جامع المسائل لابن تيمية ط عالم الفوائد - المجموعة الثانية

ابن تيمية

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذه مجموعة ثانية من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية تحتوي على ثلاثةٍ من أهم آثاره، وهي: 1 - فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد. 2 - قاعدة في الاستحسان. 3 - قاعدة في شمول النصوص للأحكام. وقد وصلت إلينا الرسالتان الأولى والثانية بخط الشيخ، أما الثالثة فتوجد منها عدة نسخ كاملة وناقصة، وسيأتي وصفها جميعًا في مواضعها من مقدمات هذه الرسائل. ونظرًا إلى أهمية الموضوعات التي تناولتها هذه الرسائل عُنِيتُ بها عنايةً خاصّةً، فقمتُ بضبطها ومقابلتها على الأصول عدّة مرات، والتعليق عليها بما يفيد في التوثيق والتخريج، والربط بين كلام المؤلف هنا وبين ما هو مبثوث في مواضع أخرى من كتبه وفتاواه، والتنبيه على بعض الأخطاء والتحريفات التي وقعت في نسخِ الرسالة الثالثة والتي شوّهت معالمها، والإشارة إلى ما في أصلي المؤلف للرسالتين من العبارات التي قد تُشكِل أو تُستَغْرَب، ومحاولة توجيهها.

وقد قدَّمتُ لكل رسالة بمقدمة مستقلة، قصت فيها بتوثيق نسبتها إلى المؤلف، ووصف النسخ الخطية، ودراسة الموضوعات التي تناولتها، وبيان منهج المؤلف فيها. وتوسعت في الحديث عن بعض القضايا وبيان موقف شيخ الإسلام منها، والردّ على بعض الشبه التي أثيرت قديمًا وحديثاً. وقد طبعت "قاعدة في الاستحسان" من قبل بصورة مفردة، ثم رأيتُ أن تُنشر ضمن هذه المجموعة. وأرجو أنني قد وُفِّقت في تقديم هذه الرسائل التي تضيف الجديد المفيد إلى عالم المطبوعات، والطريف المثير إلى عالم الفكر. وأدعو الله أن يجعلها نافعة للعلماء والطلاب وعامة الناس، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمد عزير شمس

فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد

فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد

مقدمة التحقيق

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا أثر من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية بخطه، ينشر لأول مرة بعد سبعة قرون من كتابته، يتناول فكرة القطب والأبدال والأوتاد، التي شاعت لدى الصوفية وعامة الناس منذ القرن الرابع تحت تأثير بعض الثقافات الوافدة إلى المجتمع الإسلامي، واستنادًا إلى بعض الأحاديث الباطلة الموضوعة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى جاء كبير الصوفية وفيلسوفهم في عصره ابن عربي المتوفى سنة 638، فوضع نظامًا للأولياء ورجال الغيب، وجعلهم في مراتب ودرجات، وحدَّد لكل مرتبةٍ عددًا معينًا منهم، وخصَّهم ببعض العلوم والصفات والوظائف. وتبعه من جاء بعده من الصوفية، بل زادوا عليه أشياء من خيالاتهم وأوهامهم، فتحدثوا عن مملكة وهمية يجتمع فيها رجال الغيب ويصدرون قراراتهم، ويقررون كل ما يجري في العالم!! لقد كان لهذه الفكرة آثار سيئة في المجتمع الإسلامي، حيث تعلق كثير من الناس بالغوث والقطب والأبدال والأوتاد، وظنّوا أن الشدّة إذا نزلت بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة، وادعى

بعضهم أن مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان يكون من جهته، وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق، وأنه يعطي الملك وولاية الله لمن يشاء ويَصرِفهما عمن يشاء، إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة التي تجعل للقطب والغوث نوعًا من الألوهية والربوبية، وهي من أعظم الكذب والمحال والشرك والضلال والإلحاد. ومن الغريب أن كثيرًا من العلماء المتأخرين تأثروا بمقولات الصوفية في هذا الباب، ووافقوهم في الغالب، ونقلوا هذه الخرافات إلى مؤلفاتهم في التفسير والحديث والعقيدة والسيرة والأخلاق والفتاوى والأدب واللغة والتاريخ والتراجم بدون النكير عليها، بل ألّف بعضهم رسائل مستقلة لتأييدها. ونظراً لخطورة هذه الفكرة وما في شيوعها وانتشارها من ضرر على العامة والخاصة في عقيدتهم، قام بعض العلماء لمناقشتها والردّ عليها، وبيان ما فيها من مخالفة للعقل والشرع، ونقد الأحاديث التي يحتج بها الصوفية. وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية أقواهم كلامًا في الباب، وأوسعهم ردًّا على هذه الفكرة، وقد كتب كتاباتٍ عديدة في هذا الموضوع يأتي بيانها (ص 39 - 49)، أطولُها هذه الفتوى التي أنشرها اليوم. وأقدم لهذه الفتوى ببعض الفصول التي تعتبر شرحًا لهذه الفكرة عند الصوفية، وبيانًا لمصدرها، وأثرها في المجتمع الإسلامي، ودرجة الأحاديث التي يستندون إليها، واستعراضًا لمن نقد هذه الفكرة، وإبرازاً لموقف شيخ الإسلام منها في ضوء كتاباته،

أ- فكرة القطب والأبدال عند الصوفية

وتحليلاً لمحتويات هذه الفتوى، ووصفًا لنسختها الخطية. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. • فكرة القطب والأبدال عند الصوفية لم تكن فكرة القطب والأبدال (كما ذكرها الصوفية) موجودة في القرون الثلاثة الأولى، فلا أساس لها في الكتاب والسنة، ولم يذكرها السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يعتقدوها كما تعتقد الصوفية. وبعد استعراض مجموعة من المصادر توصلتُ إلى أن أقدم مَن يُنقل عنه عدد الأولياء ورجال الغيب وذكر مساكنهم هو أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتّاني (ت 322) أحد مشايخ الصوفية، فقد قال -كما نُقِل عنه-: "النقباء ثلاث مائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعُمدُ أربعة، والغوث واحد. فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعُمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة. فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العُمدُ، ثمّ أجيبوا، وإلاّ ابتهل الغوث، فَلاَ يُتِمُّ مسألته حتى تُجاب دعوته" (1).

_ (1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 75 - 76) بإسناده إليه. وفيه علي بن عبد الله بن جهضم، متهم بالكذب، كما في (الميزان) (3/ 143) و (اللسان) (4/ 238). ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 300) من طريق الخطيب، وكذا نقلت عنه المصادر المتأخرة، مثل "المقاصد الحسنة" ص 10 و"الخبر الدال" (2/ 255) وغيرهما.

أما أبو طالب المكي (ت 386) فيعبّر عنها بقوله: "القطب اليوم الذي هو إمام الأثافي الثلاثة والأوتاد السبعة والأبدال الأربعين والسبعين إلى ثلاث مائة كلهم في ميزانه وإيمان جميعهم كإيمانه، إنما هو بدلٌ من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والأثافي الثلاثة بعده إنما هم أبدال الثلاثة الخلفاء بعده، والسبعة هم أبدال السبعة إلى العشرة، ثم الأبدال الثلاث مائة وثلاثة عشر إنما هم أبدال البدريين من الأنصار والمهاجرين" (1). نلاحظ هنا أن أبا طالب ذكر "الأثافي الثلاثة" مكان "العمد الأربعة"، و"الأوتاد" مكان "الأخيار"، والأربعين والسبعين وثلاث مائة جعلهم كلهم "أبدالاً"، ولم يقسمهم إلى "بدلاء" و"نجباء" و"نقباء". ويأتي الهجويرى (ت 465) بعدهما، فيقول: "أهل الحل والعقد وقادة حضرة الحق جلَّ جلاله، فثلاث مائة يُدْعَون الأخيار، وأربعون آخرون يُسَمَّون الأبدال، وسبعة آخرون يقال لهم الأبرار، وأربعة يسمون الأوتاد، وثلاثة آخرون يقال لهم النقباء، وواحد يسمى القطب والغوث. وهؤلاء جميعًا يعرفون أحدهم الآخر، ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض" (2). وذكر ابن عربي أن المجمع عليه من أهل الطريق أنهم على

_ (1) "قوت القلوب" (2/ 78). (2) "كشف المحجوب " (الترجمة العربية) ص 447، 448.

ستّ طبقات أمهات: أقطاب وأئمة وأوتاد وأبدال ونقباء ونجباء (1). وجعلهم لسان الدين ابن الخطيب سبع طبقات (2). وأوصلهم داود القيصري (3) وحسن العِدْوى الحمزاوي (4) إلى عشر. وهكذا نجد أن الصوفية في مختلف العصور زادوا ونقصوا في هذه الألقاب والمراتب، وأسهم كلّ واحد منهم في وضع هذا النظام وإقامة أسسه بما لديه من تصورات وخيالات، وبينهم خلاف كبير في تعداد الملقبين بلقب معين. • معاني هذه الألقاب نأتي الآن إلى معاني هذه الألقاب ووظائف أصحابها وصفاتهم عند الصوفية، وأول من تحدث عنها بتفصيل هو ابن عربي، وتبعه من جاء بعده من المؤلفين في التصوف والمصطلحات الصوفية، وقد جمع عبد الوهاب الشعراني في "اليواقيت والجواهر" (2/ 79 - 83) أقوال ابن عربي من "الفتوحات المكية"، وأقوال غيره من مصادر مختلفة في هذا الموضوع. وسنعرِض هنا باختصار بعض ما قالوه بالاعتماد على المصادر القديمة المعتمدة لديهم. (1) أما القطب فهو -عند الصوفية- عبارة عن الواحد الذي هو

_ (1) "الفتوحات المكية" (2/ 40). وفي موضع آخر منه (3/ 244) جعلهم ثماني طبقات، بزيادة "الرجبيين" و"الأفراد". (2) "روضة التعريف بالحب الشريف" (ص 432). وكذا جعلهم عمر الفوتي سبعاً في "الرماح" (1/ 21) مع اختلاف في الأسماء. (3) "شرح مقدمة التائية الكبرى" (ق 104 ب). (4) "النفحات الشاذلية" (2/ 99). وانظر "جامع الأصول في الأولياء" ص 4.

موضع نظر الله من العالم في كل زمان، ويقال له "الغوث " (1) باعتبار التجاء الملهوف إليه. أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس، لا من حيث إنسانيته (2). واسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية بحكم الخلافة، وهو مرآة الحق تعالى ومجلى النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية وصاحب الوقت وعين الزمان وصاحب علم سر القدر، وله علم دهر الدهور، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء (3). ولم يخل زمان من الأقطاب، وقد عدَّ ابن عربي خمسة وعشرين قطباً من عهد آدم عليه السلام إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسمَّاهم (4). والقطب عند الصوفية نوعان، أحدهما: هو المتمكن في

_ (1) "الفتوحات المكية" (3/ 244). وانظر "اصطلاحات الصوفية" لعبد الرزاق القاشاني ص 141 (ط. كلكتا 1854 م). (2) "التعريفات" للشريف الجرجاني ص 185 - 186 (ط. فلوجل). وانظر "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي ص 273، و"كشاف اصطلاحات الفنون " للتهانوي ص 1091، 1167. وفيه نصوص من مصادر فارسية أيضًا. (3) "اليواقيت والجواهر" (2/ 79). (4) "الفتوحات المكية" (2/ 362).

القطبية الصغرى أو الحسية، والآخر: هو المتمكن في القطبية الكبرى أو المعنوية، وهو المعبر عنه بباطن نبوة محمد أو الحقيقة المحمدية (1). يقول ابن عربي: القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل والأقطاب من حيث النشء الإنساني إلى يوم القيامة هو روح محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2). وهذه القطبية الثانية هي التي عرَّفها الجرجاني فقال: "القطبية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلاّ على باطن خاتم النبوة" (3). ولمزيد من الشرح ننقل هنا كلام التيجاني حيث قال: "أعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقًا في جميع الوجود جملة وتفصيلاً، حيثما كان الربّ إلهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثمّ قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل إلى الخلق شئ كائناً ما كان من الحق إلاّ بحكم القطب وتوليه ونيابته عن الحق في ذلك وتوصيله كل قسمة إلى محلّها، ثمّ قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود جملةً وتفصيلا، فترى الكون كلّه أشباحاً لا حركة لها، ْ وإنما هو الروح القائم فيها جملةً

_ (1) "كشف الوجوه الغر" (2/ 103). (2) "الفتوحات المكية" (2/ 363). (3) "التعريفات" ص 186.

وتفصيلا" (1). كل من يقرأ هذه التصريحات يقتنع بأن الصوفية يخرجون بالقطب عن نطاق البشرية، ويحلقون به في عالم الربوبية، وقد ذكروا له خمس عشرة علامة (2)، منها أنه يُكشَف له عن حقيقة الذات الإلهية، ويحيط علماً بصفات الله تعالى، وأن علم القطب لا حدود له، فلا يخفى عليه شيء من الدنيا والآخرة. ويحيط بمعرفة أحكام الشريعة ولو كان أميّاً (3)، وهو أكمل الخلق وأفضل جماعة المسلمين في كل عصر (4)، ولا حدود لمرتبته فهو محيط بجميع المراتب (5)، ويُبصِر بجميع أجزاء بدنه ما عدا العين (6)، ولا يطيق رؤيته إلاّ الخواص (7). واشترط بعضهم أن يكون قطب الأقطاب من أهل البيت (8)، وذكروا أنه يستقر بمكة، وقال آخرون: إنه يدور في الآفاق الأربعة من أركان الدنيا كدوران الفلك في أفق السماء، وهو بجسده حيث شاء من الأرض (9). ومن وظائفه: التصرف في الكون

_ (1) "جواهر المعاني (لعلي حرازم برادة (2/ 89 - 90). (2) "اليواقيت والجواهر" (2/ 78). (3) "جواهر المعاني" (2/ 85). (4) المصدر نفسه (2/ 266)، و"الطبقات الكبرى" للشعراني (2/ 139). (5) "جواهر المعاني" (2/ 106، 107). (6) "الإبريز" (ص 349). (7) "الطبقات الكبرى" (2/ 94). (8) "روح المعاني" (19/ 22، 20). (9) "نشر المحاسن الغالية" (أو "كفاية المعتقد") لليافعي ص 394، و"الفتاوى=

والتأثير في حوادثه والحكم الشامل التام في جميع المملكة الإلهية (1)، ووقاية المريدين من السؤال والحساب في الآخرة (2)، ولا يجري في عالم المخلوقات شئ إلاّ بإذنه حتى ولو كان جريانه في القلوب (3). نكتفي بهذا القدر في بيان القطب وصفاته ووظائفه عند الصوفية، وننتقل إلى المراتب والألقاب الأخرى. (2) الإمامان: هما اللذان أحدهما عن يمين القطب، ونظره في عالم الملكوت، وهو مرآة ما يتوجه من المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات التي هي مادة الوجود والبقاء؛ والآخر عن يساره، ونظره في الملك، وهو مرآة ما يتوجه منه إلى المحسوسات من المادة الحيوانية، وهو أعلى من صاحبه، وهو الذي يخلف القطب إذا مات (4). (3) الأوتاد: هم أربعة في كل وقت لا يزيدون ولا ينقصون، منازلهم على منازل الأربعة الأركان من العالم: شرق وغرب

_ =الحديثية" للهيتمي ص 322، و"الطبقات الكبرى" للشعراني (2/ 139) وغيرها. وراجع "منازل القطب" لابن عربي، ص 4. (1) "الفتوحات المكية" (3/ 257) و"جواهر المعانى" (2/ 88). (2) "الإبريز" (ص 338). (3) "جواهر المعاني" (2/ 89). (4) "الفتوحات المكية" (3/ 244) و"التعريفات " ص 36، و"التوقيف على مهمات التعاريف " ص 60 وغيرها.

وشمال وجنوب، مع كل واحدٍ منهم مقام تلك الجهة، يحفظ الله بهم العالم، لهم روحانية إلهية وروحانية إلِّية، يحوون على علومٍ جمة كثيرة. ومنهم من هو على قلب آدم، والآخر على قلب إبراهيم، والآخر على قلب عيسى، والآخر على قلب محمد (1). (4) الأبدال أو البُدَلاء: هم سبعة يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكلِّ بدلٍ إقليم، وإليهم تنظر روحانيات السماوات والأرض (2). وجعل بعض الصوفية السبعة الأبدال خارجين عن الأوتاد، ومنهم من قال: إن الأوتاد الأربعة من الأبدال، وقالوا: سُمُّوا أبدالاً لكونهم إذا مات واحدٌ منهم كان الآخر بدله، وقيل: سُمُّوا أبدالاً لأنهم أعطُوا من القوة أن يتركوا بدلهم حيث يريدون، لأمر يقوم في نفوسهم على علمٍ منهم، فيرتحلون إلى بلد، ويقيمون فيَّ مَكانهم الأول شبحاً آخر شبيهاً بشبحهم الأصلي بدلاً منه، بحيث إن كلّ من رآه لا يشك أنه هو (3). (5) النجباء: هم أربعون، مشغولون بحمل أثقال الخلق (وهي من حيث الجملة كل حادث لا تفيء القوة البشرية بحمله)، وذلك لاختصاصهم بوفور الشفقة والرحمة الفطرية، فلا يتصرفون إلاّ في

_ (1) "الفتوحات المكية" (2/ 400، 401)، و"التعريفات" ص 41، و"التوقيف" ص 66؛ و"كشاف اصطلاحات الفنون" ص 1453، 1454. (2) "الفتوحات المكية" (2/ 376) و"حلية الأبدال" ص 11. (3) انظر المصدر السابق (2/ 400)، و"التعريفات" ص 44، و"التوقيف" ص 36؛ "مشتهى الخارف الجاني" ص 510، وغيرها.

حق الغير، إذ لا مزيد لهم في ترقياتهم إلا من هذا الباب (1). وذكر بعضهم أنهم ثمانية في كل زمن لا يزيدون ولا ينقصون، عليهم أعلام القبول في أحوالهم، ويغلب عليهم الحال بغير اختيارهم، أهل علم الصفات الثمانية، ومقامهم الكرسي، لا يتعدونه ما داموا نجباء، ولهم القدم في علم تسيير الكواكب كشفاً واطلاعاً، لا من جهة طريقة علماء هذا الشأن (2). (6) النقباء: هم ثلاث مائة، وهم الذين تحققوا بالاسم الباطن، فأشرفوا على بواطن الناس، فاستخرجوا خفايا الضمائر، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر. وهم ثلاثة أقسام: نفوس علوية، وهي الحقائق الأمرية، ونفوس سفلية، وهي الخلقية، ونفوس وسطية، وهي الحقائق الإنسانية، وللحق تعالى في كل نفس منها أمانة منطوية على أسرار إلهية وكونية (3). عرضنا فيما سبق- باختصار- بعض ما عثرنا عليه من النصوص التي تبين تعداد رجال الغيب ومراتبهم وألقابهم وصفاتهم ووظائفهم. وكل من يطلع عليها يستغرب وجودها في المصادر، ولكن هذا هو الأمر الواقع عند الصوفية، وهذه معتقداتهم التي أعلنوا عنها في

_ (1) انظر: "الفتوحات المكية" (3/ 244)، و"التعريفات" ص 259، و"اصطلاحات الشيخ محي الدين ابن عربي" ص 286. (2) "التوقيف " ص 322. (3) "التعريفات" ص 266، "اصطلاحات الصوفية" للقاشاني ص 96، "التوقيف" ص 329.

ب- أحاديث الأبدال

مؤلفاتهم بشان الأولياء ورجال الغيب. • أحاديث الأبدال احتج الصوفية ومن تابعهم لهذه الفكرة بالأحاديث التي ورد فيها ذكر الأبدال، ويلاحظ أنه لم يَرِد ذكر هذا اللفظ في شيء من الأحاديث في الكتب الستة إلاّ في حديث واحد عند أبي داود (4286)، وهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة (1). أما الأحاديث الأخرى التي اشتملت على لفظ "الأبدال" خارج الكتب الستة فقد أخرجها بعض المحدثين، مثل: عبد الرزاق في "المصنف" (11/ 249 - 250)، وأحمد في "المسند" (1/ 112، 5/ 322)، وابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" (بأرقام 8، 57 - 59)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول " (ص 69 - 71)، والطبراني في "المعجم الكبير" و"الأوسط" (كما في "مجمع الزوائد" 10/ 63)، وابن عدي في "الكامل" (في مواضع متفرقة)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 8 - 9) و"أخبار أصبهان" (1/ 180)، وأبو محمد الخلاّل في "كرامات الأولياء"، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/ 439)، والديلمي في "الفردوس" (1/ 154)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (1/ 289 - 304، 334 - 341) وغيرهم.

_ (1) استقصى طرق هذا الحديث وبيان ما فيها من الاضطراب وأن أكثرها منقطعة- أخونا الفاضل الدكتور عبد العليم البستوي في "الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة" ص 324 - 335. وانظر "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (1965).

وقد أفردها السخاوى وبيَّن عللها في جزء سماه "نظم اللآل في الكلام على الأبدال" (1)، وجمعها السيوطي في "الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال" (2)، ولكنه سردها دون نقدها وبيان ما فيها من العلل. وكان الدافع له على تأليفه إنكار بعضهم ما اشتهر عن الصوفية من أن منهم أبدالاً ونقباء ونجباء وأوتاداً وأقطاباً، فحاول إثبات ذلك بجمع الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب. ولم يفلح السيوطي في إثبات المدَّعى، فلم يصحّ من هذه الأحاديث شيء عند المحدثين النقاد، وعلى فرض ثبوت بعضها عند المتساهلين في التصحيح فليس فيها ما يفيد وجود رجال الغيب ومراتبهم وصفاتهم ووظائفهم واجتماعاتهم وقراراتهم حسب ما يتصورها الصوفية. وقد أورد السيوطي هذه الأحاديث أو بعضها في مؤلفاته الأخرى، مثل: "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 330 - 332) و"التعقبات على الموضوعات" (ص 471) و"الدر المنثور" (1/ 765 - 767) و"الجامع الصغير" (3/ 167 - 170 بشرح المناوي)، وادعى صحتها وتواترها. وقلَّده في إيرادها وتصحيحها من جاء بعده من المؤلفين (3)، والواقع أنه لا يبقى منها

_ (1) كما ذكر ذلك في "المقاصد الحسنة" ص 10. ولا أعرف وجود هذا الجزء في المكتبات. (2) ضمن "الحاوي للفتاوي" (2/ 241 - 255). (3) مثل القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/ 430 - 431)، وابن عراق في=

شئ يصلح للاحتجاج بعد نقدها على منهج المحدثين، فبعضها أوهى من بعض، ومنها ما هو موضوع، ومنها ما هو شديد الضعف ومنكر، ولذا ضعَّفها القاضي أبو بكر ابن العربي في "سراج المريدين" (1)، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع وذكرها في "الموضوعات" (3/ 150 - 152)، وقال ابن الصلاح في "فتاواه" (ص 53): "لا يثبت". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (2) أن هذه الأسماء الدائرة على ألسنة الصوفية ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلاّ لفظ "الأبدال" فقد روى فيه حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً.

_ ="تنزيه الشريعة المرفوعة" (2/ 356 - 307)، وابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص 323 - 324)، وعلي المتقي البرهانفوري في "كنز العمال" (14/ 53 - 55) و"منتخب كنز العمال" (5/ 331 - 334 بهامش "مسند أحمد")، والفتني في "تذكرة الموضوعات" (ص 193 - 194)، والقاري في "المعدن العدنىِ في فضل أويس القرني" (ص 65 - 74)، والمناوي في "فيض القدير" (3/ 167 - 170)، والزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (5/ 396 - 400)، والعجلوني في "كشف الخفاء" (1/ 24 - 26)، ومرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" (8/ 385 - 387)، وابن عابدين في "إجابة الغوث" (2/ 269 - 272 من "مجموعة رسائله" والألوسي في "روح المعاني" (11/ 178) ومحمد صبغة الله المدراسي في "ذيل القول المسدد" ص 108 - 112 وغيرهم. وانظر "روض الرياحين" لليافعي ص 10. (1) كما ذكر ذلك صنع الله الحلبي في "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص 65. (2) سيأتي ذكرها فيما بعد.

وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 136): "أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلةٌ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام، فإنّ فيهم البدلاء، كلَّما مات رجلٌ منهم أبدلَ الله مكانَه رجلاً آخر". ذكره أحمد، ولا يصحُّ أيضًا، فإنّه منقطع". وذكر الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص 408 - 410) الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي، وحكم عليها بالوضع. وذكر في "ميزان الاعتدال" (3/ 105) حديث أنس منها، وقال: "هذا باطل". وأورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث في "تفسيره" (1/ 669 - 670) و"تاريخه" (9/ 213، 214) و"جامع المسانيد والسنن" (19/ 240 - 241، 7/ 134 - 137)، وقال في الموضع الأخير بشأن حديث عبادة بن الصامت: "فيه نكارة شديدة جدًّا". وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 8): "حديث الأبدال له طرق عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة". ثم ذكر بعض الأحاديث وقال (ص 9): "بعضها أشد في الضعف من بعض". وبعد أن أورد الأمير الصنعاني بعض هذه الأحاديث في "الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف " (ص 58 - 59) قال: "في صحتها عند أئمة الحديث مقال". وليس هنا مجال لنقد هذه الأحاديث واحدًا واحدًا، حتى نعرف صحة هذه الأحكام التي أصدرها النقاد، ويمكن مراجعة تعليقات العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي على "الفوائد المجموعة"

للشوكاني (ص 245 - 249)، وكلام الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (بأرقام 935 - 936، 1474 - 1479، 2498) ففيهما غنية لمن أراد الوصول إلى الحق والصواب. وفي مجلة "المنار" المجلد 11 (1908) ص 50 - 56 نقد لحديث ابن مسعود الذي يستند إليه الصوفية، بقلم السيد محمد رشيد رضا. وأودّ أن أقف هنا مع كلامٍ للمناوي في "فيض القدير" (3/ 170) يشتمل على القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية ورَمْيه بالتهور والمجازفة في الحكم على هذه الأحاديث، وبالعناد والتعصب لكونه لم يُقوّها بكثرة الطرق وتعدّد المخرجين. قال المناوي: "زعم ابن تيمية أنه لم يرد لفظ الأبدال في خبر صحيح ولا ضعيف إلاّ في خبر منقطع، فقد أبانت هذه الدعوى عن تهوره ومجازفته، وليته نفى الرواية، بل نفى الوجود، وكذب من ادعى الورود". لم ينقل المناوي كلام شيخ الإسلام بنصه، بل تصرَّف فيه، ونصُّه كما في "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/ 48) (1): "فهذه الأسماء [أي الغوث والأوتاد والأقطاب والأبدال والنجباء] ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلاّ لفظ الأبدال، فقد رُوِي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً".

_ (1) وعنها في "مجموع الفتاوى" (11/ 433، 434) بتحريف يسير. وقد نقله الألوسي في "روح المعاني" (6/ 95) على الصواب.

فانظر كيف حرَّف المناوي هذا الكلام، اختار لفظ "الأبدال" بدلاً من "هذه الأسماء" التي تُشير إلى الألفاظ الخمسة، وحذف لفظ "محتمل" بعد "ضعيف"، ليوهم أن شيخ الإسلام ينفي ورود هذه الألفاظ بإسناد ضعيف مهما كان ضعفه. والذي يتأمل كلام الشيخ يفهم منه بوضوح أنه ينكر ورود الألفاظ المذكورة بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل، ولا ينكر أن يَرِد شئ منها في حديث موضوع أو ضعيف غير محتمل. وكل ما ذكره السيوطي وغيره من هذا القبيل، فورود مثل هذا لا ينقض قول شيخ الإسلام، بل هو أدرى بمثل هذه الأحاديث الواهية من غيره. واستدراكه فيما بعد بقوله "إلاّ لفظ الأبدال، فقد رُوي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً"- لأنه أحسن ما ورد في الباب، وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 112)، فاستحق التنويه. ومع ذلك فهو منقطع الإسناد. قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 289): "هذا منقطع بين شريح [بن عبيد] وعلي، فإنه لم يلقَه". وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/ 171): "إسناده ضعيف لانقطاعه، شريح بن عُبَيد الحمصي لم يدرك عليّاً، بل لم يدرك إلاّ بعض متأخري الوفاة من الصحابة". أما قول الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 62): "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير شريح بن عبيد، وهو ثقة، وقد سمع من المقداد، وهو أقدم من علي"- فقد وهم فيه اغتراراً بما

ذكره المزي في ترجمة شريح، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر. فالصواب أنه لم يلق عليّاً، والحديث منقطع الإسناد كما قال شيخ الإسلام. وقد اكتفى بذكر هذا الحديث كنموذج، لأنه أحسن ما ورد في الباب، ومع ذلك فهو منقطع، أما الأحاديث الأخرى فنكارتها واضحة وبطلانها ظاهر، ولذا لم يُشِر إليها، مع أن حديث عبادة بن الصامت منها أخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (5/ 322) وقال عقب روايته: "هو منكر"، فلم يستحق التنويه مثل غيره من الأحاديث الواهية في المصادر الأخرى. بهذا التفصيل يظهر لنا جليّاً مقصود شيخ الإسلام من نفي ورود هذه الألفاظ "بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل"، والغرض من استدراك لفظ "الأبدال" والإشارة إلى وروده في حديث شامي منقطع. فنسبة المناوي إلى الشيخ أنه ينكر ورود لفظ "الأبدال" في خبر صحيح أو ضعيف إلاّ في خبر منقطع- غلط، ورميه بالتهور والمجازفة يدلّ على عدم فهمه للمقصود، فلم ينفِ الشيخ ورود لفظ "الأبدال" بإسناد ضعيف غير محتمل، ولم يُكذِّب من ادعى ذلك، وكلُّ ما ورد في هذا الباب لا يُبطل ما قاله. أما قول المناوي: "وهذه الأخبار وإن فرض ضعفُها جميعها، لكن لا يُنكِر تقويَ الحديثِ الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلاّ جاهل بالصناعة الحديثية أو معاند متعصب"- فهو خطأ وقع فيه كثير من العلماء المتأخرين حيث أطلقوا أن الحديث الضعيف إذا

ج- مصدر هذه الفكرة

جاء من طرقٍ متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفًا إلى ضعف، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرُهم يرفع الثقةَ بحديثهم، ويؤيد ضعفَ روايتهم (1). وعلى هذا فمن قوَّى أحاديث الأبدال التي انفرد بروايتها المتهمون بالكذب والمتروكون ونحوهم يكون على الجادة أم من يُنكِر تقويتها؟ • مصدر هذه الفكرة رأينا فيما سبق أن الأحاديث التي يستند إليها الصوفية كلها موضوعة وواهية، ثم إنها لا تساعدهم على صياغة فكرة "القطب" الذي يرأس رجالَ الغيب في نظرهم، فلا ذكر لهذا اللفظ في شيء من الأحاديث والآثار. ولذا يرى أكثر الباحثين أنها فكرة دخيلة استمدها الصوفية من غيرهم، واختلفوا في تحديد المصدر، فذكر بعضهم أن مفهوم "القطب" بوصفه المبدأ الفعال (أو الباطن) (2) لكل إلهام شبيهٌ بالعقل "النُّوسْ" في الأفلاطونية الحديثة، ويُشبه عقيدة الإسماعيلية القائلة بتجسيد العقل الأول (الإمام) في الناطق (3).

_ (1) انظر "الباعث الحثيث" لأحمد محمد شاكر (1/ 135). (2) كما عند القاشاني في "اصطلاحات الصوفية" ص 141 (3) انظر"دائرة المعارف الإسلامية"- بالإنجليزية- الطبعة الجديدة، مقال "القطب" (5/ 544)؛ و"ابن الفارض والحبّ الإلهي" لمحمد مصطفى حلمي ص 277

وهناك باحثون آخرون التفتوا إلى التشابه القائم بين مفهوم الشيعة عن "الإمام" بوصفه تجليًا للكلمة الإلهية ومفهوم "القطب" الأكبر عند الصوفية، والتقاء أحدهما بالآخر (1). كما لاحظ باحثون عديدون ذلك التوازي بين التدرج الرئاسي للقائمين على الدعوة الإسماعيلية والتدرج الرئاسي في التصوف برئاسة القطب، وقرروا أنه مستمد من الإسماعيلية (2). وقد صرّح بعض علماء الشيعة أن القطب والإمام مصطلحان معناهما واحد، وينطبقان على شخص واحدٍ (3). وأكد المستشرق هنري كوربان في عددٍ من بحوثه ودراساته أن فكرة القطب هذه انتقلت إلى التصوف من الشيعة، وأنها فارسية الأصل (4). ويرى أحمد أمين (5) أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالاً وثيقًا، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمَّته "قطبًا"، وكوَّنت مملكة من الأرواح على نمط مملكة

_ (1) انظر: "الصلة بين التصوف والتشيع" لكامل مصطفى الشيبي ص 463؛ وهنري كوربان في كتابه عن الإسلام الإيراني (1/ 92). (2) انظر: "الصلة بين التصوف والتشيع" ص 457 وما بعدها؛ وي. ماركوي في مجلة "أرابيكا" المجلد 15 (1968) ص 27؛ وص التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهى ظهير ص 235؛ و"الإسماعيلية: تاريخ وعقائد" له ص 594 - 612. (3) انظر"الفلسفة الشيعية" للآملي ص 223؛ و"الإسلام الشيعي" لمحمد حسين طباطبائي (الترجمة الإنجليزية) ص 114. (4) انظر: "الإسلام الإيراني" (1/ 186، 229، 3/ 279). (5) في "ضحى الإسلام" (3/ 245).

الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع. وقد سبق هؤلاء الباحثين بعضُ العلماء القدامى، فأدركوا التشابه بين القطب عند الصوفية وبين الإمام المنتظر عند الشيعة وبين الباب عند النصيرية، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما. وسيأتي ذكر موقفهما فيما بعد إن شاء الله. ومما يؤكد أن هذه الفكرة مأخوذة من الشيعة أن أحد علماء الشيعة حيدر ابن علي الآملي (ت بعد 782) قرَّر في كتابه " نص النصوص" (1) جميع ما عند الصوفية بشأن رجال الغيب وأولياء الله، وذكر أن "القطبية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يكون إلاّ لورثته، لاختصاصه عليه السلام بالأكملية، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلاّ على باطن ختم النبوة". بعد هذا العرض الموجز لآراء بعض الباحثين المحدَثين والعلماء القدامى نصل إلى أن فكرة "القطب" فكرة دخيلة عند الصوفية، انتقلت إليهم من الشيعة القائلين بالإمام المنتظر، ومن الإسماعيلية الذين جعلوا رجالهم في مراتب ودرجات. وقد كان الصوفية القدامى إلى منتصف القرن الرابع بعيدين عنها، ْ ثم تسربت إليهم وتحكّمت فيهم بعد اتصالهم بالشيعة ومخالطتهم لهم في بلاد العجم. وتطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى نظرية "الديوان الباطني"

_ (1) ق 91 - 96 (نسخة مكتبة مجلس الأمة بطهران)، وعنه في ملحق كتاب "ختم الأولياء" للحكيم الترمذي، ص 503 - 506.

د- أثرها في المجتمع الإسلامي

الذي يجتمع فيه رجال الغيب برئاسة القطب، ويديرون شئون العالم المرئي وغير المرئي (1). ولا تزال هذه النظرية عند الصوفية مسلّمة إلى يومنا هذا (2). • أثرها في المجتمع الإسلامي لقد كان لنظرية القطب والأبدال هذه آثار خطيرة في المجتمع الإسلامي من نواع عديدة، أهمها في مجال العقيدة، فقد قرر الصوفية أن للأولياء القدرة النافذة على التصرف المقيد والمطلق في شئون العالم العلوي والسفلي، فأربعة منهم يمسكون العالم من جوانبه الأربعة (هم الأوتاد)، وسبعة آخرون كل واحدٍ منهم مشرف على قارة من قارات الأرض السبع (هم الأبدال)، وفوقهم جميعًا وليٌّ واحد هو موضع نظر الله (يسمى القطب أو الغوث)، وهو الذي يدبر شأن الملك، ومن جهته يكون مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان، وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق. وإذا نزلت الشدَّة بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة.

_ (1) انظر (الإبريز من كلام عبد العزيز) للسجلماسي (1/ 2 وما بعدها). (2) انظر: "السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني" لمحمد المكي بن مصطفى بن عزوز ص 74؛ و"فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الإخوان" للحنصلي ص 176؛ و"فيض الوهاب" لعبد ربه بن سليمان القليوبي (5/ 57 وما بعدها)؛ ومحمد زكي إبراهيم في مجلة "المسلم" المجلد 15: 7 (يونيو 1965) ص 15، والمجلد 20/ 11 (أغسطس 1970) ص 11.

هذه الأمور وغيرها مما ذكرها الصوفية (والتي تحدثنا عنها فيما مضى مع ذكر النصوص من المصادر المعتمدة لديهم) لا يخفى ما في الاعتقاد بها من خطورة على عقيدة التوحيد، فهي محاولة خبيثة لتجريد الإله الحق سبحانه وتعالى من اختصاصاته التي لا يشاركه فيها مخْلوق، وجعلها مشاعًا بين الخالق والمخلوق على حدّ سواء، وهذا هو الشرك في الربوبية -والعياذ بالله-، وهو أقبح أنواع الشرك، فقد كان المشركون القدامى على علم بربوبية الله وخصوصيته في الخلق والرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة وغيرها من أمور الربوبية كما حكى عنهم القرآن. فالذي يعتقد ذلك في الأولياء هو أجهل من أولئك المشركين وأضلّ. وبهذا نعرف ما نتج عن فكرة القطب هذه من مخاطر جسيمة في باب العقيدة لدى عامة الناس، الذين تعلقوا بها واعتقدوها ونشأوا عليها في البيئات الصوفية، ولُقِّنوها منذ الصغر. ولا زلنا نرى في البلاد الإسلامية من ينادي "الغوث" للمدد، ويعتقد في الأولياء بما لا يجوز اعتقاده إلاّ في الله، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. وكان من آثارها السيئة على العلماء أن كثيرًا منهم نقلوا مقالات الصوفية في هذا الباب، وأدرجوها في مؤلفاتهم دون نقد أو تعقيب، وقد تسربت هذه الفكرة إلى كتب التفسير وشروح الحديث، والفقه والفتاوى، والسيرة والأخلاق، والتاريخ والتراجم، والأدب واللغة وغيرها، ويطول بنا القول لو ذَكَرنا جميع النصوص في المصادر التي رجعنا إليها، ولذا نقتصر على

الإشارة إلى بعضها تاركين التفصيل لموضع آخر. لقد كانت كتب التفسير إلى القرن السادس خالية من الإشارة إلى فكرة الأبدال، فلا نجد لها ذكرًا عند الطبري والبغوي وابن عطية وابن الجوزي وغيرهم في تفاسيرهم، حتى جاء القرطبي في القرن السابع فنقل في تفسيره (1) عن بعض العلماء في تفسير قول الله تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أن المدفوعَ بهم الفسادُ هم الأبدال! ثم ذكر بعض ما ورد من الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، وسكت عنها. وجاء بعده السيوطي، فسَرَد هذه الروايات في تفسيره (2) دون نقد وتمحيص، ففتح المجال لغيره من المفسرين أن يوردوها، ويفسروا بعض الآيات القرآنية بها، ويتكلموا على القطب والأبدال وغيرهما بأدنى مناسبة (3). ولم يكن قد اشتهر عند شرّاح الحديث والمشتغلين به إلى زمن الحافظ ابن حجر الكلام على القطب والأبدال ومراتب رجال الغيب كما هي عند الصوفية -وإن وُجد عند أبي جمرة في "بهجة النفوس" شيٌ من ذلك-؛ بل كانوا يقتَصرون على رواية الأحاديث الواردة في هذا الباب بأسانيدها ليبرءوا من عهدتها، أو نقدها وتضعيفها وبيان عللها. وجاء المتأخرون فسردوا هذه الروايات دون نقدها

_ (1) "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 259). (2) "الدر المنثور" (1/ 765 - 767) (3) انظر مثلاً "روح المعاني" للآلوسي (6/ 94 - 95، 11/ 178، 22/ 19 - 20).

وتمحيصها، وادعوا صحَّتها وتواترها، وتلقَّوها بالقبول، ثم تكلموا على شرحها وبيان معانيها بالاستناد إلى أقوال الصوفية، ويكفي أن نذكر هنا كمثال: المناوي (1) وملاّ علي القاري (2)، اللذين قرَّرا ما قاله الصوفية، ونقلا عنهم نصوصًا غريبة في أثناء شرح الحديث دون استنكار أو تعليق. أما كتب الفقه والفتاوى فنذكر منها نص فتوى الشيخ زكريا الأنصاري (الملقب بشيخ الإسلام لدى الشافعية)، لما سُئِل عن شخصٍ ادعى أن القطب ليس له وجود في زمن من الأزمنة، ولا ثَمَّ شيءٌ في الوجود يقال له القطب، هل هذه الدعوى صحيحة أو لا؟ فأجاب بأن القطب موجود في كل زمان، كلَّما مات قطبٌ أقام الله مقامه آخر، نفعنا الله ببركتهم. وهذا أمر مشهور، والمنكر لذلك محروم من بركة الأقطاب، معترف بأن منّة الله بلقائهم لم تواجهه. وليته إذا فاته الوصول إليها لا يفوته الإيمان بها (3). هذا نصّ كلامه الذي يُقرِّر فيه وجودَ القطب في كل زمان، وأن منكره محروم من بركته، وعليه أن لا يفوت الإيمان به إن لم يُقدَّر له الوصول إليه!! وذكر ابن حجر الهيتمي (4) أنه كان في مجلس الشيخ محمد

_ (1) "فيض القدير" (3/ 167 - 170). (2) "مرقاة المفاتيح" (5/ 181 - 183). (3) "العناية والاهتمام بجمع فتاوى شيخ الإسلام" ص 381. (4) "الفتاوى الحديثية" ص 325.

الجويني يوماً، فانجرَّ الكلام إلى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال وغيرهم، فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك بغلظة، وقال: هذا كله لا حقيقة له، وليس فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له الهيتمي: "معاذ الله! بل هذا صدقٌ وحق لا مريةَ فيه، لأنّ أولياء الله أخبروا به، وحاشاهم من الكذب، وممن نقل ذلك الإمام اليافعي، وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة"، فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه عليه. ثم ذهبا إلى الشيخ زكريا الأنصاري الذي عاتب الجويني عليه، فآمن الجويني بذلك وصدَّق به وأقرَّ بثبوته!! هذا نموذجٌ مما كان يجري بين الفقهاء في هذا الموضوع، فلا يَسَعُ المنكرَ إنكارُ ذلك، ويضطرّ إلى الإيمان به والتصديق به والإقرار بثبوته إذا أراد أن يعيش بينهم. وعلى هذا فلا نستغرب أن يُدخِلَ بعض المؤلفين هذا الموضوع في كتب العقيدة، كما فعل إبراهيم اللقاني في "عمدة المريد لجوهرة التوحيد"، ويتكلم عنه المؤلفون في السيرة النبوية ويعتبروا وجود الأقطاب والأبدال من خصائص الأمة المحمدية، كما فعل القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/ 430 - 431)، والحلبي في "السيرة الحلبية"، وابن التلمساني في "حواشي الشفا"، والزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (5/ 396 - 401) وغيرهم. بهذا العرض الموجز نستطيع أن نقدّر كم تكدَّرت ينابيع الثقافة الإسلامية بهذه الفكرة الخرافية التي لا أساس لها من الكتاب والسنة، ولم يقل بها أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

هـ- الذين نقدوا هذه الفكرة

• الذين نقدوا هذه الفكرة نظرًا لخطورتها على العقيدة وما في شيوعها من آثار سيئة على المجتمع، انتقدها بعض العلماء وذكروا أنها من مخترعات الصوفية وأباطيلهم. ومن أوائل من ردّ عليها وبيَّن ضلال القائلين بها القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي، فقد تكلم عليها في كتابه "سراج المريدين " الذي ألَّفه في التصوف (1). ومنهم من اقتصر على نقد الأحاديث الواردة في الأبدال، والحكم عليها بالوضع والبطلان، وقصد بذلك هدم الفكرة من أساسها، وبيان أنه لا مستند لها في الكتاب والسنة، وهذا ما فعله ابن الجوزي وغيره من العلماء الذين سبق ذكرهم فيما مضى عند الكلام على أحاديث الأبدال، فلا نعيده هنا. وسُئل ابن الصلاح: هل ورد عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "على كل قدم نبي من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ولى من أولياء الله تعالى"؟ وأن القطب على قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وأن في الأرض سبعة أوتاد وأبدال ونجباء ونقباء؟ كلما مات رجل أقام الله عز وجل

_ (1) أعارني أخي البحاثة المحقق محمد السليماني نسخة مصورة من هذا الكتاب، وبحثتُ فيها عن كلامه في هذا الموضوع، فلم أجده في مظانه. وقد أشار بعض المؤلفين إلى كلامه في الكتاب المذكور، انظر: "سيف الله على من كذب على أولياء الله" لصنع الله الحلبي ص 64 - 65؛ و"تيسير العزيز الحميد" ص 235؛ و"غاية الأماني في الرد على النبهاني" (2/ 68).

عوضه رجلاً، ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن وفي علم الظاهر إلى قيام الساعة. الأمر على مما ذكر أم لا؟ فأجاب: لا يثبت هذا الحديث، وأما الأبدال فأقوى ما رويناه فيهم قول علي رضي الله عنه إنه بالشام الأبدال، وأيضًا فإثباتهم كالمجمع عليه بين علماء المسلمين وصلحائهم. وأما الأوتاد والنجباء والنقباء فقد ذكرهم بعض مشايخ الطريقة، ولا يثبت ذلك. ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق إلى أن تقوم الساعة، وهم العلماء (1). وللعزّ بن عبد السلام رسالة في إبطال قول الناس أن قطب الأقطاب والأبدال لهم تصرف، بيَّن فيها بطلان قول الناس فيهم، وردَّ على من يقول بوجودهم، وأقام النكير على قولهم "بهم يحفظ الله الأرض" (2). وقد وصلت إلينا نسختان من هذه الرسالة: إحداهما في مكتبة الأوقاف ببغداد برقم [2/ 9683 مجاميع] في ثماني ورقات؛ والأخرى في معهد الاستشراق في ليننغراد في ست ورقات (3).

_ (1) "فتاوى ابن الصلاح " ص 53. ونقل بعضها ملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" ص 77 (وتحرف فيه "الأوتاد" إلى "الأدباء"!). (3) ذكرها حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/ 883)؛ ومرتضى الزبيدي في "تاج العروس" مادة بدل (7/ 223)؛ وإسماعيل باشا البغدادي في "هدية العارفين" (1/ 580). (3) كما في فهرس المعهد المذكور (1/ 140). وقد ذكر هاتين النسختين إياد خالد الطباع في مقدمة تحقيقه لكتاب "شجرة المعارف والأحوال" للعز بن=

جاء بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية فكتب كتابات عديدة في هذا الموضوع، وناقش الصوفية في القطب والأبدال والأوتاد وغيرها من الألفاظ، وبيَّن ما ورد منها على لسان السلف ومعانيها عندهم، وأبطل الأحاديث الواردة في هذا الباب، وفصَّل الكلام على مخالفة هذه النظرية للدين والعقل. وسنعرِض آراءَه في هذا الموضوع في الفصل القادم إن شاء الله. وممن تأثر بشيخِ الإسلام تلميذُه ابن القيم الذي حكم على أحاديث الأبدال والأوتاد بأنها باطلة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1). واختصر مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه (2) فتوى لشيخ الإسلام، وظنَّ أن السيوطي لم يطلع على كلام الشيخ، لأنه لم يتعرض لذكره، ولا لردّ ما احتجَّ به مما لا يمكن ردُّه. وأرى أن السيوطي وقف على كلام الشيخ، ولكن تجاهله لأنه لم يقدر على مناقشته، فأحبَّ السكوت عنه. وقد صَرَّح المناوي في شرح كتابه "الجامع الصغير" (3) أن المؤلف (السيوطي) خالف عادته هنا باستيعاب طرق حديث الأبدال إشارةً إلى بطلان قول ابن تيمية. وانتهج الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي (4) نهجَ شيخ الإسلام في

_ = عبد السلام، ص 25. (1) "المنار المنيف" ص 136. (2) "شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور" ص 400 - 406. (3) "فيض القدير" (3/ 170). (4) في "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص 64 - 65.

