ النبيِّ عن عَمَلِهِ في السِّرِّ؟ فقال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساء. وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحْمَ. وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ. فحمدَ الله وأثنَى عليه فقال: "ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكنِّي أُصلِّي وأنامُ، وأَصومُ وأُفْطِرُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنتي فليس مِنِّي".

_ (1) برقم (867). (2) أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (24، 44). (3) البخاري (5063) ومسلم (1401).

- نذر المعصية وحكمه

ولفظ البخاري (1): جاء ثلاثة رهط بيوتَ أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألون عن عبادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها! فقالوا: وأين نحن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليل أبدًا. وقال الآخر: أنا أصوم الدَّهر أبدًا. وقال الآخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله [فقال]: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأَرْقُد، وأَتزوَّجُ النِّساءَ، فَمَن رَغِبَ عن سنَّتي فليسَ مِنِّي". وفي الصحيحين (2) عن سعد بن أبي وقاص قال: رَدَّ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مَظْعُونٍ التبتَّل، ولو أذِنَ له لاخْتَصينا. وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً قائمًا في الشَّمس فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس ولا يستظل وأن يصوم، فقال: "مُرُوه فلْيَجْلِس، وليَسْتَظِلَّ وليَتكلم وليتِمَّ صومَه". فلما كان هذا النَّاذِرُ نَذَرَ ما هو سُنَّة وما هو بدعة أَمَرَه بالوفاء بالسنة دون البدعة، كما في صحيح البخاري (4) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن نَذرَ أن يُطيعَ الله فليُطِعْهُ، ومَن نذر

_ (1) في الموضع المذكور. (2) البخاري (5074) ومسلم (1402). (3) برقم (6704). (4) برقمي (6696، 6700).

أن يعصي الله فلا يَعْصِهِ". وهذا متفق عليه بين أئمة الدين، لكن تنازَعُوا هل عليه كفارة يمينٍ أو نذرِ ما ليس مشروعًا؛ بعد اتفاقهم على أنه لا يفعله؟ فقيل: لا شيء عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما لأنه ليس في هذا الحديث وغيره أنه أمر له بالتكفير. وقيل: بل عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارةُ النَّذْرِ كفارةُ يمينٍ". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا نَذْرَ في معصيةٍ وكفارتُه كفارةُ يمينٍ". وقد ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفضلُ الصيام صيامُ داود، كان يصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا، وأفضلُ القيام قيام داود كان ينامُ نصف الليل ويقوم ثُلُثه وينام سُدُسه". وقد استفاض عنه في الصحيح (4) أنه نهى عن مداومة الصيام والقيام وقراءة القرآن في أقل من ثلاث. وأمثال ذلك من النصوص التي تُبيِّن ما بَعَث الله به رسوله من الحنيفية السمحة. كما جاء في الحديث: "أَحَبُّ الدين إليَّ الحنيفية السَّمحة" (5).

_ (1) برقم (1645) عن عقبة بن عامر. (2) أخرجه أبو داود (1525) والترمذي (1525) والنسائي (7/ 26، 27) وابن ماجه (2125) عن عائشة. (3) البخاري (1131) ومسلم (1159). (4) البخاري (5052) ومسلم (1159). (5) أخرجه أحمد (5/ 266) والبخاري في الأدب المفرد (287) عن ابن عباس نحوه.

- الناس في حالة الفتور نوعان: منهم من يلزم السنة، ومنهم من يخرج إلى البدعة في دينه أو فجور في دنياه

وفي الصحيح (1) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنَّ هذا الدِّين متين وإنه لَن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَهُ، واستَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوحَةِ وشيء من الدُّلجَةِ، والقصدَ القصدَ تبلغوا". وفي الصحيحين (2) عنه أنه قال: "اكْلَفُوا مِن العَمَلِ ما تُطِيقُونَ؛ فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا". وفي السنن (3) عنه أنه قال: "لكل عامل شِرَّةٌ وفتر، فمن كانت فترته إلى سُنَّة فقد اهتدى، ومن أخطأَها فقد ضَلَّ". وفي لفظ: "ولكل شِرَّةٍ فَتْرَ؛ فإن [كان] صاحبها سَدَّدَ وقارب فارجوه، وإن أُشير إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوهُ". فقيل للحسن البصري لما رَوَى هذا الحديث: "إنَّك إذا مَرَرت بالسُّوق فإنَّ النَّاس يُشِيرون إليك؟ فقال: "لم يُرِد ذلك، وإنما أرادَ المُبْتَدِع في دينه والفاجر في دنياه". وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإنَّ من الناس من يكون له شدَّة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابُدَّ من فُتُور في ذلك. وهم في الفَتْرَة نوعان: منهم: من يلزم السنَّة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نُهِيَ عنه بل يلزم عبادة الله إلى الممات؛ كما قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) (4)، يعني الموتَ، قال الحسن البصري: لم يَجْعَل

_ (1) البخاري (39، 6463) عن أبي هريرة. (2) البخاري (6465) ومسلم (782) عن عائشة. (3) الترمذي (2453) عن أبي هريرة. وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أحمد (2/ 188) عن عبد الله بن عمرو. (4) سورة الحجر: 99.

الله لعباده المؤمنين أجلاً دون الموت. ومنهم: من يخرج إلى البدعة في دينه أو فُجُور في دنياه حتى يُشير إليه الناس، فيقال: هذا كان مجتهدًا في الدِّين ثم صار كذا وكذا. فهذا مِمَّا يخاف على من عَدَل (1) عن العبادات الشرعية إلى الزيارات البدعية. ولهذا قال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: "اقتصاد في سُنَّة خير من اجتهادٍ في بِدْعة". ومع هذا فجِنْس الجهاد أفضل، بل قد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ رجل مِن أصحاب رسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشعبٍ فيه عُيَينة مِن ماءٍ عَذْبة فأَعْجَبَتْهُ. فقال: لو اعتزلتُ الناس، َ فأَقَمتُ في هذا الشِّعْب، ولن أفْعَلَ حتى أَستأذِنَ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذَكَرَ ذلك لرسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لا تفعل فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ الله أفضلُ من صلاتِه في بيتِه سبعينَ عامًا، أَلاَ تُحِبُّونَ أن يَغفِرَ اللهُ لكم ويُدْخِلَكم الجَنَّة؛ اغْزُوا في سبيلِ الله، مَن قاتلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ وجَبَتْ له الجَنَّةُ" (2). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفَوَاقُ النَّاقة: ما بين الحلبتين. وجماع الأمر ما قاله الفضيل بن عياض في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (3) قال: أَخْلَصُه وأَصْوَبُه، قالوا يا أبا علي! ما أَخْلَصُه

_ (1) في الأصل: "بدل". (2) أخرجه أحمد (2/ 446، 524) والترمذي (1650). (3) سورة الملك: 2.

- العمل الصالح ما كان خالصا لله وموافقا للسنة

وأَصْوَبُه؟ قال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالِص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُنَّة. وهذا كما قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (1). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهمَّ اجعل عملي كُلّه صالحًا، واجعله لِوَجهِك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا. والعملُ الصالح هو المشروع، وهو طاعة الله ورسوله، وهو فِعل الحسنات التي يكون الرجل به مُحْسنًا. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (2). وقال: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) (3). ولابد في الرِّباط والهجرة والجهاد وسائر الأعمال الشرعية من السنة التي هي روح العمل، كما في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنما الأعمالُ بالنيّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

_ (1) سورة الكهف: 110. (2) سورة النساء: 125. (3) سورة البقرة: 112. (4) البخاري (6953 ومواضع أخرى) ومسلم (1907) عن عمر.

- تشاغل المسلمين بقتال بعضهم بعضا وتركهم الرباط والجهاد خسارة الدنيا والآخرة

وفي الصحيحين (1) عنه أنه قيل له: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "مَن قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُلْيا فهو في سبيل الله". قال تِعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)) (2). فالله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يُحِبُّه ويرضاه لنا من الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة، ويُجَنِّبنا ما يكرهه لنا من ذلك كُلِّه. وأعظم من ذلك أن يتشاغل المسلمون بقتال بعضهم بعضًا، كما يجري بين أهل الأهواء من القبائل وغيرها، كقيس ويمن وجَرْم وتغلب ولَخْم وجُذَام وغير هؤلاء، مع مجاورتهم للثغور، فيَدَعون الرِّباط والجهاد الذي هو سعادة الدنيا والآخرة -كما قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (3) يعني: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة- ويشتغلون بقتال الفتن والأهواء الذي هو خسارة الدنيا والآخرة. وفي الصحيحين (4) عن أبي بكرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه [قال]: "إذا

_ (1) البخاري (7458) ومسلم (1904) عن أبي موسى الأشعري. (2) سورة الأنفال: 39 - 40. (3) سورة التوبة: 52. (4) البخاري (31) ومسلم (2888).

التَقَى المسلمانِ بسيفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النارِ". فقيل: يا رسول الله! هذا القاتلُ فما بالُ المقتولِ؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتلِ صاحبِهِ". وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)) (1). وهذه الفتيا لا تحتمل البسط في هذه الورقة، وإنما نبهنا على النكت الجامعة. (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل). تمت

_ (1) سورة آل عمران: 102 - 107.