الرد على من يدعي أن للأولياء تصرُّفًا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة، وأن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتادًا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس. فقال: "هذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة". ثم أطال في مناقشته هذه الدعاوي، وقال في آخر البحث: إنها من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية. أما ابن خلدون (1) فيكشف عن صلة هذه النظرية بما عند الإسماعيلية والشيعة، فيقول: "كان سلفُهم (أي الصوفية) مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة، الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يُعرَف لأولهم، فأشرِبَ كلُّ واحدٍ من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القولُ بالقطب، ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثمّ يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب "الإشارات" في فصول التصوف منها، فقال: "جلّ جناب الحق أن يكون شِرعةً لكل وارد، أو يطلع عليه إلاّ واحدٌ بعد

_ (1) "مقدمة ابن خلدون" ص 473، وانظر "شفاء السائل لتهذيب المسائل" له.

وموقف شيخ الإسلام منها

الواحد"، وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء". هذه آراء بعض العلماء القدامى ونُتَف من انتقاداتهم، تؤكّد أن هذه النظرية أجنبية عن الفكر الإسلامي الأصيل، تسربت إلى الصوفية من غيرهم وتحكمت فيهم عبر القرون. • موقف شيخ الإسلام منها لم يناقش فكرة القطب والأبدال أحدٌ مثلما ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية، فله كتابات عديدة في هذا الباب، كتبها ردًّا على بعض الأسئلة التي وُجِّهت إليه، أو تناولها عرضًا في بعض كتبه. وأكثرها تفصيلاً واستيعابًا هذه الفتوى التي بين أيدينا والتي وصلت إلينا بخطه، وفتوى أخرى (مخطوطة) لم تنشَر بعد (1)، وفتوى ضمن السؤال عن أهل الصفة (2)، وفتوى ضمن السؤال عن زيارة القبور (3)، وتكلم عليها عرضًا في بعض

_ (1) ثم نشرتُها ضمن المجموعة الأولى من "جامع المسائل" التي تحتوي على خمس وعشرين رسالة وفتوى ومسألة للشيخ لم تُنشَر حتى الآن. (2) نُشرت أولاً في "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/ 46 - 51)، وعنها في "مجموع الفتاوى" (11/ 433 - 444). (3) نشرت مرارّا أولاها في المطبع الخليلي بآره (الهند)؛ ثم في "مجموعة=

مؤلفاته (1) وفتاواه (2). وفيما يلي استعراض لأهم الجوانب التي تناولها شيخ الإسلام بالبحث، ودراسة لموقفه منها، في ضوء هذه الفتوى والكتابات الأخرى التي سبق ذكرها. ذكر شيخ الإسلام دعوى الصوفية أن في الأرض ثلاث مائة وبضعة عشر هم "النجباء"، وسبعين هم "النقباء"، وأربعين هم "الأبدال "، وسبعة هم "الأقطاب" على عدد الأقاليم السبعة، وأربعة هم "الأوتاد" كالأوتاد التي يذكرها المنجّمون، وواحدًا هو "الغوث"، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة فزعوا إلى الثلاث مائة وبضعة عشر، وأولئك إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، وهكذا يرفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى "الغوث"، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. وأن "الغوث" يطلع على أسرار قلوب العباد، علمه ينطبق على علم الله. ويزعمون أنه على قدم كل نبيّ من الأنبياء وليَّان: وليّ ظاهر ووليٌّ

_ = الرسائل" (القاهرة 1323) ص 103 - 122؛ ثم في "مجموع الفتاوى" (27/ 96 - 105)، ولها طبعات أخرى غيرها. ونقلها- باختصار- مرعي بن يوسف الكرمي في "شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور" ص 400 - 406. انظر: "منهاج السنة النبوية" (1/ 91 - 96)؛ و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ضمناً "مجموع الفتاوى" (11/ 167 - 168)؛ و"درء تعارض العقل والنقل" (5/ 315). انظر: "مجموع الفتاوى" (27/ 57 - 58) = "مختصر الفتاوى المصرية" ص 599؛ و"مجموع الفتاوى" (11/ 294 و 364).

باطن. ويقولون: إن هؤلاء الأولياء يُستسقى بهم الغيث وتنزل الرحمة ويكشف العذاب، وإذا غضب الله على أحدٍ من أهل الأرض وأراد أن يُنزِل غضبَه نظر إلى قلوب هؤلاء، فإن وجدهم راضين بذلك أنزل عذابه، وإلاّ رفعَه. ويدَّعون أن مدد الخلائق في نصرهم ورزقهم يكون بواسطة الغوث، بل إن مدد الملائكة في السماء والطير في الهواء والحيتان في البحر أيضًا بواسطته، وهو يُعطي الملك والولاية لمن يشاء، ويَصرِف عمن يشاء. ثم بدأ يناقشهم، فذكر أن هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصل لها في الكتاب والسنة، ولا قول أحد من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين وشيوخهم. وهذه الأعداد والمراتب والصفات والأسماء ذكرها بعض المتأخرين من الصوفية، وقد زادوا فيها ونقصوا، ولهم أقوال مختلفة في هذا الباب، وقد ادعى بعضهم أنه ينزل كلَّ عام على الكعبة ورقةٌ مكتوب فيها اسم غوث ذلك العام وخضرِه، وان لكل زمانٍ خضرًا، وأنه نقيب الأولياء، وأنه مرتبة محفوظة لا شخص معين، ونحو هذه الدعاوي التي يَعلمُ كل عاقلٍ بطلانَها وضلالَ معتقدها. وهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل. وقد رُوِي في "الأبدال" حديثٌ عن علي بن أبي طالب مرفوعاً، ولكنه بإسناد منقطع، فهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، ولم يسمعه منه.

وقد بحث شيخ الإسلام عن معاني هذه الألفاظ والأسماء في اللغة والشرع، وذكر أن ما ورد منها على لسان بعض السلف ليس على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين. أما "الغوث" فلا أصل له في كلام أحدٍ من السلف، ولم يُعرف عن أحد منهم أنه قال: فلانٌ غوث هذه الأمة، أو أن للأمة غوثًا بمكة ونحوه، فهذا من محدثات الصوفية ومخترعاتهم. ولا يستحق هذا الوصف إلاّ الله سبحانه وتعالى. ولفظ "النقباء" ذكر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله تعالى في قوله: (* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً). وجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار اثني عشر نقيبًا على عدد نقباء موسى. وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يُعرِّفون العُرَفاء وينقّبون النُّقباء، ليُعرِّفوهم بأخبار الناس وينقّبوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب والسنة، وإطلاق هذا اللفظ على أولياء الله ليس له أصل في كلام السلف. أما لفظ "الأبدال" فقد جاء ذكره في كلام كثير من السلف، فرُوِي عن الشافعي في بعضهم: كنّا نعدّه من الأبدال، وقال البخاري في رجل: كانوا لا يشكون أنه من الأبدال، وقال يزيد بن هارون: الأبدال 0 هم أهل العلم، وقال أحمد: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. وكذا وصف غير هؤلاء من النقاد والحفاظ والأئمة غير واحدٍ بانه من الأبدال. وكان المقصود

منه أنهم أبدالٌ عن الأنبياء وخلفاءُ لهم وورثتُهم، يخلفونهم في سننهم، ويحملون الأمة على طريقهم. وقد جاء في حديثٍ وصف الذين يحبّون السنّة ويعلّمونها الناس بأنهم خلفاء النبي، وفي حديث آخر أن "العلماء ورثة الأنبياء". والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارثٌ لذلك المقدار، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهم في ذلك. ومعلوم أن من جملة أحوال الأنبياء دعاءَهم للخلق، وما يحصل بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قامَ مقامَهم في بعض ذلك كان بَدلاً منهم في ذلك البعض. ومن زعم من الصوفية أنَّ البدل إذا غابَ عن مكانه أبدل بصورة على مثالِه، ولذا سُمُّوا أبدالاً، فهذا باطل، ولم يكن السلف يعنون به هذا المعنى. أما اسم "القُطْب" فهو مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه الرحى، فالشخص الذي يدور عليه أمر من الأمور فهو قطب ذلك الأمر، وأفضل الخلق هم الرسل، وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وإمام الصلاة يدور عليه أمر الإمامة، فهو قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب الحكم، وأمير الحرب قطب هذه الإمارة، وكان الخلفاء الراشدون أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح الأمة في دينها ودنياها ما لم يَدُر على أحدٍ مثلُه. وقد يكون في عصرٍ رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد

يكون رجلان أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويحصل بدعائهم وعبادتهم من الخير ويندفع من الشرّ ما لا يحصل بدون ذلك، كما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (1). وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33))، وقال: (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25)). فهذا ونحوه مما يوافق أصول الدين. وأما ما يدعيه الصوفية في القطب والمرتبة التي يسمونها القطبية فمن الغلو الذي يُشبه غُلوَّ النصارى والرافضة، حيث قالوا: إن مدد أهل الأرض يكون من جهته، وإن الله إذا أنزل إلى الأرض خيرًا من هُدىً ورزقٍ ونصرِ فإنه يُنزِله عليه، ثمّ منه يَفيض إلى سائر الخلق. لم يكن السلف يفهمون من القطب هذا المعنى، ولا خطر ببالهم إلاّ معناه اللغوي الذي سبق ذكره. ولا يُعرَف أنهم تكلموا بهذا الاسم في الرجال، ولا جعلوا اسم "القطب" مما يُعبَّر ول عن أحوال أولياء الله المتقين، بخلاف اسم "الأبدال" في نُقِل عنهم التكلم بذلك في مواضع. أما "الأوتاد" فقد ورد على لسان بعض المتأخرين، والوتد هو المُثبِت لغيره، كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمَن ثبَّت الله به

_ (1) أخرجه البخاري (2896) والنسائي 6/ 45 وغيرهما.

الإيمان والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثبت بدعائه وعبادته نصرُهم ورزقُهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك. أما "النجباء" فلم يرد إطلاقه عند السلف على أولياء الله، ولم يثبت شيء من الآثار التي رويت في ذلك. بهذا التفصيل نعرف أن السلف عند استخدامهم لبعض هذه الألفاظ لم يفهموا منها تلك المعاني والخصائص التي استقرت في أذهان الصوفية، ولذا فاستناد هؤلاء إلى الآثار التي وردت فيها تلك الألفاظ على لسان بعض السلف لا يُجدِيهم شيئا، فهي -على فرض ثبوتها عنهم- ليست على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين. وعندنا أصلان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع، الأول: أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)) وقال: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)). والثاني: أن الله يجلب للناس المنافعَ ويدفع عنهم المضارّ بدعاء عبادِه المؤمنين وصلاتهم وعبادتهم، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "وهل تُنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم". إذا عرفنا هذين الأصلين تبيَّن لنا أنه ليس لأولياء الله عددٌ محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكانٌ مُعيَّن من الأمكنة، بل هم يزدادون وينقصون بحسب زيادة أهل الإيمان والتقوى

ونقصانهم. وقد بعث الله رسوله بالحق، وآمن معه بمكة نفرٌ قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقلّ من أربعين، ثم أقلّ من سبعين، ثم أقلّ من ثلاث مائة، فأين كان أولئك الأبدال وغيرهم ممن يذكرهم الصوفية بالعدد والترتيب والطبقات؟ هل كانوا في الكفّار؟ ثم هاجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى المدينة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم، فمن كان هو الغوث الذي يدّعي الصوفية وجوده بمكة بعد الهجرة؟ ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين عدد لا يُحصَى، ولا يحصرون بثلاث مائة ولا بثلاثة آلاف، فكل من جعل لهم عددًا محصورًا فهو من المبطلين عمدًا أو خطأً. ونسألهم مَن كان القطب والأبدال وغيرهم من زمن آدم ونوح وإبراهيم وقبل محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة؟ وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا ففي أيّ زمانٍ كانوا؟ ومَن أوَّلُ هؤلاء؟ وبأيّ آية وبأيّ حديث مشهورٍ وبأيّ إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبتَ وجودُ هؤلاء بهذه الأعداد حتى نعتقده؟ لأن العقائد لا تعتقد إلاّ من هذه الأدلة الثلاثة ومن البرهان العقلي، (قُل هَاتُوا بُرهانكم إن كنتم صادقين (111))، فإن لم يأتوا به فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم. وقولهم "إنّ النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق"

ونحو هذا على الإطلاق باطل قطعًا، فإن هذه البلاد كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحدٌ من أولياء الله، ولمّا صارت دار إسلام صار فيها من أولياء الله بحسب ما في أهلها من الإيمان والتقوى. ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال، ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلاّ بالشام فقد أخطأ، فإن خيار هذه الأمة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة، ولما فتحت الأمصار كان في كل مصرِ من خيار المسلمين مَن لا يُحصيه إلاّ الله. وإذا كان الأبدال أفضل الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، فإن طائفته كانت أولى بالحق من طائفة معاوية بشهادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يكون الأبدال خارجين عن جماعة علي ويكونون بالشام؟ ومما يبين أنهم ليسوا مخصوصين بالشام أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون منهم من ليس بالشام، وهذا كثير في كلامهم، فما يدعيه الصوفية غلط. وقولهم "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بَصَرَه حتى تنفرج تلك النازلة" من أعظم الكذب والبهتان، فإن هذا "الغوث" المدَّعَى ليس بأعظم من الرسل، وهم قد يُمنَعون ما يسألون، وقد كان الأنبياء يجتهدون في الدعاء، فكيف يكون غيرُهم لا يرفع بصرَه حتى تُدفَع النوازل؟ وقد نزل بهذه الأمة من الشدائد ما لا يحصيه

إلاّ الله، واتصل بعضها مدةً، فأين كان هذا الغوث؟ وكان المسلمون لا يرفعون أمر هذه الشدائد إلى غير الله ولا يتركونها لشخص معين، فمَن هذا الأدنى الذي يرفعها إلى الأعلى؟ وإذا كان الله يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، فكيف يُحوِجُ عبادَه المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه؟ وأين الحاجة إلى الوسائط والله يسمع ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟ ومن أباطيل الصوفية ادعاؤهم أنه "على قدم كل نبيّ وليَّان: ولىٌّ ظاهر ووليٌّ باطن"، فقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى الأنبياء، النبي يجيء وحدَه، والنبي يجيء معه رجلٌ، والنبي يجيء معه رجلان، فإذا كان النبي قد لا يتبعه أحدٌ، أو لا يتبعه إلاّ رجل واحد، فكيف يجب أن يكون له في كل عصرٍ اثنانِ على قدمِه من أمة غيرِه؟ وأيضًا فقول القائل إن الوليّ على قدم النبي لا يجوز أن يريد به اتباعَ شريعته، فإنه بعد مبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقبل الله من أحدٍ إلاّ شريعته. ثم إن غالب الأنبياء لم يُقَصُّوا على نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تعرفهم أمته، فكيف يكون من أمته من هو على قدم نبيٍّ لا يعرفه ولا يعرف قدمَه؟ وخلاصة القول أن هذا الكلام لا دليل عليه، ولو كان حقًا لكان معروفًا عند أهل العلم والإيمان، فإذا لم يكن له أصل عندهم عُلِم بطلانه. ومن أشنع ما يزعمه الصوفية قولهم في "الغوث القطب": إنه

ز- وصف النسخة الخطية

يطلع على أسرار قلوب العباد، وينطبق علمه على علم الله، ويعرف جميع الأولياء، وتنتهي إليه حوائج الخلق، وبواسطته يكون مدد الخلائق في نصرهم ورزقهم. وقد ناقشهم شيخ الإسلام وبيَّن أن هذه الدعاوي كلها باطلة، وهي نظير ما يدعيه النصارى في "المسيح" والرافضة في "المنتظر" والنصيرية في "الباب" والفلاسفة في "العقل الفعال"، وأظهر في الشرك والضلال والكفر والفساد من أن نعرض لها. وقد أطال شيخ الإسلام في الردّ عليها، وذكر نصوصًا من الكتاب والسنة تدل على أنها من الشرك في الربوبية، ولا يجوز نسبة الأمور المذكورة إلى الأنبياء والرسل، فكيف تصح لهذا "الغوث" المزعوم الذي لا وجود له إلاّ في أذهان الصوفية؟ ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المواضع التي أشرنا إليها في أول هذا الفصل، وليقرأ هذه الفتوى التي فصّل الكلام فيها حول هذا الموضوع. هذا عرض موجز لآراء شيخ الإسلام في هذا الباب، وبه يظهر أنه بحث دعاوي الصوفية في القطب والأبدال من نواح متعددة، وناقشهم مناقشة طويلة بالعقل والنقل، وهَدَم أساس نظريتهم، وأبطل كلَّ شبهة تعلقوا بها. وهذه الفتوى التي تُنشَر الآن لأول مرة هي أطول فتوى له فيها. • وصف النسخة الخطية توجد نسخة فريدة من هذه الفتوى بخط المؤلف ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق برقم 3845 عام [مجاميع 109] (الورقة 235 - 257) باستثناء الورقة 256 أ- ب،

فهي من "سنن أبي داود"، وفيها الأحاديث ذات الأرقام (1302 - 1308). ويلاحظ أن الورقة مقلوبة، فصفحة ب سابقة في الترتيب على أ. ويبدو أنها ورقة ضائعة من نسخة قديمة من "السنن" عليها آثار التصحيح والمقابلة. تبتدئ هذه النسخة بنصّ السؤال الذي قُدِّم إلى شيخ الإسلام، وبَعدَه بَدَأ الشيخ كتابة الجواب في أسفل الصفحة بقوله "الحمد لله "، وانتهى منها في الورقة (255 أ)، حيث قال في آخرها: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". ثم رأى الزيادة على ما سبق، فشطب على العبارة المذكورة، وكتب صفحتين، وقال في الأخير: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". وقد كانت هذه الفتوى بلا عنوان، فكتب في أولها أحدُ المفهرسين "فتوى الأقطاب والأبدال" بخط حديث. وبجانبه في أعلى الصفحة بخط قديم: "نقله محمد بن المحب"، مما يفيد أن هذه الفتوى نُسِختْ منها نسخة بخط محمد بن المحب، ناسخ بعض مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وهو الحافظ شمس الدين أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، المشهور بالصامت لكثرة سكوته (713 - 789)، ترجم له الحافظ في "الدرر الكامنة" (3/ 465)، وقال: "تفقه إلى أن فاق الأقران، وأفتى ودرّس، وكان كثير المروءة حسن الهيئة، من رؤساء أهل دمشق". وله أخ اسمه أبو الفتح أحمد (719 - 749)، ترجمته في

"الدرر الكامنة" (1/ 179)، وهو أيضًا ناسخ كثير من مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وخطّ هذين الأخوين متقن، ومتشابه إلى حدّ كبير، وأكثر منسوخاتهما بالاعتماد على الأصول والمسودات التي بخط الشيخ. وقد شرَّقتْ هذه النسخ وغرَّبتْ، وتفرقتْ في بلدان عديدة، وضاع كثير منها وبقي بعضها في المكتبات. وتعتبر هذه النسخ أهمّ ما وصلَ إلينا من مؤلفات شيخ الإسلام بعد الأصول التي بخطه. وإذا عثرتَ على شيء منها بخط أحدهما فلا تلتفتْ إلى نسخ أخرى متأخرة، ولا تتعبْ في جمعها وتحصيلها، فهي لا تفيدك إلاّ زيادة التصحيف والتحريف والسقط، كما هو مجرَّب لديّ بعد فحص مثل هذه النسخ. ونظرًا لأهمية النسخة التي نقلها ابن المحب بحثتُ عنها في فهارس المكتبات، فلم أعثر عليها مع الأسف، ولذا عكفتُ على أصل المؤلف، وبذلت جهدي في قراءته، واستطعت أن أقدمه بالشكل الذي يراه الناظرون. وقد سبق لي وصف خط المؤلف في مقدمتي على "قاعدة في الاستحسان" (ص 14، 42)، وكلّ ما ذكرتُه هناك ينطبق على هذا الكتاب، فأحيل القراء إليها. وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج أثر مهم من آثار شيخ الإسلام بخطه، وأشكر الإخوة الذين جلبوا لي المصوَّرات الفلمية والمكبرة عن الأصل، حتى تمكنتُ من قراءة الكلمات والأسطر التي كانت ساقطة أو مطموسة في مصوَّرتي،

وأخصّ بالذكر منهم الأخوين الكريمين والمحققين الفاضلين علي ابن محمد العمران وأحمد حاج محمد، فقد سعيا في ذلك كثيرًا، جزاهما الله أحسن الجزاء عن العلم وأهله، ووفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب. محمد عزير شمس

نماذج من الأصل

نص الفتوى

نصّ الفتوى

السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادةُ العلماءُ أئمةُ الهدى ومصابيحُ الدُّجَى فيمن يَزعمُ أنه على قَدمِ كُل نبي من الأنبياء وليَّانِ: وليٌّ ظاهرٌ وولىٌّ باطن، وهما أقطابُ الغوثِ (1) الذي ينتهي إليه حوائجُ الخلقِ، وأنّ له أربعةَ أوتاد وسبعةَ نُجَبَاءَ واثنا عشرَ (2) نقيبًا وأربعين بَدَلاً، وأنّ كلَّما ماتَ من الاثنا عشر واحدا (3) أُخِذَ من الأربعين، ومن السبعة أُخِذَ من الاثنا عشر (4)، وكل ينزل من أكثر العدد إلى أقلِّ العدد بحسب مراتب الأوضاع، وأنّ الغوث بمكة، والقطبين أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، والأربعة بأركان الأرض، والنجباء بمصر، والأبدال بالشام، والنّقباء بالعراق، وأنّ الشدّةَ إذا نزلتْ بأهل الأرض رِفعَها الأدنَى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يَرفعُ بصرَه حتى تنفرجَ تلك النازلة. ويَدَّعون أنَّ لكل قطب علم (5) لا يعرفه الآخر، ويسمُّون أنواعًا من العلوم الظاهرة والباطنة.

_ (1) كذا في الأصل، والأولى "قطبا الغوث". (2) كذا في الأصل، والصواب "اثني عشر". (3) كذا في الأصل، والصواب: "من الاثني عشر واحدٌ". (4) كذا في الأصل بالألف. (5) كذا في الأصل بالرفع، وحقه النصب.

والمسئول معرفةُ الحق المشروع، هل هذه الأشياء المسمَّاةُ لها دليلٌ من كتاب أو سنةٍ؟ أو لها وجود أو لها تأثير؟ أو لها حقيقة تَرجعُ إلى تَمثُّلها في الأكوانِ أو الأذهان؟ وهل الحديث المروي عن النبَي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لاّ تَسُبُّوا أهلَ الشام، فإنَّ فيهم الأبدالَ"، هل هو صحيح أم ضعيف؟ وإن كان صحيحًا ما حكمه؟ أفتونا مُثَابِين مأجورين إن شاء الله تعالى.

الجواب

الحمد لله. هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصلَ لها من كتاب ولا سنَّةٍ، ولا قولِ أحدٍ من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين وشيوخهم، الذين لهم في الأمة لسانُ صِدقٍ، وإنما يُذكَر بعضُ هذا الكلام عن بعض الشيوخِ المتأخرين، مع أنه لا أصلَ له، وزَادَ في ذلك مَن بعدهم ونقصوا، وغَيروا في الأعداد والمراتب والصفات،/ وقالوا أشياءَ نعلم مخالفتَها لدين المسلمين، بل ولعقلِ عقلاءِ العالمين. وقد يَروون في ذلك أحاديثَ موضوعة، مثل روايتهم أنه كان للمغيرة بن شعبة غلام اسمُه هلال، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنه من السبعة" (1). وقد روى هذا الحديثَ بعضُ المصنِّفين في الرقائق، كما روى غيرَه من الموضوعات، وأما الشهادة لمعيَّن بالجنَّةِ فهذا صحيح، فقد شهدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة لغير واحدٍ من الصحابة، كالعشرة وثابت بن قيس وغيرهم.

_ (1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 24) من طريق عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليدخلن من هذا الباب رجلٌ ينظر الله إليه"، قال: فدخل هلال ... ، إلى آخر الحديث، وسنده ضعيف ومقطع. وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (الأصل الخامس والعشرين بعد المائة) من طريق يحيى بن أبي طلحة عن أبي الدرداء قال: كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فقال: "يدخل من هذا الباب رجلٌ من أهل الجنة ... " الحديث مطولاً. وانظر "الإصابة" (3/ 608).

رأيهم في الأقطاب والأوتاد والغوث

وهؤلاء الذين تكلموا في هذا من المُتأخرين يجعلون الأقطابَ سبعةً على عددِ الأقاليم، ويجعلونَ الأوتادَ أربعةً كالأوتادِ التي يذكرها المنجّمون، ويجعلون الغوثَ واحدًا مقيمًا بمكةَ، ويجعلون مددَ أهلِ الأرضِ منه، ويقولون: إنه منه يَفِيضُ على أهلِ الأرضِ ما يَنزِلُ عليهم من الهدى والرزق ونحو ذلك، ويقولون: إنه لابُدَّ لكل زمانٍ من ذلك، كما يَقول الرافضة: إنه لابُدَّ لكل زمان من إمام معصوم، وكما يقولُ النصارى: إنه لابُدَّ من الباب الذي به يُحفَظ أهلُ الأرض (1). فقيل لبعضِ هؤلاء: فإذا كان لابُدَّ كذلك فمَنِ الغَوثُ الذي كان بمكةَ بعد الهجرةِ على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه الراشدين، الذي كان هو المُمِدّ لرسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكرٍ وعمرَ وهو أفضلُ منهم؟ فبُهِتَ مدَّعِيْ ذلك. وقد يقولون مع ذلك بأنّ لكلّ زمانٍ خَضِرًا، ويجعلونَ الخَضِرَ مرتبةً محفوظةً لا شخصا معيَّنا، ويَدَّعونَ أنه يَنزِلُ كلَّ عامٍ على البيت ورقة مكتوبٌ فيها اسمُ غوثِ ذلك العام وخضرِه. ونحو هذه الدعاوي التي يَعلَمُ كلُّ عاقلٍ بطلانَها، وضَلالَ معتقدِها، وكَذِبَ المُخبِرِ بها عمدًا أو خطأ. ومن هؤلاء من يُعيِّن لكل قريةٍ من القرى واحدًا من هذا العدد

_ (1) ذكر المؤلف نحوه في "مجموع الفتاوى" (11/ 364، 439، 442؛ 27/ 96) و"منهاج السنة" (1/ 91 - 92)

أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما في الكتاب والسنة

أو أقل أو أكثر، ويتكلمون في ذلك نظمًا ونثرًا بكلامٍ يُناقِضُ العقلَ ويخالف دينَ الإسلام. وحقيقةُ الأمر في ذلك أنَّ أولياء الله هم المؤمنون المتقون (1)، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) (2) /وفي صحيح البخاري (3) عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداء ما افترضتُ عليه، ولا يَزالُ عبدي يَتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسْمَع به، وبَصرَه الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشِي بها. فبيْ يَسْمَع، وبِي يُبْصِر، وبي يَبْطِشُ، وبي يمشي، (وإن سألني لأعطِينَّه، ولئن استعاذني لأعِيْذَنَّه) (4)، وما تردَّدتُ عن شئ أنا فاعلُه تردُّدي عن قَبْضِ نفسِ عبدي المؤمنِ يَكرهُ الموتَ وأَكْرهُ مَسَاءتَه، ولابدَّ له منه". وأيضًا فإنّ الله بعباداتِ عبادِه المؤمنين ودُعائِهم يَجلِبُ للناسِ

_ (1) بيّن المؤلف ذلك في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" وغيره من مؤلفاته ورسائله. (2) سورة يونس: 62 - 64. (3) برقم (6502). (4) ما بين القوسين مستدرك في الهامش، ولم يظهر منه إلاّ قليل.

انتفاع الخلق بدعاء المؤمنين، مثل نزول الغيث والنصر على الأعداء وغيرهما

المنافعَ ويَدْفَعُ عنهم المضارَّ، كما في السنن (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وهل تنصَرون وتُرْزقون إلاّ بضُعفائِكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم". وانتفاعُ الخَلْقِ بدعاء المؤمنين وصلاتهم كانتفاع الحيّ والميّتِ بدعاء المؤمنين واستغفارِهم، ونزولِ الغيثِ بدعاءِ المؤمنين واستغفارِهم، والنَّصْر على الأعداءِ بدعاء المؤمنين واستغفارهم، وأمثال ذلك مما اتفق عليه المؤمنون. فهذانِ الأصلانِ هما أصلانِ ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع. وليس لأولياء الله عددٌ محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكانٌ معيّنٌ من الأمكنة، بل هم يزدادون ويَنقُصون بحسبِ زيادةِ أهلِ الإيمان والتقوى ونقصانهم. فَبَعَثَ الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الناس، وكان الأمر كما أخبر في الحديث الصحيح (2): "إن الله نَظَرَ إلى أهلِ 236 ب الأرض فمَقَتَهم، عَرَبَهم وعَجَمَهم،/ إلاّ بقايا من أهل الكتاب". وقد ثبتَ في الصحيح (3) أن إبراهيم الخليل قال لسارةَ: "إنه ليس على وجهِ الأرض مؤمنٌ غيري وغيرُك". وقد أخبر الله عن نوحٍ

_ (1) أخرج البخاري (2896) عن مصعب بن سعد قال: رأى سعدٌ أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تنصرون وتُرْزقون إلاّ بضعفائكم". ورواه النسائي (6/ 45) عن مصعب عن أبيه سعد نحوه، وفيه: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم". وأخرجه أحمد في "مسنده" (1/ 173) من طريق مكحول عن سعد نحوه. (2) أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي. (3) البخاري (2217، 3358) عن أبي هريرة.

بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحالة المؤمنين في مكة

أنه (ما ءامن معه إلا قليل (40)) (1)، وأنَّ الله أغرقَ أهلَ الأرضِ إلاّ من كان معه في السفينةِ. وقد كانت الشام قبلَ أن يخرج إليها موسى وبنو إسرائيلَ يَغلِبُ على أهلِها الكفرُ، فأورثها الله لبني إسرائيلَ، فصارَ فيها من الأنبياء والصالحين ما لم يكن فيها نَظِيرُه قبلَ ذلكَ. ولمَّا بعث اللهُ محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمن به طائفة قليلة، فكان أولَ من آمن به أبو بكرٍ وعليٌّ وزيدٌ وخديجةُ، وآمنَ على يَدَيْ أبي بكرٍ عثمانُ وطلحةُ والزبيرُ وسعد وعبد الرحمن، ثمَّ تَزايدَ أهلُ الإيمانِ حتًى بلغوا أربعين، فلم يكنْ بمكةَ قبلَ ذلك أربعونَ مؤمنًا، بل ولا عَشَرة مؤمنونَ، بل ولا أربعةٌ. ثم إنّ الإيمانَ زادَ، وهاجرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، وكَثُر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكل هؤلاء من سادات أولياء الله المتقين، فبايَعهُ تحتَ الشجرة أكثرُ من ألفٍ وأربع مائة قد رضي الله عنهم، وكلهم من أهل الجنة، قال الله فيهم: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (2). وفي الصحيح (3) أنه قال لخالد بن الوليد لمَّا (4) سَابَّ

_ (1) سورة هود: 40. (2) سورة الحديد: 10. (3) البخاري (3673) ومسلم (2541). (4) "لما" مشطوب عليها في الأصل سهوًا.

انتشار الإسلام يعد ذلك في اليمن والشام والعراق وغيرها، حتى كان في العصر الواحد فيها آلاف من أولياء الله

عبد الرحمن بن عوفٍ: "يا خالدُ، لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقَ أحدُكُم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغَ مُذَ أحدِهم ولا نَصِيْفَه ". وخالدٌ هو ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد/ الحديبية (1)، فجعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هؤلاء التابعينَ من الصحابةِ بالنسبة إلى السابقين منهم بهذه المنزلة. وانتشرَ الإسلامُ بعد هذا في أرضِ اليمن والشام والعراق وخراسان ومصر ومغرب (2)، حتى بقي في العصر الواحدِ من هذه البلادِ من أولياء الله أُلوفٌ مؤلَّفةٌ. فمن قَصَرَهم حينئذ على الأربعين أو ثلاث مائة كان جاهلاً، كما أنَ من بلغ بهم في أولِ الإسلام هذا العددَ كان جاهلاً. وأما الأسماء المذكورة فتسميةُ "الغوثِ" لا أصل لها في كلامِ أحدٍ من السلف بالمعنى الذي يَدعِيْه هؤلاء (3)، ولا يُعرَفُ عن أحدٍ من السلف أنه قال: فلانٌ هو غوثُ هذه الأمة، أو إنّ للأمة غوثًا بمكة أو يجيء مكة. وأما لفظ "النُّقَباء" فإنما ذُكِر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله في قوله: (* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا

_ (1) انظر "أسد الغابة" (2/ 109) و"الإصابة" (1/ 413). وقد اختلف في تاريخ إسلامه على أقوال، ولا يصخُ له مشهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فتح مكة. (2) كذا بدون الألف واللام. (3) انظر كلام المؤلف على "الغوث" في "مجموع الفتاوى" (27/ 96؛ 11/ 437)

جعل النقباء اثني عشر، وجعل الخضر نقيب الأولياء باطل

مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) (1). وكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ للأنصار اثني عشرَ نقيبًا على عددِ نُقَباءِ مُوسى (2). وكذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه عامَ حُنَين لما أطلقَ لهوازنَ السبيَ فقال: "لِيَرْفَعْ لنا عُرَفَاؤكم مَنْ طَيَّبَ ممن لم يُطَيِّب" (3). وكان العسكرُ اثني عشرَ ألفًا. وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يُعَرِّفُون العُرَفاءَ ويُنَقِّبُون الئقَباءَ، ليُعزَفُوهم بأخبار الناس، ويُنَقبُوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب والسنة وكلام السلف. وأما من جَعَلَ لأولياء اللهِ نُقَباء َهم، اثنا عشرَ، أو جَعَلَ الخَضِرَ نقيبَ الأولياء، فهذا باطل، فإنَ أولياء الله لا يَعْرِفُ أعيانَهم على التفصيلِ أحدٌ من البشر، لا نبيّ ولا غيرُ نبيّ. وقد كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمدينته مؤمنون (4) ومنافقون، وقد قال الله له: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (5). وإذا لم يَقعِ التمييزُ بين هؤلاء وهؤلاء لخير الخلق، فغيرُه

_ (1) سورة المائدة: 12. (2) أخرجه أحمد في "المسند" (3/ 460) من حديث كعب بن مالك. وذكر ابن هشام في "السيرة" (1/ 443، 444) أسماءهم، فراجعه. (3) أخرجه البخاري (2308، 2540، 2608، 3132، 4319، 7177) من حديث عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة. (4) تكررت "مو" في الأصل. (5) سورة التوبة: 101.

بطلان أن يكون لأولياء الله نقباء

أولى، ومن لم يعَرِفْ أعيانَ المنافِقين جَوَّزَ على مَن ظاهرُه الإسلام أن يكون مؤمنًا، وإذا لم يُعْلَم فُجورُه جاز أن يكون تقيًّا، وكلُّ مؤمنٍ تقيٍّ وليٌّ لله. وقالوا لعمر بن الخطاب: من يُعطَى المغازي؟ قيل: فلان وفلان وآخرون لا يعرفهم أميرُ المؤمنين، فقال: إن لا يكن عمر يعرِفهم فإن الله يعرفُهم، وقد قال تعالى: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) (1). وقد ثبت في الصحيح (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعرِف أمته يومَ القيامةِ بسِيماهُم، فإنّهم يكونون غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوَضوءِ. وأيضًا فأولياء الله إذا كان لهم نُقَباءُ كان النُقَباءُ أخبرَ بهم ممن يَرفعونَ أخبارَهم إليه، ومعلومٌ أن الذين يَرفَعونَ أخبارَهم إليه سواء كان نبيًّا أو غير نبيّ، هو أعلى مرتبةً من النُّقَباء، فيكون المفضولُ أعلمَ بأولياءِ اللهِ من الفاضل، وهذا ممتنعٌ. بخلاف النُّقَباء الذين جاء بهم الكتاب والسنة، فإنهم يرفعون أخبارَهم الظاهرة التي يَشهَدُ بها الشُّهودُ ويَحكُم بها الحُكَّام، وإن كان قد يكون في ذلك ما يُستدَلُّ به على الإيمان والتقوى، لكنّ الدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمِ الدليلِ المعيَّنِ عدمُ المدلول عليه، فلا يُشْهَد على شخصٍ معين أنه ليس من أولياء الله إلاّ بعليم يقتضي ذلك. والنقباء لا

_ (1) سورة المدثر: 31. (2) البخاري (136) ومسلم (246) من حديث أبي هريرة.

(3) الأبدال: ورد ذكره في كلام كثير من السلف

يشهدون بذلك، ومن لم يشهد بذلك لم يكن عَالمًا بمن هو وليّ ممن ليس بولي. وأما لفظ "الأبدال" (1) فقد جاء ذِكرُه في كلامِ كثير من السلف: فلانٌ كان يُعَدُّ من الأبدال. ولفظ "الأوتاد" (2) جاء في كلام بعضهم. فأما لفظ "الأبدال " فقد فُسِّر بثلاثِ معاني: قيل: سُمُّوا أبدالاً لأنهم أبدالٌ عن الأنبياء، وهذا المعنى صحيح. فإن الأنبياء،/لهم خُلَفاء، كما كان الخلفاء الراشدون خلفاءَ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد كان له في حياتِه ولغيرِه من الأنبياء خلفاءُ في أمرٍ دونَ أمرٍ، فإنه كان إذا خرجَ في غَزْوٍ أو حَجٍّ أو عُمرةٍ استخلفَ على المدينة بعضَ أصحابه، كما كان يَستخلف ابنَ أمّ مكتوم وغيره، واستخلف علي بن أبي طالب [في] غزوة تبوك، وكان قد خرج معه عامة أصحابه، ولم يبق بالمدينة من المؤمنين إلاّ معذور، غير الثلاثة الذين خُلِّفوا، فخرج إليه على، فقال: يا رسولَ الله، أتَدَعُنِي مع النساءِ والصبيان؟ فقال: "أما تَرضَى أن تكونَ منّي بمنزلة هارون من موسى؟ " (3) وقد قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)) (4).

_ (1) انظر كلام المؤلف على هذا اللفظ في "مجموع الفتاوى" (11/ 441). (2) انظر عن هذا اللفظ: "مجموع الفتاوى" (11/ 440). (3) أخرجه مسلم (2404) وأحمد في "المسند" (1/ 185) والترمذي (2999، 3724) من حديث سعد بن أبي وقاص. (4) سورة الأعراف: 142.

فاستخلف موسى هارون مدةَ ذهابِه للميقات إلى أن عاد. وكذلك كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته وُلاةٌ على الأمْصَار كعتَاب بن أَسِيد وخالد بن سعيد وغيرهما، وسُعَاةٌ على الصدقات ونُواب في التعليم، كمعاذٍ وأبي موسى، وكلٌّ من هؤلاء خليفة له وبدل عنه في بعض الأمور دونَ بعضٍ. وجاء في حديثٍ وصفُ الذين يُحيون السنَّةَ ويُعلِّمونها الناسَ بأنهم خلفاءُ النبي (1)، وللأنبياء أيضًا ورثة كما في الحديث المشهور في السنن: "العلماء ورثةُ الأنبياء" (2). والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامَهم في بعض الأمر فقد خلفهم في ذلك على البدلية، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهمِ في ذلك. وقد استسقى عمر بالعباس وقال: "اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبيّنا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبيّنا" (3). ومعلوم أن من جملةِ أحوالِ الأنبياءِ دعاءَهم للخلق، وما يحصل

_ (1) أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص 5) وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان " (1/ 81) والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص 31) من حديث علي. وهو حديث موضوع، انظر الكلام عليه في الضعيفة (854). (2) أخرجه أحمد (5/ 196) وأبو داود (3641) والترمذي (2682) وابن ماجه (223) من حديث أبي الدرداء، وهو حديث حسن. (3) أخرجه البخاري (1010، 3710) من حديث أنس بن مالك.

(ب) سموا بذلك لأنه كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا

بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قام مقامَهم في بعض ذلك كان بَدَلاً منهم في ذلك البعض. وقيل: سُمُّوا أبدالاً لأنه كلَّما مات رجل أبدلَ الله مكانه رجلاً. وهذا لا يَصحُّ، ولا مدحَ فيه/فإنّ كون الشخص إذا ماتَ قامَ مقامَه غيرُه قد يكون مع إيمانه، وقد يكون مع كفره، والله جعلَ بعضَ بني آدمَ خُلفاءَ بعض مع اختلاف أعمالِهم. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) (1)، وقال: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)) (2). فقد جعل أمة محمد خلائفَ عمن أهلك من القرون المكذبين الظالمين. وقد قال نوح له (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)) (3)، فهذا الولد الفاجر الكَفارُ بَدَلٌ عن أبيه. فليس في إبدالِ شخصٍ مكان شخص مدح إلاّ أن يكون الأولُ ممدوحًا، فإن لم يُعتَبر في معنى البدل أن يكون بدلاً عن نبيٍّ أو مَن يقوم مقامَ نبيٍّ لم يكن في كونه بدلاً عمَّن كان قبلَه صِفةُ مدح. وأيضًا فلو كان كلُّ من ماتَ قامَ مقامَه غيرُه لَلَزِمَ أن يقومَ مقامَ

_ (1) سورة الأنعام: 165. (2) سورة يونس: 13 - 14. (3) سورة نوح: 27.

المؤمنون المتقون ليسوا إذا مات منهم أحد قام مقامه غيره

أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أمثالُهم، ولم يكن كذلك. وهؤلاء أفضلُ خلفاءِ الرُّسُل وأبدالهم ووُرَّاثهم. وأيضًا فمن يكون بدلاً عن الأنبياء كثيرون إذا كَثُرَ الإيمان والتقوى، قليلون إذا قَل ذلك، ومعلومٌ أنَّ المؤمنين المتقين ليسوا إذا مات منهم واحدٌ قامَ مقامَه غيرُه. وقد قيل في معنى الأبدال: إنهم بَدَّلُوا سيئاتِهم حسناتٍ. وهذا معنى التائبين، فكل مؤمنٍ تابَ من سيئاتِه له هذا المعنى. وزعمَ بعضُهم أنَ البدلَ إذا غابَ عن مكانه أُبدِلَ بصورةٍ على مثالِه. وهذا باطل، ولم يكن السلف يَعْنُون بالبدل هذا المعنى، ولا يجعلون ذلك لازمًا لمن يسمونه بهذا الاسم. وأما اسم "القُطْب" (1) فالقطب مأخوذ من قطب الرَّحَى، وهو ما يدور عليه الرحَى، وكذلك قطب الفلك وغيرُ ذلك من الأجسامِ الدائرة. فالشخص الذي يدور عليه أمر من الأمورِ هو قطبُ ذلك الأمرِ، وأفضلُ الخلقِ هم الرُّسُلُ، وعليهم تدور رسالةُ الله إلى خلقه، وتبليغُهم أمرَه ونهيَه ووعدَه ووعيدَه،/وكلُّ من دارَ عليه أمرٌ من الأمورِ فهو قُطبُه، فإمامُ الصلاةِ قُطبُ الإمامة، ومؤذِّنُ المسجد قُطبُ الأذان، وحاكم البلد قطب القضاء، وأميرُ الحرب قطبُ هذه الإمارة، وأئمة الهُدَى -كالشيوخِ الذين يُقتدَى بهم في دينِ الله- هم أقطابُ ما دارَ عليهم من ذلك. ومَن يُنْصَر المسلمون ويُرْزَقون

_ (1) انظر كلام المؤلف على هذا اللفظ في "مجموع الفتاوى" (11/ 440).

أولو الأمر هم العلماء والأمراء

بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم هم أقطابُ ما دارَ عليهم. وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأةُ راعية على مالِ زوجًها، وهي مسئولة عن رعيتها، والمملوكُ راع على مالِ سيِّدِه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيَّته". وكان الخلفاء الراشدين (2) أقطاب الأمة، دارَ عليهم من مصالحِ الأمة في دينها ودنياها ما لم يَدُرْ على أحدٍ مثلُه، ثمَّ بعدَهم تفرَّقَ الأمرُ، فصارَ الملوكُ والأمراءُ يقومون ببعض الأمر، وأهلُ العلم والدين يقومون ببعض الأمر، وهؤلاء من أولي الأمر، وهؤلاء من أولى [الأمر] (3). وقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4) يتناولُ الطائفتَيْنِ العلماءَ والأمراءَ إذا أَمروا بطاعة الله، فمن أمرَ بمعصية الله فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ، وقد جاء في الأثر: "صِنْفانِ إذا صَلحوا صَلحَ الناسُ: العلماءُ

_ (1) البخاري (893، 2409، 2554، 2558، 2751، 5188. 5200، 7138) ومسلم (1829) من حديث ابن عمر. (2) كذا في الأصل بالياء والنون، ويصح إذا جعلنا "الخلفاء الراشدين" خبرًا مقدمًا لكان، و"أقطاب" اسمٍا مؤخرًا مرفوعًا. (3) لا يوجد في الأصل، وهو واضح من السياق. (4) سورة النساء: 59.

قد يكون في الزمان رجل هو أفضل أهل الأرض، ولكن ليس فيه ما يقتضي أنه بوجوده يحصل للناس الرزق وينتصرون على الأعداء، مع كونهم معرضين عن الله

والأمراء" (1). وقد يكون في الزمان رجلٌ هو أفضل أهل الأرض، كما قد يكون رجلان وثلاثة وأربعة، ولكن ليس في الوجود/رجلٌ هو أفضل أهل الأرضِ، وفيه ما يَقتضي أنه بوجودِه يَحصُلُ للناسِ الرزقُ، ويَنتَصِرونَ على الأعداء، وتهتدي قلوبهم مع كونهم مُعرِضين عن طاعة الله ورسوله. بل كان نوح أفضلَ أهل الأرضِ، وقد مَكثَ في قومِه ألفَ سنةٍ إلاّ خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وقد قال نوح: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)) (2). لمَّ إنَّ اللهَ أغرقَ أهلَ الأرضِ إلاّ من آمن به. وكذلك غيرُه من الرسل، كهُوْدٍ وصالح وشعيب ولوط وغيرهم. نعم قد يَحصُل بدعائه وعبادته من الخير ويَندفِعُ من الشرِّ ما لا يَحصُل بدون ذلك، كما في قوله: "بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3). وقد قال تعالى لنبيه: (وَمَا كانَ الله ليعَذِبَهُم

_ (1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 96) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 184) من طريق محمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعاً. وهو حديث موضوع، آفته محمد بن زياد، وهو وضاع كذاب. (2) سورة نوح: 5 - 7. (3) جزء من حديث سبق تخريجه.