(18) قاعدة في الأموال السلطانية

قاعدة في الأموال السلطانية

- الأموال المشتركة السلطانية ثلاثة: الفيء والمغانم والصدقة

بسم الله الرحمن الرحيم فصل الأموالُ السلطانية والأموالُ العقدية من وقفٍ ونذورٍ ووصيةٍ ونحو ذلك، الأصلُ في ذلك مبنيٌّ على شيئين: أحدهما: أن يَعلم المسلمُ بما دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله وإجماعُ المؤمنين نصًّا واستنباطًا. ويَعلم الواقعَ من ذلك في الولاةِ والرعيَّهِ، ليعلمَ الحق من الباطل، ويعلمَ مراتبَ الحقِّ ومراتبَ الباطلِ، ليستعملَ الحق بحسب الإمكان، ويَدَعَ الباطلَ بحسب الإمكان، ويُرجِّحَ عند (1) التعارضِ أحقَّ الحقَّينِ، ويَدفعَ أبطلَ الباطلَيْنِ. فنقول: إن الأموال المشتركة السلطانيةَ الشرعيةَ ثلاثةٌ: الفَيء، والمغانمُ، والصدقةُ. وإذا صَنَّف العلماءُ كُتُبَ الأموالِ -ككتاب "الأموال" لأبي عُبيد ولحُمَيْد بن زَنْجويه، و"الأموال" للخلاَّل من جوابات أحمد، وغير ذلك- فهذه هي الأموالُ التي يتكلَّمون فيها. وكذلك من العلماء مَن يَجمع الكلامَ فيها في الكُتُب المصنَّفةِ في رُبُع الأموال، كما في "المختصر" للمُزَني و"مختصرِ" الخَرَقي وغيرِهما

_ (1) في الأصل: "عن".

- هذه الأموال ثابتة مستخرجها ومصروفها بكتاب الله وسنة رسوله

كتابُ قَسْمِ الفَيء والغَنائم والصدقة، يَذكُرونَه قبلَ قَسْمِ الوصايا والفرائض بعد قسْم الوقوف. ومنهم من يذكر قَسْمَ الصدقةِ في كتاب الزكاة، وقَسْمَ المغانمِ والفيء في الجهاد، كما هي طريقةُ كثيرٍ من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرِهم. ومنهم من يذكر الخراجَ والفيءَ في كتاب الإمارة، كما فعلَ أبو داود في "السنن" في كتاب الخراج والإمارة. وهذه الأموالُ الثلاثة ثابتة مُستَخْرَجُها ومَصروفُها بكتابِ الله وسنةِ رسوله، وأكثرُها مُجتَمع عليه، وفيها مواضعُ مُتنازعٌ فيها بين العلماء. فإنّ الله فرضَ الزكاةَ في الأموال وذكرَ أهلَها في كتابه بقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية (1). والنبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بيَّن من ذلك ما أجملَه الكتابُ بما سَنَّه من نُصُبِ الزكاةِ وفَرائضِها، وفَسَّرَ من مواضعِها، وعَمِلَ به خلفاؤُه من بعدِه. وكذلك المغانم، قد أحلَّها الله بكتابه وسنَّةِ رسوله، وقَسَمَها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه الراشدون، وهيَ المالُ المأخوذُ من الكفّارِ بالقتال، وما أُخِذَ من المرتدّين والخارجين عن شريعةِ الإسلام، فتفصيلُه ليس هذا موضعَ ذِكرِه. ويُسمَّى أيضًا فَيْئًا وأنفالاً. وكذلك الفَيءُ الخاصّ، وهو ما أُخِذَ من الكفّارِ بغيرِ قتالٍ، ذكره الله في سورة الحشر (2)، وجَرَى قَسْمُه في سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) سورة التوبة: 60. (2) الآيتين 6 - 7.

- ما يلحق بهذه الأموال

وسنَّةِ خلفائه الراشدين على الوجهِ الذي جَرى عليه. ويَلتحِقُ به الأموالُ المشتركةُ التي لم تُؤخَذْ من الكفّار، كالمواريثِ التي لا وارثَ لها، والأموالِ الضائعةِ التي لا يُعلَم لها مُستحِقّ معيَّنٌ، ونحو ذلك من الأموال المشتركة. ثُمَّ خلفاءُ الرسولِ أهلُ العدل من العلماءِ والأمراءِ الجامعين بين العلم والإمارة مع العدل -كالخلفاءِ الراشدين- قد يجتهدون في كثيرٍ من هذه الأموالِ قبضًا وصَرْفًا، كما يجتهدون في الأحكامِ والولاياتِ والأعمالِ والعقوباتِ ونحوِ ذلك، واجتهادُهم سائغٌ، والأموالُ المأخوذةُ بمثل هذا الاجتهادِ سائغةٌ، وإن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك، فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك، ولا على من أخذَ باجتهادِه، كما لا يُنكِرُ على ما أعطاه الحاكمُ بحكمِه في الفرائضِ والوقوفِ ونحوِ ذلك. ولكن هل يُباحُ له بالحكم ما اعتَقَدَ تحريمَه قبل الحكم؟ على روايتين. وكذلك يُخَرَّجُ في القَسْم، فإن قَسْمَ الإمامِ المالَ الذي يَجِبُ عليه قَسْمُه هو كحكمِه، وأما قِسْمَتُه لغير ذلك فهي بمنزلةِ فِعْلِ الحاكم، كتزويج الأيامَى وبيع أموال اليتامَى. وهل فِعْلُ الحاكمِ حُكم فلا يَسُوغُ نَقضُه، أم هو كفعلِ غيرِه فيجوزُ نقضُه حتى يُنَفِّذَه أو غيرُه من الحكام؟ فيها وجهاد. ثمَّ إذا قلنا: هو حرام عليه، فليس حرامًا على غيرِه، ويَحِل له -إذا أخذَه غيرُه بتأويلٍ- أن يأخذَه منه بابتياع واتِّهاب ونحوِ ذلك من العُقود. هذا هو الصواب، فإنَّ ما قَبَضَه المسلمُ بالتأويل أولَى

- ما أتلفه أهل البغي على أهل العدل من النفوس والأموال لا يجب عليهم ضمانه

بالإباحةِ مما يَقبِضُه الكفّار من أهلِ الحرب والذمةِ بالتأويل. وإذا كان الكفّارُ فيما يعتقدون حِلَّه إذا أسلموا لوَ تحاكموا إلينا بعد القبضِ حَكَمنا بالاستحقاقِ لمن هو في يدِه، وحَلَّلْناه لمن قَبَضَه من المسلمين منه بمعاوضة، وحَلَّلناه له بعد إسلامِه، فالمسلم فيما هو متأوِّل في حُكمِه باجتهادٍ وتقليد إذا قَبَضَه أولَى أن تَحِلَّ معاملتُه فيه، وأن يكونَ مباحًا له إذا رَجَعَ بعدَ ذلك عن القولِ الذي اعتقدَه أوَّلاً، وأن يُحكَمَ له به بعدَ القبضِ، كما لو حَكَمَ به حاكمٌ. وقد ذكرتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضع، وذكرتُ فيها روايتين أصحُّهما ذلك، بناءً على أنّ حُكْمَ الإيجاب والتحريم لا يثبُتُ في حكم المكلَّفِ إلاّ بعدَ بلوغِ الخطابِ، وأنَه [لا] يَجبُ عليه قضاءُ ما تَرَكَه من الواجبات بتأويلٍ، ولا رَدُّ ما قَبَضَه من المَحرَّماتِ بتأويلٍ كالكفَّار بعد الإسلام وأولَى، فإنّ المسلم في ذلك أَعذَرُ. وتنفيرُ الكفّارِ عن الإسلام كتنفيرِ أهلِ التأويل عن الرجوع إلى الحقّ والتوبةِ من ذلك الخطأ. وهذا في الأنكحة والمعاوضات والمقاسمات. وكذلك ما أتلَفَه أهلُ البَغْي على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال، لا يَجبُ عليهم ضمانُه في ظاهرِ المذهب الموافق لقولِ جمهورِ العلماء، َ وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي في أَحدِ قولَيْهِ، كما أجمعَ عليه السلفُ من الصحابة والتابعين. قال الزهري: وَقعتِ الفتنةُ وأصحابُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوافرون، فأجمعوا أن كل دمٍ أو مال أو فرجٍ أُصِيْبَ بتأويل القرآن فإنه هَدَر. وذلك لأنهم متأوِّلون، وإن كان ما فَعلوه حرامًا في نفسِ الأمر.

- ما قبضه المسلم بعقد متأولا فيه ملكه

وفي أهل الرِّدَّة أيضًا روايتان، أصحُّهما أنهم لا يَضمَنُون كأهلِ الحرب، كما أشارَ به عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه، لمَّا قالَ لأهل الردَّةِ: تَدُوْا قَتْلاَنا ولا نَدِيْ (1) قَتْلاَكم، فقال عمر: لا، لأنهم قومٌ قتِلُوا في سبيل الله واستُشْهِدوا. دَلَّ على ذلك كتابُ الله في عَفْوِه عن الخطأ، وسُنَّةُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصّةِ أسامةَ بن زيدٍ (2) وقصّةِ عمّار بن ياسرٍ (3) وعديّ بن حاتم (4) وأبي ذَر (5) وغير ذلك. فما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه، ولو تَحاكَمَ اثنانِ في عَقْدٍ اعتقدَا صِحَّتَه بعد القبض فينبغي للحاكمِ أن يُقِرَّهما على ذلك التقابُضِ. ويجوز معاملةُ المسلم فيما قبضَه بهذا الوجه، ولهذا أمرَ أحمد لمن يُعامِلُ السلطانَ في وقتِه أن يكون بينه وبينه آخر، وكلَّما بَعُدَ كان أجودَ، لأنّ المباشرَ لهم قد يَستحِلُّ من المعاملةِ باجتهادٍ أو تقليدٍ ما لا يَستحِلُّه المستفتي، فإذا قَبَضَه المباشرُ بتأويلِه حَلَّ للمستفتي حينئذٍ. ونظيرُ هذا قولُ عمر في الخمر والخنزير: وَلُّوهُم بَيْعَها وخُذُوا أثمانَها، ولا تَبِيعُوها أنتم (6). فإنّ المسلمَ لا يَحِلُّ له بيعُ الخمرِ

_ (1) في الأصل: "تؤدوا ... نؤدي". (2) أخرجها البخاري (4269) ومسلم (96) عن أسامة. (3) أخرجها البخاري (338 ومواضع أخرى) ومسلم (368) عن عمار. (4) أخرجها البخاري (1916) ومسلم (1090) عن عدي. (5) أخرجها أبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي (1/ 171) عن أبي ذر. (6) أخرجه عبد الرزاق (6/ 23).