دعوى الصوفية في القطب والمرتبة القطبية من الغلو الذي يشبه غلو النصارى والرافضة

وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (1) وقال تعالى: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)) (2). يقول: لولا أن تَطَأوا أولئك المؤمنين والمؤمنات الذين لم تعلموهم إذا دخلتم مكة بالسيف، لسلَّطكم على أهل مكة، ولو تميَّز المؤمنون من الكُفار لعذبنا الكفار عذابًا أليما. فهذا ونحوه مما يُوافِق دينَ المسلمين. /وأما ما يدعيه قومٌ في القطب والمرتبة التي يُسَمونها "القطبيّة" و"القُطبانية" فمن الغلوّ الذي يُشبِه غُلُوَّ النصارى والرافضة، كقولِ أحدهم: القطب الغوث الفرد الجامع، وتفسيرهم ذلك بأن مددَ أهلِ الأرض يكون من جهته، وأن الله إذا أنزلَ إلى أهل الأرض خيرًا من هُدىً ورزقٍ ونصرٍ فإنه يُنزِله عليه، ثم منه يَفِيْض إلى سائر الخلق. وقد يدَّعي أحدهم أنه منه مددُ ملائكةِ السماواتِ وطيرِ الهواء وحِيْتَانِ الماء، وأنه يُعطِي الملكَ وولايةَ اللهِ لمن يشاء ويَصرِف ذلك عمن يشاء. ونحو هذه المقالات التي تَجعلُ للقُطب نوعًا من الإلهية والربوبية التي لم تَحصُلْ للأنبياء. وآخرون يجعلون ذلك للغوث، ويجعلون مسمى الغوث أعلى

_ (1) سورة الأنفال: 33. (2) سورة الفتح: 25.

هي من أعظم الكذب والمحال، والشرك والضلال

من مسمى القطب. وآخرون يجمعون بين الاسمين فيقولون: "القطب الغوث"، كما تقدم. فهذا وأمثاله من أعظم الكذب والمحال، ومن أعظم الشرك والضلال، وهو شبيه بالإفك والشرك الذي ذمَّ الله به المشركين وأهل الكتاب. وهو سبحانه كثيرًا ما يجمع بين الكذب والشرك، كقوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (1)، وقول الخليل: (أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) (86) (2)، وفي له تعالى:) (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)) (3). /وما يُنزل الله على قلوب عبادِه من الهُدَى والإيمان هو بمنزلة ما يعطيهم إياه من الرزق، ومَعلوم أن ما يُنزِلُه من المطر ويُنبتُه من النبات لم ينزله قبل ذلك على شخصٍ من البشر، وكذلك ماَ يُغذِّيْ به عبادَه من الطعام والشراب والهواء لم يَتَغذَّ به قبله واحد من الناس، ثم انتقل عنه إلى الناس، وأنه ... (4) من الهدى هم الرسل صلوات الله عليهم، فالرسول يدعو إلى الله ويتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتاب والحكمة، وهو يهديهم بمعنى أنه

_ (1) سورة الحج: 30 - 31. (2) سورة الصافات: 86. (3) سورة القصص: 74 - 75. (4) هنا كلمة لم أستطع قراءتها.

يدعوهم ويُبيِّن لهم، وليس في قدرته أن يجعل الهدى ولا الضلالة في قلب أحد، بل ذلك لا يَقدِرُ عليه إلاّ الله، قال تعالى: (إِنَكَ لَا تَهدِى من أَحببت) (1)، وقال تعالى: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (37)) (2) أي من يضله الله لا يهدَى، كما قال: (مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتَدِ وَمن يُضلِل فَلَن تجدَ لَه وَلِيَّا مرشِدًا (17)) (3)، وقال: (*لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) (4). ولهذا أمر الله عبادَه أن يقولوا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)) (5)، وهذه الهداية المطلوبة من الله، لا يَقدِرُ عليها إلاّ الله. وفي الصحيح (6) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغيب والشهادةِ، أنتَ تَحكمُ بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدِني لما اختُلِفَ فيه من الحقّ بإذْنِك، إنَّك تَهدِي من تَشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ". وقد ثبت في الصحيحين (7) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ به من الهُدَى والعلم كمثلِ غَيْثٍ أصابَ أرضًا، فكانت

_ (1) سورة القصص: 56. (2) سورة النحل: 37. (3) سورة الكهف: 17. (4) سورة البقرة: 272. (5) سورة الفاتحة: 6. (6) مسلم (770) من حديث عائشة. (7) البخاري (79) ومسلم (2282) من حديث أبي موسى الأشعري.

إذا كان الرسول لا يقدر على جعل الضال مهتديا وهو يكلمه ويحرص على هداه، فكيف يجعل شخص آخر يهدي الخلق كلهم، لا سمعوا كلامه ولا رأوه، ولا عرفوه ولا عرفوا ما قال؟

منها طائفة قَبلتِ الماءَ، فأَنْبتتِ الكَلأَ وَالعُشْبَ الكثيرَ، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء فسَقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قِيْعَانٌ/ لا تُمسِك ماءً، ولا تُنبتُ كَلأً. فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في دينِ اللهِ، ونَفَعَه ما بَعثنَي اللهُ به مَن الهدى والعلم، ومَثلُ مَنْ لم يَرْفع بذلك رأسًا، ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرسِلْتُ به". فقد بَيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ مثل ما أرسلَه اللهُ به كالماءِ، والماءُ مختلف باختلاف المحلّ الذي يَصِلُ إليه، فهكذا ما بعثَ الله به رسولَه يَختلِفُ أثرُه باختلاف القلوب التي يَصِلُ إليها، فكما أنَّ الزرعَ يَحصُلُ من الماء ومن التُّربةِ الطيبة، فهكذا الهدى، يَحْصُلُ من هداية الأنبياء ومن القلوب القابلة لذلك. فإذا كان هذا حال الرسل مع من يخاطبه الرسول ويكلِّمه ويَحرِص على هُداه، لا يَقدِر على جعل الضال مهتديًا، فكيف يُجعَل شخص دون الرُّسُل بكثير يَهدي الخَلْقَ كلهم، لا سمعوا كلامَه ولا رأوه، ولا عرفوه ولا عرفوا ما قال؟ وهل هذا إلاّ من جنس قول الرافضة في المنتظَر الذي لم يَسمَعْ له أحدٌ بحِسٍّ ولا بخَبَرٍ، ولا وَقَعَ له على عَيْنٍ ولا أثرٍ. وفي الجملة فما يقوم بقلب الإنسانِ من معرفة الهدى والعلم والإيمان، لا ينتقل عنه ويقوم بغيره، ولكن قد يقومُ بغيرِه (1) إذا علَّمه وخاطبه، مع بقاء الهدى والعلم في قلب الأوّل. ولهذا يُشَبَّه

_ (1) تكررت كلمة "بغيره" في الأصل.

وجه تشبيه العلم بالمصباح

العلمُ بالمصباح الذي يقتبس منه الناس وهو لا ينقص، فإن المقتبس من المصباح يُحدِثُ الله له نارًا في ذُبَالةِ مصباحه من غير أن ينتقل إليه من ذلك المصباح شيء، فهكذا العلم. وقد يُعطي الله رجلاً من العلم والهدى نظيرَ ما أعطى غيرَه بدون تعليم الأول وخطابه. فهذا الغوث القطب/ إذا لم يُعلِّمِ الناس ويُخاطِبْهم كان ما جعله الله في قلوب الناس من الهدى والعلم نظير ما في قَلبه إذا قدر من 0 .. (1)، ولكن لم يكن سببًا في ذلك، فضلاً عن أن يَكون من قلبه فاضَ إلى قلوبهم، لاسيما إذا لم يَرَهُ الناس ولا عَرَفوا ما قال ولَا فعل، فإن الإنسان قد يَرى كيان الرجل وآثاره، أو يرى وجهه وعمله، فيَحصُل له بذلك من الهدى والعلم ما يَسَّرَه الله له، أمّا بدون سمع هذا وبصره لذلك، وبدون خطاب دال له أو لمن يوصل إليه، فكيف يصل إليه منه هُدىً؟ فضلاً عن أن يكون منه يَحصُل هُدى جميع الخلق. فليتدبّر اللبيبُ هذا يتبينْ له أنّ ما وصفوا به قطبَهم وغَوثَهم أمرٌ لا يَقدِرُ عليه الأنبياء في العلو، ومع هذا فمعلِّمو الكتاتيب ومُقَرِئو القرآن ومعلّموهم آدابَ الإسلام أهدى للخلق من هذا القطب الغوث الذي قدروه في الأذهان، ولا حقيقةَ له في الأعيان، كما قدَّر الرافضةُ وعَبَدةُ الصلبان. وإذا كان هذا في الهدى الذي يَحصل

_ (1) هنا كلمة غير واضحة في الأصل.

الرزق- مثل الهدى- لا يتصور أن يخص الله به أحدا، ثم منه يفيض إلى سائر الخلق

بالتعليم والخطاب، فما الظن بالرزق الذي هو أعيان تنتقل من محل إلى محل، أو اغتذاء يقوم بالإنسان لا يتصور أن يقوم بغيره. نعم يمكن أن يَحصُلَ بالدعاء المستجاب للإنسان من الهدى والرزق والنصر ما لا يَحصُل بدون ذلك، كما ذكرناه أولاً في قوله: "وهل تنصرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم". وكذلك توجه القلوب والهمم له من الأمر بحسب ما يقدره الله، وهذا عام الوجود لا يختص/ بشخص معين، ولا يكون الأمر في ذاك عامًّا للخلق. أما وهذا أمر لم يَحصُلْ للأنبياء والمرسلين، فكيف من دونَهم؟ ولا ريبَ أنَ هؤلاء الضالّين الغُلاة من الذين جعلوا بين اللهِ وبينَ خلقِه وسَائطَ جعلوهم له أندادًا وشُرَكاءَ وشفعاءَ، كما فَعَلتْه النصارى بالمسيح وأمِّه والأحبارِ والرهبان. قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (1). ولهذا أمر نبيَّه أن يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)) (2). ودين الله الذي بعث به رُسُلَه وأنزلَ به كُتبه أثبت وساطة الرسل

_ (1) سورة التوبة: 31. (2) سورة آل عمران: 64.

لا شيء من الموجودات يستقل بالتأثير غير الله

بين الله وبين خلقِه، فيُبَلغونهم أمرَه ونهيَه وخبرَه ووعدَه ووعيدَه، ويقطعون وساطة المخلوقات في العبادة والاستعانة والدعاء والتوكل، فلا يُعبَد إلاّ اللهُ، ولا يتوكَّلُ إلاّ عليه، ولا يُدعَى إلاّ هو، فإنه لا ربَّ غيرُه، ولا خالقَ غيرُه، ولا إلهَ سواه. وكل ما خلقَه من الأسباب فإنه موقوف على سبب آخر يَشْرَكه ويُعِينُه، وله مانع يَحجُبه ويُعوقُه، فما من الموجودات شيء يستقل بالتأثير غيرُ الله، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل ما جُعِل سببًا كإحراق النار فلابد له من مُعين، وهو قبولُ المحلّ، وقد يَحصُل مانع كما حصل في نار إبراهيم،/وبهدى الرسل ودعائهم يهتدي الخلق، ولكن هدى الخلق موقوف على قبولهم. وقد يكون القلبُ مائلاً للهدى، لكن يَحصُلُ له مانع يُعَارِضُه، كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون (112)) (1). وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (99)) (2). وقال تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)). وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْر

_ (1) سورة الأنعام: 112. (2) سورة آل عمران: 99. (3) سورة الزخرف: 37.

من عدل عن سبيل المرسلين صار مشركا بالله، وأثبت الوسائط في خلق الله وربوبيته، وجعل له شركاء وشفعاء بغير إذنه

بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (1). ونظائر هذا كثير. فمن عَدَل عن سبيل المرسلين، فلم يتُابِعْهم ويُطِعْ أمرَهم ونهيَهم قَطَعَ ما بينَه وبينَ الله، فصارَ مشركًا بالله يدعو غيرَ الله، إمّا الملائكة وإمّا الكواكب وإمّا الجنّ، وإمّا البشر كالأنبياء والصالحين، وإما صُوَرَ هؤلاء وتماثيلهم، وإمّا ما يظنُّه موجودًا من هؤلاء. ويتخيلُ في هؤلاء من صفات الإلهية ما لا حقيقةَ له، ويثبت الوسائطَ في خلق الله وربوبيته، ويَجعلُ له شُرَكاءَ وشُفَعاءَ بغير إذنه، وهو سبحانه كما قال: (ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2)،/وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (3). والناس في الشفاعة على طرفين ووسط (4): فالمشركون والنصارى ونحوهم أثبتوا شُفَعَاءَ لهم بدون إذنِه، وهذه الشفاعة التي نفاها الله في كتابه، فقال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ

_ (1) سورة الفرقان: 27 - 29. (2) سورة البقرة: 255. (3) سورة سبا: 22 - 23. (4) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (1/ 148 - 151، 116 - 120، 313 - 314).

الخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته، فنفوا الشفاعة بإذن الله وبغير إذنه، وهذا ضلال

الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا (44) (1). وقال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)) (2). وقال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)) (3). وقال تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) (4). وقال تعالى: (قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (5). وقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) (6). /وأما الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل الكبائر من أمته، فنَفَوا الشفاعةَ بإذنِ الله وبغير إذنه، وهؤلاء ضُلاَّل، وإن كان ضلالُ الأولين أعظم، إذ ذلك الضلالُ شِرك بالله، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام. ومع هذا فقد صار كثير من المتأخرين المنتسبين إلى العمل والعبادة، يثبتُ نوعًا من هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، فصاَروا أسوأَ حالاً من الخوارج والمعتزلة من هذه الجهة، كما أن هؤلاء ونحوهم

_ (1) سورة الزمر: 43 - 44. (2) سورة الأنعام: 94. (3) سورة يونس: 18. (4) سورة السجدة: 4. (5) سورة البقرة: 254. (6) سورة البقرة: 48.

موازنة بين هذه الفرق

يثبِتون القدر الذي نفته المعتزلة ونحوُهم من القدرية، فتكون بذلك خيرًا منهم، لكنهم قد يحتجون به على الشرع، بل قد يلاحظونه، ويُعرِضون عن الأمر والنهي، ويجعلونه الحقيقةَ التي تَدفَع مقتضى الشريعة، وهي الحقيقة الكونية، فيصيرون بذلك مُضاهِين للمشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء) (1). ومعلوم أن هؤلاء المشركين شرٌّ ممن جَحَد القدرَ من المعتزلة ونحوهم، فهؤلاء الذين يدفعون الأمر والنهي الشرعيَّيْنِ ناظرينَ إلى الحقيقة الكونية، ويثبتون الشفاعةَ التي أثبتها المشركون والنصارى، شر من الخوارج والمَعتزلة من هذا الوجه ومن هذا الوجه،/ فإنهم جمعوا بين الإشراك والبدع في العبادات وبين الاحتجاج بالقدر. وهذا حال المشركين الذين ذمَّهم الله في كتابه، فإنهم كانوا تارةً يعبدون غيرَ الله، وتارةً يزعمون عبادةً لم يشرعها، ويُحرّمون ما أحلّه، وتارةً يحتجون بالقدر. وقد ذكر الله عنهم في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما فيه عبرة للمعتبرين، فإنه سبحانه قرَّر في سورة الأنعام توحيدَه وعبادتَه وحدَه لا شريكَ له، وأنه هو الذي يُدعَى عند الشدائد، وهو الذي يَكشف الضرّ ويُنزِل الرحمة، كقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) (2). وقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ

_ (1) سورة الأنعام: 148. (2) سورة الأنعام: 40 - 41.

آية (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ….) لم تنزل في أهل الصفة، وكذا آية (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي …)

(وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)) (1). وقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)) (2). وهذه الآية عامَّةٌ في كل من أرادَ الله بعمله. ودعاؤهم بالغداة والعشي يتناول من صلّى صلاةَ الفجر وصلاةَ الظهر والعصر، وليست هذه الآية مختصة بأهل الصفة ولا نزلت فيهم، فإن هذه الآية نزلت بمكة (3). /وِكذلك الآية الأخرى التي في سورة الكهف: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) (4). فإن سورة الكهف مكية أيضًا باتفاق العلماء، والصُّفَّةُ إنما كانت بالمدينة، لم تكن بمكة، ولكن طلبَ

_ (1) سورة الأنعام: 46. (2) سورة الأنعام: 51 - 52. (3) أخرج أحمد في "مسنده" (1/ 420) عن ابن مسعود قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعنده خباب وصهيب وبلال وعمّار، فقالوا: يا محمد! أرضيتَ بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن ... ، وقد ذكر ابن كثير (3/ 260) أنها مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة. وراجع تفسير الطبري (11/ 376) بتحقيق الشيخ محمود شاكر. (4) سورة الكهف: 28.

قومٌ من رؤساءِ المشركين من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يَطْرُد المؤمنين الضعفاءَ والفقراءَ عنه، فأنزل الله هذه الآية (1)، يأمره فيها بأن لا يَطْرُدَ أحدَا لأجل ضعفِه أو فقرِه إذا كان مؤمنًا يُرِيد وجهَ الله، فإنّ الناسَ إنما يُقَرَبُهم إلى الله الإيمانُ والتقوى، لا عِبْرةَ بالغنى ولا بالفَقر. وقد ذكرَ سبحانَه ما يُناسِبُ هذه الآيات في سورةِ الأنعام إلى قوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)) (2). ثمَّ إنه سبحانَه قرَّر في السورة بعد التوحيدِ الرسالةَ والكتابَ المنزل، وذَكَرَ ما ذَكَره من رُسُلِه صلواتُ الله عليهم، وذَكَرَ المعادَ والثوابَ والعقابَ، ثمَّ إنه خَتَمَ السورةَ بذمِّ حالِ المشركين وما حرَّموه وما شَرَعُوه من الدين الذي لم يأذن به الله، فقال: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (3) إلى قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ

_ (1) أخرجه مسلم (2413) من حديث سعد بن أبي وقاص. والاَية مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة. (2) سورة الأنعام: 63 - 64. (3) هذا جزء من الآية 21 من سورة الشورى، ولعل المؤلف يَقصد هنا الآية 138 من سورة الأنعام: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)). فإن الآية التي ذكرها فيما بعد من سورة الأنعام، وهذه السورة هي التي يدور الكلام عليها هنا.

احتجاج المشركين بالقدر ورد الله تعالى عليهم

كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون (148)) (1). فأخبر عن المشركين أنهم احتجوا فيما شرعوه من الدين وحرموه من الأشياء بالقدر، فقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ). قال تعالى: (كذلك كذب الذين من قبلهم) أي كذبوا بأمرِ الله ونهيه وخَبَره الذي بعثَ به رُسُلَه، فإن هذا تكذيبٌ منهم للشرع محتجينَ عليه بَالقدر. ثم قال: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148))، فبيَّن أن الاحتجاجَ بالقدر ليس بدليل على صحة قول المحتج، فإنَ القدرَ مُتناولٌ لكل كائن، فالمحتجُ به لا علْمَ عَنده، إن يَظن إلاّ ظنا، وهو في ذلك من الخَارصين الحازِرين الَكاذبين (2). وفي صحيح مسلم (3) عن عياض بن حمار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أخبر به عن الله أنه قال: "خَلقْتُ عباديَ حُنفاءَ، فاجْتَالتْهم الشياطينُ، وحَرمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرتْهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإنَ رَبي قال لي: قُمْ في قُرَيش فأنَذرهم، فقلتُ: أيْ رَب إذَا يَثْلغُوا رأسي حتى يَجعلوه خُبْزَةً. فقالَ: إني

_ (1) سورة الأنعام: 148 - 149. (2) بعده في الأصل: "وقال في سورة" ولعل المؤلف كان يريد أن يكتب هنا آية، فعدل عنها، وذكر الحديث الآتي. (3) برقم (2865). وأخرجه أيضًا أحمد 4/ 162، 266 وابن ماجه (4179).

* المتكلمون في علوم الحقائق على ثلاث درجات

مُبْتَلِيكَ ومُبْتَلٍ بك، ومُنزِلٌ عليك كتابًا لا يَغسِلُه الماءُ، تَقرأُه نائمًا ويَقظانَ. فابْعَثْ جُندًا أَبعَثْ مثلَهم، وأَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك، وقَاتِلْ بمن أطاعَك من عَصَاك". وهذا الأصل مُبيَنٌ في الكتاب والسنة، فمن شَرَعَ دِينًا لم يَأذنْ به الله، أو احتج بالقدر، وجَعَلَ الحقيقة الكونية معارضةً للأمر والنهي الشرعيين فقد ضَاهَى/ هؤلاء المشركين. ولهذا كان المتكلمون في علوم الحقائق على ثلاثة (1) درجات: إحداها: أهل الحقيقة الدينية الشرعية، الذين يتكلمون في حقائق الإيمان، كالحبّ لله، والتوكل عليه، وإخلاص الدين له، والخوف منه، والرجاء له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمِه، ونحو ذلك من حقائق الدين بما يوافق الكتاب والسنة. فهذا أهل طريق أولياء الله المتقين وحِزْبه المصلحين وعباده الصالحين. والثانية: من خاضَ في حقائق الدين بمجرد ذَوقه ووَجْدِه ورَأْيِه، سواءً وافَقَت الكتابَ والسنةَ أو خالفتْ. فهذا (2) يصيبون تارةً ويُخطِئون تارةً، ويكونون من أهل السنة تارةً ومن أهل البدعة أخرى. الثالثة: من وقف عند الحقيقة الكونية القدرية، ولم يُميِّزْ بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين طاعته ومعصيته، ولا بين ما يُحِبه

_ (1) كذا في الأصل "ثلاثة" بإثبات الهاء. (2) كذا في الأصل بالإفراد، والأولى "فهؤلاء" ليناسب الآتي.

عودة إلى الكلام على القطب، وأن السلف لم يتكلموا به في الرجال، ولم يعبروا به عن أحوال أولياء الله المتقين

ويرضاه وبين سائرِ ما قدَّره وقضاه. فهؤلاء أهلُ ضلالٍ وتعطيلٍ، قد حقَّقُوا التوحيد الذي أقرَّ به المشركون، ولم يدخلوا في توحيد الله ودينه الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون. فإن انتقلوا من ذلك إلى الحلول ووحدةِ الوجود والإلحاد فقد صاروا من أعظم أهلِ الكفر والإلحاد. وهؤلاء فيهم من الإشراك بالله والمخالفة لدينه ما لا يعلمه إلاّ الله، كما قد بَسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع (1). والمقصود هنا الكلام على اسم "القطب" ومسماه،/ وما علمتُ أنَ السلف تكلموا بهذا الاسم في الرجال. (2)، ولا جعلوا اسم القطب مما يُعَثر به عن أحوالِ أولياء الله المتقين. بخلاف اسم "الأبدال"، فإنه نُقِلَ عنهم التكلُّم بذلك في مواضع. وقد تكلم بعض المتأخرين بلفظ "الوتد"، والوتدُ: المُثبتُ لغيره، كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمن ثبتَ اللهُ به الإيمَانَ والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثَبَتَ بدعائِه وعبادتِه نصرُهم ورزقُهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك. وأما قول القائل: "إن على قَدَم كل نبي من الأنبياء وليَّان (3): ولي ظاهر وولي باطن"، فهذا كذب بلا ريب، فإنّ الأنبياء مائة ألفٍ

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى". (2) هنا كلمة مطموسة في الأصل، ولعلها "الصالحين" وما في معناها. (3) كذا في الأصل بالرفع.

نقد هذه المقولة والمراد من الولي الظاهر والباطن

وأربعة وعشرون ألفَ نبي (1)، وأصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين صحبوه أفضلُ الخلق، وما بلغوا هذا العدد، بل مكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى حين الفتح أكثر من عشرين سنة، وما آمن معه إلاّ بضعة عشر ألفًا. ومعلوم أن هؤلاء الأولياء لا يكونون بعد مبعثه في غير أمته، فإذا كانت أمتُه في سنين كثيرة لا تَبلُغ هذا العدد عُلِم قطعًا بطلانُ ذلك. وأيضًا فقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى الأنبياء، النبي يجيء وحده، والنبي يجيء معه الرجل، والنبي يجيء معه الرجلان (2). فإذا كان النبي قد لا يَتَبعُه أحدٌ، أو لا يتبعه إلاّ رجلٌ واحد، فكيف يجب أن يكون له في كَل عصرٍ اثنان على قَدَمِه من أمةِ غيره؟

_ (1) كما في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (361) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني قال حدثنا أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر. قال الهيثمي في "موارد الظمآن" (94): فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، قال أبو حاتم وغيره: كذاب. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 166 - 168) والطبراني قسماً منه في "المعجم الكبير" (1651) من طريق إبراهيم بن هشام به. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 167) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 9) من طريق آخر عن أبي ذر، وفيه يحيى بن سعيد السعيدي، قال العقيلي: لا يتابَع على حديثه، وقال ابن عدي: يعرف بهذا الحديث، وهو منكر من هذا الطريق. وأخرج بعضه أحمد في "مسنده" (5/ 265) من حديث أبي أمامة، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 159): مداره على علي بن زيد، وهو ضعيف. (2) أخرجه البخاري (5705، 5752، 6541) ومسلم (220) من حديث ابن عباس.

إذا كان المقصود من كون الولي على قدم النبي اتباع شريعته، فهذا لا يجوز بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -

وأيضًا فقوله: "وفيٌ باطن ووليٌّ ظاهر" إن أُرِيدَ به وليٌ يعرفه الناس ويظهر لهم ولايتُه، ووليٌ لا يَظهر لهم، فمن المعلوم أن الناس لا يظهر لهم ولايةُ مائة ألف ولا عشرة ألف (1)، ولا يُشهَد بالولاية إلاّ لمن ثبتَ أنه ولي، إما بنصّ أو بما يقوم مقامَه. وإن كان لا يُشْهَد بنَفْيِها، لكن نحن نعلم قطعًا أنه لا يظهر ولاية هذا العدد للناس. وإن أريد بظهوره وجودُه بين الناس وعلمُهم به، فعامَّة الأولياء ظاهرون بهذا الاعتبار، بل ليس من الأولياء من لم يَرَهُ الناس، وإذا قُدر أن فيهم من يَختفِي عن الناس كثيرًا من أوقاته أو أكثرها، فلا بد أن يظهر لبعضهم في بعض الأوقات، ولو أنه ظهرَ/لأبويه ومَن ربَّاه إذا كان صغيرًا. ثم هؤلاء في غاية القلة، وهم من أضعف الأولياء ولاية، بل القرون الفاضلة كان وجود هؤلاء فيها نادرًا أو معدومًا، فإن سكنى البوادي والجبال والغِيْران واعتزال المسلمين من جُمَعِهم وجماعتهم إما أن يكون منهما عنه، وإما أن يكون صاحبُه إذا عُذِر عاجزًا منقوصًا. وأيضا فقول القائل "إنّ الوليّ على قدم النبي" لا يجوز أن يريد به اتباعَ شريعته، فإن بعد مبعث محمد لا يتقبل الله من أحد إلاّ شريعته، ولو كان موسى حيًّا ثم اتبعه متبعٌ وترك شريعةَ محمد كان ضالاً (2)، فلم يبق إلاّ موافقته في بعض أخلاقه وأحواله، كما شبه

_ (1) كذا في الأصل "ألف" بدل "آلاف". (2) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 338، 387) =

الكلام المذكور لا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبَّه عمرَ بنوح وموسى (1)، وحينئذ فيحتاج أن تكون أخلاقُ الأنبياء متفاوتةً هذا التفاوت، وهذا غير معلوم. وأيضا فإنّ غالب الأنبياء لم يُقَصُّوْا على نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم تعرفهم أمتُه، فكيف يكون من أمته مَن هو على قدمِ نبي لا يَعرِفه ولا يعرف قدمَه؟ وأيضًا فهذا كلامٌ لا دليلَ عليه، ولم يَقُلْه من له قولٌ في الأمة، ولو كان مثلُ هذا حقًّا لكان معروفا عند أهل [العلم] (2) والإيمان. فإن مثل هذا لو كان حفًا مما لا يخفى على أهل العلم والإيمان من هذه الأمة، فإذا لم يكن له أصلٌ عندهم عُلِمَ بطلانُه.

_ = والدارمي (441) عن جابر مرفوعًا: (والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حثا أدرك نبوتي لاتبعني". وأخرج أحمد (3/ 470، 4/ 265) نحوه عن عبد الله بن ثابت. (1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1/ 383) والحاكم في المستدرك (3/ 21) من حديث عبد الله بن مسعود. وراجع كتب التفسير في تفسير سورة الأنفال: الآيتين 67 - 68. (2) زيادة يقتضيها السياق، وانظر السطر الذي يليه لتعرف أن الزيادة من أسلوب المؤلف.

قول القائل: الغوث الذي تنتهي إليه حوائج الخلق

فصل وأما قول القائل: "الغوث الذي تنتهي إليه حوائج الخلق"، فحوائجُ الحلق لا تنتهي إلاّ إلى الله، كما قال سبحانه: (وَمَا بِكُم فِن نِعمَهِ فَمِنَ اَللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكمُ اَلضُّرُ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)) (1)، وقال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (2)، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (3). قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والمسيح والعُزَير، فأنزل الله هذه الآية (4). وقال تعالى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (102) (5). وأفضل الخلق: الرسل، والله سبحانه

_ (1) سورة النحل: 53. (2) سورة فاطر: 2. (3) سورة الإسراء: 56 - 57. (4) أخرجه الطبري (15/ 104) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ 2335) عن ابن عباس. (5) سورة الكهف: 102.

أفضل الخلق هم الرسل، ولم يضمنوا للخلق لا رزقا ولا نصرا ولا هدى

بعثَهم مبشرين ومنذرين (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (1)، وجعلهم سُفَراء بينه وبين خلقِه في تبليغ أمره ونهيِه، ووَعْدِه ووعيدِه، وسائرِ كلامِه سبحانه وتعالى. ولم يَضْمَن الرسلُ للخلق لا رزقًا ولا نصرًا ولا هُدىً، بل قال أولُهم نوحٌ: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَك) (2)، وأَمَر خاتَمَهم وأفضلَهم- صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلَّم تسليمًا -أن يقول ذلك، فقال: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء) (3)، وقال له: (إِنَّكَ لَا تهدِى مَن أَحببتَ) (4)، وقال له: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) (5)، وقال له: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)) (6)، وقال: (إنما أنت منذرٌ) (7)، (لست عليهم بمصيطرٍ) (8).

_ (1) سورة النساء: 165. (2) هذه الآية في سورة الأنعام: 50، وليس في سياق قصة نوح. والاَية التي أرادها المؤلف في سورة هود: 31 على لسان نوح: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)، فاشتبهت على المؤلف، وجل من لا يسهو. (3) سورة الأعراف: 188. (4) سورة القصص: 56. (5) سورة آل عمران: 128. (6) سورة الرعد: 40. (7) سورة الرعد: 7. (8) سورة الغاشية: 22.

القائل المذكور إذا قصد به أن ما يحتاج إليه الخلق يحدثه الله بواسطته فقد جعل بين الله وبين خلقه ربا متوسطا

/فقول القائل: "إن حوائج الخلق تنتهي إليه"، إن أراد به ما يحتاج إليه الخلق من الرزق والهدى والرزق (1) يُحدِثُه الله بواسطته، فقد جعل بين الله [و] (2) بين خلقه ربًّا متوسطًا، كما يزعمه المتفلسفة في العقل الفعال، وهو كفر صريح بإجماع أهل الملل. ثم إنه من أظهر الكذب، فإن أفضل الخلق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده أولو العزم كإبراهيم وموسى وعيسى، ونحن نعلم قطعًا أن عامة ما كان الله يُحدِثُه في زمانهم لم يكونوا متسببين فيه، ولا كانوا يعلمون به، وقد قال الخضر لموسى لمّا نَقَر العصْفورُ في البحر: "ما نَقَصَ علمي وعلمك من علم الله إلاّ كما نَقَصَ هذا العصفور من هذا البحر" (3) فإذا كان هذا في العلم الذي لا تأثير معه، فكيف بالتأثير في الملك. ومن قال: إن طير الهواء وحيتان البحر ووحوش الفلا والكفّار الذين بأرض الهند والأجنَّة في بطون الأرحام تجري منافعهم ومصالحهم على يد رجلٍ من البشر، فقد قال نظيرَ ما يقوله النصارى في المسيح، وكان قوله من أعظم الكذب القبيح (4).

_ (1) كذا وردت "كلمة" الرزق مرة ثانية في الأصل. (2) زيادة لا توجد في الأصل. (3) أخرجه البخاري (122، 3401. 4725، 4727) ومسلم (2380) من حديث أبي بن كعب. (4) بعده في الأصل: "ثم إن"، ثم بياض في باقي الصفحة بقدر ستة أسطر، وكأن المؤلف أراد أن يكتب شيئًا، ثم عدل عنه.

قولهم إن الغوث يطلع على أسرار قلوب العباد، أظهر في الكفر والفساد، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خفيت عليه أشياء

/وإن قال: إن أهل الأرض إذا احتاجوا إلى شئ دَعَا اللهَ فيُعطِيه بدعائه، كان هذا من نمط الذي قبله، فإنه قد عُلِم أن الله يُجِيب دعوةَ المضطر إذا دعاه وإن كان كافرًا، فإذا كان المشركون يدعون الله بلا واسطة فيُجيب دعاءَهم، فالمسلمون الذين هم عبادُه أولى. وقد يَدعو اللهَ بدعاَءٍ لم يعلم به أحد من البشر. فإن قيل: ذلك الغوثُ يطلع على أسرار قلوب العباد. كان هذا القول أظهرَ في الكفر والفساد، فسَيِّدُ ولدِ آدم يُظهِرُه على شئ ويُجيب عليه أشياءَ. وقد قال له: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (1). وقال: (قُل َلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (2). وقد رُمِيَتْ أم المؤمنين بالإفك وأُخفِيَ عنه أمرُها مدَّةً، لِما كان في ذلك له من المحنة، تعظيمًا لأجرِه ورفعًا لدرجته. وكذلك لما جاء قوم زكَوْا بني أبَيْرق الذين كانوا قد سرقوا طعامَ جارهم ودِرْعَه، ظَن صدْقَ المزكِّين ودفع عن المتَهمِين، حتى أنزل الله تَعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) (3) الآيات.

_ (1) سورة التوبة: 101. (2) سورة الأنعام: 50. (3) سورة النساء: 105. وسبب نزولها الذي أشار إليه المؤلف، أخرجه الترمذي (3036) والحاكم في "المستدرك" (4/ 385 - 388) من حديث قتادة بن النعمان. وانظر تفسير الطبري (5/ 165 وما بعدها) وتفسير ابن أبي حاتم=

مازال الخلق يحتاجون إلى الله ويضطرون إلى دعائه، وهو يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم، من غير أن يرفعوا أمرهم إلى واسطة بينهم وبين الله

وفي الصحيح (1) عنه أنه قال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ". وفي لفظ: "فأحسبه صادقًا. فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعةً من النار". ولما رآهم يُلقحون النخل [قال]: "ما أظنُّه يُغني شيئًا"، فتركوه، فصار شِيْصًا، فقال: "إنما أخبرتكم عن ظنّي، فلا تؤاخذوني بالظنّ، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلق أكذب على الله" (2). وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإليَّ " (3). ومثل هذا كثير، فإذا كان هذا أفضل الخلق وأعلمهم فكيف يجوز أن يقال في غيره إنه يعلم جميع أسرار من يحتاج إلى الله؟ /ثم قد عُلِم بالقرآن والتواتر والتجارب أن الخلق مازالوا يحتاجون إلى الله، ويضطرُّون إلى دعائه، إما في إعطائهم ما ينفعهم، كإنزال المطر، وإثبات النبات، وغفران الذنوب، والإعانة على الطاعات؛ وإما في دفع ما يكرهون، مثل دفع الأعداء وتفريج

_ = (4/ 1059 - 1060) و"الدر المنثور" (2/ 670). (1) أخرجه البخاري (2458، 2680، 6967، 7169، 7181، 7185) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة. (2) أخرجه مسلم (2361) من حديث طلحة بن عبيد الله، ورواه أيضًا أحمد (1/ 162، 163) وابن ماجه (2470). والشيص: هو البُسر الرديء الذي إذا يبس صار حشفا. (3) أخرجه مسلم (2363) من حديث عائشة.

مازال الناس يجدبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوث لا ينفع ولا يدفع

الكربات، وهو يجيب دعاءَهم ويُعطيهم سُؤْلَهم تحقيقًا لقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)) (1) من غير أن يرفعوا أمرهم إلى واسطة بينهم وبين الله. وأيضًا فمازال الناسِ يُجْدِبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوثُ لا ينفع ولا يَدفع، فيا ليتَ شعري ماذا هي الحوائج التي يقضيها؟ أهي التي سألوا الله فيها؟ فالله مجيبُ المضطر إذا دعاه، وهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، أم التي لم تُقضَ بعدُ لأحدٍ فيها؟ أم النعم التي ابتدأهم الله بها من غير سؤالهم؟ فهو سبحانَه يَرزُق الكفار ويمنعهم، بل وينصرهم إذا شاء، كما نصرهم يومَ احد، (لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)) (2). فإن كان هذا الغوثُ ساعيًا في ذلك كان عاصيًا لله ورسوله، محاربًا لله ورسوله، فإن من حارب الله ورسولَه وعباده المؤمنين كان من أعداء الله لا من أولياء الله. وما يرويه أهل الكذب والضلال من أن أهل الصفة قاتلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لما انهزم أصحابه يوم حنين أو غير يوم حنين، وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه، من أعظم الكذب الموضوع (3) /وأعظم الكفر بالله

_ (1) سورة البقرة: 186 (2) سورة آل عمران: 140 - 141. (3) ذكر المؤلف في "مجموع الفتاوى" (11/ 47 - 49) هذه الرواية، وبين كذبها=

مقصود هذا القائل تحقيق توحيد المشركين

ورسوله، وهذا يقوله من ينظر إلى مجرد ما يقدره الله ويقضيه، ويشهد الحقيقة الكونية، مُعرِضًا عمّا يحبُّه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه، وبَعثَ به رسلَه وأنزلَ به كُتبَه. ومن طَرَدَ هذا القولَ كان أكفرَ من اليهود والنصارى، فإنّ أولئك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضٍ، وصاحبُ هذا المشهد لا يؤمن بشيء من الكتاب، وغايتُه في شهودِه تحقيقُ توحيد المشركين كأبي لهب وأبي جهل وأمثالهما من الكفار، فإنّ أولئك كانوا يُقِرُّون بأن الله رب كل شيء وخالقُه، كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَلَئِن سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّمَاواَتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَ اَللهُ) (1). فمن جَعَل غايةَ تحقيقِه في توحيده أن يشهد ذاك، كان منتهاه هذا الإشراك. والله سبحانَه بَعث الرسلَ بتوحيد الإلهية، وهو أن لا يعبد إلاّ الله، ولا يخاف إلاّ إياه، ولا يتوكل إلاّ عليه، ويخلص له الدين، ويطيع رسلَه ويتبعهم، ويحبّ ما أحبّ ويُبغِض ما أبغض، ويوالي من والَى ويعادي مَن عادى، ويأمر بما أمر وينهى عما نهى، حتى يكون الدين كله له، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) (2)، وقال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً

_ = وبطلانها، وحكم على من يقول بها أنه ضال غاو، بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلاّ قُتِل. (1) سورة لقمان: 25، وسورة الزمر: 38. (2) سورة الأنبياء: 25.

من جعل الأنبياء وغيرهم وسائط بين الخلق وبين الله في الإعطاء والمنع والضر والنفع، فهو كافر

يُعْبَدُونَ (45)) (1)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت) (2)،/وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون) (3). فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر، فكيف بغيرهم؟ وقد قال عن النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون (31) (4). ومعلوم أن النصارى لم تجعل الأحبار والرهبان شركاءَ لله في خلق السماوات والأرض، ولا جعلتِ النبيين كذلك، بل جَعَلَتْهم وسائطَ بينهم وبين الله في الإعطاء والمنع والضر والنفع، وأعطوهم من الدعاء والطاعة ما لا يستحقه إلاّ الله، وظنوا أنهم يشفعون لهم عند الله كما يشفع المخلوقُ عند ملوك الدنيا، يشفع عنده من يَعِزّ عليه ومن يحتاج إليه، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعالِه ولا أحكامِه، ولا شيء من دونه سبحانه وتعالى، فهو الذي يأذن للشفيع فيشفع، وهو الذي يقبل شفاعته، فالأمر منه وإليه، لا

_ (1) سورة الزخرف: 45. (2) سورة النحل: 36. (3) سورة آل عمران: 79 - 80. (4) سورة التوبة: 31.

(6) النجباء: لا يعرف هذا اللفظ في كلام أحد من السلف، وإنما تكلم به بعض المتأخرين

خالق غيره ولا ربَّ سواه، فلا يُرجَى غيرُه، والشفاعة من جملة الأسباب التي قدَّرها وقضاها، يفعل بها كما يفعل بسائرِ ما يُقدِّرهُ من الأسباب. وأما لفظ "النجباء" فهذا لا يُعرَف في كلام أحد من السلف من أقسام عباد الله الصالحين وأولياء الله المتقين، وإنما تكلم به بعض الشيوخ المتأخرين.

فصل

/فصل وأما قول القائل: "إن النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق" ونحو هذا الكلام، فهذا الكلام على الإطلاق باطلٌ قطعًا، فإن هذه الأمصار كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله، ولما صارت دارَ إسلام صار فيها من أولياء الله المتقين بحسب ما في أَهلِها من الإيمان والتقوى، ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال. ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلاّ بالشام فقد أخطأ، فإن خيارَ هذه الأمةِ من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة النبوية، ولما فُتِحت الأمصار كان في كل مصرٍ من خِيار المسلمين من لا يُحصِيه إلاّ الله. وقد جاء في فضائل الشام وأهلِه أحاديث معروفة (1) لم يَجئْ مثلُها في العراق وغيره من الأمصار، مثل قوله في الحدَيث الصحيح: "إن ملائكة (2) الرحمن باسطة أجنحتها على الشام" (3).

_ (1) انظر "فضائل الشام ودمشق" للربعي، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (الجزء الأول) و"فضائل الشام" لابن رجب وغيرها. وراجع "مجموع الفتاوى" (27/ 505 - 511). (2) في الأصل "أجنحة"، وهو سبق قلم، والتصويب من مصادر التخريج الآتية. (3) أخرجه أحمد (5/ 184) والترمذي (3954) والحاكم في "المستدرك" (2/ 229) من حديث زيد بن ثابت. قال الترمذي: حسن، وصححه الحاكم والمنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 63) والألباني في تخريج أحاديث=

معنى أهل الغرب في الحديث

وقوله: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" (1). وفي القرآن أربع آيات تدل على حصولِ البركة في الشام (2). ومثل قوله لعبد الله بن حوالةَ لما قال: "إنكم ستُجَندونَ أجنادًا مُجندةً جندًا بالشام وجندًا باليمن وجندًا بالعراق"، فقال عبد الله بن حوالة: يا رسول الله! اخترْ ليْ، فقال: "عليك بالشام، فإنها خِيرَة الله من أرضه، يَجتبي إليها خِيرَتَه من عبادِه، فمن أبي فليَلْحَقْ بيمنِه، وليسق من غدُرِه، فإن الله قد تكفلَ لي بالشام وأهلِه". رواه أبو داود وغيره (3). وفي "صحيح مسلم" وغيره عنه أنه قال:"لا يزال أهل الغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة" (4). قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام./وهذا الذي قاله ـــــــــــــــ = فضائل الشام" (ص 11). (1) أخرجه البخاري (1037، 7094) من حديث ابن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 90، 118) والترمذي (3953). (2) هي خمس آيات في سورة الأعراف: 137؛ وسورة الإسراء: 1؛ وسورة الأنبياء: 71، 81؛ وسورة سبأ: 18. وانظر "مجموع الفتاوى" (27/ 506). (3) أخرجه أبو داود (2483) وأحمد (4/ 110) من طريق أبي قتيلة عن ابن حوالة، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/ 33) والحاكم في "المستدرك" (4/ 510) من طريق مكحول عن ابن حوالة بنحوه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وللحديث طرق أخرى في "تاريخ دمشق" (1/ 56 - 81). وذكرها الألباني في "تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق" (ص 12 - 13) وتكلم عليها. (4) أخرجه مسلم (1925) وأبو يعلى في "مسنده" (783) وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 95 - 96) من حديث سعد بن أبي وقاص.

حديث لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم الأبدال ... ، روي عن علي بإسناد منقطع

أحمد هو معروف عند السلف، كانوا يسمون أهل الشام وما يغرب عنها أهل الغرب (1)، ويسمون أهل نجد والعراق وما يشرق عن ذلك أهل الشرق. فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بالمدينة النبوية، فما يغرب عنها فهو غرب، وما يشرق عنها فهو شرق. وقد جاء في بعض الآثار أنَّ أكثر الأبدال بالشام (2). فأما الحديث المأثور "لا تسبُّوا أهل الشام فإن فيهم الأبدالَ، أربعين رجلاً، كلّما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلا"، فهذا يُروى عن علي بن أبي طالب بإسنادٍ منقطع، وهو في "المسند" (3) وغيره، وهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، وهو لم يسمعه منهم، وإنما بلغه عن علي بلاغًا، فلم يضبط له لفظه. وإذا كان الأبدالُ الأربعون أفضلَ الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، فإن الأمة في زمن علي كانوا ثلاثة أصناف: صنفٌ قاتلوا معه، كعمار وسهل بن حُنَيف وأمثالهم، فهؤلاء مع

_ (1) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (7/ 446، 27/ 41، 507, 28/ 552,531). (2) أخرج الربعي في "فضائل الشام ودمشق" (ص 44) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/ 286) من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: "ستكون دمشق في آخر الزمان أكثر المدن أهلاَ، وهي تكون لأهلها معقلاً، وأكثر أبدالاً .... ". قال الألباني في "تخريج أحاديث فضائل الشام" (ص 40): حديث منكر، تفرد بروايته محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الغساني. (3) 1/ 112.

علي بن أبي طالب لم يكن بالشام مثلُهم، بل علي ومن معه أولى بالحق من معاوية ومن معه من الشاميين، كما في الصحيحين (1) عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تمرق مارقة على حينِ فرقةٍ من المسلمين يَقتلهم أولى الطائفتين بالحق"، وفي لفظ: "أدناهما إلى الحق". فهذا حديث صحيح صريح بأن عليًّا وطائفته أولى بالحق من الطائفة الأخرى معاوية وطائفته. /والصنف الثاني من المؤمنين من لم يقاتل، لا مع علي ولا معاوية، كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مَسْلَمة وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأمثالهم، فهؤلاء أيضًا أفضل من أهل الشام، وقد كان في لفيف أهل الشام من هو أفضل من كثير من أهل العراق والحجاز. أما من لم يشهد القتال مع معاوية فإن في الشاميين من لم يقاتل معه كأبي أمامة الباهلي وغيره. وأما من كان في عسكره فقد كان في عسكره أيضًا قوم صالحون لهم اجتهاد وحسن مقصد، وبكل حال فلا يَعتقد مسلم أن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وسهل بن حنيف ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين الذين يشهدُ الكتاب والسنة بفضلهم على من بعدهم، كان

_ (1) أخرجه مسلم (1065) فقط. ورواه أيضًا أحمد (3/ 25، 32، 45، 48، 64، 79، 97) وأبو داود (4667).

الذين نطقوا بلفظ الأبدال كانوا يجعلون من الأبدال من ليس بالشام

الأبدال الأربعون الذين هم أفضل الأمة خارجين عنهم في حياتهم. فهذا الأصل المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع لا يعارضه خبر واحد رواه الثقات، بل يُنسبون في ذلك إلى الغلط، فكيف بحديث منقطع فيه من الريبة ما لا يخفَى. /ومما يبين ذلك أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون من الأبدال من ليس بالشام، كما في حكاية أن مالك ابن دينار ومحمد بن واسع وغيرهما من الأبدال (1)، وفي حديث مَعْدان الذي سأل الثوري عن قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ) (2) فقال: بعلمِه (3)، قالوا: وكان معدان من الأبدال. ومثل هذا كثير في كلامهم. وأما لفظ "النقباء" و"النجباء" في أولياء الله، فقد تقدم أنه ليس لذلك أصل في كلام السلف.