- ما قبضه الإمام من الحقوق بتأويل وجبت طاعته فيه

والخنزيرِ، ويَحِلُّ له قَبْضُ ثمنِ ذلك ممن باعَه بتأويلِه في دينه. فالمسلم الذي قَبَضَ بتأويل أولَى. فهذا مأخذ لقولِ أحمد. وله مأخذ ثانِ: أنَّ الظالمَ إذا باعَ المغصوبَ فالمشتري قَبَضَ عِوَضَ مالِه، والأموالُ التي بأيديهم مجهولةُ الملكِ، فالعِوَضُ فيها كالمعوَّض. فالمستفتي قَبَضَ ممن قَبَضَ عِوَضَ [مالِه]، ولم يَقبِضْ ممن قَبَضَ نفسَ مالِ الغير. ولهذه القاعدة فروعٌ في جواباتي في الفتاوى. وما قَبَضَه الإمامُ من الحقوقِ -الزكَوات والخراج وغير ذلك- بتأويلِ من اجتهادٍ أو تقليل وَجَبَتْ طاعتُه فيه، كما يَجبُ طاعةُ الحاكمِ في الحكم المتنازع فيه، فإذا طلبَ أخْذَ القيمةِ أَو أَخْذَ ما فَضَلَ عن الفرائضِ ونحو ذلَك أُطِيعَ في ذلك، وتَبْرَأ ذِمَّةُ المسلمِ بما يَدفعُه من ذلك. وهل يُجزِئُه ذلك إذا كان يعتقد أنه لا يُجزِئه لو فعلَه؟ الصواب أنه يُجزِئُه، كما ذكر أصحابُنا في الخلطة أنه لو أخذ القيمة أو الكبير عن الصغير فإنه يَرجِعُ أحدُ الخليطينِ على الآخر بذلك، وإطلاقُهم يَقتضي أنه يُجزِئُ. ونظيرُ هذا من مسائل العبادات البدنية الصلاةُ، فإن المأمومَ يجب عليه متابعةُ الإمام فيما يَسُوغُ فيه الاجتهادُ وإن كان المأموم لا يراه، كما لو قنَتَ الإمامُ في الفجر، أو زاد في تكبير الجنازة إلى سبع. لكن لو أخلَّ في الصلاة بركن أو شرط في مذهب المأموم دون مذهبه فهذهِ فيها الخلاف. وهو يُشبه إجزاءَ إخراجِ الزكاة من بعض الوجوه، لكن إن كان الإمامُ لا يطلبُ منه الزكاةَ وإنما هو بَذلَها له،

- يجزئ دفع الزكاة إلى الإمام الذي يجور في قسمها

فقبضها الإمام (1) باجتهاده، فهذا نظيرُ صلاتِه خلفَه؛ وإن كان الإمام يطلب منه الزكاة بحيث يجب طاعتُه، فهذا نظيرُ أن يُصلي خلفَه ما لا يُمكِنُه فِعلُه خلفَ غيرِه، كالجمعة والعيدين ونحوهما. ولهذا إذا قلنا: لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفَ الفاسق، فإنه يجب فعلُ هذه الصلوات خلفَه، وفي الإعادة روايتان. فالأمرُ بفعل الصلاةِ خلفَه وبالإعادةِ يُشبِه الأمرَ بإيتاء الزكاة وبالإعادة. ومع هذا فمذهب أهل السنة المأثور عن الصحابة أنه يُجزِئ دفعُ الزكاة إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها، فإجزاؤها مع أخذِها بالاجتهاد أولى، وإن كان ربُّ المال لا يُجزِئُه صَرفُها في غيرِ المصارف، لكن المأثور عن الصحابة الأمرُ بدفعِ الزكاة إليهم وبالصلاةِ خلفَهم. والمفسدةُ في الزكاةِ أشدُّ، فإذا ساغ ذلك فهذا أسوغُ. والسلف لم يأمروا مَن صلَّى خلفَهم بإعادة، ولا مَن دفعَ الزكاةَ إليهم بإعادة، ولهذا قال أحمد في رسالته في "السنة" (2): إن من أعاد الجمعة فهو مبتدع. لكن المسألتان واحدة، فالمتفق عليه حجة على المختلَف فيه، وتخرج في صورة الوفاقِ ما في صورة النزاع، فإن طائفة من السلف ذهبوا إلى أنه لا يدفع إليهم الزكاة، كعبيد بن عمير وغيره، وكان عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين رضي الله عنه، الذي انتشرت الرعيةُ في زمنه، وكثرت الأموالُ، وعدلَ فيها صادقًا بارًّا راشدًا تابعًا للحق، فوضعَ الخراجَ على ما فتحَه عَنْوةً،

_ (1) في الأصل: "فقبضها الاجتهاده". (2) ضمن "طبقات الحنابلة" (1/ 244).