_ (1) رواها أبو نعيم في "الحلية لما (3/ 114) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 301). (2) سورة المجادلة: 7. (3) أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (ص 72) والآجري في "الشريعة" (ص 289) واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (3/ 401)، وأورده ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 127) والذهبي في "العلو" (كما في "مختصره" ص 139). وكلهم ذكروا قول الثوري في تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (سورة الحديد:4).

فصل

فصل وأما قول القائل: "إن الشدَّةَ إذا نَزلتْ بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يَرفعُ بصرَه حتى تنفرج تلك النازلةُ"، فهذا من أعظم البهتان من وجوه: أحدها: أن هذا الغوثَ المدَّعَى ليس بأعظم من الرُسلِ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم. وهؤلاء سادةُ الخلائق، يُجيبُ الله من دعائهم ما لا يجيب من دعاء غيرهم، وهم الذين تُطَلَبُ منهم الشفاعةُ يومَ القيامة، حتى يُنتَهى إلى خاتم الرُسُل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمدٍ، عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: "فيأتوني، فأذهبُ إلى ربي، فإذا رأيتُه خَرَرْتُ ساجدَا، فأحمدُ ربي بمحامدَ يَفتحُها عليَّ لا أُحسِنُها الآن، فيقول: أَيْ محمد, ارفَعْ رأسَك، وقُلْ تُسمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ". قال: "فأرفع رأسي فأقول أمتي أمتي، فيَحُذُ لي حَدًّا يدخلهم الجنة ... " الحديث بطوله (1). وأحاديث الشفاعة من أصح الأحاديث وأشهرها. فهذا سيد الخلائق وصاحب المقام المحمود لا يَبْتَدِئُ

_ (1) أخرجه البخاري (4476، 6565، 7410، 7440) ومسلم (193) من حديث أنس بن مالك.

بالشفاعة بل بالسجود والثناء،/حتى يؤذن له بالشفاعة فيشفع ثم يشفع. أما في الدنيا ففي الصحيح (1) عنه قال: "سألت ربّي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومَنَعَني واحدةً، سألتُه أن لا يُسلِّط على أمتي عدوًّا من غيرهم فيَجْتَاحهم، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلِك بسَنَةٍ عامّةٍ، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يجعل بأسَهم بينهم، فمنعنيها". وفي الصحيح (2) أنه قال لِعَمِّه: لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) (3). وقد صلى على عبد الله بن أُبَى ودعا له (4)، حتى أنزل الله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (5). وقال له: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (6).

_ (1) مسلم (2890) من حديث سعد بن أبي وقاص. ورواه أيضًا أحمد (1/ 175 ,181). (2) أخرجه البخاري (1360، 3884، 4675، 4772) ومسلم (24) من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه. (3) سورة التوبة: 113. (4) أخرجه البخاري (1269، 4670، 4672، 5796) ومسلم (2400، 2774) من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري (1366، 4371) من حديث عمر بن الخطاب. (5) سورة التوبة: 84. (6) سورة المنافقين: 6.

الأنبياء كانوا يجتهدون في الدعاء، فكيف يكون غيرهم لا يرفع بصره حتى تدفع النوازل؟

وثانيه في الفضيلة الخليلُ، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) أنه خير البرية، وهو أفضل الرسل بعد محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِ، وقد استغفر لأبيه بقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (2)، ومع هذا فآزرُ في جهنم. وقد اعتذر الله عن إبراهيم من استغفاره له (3). وأيضًا فقد قال تعالى: (ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود (76)) (4). وأيضًا فالأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يجتهدون في الدعاء، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِ يدعو في مقاماتٍ معروفةٍ، ففي يوم بدرٍ كان يناشد ربَّه ويجتهد في الدعاء حتى أتته البشرى بنزول الملائكة (5)؛ وفي الاستسقاء اجتهد في الدعاء (6)، تارةً في المسجد وتارةً في ــــــــــــ (1) مسلم (2369) عن أنس. وأخرجه أيضًا أحمد (3/ 178، 184) وأبو داود (4782) وا لتر مذي (3352). (2) سورة إبراهيم: 41 (3) في سورة التوبة: 114 (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم (114)) (4) سورة هود: 74 - 76. (5) أخرجه البخاري (2915، 3953، 4875، 4877) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (1763) عن عمر بن الخطاب. (6) وردت أحاديث عديدة في الاستسقاء، منها حديث عبد الله بن زيد الذي أخرجه البخاري (1023 - 1025) ومسلم (894)، وفيه ذكر الدعاء قبل الصلاة. وحديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري (933، 1013، 1019، 1021) ومسلم (897)، وفيه ذكر الدعاء في خطبة الجمعة.

نزل بهذه الأمة من الشدائد ما لا يحصيه إلا الله، واتصل بعضها مدة، فأين كان هذا الغوث؟

الصحراء، حتى نزل الغيث. فإذا كانت الشدة لم تزلْ إلاّ بعد اجتهادهم/في الدعاء في هذه المواطن، فكيف يكون غيرهم لا يرفع بَصَرَه حتى تُدْفَع النوازلُ؟ ثم إن الأمة قد نزل بها من الشدائد ما لا يحصيه إلاّ الله، واتصل بعضُها مدَّةً، فأين كان هذا الغوث؟ وحدَّثوني عن الشيخ عبد الواحد بن القصَّار- وكان من الشيوخ العارفين- أنه في اليوم الذي أُخِذَتْ فيه بغداد، كُشِفَ له عن ذلك والسيفُ يعمل في أهلها، فجعل يقول: أين القطب، أين الغوث؟ هذا السيف يعمل في أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأيضًا فكل مسلم يعلم من نفسه أن هذه الشدائد العامة لم يتركها هو وأصحابه لشخصٍ معين، بل دعوا الله سبحانه كما يدعونه عند الاستسقاء، وكما يدعونه عند الاستنصار على الأعداء، لا أحد يرفع أمره إلى غير الله، الفهم إلاّ ما يقوله بعض الناس لبعضٍ كما جرت به العادة، فمَنِ الأدنى الذي يرفع هذه الأمور إلى الأعلى؟ وأيضًا فقد أخبر الله عن المشركين أنهم يدعونه إذا مسَّهم الضرُّ مخلصين له الدين, فيُجيبهم، قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)) (1). وقال تعانى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ

_ (1) سورة الإسراء: 67.

إذا كان الله يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، فكيف يحوج عباده المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه؟

مَا كَانُوا يَعْمَلُون (12)) (1). وقال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)) (2). ونظائره في القرآن كثيرة. وقد قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) (3)، فهو سبحانه قريب مجيب. وفي الصحيحين (4) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: "إنكم لا تَدْعُون أصمَ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنقِ راحلته". وقد قال الخليل: (إِنَّ ربّىِ لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)) (5)، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنون في الصلاة: "سمع الله لمن حمده". فإذا كان هو سبحانه سميعَ الدعاء، مجيبًا لدعوة عِباده، قريبًا منهم، يُجيبُ الكفّار إذا دَعَوهُ مضطرين، فكيف يُحْوِجُ عبادَه المؤمنين إلى وسَائط في رفع حوائجهم إليه كما يفعله الملوك؟ وهو سبحانه يُكلِّم عبادَه يوم القيامة ليس بينه وبينهم حاجب

_ (1) سورة يونس: 12. (2) سورة العنكبوت: 65 - 66. (3) سورة البقرة: 186. (4) البخاري (2992، 4202، 6384، 6409, 6610, 7386) ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري. (5) سورة إبراهيم: 39.

إذا كان العبد يناجي ربه ويخاطبه، والله يسمع كلامه ويجيب دعاءه، فأين حاجته إلى الوسائط؟

ولا ترجمان، كما في الصحيح (1) عن عديّ بن حاتم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما منكم من أحدِ إلاّ سيكلّمه ربُّه ليس بينه وبينه حاجبٌ ولا ترجمان، فينظُرُ أَيْمَنَ منه فلا يَرَى إلاّ شيئًا قدَّمَه، ويَنظُر أشأمَ منه فلا يَرَى إلاّ شيئًا قدَّمَه، ويَنظُر أمامَه فتَستقبلُه النار، فمن استطاعَ منكم أن يتقي النارَ ولو بشِقِّ تمرة فليفعل، َ فإن لم يستطع فبكلمةٍ طيّبة". والمصلِّي يقول في الصلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) (2). وفي الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن المصلّي يناجي ربه"، وقال (4): "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قِبَلَ وجهِه، فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهِه". فإذا كان العبد يناجي ربَّه ويخاطبه، والله يَسمعُ كلامَه ويجيب دعاءَه، فأين حاجتُه إلى الوسائط التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ /التي يعلم كل عاقلٍ من أهل الإيمان أنها من تأويل أهل الشرك والبهتان. وشواهد هذه الأصول كثيرة، قد بُسِطَتْ في غير هذا الموضع. والكتاب والسنة مملوءٌ (5) بما يُناقِضُ دعوى هؤلاء المفترين.

_ (1) البخاري (6539، 7512) ومسلم (1016). (2) سورة الفاتحة: 5. (3) البخاري (405، 413، 417، 531، 1214) ومسلم (551) من حديث أنس بن مالك. (4) أخرجه البخاري (406، 753، 6111) ومسلم (547) عن ابن عمر. (5) كذا في الأصل بالإفراد، كأن الكتاب مع السنة شيء واحد.

هي شعبة من شعب دين النصارى

وهذا كلُّه- الذي عليه هُمْ- شعبةٌ قوية من شعب دين النصارى، الذين (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون (31) (1). وقد أمرنا الله أن نقول في صلوِاتنا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين (7)) (2) قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالّون" (3). فاليهود شبَّهوا الخالق بخلْقِه، فوصفوه بصفات النقص والعيب، كالفقر والبخل واللُّغوب. والنصارى شبَّهوا المخلوق بالخالق، فوصفوه بصفات الإلهيّة التي لا يستحقها إلاّ الله، حتى أشركوا بالله ما لم يُنزِّل به سلطانًا. ولهذا قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (17)) (4). وقال تعالى: (الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ

_ (1) سورة التوبة: 31. (2) سورة الفاتحة: 6 - 7. (3) أخرجه أحمد (4/ 378) والترمذي (2953، 2954) من حديث عدي بن حاتم، ضمن حديث طويل. قال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 142): وقد روي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. (4) سورة المائدة: 17.

حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مواد الشرك قولا وعملا

الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (75)) (1). /وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". وقد حَسَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موادَّ الشركِ قولاً وعملاً، حتى قال: "لا يَقولنَّ أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثمَِّ شاء محمد" (3). وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غضَبُ الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد" (4). وقال: "لَعَنَ الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يُحذر ما فعلوا (5). وقال قبلَ أن يموتَ بخمس: "إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون

_ (1) سورة المائدة: 75. (2) البخاري (3445) مختصرًا و (6830) مطولاً من حديث ابن عباس عن عمر ابن الخطاب. (3) أخرجه أحمد (5/ 72، 398) والدارمي (2702) وابن ماجه (2118) من حديث طفيل بن سخبرة، وأخرجه أحمد (5/ 384، 394، 398) وأبو داود (4980) من طريق عبد الله بن يسار عن حذيفة بن اليمان. وأخرجه أحمد (5/ 393) وابن ماجه (2118) من طريق ربعي بن حراش عن حذيفة به نحوه. (4) أخرجه أحمد (2/ 246) والحميدي (1525) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 283، 7/ 317) بإسناد صحيح عن أبي هريرة. (5) أخرجه البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس.

لم يأمر الله مخلوقا أن يسال مخلوقا وإن كان بدأ باسمه بالسؤال

القبور مساجد، إلاّ فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (1). ونَهى عن الصلاة عند طلوعِ الشمس وعند غروبها (2). والله سبحانَه لم يأمر مخلوقًا أن يسأل مخلوقًا وإن كان بدأ باسمه بالسؤال أحدًا، فلم يأمره به، بل قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) (3). وقال لابن عباس: "إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله" (4). وفي الصحيح (5) عنه أنه قال في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا يَسْترقون ولا يَكْتَوون ولا يَتطَيرون، وعلى ربهم يتوكلون". فجعل من فضائلهم أنهم لا يطلبون من غيرهم رُقْيَةً وإن كانت الرقيةُ دعاء. فهذا وصفُ خواصِّ عبادِ الله. وهذا باب واسعٌ، قد بُسِطَ في غير هذا الموضع (6).

_ (1) أخرجه مسلم (532) من حديث جندب بن عبد الله البجلي. (2) أخرجه البخاري (586، 1197، 1864، 1992، 1995) ومسلم (827) عن أبي سعيد الخدري. (3) سورة الشرح: 7 - 8. (4) أخرجه أحمد (1/ 293، 307) والترمذي (2516) من طريق حنش الصنعاني عن ابن عباس. وللحديث طرق أخرى كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة. (5) البخاري (5705، 5752، 6472، 6541) ومسلم (225) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (218) عن عمران بن حصين. (6) كتب بعده في الأصل: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية"، ثم شطب عليه، وواصل الكتابة فيما بعد.

ما يراد من المشايخ الصالحين ما يراد من الأنبياء والمرسلين

/وغاية ما يُرَاد بالمشايخ الصالحين ما يُراد من الأنبياء والمرسلين، والمراد منهم تبليغ رِسالاتِ الله وهدايةُ عباد الله، والدعوة إلى الله، هذا هو المقصود الأعظم. ولهم أيضًا من الدعاء لعباد الله والشفاعة لهم ما هو من الأمور المطلوبة، لكن الأمر كله لله، وقد جَعَلَ اللهُ لكل شيء قدرًا. ودعاء الله من الأنبياء والمؤمنين للعبد هو من نِعَم الله عليه، وأسعدُ الناس بذلك أعظمُ إخلاصًا لله وتوكُلاً عليه، كما في الصحيح (1) أَنَّ أبا هريرة قال: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أَسْعَدُ بشفاعتِكَ؟ قال: "لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ قبلَكَ، أسعدُ الناسِ بشفاعتي مَن قال لا إله إلاّ الله يَبتغي بها وجهَ الله". فالعبدُ مأمورٌ أن لا يتوكَّلَ إلاّ على الله، ولا يَرغب إلاّ إليه، ولا يخاف إلاّ إياه، ولا يعمل إلاّ له. والله يُيَسِّر له من الأسباب ما لم يكن له في حساب، فإنه سبحانه يتولى الصالحين، وهو كافٍ عبدَه، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)) (2) أي حسبُك وحسبُ مَن اتبعك من المؤمنين الله، فهو وحدَه كافٍ عبادَه لا يحتاج إلى ظهير ولا شريك. قال تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ

_ (1) البخاري (99، 6570). (2) سورة الأنفال: 46.

الذُّلِّ) (1). فإن المخلوق ذليل يتولى من يتولاه لِذُلِّه، فإنه إن لم يكن له مَن يُعِينه وينصره/عَجَزَ وذَلَّ، وقَهَرَهُ عَدُوُّه. والله تعالى لا يُوالِي عبادَه من الذُّلّ، بل برحمتِه وفضلِه وجُودِه وإحسانِه، وهو الغني عن كلِّ ما سِواهُ، وكل ما سواه فقير إليه، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) (2). قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (3). وقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)) (4). وقال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) (5). وهذا كثير في كتاب الله، والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية

_ (1) سورة الإسراء: 111. (2) سورة الرحمن: 29. (3) سورة سبأ: 22 - 23. (4) سورة الأنبياء: 26 - 28. (5) سورة مريم: 93 - 95.

قاعدة في الاستحسان

قاعدة في الاستحسان

مقدمة التحقيق

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فبين أيدينا كتاب مهتم من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث من مباحث أصول الفقه، وهو الاستحسان، حرَّر القول فيه وأجاد، وبيّن وجه الخلاف بين القائلين به والمانعين منه، ودرس تلك المسائل التي يذكر العلماء أنها استحسان على خلاف القياس، بطريقةِ لم يُسبَق إليها. وقد كنتُ عثرت على نسخة من هذا الكتاب ضمن مجموعة سيأتي وصفها، وتأمَّلْتُ فيها فرأيت أنها بخط شيخ الإسلام ومسوّدته، بدلالة الشطب على كثير من الكلمات والعبارات والإلحاق في مواضع عديدة، وهي خالية من النقط تقريباً. وبدأت في قراءتها ونسخها، وكنت أقف على بعض الكلمات، وأقلّبها على وجوهها، حتى أصل إلى وجه الصواب فيها. أخذ مني النسخ والقراءة وقتاً طويلاً، لأني قمتُ بنسخها في فترات مختلفة، كنت أنسخ جزءاً منها وأنصرف عنها لمدة طويلة أو قصيرة، لصعوبة الاستمرار فيها، وكثرة تلك الكلمات التي لا أهتدي لصوابها، حتى عثرتُ على بعض النصوصِ المقتبسة من هذا الكتاب

عند ابن القيم في "بدائع الفوائد"، والتي حلت لي بعض الإشكالات، ورجعت إلى كتاب "العدّة" لأبي يعلى الذي نقل منه المؤلف نصوصاً عديدة، وقرأت مبحث الاستحسان في معظم كتب الأصول عند الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية، وأخيراً فتّشتُ عن الموضوعات التي تناولها شيخ الإسلام هنا بالبحث والدراسة في كتبه ورسائله وفتاواه، فوجدتُ ما يُشبهها أحياناً بالنصّ والعبارة في مواضع عديدة، وقد ساعدني هذا كثيراً في فكّ الرموز والاهتداء إلى الصواب في كثير من الكلمات والعبارات التي كانت غامضة ومبهمة. واستقام ليَ النصُ تقريباً بعدَما كلَّفَني عَرَقَ القِرْبَة، وأحببتُ نشْرَه كما هو بدون تعليق أو تخريج أو توثيق، كما نُشِرتْ رسائله وفتاواه في "مجموع الفتاوى". ثمّ عَدَلتُ عن هذا الرأي، لأن نشر الكتاب بهذا الشكل يحول دون فهم كثير من المسائل الواردة فيه، والوصول إلى حقيقتها. وقد كان الغرض من كتابة التعليقات على الكتب في تراثنا الإسلامي الإشارة إلى ما في الأصل من خطأ أو صواب، وضبط المشكل من الأسماء والألفاظ، وشرح الغريب والحُوشِيّ منها، وإيضاح الغامض والمبهم من العبارات ليساعد ذلك على فهم النص. يقول ابن جماعة فى تذكرة السامع والمتكلم (ص 186، 191): "ولا يكتب إلاّ الفوائد المهمّة المتعلقة بذلك الكتاب، مثل تنبيه على إشكال أو احتراز أو رمز أو خطأ ونحو ذلك، ولا يسوّده بنقل المسائل والفروع الغريبة، ولا يُكثِر الحواشي كثرةً تُظلِم الكتابَ أو تُضِيع مواضعَها على طالبها".

أ- عنوان الكتاب

فاتبعت هذا المنهج الوسط في تعليقي، ووضعتُ نُصْبَ عيني أموراً: منها توثيق ما نقله المؤلف من الأحاديث والآثار والمذاهب والنصوص، والإشارة إلى آرائه في كتبه ورسائله وفتاواه في الموضوعات التي بحث فيها هنا، وشرح الغريب وتوضيح الغامض من الكلمات، والإشارة إلى ما في الأصل من العبارات التي قد تُشكِل أو تُستَغْرَب، ومحاولة توجيهها. وهذه فصول تتعلق بالكتاب جعلتُها مدخلاً إلى قراءة النصّ ودراسته، ليكون القارئ على بصيرة منه قبل الشروع فيه. • عنوان الكتاب لم يَرِدْ ذكر عنوان الكتاب بخط المؤلف في النسخة الفريدة التي وصلتنا، وقد كتب أحد المفهرسين أو القرّاء في أعلى الصفحة الأولى منها: "في الاستحسان والقياس" استنباطاً ممّا كتبه المؤلف في أوله بعد الخطبة: "فصل في الاستحسان القياس وموضع الاستحسان هل يقـ وتخصيص العلة ... ". ولكنه لم يلاحظ أن المؤلف شطب على العبارة التي تحتها خطّ، فكان ينبغي للشخص المذكور أن لا يذكر "والقياس" في العنوان الذي اجتهد في استنباطه. والكتاب لا يبحث إلاّ في موضوع الاستحسان، ولم يذكر من مباحث القياس إلاّ ما يتعلق بتخصيص العلة، ومسألة القياس على المخصوص من جملة القياس، وللمؤلف كتاب مستقل في معنى القياس. والذي بين أيدينا أفرده لبيان معنى الاستحسان وحقيقة

الخلاف فيه. ولم يكن من عادة المؤلف أن يسمي كتبه ورسائله ويختار لها عناوين مناسبة في مقدماتها كما يفعله عامة المؤلفين المتأخرين، بل كان يبدأ في الكتابة في موضوع معين بعد البسملة أو الحمدلة بقوله: "فصل في ... " أو "قاعدة في ... "، وأحيانا يدخل في الموضوع مباشرة، أو يذكر سبب التأليف، دون أن يختار عنواناً محدداً له. وعندما يحيل في مصنفاته إلى كتبه ورسائله الأخرى يشير إلى موضوعها، أو يكتفي بقوله: "كما بُسِط ذلك في موضع آخر" ونحوه. وأكثر مؤلفاته ورسائله التي وصلت إلينا اختير لها عناوين في حياته أو بعد وفاته من قبل تلاميذه وأصحابه الذين قاموا بنسخها وتبييضها ونشرها، وعلى رأسهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيِّق (ت 749) كاتب مصنفات شيخ الإسلام، الذي كان أبصر بخط الشيخ منه، وإذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه (1).

_ (1) ترجمته في: ذيل مشتبه النسبة لابن رافع 27 وتبصير المنتبه لابن حجر 2/ 605، 606 وتاريخ ابن قاضي شهبة 2: 1/ 655، 656 والبداية والنهاية 14/ 229 وفيه "عبد الله بن رشيق"، وهو وهم أو خطأ مطبعي، وتبعه الزركلي في الأعلام 4/ 86، مع أن في الأعلام نفسه 1/ 144 صورة خط ابن رشيق هذا، وفيه اسمه الكامل كما ذكرت المصادر الأخرى، وكذا عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية 27 والذهبي في المشتبه 317.

وهذا أحد أسباب اختلاف العناوين لمؤلفات شيخ الإسلام، فكتابٌ واحد يذكره المترجمون له بعناوين مختلفة، وتصلنا نسخه الخطية بأسماء غريبة يستنبطها الناسخ أو القارئ أو المفهرس، ويغترّ بها الباحثون فيعدّونها كتبا مستقلة. وجُل من صنع من المُحْدَثين فهرساً لمؤلفات الشيخ في دراسات مفردة أو مقدمات التحقيق لكتب الشيخ وقع في هذا الوهم. وعذرهم في ذلك أنهم في أغلب، الأحيان لم يطلعوا على هذه النسخ، ولم يقوموا بالمقارنة بينها، حتى يصلوا إلى حقيقتها، وإنما نظروا في فهارس المخطوطات التي تذكر هذه العناوين المختلفة، فظنوها كتباً مختلفة. والواجب على من يريد معرفة العنوان الصحيح أو الأقرب إلى الصواب لكتاب من كتب شيخ الإسلام أن يرجع إلى القوائم الأساسية لمؤلفاته التي أعدَّها تلاميذ الشيخ وأصحابه. وأكثرها جمعاً واستيعاباً ثلاث قوائم عملها ابنُ رُشَيِّق المذكور، وابن عبد الهادي (ت 744)، والصفدي (ت 764). أمّا ابن رُشَيق فله "رسالة في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" نشِرت منسوبةً لابن القيم (ت 751) (1) بالاعتماد على نسخة خطية منها توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق. وقد عثرتُ على نسخة أخرى منها، وهي وإن كانت ناقصة إلاّ أن فيها زياداتٍ على المطبوعة، وتحتوي على نصوصٍ اقتبسها ابن عبد الهادي في العقود

_ (1) بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/ 1953/371 - 395. ثم صدرت لها طبعات مستقلة.

الدرّية (ص 27 - 28) وصرَّح بنسبتها إلى ابن رشيق، وأشار إلى القائمة التي صنعها. وكشفت المقابلة بين المخطوطة الثانية وبين المطبوعة عن أمر مهمّ آخر، وهو أن ناسخ النسخة التي كان عليها الاعتماد في النشر (وهو الشيخ جميل العظم) تصرف في إثبات العناوين تصرفاً عجيباً، حيث اختصرها وهذبها وجعلها على نمط واحدٍ، وقدم وأخّر، وحذف ما لم ير فيه فائدة، وهذا نموذج من المخطوطة الثانية والمطبوعة يظهر به الفرق بينهما: المخطوطة المطبوعة سورة اقرأ باسم ربك 84 - تفسير سورة اقرأ باسم ربك. * فسَّرها وبيَّن أنها أول سورة أنزلت وبيَّن أنها تضمنت أصول الدين، في مجلد لطيف. قل هو الله أحد 89 - تفسير سورة الإخلاص في مجلد. * فسَّرها في مجلد * وتكلم في مجلد لطيف على كونها

تعدل ثلث القرآن، وتفضيل القرآن بعضه على بعض. * وله قواعد في التفسير مجملة، تكلم فيها على المصنفات وعلى المفسرين، وما هو متصل وغير متصل، ومن يعتمد عليه ومن لا يعتمد عليه، رأيت منها نحو مجلد كبير. * وكتب قاعدة كبيرة في هذا المعنى * وله جواب في تفسير البغوي والقرطبي والزمخشري أيها أفضل؟ * وله قاعدة في فضائل القرآن. 90 - قاعدة في فضائل القرآن. ولعلّ الشيخ جميل العظم أرَاد تهذيب العناوين والأسماء من أجل كتابه الذي ألّفه بعنوان "عقود الجوهر في تراجم من له خمسون تصنيفًا فمائة فأكثر"، ولو أنه حافظ على الأصل كما هو ولم يتصرف فيه لكان أجدى وأنفع وأوثق وأدقّ في وصف الكتب والدلالة على ما أراد المؤلف بيانه.

هذا ما ٍيتعلق بالقائمة التي أعذها ابن رُشَيق، والتي نُسبت إلى ابن القيم خٍطأ، فأوقعت جمهرةً من الباحثين والدارسين والمحققين في الوهم خلال خمسة وأربعين عاماً. أما ابن عبد الهادي فذكر قائمة من مؤلفات الشيخ في العقود الدرية (ص 26 - 64) وقال في آخرها: "وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا. وأبين ما صنَّفه منها بمصر، وما ألَّفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن. وأرتّبه ترتيبا حسناً غير هذا الترتيب، بعون الله تعالى وقوته ومشيئته". ولا ندري هل وجد ابن عبد الهادي فرصة لصنع هذا الفهرس أم لا؟ ورتَّب الصفدي قائمة مؤلفات الشيخ على الموضوعات في ترجمته في "الوافي بالوفيات" و"أعيان العصر"، واعتمد عليه ابن شاكر الكتبي (ت 764) في ترجمة الشيخ في "فوات الوفيات". هذه القوائم الأساسية إذا اتفقت على عنوان الكتاب فلا يُعدَل عنه إلى غيره مما هو مثبت على مخطوطاته المختلفة إلاّ إذا كان ذلك العنوان بخط المؤلف نفسه، فيرجَّح على غيره. أما إذا اختلفت في ذكر العنوان فيكون الترجيح للاسم الذي يكون مطابقاً لإحدى النسخ الخطية القديمة التي وصلتنا. لننتقل الآن إلى الكتاب الذي بين أيدينا، ولنبحث عن عنوانه الصحيح بعدما رأينا أن المفهرس أو أحد القراء وقع في الخطأ

عندما أثبت عنوانه "في الاستحسان والقياس"، وبيّنا سبب وقوعه في الخطأ. وإذا رجعنا إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها وجدنا أن ابن رشيق لم يُشِر إلى هذا الكتاب، أو بعبارةٍ أدق: لم نجد ذكره في النسخة المهذّبة المختصرة المنشورة من الكتاب، ولعلّه ذكره في الأصل الذي لم يصل إلينا إلاّ نصفُه تقريباً بصورته الأصلية. أما الصفدي فذكر هذا الكتاب بعنوان "قاعدة في الاستحسان" في الوافي بالوفيات (7/ 27) وأعيان العصر (1/ 35 أ [عاطف أفندي 1809]) وتبعه ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات (1/ 78)، وعن ابن شاكر نقل محمود شكري الآلوسي في غاية الأماني في الردّ على النبهاني (1/ 384)، وكلهم ذكروا الكتاب ضمن المؤلفات في أصول الفقه. ووجدت عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 45) كتاباً بعنوان "قاعدة في الإحسان"، وربّما يكون "الإحسان" تصحيفاً عن "الاستحسان"، فقد جاء ذكره في سياق كتب الفقه والأصول، وسبق أن ذكر (ص 48) "قاعدة في الإيمان المقرون بالإحسان، وفي الإحسان المقرون بالإسلام" فلا وجه لتكراره إلاّ أنني رجعت إلى طبعات أخرى لكتاب العقود الدرّية، فوجدتُ جميعها تتفق على إثبات العنوان المذكور، فترددتُ في القول بوقوع التصحيف فيه. ولم أجد الآن نسخاً خطية من الكتاب لأحقق هذا الأمر. ولم أجد من ذكر هذا العنوان غير المؤلفين الثلاثة (إذا استثنينا ابن عبد الهادي)، وهو العنوان الموافق لمضمون الكتاب الذي بين

ب- توثيق نسبته إلى المؤلف

أيدينا، فلم أعدِلْ عنه إلى غيره. وأثبتُّه على الغلاف، وإن كانت نسخة المؤلف خالية منه، لما ذكرتُ من أن هذا العنوان وُضِع من قبل أحد تلاميذ الشيخ وأصحابه، فيرجح على ما يستنبطه أحد المفهرسين أو القراء. • توثيق نسبته إلى المؤلف قرّرنا فيما سبق أن لشيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً بعنوان "قاعدة في الاستحسان"، إلاّ أن هذا لا يكفي لصحة نسبة الكتاب الذي بين أيدينا إليه ما لم تكن هناك أذلة أخرى مقنعة تؤكد ذلك، وبعد الدراسة المتأنية له والرجوع إلى بعض المصادر يظهر لنا جليًّا أنه من تأليف شيخ الإسلام، وأنه الكتاب الذي أشار إليه المترجمون له. أما أنه من تأليفه فأكبر دليل على ذلك أنه مسوّدة كتبها بخطه، كما هو واضح لكل من اطلع على شيء من مؤلفاته بخطه المعروف والموصوف بالسرعة وكونه في غاية التعليق والإغلاق (1)، حتى أن كثيرا من أصحابه عجزوا عن نقله، وكان هذا أحد أسباب ضياع كثير من مؤلفاته. يقول ابن عبد الهادي: "كان كثيرا ما يقول: قد كتبت في كذا وفي كذا، ويُسأل عن الشيء فيقول: قد كتبتُ في هذا فلا يُدرَى أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: رُدُّوا خطي وأَظْهِروه لِيُنْقَلَ، فمن حرصهم عليه لا يردُّونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب،

_ (1) تتمة المختصر لابن الوردي 2/ 408.

ولا يعرف اسمه" (1). والكتاب الذي بين أيدينا نموذج من هذا الخط الدقيق، ولعلّه بقي عند بعض أصحابه، ولم تُنسخ منه نسخ، ولا انتشر ذكره مثل بقية مؤلفاته المشهورة، فلم نجد له ذكراً في فهارس المخطوطات، بل المكتبة التي تحتفظ بهذا المخطوط الفريد لا يُوجد في فهارسها ذكرُه، ولذا بقي مجهولاً لدى الباحثين إلى يومنا هذا. ومما يدكُ على أنه لشيخ الإسلام أن في الكتاب إشارة إلى كتاباته الأخرى في موضعين: 1 - بعدما قرَّر أن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال، قال: "وهذا هو الصواب، كما قد بسطناه في مصنَّفٍ مفرد، بمناسبة أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلاً" (ص 197 - 198). يشير هنا إلى رسالته في معنى القياس، وهي من مؤلفاته المطبوعة والثابتة النسبة له (2). 2 - قال: "وقد بّينّا في غير هذا الموضع أنّ الأحكام كلّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلّها معلّلة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضًا متناولة لجميع الأحكام " (ص 206 - 207). يشير هنا إلى " قاعدة في شمول النصوص للأحكام"، حيث أطال الكلام في هذا الموضوع، وقرَّر أن النصوص وافية

_ (1) العقود الدرية 65. (2) انظر تعليقي على الموضع المذكور.

بجمهور الأحكام، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. وهذه القاعدة مذكورة ضمن مؤلفات الشيخ في "العقود الدرية" (ص 45). وفي الكتاب موضوعات عديدة بحث فيها شيخ الإسلام في كتبه ورسائله الأخرى، وتكلم عليها بنحو الكلام الذي نجده هنا، ورجّح ما رجَّحه هنا، وهذا التوافق لا يدع مجالاً للشك في أن الكتاب للمؤلف نفسه. والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد أشرت في تعليقي إلى هذه المواضع. وهذه نماذج منها: الموضوع - الكتاب - مجموع الفتاوى قياس المشركين 53 ,20/ 539 ,540 و 19/ 287 إذا صلى الإمام قاعداً كيف يفعل المأمومون 54 - 55 ,23/ 249 و 405 ,406 الكلام على من يجعل إجارة الظئر على خلاف القياس 61 ,20/ 531 ,532 و 30/ 197 - 200 الكلام على من يجعل الإجارة والقراض على خلاف القياس 61, 20/ 514, 515 الكلام على خبر المصرّاة 67, 20/ 556 - 558 الكلام على من جعل حمل العاقلة على خلاف القياس 67, 20/ 552 - 554 العلّة نوعان: تامّة ومقتضية

أولاً 69 - 70, 20/ 167, 168 و 21/ 356, 357 هل العقوبة المالية منسوخة؟ 73, 28/ 111 وما بعدها تضعيف الغرم على مَن دُرِئَ عنه القطعُ 73, 28/ 113, 118 - 119, 333 نهي الإمام أحمد عن التأويل والقياس 74, 7/ 392 معنى "المجمل" في كلام الأئمة 74, 7/ 391 محلّ سجود السهو عند الإمام أحمد 75 - 76, 23/ 17 وما بعدها نفي كون علّة الربا هي الوزن 78, 29/ 471 القياس الصحيح والقياس الفاسد 79, 19/ 285 - 288 هل يقاس على المعدول به عن سَنن القياس؟ 82 - 83, 20/ 555, 556 القصر في السفر الطويل والقصير 87, 24/ 34 - 35, 12 - 13, 15 منع قصر المكيين مخالف للسنّة 87, 20/ 361 - 362, 24/ 10 - 11, 26/ 130

مناقشة أدلة القائلين بالتيمم لكل صلاة 94 - 96, 21/ 354 - 361, 435 - 438 معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أصليتَ بأصحابك وأنت جنب؟ " 96 - 97, 21/ 404 - 405 المضارب إذا خالف: ماذا يستحق؟ 97 - 99, 30/ 85 - 86, 91, 28/ 84 - 85 تصرّف الفضولي 99, 20/ 577 القول بوقف المعقود 101, 20/ 579 - 580, 29/ 249 السنة في اللقطة 101, 20/ 577, 29/ 250 أثر عمر بن الخطاب في المضارب واختلاف العلماء في المسألة 102, 30/ 87, 323, 329 تصرّف الغاصب 102, 20/ 562 - 563 من غصب أرضا فزرعها فالزرع لرب الأرض وعليه النفقة، مناقشة من قال: إنه على خلاف القياس 104 - 105, 29/ 124 شراء المصحف واستبداله 106, 31/ 212 - 213 بيع الأرض الخراجية، الرد على من منع منه لأنها وقف 107 - 109, 29/ 206 - 209, 28/ 588 - 589, 31/ 230 -

جـ- تاريخ تأليفه

231، 17/ 488 - 489 قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر 109 - 110, 15/ 299 قبول شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال 111, 15/ 299 من نذر ذبح نفسه أو ولده ماذا عليه؟ 112 - 113, 35/ 343 - 345 وأخيراً فإن ما نقله ابن القيم في "بدائع الفوائد" (4/ 124 - 126) من هذا الكتاب يعتبر دليلاً قاطعا على صحة نسبته إلى شيخ الإسلام، وهو وإن لم يصرّح بعنوان الكتاب فانه ينقل النصوص منه بقوله: "ونازعهم شيخنا ... " و"قال شيخنا". وهي متطابقة تماماً مع النصوص الموجودة في الكتاب (ص 166 - 183) وقد علَّق ابن القيم على هذه المقتبسات أحيانا، وميَّز تعليقاته بقوله "قلت". واختصر بعض النصوص، وحذف بعض الكلام، فلم ينقل منه إلاّ ما يدلّ على المقصود. ولاحظت في مطبوعته تصحيفات في مواضع ينبغي أن تصحح بعد المقابلة مع هذا الأصل المنقول منه. • تاريخ تأليفه لا نستطيع أن نحدّد في ضوء المعلومات التي لدينا متى ألّف شيخ الإسلام هذا الكتاب، فلم تسعفنا المصادر بشيء يفيدنا في هذا الباب، ولا تحمل النسخة أيّ إشارة إلى التاريخ الذي فرغ فيه المؤلف من تأليفه. أما الموضوعات المشتركة التي بحث عنها هنا وفي رسائله

وكتبه الأخرى فلا يمكن استنباط التقدم والتأخّر في ضوئها، لأنّ المؤلف كثيراً ما يكرّر فكرة معينة في مؤلفاته وفتاواه، فلو استطعنا معرفة تواريخ بعضها فهذه لا تُرشدنا إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب، وهل كان ذلك قبلها أو بعدها. ولكني أكاد أجزم بأنه ألَّفه في أواخر حياته، وبالتحديد بعد سنة 712. والدليل على ذلك أن المؤلف أحال فيه (ص 197) إلى رسالته في معنى القياس، وهي عبارة عن جواب سؤال سُئِل فيه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس. وكان السائل مجهولاً (1) حتى وجدت في إعلام الموقعين (1/ 383) أن ابن القيم هو الذي كان وجَّه هذا السؤال إلى شيخه، كما ذكر ذلك بنفسه. ولشدّة إعجابه بهذا الجواب أورد معظمه في كتابه المذكور (1/ 384 - 401 ثم 2/ 3 - 38) مع التعليق عليه في مواضع. وتفيدنا بعض المصادر (2) أن ابن القيِّم لازم شيخه ستة عشر عاماً (أي 712 - 728) حتى رافقه في سجنه في آخر حياته. وعلى هذا فيكون كتابه في معنى القياس من مؤلفات هذه الفترة قطعاً، ويكون الكتاب الذي بين أيدينا قد ألف بعده. وهذا يناسب ما ذكره بعضهم (3) من أن شيخ الإسلام بعد رجوعه من مصر إلى الشام سنة 712 تفرغ للتأليف وكتابة الرسائل والأعمال العلمية الأخرى،

_ (1) في مجموع الفتاوى 20/ 504 وغيره بصيغة "سُئِل شيخ الإسلام ... ". (2) الدرر الكامنة 3/ 401. (3) البداية والنهاية 14/ 67 والعقود الدرية 321.

د- سبب تأليفه

وكانت من أخصب فترات عمره التي ألف فيها كثيرا. من كتبه. • سبب تأليفه أشار المؤلف في مقدمة الكتاب إلى سبب تأليفه، فذكر أن المؤلفين في الأصول خاضوا في مباحث الاستحسان وتخصيص العلّة، والقياس على موضع الاستحسان وادعوا في بعض الأحكام التي ثبتت بالنصّ والإجماع أنها مخالفة للقياس، واضطربوا فيها غاية الاضطراب. وكانت الحاجة ماسة إلى تحقيق القول فيها، لأنّ كثيرا من مسائل الشريعة أصولها وفروعها لها علاقة بهذه الموضوعات. وهذا ما دعا المؤلف إلى الكتابة في هذا الباب وتحرير الكلام فيه، وبيان وجه الخلاف بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وأن الخلاف بين الفريقين حقيقي، وليس لفظيًّا كما ذكره عامّة الأصوليين. ويبدو لي أنه عندما وجد أبا يعلى وأبا الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهم من الأصوليين الحنابلة سايروا الحنفية في القول بالاستحسان وتعريفه بأنه مخالفة القياس لدليل، ونصّوا على أنه مذهب الإمام أحمد، ونقلوا عنه مسائل قال فيها بالاستحسان-: أراد أن يبيّن وجه الحق والصواب في هذه القضية، وأن الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث لم يقولوا بالاستحسان الذي قال به الحنفية، وأن هناك خلافاً منهجيا كبيراً بين الفريقين في هذا الباب، وأن المسائل الاستحسانية التي نقلت عن الإمام أحمد ليست مخالفة للقياس، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال.

هـ- منهج المؤلف فيه

هذه الأمور وغيرها كانت تحتاج إلى البسط والتفصيل والحجاج والمناقشة، فنشط لها المؤلف، وألّف هذا الكتاب الذي أتى فيه بنظرات جديدة حول الموضوع، وتناوله بطريقةٍ لم يُسْبَق إليها. • منهج المؤلف فيه للمؤلف منهج متميّز لا يحيد عنه في جميع مؤلفاته، فهو يعتمد على الكتاب والسنة وأقوال السلف في الكلام على أي مسألة، سواء كانت في العقيدة أو الأصول أو المصطلح أو التفسير أو الفقه أو غيرها، وينقل المذاهب والآراء من المصادر المعتمدة لدى أصحابها، ولا ينسب إليهم إلاّ ما يقولون به ملتزماً الأمانة العلمية في ذلك. ثم يُعلّق على كلامهم ويناقشهم بالحجج والبراهين، ويبين وجه خطئهم، ومدى قربهم أو بعدهم من منهج السلف. ويحرّر القول في المسألة تحريراً بالغاً، ويردّ على جميع الشُبَه والاعتراضات التي قد ينخدع بها العامة والخاصة، ويستطرد أحياناً إلى موضوعات أخرى يأتي فيها بفوائد علمية جليلة. كل ذلك بأسلوب سهلٍ ميسَّر يجري كالماء سلاسةً وعذوبة، يكاد يفهمه الجميع: المتعلم منهم وغير المتعلم. وقد انتقد المؤلف الأسجاع والزخارف اللفظية التي يلجأ إليها عامة الكتاب والأدباء، فقال: "وأما تكلف الأسجاع والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما تكلفه متأخرو الشعراء والخطباء والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء منهم، ولا كان ذلك مما يهتمّ به العرب، وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني،

ومصادره

كالمجاهد الذي يزخرف السّلاح وهو جبان" (1). فهو ينزّه أسلوبه عن الزخارف والأسجاع والتعقيدات اللفظية والمعنوية، ويكتب بأسلوب سلس فصيح يُعبِّر بوضوح عن المعاني والأفكار التي يرمي إليها، ولا يُبقِي أيّ غموض أو إبهام فيها. هذه ملامح عامة من منهجه وأسلوبه في الكتابة، نجدها بارزةً في هذا الكتاب أيضًا مثل بقية مؤلفاته، فهو ينقل أولاً عن الأصوليين ما قالوه في هذا الباب، ثم يعلق على كلامهم ويناقشهم، ويبيّن وجه الخطأ والصواب عندهم، ويحرّر المسألة تحريراً بالغاً بأسلوبه الذي عرفناه، مستنداً في كل ذلك إلى الكتاب والسنّة وأقوال السلف الصالح، كما سنرى ذلك فيما بعد إن شاء الله. • مصادره إن أهمّ مصدرٍ رجع إليه المؤلف عند كتابته في هذا الموضوع: كتاب "العدَّة" لأبي يعلى، فقد نقل عنه نصوصا عديدة في مواضع مختلفة، وصرَّح فيها باسم أبي يعلى أو لقّبه بالقاضي، وكان اعتماده عليه دون غيره من كتب الأصول لأنه من أجمعها عند الحنابلة، وكلُّ من جاء بعده مثل الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما اعتمدوا عليه في مؤلفاتهم، ولذا أحال إليه المؤلف ونقل عنه نصوصا في مبحث الاستحسان (ص 167، 175 - 176)، ومبحث تخصيص العلة (ص 180 - 182) ومبحث القياس على المخصوص من القياس (ص 198 - 200، ـــــــــــــــ (1) منهاج السنة النبوية 4/ 158، 159 (ط. بولاق).

200 - 201، 202 - 203، 204). وهي عند أبي يعلى في العدّة (5/ 1605 و 1607 - 4/ 1386 - 1388, 1394, 1397 - 1401, 1402, 1403, 1408). وكذلك ما يتعلق باستحسانات الإمام أحمد بن حنبل برواية صالح والميموني والمَزُوْذِيّ وبكر بن محمد (ص 172 - 174) يبدو أنه منقول عن العدة (5/ 1604 - 1605) أيضًا. وكذا ما ذكره عن الإمام أحمد برواية [أحمد بن] الحسين بن حسّان، وما ذكره عن ابن شاقلا في "شرح الخِرَقي "، وما ذكره عن أبي الحسن الخرزي في "جزء فيه مسائل من الأصول" (ص 181 - 182) -: كله بواسطة كتاب "العدّة" (4/ 1386 - 1387). وهناك مؤلفون آخرون في الأصول أشار إلى آرائهم وإن لم يقتبس نصوص كلامهم، وهم: - أبو الخطّاب الكلوذاني (ص 174، 180، 182)، وآراؤه المشار إليها في كتابه "التمهيد" (4/ 92، 69). - ابن عَقيل) ص 174، 180، 184)، وآراؤه المذكورة في كتابه "الواضح " (1/ 144 أ، 144 ب، 145 أ). - أبو الحسين البصري (ص 178)، كلامه في كتابه "المعتمد" (2/ 839). - الجصّاص الرازيّ (ص 178)، قوله في كتابه "الفصول في الأصول" (ق 297 أ- ب). - أبو حامد المروزيّ وأبو الطيب الطبري (ص 184) كلاهما

ز- تحليل مباحث الكتاب ورأي المؤلف في الاستحسان

من أئمة الشافعية، لا أدري هل ذكر المؤلف رأيهما بالاعتماد على كتبهما أو بواسطة مصدر آخر؟ أما المسائل الفقهية فلا يذكر المؤلف مصادره فيها غالباً؟ لأنه كان حافظاً لها. وقد صرح بالنقل عن مختصر الخرقي (ص 215، 216) في موضعين فقط. وكذلك الأمر بشأن الأحاديث والآثار، فإنها كانت على طرف لسانه، حتى قيل: "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث " (1). وفي موضع واحد فقط قال بعد إيراد حديث: "رواه البخاري " (ص 225). وأشار في موضع إلى كتب الإمام مالك وأصحابه، بشأن ورود لفظ الاستحسان فيها (ص 165)، كما أشار إلى كلام الشافعي في إبطال الاستحسان (ص 166). هذه بعض المصادر التي نقل عنها أو أشار إليها، وسنرى فيما بعد أنه لم يقتصر على النقل والاقتباس، بل علَّق على كلّ نصّ بما يُؤيِّده أو يُفنِّده مع ذكر الدليل على ذلك. • تحليل مباحث الكتاب ورأي المؤلف في الاستحسان خصّص المؤلف هذا الكتاب لدراسة مبحث الاستحسان، فبيَّن معناه، وذكر اختلاف العلماء فيه، وفضَل القول في تحرير محل النزاع بينهم، وذكر أنواع الاستحسان عند القائلين به، وهل الاستحسان تخصيص العلة أم لا؟ ودرس تلك المسائل التي يقال إنها استحسان

_ (1) العقود الدرية 25.

على خلاف القياس، وبيّن وجهَ ذم بعض الأئمة له تارةً والقول به أخرى، وجاء فيه بتحقيقات من عنده، ونظرات في هذا الموضوع لم يُسبَق إليها. وقبل أن نقوم بتحليل هذه المباحث ودراسة آراء المؤلف فيها، ينبغي الإشارة إلى أن بعض الباحثين لم يتعرضوا لموضوع الاستحسان عند شيخ الإسلام (1)، بسبب عدم عثورهم على هذا الكتاب، وحاول آخرون أن يجمعوا نتفاً من كلامه من كتبه ورسائله، ومنهم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي توصل بعد دراستها إلى أن شيخ الإسلام جعل الاستحسان قسمين (2): 1 - الاستحسان بمجرد الرأي، وهذا يَرُده، ويعتبر القول به شرعاً في الدين بما لم يأذن به الله، ويعتبر كل استحسان خالف النصَّ بالرأي استحسانا باطلاً لا يجوز القول به ولا اعتباره. 2 - الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وهذا القسم يقول به ابن تيمية. واستند في ذلك إلى قوله: "فنجد القائلين بالاستحسان الذين تركوا القياس لنمن خيراً من الذين طردو القياس وتركوا النص" (3).

_ (1) الدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور في رسالة الدكتوراه التي قُدِّمت إلى كلية الشريعة بجامعة الأزهر سنة 1396، وطبعت بعنوان "أصول الفقه وابن تيمية" (القاهرة 1400). (2) انظر: أصول مذهب الإمام أحمد 512 - 513 (الرياض 1397). (3) مجموع الفتاوى 4/ 46.

وأنه رُوي عن أحمد مسائل قال فيها بالاستحسان، ونقل جملة من تفسيرات الاستحسان، وذكر أن مردّ القول به إلى ترجيح أحد الدليلين على الآخر. ولم يعترض على شيء من ذلك حيث قال بعد نقل كلام الحلواني: "وهذا الكلام منه يقتضي أن الاستحسان ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وهذا معنى قول القاضي. ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن، وإنما يكون في شيئين حسنين، وإنما يوصف القول بالحسن إذا جاز العمل به لو لم يعارض" (1). أما الأستاذ حمزة زهير حافظ فأشار أوّلاً إلى ذكر شيخ الإسلام لأمثلة الاستحسان التي وردت عن الإمام أحمد، ونسبة القول به إلى أصحاب أبي حنيفة، وإنكار الشافعي له، وعقّب عليه بقوله: "ولم يبين مقصد الشافعي من إنكاره" (2). ثم نقل عن المسودة كلام الحلواني السابق وتعليق شيخ الإسلام عليه، وقال: "كلام ابن تيمية هنا ينبّهنا على نقطة مهمة، وهي: أن تركنا للقياس في مواضع معينة لا يعني القدح في هذا الأصل الشرعي، بل إن القياس في المسألة التي تركناه فيها دليل قويٌ في نفسه، لولا أن جاء دليل أقوى منه، فقدمناه عليه. وهذا لا يقدح مطلقاً فيه. بل إن ابن تيمية أشار إلى أن اتباع القياس حسن، ولذلك وصف الدليل

_ (1) المسودة 451 - 454. (2) الاستحسان بين المثبتين والنافين: 112 (رسالة ماجستير قدّمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة).

المعارض الذي يكون أقوى منه وصفه بأنه حسن" (1). ثم تعرّض لموضوع: هل الاستحسان من باب تخصيص العلة أم لا؟ ونقل عن المسوَّدة نصًّا في ذلك. وجاء باحث آخر، وهو الدكتور عمر بن عبد العزيز، فتوصل بعد دراسته لرسالة شيخ الإسلام في معنى القياس إلى أنه منع من إطلاق "المخالف للقياس" على ما ثبت شرعاً على الوجه المخصوص، وأن المسائل الفقهية التي قيل بمخالفتها للقياس بيَّن شيخ الإسلام موافقتَها له، ولكنّه بعد ذلك جعله من القائلين بالاستحسان، الذي يلتقي في بعض أنواعه مع المعدول به عن القياس، أو ما يسمى بالمخالف للقياس، واعتبر هذا موقفاً آخر، وحاول التوفيق بين الموقفين وقال: "إن اعترافه بالاستحسان وإنكاره للمخالف للقياس ينسجمان انسجاماً لا يشوبه شبهة التعارض ... ذلك أنه إنما أنكر اسم "خلاف القياس" لما ثبت شرعاً، لإفضائه إلى اللوازم الستة التي سبق ذكرها، إذ كان فيه إشعار بثبات ذلك القياس بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم آخر بدليل شرعي آخر ... أما الاستحسان فإنه يُشعِر بأن دور القياس المعدول عنه قد انتهى بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم، وأنه ما ينبغي أن يدخل هذا الفرد في نطاقه، ويأخذ حكمه، فلا يستلزم أيًّا من تلك اللوازم الستة الباطلة. أضف إلى، ذلك أن اسم الاستحسان يُشعِر بالمدح والثناء"!! (2).

_ (1) المصدر السابق: 113. (2) المعدول به عن القياس- حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية منه: 45 (المدينة المنورة 1408).

هذه آراء بعض الباحثين الممتازين في بيان موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، حيث ذكروا أنه من القائلين به إذا كان الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وأن الاستحسان هو اختيار الأحسن، وأن ترك القياس في مواضع معينة لا يعني القدح فيه، فإنّه يحرك لدليل أقوى منه. ولو أنهم اطلعوا على هذا الكتاب لعرفوا أن جميع ما توصلوا إليه خلاف ما قرَّره شيخ الإسلام هنا، وأن ما استنبِط من كلامه ليس رأيَه الصريح في هذه القضية، بل هو نقل عن الآخرين وتوجيهٌ لأقوالهم وبيان لما يقصدون إليه. وسنعرض فيما يلي مباحث الكتاب لنعرف موقف شيخ الإسلام من الاستحسان ومن القائلين به والمانعين منه، ومدى موافقته لأحد الفريقين، وكيف ينظر إلى تلك المسائل التي قيل فيها: إنها استحسان على خلاف القياس. بدأ المؤلف كتابه بخطبة الحاجة، وبيان سبب التأليف الذي سبق الحديث عنه، ثم ذكر التعريف المشهور للاستحسان وهو أنه مخالفة القياس لدليل، وبيَّن اختلاف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب: فالظاهرية والمعتزلة والشيعة ينكرون هذا اللفظ مطلقا، وأبو حنيفة وأصحابه يقرّون به بهذا المعنى، ويجوّزون مخالفة القياس للاستحسان، ويعملون بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. والشافعي وأحمد ومالك وغيرهم يذمّون الاستحسان تارة ويقولون به تارةً. وكان الشافعي من أعظم الأئمة إنكاراَ له، وقد تكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك، ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان في بعض

المواضع. ونُقِل عن أحمد أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلافَ القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس. فَيَدَعُون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه". بيَّن المؤلف مراد أحمد من هذا القول، وهو أنه يستعمل النُّصوص كلَّها، ولا يقيس على أحد النصين قياساً يُعارضُ النص الآخر، كما يفعل الحنفية، حيث يقيسون على أحد النصين، ثمَّ يستثنون موضع الاستحسان إمّا لنصَّ أو غيره، فينقضون العلَّة التي يدّعون صحتها مع تساويها في محالّها. أمّا أحمد فيوجب طرد العلَّة الصحيحة، ويقول: إن انتقاضها مع تساويها في محالِّها يُوجب فسادها، وبالتالي فساد القياس المبنيّ على تلك العلة المزعومة. ثم شرح المؤلف الفرق بين المنهجين بذكر بعض الأمثلة على ذلك، وتوصَّل إلى أن منهجَ فقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد وغيرهم العملُ بالنّصين الواردين في المسألة، وعدمُ قياسِ أحدهما على الآخر قياساً يناقض الآخر، أو جعلُ أحدهما منسوخاً بالثاني. بعد بيان هذا الفرق بين المنهجين ذكر المسائل التي قال فيها أحمد بالاستحسان، وأشار إلى أن أبا يعلى فهم منها ومن النص السابق عن أحمد أن المسألة على روايتين عنه: إبطال الاستحسان والقول به، وأنّ أبا يعلَى وأتباعَه كأبي الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما نصروا القولَ بالاستحسان كقول الحنفية، وفسّروه

كتفسيرهم، ووافقوهم في ذكر أنواعه، وهي: الاستحسان للكتاب، والاستحسان للستة، والاستحسان للإجماع، مع ذكر الأمثلة على ذلك. انتقل المؤلف بعد ذلك إلى نقطة أخرى، وهي: هل الاستحسان تخصيص العلَّة؟ فنقل أوّلاً اختلاف العلماء في جواز تخصيص العلَّة ومنْعِه، ثمَ ذكر أن القاضي أبا يعلى وابن عقيل وغيرهما يمنعون تخصيص العلَّة مع قولهم بالاستحسان، وأن أبا الخطاب الكلوذاني يختار تخصيص العلَّة موافقةً للحنفية. ونقل نصوصاً من كتاب أبي يعلى وحجج الفريقين ومناقشاتها مع ذكر الأمثلة على ذلك. ثم ذكر قولاً ثالثا في هذا الموضوع، وهو تقديم النص وخبر الواحد على قياس الأصول عند من يقول بذلك في حالة التعارض بينهما. وقولاً رابعاً، وهو أنه يجوز تخصيص العلَّة المنصوصة دون المستنبطة. وفي آخر هذا البحث ذكر أن النزاع بين الفريقين القائلين بجواز تخصيص العلة ومنعه إنما هو في علةٍ قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما إذا اكتفي فيها بمجرد الطرد الذي يُعلم خلوُّه عن التأثير والسلامة عن المفسدات فكلهم متفقون على أن التخصيص يُبطِلُ تلك العلّة، وأنه لا عبرة بها عند أحد من العلماء. رأينا أن المؤلف نقل إلى هنا آراء الآخرين ونصوصهم في هذا الباب، ولم يعلّق عليها إلاّ في موضع واحد عندما بين مراد الإمام أحمد من قوله السابق ذكره. ولما انتهى من سرد المذاهب والأقوال بدأ في المناقشة والنقد وإبداء رأيه في الخلاف الذي دار حول هذا

الموضوع، فذكر أن التحقيق في هذا الباب أن العلة قد تطلق على العلّة التامة المستلزمة لمعلولها بحيث يمتنع تخلف الحكم عنها، فهذه لا يتصور تخصيصها ونقضها، ومتى انتقضتْ بطلتْ. وقد يُراد بالعلّة ما كان مقتضيا للحكم، أي أن فيها معنًى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجباً، وتُسمَى المؤثّرة أو المقتضية أوّلاً، فهذه إذا انتقضت لفرقٍ مؤثر يُفرق به بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تَفسُد. فمن قال: إنّ العلة لا يجوز تخصيصها مطلقاً لا لفواتِ شرطٍ ولا لوجود مانعٍ فهو مخطئٌ قطعاً، وقوله مخالف لإجماع السلف، فكلهم يقولون بتخصيص العلّة لمعنًى يُوجِب الفرق. ومورد النزاع في الاستحسان هو تخصيص العلّة بمجرّد دليلٍ لا يُبيِّن الفرقَ بين صورة التخصيص وغيرها، وهذه العلَّة إمّا أن تكون مستنبطةً أو منصوصةً: أ- فإن كانت مستنبطةً وخُصَّت بنصٍّ، ولم يبيّن الفرق المعنوي بين صورةِ التخصيص وغيرِها، فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان يُنكرِه كثيراً الشافعي وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة. لأن العلَّة المذكورة لم تُعلَم صحّتُها إلاّ بالرأي، فإذا عارضَها النصُّ كان مُبطِلاً لها، والنصُّ إذا عارضَ العلَّة دلَّ على فسادِها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دلَّ على فساده. ب- وإن كانت منصوصة، وقد جاء نصن بتخصيص بعض صُور العلَّة، فهذا مما لا ينكره أحمد والشافعي وأصحابهما. كما إذا جاء نصّ في صورة، ونصّ يخالفه في صورةٍ أخرى، لكن بينهما

شَبَهٌ لم يقم دليلٌ على أنه مناط الحكم، فهؤلاء يُقرّون النصوصَ، ولا يقيسون منصوصاً على منصوص يخالف حكمه. ولكن الذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواءٌ لا فرقَ بينهما، فيكون أحد النصين ناسخاً للآخر. ومثل هذا كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومخالفوهم ممن يقيس منصوصاً على منصوصٍ، ويجعل أحدَ النصين منسوخاً لمخالفته قياسَ النص الآخر. وله أمثلة ذكر المؤلف كثيرا منها وقال: فهذا ونحوه من دفع النصوص البينة الصريحة بلفظ مجملٍ أو قياس هو مما كان ينكره أحمد وغيره. بقيت صورة، وهي أن يجيء نصّان بحكمين مختلفين في صورتين، وهناك صُوَرٌ مسكوت عنها، فهل يقال: القياس هو مقتضى أحد النَّصين، فما سكتَ عنه نُلحِقه به وإن لم نَعرِف المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟ فهذا هو الاستحسان المتنازع فيهْ الذي يقول به أصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد. أما الآخرون فيقولون: لابدّ أن يُعلَم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المسكوت عنه بأحد النصّين أولى من إلحاقه بالآخر. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصَّين ولم يعلم في الآخر، وجاز أن يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يُلحق بواحدٍ منهما إلاّ بدليل. والتحقيق أنه إما أن يُعلَم استواء الصورتين في الصفات المؤثّرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقهما، وإمّا أن لا يُعلَم واحدٌ منهما. ففي الحالة الأولى متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض عُلِم

أن العلَّة باطلة، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرّق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما. فإنْ علم أنّه فرَّق بينهما كان ذلك دليلاً على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يُعرَف الفرق. وإن عُلِم أنه سوى بينهما كان ذلك دليلاً على استوائهما. وإن لم يُعلَم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع ويُسَوّى إلاّ بدليلٍ يقتضي ذلك. وأحمد إنما قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيص العلّة للفارق المؤثر، وأنكر الاستحسان إذا خُصَّت العلَّة من غير فارقٍ مؤثرٍ، فإن مثل هذا الاستحسان المعدول به عن القياس المخالف له يقتضي فرقاً وجمعاً بين الصورتين بلا دليل شرعي. توضيح ذلك: أن القياس إذا لم ينصّ الشارع على عقته، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبة أو مشابهة ظنَّها مناط الحكم، ثمَ خص من ذلك المعنى صوراً بنص يعارضه كان معذوراً في عمله بالنصّ، لكن مجيء النصّ بخلاف تلك العلّة في بعض الصور دليل على أنها ليست علّةً تامةً قطعاً، فإنّ العلَّة التامة لا تقبل الانتقاض. وإن كان مورد الاستحسان أيضًا معنى ظنه مناسباً أو مشابهاً، فانه يحتاج حينئذٍ إلى إثبات ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف. فلا يكون قد ترك القياس إلاّ لقياسٍ أقوى منه، لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذٍ لنا استحسان يخرج عن نص أو قياس. وعلى هذا فلا يكون

الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال. هذا هو الصواب كما قرَّره المؤلف في رسالته في معنى القياس أيضًا. وتنبني عليها مسألة أخرى ذكرها الأصوليون وفضَل المؤلف الكلام حولها، وهي مسألة القياس على صور الاستحسان المعدول بها عن سنن القياس، وهي من جنس تخصيص العلَّة والاستحسان، فمن جوَّز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي قال: المعدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارقٍ معنوي، فلا يقاس عليه، وهم أصحاب أبي حنيفة. أما أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا: إذا عُرِف المعنى الفارق الذي لأجله ثبت الحكم فيها يجوز القياس عليها. وما ذُكر فيه أنه خالف القياس في صور الاستحسان، فلابدّ أن يكون قياسه فاسداً، أو يكون تخصيصه بالاستحسان فاسداً إذا لم يكن هناك فارقٌ مؤثر. هذا هو الصواب في هذا الباب، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنهم لا يأتون بفرقٍ مؤثر بينهما. وحقيقة هذا كلّه أنه قد يثبت الحكم على خلاف القياس في نفس الأمر، فمن يقول بالاستحسان من غير فارقٍ مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارق مؤثر، وبمنع القياس على المخصوص من جملة القياس-: يثبت أحكاماً على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر. وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما،

فهم تارةً ينكرون صحَّة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارةً ينكرون مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدّعونه من الاستحسان الذي ليس بدليل شرعي، وتارةً ينكرون صحة الاثنين، فلا يكون القياس صحيحاً، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحاً، بل كلاهما ضعيف. وبعدما انتهى المؤلف من بيان حقيقة الخلاف في هذه القضية عقد فصلاً لدراسة تلك المسائل التي يدّعون فيها أنها تَثبُت على خلاف القياس الصحيح، أو أن العلَّة الشرعية الصحيحة خُصَّتْ بلا فرق شرعي من فوات شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرق شرعي. فذكر أن الأمر بخلاف ذلك كما قاله أكثر الأئمة: الشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يُناقض نفسه أيضًا فيخصّ ما يجعله علَّةً بلا فارق مؤثر، كما أنه يقيس بلا علّةٍ مؤثرة. وكان قصده من ذلك ضبط الأصول الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة يى فيها تناقض أصلاً، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلاّ تناقضا. وبعد دراسة كل مسألة من هذه المسائل الاستحسانية ذكر أنها ليست مخالفةً للقياس أصلاً، أو أن هناك فرقاً مؤثراً، أو أن الاستحسان فيها ليس صحيحاً بسبب عدم وجود فارق مؤثر. هذا تحليل موجز لمباحث الكتاب، وخلاصة رأي المؤلف في الاستحسان، وبهذا نعرف أنه تناول هذه المسألة بطريقةٍ جديدة، ولم يوافق على ما قاله عامة الأصوليين إنّ الخلاف فيها لفظي، فقد حرّر

حـ- قيمته العلمية

وجه النزاع بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وبيّن سبب ذم بعض الأئمة له ثم القول به في بعض المسائل، وقرَّر أن الاستحسان الصحيح لا يمكن أن يكون على خلاف القياس الصحيح، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال. • قيمته العلمية تظهر قيمة الكتاب العلمية عندما يوضع في قائمة الكتب والدراسات التي تتعلق بموضوع معين، والتي تُرتّب تاريخيًّا حسب تأليفها وظهورها، ثم يقارن بينه وبين غيرها من حيث الجدّة والأصالة والابتكار. فكل كتاب يحتوي على آراء جديدة مع الاحتجاج لها، ومناقشات تدل على شخصية المؤلف، بمنهج علمي متميز، وأسلوب طريف مثير-: يُنسَب إليه فضلُ السبق، ويُعترَف لمؤلفه بالإمامة، ويكون موضع العناية والاهتمام من قبل المؤلفين والباحثين. والكتب التي تكون على العكس من ذلك مهما بلغت شهرتها وكثرت نسخها الخطية والمطبوعة، لا يخفى ضعف قيمتها على النقّاد، وزيفها وانتحالها- أحياناً- على المدقّقين الذين يقومون بالموازنة بينها وبين غيرها. ونحن إذا نظرنا إلى هذا الكتاب نجد أن المؤلف جاء فيه برأي جديد في الموضوع لم يُسْبَق إليه، ورد على من يقول: إن في الشريعة أحكاماً على خلاف القياس مبنية على الاستحسان، كما سبق تفصيله وبيان وجهة نظره فيما مضى. وعلى هذا فتكون للكتاب قيمة علمية كبيرة تجعله من أهم الكتب التي ألّفت في هذا الباب، لتميزه

ط- أثره

وأصالته ونقده للرأي السائد في الموضوع. • أثره مضى على تأليف هذا الكتاب سبعة قرون، وبقي بصورة المسوّدة التي وصلتنا. ولعلها لم تُبيض، فلا نجد من الكتاب نسخة أخرى في فهارس المخطوطات التي بين أيدينا. ولا نعرف مؤلفاً رجع إليه أو اقتبس منه إلاّ العلّامة ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" (4/ 124 - 126)، ولكنه لم ينقل الفكرة الأساسية، التي بنى عليها المؤلف كتابه، ولم يذكر منه إلاّ تعريف الاستحسان وأنواعه عند القائلين به، والمسائل التي قال فيها الإمام أحمد بالاستحسان، وقوله في رواية أبي طالب: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان" هل يَدُلّ على إبطال الاستحسان أم لا؟ وتعليق المؤلف على كلام أبي يعلى وأتباعه في المراد من هذا القول. وهذه المباحث كلها في بداية الكتاب، وتعتبر تمهيداً للدخول في الغرض الأساسي من تأليفه، وهو بيان حقيقة الاستحسان الذي يقول به الحنفية ويمنعه الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث، ودراسة المسائل التي نُسِبَ إليهم فيها القول بالاستحسان مع ذمهم له، وهل هي مخالفة للقياس كما قيل؟ ولو أن ابن القيم نقل هذا الكتاب بكامله كما فعل مع رسالة

ي- وصف النسخة الخطية

أخرى لشيخه في معنى القياس في "إعلام الموقعين" (1/ 383 - 401، 2/ 3 - 38)، واطلع عليه المؤلفون في الأصول، لكان له أثر كبير في كتاباتهم حول هذا الموضوع. ولكنهم لم يعرفوا الكتاب والنصوص المقتبسة منه، فلم يفيدوا منه شيئا. أما الباحثون المحدثون فلم يعرفوه كذلك لكونه مجهول العنوان والمؤلف. ولعلّ نشره يثير هممهم، فيدرسون في ضوئه موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، ومنهجه في تناول هذا الموضوع، ويصلون به إلى حقيقة الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث في هذا الباب. وأتوقع أن يكون لهذا الكتاب أثر طيب في المستقبل إن شاء الله. • وصف النسخة الخطية توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق مجموعة برقم [91 مجاميع] تحتوي على أكثر من ثلاثين رسالة وكتاباً معظمها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضها لغيره، منها: - أوّل كتاب "إثبات صفة العلو" لابن قدامة (ق 21 - 22) - الجزء الأول من حديث أبي عبد الله محمد بن مخلد الدوري (ق 36 - 44) - الجزء التاسع من الفوائد المنتقاة من حديث أبي الحسن علي ابن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ الحمامي عن شيوخه (ق 203 - 210)

- قطعة من كتاب "السنن" للأثرم (ق 213 - 220) - ثبت لأحد تلاميذ البرزالي والمزي (ق 293 - 307) - رسالة في الاستعاذة (نقلاَ من أوّل تفسير الرازي) (ق 309 - 324) وماعداها من تأليف شيخ الإسلام، وبعضها بخطه، ولا توجد على أكثرها عناوين، ولذا فنحن نشير إلى الأوراق التي هي بخطه دُون ذكر عناوينها، لأنها تحتاج إلى دراسة متأنية، ومقابلتها على مؤلفاته ورسائله المطبوعة، والرجوع إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها لمعرفة عناوينها الصحيحة. وهذه الأوراق هي: (1 - 8، 53 - 78، 119 - 137, 150، 157 - 164. 165 - 181، 182 - 183، 184 - 188، 189 - 191، 263 - 266، 325 - 333). أما الرسائل الأخرى فقد كتبت بخطوط مختلفة، وبعضها ناقصة الأول والأخير، وترتيب الأوراق في بعض المواضع منها مضطرب. ونسخة هذا الكتاب الذي بين أيدينا تقع في آخر هذه المجموعة النفيسة التي لا تقدّر بثمن (ق 325 - 333). وهي مسوّدة المؤلف نفسه، ولعلّها لم تبيَّض فبقيت مسوّدة كما كتبتْ لأول مرة. وقد ذكر البرزالي (1) أن لشيخ الإسلام تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة

_ (1) كما نقل عنه ابن عبد الهادي في العقود الدرية 373 وابن كثير في البداية والنهاية 14/ 137.

في الأصول والفروع، ثم قسمها ثلاثة أقسام، وقال: 1 - كَفَلَ منها جملة، وبُيضَتْ وكُتِبتْ عنه، وقُرِئتْ عليه أو بعضها. 2 - وجملة كبيرة لم يُكَملْها. 3 - وجملة كَملَها، ولم تُبيضْ إلى الآن. وبعد دراسة هذه النسخة نستطيع أن نقول: إنها من القسم الثالث، فإنّنا لم نعثر على نسخة أخرى من الكتاب في أي مكتبة، ومما يؤيد ذلك أن المؤلف شطب فيها على كثير من الكلمات والعبارات وأبدلها بغيرها، وأضاف إليها تعليقات واستدراكات طويلة في هوامش بعض الصفحات من جميع الجهات. ومن أغرب هذه الإضافات ذلك الاستدراك الطويل في الورقة (331 أ) الذي يستمرّ في هوامش الصفحة، ثم ينتقل الكلام إلى هوامش الصفحة الماضية (330 ب) ثم هوامش الصفحة التي قبلها (330 أ)، وينتهي بالسطر الذي كتبه المؤلف معكوساً، للدلالة على أن ما فيه نهاية لهذا التعليق الطويل، وليس مرتبطاً بالكلام الموجود بداخل الحوض في تلك الصفحة، ولعلّ هذا التعليق كتب بعد الانتهاء من تأليف الكتاب. لا تُوجد لهذه النسخة صفحة عنوان، ولا كتب المؤلف عنوان الكتاب بخطه (كما ذكرنا ذلك في تحقيق عنوان الكتاب)، ولا توجد لها خاتمة يُذكَر فيها عادة اسم الناسخ أو المؤلف وتاريخ النسخ أو التأليف.

هذه المسوّدة وغيرها من الكتب التي وصلت إلينا بخط شيخ الإسلام يقع القارئ أو المحقق بإزائها في حيرة، فهو يكتب غالباً بدون نقطٍ وإعجام، ولايميّز الحروف بداخل الكلمة ويمزج بعضها ببعض، ويكتب بسرعة وفي غاية التعليق والإغلاق، حتى عجز كثير من أصحابه عن نقله (كما سبق ذكره فيما مضى). فقراءة كل كلمة فيه تحتاج إلى تقليبها على الوجوه الممكنة، ولا مساعد في ترجيح أحد الوجوه على غيرها إلاّ السياق والموضوع. فالباء والتاء والثاء والفاء والقاف والنون والياء في بداية الكلمات تكتب عنده بطريقة واحدة تقريباً، و"من" و"في" تتشابهان في مواضع كثيرة، ويكتب "الذي" و"الذين" و"الدين" برسم واحدٍ تقريبا، ويُسقِط بعض الحروف من الكلمة، فمثلاً كلمة "القهقهة" كتبها مرتين "القهقه". ويتبع الرسم القديم في كتابة كثير من الكلمات بحذف الألف أو الهمزة أو غيرهما، مثل: صلح (صالح)، السلم (السلام)، يحتج (يحتاج)، مسله (مسألة)، ادعا (ادّعى)، صلوته (صلاته)، اسحق (إسحاق)، وحا (وجَاءا)، العا معنا (ألغَى معنًى)، ثلثه (ثلاثة)، ملك (مالك)، فيعطا (فيُعطَى)، واحراه (وإجراؤه). ولا تظهر الميم عنده إذا وقعت تِلْوَ حرف الباء أو التاء أو الياء ونحوها، فيكتب "اتها" (= أتمَّها)، "انا" (= إنّما)، " ائه " (- أئمة)، "الا" (= الماء)، (الحظور" (= المحظور)، الانع (= المانع) وغيرها. هذه بعض الأمثلة لطريقة كتابته للكلمات، ويكفي القارئ أن يلقي نظرةً على نماذج من الأصل، ويتأمل فيها بنفسه، ويبذل مجهوده

في قراءتها، ويقارن بينها وبين قراءتي لها. ولا يخفى أن نسخة الكتاب بخط المؤلف تُوفِّر على المحقّق الوقتَ والجهد في جمع النسخ ودراستها والمقابلة بينها ومعرفة علاقة بعضها ببعض. ولكن المخطوطة التي نحن بصددها زادت مشاكلها فوق ما كنت أتصور، وكان تقديم نصٍّ سليم لها من أصعب الأمور، وقد بذلتُ كلّ ما في وسعي لقراءتها قراءة صحيحةً، ونَسْخِها ملتزماً الرسمَ الإملائي الحديث، ولم أزد إلاّ النقط والإعجام والفواصل والهمزات وتغيير الفقرات، وأبقيت الكلمات التي يبدو أنّ فيها خطأ إعرابيًّا أو صرفيًّا كما هي، وأشرتُ إليها في التعليق. أما الكلمات والعبارات التي شطب عليها المؤلف وأبدلها بغيرها فلم أنبِّهْ إليها، لأنها كثيرة في هذه المسوَّدة، ولا فائدة من ذكرها. وفي الختام أرجو أنني قد وُفِّقتُ في قراءة هذه المسوَّدة قراءةً سليمة، وأدعو الله أن ينفع بها الباحثين في علم الأصول خاصة، والقرّاء والمثقفين عامة، إنه سميع مجيب. محمد عزير شمس

نماذج من الأصل

نص الكتاب

نصّ الكتاب

مقدمة المؤلف

الحمد لله، نستعِينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فلا مُضِل له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وَحْدَهُ لا شريكَ له، ونشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم تسليماً. فصلٌ في الاستحسانِ وتخصيصِ العلَّة، وموضع الاستحسانِ هل يُقاسُ عليه أم لا، وما يرد من الأحكامِ الثابتةِ بالنصّ والإجماع ويُقالُ: إنها مخالِفةٌ للقياس. فإن هذه قواعدُ كَثرُ اضطرابُ الناسِ فيها، والحاجةُ ماسَّةٌ إلى تحقيقها في كثير من مسائلِ الشريعةِ أصولها وفروعِها. أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفةُ القياسِ لدليلٍ (1)، وقد يُرادُ به غيرُ ذلك (2). والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على

_ (1) وهو ما عبَّر عنه أبو الحسن الكرخي بقوله: "الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه هو أقوى من الأول يقتضي العدول عن الأول ". (المعتمد لأبي الحسين البصري 2/ 840. ونحوه عن الكرخي في أصول السرخسي 2/ 200 والتبصرة للشيرازي 493 وشرح اللمع له 2/ 969 والوصول إلى الأصول لابن برهان 2/ 321 والإحكام للآمدي 4/ 137 والبحر المحيط للزركشي 6/ 91). وقال الجصاص: هو ترك القياس إلى ماهو أولى منه (الفصول في الأصول: ق 294 ب). وقال أبو زيد الدبوسي: هو اسمٌ لضرب دليل يعارض القياس الجلي (تقويم الأدلة: ق 225 ب). ويراجع: أصول البزدوي بشرحه كشف الأسرار 3/ 4 وأصول السرخسي 2/ 200. (2) انظر تعريفات أخرى للاستحسان في المصادر السابقة وفي الحاوي=

اختلاف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب

ثلاثة أقوال: منهم من ينكر هذا اللفظ مطلقاً، وهم نُفاةُ القياسِ، كداود وأصحابه (1)، وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلَّة الشرع لا قياس ولا استحسان. ومنهم من يُقِر به بهذا المعنى، ويُجوِّز مخالفةَ القياس للاستحسان، ويعمل بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. وهذا هو المعروف عن أبي حنيفة وأصحابه (2).

_ = للماوردي 11/ 636 والتلخيص للجويني 3/ 310 والمستصفى 1/ 275 والمحصول 3/ 2/166؛ والعدة لأبي يعلى 5/ 1607 والتمهيد للكلوذاني 4/ 92 والواضح لابن عقيل 1/ 144 ب وشرح مختصر الروضة 3/ 191؛ وإحكام الفصول للباجي 687 وشرح تنقيح الفصول للقرافي 451 والموافقات 4/ 116 والاعتصام 2/ 142 وغيرها. (1) عقد ابن حزم بابا في إبطال الاستحسان في كتابه الإحكام في أصول الأحكام 6/ 16 - 21، واختصره في كتابه ملخص إبطال القياس والرأي 50 - 51. (2) إذا كان الاستحسان عند الأحناف هو ترك القياس إلى ما هو أولى منه، أو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي (كما سبق)، فمن الغريب حقًّا أن يذكروا مسائل فيها قياس واستحسان، أخذوا فيها بالقياس وتركوا الاستحسان. وهي إحدى عشرة مسألة نقلها أمير كاتب الإتقاني من كتاب الأجناس للناطفي، مخطوطة في مكتبة لاله لي برقم 690 (ق 260 ب- 261 أ). وبعدما ذكر السرخسي في أصوله 2/ 204 - 206 ثلاثاً منها وحاول توجيهها قال: "وهذا النوع يعز وجوده في الكتب، لا يوجد إلاّ قليلا".

- من يذمه تارة ويقول به تارة (مالك والشافعي وأحمد)

ومنهم من ذمَ الاستحسان تارةً، وقال به تارةً، كالشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وغيرهم، ففي كتب مالك وأصحابه ذِكر لفظِ الاستحسان في مواضع (1). والشافعيّ قال: من استحسن فقد

_ (1) روى أصبغ عن ابن القاسم عن مالك أنه قال: "تسعة أعشار العلم الاستحسان" (الإحكام لابن حزم 6/ 16 والموافقات 4/ 118 والاعتصام 2/ 138). وواضح أنه لم يقصد به الاصطلاح، بل أراد- كما ذكر محمد بن خويز منداد-: القول بأقوى الدليلين، فالذي يذهب إليه هو الدليل، إن كان يسميه استحساناً. (إحكام الفصول 686). وقد نقلت عن الإمام مالك مسائل معدودة قال فيها بالاستحسان ولم يُسبَق إليها، منها: الشفعة في الثمار (المدونة 14/ 134)، والشفعة في الدار المشتركة التي أقيمت في الأرض المحبوسة (المدونة 14/ 109)، والقصاص في الجرح العمد بالشاهد واليمين (المدونة 6/ 216، 217)، وأن عقل الأنملة من الإبهام نصف عقل الإصبع (المدونة 16/ 116 والمنتقى 6/ 92). ولعل الإمام كان يعني هذه المسائل الاستحسانية حين قال في رواية القعنبي: "ليتني جُلِدتُ بكل كلمة تكلمتُ بها في هذا الأمر بسوط ولم يكن فرطَ مني ما فرط من هذا الرأي، وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سُبقتُ إليها". (جامع بيان العلم وفضله 2/ 145). ولا نجد للاستحسان آثراً بارزاً في أصول الفقه عند المالكية، فبعضهم نسبه للحنفية والحنابلة فقط، ثم نفاه وأبطله، واعتبر النزاع فيه لا طائل تحته، وبعضهم ربطه بالمصالح المرسلة. (انظر: إحكام الفصول 687 - 689 وأحكام القرآن لابن العربي 2/ 746 ومختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2/ 288 والموافقات 4/ 116 - 118 والاعتصام 2/ 137 - 150).

بعض استحسان الشافعي

شَرَّعَ (1)، وتكلَّم في إبطالِ الاستحسانِ، وبسطَ القولَ في ذلك (2). وكان من أعظم الأئمة إنكاراً له، وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه. ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعةُ ثلاثين درهما" (3). ولهذا حُكِيَ للشافعي في الاستحسان قولان: قديم وجديد. وكذلك أحمد بن حنبل، نقل عنه أبو طالب (4) أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلافَ القياسِ قالوا: نستحسنُ هذا

_ (1) كذا نُقل عنه في عامة كتب الأصول. وقد قال في الرسالة: "إنما الاستحسان تلذذ" (ص 507)، و"أنّ حراماَ على أحدٍ أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر" (ص 504). (2) في كتاب إبطال الاستحسان من الأم 7/ 267 - 277 (ط. بولاق) وأحكام القرآن له 1/ 264. (3) الأم 5/ 62، 7/ 235 وأحكام القرآن للشافعي 1/ 201. ومن المسائل التي قال فيها الشافعي بالاستحسان: ثبوت الشفعة إلى ثلاثة أيام (الأم 3/ 231 ومختصر المزني بهامشه 3/ 47)، وترك شيء من الكتابة (الأم 7/ 362، 364 ومختصر المزني 5/ 275)، وأن لا تُقطع يُمنى سارقٍ أخرج يدَه اليسرى فقُطعت (الأم 6/ 133، 139 ومختصر المزني 5/ 169)، وانظر مسائل أخرى في: الحاوي للماوردي 16/ 166 والبحر المحيط للزركشي 6/ 95 - 97 ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب للسبكي 2/ق 374. (4) هو أحمد بن حميد المشكاتي، صحب الإمام أحمد، وروى عنه مسائل كثيرة، وكان أحمد يكرمه ويعظمه. توفي سنة 244. (طبقات الحنابلة 1/ 39).

هل المقصود بقول أحمد هذا إبطال الاستحسان؟

ونَدَعُ القياسَ. فَيَدَعُون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. قال: وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاءَ، ولا أقيسُ عليه (1). قال القاضي أبو يعلى (2): وظاهر هذا يقتضي إبطالَ القولِ بالاستحسان، وأنه لا يُقاسُ المنصوصُ عليه على المنصوص عليه. قلت: مراد أحمد أنّي أستعمل النصوصَ كفَها، ولا أقيس على أحد النصينِ قياسا يُعارِضُ النصَّ الآخر، كما يَفعلُ مَن ذكرَه، حيث يقيسون على أحد النصّينِ، ثم يستثنون موضعَ الاستحسان إما لنص أو غيرِه، والقياسُ عندهم يُوجبُ العلَّة الصحيحة، فيَنْقُضون العلَّةَ التي يدعون صحتها مع تساوِيْهاَ في مَحَالها./ وهذا من أحمدَ يُبين أنه يُوجِب طردَ العلَّةِ الصحيحة، وأنّ انتقاضَها مع تَساوِيْها في مَحالها يُوجب فسادَها. ولهذا قال: لا أقيسُ على أحدِ النصينِ قياساً يَنقضُه النص الآخر، فإنّ ذلك يدكُ على فساد القياس. وهو يستعمل مثل هذا في مواضع، مثل حديث أم سلمة وفيه

_ (1) انظر: العدّة 5/ 1605 والتمهيد للكلوذاني 4/ 89 والمسودة 452. (2) في العدة 5/ 1605. وعلق عليه أبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد 4/ 89 بعدما نقل كلام شيخه أبي يعلى: وعندي أنه أنكر عليهم الاستحسان من غير دليل، ولهذا قال: يتركون القياس الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. فلو كان الاستحسان عن دليلِ ذهبوا إليه لم يكره، لأنه حق أيضًا. وقال: أنا أذهب إلى كل حديث جاء، ولا أقيس، معناه: أني أترك القياس بالخبر.

مثال يوضح ذلك: حديث منع المضحي من أخذ شعره، وحديث جواز ذلك للمهدي، واختلاف الناس في المسألة

قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أرادَ أحدُكم أن يُضَحيَ ودخلَ العَشْرُ فلا يَأْخُذْ مِنْ شَعرِه ولا مِن بَشرَتِه شيئاً" (1)، مع حديث عائشة: كنتُ أَفْتِلُ قلائدَ هَدْي رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يَبْعَثُ به وهو مُقيم، فلا يَحْرُمُ عليه شيء ممّاَ يَحْرُمُ على المُحْرِم (2). والناس في هذا على ثلاثة أقوال: منهم من يُسوي بين الهَدْيِ والأضْحية في المنع، ويقول: إذا أرسل المُحْرِمُ هَدْيا لم يَحِل حتى يَنْحَر، كما يُروى عن ابن عباس (3) وغيره. ومنهم من يُسوي بينهما في الإذن، ويقول: بل المضحّي لا يُمنَع عن شيء كما لا يُمْنَع المُهْدِيْ، فيقيسونَ على أحدَ النصينِ ما يعارضُ الآخر. وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا بالنصين، ولم يَقِيْسُوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لمّا أحلَّ البيعَ وحرمَ الربا (4) لم يَقِسِ المسلمون أحدَهما على

_ (1) أخرجه مسلم (1977) وأبو داود (2791) والترمذي (1523) والنسائي 7/ 211، 212 وابن ماجه (3149). (2) أخرجه مالك في الموطأ 1/ 340، 341 ومن طريقه البخاري (1700، 2317) ومسلم (1321). (3) الرواية عنه في المصادر السابقة في الحديث المذكور. وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5/ 234. (4) في قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة: 275].

قياس المشركين، والفرق بينه وبين قياس المسلمين، وذكر نماذج منه: قياس الربا على البيع، وقياس الميتة على، المذكى

الآخر، وإنما هذا قياس المشركين. وكذلك لمّا أحل المُذَكَى وحَزَم الميتةَ (1) لم تقِيسُوا أحدَهما على الآخر، بل هذا قياسُ المشركين (2). وكذلك لما جاء (3) الكتابُ والسنةُ بالقُرْعَة (4)، وجاءا بتحريم القمار (5) لم يقيسوا هذا على هذا، بل أجازوا القُرعةَ، وحزَموا

_ (1) في الآية الثالثة من سورة المائدة. (2) ذكر المؤلف هذين المثالين في مجموع الفتاوى 20/ 539. 540 فقال: الشرع دائما يُبطل القياس الفاسد، كقياس ابليس، وقياس المشركين الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، والذين قاسوا الميت على المذكَى وقالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ فجعلوا العلة في الأصل كونه قتلَ آدمي. ونحوه في مجموع الفتاوى 19/ 287. (3) كتب المؤلف أولاَ: "جاءت السنة بالقرعة"، ثم شطب على "السنة بالقرعة" وكتب: (الكتاب والسنة بالقرعة)، وبقيت "جاءت" بالتاء. (4) قال تعالى: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44]. ومن الأحاديث الواردة في القرعة: حديث عائشة الطويل الذي أخرجه البخاري (4750 ومواضع أخرى) ومسلم (2770) وفيه: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يخرج أقرعَ بين أزواجه، فائتُهن خرج سهمها خرج بها رسول الله سيَئ معه". (5) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90). وانظر: أحكام القرآن للشافعي 2/ 157 والأم 7/ 336. ومن الأحاديث الواردة في تحريم القمار: حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (4860) ومسلم (1647)، وفيه: "من قال لصاحبه تعالَ أقامِرْكَ فليتصدقْ ". قال الذهبي في كتاب الكبائر 167: "فإذا كان مجرد القول معصية موجبةً=

مثال آخر لذلك: حديث إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وحديث آخر في صلاة الناس قائما والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد

المَيْسِرَ والاسْتِقْسَام بالأزْلاَم، بخلاف من جَعلَ القرعةَ من القِمارِ أو من الاستقسام بالأزلام، ولم يُعلّق بها حكماً. وأحمد أكثر الفقهاء عملاً بالقرعة (1)، لما كان عنده فيها من النصوص والآثار. وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناسَ إذا صَلَّى الإمامُ قاعداً أن يُصَلُّوا قُعوداً أجمعينَ (2). ثم لمَّا افتتحوا الصلاةَ قياماً أتَمَّها بهم قياما" (3). عمل بالحديثين، ولم يَقِسْ على أحدهما قياساً يُناقِضُ الآخرَ ويجعلُه منسوخا" (4)، كما فعل

_ = للصدقة المكفّرة، فما ظنُّك بالفعل؟! وهو داخل في أكل المال بالباطل". (1) منه قوله بالقرعة بين الزوجات عند السفر (المغني 7/ 40)، وبين الزوجات في الطلاق المبهم (المغني 7/ 251)، وبين الناس في قسمة السهام (المغني 9/ 123)، وبين رجلين إذا ادَّعيا لقطة (المغني 5/ 646)، وبين المعتَقين عن دبر (المغني 9/ 358). (2) أخرجه مالك في الموطأ 1/ 135 ومن طريقه البخاري (689) ومسلم (411) عن أنس بن مالك. وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، وكلاهما متفق عليه. (3) أخرجه البخاري (687) ومسلم (418) من حديث عائشة في قصة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه، وفيه: "فجعل أبو بكر يصلّي وهو قائم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس بصلاةِ أبي بكر، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعد". (4) قال ابن قدامة في المغني 2/ 222: "أشار أحمد إلى أنه يمكن الجمع بين الحديثين بحمل الأول على من ابتدأ الصلاة جالساً، والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائما ثم اعتل فجلس. ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب ولم يحمل على النسخ".

طائفةٌ من الفقهاء، كالشافعي (1) والحميدي (2) وغيرهما (3). واستدل هو وغيره بأن الصحابة بعده لفَا صَلَّوا جلوساً أمروا مَن خلفهم بالجلوس، وقد شهدوا صلاته في آخر عمره، مثل أُسَيْدِ بن الحُضير (4)، وهو من أفضل السابقين الأولين من الأنصار، وقد فعل ذلك في عهد أبي بكر، فإنه قُتِلَ في قتالِ المرتدّين من حنيفة أتباعِ مُسيلمة الكذاب (5)./

_ (1) قال في الرسالة 254 بعدما ذكر الحديثين: "فلما كانت صلاة النبي في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناسُ خلفه قياماً-: استدللنا على أن أمْرَه الناسَ بالجلوس في سقطتِه عن الفرس، قبلَ مرضه الذي مات فيه، فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناس خلفَه قياما-: ناسخةً لأن يجلس الناسُ بجلوس الإمام ". وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي: 111 - 114. (2) نقل البخاري قول الحميدي عقب الحديث (689) من صحيحه. (3) في الأصل: "وغيره ". (4) قال الحافظ في الفتح 2/ 175: "قد أمَّ قاعداً جماعةٌ من الصحابة بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أسيد بن حضير وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة أخرجها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وغيره إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد". وانظر: مصنف عبد الرزاق 2/ 462 ومصنف ابن أبي شيبة 2/ 326، 327 والسنن الكبرى للبيهقي 3/ 78 وبعدها، والمغني 2/ 225. وقد قرر المؤلف في مجموع الفتاوى 23/ 249 و 405، 406 ما قرره هنا. (5) قلت: هذا غريب، فقد توفي أسيد بن الحضير في عهد عمر بن-

استحسانات الإمام أحمد

وقد قال أحمد بالاستحسان المخالف للقياس في مواضعَ، كقوله في رواية صالح (1) في المضارب: إذا خالفَ فاشترَى غَيْرَ ما أَمَرَ به صاحب المال، فالرِّبْحُ لصاحب المال، ولهذا أُجْرَةُ مثلِه، إلاّ أن يكون الربحُ يُحيطُ باجرةِ مثلِه فيَذْهَبَ. وكنتُ أذهبُ إلى أنَّ الربحَ لصاحب المال، ثم اسْتَحْسَنْتُ (2).