- لولاة الأمور في هذه الأموال عادات واصطلاحات: بعضها مشروع، وبعضها مجتهد فيه، وبعضها محرم

كأرضِ السوادِ ونحوِها، ووَضع ديوانَ العطاء للمقاتِلة وللذُّزيَّة، وكان عثمان بن حُنَيف على الخراج، وزيد بن ثابت -فيما أظن- على ديوان العطاء. وما زالت هذه التسميةُ معروفةً: "ديوان الخراج" وهو المستخرَج من الأموالِ السلطانية؛ و"ديوان العطاء" كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك. ولِوُلاَةِ الأمور من الملوك ودُوَلِهم في ذلك عاداتٌ واصطلاحات، بعضها مشروع، وبعضُها مجتهَد فيه، وبعضُها محرَّم، كما للقضاة والعلماء والمشايخ، منهم من هو من أهل العلم والعدلِ كأهل السنة، فيتبعون النصَّ تارة والاجتهادَ أُخرى؛ ومنهم أهل جهلٍ وظلمٍ كأهل البدع المشهورة من ذوي المقالات والعبادات، وذوي الجهل والجور من القضاة والولاة. وكانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في غاية الاستقامة والسَّداد، بحيث لم يُمكِن الخوارجَ أن يَطعنوا فيهما فضلاً عن أهل السنة. وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وسيرتهما سيرة العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر، لكن فيهما نوع مجتهَد فيه، والمجتهِد فيما اجتهد فيه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤُه مغفور له، فاجتهاد الخلفاءِ أعظمُ وأعظمُ. وأما عثمان فحصلَ منه اجتهاد في بعضِ قَسْمِ المال والتخصيصِ به، وفي بعض العقوبات هو فيها رضي الله عنه مجتهد، والعلماءُ منهم من يَرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وعلي رضي الله عنه حصل

- سيرة من بعد الخلفاء الراشدين فيها

منه اجتهادٌ في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وبكل حالٍ فإمامتُهما ثابتة، ومنزلتُهما من الأمة منزلتُهما، لكن أهل البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آراءهم وأهواءَهم حاكمةً على كتاب الله وسنة رسوله وسيرةِ الخلفاءِ الراشدين، فاستحلُّوا بذلك الفتنةَ وسفكَ الدِّماءِ وغيرَ ذلك من المنكرات. وأما مَن بعد الخلفاء الراشدين فلهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق (1) متنوعة: منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين. ومنها ما هو اجتهاد يَسُوغُ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذارٍ، ويباحُ المحظورُ بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك. ومنها ما هو اجتهاد، لكن صدوره لعدوانٍ من المجتهد وتقصيرٍ منه، شابَ الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة. وهذا النوع كثير جدًّا. ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بتركِ واجب أو فعلِ محرَّمٍ. وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من الحكم والقَسْم والعقوبات وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء أو لا يوافق، والذي لا يوافق إما أن يكون معذورًا فيه كعذر العلماء المجتهدين

_ (1) في الأصل: "طريق".

- حالة هذه الأموال في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية

أو لا يكون كذلك، والذي لا يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًّا إما أن يكون فيه شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان أو لا يكون فيه شبهةٌ ولا تأويلٌ. ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تُؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل، وإن كان التغيير قد وقع في أنواعِها وصفاتِها ومصارفِها، نعم كان السواد مخارجة عليه الخراج العُمَرِيّ، فلما كان في دولة المنصور -فيما أظن- نقله إلى المقاسمة، وجعل المقاسمة تعدل المخارجة كما فعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر. وهذا من الاجتهادات السائغة. وأما استئثارُ وُلاةِ الأمور بالأموالِ والمحاباةُ بها فهذا قديم، بل قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار: "إنكم ستَلْقُون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تَلقَوني على الحوض" (1). وقد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحالِ الأمراء بعدَه في غيرِ حديثٍ، وكان الخلفاءُ هم المُطَاعِين في أمرِ الحرب والقتال وأمر الخراج والأموال، ولهم عُمَّالٌ ونُوَّاب على الحروب، وعُمَّال ونُوَّاب على الأموال، ويُسمُّون هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج. ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد المئة الثالثة، فإنه ضَعُفَ أمرُ خلافةِ بني العباس وأمرُ وزرائهم بأسبابٍ جَرتْ، وضُيِّعَتْ بعضُ الأموال، وعَصَى عليهم قوم من النوّاب

_ (1) أخرجه البخاري (3793) عن أنس، ومسلم (1845) عن أنس عن أسيد بن حضير.

- ظهور دولة بني بويه والسلاجقة

بتفريطٍ جرى في الرجال والأموال. فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قُرَّة فيما علمتُه من "التاريخ" (1) أنه في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة فوَّض الراضي الخليفةُ الإمارةَ ورئاسةَ الجيش وأعمالَ الخراج وتدبيرَ سائرِ المملكة إلى مُقدَّم اسمُه محمد بن رائق، وجعلَه أمير الأمراء، وأمرَ بأن يُخطَب له على سائر منابر المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك. قال: وبَطَلَ قبل ذلك أمرُ الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ولا الدواوين، ولا كان له اسم غيرُ اسمِ الوزارة فقط، وأن يحضرَ في أيام المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقةٍ، ويقفَ ساكنًا. وصار ابنُ رائق وكاتبُه ينظرانِ فيما كان الوزراءُ ينظرون فيه، وكذلك كلُّ من تقلَّد الإمارةَ بعد ابن رائق، وصارت أموالُ النواحي تُحمل إلى خزائن الأمراء، فيأمرون فيها ويُنفِقون منها، ويُطلِقون لنفقاتِ السلطان ما يريدون، وبطلت بيوتُ الأموال. ثم إنه بعد ذلك حدثَتْ دولةُ بني بُويه الأعاجم، وغَلبوا على الخلافة، وازداد الأمرُ عما كان عليه، وبَقُوا قريبًا من مئةِ عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ثلاثين سنة أو نحوها حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضًا. وكان أحيانا تقوى دولةُ بني العباس بحسن تدبير وزرائهم -كما جرى في وزارة ابن هبيرة- بما يفعلونه من العدل واتباع الشريعة،

_ (1) لم يصل إلينا. وانظر "البداية والنهاية" (15/ 95، 96).

- سيرة الملوك في وضع الوظائف

وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السّكة والخطبة وطاعةً يسيرة تُشبه قبول الشفاعة. فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال وإَنفاقها فكانوا خارجين فيه عن أمر الخلفاء. وكانت سيرة الملوك تختلف، فمنهم العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة، المقيم للجهاد وللعدل، كنور الدين محمود بن زنكي بالشام والجزيرة ومصر؛ ومنهم الملك المسلم المعظِّم لأمرِ الله ورسوله، كصلاح الدين؛ ومنهم غير ذلك أقسام يطول شرحُها. وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يُسرِف فيها وضعًا وجبايةً؛ ومنهم من يَستَنُّ بما فُعِل قبله، ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبلَه على القسم الرابع؛ ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادًا ملكيًّا يُشبه القسم الثالث؛ ومنهم من يقصد اتباعَ الشريعة وإسقاطَ ما يخالفُهَا، كما فعلَ نور الدين لما أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمةً جدًّا، وزاد الله البركات، وفَتحَ البلادَ وقَمعَ العدوَّ بسبب عدلِه وإحسانِه. ثمَّ هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنةِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنةِ خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أهل العلم المصنِّفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى [ذكر ابن حزم] (1) إجماعَ المسلمين على ذلك، فقال (2). ومع هذا

_ (1) الزيادة من النسخة البغدادية. (2) كذا في الأصل، ولم ينقل المؤلف النص. وانظر "مراتب الإجماع" (ص 121).

- رأي الجويني في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد

فبعض من وضعَ بعضَها وَضَعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووُزَرائِه، فإنه [لمّا] قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية، وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد، بعد أن كان أمراءُ مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه عن بغداد، وأظهروا شعارَ البدع في بلاد الإسلام، وهي التي تُسمَّى فتنة البساسيري في نصف المئة الخامسة= حدثت أمورٌ: منها: بناء المدارس والخوانق ووقفُ الوقوف عليها، وهي المدارس النظاميات بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ وغير ذلك. ومنها: ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف. وصنّف أبو المعالي الجويني كتابًا للنظام سماه "غياث الأمَم في التياث الظلم"، وذكر فيه (1) قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصولُ الجهاد إلاّ بأموالٍ تُقَام بها الجيوش، إذْ أكثر النّاسِ لو تُرِكُوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن تُرِكَ جمع الأموالِ وتحصيلُها حتى يحدث فتق عظيم من عدوّ أو خارجي كان تفريطًا وتضييعًا. فالرأي أن تُجمعَ الأموالُ ويُرصَدَ للحاجة. وطريق ذلك أن توظَّف وظائفُ راتبةٌ لا يَحصُل بها ضررٌ، ويَحصُل

_ (1) ص 283 وما بعدها.

بها المصلحة المطلوبةُ من إقامة الجهاد. والوظائف الراتبة لابدّ أن تكون على الأمور العادية، فتارةً وظَّفوها على المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقدارًا، إما على مقدار المبيع وإمّا على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العَقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارةً يُشبه الزكاة المشروعة من كونه يُوجَد في العام على مقدار؛ وتارةً يُشبِه الخراج الشرعي؛ وتارةً يُشبِه ما يُؤخَذ من تجار أهل الذمة والحرب. ومنهم من يَعتدي، فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصلُه محرَّم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضعٍ على أجور المغاني من الرجال والنساء، فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالاً في نفسِها، وإنما المحرَّم الظلم فيها، كغالب الأثمان والأجور، وتارةً تكون في نفسها حرامًا، كأثمان الخمور ومُهُور البغايا. وكان بعد موت الملك العادل بالشام قد وضعه ابنه ذلك على دار الخمر (1) والفواحش، فبَقِيَ غيرَ ممنوعٍ من جهة السلطان، لما له عليه من الوظيفة، وكان ذلك سنة خمس عشرة [وست مئة]. وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان بأرض المشرق، واستولى على أرض الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون، وظهرت بدع في العلماء والعُبَّاد، كبحوث ابن الخطيب (2)

_ (1) في الأصل: "ودار الخمر". (2) أي كتب الرازي الكلامية والفلسفية.