_ = الخطاب سنة 20 أو 21، ولم أجد من ذكر مشاركته في قتال المرتدين من بني حنيفة، فضلاً عن وفاته فيه. (انظر: طبقات ابن سعد 3/ 603 والاستيعاب 1/ 175 والإصابة 1/ 49 وسير أعلام النبلاء 1/ 340 والمصادر المذكورة بهامشه). ثم راجعت كتب التاريخ في قصة قتل مسيلمة الكذاب باليمامة والأحداث التي جرت بين حزبه وبين المسلمين سنة 11، فلم أجد فيها ذكراً لأسيد. (انظر: تاريخ الطبري 3/ 281 - 301 والفتوح لابن أعثم 1/ 26 - 40 [ط. بيروت] والمنتظم 4/ 79 - 83 والبداية والنهاية 6/ 323 - 327). وسرد ابن الأثير في الكامل 2/ 248 - 249 أسماء أكثر من أربعين شخصاً من المسلمين قُتِلوا باليمامة، ليس من بينهم أسيد. (1) هو ابن الإمام أحمد، يكنى أبا الفضل. توفي سنة 266. (طبقات الحنابلة 1/ 173). (2) النص في مسائل الإمام أحمد رواية صالح 1/ 448 بغير هذا اللفظ، ففيه: "وسألته عن المضارب إذا خالف، قال: بمنزلة الوديعة، عليه الضمان، والربح لرب المال إذا خالف، إلاّ أن المضارب أعجبُ إليَ أن يُعطى بقدر ما عمل". وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود 199: "سمعتُ أحمد سُئل عن المضارب إذا خالف، قال: يختلفون فيه". والنص- كما هنا- نقله المؤلف من العدّة 5/ 1604، ونقله ابن القيم في بدائع الفوائد 4/ 124 عن المؤلف، وهو كذلك في الواضح=

(2) التيمم لكل صلاة

وقال في رواية الميمونيّ (1): أَسْتَحْسِنُ أن يَتَيَمَّم لكلِّ صلاةٍ، ولكنّ القياسَ أنه بمنزلةِ الماءِ حتى يُحدِثَ أو يَجِدَ الماءَ (2). وقال في رواية الْمَرُّوْذِيّ (3): يجوزُ شِرَى (4) أرضِ السَّوَادِ (5)،

_ = لابن عقيل 1/ 144 أ، والمسودة 452. وذكر ابن قدامة في المغني 5/ 40 هذه المسألة وعلَلها بقوله: "لأنّ رب المال رضي بالبيع، فأخذ الربح، فاستحق العامل عوضاَ، كما لو عقده بإذنه، ولأنه عمل ما يستحق به العوض ولم يسقَم له المسمى، فكان له أجرة مثله كالمضاربة الفاسدة". ويأتي الكلام على المسألة في ص 213. (1) هو عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران، أبو الحسن الرقي، من جلّة أصحاب الإمام أحمد. كان الإمام يكرمه ويجلّه ويفعل معه مالا يفعل مع أحد غيره. توفي سنة 274. (طبقات الحنابلة 1/ 212). (2) انظر: العدّة 5/ 1604 والتمهيد للكلوذاني 4/ 87 والمسوّدة 451 والمغني 1/ 263. وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود 16: "قلت لأحمد: التيمم لكل صلاةٍ أم للحدث إلى الحدث؟ قال: لكل صلاةِ أعجب إليّ ". وسيأتي الكلام على المسألة في ص 208 وما بعدها. (3) هو أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو بكر المروذيَ، من أصحاب الإمام أحمد. كان إماماً في الفقه والحديث، كثير التصانيف. توفي سنة 275. (طبقات الحنابلة 1/ 56). (4) هو مقصور وممدود (شِراء)، والقصر أشهر، وكان الكسائي يقول: مقصور لا غير، انظر مناظرته مع اليزيدي فيه أمام الرشيد في: المصباح المنير (شرى). ووهم من ضبطه "شَرْي". (5) هي أرض العراق التي افتتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب، سميت بذلك لخضرة زروعها وأشجارها، والخضرة: السواد. (معجم=

(4) من غصب أرضا وزرعها فالزرع لرب الأرض وعليه نفقته

ولا يَجوزُ بيعُها، فقيل له: كيف تُشْتَرَى ممن لا يَملِكُ؟ فقال: القياسُ كما تقول، ولكن هو استحسان. واحتج بأن أصحابَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخصُوا في شِرَى المصاحفِ وكَرِهُوا بَيْعَها، وهذا يُشبِهُ ذاك (1). وقال في رواية بكر بن محمد (2) فيمن غَصَبَ أرضاً وزرعها: الزَّرعُ لرب الأرضِ، وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئاً يُوافِقُ القياسَ. أَستَحْسِنُ أن يَدْفَعَ إليه نَفَقَتَه (3). وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألةَ على روايتين، ونصَرَ هو وأتباعُه كأبي الخطَاب (4) وابن عَقِيل وابن

_ = البلدان 3/ 272). (1) انظر: العدة لأبي يعلى 4/ 1182، 1394، 1398، 1605 والتمهيد للكلوذاني 4/ 87 والواضح لابن عقيل 1/ 144 أوالمسودة 452 وبدائع الفوائد 4/ 124. والآثار في كراهية بيع المصاحف أخرجها عبد الرزاق في المصنف 8/ 110 - 113 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 16 وابن أبي داود في المصاحف عن ابن عباس وابن عمر وبعض التابعين، ورخص بعضهم في بيعها. وسيأتي الكلام على المسألتين فيما بعد (ص 221). (2) أبو أحمد النسائي الأصل، البغدادي المنشأ. صحب الإمام أحمد وأخذ عنه، وروى مسائل كثيرة، وكان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه. (طبقات الحنابلة 1/ 119). (3) انظر: العدة 5/ 1605 والتمهيد للكلوذاني 4/ 87 والمسودة 452 وبدائع الفوائد 4/ 124. وراجع المغني 5/ 234 - 236 حيث نقل الرواية وتكلم على المسألة. وسيأتي مزيد البحث عنها في ص 219. (4) هو محفوظ بن أحمد الكَلْوذاني صاحب كتاب "التمهيد في أصول-

من ذهب من الحنابلة إلى القول بالاستحسان مثل الحنفية

[الزاغوني] (1) القولَ بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة وفسر هؤلاء وهؤلاء الاستحسان الذي يقولون به بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. وقيل: هو أولى القياسين (2). قالوا- وهذا لفظ القاضي (3) -: والحجةُ التي يُرجَعُ إليها في الاستحسانِ فهي الكتابُ تارةً، والسُّنةُ أُخرى، والإجماعُ ثالثةً. والاستدلال بترجحِ (4) شَبَهِ بعضِ الأصولِ على بعضِ. كما (5) قلنا بالاستحسان لأجْلِ الكتابِ في شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السَّفَر إذا لم نَجدْ مسلما" (6).

_ = الفقه ". توفي سنة 510. (ذيل طبقات الحنابلة 1/ 116). (1) لم يكتب المؤلف بعد "ابن" من المقصود به، ولعله "ابن الزاغوني " فهو من أبرز العلماء اتباعًا لمنهج أبي يعلى في الأصول والكلام، وقد وصل إلينا كتابه "الإيضاح في أصول الدين". توفي سنة 527. (ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 1/ 180). (2) العدّة 5/ 1610 والتمهيد 4/ 92 والواضح 1/ 144 أ- ب. (3) العدّة 5/ 1607 - 1609. (4) كذا في الأصل وبدائع الفوائد، وفي العدة: "يرجح". (5) كذا في الأصل، وفى العدّة: "فمما". (6) لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) (المائدة: من الآية 106)،. وانظر: المغني 9/ 183 وتفسير القرطبي 6/ 346، وسبب نزول الآية عند البخاري (2780) من حديث ابن عباس. وسيأتي الكلام على المسألة فيما بعد، ص 225.

(2) الاستحسان للسنة

قال: ومما قلنا فيه بالاستحسانِ للسنّةِ فيمن غَصَبَ أرضاً وَزَرَعَها، فالزرعُ لِرَبِّ الأرضِ، وعلى صاحب الأرضِ النفقةُ لصاحبِ الزَّرع، لحديثِ رافع بن خَدِيْج عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من زَرعَ في أرضِ قومٍ فَالزرعُ لِرَب الأرضِ وله نفَقَتُه" (1). وقد كان القياس أن يكون الزرع لزارعه (2). قال: ومما قلنا فيه بذلك للإجماع جوازُ سَلَمِ الدراهم والدنانير في الموزونات، وكان القياس أن لا يجوز ذلك لوجود الصفة المضمومة إلى الجنس، وهي الوزن، إلاّ أنهم استحسنوا فيه للإجماع (3). قلت: ومن ذلك أن نفقةَ الصغيرِ وأجرةَ مُرضِعِه على أبيه دونَ أمِّه بالنصّ (4) والإجماعِ. والقياسُ- عندَ مَن يَجْعلُ النفقةَ على كل

_ (1) أخرجه أبو داود (3403) والترمذي (1366) وابن ماجه (2466) وأحمد 3/ 465، 1/ 144 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 136 من طريق شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وتكلّم عليه الألباني وصححه لشواهده في إرواء الغليل 5/ 351. (2) قال ابن قدامة في المغني 5/ 236: "أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحسانا على خلاف القياس، فإن القياس أن الزرعَ لصاحب البذر، لأنه نماء عين ماله، وقد صرح به أحمد فقال: هذا شيء لا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته للأثر". (3) انتهى كلام أبي يعلى في العدة. وانظر هذه المسألة في المغني 4/ 9 - 10. (4) قال تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) =

- جواز إجارة الظئر

وارثٍ بفرضٍ أو تعصيبٍ، أو على كل ذِيْ رَحِمٍ (1) مَحْرَم، أو على عَمودي النسبِ مطلقاً- أن يكون على الأبوين. وكذلك يقولون: جواز إجارة الظئْر ثابت بالنص (2) والإجماع على خلاف القياس، بل وقد يقولون بجواز الإجارة، بل وجواز القرض والقراض وغير ذلك على خلاف القياس (3) للإجماع.

_ = [الطلاق: 7]. وقال القرطبي في تفسيره 18/ 172: "هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ". وانظر: الأم 5/ 90 وأحكام القرآن للشافعي 1/ 264 وفتح الباري 9/ 500، 514. (1) في الأصل: "ذي كل رحم". (2) قال تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)) [الطلاق: من الآية 6]. والظئر: المرأة الأجنبية تحضن ولد غيرها. وقد قال بعض الفقهاء: إن إجارة الظئر للرضاع على خلاف قياس الإجارة، فإن الإجارة عقد على منافع، وإجارة الظئر عقد على اللبن، واللبن من باب الأعيان لا من باب المنافع. وردّ عليهم المؤلف في مجموع الفتاوى 20/ 531، 532 و 30/ 197 - 200 وبين أنها ليست مخالفة للقياس. والمقصود بهم الحنفية كما في بدائع الصنائع 4/ 175 والبناية 7/ 949. (3) أما الإجارة فقالوا: إنها بيع معدوم، لأن المنافع معدومة حين العقد، وبيع المعدوم لا يجوز. وأما القرض فقالوا: لأنه بيع ربويّ بجنسه من غير قبض. ورد المؤلف في مجموع الفتاوى 20/ 514. 515 على هؤلاء، والمقصود بهم الحنفية، فهم الذين نقل عنهم ما ذكر. انظر: أصول السرخسي 2/ 203 وبدائع الصنائع 4/ 173، 7/ 396 والبناية 7/ 868.

ذكرهم المعنى الذي يقتضي التخصيص، مثل الحاجة والضرورة

لكن إذا أَبْدَوْا معنى يَقتضي التخصيصَ مثلَ الحاجةِ، قيل: هذا يقول به جميعُ الأمّة، بل جميعُ علماء السنّة، مثل إباحة الميتة للمضطر للضرورة، وصلاة المريض قاعداً للحاجة، ونحو ذلك. وإنما يتنازعون إذا لم يظهر في إحدى الصورتين معنًى يُوجِبُ الفرقَ./ ولهذا فسَّر غيرُ واحدٍ الاستحسانَ بتخصيصِ العلَّة، كما ذكر ذلك أبو الحسين البصري (1) والرازي (2) وغيرهما، وكذلك هو، فإنَ غايةَ الاستحسانِ- الذي يقال فيه: إنه يخالف القياسَ حقيقةً- تخصيصُ العلَّةِ. والمشهور عن أصحاب الشافعي منع تخصيص العلة، وعن أصحاب أبي حنيفة القولُ بتخصيصها (3)، كالمشهور

_ (1) قال في المعتمد 2/ 839: "الكلام في الاستحسان على ما فسره أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه يقع في المعنى وفي العبارة. أما في المعنى فهو أن بعض الأمارات قد يكون أقوى من بعض، ويجوز العدول من أمارة إلى أخرى من غير أن تفسد الأخرى، وذلك راجع إلى تخصيص العلة". (2) هو أبو بكر الجصاص الذي قال في الفصول في الأصول (ق 297/أ- ب): "إن الاستحسان الذي هو تخصيص الحكم مع وجود العلة أنّا متى أوجبنا حكما لمعنى من المعاني قد قامت الدلالة على كونه عَلَما للحكم، وسميناه علة له، فإنّ إجراء ذلك الحكم على المعنى واجب حيث ما وُجِد، إلاّ موضع يقوم الدلالة فيه على أن الحكم غير مستعمل فيه، فرجع مع وجود العلة التي من أجلها وجب الحكم في غيره، فسموا ترك الحكم مع وجود العلة استحسانا". (3) قال الجصّاص في الفصول في الأصول (ق 299 أ): "تخصيص أحكام العلل الشرعية جائز عند أصحابنا وعند مالك بن أنس، وأباه بشر بن غياث والشافعي، والذي حكيناه من مذهب أصحابنا في ذلك أخذناه=

اختلاف العلماء في جواز تخصيص العلة ومنعه

عنهما في منع الاستحسان وإجازته. ولكن في مذهب الشافعي خلاف في جواز تخصيص العلة (1)، كما في مذهب مالك (2) وأحمد (3).

_ = عمن شاهدناهم من الشيوخ الذين كانوا أئمة المذهب بمدينة السلام، يعزونه إليهم على الوجه الذي بينا، ويحكونه عن شيوخهم الذين شاهدوهم. ومسائل أصحابنا وما عرفناه من معانيهم فيها تُوجب ذلك. وما أعلم أحداً من أصحابنا وشيوخنا أنكر أن يكون ذلك من مذهبهم إلاّ بعض من كان هاهنا بمدينة السلام في عصرنا من الشيوخ ". وعقد السرخسي في أصوله 2/ 208 - 215 فصلاً في بيان فساد القول بجوازه، وقال: "زعم بعض أصحابنا أن التخصيص في العلل الشرعية جائز، وأنه غير مخالف لطريق السلف، ولا لمذهب أهل السنة، وذلك خطأ عظيم من قائله، فإن مذهب من هو مرضي من سلفنا أنه لا يجوز التخصيص في العلل الشرعية، ومن جوز ذلك فهو مخالف لأهل السنة، مائل إلى أقاويل المعتزلة في أصولهم". وهكذا نجد الخلاف بين الحنفية في هذه المسألة، ونقل هذا الاختلاف في كتب الأصول المتأخرة، انظر: كشف الأسرار للبزدوي 4/ 32 وشرح مسلم الثبوت 2/ 277. (1) انظر تفصيل القول في ذلك في: المعتمد 2/ 822 والتلخيص 3/ 271، 272 والتبصرة 466 وشرح اللمع 2/ 882 والمستصفى 2/ 336 والإحكام للَامدي 3/ 315 والمحصول 2/ 2/323 وشرح جمع الجوامع 2/ 340. (2) ذكر القرافي في شرح تنقيح الفصول 400 أن القول بالجواز هو المذهب المشهور. ولكن ابن القصار في المقدمة في الأصول 80 لم ينقل إلاّ عدم الجواز. (3) انظر: العدّة 4/ 1386، 1387 والتمهيد 4/ 69، 70 والمسودة 412،=

من قال بالاستحسان ومنع تخصيص العلة

ومن الناس من حكى قول الأئمة الأربعة جواز تخصيص العلة. وقد ذكر أبو إسحاق بن شَاقْلاَ (1) عن أصحاب أحمد في تخصيص العلة وجهين. ومن الناس من يحكي ذلك روايتين عن أحمد. والقاضي أبو يعلى وأكثر أتباعه كابن عقيل يمنعون تخصيص العلة (2) مع قولهم بالاستحسان. وكذلك أصحاب مالك (3). وأما أبو الخطاب فيختار تخصيصَ العلَّة (4) موافقةً لأصحاب أبي حنيفة، فإن هذا هو الاستحسان كما تقدم. وهؤلاء يُجوَزون تخصيصَها بمجردِ دليلٍ يدكُ على التخصيص، وإن لم يُبيق اختصاصُ صورةِ النقضِ فقدانَ شرطٍ أو وجودَ مانع. وهذا حقيقة ما ذكره القاضي وهؤلاء في الاستحسان، كما ذكره فيً الأمثلة. وِلكن القاضي وغيره ممن يقول بالاستحسان ومَنْعِ تخصيصِ العلةِ فرقُوا بينهما فقالوا- واللفظ للقاضي (5) -: لا يجوز تخصيصُ

_ = 413 وروضة الناظر 2/ 321. وتكلم المؤلف هنا في هذه المسألة، واستعرض آراء الحنابلة. وانظر: مجموع الفتاوى 20/ 167. (1) هو إبراهيم بن أحمد بن عمر، كان جليل القدر كثير الرواية حسن الكلام في الأصول والفروع، شيخ الحنابلة في وقته. توفي سنة 369. (طبقات الحنابلة 2/ 128). (2) قال في العدّة 4/ 1386: "لا يجوز تخصيص العلة الشرعية، وتخصيصها نقضها". وانظر: الواضح 1/ 144 ب. (3) في الأصل: "م" يرمز به إلى مالك. (4) التمهيد 4/ 69. (5) في العدة 4/ 1386 - 1388.

- حجة من قال بجواز تخصيصها، ومناقشة أبي يعلى لها

العلَّة الشرعية، وتخصيصُها نقضُها. قال: وقد قال أحمد في رواية الحسين بن حسّان (1): القياسُ أن يُقاسَ الشيءُ على الشيء إذا كان مثلَه في كل أحوالِه، فأما إذا أشْبَهَه في حالٍ وخالفَه في حالٍ فهذا خطأ (2). قال: وهذا الكلام يمنع من تخصيصها. قال: وقد ذكر أبو إسحاق- يعني ابنَ شَاقْلا- في "شرح الخِرَقي" فقال: أصحابنا على وجهين: منهم من يَرى تخصيصَ العلَّة، ومنهم من لا يَرى ذاك. وقال: وقد ذكرها أبو الحسن الخَرَزِي (3) في "جزءٍ فيه مسائلُ من الأصول ": لا يجوز تخصيصُها.

_ (1) كذا في الأصل ومخطوطة العدة، والصواب: أحمد بن الحسين بن حسان. صحب الإمام أحمد، وروى عنه أشياء، ولم يذكر تاريخ وفاته. ترجمته في طبقات الحنابلة 1/ 39. (2) انظر هذه الرواية في العدّة 4/ 1326، 1354. 1386، 15/ 1436 والتمهيد 4/ 5. ونحوه قول الإمام في رواية الأثرم: "إنما يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا شبهته به فأشبهه في حال وخالفَه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأتَ". (العدة 5/ 1436). (3) كذا في تاريخ بغداد 1/ 4660، وفي طبقات الحنابلة 2/ 167 (الجزري). وهو عبد العزيز بن أحمد البغدادي. كان له قدم في المناظرة ومعرفة الأصول والفروع. توفي سنة 391.

قال: وقول أحمد "القياس كان يقتضي أن لا يجوز شِرَى أرض السواد، لأنه لا يجوز بيعُها" ليس بموجب لتخصيصِ العلّة، فإنها في حكم خاص (1)، وما ذكر أحمد إنما هوَ اعتراض النصّ على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياسُ الأصولِ للخبر (2). ولذلك أجابَ من احتج على جواز تخصيصها بالاستحسان فقال (3): فإن قيل: أليس قد قال أحمد في رواية المَروْذِيّ وقد قيل: كيف تُشْتَرَى ممّن لا يَمْلِكُ؟ فقال: القياس كما تقول، وإنما هو استحسان. واحتج بقول الصحابة في المصاحف. ثم قال في الجواب: قيل: تخصيصُ العلَّة ما يَمنع من جَرْيها في حكم خاص. وما ذكره أحمد إنما هو اعتراضُ النصّ على قياس الأصولِ. ولأنهم قد يَعْدِلُون في الاستحسان عن قياس وعن غير قياس (4)، فامتنع أن يكون معناه تخصيص (5) بدليل. وقد ناقضه أبو الخطاب (6)./ وهذا الذي ذكره القاضي قد ذكره كثير من العلماء فيما إذا عارضَ النصّ قياس الأصول، فقالوا: يُقدم النص. واختلفوا فيما إذا

_ (1) في العدّة: "لأن تخصيص العلَّة ما مَنَع من جَرَيانها في حكم خاص". (2) انتهى كلام أبي يعلى هنا. (3) الكلام لأبي يعلى في العدّة 4/ 1394. (4) "وعن غير قياس" لا توجد في العدّة. (5) كذا بالرفع في الأصل ومخطوطة العدّة. (6) انظر التمهيد 4/ 70 وبعدها.

معارضة النص أو خبر الواحد لقياس الأصول عند بعضهم (وهو القول الثالث)

عارض خبر الواحد قياس الأصول، كخبرِ المُصَراةِ (1) ونحوه (2). وأمّا الأوّل فمثل حَمْلِ العاقلةِ (3)، فإنهم يقولون: هو خلاف قياس

_ (1) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 683، 684 ومن طريقه البخاري (2150) ومسلم (1515) من حديث أبي هريرة، وفيه: "ولا تُصَروا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رَضِيَها أمسكَها، وإن سَخِطَها ردها وصاعاَ من تمر". والمصراة هي الناقة أو الشاة التي يترك صاحبها حلبها ليتجمع لبنها في ضرعها، ليوهم المشتري بكثرة لبنها. وقد أطال المؤلف في الرد على القائلين بأن خبر المصراة يخالف الأصول، انظر: مجموع الفتاوى 20/ 556 - 558. ويقصد بهم الحنفية، انظر: أصول السرخسي 1/ 341 والمبسوط له 13/ 38 وكشف الأسرار للبخاري 2/ 380 ومرآة الأصول 2/ 18 والتحرير مع شرحه التيسير 3/ 52. وانظر: المسألة في المغني 4/ 135 وما بعدها. (2) ذهب جمهور العلماء إلى تقديم خبر الواحد على القياس، وهو قول الشافعي وأحمد وأصحابهما، وقدم أكثر الحنفية القياس. أما المالكية فقال القرافي: حكى القاضي عياض في التنبيهات وابن رشد في المقدمات في مذهب مالك في تقديم القياس على خبر الواحد قولين. (شرح تنقيح الفصول 387). وانظر أدلة الحنفية ومناقشتها في: الإحكام لابن حزم 1/ 104، 143 وبعدها، والمستصفى 1/ 171 وبعدها، والمعتمد 2/ 548 وبعدها، 653 وبعدها، والإحكام للآمدي 2/ 94، 112 وأصول السرخسي 1/ 340، 341، 368 وكشف الأسرار للبزودي 2/ 381 وبعدها، 390 وبعدها وشرح مسلم الثبوت 2/ 178 وبعدها. (3) العاقلة: هي الجماعة التي تَعقِل عن القاتل أي تؤدّي عنه ما لزمه من=

جواز تخصيص العلة المنصوصة دون المستنبطة (وهو القول الرابع)

الأصول، وهو ثابت بالنصّ والإجماع. وهذا يذكره بعض الناس قولاً ثالثاً في تخصيص العلة. ويذكرون قولاً رابعاً، وهو أنه يجوز تخصيص (1) المنصوصة دون المستنبطة (2). وأكثر الناس في التخصيص من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حامد (3) وأبي الطيب (4) والقاضي أبي يعلى وابن عَقِيْل

_ = الدية، وهم عصبته أي قرابته الذكور البالغون من قبل الأب، الموسرون العقلاء. وأصل وجوب الدية على العاقلة حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (6910) ومسلم (1681)، وفيه: "اقتتلت امرأتانِ من هذيل، فرمتْ إحداهما الأخرى بحجرٍ فَقَتَلتْها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقضى أن ديةَ جنينها غُرة: عبدٌ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها". وقد رد المؤلف في مجموع الفتاوى 20/ 552 - 554 على من يقول: إن حمل العاقلة على خلاف القياس. وقد قال به الحنفية، انظر: بدائع الصنائع 7/ 255. وراجع أيضًا: فتح الباري 12/ 346. (1) في الأصل: "تخصيصها" ثم شطب عليها، والسياق يقتضي لفظ "تخصيص". (2) انظر: التمهيد 4/ 70. (3) هو أحمد بن بشر العامري، القاضي أبو حامد المروزي، أحد أئمة الشافعية، له كتب في الأصول والفروع. توفي سنة 362. (تهذيب الأسماء واللغات 2/ 211). (4) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر، أبو الطيب الطبري الشافعي، الإمام الجليل، الفقيه الأصولي القاضي. توفى سنة 450. (تهذيب الأسماء واللغات 2/ 247).

تحرير محل النزاع وبيان أن الخلاف في عفة قام على صحتها دليل

وغيرهم يقولون: إذا خُصَّت المنصوصةُ تَبينا أنها نقض العلة (1)، وإلاّ فلا يجوز تخصيصُها بحال. وهذا النزاع إنما هو في عل! قامَ على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما إذا اكتفي فيها بمجرّد الطَرْدِ الذي يُعلَم خلوُّه عن التأثير والسلامة عن المفسدات، فهذه تَبْطُل بالتخصيصِ باتفاقهم. وأما الطَّرْدُ المَحْضُ الذي يُعلَم خلوُّه عن المعاني المعتبرة فذاك لا يُحتج به عند أحد من العلماء المعتبرين. وإنما النزاعُ في الطَرْدِ الشَبَهِيَّ، كالمجوزات - الشبهية التي يحتجّ بها كثير من الطوائف الأربعة، لاسيما قدماء أصحاب الشافعيّ، فإنها كثيرة في حُجَجِهم أكثر من غيرهم./ والتحقيقُ في هذا الباب (2) أنّ العلَّة تُقَال على العلة التامة،

_ (1) انظر: العدة 4/ 1393 والمصادر الأخرى التي سبق ذكرها في أول مبحث تخصيص العلة. (2) هذا، التحقيق ذكره المؤلف في مجموع الفتاوى 20/ 167، 168 فقال: "أصل ذلك أن مسمى العلة قد يعنى به العلة الموجبة، وهي التامة التي يمتنع تخلف الحكم عنها. فهذه لا يتصور تخصيصها، ومتى انتقضت فسدتْ. ويدخل فيها ما يسمى جزء العلة وشرط الحكم وعدم المانع، فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها. وقد يعنى بالعلة ما كان مقتضيا للحكم، يعني أن فيه معنى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجباً، فيمتنع تخلف الحكم عنه، فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع، فإذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقدح فيها، وعلى هذا فينجبر النقص=

بيان خطأ من قال بعدم جواز تخصيص العلة مطلقا

وهي المستلزِمةُ لمعلولها، فهذه متى انتقضتْ بَطَلَتْ بالاتفاق. وتُقالُ على العلّة المقتضية أوّلاً، وتُسمَّى المؤثّرة ويُسمَّى السببُ دالاً ودليلَ العلَّة ونحو ذلك. فهذه إذا انتقضَتْ لفرقٍ مؤثرٍ يفرّق فيه بين صورةِ النَّقْضِ وغيرِها من الصُّوَرِ لم تَفْسُدْ. ثم إذا كانتْ صورةُ الفرعِ التي هي صورةُ النِّزاع في معنى صورةِ النَّقْضِ أُلحِقتْ بها، وإن كانتْ في معنى صورةِ الأصَلِ أُلحِقت بها. فمن قال: إن العلَّة لا يجوزُ تخصيصُها مطلقاً لا لفواتِ شرطٍ ولا لوجودِ مانع فهذا مخطئ قطعاً، وقولُه مخالفٌ لإجماع السلفِ كلِّهم الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم، فإنهم كلّهم يقولون بتخصيص العلة لمعنًى يُوجبُ الفرقَ، وكلامُهم في ذلك أكثرُ من أن يُحْصَرَ. وهذا معنى قولَ من قال: تخصيصها مذهب الأئمة الأربعة. والقول بالاستحسان المخالفِ للقياسِ لا يمكنُ إلاّ مع القول بتخصيصِ العلَّةِ. وما ذكروه من اعتراضِ النصِّ على قياسِ الأصولِ فهو أحد أنواع تخصيصِ العلَّةِ، وهذا تسليم منهم لكونِ العلَّة تَقْبَلُ التخصيصَ فيَ الجملة. وأما من جَوز تخصيصَ العلة بمجرّدِ دليل لا يُبيِّنُ الفرقَ بين صورةِ التخصيص وغيرِها فهذا مَوْرِدُ النزاعِ في

_ = بالفرق. وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولاوجود مانع كان ذلك دليلاً على أنها ليست بعلة، إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكما، والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها، فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة". ونحوه في مجموع الفتاوى 21/ 356 - 357.

تخصيص العلة المستنبطة دون بيان الفرق المعنوي بين صورة التخصيص وغيرها ضعيف، وهو الذي أنكره الشافعي وأحمد على أصحاب أبي حنيفة

الاستحسان المخالفِ للقياسِ وغيرِه. ثمّ هذه العلَّة إن كانتْ مستنبَطةً وخُصتْ بنصٍّ، ولم يُبيَنِ الفرقُ المعنويُ بين صورةِ التخصيصِ وغيرِها فهذا أضعفُ ما يكونُ. وهذا هو الذي كان يُنكِرُه كثيراً الشافعيُّ وأحمدُ وغيرُهما على من يفعلُه من أصحاب أبي حنيفةَ وغيرهم. وكلامُ أحمدَ فيما تقدَّمَ أرادَ به هذا، فإنَّ العلّةَ المبيّنةَ لم تُعْلَمْ صِحَّتُها إلاّ بالرأي، فإذا عارضَها النصُّ كان مُبطِلاً لها. والنصُّ إذا عارض العلَّة دلَّ علَى فسادِها، كما أنه إذا عارضَ الحكمَ الثابتَ بالقياس دلَّ على فسادِه بالإجماع. وأما إذا كانت العلَّة منصوصةً، وقد جاء نص بتخصيصِ بعض صُوَرِ العلَّة، فهذا ممّا لا يُنكِرُه أحمد، بل ولا الشافعي وغيرُهما، كما إذا جاء نصّ في صورةٍ ونصٌّ يُخالِفُه في صورةٍ أخرى، لكنْ بينَهما شَبَه لم يَقُمْ دليل على أنه مَنَاطُ الحكم فهؤلاء يُقِرُّوْنَ النصوصَ، ولا يَقِيْسُوْنَ منصوصاً على منصوصٍ يُخالِفُ حكْمَه، بل هذا من جنس الذين قالوا: (إنَمَا اَلْبَيع مِثلُ الرِّبَا) (1). وهذا هو الذي قال أحمد فيه: "أنا أذهب إلى كل حديث كما جاء، ولا أَقِيسُ عليه "، أي لا أَقِيْسُ عليه صورةَ الحديث الآخر، فأجعلُ الأحاديثَ متناقضة، وأدفعَ بعضَها ببعضٍ، بل أستعملُها كلَّها./ والذين يدفعون بعضَ النصوصِ ببعضٍ يقولون: الصورتان سواء لا فرقَ بينهما، فيكون أحدُ النصَّينِ ناسخاً للآخر. ومثل هذا

_ (1) سورة البقرة: 275.

أمثلة للأحكام التي قالوا فيها: إنها منسوخة

كثيراَ ما يتنازعُ فيه فقهاءُ الحديث ومن يُنازِعُهم ممّن يَقيسُ منصوصاَ على منصوصٍ، ويجعل أحدَ النصيْنِ منسوخاً لمخالفتِه قياسَ النّصَ الآخرِ في طَيِّ هذا القياسِ. ويَبْقَى الأمرُ دائراَ هل دلَّ الشرعُ على التسويةِ بين الصورتينِ حتى يُجْعَلَ حُكْمُهما سَوَاءَ، ويُجعَلَ الحكمُ الواردُ في إحداهما منسوخا بالحكمٍ المضاد له الواردِ في الأخرى، كما يقوله من يجعل القرعةَ منسوخة بآية الميسر (1)، وأَمْرَ المأمومين بأن يتبعوا الإمام، فإذا كبَّر كبّروا، وإذا ركع ركعوا، وإذا صَلَّى جالساً صَلَّوا جلوساً أجمعين-: منسوخاً بدوام قيامهم في الصلاة التي صَلَّوا بعضَها خلفَ إمام قائمِ، وباقِيهَا خلفَ إمامِ قاعدِ. ويَجعلُ حديثَ الأضحيةِ والهَدْي أَحدَهما منسوخاً بالآخر (2). ويجعلون قَطْعَ جاحدِ العاريةِ (3) منسوخَاً إذا سلَّموا أنه قطعها لذلك، منسوخاً" (4) بقوله: "ليس على

_ (1) الجمهور على مشروعية القرعة في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وليس في القرعة إبطال شيء من الحق كما زعموا. انظر للكلام على القرعة والخلاف فيها: تفسير القرطبي 4/ 86، 87 وفتح الباري 5/ 293، 294 وطرح التثريب 8/ 48، 49. (2) سبق الكلام على المسألتين. (3) قال ابن القيم في إعلام الموقعين 2/ 62: "صح الحديث بان امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطعت يدها،. ثم ذكر اختلاف الفقهاء في سبب القطع. والحديث أخرجه مسلم (1688) وأبو داود (4374) عن عائشة. (4) كرّر "منسوخا" لبعد العهد به، وارتباطه بما بعده.

- العقوبة المالية منسوخة بالنهي عن إضاعة المال

المختلسِ ولا المنتهب ولا الخائن قَطْعٌ " (1). ويجعلون العقوبةَ الماليةَ منسوخةً بالنهي عن إضاعةِ المال (2)، ويَجعلون تضعيفَ الغُرْم على من دُرِئَ عنه القطعُ منسوخاً بقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (3). ويجعل (4) تقضيةَ ما شرَطَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينَه وبينَ المشركين في الهُدْنةِ (5) منسوخاً بقوله: "من اشترطَ شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل" (6).

_ (1) أخرجه أحمد 3/ 380 وأبو داود (4391) والترمذي (1448) والنسائي 8/ 89 وابن ماجه (2591) والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 279 من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) مما ورد في النهي عنها حديث المغيرة بن شعبة الذي أخرجه البخاري (2408) ومسلم (539)، وفيه: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، إضاعة المال ". ورد المؤلف على من يقول إن العقوبة المالية منسوخة في: مجموع الفتاوى 28/ 111 وما بعدها. (3) سورة الشورى:40. وانظر: مجموع الفتاوى 28/ 113، 118 - 119، 333. (4) لم يستقر المؤلف في هذه الفقرة على صيغة واحدة من "يجعل " و"يجعلون"، فافردها نظراً للفظة "مَنْ" الموصولة، وجمعها نظراً لمعناها. وكلاهما سائغ في العربية. (5) يوجد ذكر هذه الشروط في عامة كتب السيرة، ورواها ابن إسحاق باسناد حسن (انظر: سيرة ابن هشام 3/ 440 - 441 طبعة الأردن 1409)، ومن طريقه أحمد في مسنده 4/ 325. (6) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 780، 781 والبخاري (2560، 2561، 2563، 2729) ومسلم (1504) من حديث عائشة، ولفظه: "ما بال=

دفع النصوص البينة الصريحة بلفظ مجمل أو قياس، وإنكار الإمام أحمد وغيره له

وكثير مما يَدعونه في الناسخ لا يعلمون أنه قيل بعد المنسوخ. فهذا ونحوه من دفع النصوص البينةِ الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما كان يُنكِرُه أحمد وغيره. وكان أحمد يقول: " أكثرُ ما يخطئ الناسُ من جهة التأويلِ والقياسِ" (1). وقال: "ينبغيْ للمتكلِّم في الفقه أن يَجْتَنِبَ هذين الأصلينِ: المجملَ والقياسَ" (2). ومرادُه أنه لا يُعارِضُ بهما ما ثَبتَ بنص خاص، ولا يَعْمَلُ بمجردِهما قبلَ النظَرِ في النصوص والأدلةِ الخاصةِ المقيّدةِ. والمطلق يدخل في كلامه وكلام غيره من الأئمة كالشافعي وغيره في المجمل، لا يريدون بالمجمل مالا يُفهَم معناه كما يَظنه بعضُ الناس (3)، ولا مالا يَستقل بالدلالة، فإن هذا لا يجوز الاحتجاج به بحالٍ.

_ = رجالٍ يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط ". (1) انظر: مجموع الفتاوى 7/ 392 حيث نقل قول الإمام وبيَّن المراد منه. (2) قاله الإمام في رواية الميموني، انظر: العدّة 4/ 1281 والتمهيد 3/ 368 وشرح الكوكب المنير 4/ 216. قال أبو يعلى: هذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز. (3) قال المؤلف في كتاب الإيمان (ضمن مجموع الفتاوى 7/ 391): "لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة- كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم- سواء، لا يريدون بالمجمل مالا يُفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل مالا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقا".

الاستحسان المتنازع فيه أن يجيء نصان بحكمين مختلفين في صورتين، وثم صور مسكوت عنها، فيقال: القياس مقتضى أحد النصين، ويلحق المسكوت عنه به وإن لم يعرف المعنى الفارق بينه وبين الآخر

وأما إذا جاء نصان بحكمين مختلفين في صورتين وثَمَ صُوَر مسكوت عنها فهلْ يُقَال: القياس هو مقتضى أحد النَصّينِ؟ فما سكتَ عنه نُلحِقُه به وإن لم نَعرِف المعنى الفارق بينه وبين الآخر. فهذاْ هو الاستحسان الذي تنوزعَ فيه، فكثير من الفقهاء يقول به، كأصحاب أبي حنيفةَ وكثيرِ من أصحاب أحمدَ وغيرِهم. وهذا هو الذي ذكَره القاضي بقوله (1): "اعتراضُ النصِّ على قياس الأصول ". وهو في الحقيقة قول بتخصيص العلة كما تقدم. ومن لم يُجوِّز تخصيصَها إلاّ بفارقي بين صورة التخصيص وغيرِها يقول: لابُد أن يُعلَم الجامعُ أو الفارقُ، فليس إلحاقُ المسكوتِ بأحد النصيْنِ بأولى من إلحاقِه بالآخر. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصين ولم يُعلَم في الآخر، وجاز أن يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يُلْحَقْ بواحدِ منهما إلاّ بدليل. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصينِ ووجودُه في المسكوت عنه، ولم يعلَم المعنى في الآخر فهذا أقوى من الذي قبله، فإنه هنا قد عُلِم مقتضى القياس الصحيح وشمولُه لصورةِ المَسْكُوت. وأما وجودُ الفارقِ فيه فمشكوك فيه. وهذا نظيرُ أَخْذِ أحْمَدَ بالنصوص الواردة في سجود سهوِ (2)،

_ (1) العدّة 4/ 1394. (2) وردت خمسة أحاديث هي العمدة في الباب، ثلاثة منها في السجود بعد السلام، أولها: حديث ذي اليدين الذي رواه أبو هريرة، وفيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ركعتين فسجد، أخرجه البخاري (1227، 1228) =

تحقيق هذا الباب أنه إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يعلم افتراقهما، وإما أن لا يعلم واحد منهما

فما كان منها قبل السلام أخذ به، وما كان بعد السلام أخذ به، وما لم يجئ فيه نصٌّ ألحقَه بما قبل السلام، لأنه القياس عنده (1)./ وتحقيق هذا الباب أنه إما أن يُعلَم استواءُ الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقُهما، وإما أن لا يُعلم واحدٌ منهما، ونعني بالعلم ما يُسميه الفقهاء علماً، وهو أن يقوم الدليلُ على التماثل والاستواء، أو الاختلاف والافتراق، أو لا يقوم على واحدٍ منهما.

_ = ومسلم (573). وثانيها: حديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (574) وفيه أنه سلم من ثلاث فسجد. وثالثها: حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572) وفيه أنه صلى خمساَّ فَسجد، وفي بعض رواياته أنه زاد أو نقص وأمر بالتحري. أما الحديثان اللذان فيهما ذكر السجود قبل السلام، فأولهما: حديث عبد الله ابن بُحينة الذي أخرجه البخاري (1224) ومسلم (570) وفيه أنه قام من الركعتين ولم يجلس. والثاني: حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم (571) وفيه: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلى؟ ثلاثا أو أربعا؟ فليطرح الشك، وليَبْنِ على ما استيقنَ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ". وجعل بعضهم هذه الأحاديث من باب الناسخ والمنسوخ، انظر: الاعتبار للحازمي 115 - 118. (1) في المغني 2/ 21: قال الإمام أحمد في رواية الأثرم: كل سهو جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سجد فيه بعد السلام [يُسْجَد فيه بعد السلام]، وسائر السهو يُسجد فيه قبل السلام، هو أصح في المعنى، وذلك أنه من شأن الصلاة، فيقضيه قبل أن يسلم. وانظر: مجموع الفتاوى 17/ 23 وما بعدها.

متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم أن العلة باطلة

فالأوّل متى ثبتَ الحكم في بعض الصوَر دون بعضٍ عُلِم أن العلَّة باطلة، وهذا مثلُ دعوى من يدَعي أن الموجبَ للنفقةِ نفسر الإيلادِ، أو نفسُ الرحم المحرم، أو مطلق الإرثِ بفرضٍ أو تعصيب، ويَقول: إذا اجتمع الجدُّ والجدةُ كانت النفقةُ عليهما. فإنه لمّا ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمعَ الأبوانِ كانت النفقةُ على الأب (1)، عُلِم أن العَصَبةَ في ذلك يُقدم على غيره، وإن كان وارثاً بفرض، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وعُلِم أن قوله (وعلى الوارث مثل ذلك) (2) هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجوداً، لأن عُمَرَ جَبَرَ بَني عمَ مَنْفُوسٍ على نفقته (3). وهذه الآية صريحة في إيجاب نفقةِ الصغير على الوارثِ العاصب، وقال بها جمهور السلف (4). وليس لمن خالفها حُجَّةٌ أصلاً. ولكن ادعَى (5) بعضهم أنها منسوخة، وقيل ذلك عن مالك (6). وبعضهم

_ (1) سبق الكلام عليه (ص 176). (2) سورة البقرة: 233. (3) انظر: تفسير القرطبي 18/ 171. (4) انظر: تفسير القرطبي 3/ 168، 169. (5) في الأصل: "ادعها" (= ادعاها). (6) رواه ابن القاسم عنه. قال ابن العري في أحكام القرآن 1/ 205: "هذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين وتَحار فيه ألباب الشادين، والأمر فيه قريب، وجهه أن علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمّون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ومسامحة". ونقله القرطبي 1/ 169.

من قال: القياس يقتضي وجوب ثلث النفقة على الأم، ولكن ترك ذلك للنص

قال: عَلَيْه أن لا يُضَار" (1)، فتركُها بدعوى نَسْني أو تأويلِ هو من نوعِ تحريفِ الكلمِ عن مواضعه لغير معارض لها أصلاً مما يَحلَمُ بطلانَه كل من تَدَبَّر ذلك. وإذا كانت الأمِ أقربَ الناسِ إليه لا نفقةَ عليها مع الأب، وهي تَحُوْزُ الثلثَ معه، فأَنْ لا يَجِبَ على الجدةِ مع الجدّ وهي تَحُوْزُ السدسَ أولى وأقوى. والقائلون بذلك يقولون: القياس يَقتضي وجوبَ ثلثِها على الأم، لكن تُرِك ذلك للنص. فيُقَال: أيُّ قياس معكم؟ إنما يكون قياساً لو كان معهم نصّ يتناول هذه الصورة بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النصّ بهذا يُوجبُ إلحاقَ نظائرِه به، فيُقَاسُ كل عاصب معه فرضن أوجبه من وُرَّاثَ الفرض على الأب مع الأمّ. وكذلك إسلامُ النَّقْدَينِ في الموزونات يَقدحُ في كونِ العلةِ الوزنَ، ولم يثبُتْ ذلك بَيِّن، بل بعلّة مُسْتَنبطة قد عارضَها ما هو

_ (1) أي أن الإشارة في قوله تعالى (وَعَلَى الوَارِث مِثلُ ذَلِك) لا ترجع إلى جميع ما تقدم، وإنما ترجع إلى تحريم الإضرار. قال ابن العربي: "هذا هو الأصل، فمن ادّعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل، وهو يدّعي على اللغة العربية ما ليس منها". قلت: هذا كلام لا طائل تحته، فسياق الآية يأبي ذلك، وعطف "على الوارث" على "على المولود له ... " هو الوجه في العربية لا غير، ولذلك جعله المؤلف هنا من نوع تحريف الكلم ومن المعلوم بطلانه لكل من تدبر.

انتقاض العلة يوجب بطلانها قطعا إذا لم تختص صورة النقض بفرق معنوي، فإن الشارع حكيم عادل

أقوى منها (1)، فإن لم يُبّين الفرقُ بين النقدينِ وغيرهما وإلاّ كان انتقاضُها مُبطِلاً لها. فانتقاضُ العلّةِ يوجبُ بُطلانَها قطعاً إذا لم تَختصَّ صورةُ النقضِ بفرقٍ معنويّ قطعاً، فإن الشارعَ حكيم عادل لا يُفرّقُ بينَ المتماثلين، فلا تكون الصورتَان متماثِلتينِ، ثمَّ يُخالِفُ بين حُكْمَيْهما، بل اختلافُ الحكمينِ دليلٌ على اختلاف الصورتينِ في نفس الأمر. فإن عُلِم أنه فرَّقَ بينهما كان ذلك دليلاً على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يُعلَم بمجيء الفرقِ. وإن عُلِمَ أنه سَوى بينهما كان ذلك دليلاً على استوائهما. وإن لم يُعلَم هذا ولا هذا لم يَجُز أن يُجمَع ويُسوَّى إلاّ بدليلٍ يقتضي ذلك (2). وهذا معنى قول إياس بن معاوية: "قِسْ للقَضَاءِ ما استقامَ

_ (1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 29/ 471: الأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن كما قاله جمهور العلماء، ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل. فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا. والمنازع يقولْ جواز هذا استحسان. وهو نقيض للعلة. ويقولْ إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه. وتخصيص العلة الذي قد سمي استحساناً إن لم يبين دليل شرعي يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة، واختصاص صورة التخصيص بمعنًى يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع والأحاديث، وإلاّ كانت العلة فاسدة. (2) انظر كلام المؤلف في معنى القياس الصحيح والقياس الفاسد مع ذكر الأمثلة لهما في: مجموع الفتاوى 19/ 285 - 288.

لماذا قال أحمد بالاستحسان تارة وأنكره أخرى؟

القياسُ، فإذا فَسَدَ فَاسْتَحْسِنْ" (1). فأمر بمخالفة القياس إذا تغير الأمرُ بحصولِ مفاسِدَ تَمنعُ القياس./ وأحمد قال بالاستحسان لأجْلِ الفارقِ بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيصِ العلَّةِ للفارقِ المُؤثر، وهذا حق. وأنكرَ الاستحسان إذا خُصتِ العلةُ من غيرِ فارقٍ مؤثّرٍ، ولذا قال: "يَدَعُون القياسَ الذي هو حن عندهم للاستحسان "، وهذا أيضًا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو مُنكَرٌ كما أنكروه. فإن هذا الاستحسان وما عُدِل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقاً وجمعاً بين الصورتين بلا دليلٍ شرعي، بل بالرأي الذي لا يَستنِدُ إلى بيان الله ورسوله وأمرِ الله ورسوله، فهو ليس له وضعُ الشرع أبداً، وقد قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (2). وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارعُ على علّتِه، ولا دل

_ (1) قول إياس هذا في أخبار القضاة لوكيع 1/ 341 والعدّة لأبي يعلى 5/ 1606 والتمهيد للكلوذاني 4/ 91. ونقحه في هذه المصادر: "قيسوا للقضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا". واياس يُضرب به المثل في الذكاء والفطنة، كان قاضيا على البصرة. توفى سنة 0122 انظر ترجمته في أنساب الأشراف للبلاذري 11/ 337 - 351. وهو الذي عناه أبو تمام عندما قال: إقدامُ عمرٍ وفي سماحةِ حاتمٍ في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ اياسِ (2) سورة الشورى: 21.

مجيء النص بخلاف العلة في بعض الصور دليل على أنها ليست علة تامة قطعا

لفظ الشرعِ على عمومِ المعنى فيه، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبةٍ أو لمشابهةٍ ظنها مناطَ الحكم، ثمَّ خصَّ من ذلك المعنى صوراً بنص يعارضه كان معذوراً فِي عمله بالنصّ. لكن مجيء النصِّ بخلاف تلك العلة في بعض الصور دليل على أنها ليستْ علّةً تامة قطعاً، فإنّ العلةَ التّامّةَ لا تَقبلُ الانتقاضَ. فإن لم يعلم أن مورد النص مختصّ بمعنًى يوجبُ الفرقَ لم يَطمئنَّ قلبُه إلى أنّ ذلك المعنى هو العلَّةُ، بل يجوز أن تكونَ العلةُ معنًى آخرَ، أو أن يكون ذلك المعنى بعضَ العلَّةِ، وحينئذٍ (1) فلا يفترقُ الحكم من جميعِ مواردِ ما ظنَّهُ علةً. وإن كان مورد الاستحسان هو أيضًا معنًى ظنه مناسباً أو مشابهاً فإنّه يَحْتاجُ حينئذٍ إلى أن يثبت ذلك بالأدلَّةِ الدالةِ على تأثير ذلك الوصفِ، فلا يكون قد تركَ القياسَ إلاّ لقياسٍ أقوَى منه، لاختصاصِ صورة الاستحسان بما يوجب الفرقَ بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذٍ لنا استحسان يخرجُ عن نصٍّ أو قياسٍ. وهذا هو الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما في الاستحسان، وما قال به فإنما هو عُدول عن أنه قياس، لاختصاص تلك الصورة بما يوجب الفرقَ. وحينئذٍ فلا يكون الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لايجوز العدول عنه بحالٍ. وهذا هو الصواب، كما قد بسطناهُ في مصنَّفٍ مفردٍ، بمناسبة

_ (1) تكررت هذه الكلمة في الأصل.

المعدول به عن سنن القياس هل يقاس عليه أم لا؟

أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلاً (1). وعلى هذا فصُوَرُ الاستحسان المعدولِ بها عن سَنَنِ القياس يُقاسُ عليها عند أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إذا عُرِف المعنى الذي لأجله ثبتَ الحكم فيها. وذكروا عن أصحاب أبي حنيفةَ أنه لا يُقاس عليها (2)، وهو من جنس تخصيصِ العلَّة والاستحسان، فإنّ مَن جوَّز التخصيص والاستحسان من غير فارقٍ معنوي قال: المعدولُ به عن سَنَنِ القياس لا يجب أن يكون لفارقٍ معنوي، فلا يُقاسُ عليه، لأنَّ من شرطِ القياس وجودَ العلَّةِ وتفرِيْقَها. ومن قاسَ قال: بل لا يكون إلاّ لفارقٍ،/فإذا عَرفناهُ قِسْنَا. قال القاضي (3) وغيره: مسألة: المخصوصُ من جملة القياسِ

_ (1) يشير المؤلف هنا إلى "رسالة في معنى القياس"، وقد نشرت في مجموعة الرسائل الكبرى بالقاهرة 1323، ثم في مجموعة بعنوان "القياس في الشرع الإسلامي" بالقاهرة 1346، ثم في "مجموع الفتاوى" (الرياض) 20/ 504 - 584. وعنوانها كما في العقود الدرية (ص 45، ط. القاهرة 1356): "قاعدة في تقرير القياس في مسائل عدة، والرد على من يقول: هي على خلاف القياس". وقد نقل ابن القيم في إعلام الموقعين 1/ 383 - 401 ثم 2/ 3 - 38 معظم هذه الرسالة مع التعليق عليها في مواضع، وأفاد بأنه هو الذي سال شيخ الإسلام في هذا الموضوع، فأجاب عليه بهذه الرسالة. (2) انظر نحوه في مجموع الفتاوى 20/ 555، 556 حيث ذكر المذهبين، وبين وجهة نظر الجمهور. (3) في العدّة 4/ 1397 - 1401. وانظر: التمهيد 3/ 444 - 449=

اختلاف العلماء في هذا الباب مع ذكر الأمثلة

يُقاسُ عليه ويُقاسُ على غيره، أمّا القياس عليه فإن أحمد قال في رواية ابن منصور (1): "إذا نَذَرَ أن يذبحَ نفسَه يَفْدِيْ نفسَه بذبحِ كَبْش"، فقَاسَ مَن نَذَر ذَبْحَ نفسِه على مَن نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِه، وإن كان ذلك مخصوصا من جملة القياس. وإنما ثبتَ بقولِ ابن عباس (2). وأما قياسُه على غيرِه فإن أحمدَ قال في رواية المزُوذي: يجوز شِرَى أرضِ السوادِ، ولا يجوز بيعُها، فقيل: كيفَ تُشتَرَى ممن لا يَمْلِكُ؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هذا استحسان. واحتج بأن الصحابةَ رخصوا في شِرَى المصاحفِ دونَ بَيْعِها. وهذا يُشْبِه ذاك. قال: فقد قاسَ مخصوصا من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس. وبهذا قال الشافعي. وقال أصحابُ أبي حنيفة: لا يُقاسُ (3) على غيره ولا يُقاس [غيرُه] (4) عليه، إلاّ أن تكون عِلتُه منصوصة أو مُجْمَعاَ على جواز القياس عليه (5).

_ = والواضح 1/ 145 أ. (1) هو إسحاق بن منصور الكَوْسَج. (2) أخرج عبد الرزاق في المصنف 8/ 460 والبيهقي في السنن الكبرى 15/ 73 عن ابن عباس أنه أمر من نذر ذبح ولده بذبح كبشٍ. وانظر: المحلى 8/ 354 والمغني 8/ 709 وتفسير القرطبي 15/ 107، 111. (3) أي المخصوص من جملة القياس، كما في العدّة. (4) الزيادة من العدّة ليستقيم السياق. (5) هذا رأي الكرخي منهم، وهناك آراء أخرى لهم مذكورة في كتب الأصول، انظر: أصول السرخسي 2/ 153 وكشف الأسرار 3/ 312=

حجة القائلين بجواز القياس على المخصوص، والرد على المانعين

فالمنصوصُ كقوله: "إنها من الطوافِينَ عليكم والطوافاتِ " (1). والمجمعُ عليه كالتحالف في الإجارة قياساً على التحالف في البيع، لاتفاقِ مَن أوجبَ التحالفَ في البيع أن حكمهما سواء (2). والممنوع مثل قياس الجنازةِ على الصلاةِ في الإسقاطِ بالقهقهة (3)، وإسقاط الكفارة في الاستقاءة لا يقاس عليه الأكل (4)، والوضوء بنبيذِ التَمرِ لا يُقاسُ عليه غيرُه من الأنبذةِ، وجواز البناء على صلاته إذا أحدث لا يقاس عليه من أَمْنَى بالاحتلام ونحوه (5). واحتجّ أصحاب الشافعي وأحمد بحُجَج، وهذا لفظ القاضي أبي يعلى، قال (6): وأيضاً فإنَّا إذا قِسْنَا على المخصوص، أو (7) قِسْنَا

_ = وشرح مسلم الثبوت 2/ 251. (1) أخرجه مالك في الموطأ 1/ 23، ومن طريقه: أحمد 5/ 303 وأبو داود (75) والترمذي (92) والنسائي 1/ 55 وابن ماجه (367) من حديث أبي قتادة. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة (154) وابن حبان (121 - موارد) والحاكم في المستدرك 1/ 159، 160. (2) انظر: أصول الجصاص 122 والتمهيد 3/ 555. (3) انظر: أصول السرخسي 2/ 153. (4) انظر: فتح القدير لابن الهمام 1/ 335 وحاشية ابن عابدين 2/ 414. (5) انظر: أصول الجصاص 120 وفتح القدير 1/ 377. وهذا كله كلام القاضي أبي يعلى في العدّة. (6) العدة 4/ 1402. (7) كذا في الأصل بزيادة "أو"، ولا توجد في العدة.

تعليق المؤلف عليها

المخصوصَ على غيرِه، وحملنا النبيذَ على غيرِه من المائعات، والقَهقهةَ على الكلام، فإن مخالفَنا يعترف بصحة القياس، وأنّه يجب حملُ النبيذِ على غيرِه من المائعاتِ والقهقهة على الكلام، ويدَعي أنه استَحسنَ تركَه لما هو أولى منه (1). قالوا: وهذا غير صحيح لوجهين: أحدهما: أنه يلزمُه أن يُبين الأولى، وإلاّ حكمُ القياسِ متوجهٌ عليه. وهذا كما لو قال: القرآنُ يدكُ على كذا، ولكن تركتُه للسنةِ، فتكون حُجةُ القرآنِ لازمةَ له ما لم يُبين السنةَ التي هي أقوى من القرآن، ولا يكفي في ذلك مجردُ الدعوى. والثاني: أنه يدَعي أنَ الاستحسانَ أقوى من القياسِ، فلهذا تركه. والقياسُ إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً، ولم يكن له حكم. كما لو عارضَه نمنُ كتاب أو سنَّةِ أو إجماع. ولمّا حُكِم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون مَا عارضَه أقوى منه ومانعاً من استعماله (2). قلت: مضمونُ هذا إبطالُ أن يكون هذا مخصوصاً من جملة القياس، وقياسه على سائر الصور، وهذا إبطال للاستحسان، وهذا يقتضي أن الاستحسانَ إذا خالفَ القياسَ لَزِمَ بُطلانُ الاستحسانِ إن كان القياس صحيحاً، أو بطلانُ القياس إن كان الاستحسان المعارِضُ

_ (1) انظر: أصول الجصاص 120 وأصول السرخسي 2/ 153. (2) هنا ينتهي كلام أبي يعلى.

تحقيق الكلام في ذلك أنه إذا تعارض القياس والاستحسان، فإن لم يكن بينهما فرق، وإلا لزم بطلان أحدهما

له صحيحاً. وهذا لا يتوجهُ فيمن يقول بالاستحسان، وجَعلَ معارضةَ الاستحسانِ للعفَةِ كمعارضتِه لحكمها، وهذا قولُ نُفاةِ الاستحسان مطلقاً. والتحقيقُ في ذلك أنه إذا تعارضَ القياسُ والاستحسان فإن لم يكن بينهما فرقٌ، وإلاّ لَزِمَ بطلانُ أحدِهما، وهو مسألةُ تخصيصِ العلَّة بعَشها. فإن لم يكن بين الصورة المخصوصة وغيرِها فرقٌ لَزِمَ التسوية، وحينئذ فإمَّا أن تكون العلَّةُ باطلةً، وإمّا أن يكون تخصيصُ تلك الصورةِ باطلاً. وهذا هو الصواب في هذا كُفَه، وهو الذي يُنكرِه الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنَّهم لا يأتون بفرقٍ مؤثّرٍ بينهما، كما لم يأتوا بفَرْقٍ مؤثّرٍ بين نبيذِ التَّمر وغيرِه من المائعاتِ، ولا بين القهقهة في الصلاة التي فيها ركوع وسجود وبين صلاة الجنازة وغيرهما مما يشترطون فيه الطهارة./ وذكروا أدلةً أخرى جيّدة، كقولهم- واللفظ للقاضي (1) -: وأيضاً فإن ما وردَ به الأثَرُ قد صارَ أصلًا بنفسِه، فوجبَ القياسُ عليه كسائر الأصول (2). وليس ردِّ هذا الأصلِ لمخالفةِ تلك الأصولِ له بأولَى من رَذَ تلك الأصول لمخالفةِ هذا الأصل، فوجبَ إعمالُ كلِّ

_ (1) في العدة 4/ 1403. (2) انظر إعلام الموقعين 2/ 311 حيث قرره ابن القيم ونقل فيه عن شيخ الإسلام. وحاول الحنفية الجواب عنه. انظر: أصول الجصاص 123.

تعليق المؤلف عليها وذكر بعض الأمثلة

واحدٍ منهما في مقتضاه، وإجراؤُه على عمومِه. وأيضا فإنّ القياسَ يَجرِي مَجْرَى خبرِ الواحدِ، بدليلِ أن كلَّ واحدٍ منهما يثبُتُ بغالب الظن. ثمَ ثبتَ أنه يَصِحُّ أن يَرِدَ مخالفاً لقياسِ الأصولِ، كذلك اَلقياسُ مثلُه (1). قلتُ: ومن هذا الباب جمعُ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاةَ بعرفةَ ومزدلفةَ (2)، لو لم يَرِدْ به نصّ في أسفارٍ أُخَر. وأمّا قَصْرُه الصلاةَ بعرفَةَ بأهلِ مكَّةَ وغيرِهم فليسَ مخالفاً لعادتِه، فإنّه مازالَ يَقْصُر في السفَر، بل هو بيان استواء السَّفَر الطويل والقصير في ذلك (3). فأمَّا منعُ قَصْرِ المكّيّين فهو مخالفٌ للسنة الثابتةِ بلا ريب (4). وإنما خالفَ ذلك مَن

_ (1) هنا انتهى كلام أبي يعلى. (2) ورد ذكر الجمع بهما في حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم (1218) وغيره، وورد ذكر الجمع بعرفة في حديث ابن عمر عند البخاري (1662)، والجمع بمزدلفة في حديث أبي أيوب الأنصاري عند البخاري (1674) ومسلم (1287) وحديث أسامة بن زيد عند البخاري (1672) ومسلم (1280) وحديث ابن عمر عند البخاري (1673). (3) هذا ما قرّره المؤلف في مواضع أخرى من كتبه وفتاواه (انظر: مجموع الفتاوى 24/ 34 - 35، 12 - 13، 15)، وذكره العلماء من اختياراته. (العقود الدرية 212 وذيل طبقات الحنابلة 2/ 405). (4) قال المؤلف في منسكه (مجموع الفتاوى 26/ 130): "ولم يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا خلفاؤُه أحداً من أهل مكة أن يتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: أتمّوا صلاتكم فإنا قوم سفر. ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ". ونحوه في مجموع الفتاوى 24/ 10، 11 و 20/ 361، 362.

ما قيل فيه إنه خالف القياس في صور الاستحسان فلا بد أن يكون قياسه فاسدا، أو يكون تخصيصه بالاستحسان فاسدا، إذا لم يكن هناك فرق مؤثر

غَفَل عن هذه السنة. وأمّا قَصْر غير المكيين فلأنَ القصرَ ليسَ من خصائص الحج ولا متعلقاً به. وإنما هو متعلق بالسفَر طَرداً وعَكْساً. وكلامهم في هذه المسألة تقتضيْ أن ما قيل فيه إنَه خالفَ القياسَ في صور الاستحسان فلا بد أن يكون قياسُه فاسداً، أو أن يكون تخصيصُه بالاستحسانِ فاسداً، إذا لم يكن هناك فَرْق مُؤثر. وهذا هو الصواب في هذا الباب. قالوا (1): واحتجَّ المخالفُ بأن إثباتَ الشيء لا يَصحُّ مع وجودِ ما يُنافِيْه، فلما كان القياسُ مانعاً مما وردَ به الأثرُ لم يَجُزْ لنا استعمالُ القياسِ فيه، لأنه لو جازَ ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصولِ التي يُمنَع قياسُها منه. فكانَ يَخرجُ حينئذٍ من كوبه مخصوصاً من جملةِ القياسِ. قالوا: والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنّا لا نُسلمُ أن هاهنا ما يُنافِيْه، لأنّ المنافاةَ تكون بدليلٍ خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل. والثاني: أن المنافاةَ إنّما تَحصُلُ بقياسِه على غيرِه في إسقاطِ حكم النص، فأمّا قياسُ غيرِه عليه فلا يُنَافيْه، لأنه لا يُسْقِطُ حُكْمَ النصِّ عندهم، فيصح القياسُ عليه (2).

_ (1) الكلام لأبي يعلى في العدّة 4/ 1408. (2) انتهى كلام أبي يعلى.

تعليق المؤلف على الجواب

قلتُ: هذا الثاني جواب عن قياسِ غيرِه عليه، والأولُ جواب عن قياسِه على غيرِه، ومُنِع لكونه مخصوصاً من جملة القياس. والتحقيق أنه وإن كان مخصوصاً من جملةِ القياسِ فهو مخصوص من قياسٍ معينٍ، لا من كُل قياسٍ، وإنما يُخَص لمعنًى فيه يُوجبُ الفرقَ بينَه وبينَ غيرِه. فإذا قِيْسَ عليه غيرُه بذلك المعنى لم ينافِ ذلك كونَه مخصوصا من ذلك القياس الأول. وحقيقة هذا كُفه أنَه قد يثبت الحكم على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر، فمن يقول بالاستحسان من غير فارقٍ مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارقٍ مؤثّر، وبمنع القياس على المخصوص، يثبِت أحكاماً على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر. وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الأكثرون، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وهم تارةً يُنكرون صحةَ القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارةً ينكرون مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدعونه من الاستحسان (1) الذي ليس بدليل شرعي، وتارةً ينكرون صحةَ الاثنين، فلا يكون القياس صحيحاً، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحاً، بل كِلاَ الحجتينِ (2) ضعيفة، وإنكار هذا كثير في كلام هؤلاء./

_ (1) في الأصل: "الإحسان" وهو سبق قلم. (2) كذا في الأصل "كلا" بالتذكير.

فصل: في ذكر المواضع التي يقال إنها على خلاف القياس الصحيح

فصل وقد تدبَّرتُ عامَّةَ هذه المواضع التي يدَعي من يدَعي فيها من الناسِ أنّها تَثبت على خلاف القياس الصحيح، أو أنّ العلّة الشرعية الصحيحة خُضَتْ بلا فرقٍ شرعي من فواتِ شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرقٍ شرعي، فوجدتُ الأمر بخلاف ذلك، كما قاله أكثر الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض أيضًا، فيخصُّ ما يجعله علةً بلا فارقٍ مؤثّر، كما أنه قد يقيس بلا علّة مؤثّرة. فالمقصود ضبط أصول الفقه الكلّية المطّردة المنعكسة، وبيان أن الشريعةَ ليس فيها تناقض أصلاً، والقياس الصحيح لا يكون خلافُه إلاّ تناقضاً، فإنّ القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلَين والفرق بين المختلفَين، والجمع بين الأشياء فيما جمع الله ورسولُه بينها فيه، والفرق بينهما فيما فرَّق الله ورسوله بينها فيه. والقياس هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطاً للحكم، وذلك المعنى قد يكون لفظ شرعي عام (1) أيضًا، فيكون الحكم ثابتاً بعموم لفظ الشارع ومعناه. وقد بيّنَّا

_ (1) كذا في الأصل الكلمات الثلاث بالرفع.

دراسة ما يذكره العلماء أنه استحسان على خلاف القياس

في غير هذا الموضع (1) أن الأحكام كلَّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظُه تناولتْ جميعَ الأحكام، والأحكام كلّها معلَّلةٌ بالمعاني المؤثرة، فمعانِيْه أيضًا متناولة لجميع الأحكام. لكن قد يفهمُ المعنى من لِم يَعرفِ اللفظَ العامّ، وقد يَعرِف اللفظ العائمَ ودلالتَه مَن لم يَفهم العلّةَ العامةَ. وكثيراً ما يَغلَطُ من يظنّه قال لفظاً ولم يقله، أو يجعله عاما أو خاصا ويكون مراد الشارع خلاف ذلك، كما يَغْلَط من ينفي لفظاً قاله، وكما يَغْلَطُ من يظنّه اعتبر معنًى لم يعتبره، أو ألغَى معنًى وقد اعتبره، ونحو ذلك. ولنأتينَ بما يذكر العلماء أنه استحسانٌ على خلاف القياس: فمن ذلك ما يقوله أحمد في إحدى الروايتين عنه إذا اعتبر الاستحسان، فإنه قد ذكر عنه روايتين (2) كما تقدم، والقول الثالث وهو الذي يدكُ عليه أكثر نصوصه أن الاستحسان المخالف للقياس

_ (1) انظر "قاعدة في شمول النصوص للأحكام "، ومجموع الفتاوى 19/ 280 وما بعدها، فقد ذكر أن الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. ثم مثل بلفظ "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال عن الخمر إنها تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلاَ آخر يوافق النص. ومن كان متبحّرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة. (2) كذا في الأصل منصوباً.

(1) استحسان التيمم لكل صلاة

صحيح إذا كان بينهما فرق مؤثر قد اعتبره الشارع، وليس بصحيح إذا جُمِعَ بغير دليلٍ شرعي وفُرقَ بغير دليلٍ شرفي، وأنه لا يجوز ترك القياس الصحيح. أما قوله "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، لكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يَجِدَ الماءَ أو يُحدِثَ" (1) فهذا القياس هو الرواية الأخرى عنه، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم (2)، وهو الصواب، كما دل عليه الكتاب والسنة. وقوله "القياس" هو قياس الشرع لفظاً ومعنًى. فإن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصعيدُ الطيبُ طَهورُ المسلمِ ولو لم يَجدِ الماءَ عَشْرَ سنينَ " (3)، وقوله: "جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مسجداً وطَهوراً" (4) ونحو ذلك، ألفاظ

_ (1) انظر: ص 173. قال ابن قدامة في المغني 1/ 263: المذهب أن التيمم يبطل بخروج الوقت ودخوله ... فلا يجوز أن يصلي به صلاتين في وقتين، روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس والشعبي والنخعي وقتادة ... ثم نقل رواية الميموني. وعللها بقوله: لأنها طهارة تبيح الصلاة، فلم تتقدر بالوقت كطهارة الماء. (2) انظر: كتاب الأصل لمحمد 1/ 121 ومختصر القدوري 5 والمحلى 2/ 128 وحلية العلماء 1/ 205 وفتح القدير لابن الهمام 1/ 95. (3) أخرجه أبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي 1/ 171 وأحمد 5/ 146، 147، 155، 180 من حديث أبي ذر. وصححه الترمذي وابن حبان (126 - موارد) والحاكم في المستدرك 1/ 176، 177. (4) أخرجه البخاري (335، 438) ومسلم (521) عن جابر.

حجج القائلين بالتيمم لكل صلاة، ومناقشة المؤلف لها بتفصيل

دالة على أن التراب طَهور كالماء./والقراَنُ يدلُّ على أنّه طَهور بقوله لمّا ذكر التيمم: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (1). والذين أمروه بالتيمم لكل صلاةٍ تمسكوا بآثار رُوِيتْ عن بعض الصحابة، هي ضعيفة (2)، وعنهم ما يخالفها. وقالوا: إنه لا يَرفعُ الحدثَ، وإنما هو مُبِيْحٌ، فيُبِيحُ بقَدْرِ الضرورة. قالوا: ولو رفع الحدث لما كان إذا قَدَرَ على استعمال الماء يستعمله بحكم الحدث السابق من غير تجددِ حَدَثٍ. واحتجوا بقوله لعمرو بن العاص: "أصليتَ بأصحابك وأنتَ جُنُبٌ؟ " (3).

_ (1) سورة المائدة.: 6. (2) أخرجها الدارقطني 1/ 184. 185 عن عمرو بن العاص وعلي وابن عمر وابن عباس، وتكلم عليها العظيم آبادي في تعليقه. وأخرج بعضها عبد الرزاق 1/ 214 - 216 وابن أبي شيبة 1/ 160 والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 221. (3) أخرجه أحمد 4/ 203، 204 وأبو داود (334) وابن حبان (202 - موارد) والدارقطني 1/ 178 والحاكم في المستدرك 1/ 177 عن عمرو بن العاص. ولفظه عند أبي داود: قال: احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيممتُ، ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " يا عمرو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنُب؟ " فأخبرتُه بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعتُ الله يقول: (وَلَا تقْتُلواْ أَنفُسَكُم إنً اَللهَ كاَنَ بِكُم رَحِيمَا (29)). فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يقل شيئاً. والحديث ذكره البخاري 1/ 454 تعليقاً، وقواه الحافظ في الفتح، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1/ 181.

وجوابُ هذا (1) أن قولهم "لا يَرْفَعُ بل يُبيح " كلائم لا حقيقةَ له، ولو صحَّ لم يكن لهم فيه حجة، فإنّ الحدثَ ليسَ هو أمراً محسوساً كطهارة الجُنُب، بل هو أمر معنويٌّ يَمنعُ الصلاةَ، فمتى كانت الصلاةُ جائزةً، بل واجبةً معه امتنع أن يكون هنا مانعٌ من الصلاة، بل قد ارتفع المانع قطعاً. وإن قالوا: هو مانع، لكنه لا يمنع مع التيمُّم. فالمانع (2) الذي لا يمنع ليس بمانع. فإن قيل: هو يمنع إذا قدر على استعمال الماء. قيل: هو حينئذ! يُوجِدُ المانعَ. فإن قالوا كيف يعودُ المانعُ من غير تجدُّدِ حَدَثٍ؟ قيل: كما عاد الحاظِرُ من غير تجدُّد حَدَب، فالحاظِرُ للصلاة هو المانعُ، والمبيحُ لها هو الرافعُ لهذا المانع. فإن قيل: أباحَها إلى حِيْنِ القدرةِ على استعمال الماء. قيل: وأزالَ المانعَ إلى حينِ القدرة، فكما يقال: أباح إباحةً موقَّتةً، يقال: إنه رفعَ رَفْعاً موقَّتاً. وإن قالوا: نحن لا نَقبلُ إلاّ ما يَرْفَع مطلقاً كالماء.

_ (1) انظر مناقشة المؤلف لهذه الأدلة بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 21/ 354 - 361، 435 - 438. (2) هذا جواب الشرط.

قيل: ولا نَقبلُ إلاّ ما يُبيح مطلقاً كالماء. وأيضاً فالله ورسولُه قد سمَّاه (1) طَهوراً، وجعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَهورَ المسلم ما لم يَجدِ الماءَ، وجعلَ تُربةَ الأرضِ طَهوراً. والطَّهُور ما يُتطهَّرُ به، وقد قاَل تعالى: (وَإِن كنُتُم جُنُبَا فَاَطًهَرُواْ" (2). والتيمُّم قد يُطَهِّر، ومع الطهارة لا يبقَى حَدَثٌ، فإنّ الطهارةَ مناقضة للحدث، إذ غايتُه أن تكون نجاسةً معنويّةً، والطهارةُ تُناقِضُ النجاسةَ. فإن (3) قيل: الصلاة بالتيمُّمِ رخصة كأكْلِ الميتةِ في المَخْمَصَةِ، والرخصةُ استباحةُ المحظور مع قيام الحاظر ومَنْعِ المانع، فلو بقي مانعاً لم تَجُزِ الصلاةُ. فَعُلِمَ زوالُ المانعِ. ولا يجوز أن يقال هنا: إنه استباحَ الصلاةَ مع قيامِ الحاظِرِ لها، فإنَّ كونَ الحاظرِ حاظراً زائل من الميتةِ لمعارضٍ راجحٍ، وذلك أن المعنى المقتضِي للحَظْرِ القائم بالميتةِ موجود حالَ المخمصةِ، كما هو موجودٌ في حال القدرة، فإَنّ الميتةَ في نفسها لم تتغَيَّرْ، وإنما تغيَّرَ حال الإنسانِ، كان غنيًّا عنها، ثمَّ صار محتاجاً إليها (4). فهذا

_ (1) كذا في الأصل بصيغة الإفراد، وكان المؤلف كتب أولاً "فالله قد سماه "، ثم أضاف "ورسوله"، ولم يغير الفعل. (2) سورة المائدة: 6. (3) من هنا يبدأ الاستدراك الطويل في الهامش، ويستمر إلى هوامش الصفحة السابقة (330 ب) ثم هوامش الصفحة التي قبلها (330 أ). وسنشير إلى الموضعين فيما بعد. (4) ذهبت بعض الكلمات من ركن الورقة هنا، ولا يمكن استعادتها.

يُمكن دعواه في الميتةِ، ولا يُمكن دعواه هنا، لأنه لا ٍتحصلُ له إلاّ الميتةُ، وقد تغيٍرَ حالُه إليها، وحاجتُه تدفع الفسادَ الحاصلَ بأكلها، ٍفكذلك التيمم. قيل: هذا قياس فاسد، وذلك أنه صَادَ ميتةَ وأكلَ، والميتةُ لم تتغيرْ، لكن تَغيَّرَ حالُ الآكل، وهنا ليس إلاّ المُحدِث الذي كانتِ الصلاةُ محرَّمةً عليه، ثمَ صارت واجبةً عليه أو جائزةَ بالتيمم، فلو لم يَتغيَّرْ حالُه بالتيمم لما جازتْ صلاتُه، وليس هنا إلاّ الحدث في الشرعِ، فأُبيْحَتْ (1) له الصلاةُ في حالٍ، وحُرِّمَتْ عليه في حالي، مع تسميتِه في حالِ الإباحةِ مُتطهراً، وجَعْلِ التراب طَهوراً كما جُعِلَ الماءُ طهوراً. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن العاص: "أصَلَّيْتَ بأصحابكَ وأنتَ جُنُبٌ؟ " استفهامٌ (2)، فسَألَه: أكانَ ذلك أم لم يكن؟ وليسَ هو خبراً أنه صفَى وهو جنبٌ، فلما أخبره أنه تيمم لخشية البَرْدِ تبيَّنَ أنه لم يكن جُنُباَ، فأقَره النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإلاّ فلو كانَ المرادُ الخبرَ وهو قد صَفَى مع الجنابة صلاةً جائزةً لم يسألْهُ. وإن كانت الجنابةُ مانعةً من الصلاة مطلقاً لم يَقْبَلْ عُذْرَه. وهو لم يَقُلْ: "أصَلَّيْتَ وأنتَ (3) جُنُبٌ بلا تيمُّمٍ " ليكون قد استفهمه عن حال التحريم، بل أطلق الصلاةَ مع الجنابة. وهم يقولون: يجوز مع الجنابة تارةً، ولا يجوز أخرى،

_ (1) من هنا انتقل الكلام إلى هامش الصفحة السابقة (330 ب). (2) نحو هذا الكلام عند المؤلف في مجموع الفتاوى 21/ 404 - 405. (3) من هنا انتقل الكلام إلى هامش الصفحة السابقة (330 أ).

بيان أن القياس هو الصحيح في هذه المسألة، دون الاستحسان الذي يناقضه

وكلام الرسول يقتضي منعَها مع الجنابة مطلقاً، وأن هذا استفهامُ إنكارٍ، وأنه لما بئنَ أنه تيممَ تَبينَ أنه لم يكن جُنُباً، فلا إنكارَ عليه بهذا أبداً، والله أعلم (1). فقد تبينَ هنا أن القياسَ هو الصحيح، دون الاستحسانِ الذي يُناقِضُه، وتخصيص العلَّة، وهو كونُ هذا بدلاً طَهوراً مُبيحاً يقوم مقامَ الماء عند تَعذُرِه في جميع أحكامِه، ثُمَ يُخَص بعضُ الأحكامِ من حكم البدليةِ والطهوريّهِ والإباحةِ، والبدلُ يقوم مقامَ المبدلِ في حكمه لا في صورته، والحكمُ جوازُ الصلاةِ به ما لم يجدِ الماء أو يُحدِثْ. فذلك القول مخالفٌ للقياس وتخصيصٌ للعلةِ بلا ريبٍ، والعفَة صحيحةٌ بلا ريبٍ. ونحن إذا قلنا: لا يجوز تخصيصٌ بدونِ فارقٍ مُؤَثرٍ أفاد شيئين: أحدهما: أنه إذا ثبت أنها علةٌ صحيحةٌ لم يَجُزْ تخصيصُها مثل هذا الموضع. والثاني: أنه إذا ثبتَ تخصيصُها عُلِمَ بُطلانُها، وهذا معنى قولنا: لا يجتمع قياسٌ صحيح واستحسان صحيحٌ إلاّ مع الفارقِ المؤثر في الشرع. وأما قوله في المضارب (2): إذا خالف فاشترى غيرَ ما أمرَ به

_ (1) هنا انتهى الكلام الطويل الذي كان في هوامش الصفحات. ثم رجع إلى صفحة (331 أ) السطر 18. (2) انظر: ص 172.

هذا استحسان بفرق رآه مؤثرا

صاحبُ المال، فالربحُ لصاحب المال، ولهذا أجرةُ مثلِه، إلاّ أن يكونَ الرِّبْحُ يُحيط بأجرةِ مثلِه فيذهب، قال: وكنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحب المالِ فاستحسنتُ. فهذا استحسان بفرقٍ رآه مؤثراً، والقياسُ مُستنبط، والاستحسانُ مستنبط، وهو تخصيصٌ لعلَّةٍ مستنبطةٍ بفرقٍ مستنبطٍ. وأحمد لا يَرُد مثلَ هذا الاستحسانِ، لكن قد تكون العفَتانِ أو إحداهما فاسدةً، كما لا يَرُدُّ تخصيصَ العلَّةِ المنصوصةِ بفرقٍ منصوصٍ./ والفرق أن المضارب مأمور بالعمل بجُعْلٍ، بل هو شريكٌ في الربح، وعملُه له ولصاحبِ المالِ جميعاً، ولهذا كان للعلماءِ فيما يستحقه في المضاربة الفاسدةِ ونحوِ ذلك قولان: هل يستحقُّ قسطَ مثلِه في الربح، أو أجرة مقدَّرةً تكونُ أجرةَ مثلِه (1)؟ والقول الأول هو الصوابُ قطعاً، وهذا قياسُ مذهب أحمد، فإنّ من أصله أنّ هذه المعاملاتِ مشاركة، لا مؤاجرة بأجرةٍ مَعلومةٍ، والقياس عنده صحتها. وإنّما يقول أجرة المثل من يجعلها من باب الإجارة. ويَقول: القياس يقتضي فسادَها، والمأجور فيها مأجورٌ للحاجة. وبكلِّ حالٍ

_ (1) انظر: الأم 3/ 237 والمبسوط 22/ 40 والمغني 5/ 65 وحاشية ابن عابدين 4/ 486. وانظر آثار الصحابة والتابعين في: مصنف عبد الرزاق 8/ 253 والإشراف لابن المنذر 1/ 105 والسنن الكبرى للبيهقي 6/ 111. وقد تكلم المؤلف على هذه المسألة في مجموع الفتاوى 30/ 85 - 86، 91 و 28/ 84 - 85 بنحو هذا الكلام، وصحح ما صححه هنا.

ذكر أصل آخر يخرج منه هذا الفرع

فهو يعمل لنفسه لاستحقاق القسط أو الأجر، ويعمل لربِّ المال، فليس هو بمنزلةِ الغاصب الذي جُعِل عملُه لصاحبِ المالِ كالمتبرِّع، فإنّ هذا إنما قبضَ المالَ ليعملَ فيه بالعِوَضِ، وهو بالمخالفة لا يخرج عن كونِ المالِ بيده قبَضَه ليعمل فيه بالعوض، ولكن عَمِلَ غيرَ ما أُمِرَ به، فيكون ضامناً لتعدِّيْهِ، ولكن ليس إذا كان ضامناً يكون وجود عمله كعدمه، مع أنّه مأذونٌ له في التجارةِ به في الجملةِ، ليس هو كمن لم يؤذَن له في ذلك. وهو أيضًا من أصل آخر، وهو أنه إذا تصرف بغير أمرِه كان فُضوليًّا (1)، فيكون المعقود موقوفاً. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وهي التي ذكرها الخِرَقِيُّ في مختصره: أنّ بيعَ الفضوليَ وشِرَاهُ ليس باطلاً بل موقوفاً (2)، فإن باعَ أو اشترى

_ (1) الفضولي: من يتصرّف في حق الغير بغير إذن شرعي أي بلا ملك ولا ولاية ولا وكالة. وقد ذهب الحنفية والمالكية والشافعي في القديم، وهو أحد قوليه في الجديد، واْحمد في إحدى الروايتين عنه: إلى أن بيعه صحيح إلاّ أنه موقوف على إجازة المالك، وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد واْحمد في الرواية الأخرى عنه: إلى أن البيع باطل. انظر التفصيل: بدائع الصنائع 5/ 147 وفتح القدير لابن الهمام 5/ 309 وشرح الخرشي على مختصر خليل 5/ 18 وروضة الطالبين 3/ 353 والمجموع 9/ 259 والمغني 5/ 253، 254 والإنصاف للمردادي 4/ 283 وشرح منتهى الإرادات 2/ 143، 144 وكشاف القناع 3/ 157، 158 وتفسير القرطبي 7/ 156. (2) كذا في الأصل بالنصب على تقدير "يكون".

نظائر لهذه المسألة

بعينِ المالِ فهو موقوف، وإن اشترى فى الذمَّة فهو موقوف. فإن أجازه المشترى له وإلاّ لَزِمَ المشتري (1). وأما القاضي وأتباعُه فاختاروا أن تصرفه مُردد (2) إلاّ إذا اشترى في الذمَّة. والذي ذكره الخِرَقي أصحُّ، لكنه قَرَنَ هذه المسألةَ في مواضعَ من مختصرِه بالعاملِ إذا خالفَ كان متصرِّفاً له بغيرِ إذْنِه، فإذا أجازَه وطلبَ نَصِيْبَه من الربْح صارَ مجيزاً له، وصارَ العاملُ مأذوناً له. والعامل إنما عَمِلَ لأجْلِ نَصِيبِه من الربح، فيستحقُّ نَصِيْبَه من الربح. وقول أحمد: "كنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحبِ المال، ثم استحسنتُ" رجوع منه إلى هذا، وجَعْلُه الربحَ في جميع الصُّوَرِ للمالك يَقتضي أنه يُصَحح تصرف الفضولي إذا أجيْزَ، وإلاّ كان البيعُ باطلاً. وكذلك الشرَى بعين المال، كما يقوله الشافعيّ ومن نَصَر الرواية الأخرى"، ويكون عليه ضمان ما فوّته من مالِه فقط، ليس للمالك غيرُ هذا، ولا يكون للعامل أيضًا رِبْح، لأنّه لم يعمل شيئا. والآثار المأثورةُ عن الصحابة والتابعين في باب البيع والنكاحِ والطلاقِ وغيرِ ذلك تدلُّ على أنهم كانوا يقولون بوقف المعقود،

_ (1) انظر كلام المؤلف بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 20/ 577. (2) كذا في الأصل، وهو بمعنى "مردود"، فقد ورد الفعل "رَدّد" بمعنى "رَدَّ"

لاسيما حيثُ تعذَّرَ استئذانُ المالك (1). ولهذا أحمد يقولُ بوقْفِها هنا كما في مسألة المعقود، اتباعاً للصحابة في ذلك. وإنما ادَّعَى أنها خلافُ القياسِ من لم يَتَفطَنْ لما فيها من وقف المعقود، كما في اللُّقطةِ (2). وتكلُّمُ السَّلفِ فيمن يتجر بمال غيره في الربح دليلٌ على صحة التصُّرفِ عندهم إذا أجازه المالك. وبهذا ظهر ما استحسنَه أحمد ورجعَ إليه أخيراً، لأنَه إذا صارَ بالإجازة كالمأذون له، وهو لم يعمل إلاّ بجُعْلٍ برضا المالك، فلا يجوز منعُه حَقَّه. وهذا بناء على أنَّه إذا تصرَّف ابتداءً فالرِّبْحُ كلُّه للمالك، وهو أحد الأقوالِ في المسألة، وقيل: يتصدَّقانِ به، وهو رواية عن أحمد. وقيل: هو للعامل، كقول الشافعي. وقيل: هما شريكانِ فيه، وهو أصح الأقوالِ، وهو المأثور عن عمر (3) في

_ (1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 25/ 579, 580: "القول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة، ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة" ثم ذكر بعضاً منها. وانظر 29/ 249 ففيه نحو من هذا الكلام. (2) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 25/ 588: جاءت السنة في اللقطة أن الملتقط يأخذها بعد التعريف، ويتصرف فيها، ثم إن جاء صاحبها كان مخيرا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها، فهو تصرف موقوف. وانظر نحوه في 29/ 250. (3) تكرر في بداية الصفحة القادمة "وهو المأثور عن عمر".

المضاربة (1)،/لأنَّ المالك لمَّا أَذِنَ فيه صار كالمضارب، وهو لم يعمل ليكون الربحُ للمالك كالمُبْضِع (2)، فإنه لو فعل ذلك لكان الربح للمالك، وإنما اتَّجَر ليكون الربحَُ له أو بينهما، والمالكُ قد أجازَ بيعَه، ولم يُجزْه ليكون الربحُ كلُّه له، فيكون النماءُ حاصلاً بمالِ هذا وبيع هذا، وَالتصرُّفُ صحيحاً مأذوناً فيه، فيكون الربحُ بينهما. ومن قال: "يتصدَّقانِ به" جَعَلَه كغير المأذونِ فيه، فيكون خَبيثاً، وهو مُتَعَدٍّ، لأنّ الحقّ لهما لا يَعْدُوهما، فإذا أجاز التصرُّفَ جازَ. وكذلك في جميع تصرُّف الغاصب، لاسِيَّما مَن لم يُعلَم أنَّه غاصبٌ، إذا تصرَّفَ في المغصوب بما أزال اسمَه، كطَحْنِ الحَبِّ ونَسْجِ الثوبِ ونحو ذلك، ففيه ثلاثةَ أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره: قيل: كلُّ ذلك للمالكِ دون الغاصب، وعليه ضمانُ النقص، كقول الشافعي. وقيل: يملكه الغاصب، وعليه بَدَلُه، كقول أبي حنيفة. وقيل: يُخير المالك بينهما، كقولِ مالك. وهذا أصحُّ (3)، بناءً

_ (1) انظر أثر عمر والأقوال المذكورة هنا في مجموع الفتاوى 30/ 87، 323، 329. (2) كذا في الأصل. والمُبْضِع في اللغة: المُزَوِّج، من أبضَعَ المرأةَ أي زوَجَها. ولم يظهر لي وجه الشبه هنا. (3) ذكر المؤلف هذه الأقوال وصحح ما صححه هنا في: مجموع الفتاوى 25/ 562 - 563. وانظر لهذه المسألة: الأم 3/ 227 والمدونة 4/ 190 والمبسوط 11/ 100، 101.

(3) قوله فيمن غصب أرضا وزرعها: الزرع لرب الأرض وعليه نفقته

على وقفِ التصرُّفاتِ، فإن شاءَ المالك أجازَ تصرُّفَه، وطَالبَه بالنقصِ، كما في العاملِ المخالف، وإن شاءَ طالَبَه بالبَدَلِ لإفسادِه عليه، وبأخْذِه ذلك لأدائه عِوَضَه، فيُخَيَّر على المعاوضة لحقّ المالك. وإذا رَضِيَ المالكُ به فهل يكون الغاصبُ شريكاً لما في عمله؟ فيه وجهان، والأظهر في الجميع أنَّ أثر عمله له، وكونه ظالماً يَظْهر في تَضمينه له، لا في أن يؤخذَ أثرُ عملِه، فيُعْطَى لغيره بلا عِوَضٍ، فإنَ هذا ظلمٌ له، والواجبُ إزالةُ الظلم بالعدل، لا بظلمٍ آخر، "وَجَزاؤاْ سَيّئَةٍ سَيئةٌ مثلُهَا" (1) لا زيادة عليها. وأما قوله فيمن غَصَبَ أرضاً فزرعَها: "الزرعُ لرب الأرض، وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته" (2)، فهذا قاله بالنصّ كما تقدم، لحديث رافع بن خَدِيْج. فيجب أن يكون القياس المخالف لهذا النصّ فاسداً إن لم يَدُلَّ نصّ على صحتِه، ويظهر الفارقُ المؤثِّر، وإلاَّ فالقياس إذا خالف النص كان فاسداً. أمّا فسادُ الحكمِ المخالفِ للنص فبالاتّفاق، وفسادُ العلَّة على قولِ الجمهور الذين لا يرون (3) تخصيصَ العلَّة إلاّ بفارقٍ مؤثِّر،

_ (1) سورة الشورى: 40. (2) انظر: ص 174. قال في المغني 5/ 236: "أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحساناً على خلاف القياس، فإن القياس أن الزرع لصاحب البذر، لأنه نماء عين ماله، وقد صرح به أحمد". ثم نقل هذه الرواية. (3) المكتوب في السطر: "من لا يرى"، وكتب فوقه: "الجمهور الذين لا يرون".

مناقشة المؤلف لمن قال: القياس أن الزرع لزارعه وبيان وجه خطئه

وهذا نصٌّ قد خالف القياس. وقولهم: "القياس أن الزرعَ لزارعِه" ليس معهم بذلك نص ولا نظير، بل القياسُ (1) أنَّ الزَّرعَ إمّا أن يكون بينهما كالمزارعة، أو يكون لرب الأرضِ، لأنَّ الزرعَ في الأرضِ كالحَمْلِ في البطنِ، وإلقاءُ البِذْرِ كإلقاءِ المنيِّ، ولو وَطِيءَ ذكرٌ أنثَى كان الحملُ لمالكِ الأنثى دون مالك الذكَرِ، وهذا اختيار ابنِ عقيل وغيرِه. لكن المنيَّ لا يقوم، بخلافِ الزَّرع، فلهذا جعل له نفقته، فإنّ الزرعَ عامّته في الأرضِ، في ترابها وَمائها وهوائها وشمسها، كما أن الحمل في البطن عامّته في الأمّ، وماء الأب قليل، كما أنّ الحَبَّ قليل./ وكذلك الشجرُ إذا لُقِّحَ أُنْثاه بذكرَ فإنَّ الثمرَ لصاحبِ الأنثى، لا لصاحب اللقاح، والحَبُّ كاللِّقاح. وقول أحمد: "عليه نفقتُه" يَقتضِي مثلَ البذْر، ويَقتضِي أجرةَ عملِه وعمل فَدَّانِه (2). فقوله: "ليس هذا شيئاً يوَافق القياسَ" كقوله في العامل المخالف: "ثمَّ استحسنتُ أن يُعْطِيَه الأجرةَ"، فكان قياسُه على ما يراه في الغاصب أن لا يكون له أجرة عمله وعمل فدّانِه، فهو

_ (1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 29/ 124: "بعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس، وأنه من صور الاستحسان، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم، وهو أن الزرع تبع للبذر، والشجر تبع للنوى. وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة". ثم ذكر نحو ما ذكر هنا. (2) الفَدَّان هنا بمعنى المحراث.

(4) شراء المصاحف وأرض السواد

مخالف للقياس في هذه الحجة (1)، لأنه إنما عَمِلَ ليأخذَ العوضَ، لم يعمل مجاناً كالعاملِ في المضاربة، ولأنّ البذرَ له، فليس غاصباً محضاً. وقد اختلفت الرواية عن أحمد: هل يُعطَى ما أنفقَ أو أجرةَ مثلِه؟ والنص ورد بالأول بقوله: "فليس له في الزرع شيء، وله نفقته"، والقياس يقتضي الثاني. فقد يكون قولُه على خلاف القياس من هذا الوجه، وما وردَ به النصُّ قد يكون ما أنفق وأجرة مثله فيه سواء. وأما شِرَى المصاحف والسواد (2) فإنما فرّق فيهما بين الشَرَى والبيع، لأن العلَّة موجودة في البيع دون الشِّرَى، فإن المشترِيَ راغبٌ في المصحف، معظمٌ له، باذلٌ فيه مالَه، والبائع معتاضٌ عنه بالمال، والشرعُ يُفرقُ بين هذا وهذاَ (3)، كما فَرقَ في إعطاءِ المؤلفةِ

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب "من هذه الجهة". (2) انظر: ص 173 - 174. (3) عند الشافعية بيع المصحف وشراره مكروه، وقول آخر لهم وهو رواية عن أحمد: أنه يكره البيع بلا حاجة دون الشراء، قال ابن قدامة في المغني 4/ 263 بعدما ذكر الخلاف: "لنا قول الصحابة رضوان الله عليهم، ولم نعلم لهم مخالفاً في عصرهم، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى، فتجب صيانته عن البيع والابتذال. وأما الشراء فهو أسهل، لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه، فجاز كما جاز شراء رباع مكة واستئجار دورها ممن لا يرى بيعها ولا أخذ أجرتها، وكذلك أرض السواد ونحوها". وانظر أيضًا: الإنصاف 4/ 279 والشرح الكبير بذيل المغني 4/ 12 وكشاف القناع 3/ 155.