- جمع هذه الأموال وصرفها من مسائل الفتن، مشتملة على الطاعات والمعاصي وأمور مجتهد فيها

وجست العميدي (1) وتصوّف ابن العربي وخِرقة اليونسية وبعض الأحمدية والعَدَوية وغير ذلك. وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع، فإن هذا إذا صدر باجتهاد فهو في الأصلِ مشوب بهوىً ومقرون بتقصيرٍ أو عدوان، وإن التقصير أو العدوان صادر أيضًا من أكثر الرعية، فإن كثيرًا منهم أو أكثرهم لو تُرِكوا لما أدَّوا الواجبات التي عليهم، من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادرٌ من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقبضونه من الأموال بغير حق، ويَصرِفونه في غير مَصرِفه، ويتركون أيضًا ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فجمعُ هذه الأموال وصرفُها هي من مسائلِ الفتن، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراءٍ وأهواءٍ، وهي مشتملة على طاعاتٍ ومعاصِي وحسناتٍ وسيئاتٍ، وأمور مجتَهد فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا، نظير الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام، وأنواع الزهادات والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في الأصول والفروع والعبادات والأحوال، فإنها أيضًا مشتملةٌ على حسناتٍ وسيئاتٍ، طاعاتٍ ومعاصي، وأمورٍ مجتهدٍ فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا.

_ (1) أي طريقة العميدي في الجدل والخلاف، وهي طريقة ابتكرها وقلَّده فيها المتأخرون.

- ما شهد الدليل الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحته عمل به

فالواجب أن ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به، ثم يُعامَل الرجال والأموالُ بما تُوجِبُه الشريعةُ، فيُعفَى عما عَفَتْ عنه، وإن تضمن تركَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ، ويثنَى على ما أثنت عليه، وإن كان فيه سيئات ومفاسد مرجوحة. وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمالِ والأموالِ داخلة في الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام، حديث النعمان بن بشير المشهور في الصحاح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الحلال بَيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يَعلمهنَّ كثير من الناس، فمن تَرك الشُّبُهاتِ استبرأ لدينه وعِرضِه، ومن وقع في الشبهاتِ وَقَعَ في الحرام، كالراعي يَرعَى حولَ الحِمَى يُوشك أن يَقَع فيه، ألا وإن لكلِّ مَلِكٍ حِمىً، وإن حِمَى الله محارمُه. أَلا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صَلحَتْ صَلَحَ لها سائر الجَسَد، وإذا فَسَدتْ فَسَدَ لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". فإنه ضمن هذا الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح، كما أمر به في قوله: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (2)، إذ أمر به المرسلين والمؤمنين، كما في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح مسلم (3). وذكر فعل المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام، كما قال: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (4).

_ (1) البخاري (52 ومواضع أخرى) ومسلم (1599). (2) سورة المؤمنون: 51. (3) برقم (1015). (4) سورة الأعراف: 157.

وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فدلَّ ذلك على أن من الناس من يعلمها، فمن تبيَّنت له الشبهاتُ لم يبقَ في حقِّه شبهةٌ، ومن لم تتبيَّنْ له فهي في حقِّه شبهةٌ، إذ التبيُّن والاشتباه من الأمور النسبية، فقد يكون الشيء متبينًا لشخصٍ مشتبهًا على الآخر. وبيَّن أن الحَزْمَ تركُ الشبهات، والشبهات قد تكون في المأمور به، وقد تكون في المنهي، فالحزْمُ في ذلك الفعلُ وفي هذا التركُ، فإذا شكَّ في الأمر هل هو واجبٌ أو محرَّمٌ فهنا هو المشكلُ جدًّا، كما في الاعتقادات، فلا يحكم بوجوبه إلاّ بدليل ولا بتحريمه إلا بدليل، فقد لا يكون لا واجبًا ولا محرَّمًا وإن كان اعتقادًا، إذْ ليس كلُّ اعتقادٍ مطلقٍ أوجبَه الله على الخلق، بل الاعتقاد إمّا صواب وإمّا خطأ، وليس كلُّ خطأٍ حرَّمَه الله، بل قد عفا الله عن أشياءَ لم يُوجِبْها ولم يُحرِّمْها. والله أعلم. (تم بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، في خامس عشر من شعبان المكرم سنة أربع عشرة وثمان مئة، بمدرسة أبي عمر قدَّس الله تعالى روحه ونوَّر ضريحه).

§1/1