الآثار الواردة عن الصحابة في بيع المصاحف

قلوبُهم بين المعطي والآخذ، وكذلك في افتداءِ الأسيرِ وغيرِ ذلك. ومعلومٌ أنه لو أعطاه المصحفَ والأرضَ الخراجيةَ بلا عِوَضٍ جازَ، وقام فيه مقامه، بخلاف ما لا يجوز تملكُه كالخمر وغيرِها، فإذا بَذَلَ له هذا فيه العوضَ لم تكن مضرتُه إلاّ على البائع. فإن قيل: فإذا لم يحصل للإنسان كلب مُعلَّمٌ إلاّ بثمنٍ فينبغي أن يجوز بذلُه، وإن لم يَجُزْ أخذُه. قيل: إن لم يكن بينهما فرق مُؤثِّرٌ في الشرع فهكذا (1) هو، وإن قيل هناك: يجبُ عليه إعطاءُ الكلب بلا عوضٍ , بخلاف الأرض والمصحف، فهذا فرق. مع أن الثابت عن الصحابةِ كراهةُ بيع المصحف، وابن عباسٍ كان يكرهُه (2)، وكان أيضًا يُجوِّزُه ويقول: إنّما هو مصوّر, وله أجرة تصويره (3). فدلَّ على أنَّها كراهة تنزيه. ورُوِيَ عن غيرِه: وَدِدْتُ أنّ الأيديَ تُقطَعُ في بيع المصاحف (4)، وهذا تغليظُ تحريم. ولهذا اختلفتِ الروايةُ عن أحمد: هل هو نهيُ تنزيهٍ أو تحريمٍ. وأما شِرَاه ومبادلتُه فهل هو مباحٌ أو مكروه على روايتين، وعن ابن عباسٍ يجوز أن يبيعَه ويشتريَ بثمنِه مصحفاً آخر، وليس

_ (1) في الأصل: "مهاكدى". (2) أخرجه عبد الرزاق 8/ 112 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 16. (3) لم أجده في المصدرين السابقين. (4) روي ذلك عن ابن عمر، أخرجه عبد الرزاق 8/ 112، 113 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 16.

رأي المؤلف في المسألة

في المبادلة والشِّرَى استبدال به عَرَضاً من الدنيا، فالأظهرُ جوازُ ذلك بلا كراهة (1)، وأنَ البيعَ أيضًا لا يحرم، بل يُكْرَه تعظيماً لكتاب الله، إذْ ليس على التحريم دليل شرعي. وكذلك الأرض الخراجية ليس في مَنْع بيعها دليل شرعيّ أصلاً (2)، فإنّ الذين منعوها من الفقهاء قالوا: إنهَا وقفٌ، وبيعُ الوقف لا يجوز. وهذا إنما هو في الوقف الذي يَبطُلُ حق أهل الوقف ببيعهِ، وهو الذي لا يُورثُ ولا يُوهَبُ، والأرضُ الخراجيةُ تُورَثُ وتُوهَبُ، والوقف الذي لا يُباع لا يُورَث ولا يُوهَبُ، وذلك أن المشتري لها يقوم مقامَ البائع، لا يُبطِلُ حَق أهلِ الوقفِ./

_ (1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 31/ 212، 213: "أما إبداله فيجوز عنده في إحدى الروايتين عنه من غير كراهة، ولكن ظاهر مذهبه أنه إذا بيع واشتُرِيَ بثمنه فإن هذا من جنس الإبدال، إذ فيه مقصوده، فإن هذا فيه صرف نفعه إلى نظير المستحق إذا تعذر صرفه إلى عينه ". (2) تكلم المؤلف في موضوع بيع الأرض الخراجية ورذَ على من منع منه لأنها وقف، وفصّل القول فيه بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 29/ 206 - 209, 28/ 288, 589 و 31/ 230, 231 و 17/ 488, 489. وهو يقصد به أبا يعلى الذي نقل في الأحكام السلطانية 189 - 190 منع بيعها عن أحمد على أنها وقف. أما التفريق بين بيعها وشرائها فقد قال ابن قدامة في المغني 1/ 720: "وإنما رخص في الشراء - والله أعلم- لأن بعض الصحابة اشترى، ولم يسمع عنهم البيع، ولأن الشراء استخلاص للأرض، فيقوم فيها مقام من كانت في يده، والبيع اْخذ عوضٍ عما لا يملكه ولا يستحقه، فلا يجوز". وانظر: الأموال لأبي عبيد 110 وما بعدها، والخراج لأبي يوسف 28 وما بعدها.

سبب كراهة الصحابة لشرائها

وأحمد في ظاهر مذهبه يُجوزُ بيعَ المكاتَب لهذا المعنى (1)، لان ذلك لا يُبطِل حقَّه من الكتابة، بل يكونُ عند المشتري كما كان عند البائع، وهو يُورَثُ بالاتفاق. ولكن لمّا انعقد فيه سببُ الحريةِ تخيلَ مَن مَنَعَ بيعَه أنه يُباعُ حر، كما تخيل أولئك أنه يباعُ وقف، وليس الأمرُ كما تخيلُوه، بل بيعُ الحز هو أن يُسْتَعْبَدَ فيصير بخلاف ما كان حرا، وبيعُ الوقف هو أن يُجعلَ طَلْقا ويُصْرَفَ فعلُه إلى غيرِ مستحقَيْه. والأرضُ الخراجيةُ فعلُها هو فعلُها لم يتغيرْ، وهو الخراجٍ المضروب عليها، سواءً كان ضريبةً كخراجِ عمر، أو صَارَ مقاسمة كما فعلَه متأخرو الخلفاء بأرضِ السوادِ وغيرِها، كما فعلَه المنصورُ. فعلى التقديرين حق المسلمين باقٍ، كما يَبْقَى مع الموتِ والهبةِ. والصحابة الذين كرهوا شِرَاها إنما كرهوه لدخول المسلمِ في خراج أهل الذمةِ، أو إبطالِ حقّ المسلمين به، فإن المشتريَ إنْ أدّى الخراجَ - وهو جزيةِّ- فقد التزمَ الصغار، وإن لم يؤدِّه أبطلَ حق المسلمين، فلذا كرهَ ذلك عمر وغيرهُ من الصحابة، وهم نَهَوا عن الشرَى. وأما البيعُ فإنما كان يبيعُها أهلُ الذمّةِ، لأنّ الأرضَ الخراجية

_ (1) انظر: المغني 9/ 490. وانظر هذه المسألة في: مصنف عبد الرزاق 8/ 424 والأمّ 7/ 394 والمحلى 9/ 232 وتفسير القرطبي 12/ 250 والسنن الكبرى 10/ 336 - 340 والإشراف لابن المنذر 1/ 339 ومختصر اختلاف العلماء للجصاص 4/ 428 وفتح الباري 5/ 194 - 196.

(5) قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر

إنما كانت بأيدي أهل الذمة، وكان ذلك أيضًا لئلا يَشتغلَ المسلمون بالفلاحة والصغار عن الجهاد. فلمّا كثر المسلمون، وصارَ أكثرُهم غيرَ مجاهدين، وصار أداؤُهم الخراجَ أنفعَ لعمومِ المسلمين من كونها بأيدي الذمة، لم يَصِرْ في ذلك من الصغار ما كان يكونُ في أول الإسلام إلاّ لمن يشتغل بعمارة الأرضِ عن الجهاد. وهذا لا يختص بالخراجية، بل قد رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِكَة فقال: "ما دَخَلَتْ هذه دارَ قويم إلاّ دَخلَها الذُّلُّ ". رواه البخاري (1). مع أن الأنصار كانوا هم الفلأحين لأرضهم، فهذا على الاشتغال بعمارة الدنيا عن الجهاد، وهذا لا يختصُّ بالخراجية. وأما ما ذكره القاضي من قبولِ شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر (2)، فلا ريبَ أن الفرقَ هنا ظاهر، وهذا من الاستحسان

_ (1) برقم (2321) من حديث أبي أمامة الباهلي. ولفظه: "لا يَدخلُ هذا بيتَ قومِ إلاّ أدخله الذل". والسكّة هي الحديدة التي تُحرَث بها الأرض. (2) انظر ما مضى ص 175. والمسألة في المغني 9/ 182 - 184 وفيه: "ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقضاء الصحابة وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة، فتعين المصير إليه والعمل به سواء وافق القياس أو خالفه". والآية في سورة المائدة: 106، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: فجل العلماء يتأولونها في أهل الذمة، ويرونها محكمة، وقال مالك وأهل الحجاز: هي منسوخة، وناسخها قوله تعالى: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282]، قالوا: ولا يكون أهل الشرك عدولاً=

بيان وجه الفرق

وتخصيص العلَّة التي ظهر فيها الفرقُ، والمنعُ من شهادتهم على المسلمين ثبتَ بالنصِّ، والإذنُ فيها هنا ثبتَ بالنصِّ أيضًا للحاجة. وهل يُعدَّى هذا إلى جميع مواضع الحاجة؟ فيه عن أحمد روايتان (1)، بناءً على أنّ العلَّة معلومةٌ، وهي موجودة/في غير هذا الموضع. هذا وجهُ القولِ بالجواز. وأمَّا وجهُ المنع فإمّا أن نقولَ: لم نَعلم العلةَ وإنّها مشتركة، أو علمنا اختصاصَها بهذه الصورة للضرورة العامَّة فيها. هذا إذا ثبتَ عمومُ المنع في غير هذه الصورة، إمّا لفظاً وإمّا معنًى. وألفاظ القرآن لا عمومَ فيها بالمنع، وكذلك السنّةُ ليس فيها لفظ عامّ بالمنع. لم يَبْقَ إلاّ القياس، وتلك المواضع أُمِرَ فيها بإشهاد المسلمين، ومعلومٌ أن ذلك إنما هو عند القدرة على إشهادهما، وهذا واجب في الوصية في السفر. وأمّا إذا تعذَّر إشهادُهما على الذَين في السفر أو على الرجعة فليس في القرآن ما يدل على المنع من ذلك. وإذا لم يكن في الكتاب والسنّة منعٌ من إشهاد أهل الذمّة عند تعذُّرِ إشهاد المسلمين، لم يكن هنا قياسٌ يخالف هذه الآية، وقد عمل بها

_ = أبداً ولا ممن تُرضَى شهادته. وقال الشافعي وأصحابه: الآية محكمة ولكنها في أهل الإسلام جميعا، ولاحظّ لأهل الذمة فيها. انظر تفصيل القول في ذلك في: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد 155 وما بعدها، والأمّ 6/ 127، 128 وأحكام القرآن للشافعي 2/ 145، 146 والناسخ والمنسوخ للنحاس 133 وتفسير القرطبي 6/ 346 وفتح الباري 5/ 412. وانظر كلام المؤلف في مجموع الفتاوى 15/ 299. (1) انظر: المغني 9/ 183، 184.

الذين لم يعملوا بها ليس معهم في خلافها نص ولا إجماع ولا قياس

الصحابةُ وجمهورُ التابعين. والذين لم يعملوا بها ليس معهم في خلافِها لا نصٌّ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ، وقد تأوّلوها ناجزين (1) من غير أصل يُسَلَّم، وقال بعضهم: هي منسوخة، وقال بعضهم: الشهادة اليمين. والأقوال الثلاثة باطلة من وجوهِ كثيرة. وقول من قال: "لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين بحالٍ " ليس معهم بذلك لا نصٌّ ولا قياسٌ، ولكنْ كثير من الناس يَغلَطُون لأنهم يجعلون الخاصَّ من الشارع عامًّا، والله أمرَ بإشهاد المسلمين على المسلمين إذا أمكن، فظَنَّ مَن ظَنَّ أن هذا يقتضي أنه لا يَشْهَدُ غيرُهم ولو لم يُوجَدْ مسلمٌ. وبابُ الشهاداتِ مَبْنَاها على الفرق بين خالِ القدرة وحالِ العَجْزِ، ولهذا قُبلَتْ شهادةُ النساءِ فيما لا يَطلعُ عليه الرّجالُ. وقد نصنَ أحمدُ على شَهادتهنّ في الجراحِ وغيرِها إذا اجتمعنَ ولم يكن عندهنَّ رجالٌ، مثل اجتماعهنّ في الحمّامات والأعراسِ ونحوِ ذلك. وهذا هو الصواب (2)، فإنّه لا نصّ ولا إجماع ولا قياس يمنع شهادةَ النساءِ في مثل ذلك. وليس في الكتاب والسنّة ما يمنع شهادةَ النساء في العقوباتِ مطلقاً (3).

_ (1) قراءة ظنية، وفي الأصل رسمت الكلمة بلا نقاط. (2) انظر نحو هذا الكلام في مجموع الفتاوى 15/ 299. وراجع المسألة في: المغني 9/ 155، 148 وتفسير القرطبي 3/ 391. 395 وروضة الطالبين 11/ 254 والمدونة 8/ 13 والمحلى 9/ 399. (3) انظر الآثار الواردة في شهادة النساء في مصنف عبد الرزاق 8/ 329 وما بعدها.

(6) من نذر ذبح ولده أو نفسه فعليه ذبح كبش

وأما إذا نَذَرَ ذَبْحَ ولدِه أو نفسِه فأحمد اتبعَ ما ثبتَ عن ابن عباس (1)، وهو مقتضى القياس والنص، فإن. كان قادراً كان عليه كَبْش، وإن سلف فيه بمالٍ فعليه كفارة يمين. وهذا أصحُ الروايات عن أحمد (2)، وهو الذي يصرح به في مواضع. وقيل: عليه كفارةُ يمينٍ في الجميع. وقيل: كبْش في الجميع (3). وقيل: لاشيء عليه (4). وذلك لأنّ مَن نَذَر نَذْراً فعليه المنذورُ أو بَدَلُه في الشرع، وهنا لما تعذرَ المنذورُ انتقلَ إلى البَدَلِ الشرعي، وهو الكَبْش، كما في نظائرِه، فليس هنا ما يخالف القياس الصحيح (5).

_ (1) انظر فيما مضى ص 199، وهناك تخريج الأثر. (2) انظر: المغني 8/ 709 وفيه: "هذا قياس المذهب، لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج، وكلاهما يوجب الكفارة، وهو قول ابن عباس ". وقد أخرج عبد الرزاق 8/ 459 والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 72 أن امرأة سألته عن إنسان نذر أن ينحر ابنه عند الكعبة، فقال: لا ينحر ابنه وليكفر عن يمينه. وانظر المسألة في تفسير القرطبي 15/ 111، 112. (3) هو قول أبي حنيفة، ويروى ذلك عن ابن عباس أيضًا. (المغني 8/ 709). (4) هو قول الشافعي، قال: لأنه نذر معصية لا يجب الوفاء به ولا يجوز، ولا تجب به الكفارة. (المغني 8/ 709). (5) تكلم المؤلف على هذه المسألة في مجموع الفتاوى 35/ 343 - 345 وذكر اختلاف الفقهاء وحججهم، ورجح ما رجحه هنا أن عليه ذبحَ كبشِ، وقال: هذا هو الذي يناسب الشريعة، وجعل الافتداء بالكبش اتباعا لقصة إبراهيم، وهو الأنسب.

وهذا الباب- بابُ تدبر العموم والخصوص من ألفاظِ الشرع ومعانيه التي هي عِلَلُ الأحكام- هو الأصل الذي تُعْرَف منه شرائع الإسلام. والله أعلم، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله.

قاعدة في شمول النصوص للأحكام

قاعدة في شمول النصوص للأحكام

مقدمة التحقيق

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإن مباحث القياس لم تُحرَّر على طريقة فقهاء أهل الحديث في كتب الأصول التي وصلتنا، وأكثرها على منهج المتكلمين وأهل الرأي الذين لم يُنصِفوا أهلَ الحديث في الغالب، ونسبوا إليهم ما لا يقولون به، وعدُّوهم مثل الظاهرية مخالفين للقياس. ونحن نعرف أن الظاهرية أنكروا القياس وحجيته والحاجة إليه، وسَدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح، فاحتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، وحمَّلوهما فوق الحاجة، ووسَّعوهما أكثر مما يسعانِه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوه على الاستصحاب. فهم وإن أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة وبيانِهم تناقضَ أهلها واضطرابهم في القياس تأصيلاً وتفصيلا، وذِكْرِ أمثلةِ من تفريقهم بين المتماثلين وجمعِهم بين المختلفين- إلاّ أنهم أخطأوا من وجوه عديدة: منها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته

التي يجري النصّ عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ. ومنها: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكيم دلَّ عليه النصُّ ولم يفهموا دلالتَه عليه، وسبب هذا الخطأ حَصْرهم الدلالةَ في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعُرْفِه عند المخاطبين. ومنها: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقّه، وجَزْمُهم بموجبه، لعدم علمهم بالناقل. وليس عدم العلم علمًا بالعدم. أما أصحاب الرأي والقياس فلم يعتنوا بالنصوص كما ينبغي، ولم يعتقدوها وافيةً بالأحكام ولا شاملةً لها، حتى قال بعضهم: إن النصوص لا تَفي بعُشُر معشار أحكام العباد، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وقالوا: إن النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع. فوسَّعوا طرق الرأي والقياس، وعلَّقوا الأحكام بأوصافٍ لا يُعلَم أن الشارع علَّقها بها، واستنبطوا عللاً لا يُعلَم أن الشارم شرع الأحكام لأجلها. ثمّ اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس؟ ثمَّ اضطربوا فتارةً يقدمون القياس، وتارةً يقدمون النصّ، وتارةً يفرقون بين النصّ المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرِعت على خلاف القياس. فكان خطؤهم من وجوه: أحدها: ظنُّهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.

الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس. الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف القياس، وادعوا فيها الاستحسان، فظنوا أن الاستحسان خلاف القياس. الرابع: اعتبارهم عللاً وأوصافًا لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللاً وأوصافا اعتبرها الشارع. الخامس: تناقضهم في نفس القياس، ففرقوا- كثيرًا- بين المتماثلين وجمعوا بين المختلفين. والصواب الذي عليه أئمة السنة والحديث أن الله تعالى قد أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح، بل كلها متعاضدة متناصرة يُصدِّق بعضها بعضا، ويشهد بعضُها لبعض. والنصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا الله ورسوله على الرأي، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية وافيةٌ بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان. وقد تخفى دلالةُ النصّ أو لا تبلغُ العالمَ فيعدِل إلى القياس، ثمّ قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا. هذا المذهب الثالث- الذي هو مذهب فقهاء أهل الحديث-

وسَط بين الظاهرية وأهل الرأي كما نرى، ولكنا لا نجد من الأصوليين مَن نَصَره عند كلامه على القياس، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فتكلم عليه وقرره في مواضع من رسائله وكتاباته، وأهمُّها هذه القاعدة التي ننشرها الآن. وتبعه تلميذه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 350 - 383)، فنقل معظم مباحث هذه القاعدة بلفظها أو بمعناها، مع زيادة التوضيح والشرح بأسلوبه المعروف. وهو وإن لم يذكر شيخه في هذا الموضع، فقد أشار إليه عند الكلام على أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (1/ 383). وهذه القاعدة أحد الفصول الثلاثة التي يقول ابن القيم فيها إنها "من أهم فصول الكتاب" (1/ 355)، فلا نستغرب أن يقتبسها من شيخه، على طريقته في الاستفادة من كتبه، كما يظهر ذلك لكلّ من يقرأ كلام الشيخين في موضوع واحد. والكتاب مقسم إلى قسمين: في القسم الأول منهما تأصيل لقاعدة شمول النصوص للأحكام وموافقتها للقياس الصحيح. وفي الثاني تطبيق لها على أحكام الفرائض، فإنها من أشكل الأشياء، والنصوص الواردة فيها قليلة محصورة، ومع ذلك شملت جميع الأحكام التي نحتاج إليها، فهذا من أظهر الأدلة على صحة القاعدة المذكورة. وقد أُفرِد القسم الثاني- لأهميته- في بعض النسخ، كما سيأتي ذكرُها فيما بعد، وذكره ابن رشيق (1) بعنوان "شمول النصوص في

_ (1) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية": 247 (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية").

- عنوان الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف

الفرائض". ونُشِر مختصر من هذا القسم بحذف كثيرٍ من كلام المؤلف (1)، وتدلُّ بدايتُه على أنه تكملة لكلام سابق، فقد بدأ بقوله: "والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء، ليُستَدَلَّ به على ما سواه ... ". وقد ظهرتْ نسختان كاملتان للكتاب تحتويان على القسمين، فاعتمدنا عليهما في نشرتنا له كما كتبه المؤلف دون اختصار، عسى الله أن ينفع به القراء والباحثين. • عنوان الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف ذكر ابن رُشَيِّق (2) وابن عبد الهادي (3) والصفدي (4) وابن شاكر الكتبي (5) هذا الكتاب ضمن مؤلفات شيخ الإسلام بعنوان "قاعدة في شمول النصوص للأحكام"، ووصفه بعضهم بأنه "مجلد

_ (1) في "مجموع الفتاوى" (31/ 338 - 356) و"تفسير آيات أشكلت" (2/ 491 - 573). والثاني أوفى، ومع ذلك فقد سقطت منه نصوص كثيرة في مواضع، كما يظهر ذلك بالمقارنة بينه وبين هذا الكتاب. (2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية": 246 (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية"). وقد سقط ذكره من طبعة صلاح الدين المنجد للكتاب الذي نشره منسوبًا إلى ابن القيم، مع أنه موجود في الأصل الذي اعتمد عليه. (3) "العقود الدرية" ص 45. ونقل نصاًّ من هنا (ص 264) في "اختياراته" (نسخة الظاهرية). (4) "الوافي بالوفيات" (7/ 26) و"أعيان العصر" (1/ 35 أ). (5) "فوات الوفيات" (1/ 78).

لطيف". وقد تحرَّف هذا العنوان في بعض المصادر (1) إلى "شمول النفوس لأحكام الفقه المنصوص"! ولا يُستفاد منه معنى صحيح ولا سجعٌ مقبول، فلا يُلتَفت إليه. ويكون المعتمد ما ذكره تلاميذ شيخ الإسلام وأصحابه، لكونه موافقًا لبداية النسختين الكاملتين للكتاب. وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا الكتاب في "قاعدته في الاستحسان" (ص 206 - 207) فقال: "وقد بَينَّا في غير هذا الموضع أن الأحكام كلُّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلُّها معلَّلة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضًا متناولة لجميع الأحكام". والكتاب الذي بين أيدينا فصَّل فيه الكلام على الموضوع الذي أشار إليه، وقرَّر أنّ الله تعالى بيَّن جميعَ ما أمر به ونهى عنه، وجميع ما أحلَّه وحرَّمه، وبهذا أكمل الدين، ولكن قد يقصر كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، فيقولون: إنّ النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث. وبمقابل هؤلاء قوم من نفاة القياس نفوا القياس الجليّ الظاهر حتى فرَّقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئًا لحكمة أصلاً، ونفوا تعليل خلقه وأمره، واقتصروا في معرفة الأحكام على مجرد الظواهر، فحيثما فهموا من النصّ حكمًا أثبتوه، وحيث لم يفهموه نفوه وأثبتوا الأمر على موجب الاستصحاب. ثمَّ بيَّن خطأ الفريقين، وناقشهما مناقشة طويلة، وقرَّر أن السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وأن النصوص

_ (1) "إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون" (2/ 58).

شاملة لجميع الأحكام، ولو أُعطِي حقُّها من المعرفة والفهم لدلَّت على جميع الأحكام. ويعتبر القياس دليلاً صحيحًا آخر يوافق دلالة الظاهر والتعليل الصحيح. وقد تكلم شيخ الإسلام في هذا الموضوع في مواضع أخرى من كتاباته وفتاواه، فذكر في فتوى له (1) أن الناس تنازعوا في ذلك: فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع، بل تحتاج إلى القياس، وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص، وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر حتى أنكروا فحوى الخطاب وتنبيهه. وقوم يقدمون القياس تارةً، لكون دلالة النص غير تامة أو لكونه خبر الواحد، وقوم يعارضون بين النص والقياس، ويقدمون النص ويتناقضون. ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض، فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية، ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة. فان القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل. وفي الكتاب الذي بين أيدينا قرر المؤلف أن قياس الجمع والفرق يكون بالأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا كله من الميزان الذي أنزله الله مع رسله كما أنزل الكتاب، وإذا ثبت أن الكتاب

_ (1) "مجموع الفتاوى" (22/ 331 - 332). وذكر في "منهاج السنة" (6/ 411 - 412) مذاهب الناس في هذا الباب.

والميزان منزلان فلا يجوز أن يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح. وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح والباطل الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كله حق فلا يتناقض، بل يصدّق بعضه بعضًا (1). وقال في موضع آخر (2): إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضًا، وإن دلّ القياس الصحيح على مثل ما دلّ عليه النص دلالة خفية. فإذا علمنا بأن الرسول لم يُحَرِّم الشيء ولم يُوجِبْه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد. وذكر في فتوى أخرى (3) في هذا الموضوع أن الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومن أنكر ذلك لمِ يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد. ثم مثّل بلفظ "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال عن الخمر إنها تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنصّ العام والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلاً آخر

_ (1) انظر ص 272. (2) "مجموع الفتاوى" (25/ 236). (3) نشرت في "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/ 410 - 415)، وعنها في "مجموع الفتاوى" (19/ 280 - 289).

يوافق النصّ. ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدلّ على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة. وردّ في موضع آخر (1) على من يقول إن "الحشيشة" لم يرد فيها آية ولا حديث، وقال: هذا من جهله، فان القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها، وكلُّ ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام، وإلاّ فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص. ثمَّ ذكر أمثلة لهذه الألفاظ وشرح معانيها، منها: "الناس" و"الميسر" و"الأيمان" و"الماء" و"المشركين" و"الذين أوتوا الكتاب"، وقال: هذا وأمثاله نظير عموم القرآن لكل ما دخل في لفظه ومعناه، وإن لم يكن باسمه الخاص. ولو قُدّر بأن اللفظ لم يتناوله، وكان في معنى ما في القرآن والسنة أُلحِقَ به بطريق الاعتبار والقياس. وقد بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، والكتاب: القرآن، والميزان: العدل، والقياس الصحيح هو من العدل، لأنه لا يفرق بين المتماثلين. وقد أشار المؤلف إلى هذا المعنى في الكتاب الذي بين أيدينا فقال: "وإذا كان أهلُ المذاهب جعلوا لهم قواعد يضبطون بها ما يحل ويحرم، فالله ورسوله أقدر على ذلك، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُعِثتُ بجوامع الكلم"، فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة

_ (1) "مجموع الفتاوى" (34/ 206 - 210).

- وصف النسخ الخطية

عامة وقضية كلية تجمع أنواعًا وأشخاصًا". ثم مثل لها ببعض الأمثلة (1). هذه النصوص المتشابهة التي عرضناها تؤكّد أن الكتاب الذي بين أيدينا من تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد فصَّل هنا ما أجمله في مواضع أخرى، ورأيه فيه هو رأيه المعروف في سائر كتاباته، وكلامُه هنا في موضوعات عديدة يُشبه كلامَه في كتبه الأخرى، كما أشرت إلى ذلك في تعليقاتي على الكتاب، فلا حاجة إلى الإعادة. وأذكر على سبيل المثال كلامه في "الاستصحاب" هنا (ص 283 - 287، 290 - 295)، فهو موافق لما ذكره في مواضع أخرى (2)، كما يظهر ذلك بالمقارنة، وهو هنا أكثر تفصيلا وتوضيحًا. • وصف النسخ الخطية وصلت إلينا نسختان كاملتان من الكتاب، وثلاث نسخ ناقصة تحتوي على بيان شمول النصوص في الفرائض وهو القسم التطبيقي للنظرية التي شرحها المؤلف قبله. أما النسختان الكاملتان فإحداهما في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا برقم [1336] (ق 160 ب- 171 أ)، ليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، وهي مكتوبة بخط مغربي متأخر، لعله من خطوط القرن

_ (1) ص 275. (2) "مجموع الفتاوى" (11/ 342، 13/ 121 - 122، 23/ 15 - 16، 39/ 166).

الحادي عشر. والنسخة بحجم كبير، وعدد الأسطر في كل صفحة 33 سطرًا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر 16 كلمة. ولعل هذه النسخة أصابها البلل، فانطمست بعض الكلمات في الركن الأعلى من كل ورقة. ويلاحظ في هذه النسخة أن الناسخ كثيرًا ما يكتب جزءًا من الكلمة في آخر السطر وتكملتها في السطر التالي. انظر مثلا السطر الثاني في أول الكتاب، تجد أنه كتب "موا" في آخر السطر، و"فقة" في السطر التّالي، لتصبح "موافقة"! والنسخة الثانية ضمن مجموع في الخزانة العامة بالرباط برقم [ق 209] (ص 156 - 178)، كتبت في رمضان سنة 1001، بخط مغربي أيضًا. وعدد الأسطر في كل صفحة منها 27 سطرًا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر 17 كلمة. وهي مرقمة الصفحات. وبعد دراسة النسختين والمقابلة بينهما ظهر لي أنهما من أصلٍ واحدٍ، فهما تتفقان كثيرًا في التصحيف والتحريف والسقط، وكلتاهما تبدأ بـ "الحمد لله وحده حقَّ حمده. وله رحمه الله تعالى فصل…". وتنتهي بـ "والله سبحانه أعلم". وفي النسختين اضطرابٌ في الترتيب وتداخلٌ في الكلام أدَّيا إلى اختلال المعنى، وسبب ذلك أن أصلهما كان مضطرب الأوراق، فنُسِخت عنه النسختان، وانتقل إليهما هذا الاضطراب الذي يبدأ في النسخة الأولى من السطر التاسع من الورقة (168 ب) بعد قوله "فلما بطل سقوطها وفرضها"، وينتهي بالسطر السابع عشر من الورقة (169 أ)

بقوله: "رجل ذكر ... ". وكذا فيما يوافق هذا الموضع من النسخة الثانية. وهذا مما يؤكد أن أصلَ النسختين واحد. وقد اهتديتُ إلى الترتيب الصحيح لكلام المؤلف بمراجعة النسخ الثلاث الناقصة التي كانت تحتوي على تلك النصوص بسياقها الطبيعي، وهي: 1 - نسخة فيسبادن بألمانيا برقم [3968] (ق 141 - 155). 2 - نسخة دار الكتب المصرية برقم [695] (ق 98 - 109). 3 - نسخة المكتبة السعودية التابعة للإفتاء برقم [572/ 86] (ق 6 - 14). هذه النسخ الثلاث تتفاوت في الصِّحة، وبعضها أسوأ من بعض، فلا يمكن الاعتماد على واحدةٍ منها، لشيوع التصحيف والتحريف والسقط فيها جميعًا، كما يظهر ذلك بمقابلتها على النسختين المغربيتين. إلاّ أنها أفادت في معرفة الترتيب الصحيح لكلام المؤلف كما ذكرتُ، وترجيح بعض الكلمات الموجودة فيها إذا كان ما في النسختين لا وجهَ له أو مبنيًّا على التحريف الواضح. وكان منهجي في إثبات النصّ أن أختار من النسختين الكاملتين ما هو أصحّ وأنسب في السياق وأقرب إلى أسلوب المؤلف، وأشير إلى ما يخالفه في التعليق، ولم أذكر جميع الفروق والتحريفات، فلا فائدةَ منها في فهم الكلام، ولا يجوز نسبتها إلى المؤلف، لأن النصّ لم يصل إلينا بخطه.

وإذا اطمأننت إلى صحة النص في ضوء النسختين لم ألتفت إلى النسخ الثلاث الباقية، لكثرة التحريف الواقع فيها، ولكن إذا كان النص محرَّفًا وغيرَ مفهوم فيهما رجعتُ إلى بقية النسخ في القسم الذي تحتوي عليه، وأثبت ما هو الصواب أو الراجح في نظري، مع الإشارة إلى ما في النسختين، وقد جعلت نسخة الإسكوريال هي الأصل، ورمزت لها بـ "س"، ولنسخة الخزانة العامة بـ "ع". وأشرت إلى النسخ الثلاث الناقصة بقولي "سائر النسخ" أو "بقية النسخ"، ولم أعتمد على واحدةٍ منها بعينها. وراجعت كذلك كتاب "إعلام الموقعين" لترجيح بعض الكلمات على غيرها، وقد ذكرت فيما مضى أنه يحتوي على أكثر مباحث الكتاب بالنصّ أو بالمعنى، مع زيادة التوضيح والتمثيل والتعليق. ولكني لم أثقل الهوامش بالنقل عنه، وعلى القراء والباحثين أن يراجعوه عند قراءة هذا الكتاب للمزيد من الشرح والتفصيل والبيان. وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج هذا الأثر النفيس من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأدعوه أن يجعله نافعًا للعلماء والطلاب، إنه سميع مجيب. محمد عزير شمس

- نماذج من النسخ الخطية

نماذج من النسخ الخطية

النص المحقق

النص المحقق

فصل في شمول النصوص للأحكام وموافقة ذلك للقياس الصحيح

بسم الله الرحمن الرحيم (صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليما. الحمد لله وحدَه حقّ حمده. وله رحمه الله تعالى:) (1) فصل في شمول النصوص للأحكام وموافقة ذلك للقياس الصحيح قال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (2)، وقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (3). فأخبر أنه أَنزلِ مع رسوله الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقِسط. وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ) دليل على أن الميزان مما جاءت به الرسل، كما ذكر أنه أنزل الكتاب والحكمة، وأنه أوحى القرآن والإيمانَ في قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (4).

_ (1) كذا في بداية النسختين س، ع. ثم "فصل قال في شمول ... ". (2) سورة الشورى: 17. (3) سورة الحديد: 25. (4) سورة الشورى: 52.

وفي الصحيحين (1) عن حذيفة قال: حدَّثنا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثين، قد رأيتُ أحدَهما، وأنا أنتظر الآخر، حدّثنا أن الأمانةَ تنزل في جذْرِ قلوب الرجال، ثم نزل القرآنُ، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة. ثم حدَّثنا عن رفع الأمانة، قال: "ينامُ الرجلُ النَّومةَ، فتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيَظَلُّ أثرُها مثلَ الوَكْتِ، ثم ينام النَّومةَ، فتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيَظَلُّ أثرُها مثلَ المَجْلِ، كجَمْرٍ دَحْرَجْتَه على رجلِك، فنَفِطَ، فتَراه مُنْتَبِرًا وليس فيه شيءٌ" ... الحديثَ (2). والجذر: الأصل، والأمانة: الإيمان. فأخبر أن الله سبحانه أنزل الإيمان في أصل قلوب الرجال، وقد قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الْأَمْثَالَ (17)) إلى قوله (الْأَمْثَالَ (17)) (3). وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَثَلُ ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل غَيثٍ أصابَ) أرضًا،

_ (1) ع: "الصحيح". والحديث أخرجه البخاري (6497، 7086) ومسلم (143). وفي النسختين تحريف كثير في الحديث لم أشر إليه. (2) فسر البخاري غريبَ الحديث نقلاً عن أبي عبيد قال: قال الأصمعي وأبو عمرو وغيرهما: الجذر: الأصل من كل شيء، والوكت: أثر الشيء اليسير منه، والمجل: أثر العمل في الكفّ إذا غلظ. وانظر "فتح الباري" (11/ 333، 334). (3) سورة الرعد: 17. (4) البخاري (79) ومسلم (2282). (5) ع: "أصابت".

فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماء فأنبتتِ الكَلأَ والعُشْبَ الكثيرَ؛ وكانت منها طائفة أَمْسًكتِ الماءَ، فشَرِبتِ الناسُ وسَقَوْا وزَرَعُوا؛ وكانت منها طائفة إنّما هي قِيْعَان، لا تُمسِكُ ماءً (1)، ولا تُنبِتُ كَلأً. فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في ديِن الله، ونفعَه ما بَعثَني اللهُ به من الهدى والعلم، ومَثَلُ مَن لم يَرْفع بذلك رأسًا، ولم يَقْبَل هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به ". فضربَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث مثلَ ما جاءَ به بالماء الذي يَنزِلُ على الأرض، وشَبَّه القلوبَ بالأرض، والهدى والعلم الذي أنزله الله تعالى بالماء الذي نزل على الأرض، وجعلَ الناسَ ثلاثة أقسام: قسمًا سمعوا وفقهوا وعلموا، وقسمًا حفظوه وبَلَّغُوا غيرَهم فانتفعوا به، وقسمًا لا هذا ولا هذا. هذا المثل يُطابق المثلَ الذي في القرآن (2)، حيثُ شبَّه الله القلوبَ بالأودية التيَ منها كِبار تَسَعُ ماءً كثيرًا، وصغار لا تَسَعُ إلاّ ماءً قليلا، كما أن القلوبَ منها ما (3) تَسَعُ علمًا عظيمًا، ومنها ما لا تَسَعُ إلاّ دُونَ ذلك، وأن الماءَ بمخالطة الأرض يحتمل زبداً رابيًا لا

_ (1) ع: "الماء". (2) في الآية التي سبق ذكرها، وهي قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)) [سورة الرعد:17]. (وانظر "مجموع الفتاوى" (10/ 766). (3) "ما، ساقطة من ع.

ينفع، كذلك العلم الذي نزل على القلوب يحتمل من الشهوات والشبهات بسبب مخالطته الأنفس ما يكون كالزبد الذي لا ينفع. وبين أن الزَّبَد الذي يذهبُ جُفَاء فيخفى، وما ينفع الناسَ يمكث في الأرض، كذلك العلم في القلوب ما ينفع الناس. وقال تعالى: (كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ اَلأَمثَالَ (17))، فأخبر أن هذا مثلٌ مضروب. وقال تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا) (1). وقال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) (2). فبين أنه يُلْهِم المؤمنين (3) الإيمان وما ينفعهم، وذلك إيحاء إليهم وإن لم يكونوا أنبياء. . وفي الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر". وفي المسند والترمذي (5) حديث النّواس بن سمعان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ضَربَ الله مثلاَ صراطاً مستقيمَاً، وعلى جَنْبَتَي الصراط

_ (1) سورة المائدة: 111. (2) سورة القصص: 7. (3) في النسختين: "أنهم يلهم كذا المؤمنين"، وهو خطأ. (4) البخاري (3469، 3689) عن أبي هريرة، ومسلم (2398) عن عائشة. (5) أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 182، 183) والترمذي (2859) وقال: حديث غريب. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 73) وقال: صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1/ 73). وفي النسختين تحريف كثير في الحديث لم أشر إليه.

تفسير الميزان بالعدل عند السلف

سُوْرَان فيهما أبواب مفتَّحة، وعلى الأبواب ستورٌ مُرْخَاة/ [161/أ]، وعلى رأس الصراطِ داع يدعو، يقول: يَا أيها الناس! ادخلوا الصراطَ جميعًا ولا تخرجًوا، وداع يدعو من جَوْفِ الصّراطِ، فإذا أراد أحدٌ أن يَفتَح شيئًا من تلك الأبواب قال: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْه، [فإنك إن تفتحه] (1) تَلِجْه ". وفي رواية (2): "فلا يقع أحدٌ في حدود الله حتى يكشف الستْرَ". قال: والصراط: الإسلام، والسوْرَانِ: حدود الله تعالى، والأبواب المفتَحة: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي في جوف الصراط: وَاعِظُ الله في قلبِ كلِّ مسلم". فبيَّن أن في قلب كل مؤمنٍ واعظًا يَعِظُه، والوعظ هو الأمر والنهي، ترغيبٌ وترهيب (3)، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ) [أي يؤمرون به] (4) (لكان خيراً لهم) (5). وقال تعالى: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)) (6) أي ينهاهم، وذلك يُسمَّى إلهامًا ووحيًا. وأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان، وقد قال كثير من السلف:

_ (1) ما بين المعكوفتين زيادة من "المسند". (2) هي الرواية الثانية في "المسند" (4/ 183). (3) انظر نحو هذا الكلام في "مجموع الفتاوى" (20/ 45). (4) ما بين المعكوفتين ساقط من س. (5) سورة النساء: 66. (6) سورة النور: 17.

اعتبار الشيء بنظيره من الميزان

الميزان: العدل (1)، وقال بعضهم: الميزان اسم لما يُوزَن به، والمقصود به العدل، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (2). فأخبر أن المقصود بإنزال ذلك أن يقوم الناس بالقسط. فدلّ ذلك على أنه أنزل في القلوب من الميزان ما يعلم [به] (3) القسط. ومن ذلك: الاعتبار، وهو اعتبار الشيء بنظيره، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في دية الأصابع: هلاّ اعتبرتموها بدية الأسنان؟ (4) يعني إذا كانت ديتها واحدةً مع اختلافِ منافعها، فكذلك الأصابع ديتها واحدة مع اختلاف منافعها، كما أن النفوس مختلفة الفضائل مع (5) أن ديتَها واحدة، إذْ (6) كان جَعْل (7) الديات المقررة بالشرع مختلفةً باختلاف التلف أمرًا (8) لا يقدر البشر على معرفته وضبطه، وما عجزوا عن العلم به سقطَ عنهم الأمر به، كما يسقط فيما يعجزون عن العمل به.

_ (1) انظر "تفسير القرطبي" (17/ 260) و"تفسير ابن كثير" (4/ 337) وغيرهما. وتكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى" (12/ 249، 35/ 366). (2) سورة الحديد: 25. (3) ساقطة من النسختين. (4) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 862) ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 90). وانظر "فتح الباري" (12/ 226). (5) س: "من "تحريف. (6) س: "إذا". (7) س: "عقل". (8) ع: "أمر".

الطريقة المثلى هي ما تكون أقرب إلى العدل

ولهذا قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (1). فبيَّن أنه لا يكلف النفوس (2) إلاّ وسعها، لا يكلّفها من القسط الذي أُمِروا به ما يعجزون عن معرفته، ولهذا يقال: هذا أمثل من هذا وأشبه، أي أقرب إلى العدل الثابت في نفس الأمر، الذي لا يمكنُ العبادَ معرفتُه، وإنما كلِّفوا من ذلك ما يُطيقونه، وهو الأقرب إليه. ولهذا يقال لمثل هذه الطريقة: المُثْلَى، ثم كل قوم يسمون ما يرونه أقربَ إلى العدل: الطريقة المُثْلَى، ويقولون: هذا أمثل، كما قاله فرعون: (ويذهبا بطريقتكم المثلى (63)) (3). ولهذا كان ضَمَانُ النفوس والأموال مبناهُ (4) على العدل، كما قال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (5)، وقال (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (6)، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم) (7). والتماثل المأمور به معتبرٌ (8) بحسب الإمكان، والاجتهادُ في

_ (1) سورة الأنعام: 152. (2) س: "أن النفوس". (3) سورة طه: 63. (4) "مبناه" ساقطة من ع. (5) سورة الشورى: 40. (6) سورة النحل: 126. (7) سورة البقرة: 194. (8) س: "معتبرا".

أمثلة من ذلك

معرفة التماثل هو من باب الاجتهاد الذي اتفق عليه العلماء: مُثبِتو القياس ونُفَاتُه، وقد يكون في نوع من الأنواع، وقد يكون في عيني معيَّنه، ويُسمَّى تحقيق المناط. كَاختلافهم في المظلوم بالضرْب واللَّطْم ونحوِ ذلك (1)، مما لا (2) يُمكِن فيه أن يفعل بخصمه مثل ما فعل به من كل وجه. فأيما أقربُ إلى العدل: أن يُقتَص منه، ويُعتَبر التماثل بحسب الإمكان، كما كان (3) الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة يفعلون ذلك، وهو المنقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4)؛ أو أن يُعزَّر الظالم تعزيرًا يُرَدُّ إلى اجتهاد الوالي؟ على قولين. والأول هو المنصوص عن أحمد، وهو قول جمهور السلف، والثاني قول طائفة من متأخري أصحابه، وهو المنقول عن أبي حنيفة ومالك والشافعي، قالوا: لأنه لا يمكن فيه المماثلة، والقصاص لا يكون إلاّ مع المماثلة. ونَظَرُ (5) الأول أكمل (6)، وهم أَتبعُ للكتاب والميزان للنصّ

_ (1) انظر "إعلام الموقعين" (1/ 318 وما بعدها)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 65 - 66). (2) "لا" ساقطة من س. (3) س: "قال". (4) أخرجه البخاري (6894 ومواضع أخرى) ومسلم (1675) عن أنس. (5) س: "نظير" تحريف. (6) انظر كلام المؤلف على هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى" (11/ 547 - 548، 18/ 168 - 169، 20/ 564 - 565، 28/ 379 - 380، 34/ 162 - 163، 227، 232).

(2) المتلف من المال

والقياس، لأن المماثلة [من كل] (1) وجهٍ متعذرة، فلو لم يبقَ إلاّ أحدُ أمرينِ: قصاصٌ قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد عن المماثلة، فالأول أولى؛ لأن التعزير لا يُعتَبر فيه جنس الجناية ولا قدرُها، بل قد يُعزره بالسَّوط أو العصا، وتكون إما لَطمة بيده، وقد يزيد وينقص، وكانت العقوبة بجنس ما فعلَه،/ [161/ب] وتَحرِّيْ المماثلة (2) في ذلك بحسب الإمكان في ذلك أقربُ إلى العدل الذي أمر اللهُ به، وأنزل له الكتابَ والميزان. وكذلك تنازعً العلماءُ في المُتْلَف من المال (3)، إذا لم يُوجَد مثلُه من كل وجهٍ، كالحيوان والآدميين والعقار والثياب والأبنية، وأكثر المعدودات والمذروعات، فمنهم من قال: لا يجب في ذلك إلاّ القيمة بنقد البلد، فيُعطَى المظلومُ الذي فُوتَ عليه حَفُه من الدراهم ما يُقاوَم به ذلك في الشُوق (4). وقالوا: لأن المثل في الجنس متعذر. ثمَ مِن هؤلاء مَن طَردَ قياسَه، فقال: وكذلك إذا تلف صيده في الحرم والإحرام، إنما تجب قيمتُه كما لو كان مملوكًا، وقالوا: لا يجوز قَرضُ ذلك، لأن موجب القراض ردّ المثل، وهذا لا مثلَ

_ (1) ساقطة من النسختين، والاستدراك من "إعلام الموقعين" (1/ 321). (2) "وتحري المماثلة" مطموسة في س. وفي ع: "تجري" تصحيف. (3) انظر "مجموع الفتاوى" (30/ 332 - 333، 18/ 169)، و"إعلام الموقعين" (1/ 322). (4) ع: "ما يقاربه ذلك المسروق"!

له، فلا يجوز قرضه، وهذا قول أبي حنيفة. ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد، لدلالة الكتاب والسنة وآثار الصحابة على أن الصيد يضمن بمثله من النَّعَم (1)، وهو مثل مُقَيَّد بحسب الإمكان، ليس مثلاً من كل وجه، وهو في النعامة بدنة، وفي بقرة الوحش بقرة، وفي الظبي (2) شاة. وهذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء يجوِّزُون (3) قرض الحيوان أيضًا (4)، لأن السنة دلَّت عليه، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف بَكْرًا، وقضى جَملاً خِيَارًا رَبَاعِيًّا، وقال: "إن خياركم أحسنكم قضاء". ثمّ (6) من هؤلاء من قال: إن [كان] (7) القرضُ حيوانًا رد قيمته، طردا للقياس أصله في الإتلاف، فإنه قال: كما يضمن في

_ (1) قال تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: من الآية 95]. وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الضبع بكبش. وانظر، مجموع الفتاوى" (20/ 352 - 353). (2) س، ع: "الضبي" تحريف. (3) س: "لا يجوز" خطأ. (4) انظر "مجموع الفتاوى" (29/ 532) و"إعلام الموقعين" (1/ 322). (5) مسلم (1600) من حديث أبي رافع. ورواه أيضًا مالك في "الموطأ" (2/ 680) وأحمد (6/ 390) والدارمي (2568) وأبو داود (3346) والترمذي (1318) والنسائي (7/ 291) وابن ماجه (2285). (6) ع: "لكن". (7) زيادة على النسختين ليستقيم السياق.

(5) الغصب والإتلاف

الغصب والإتلاف بالقيمة، فكذلك (1) في القرض، إذ لا مِثْلَ له. وهذا قولٌ في مذهب أحمد وغيره، وقال الأكثرون: بل يجب المثل من الحيوان بحسب الإمكان، كما دلّت عليه السنة، وهذا هو المنصوص عن الأئمة. واختلفت (2) أقوالهم في الغَصْب والإتلاف، فتارةً يقولون: يضمن بالقيمة، وتارةً يقولون: يضمن ما سوى الحيوان بالقيمة، وتارةً يقولون: بل الجميع يضمن بالمثل بحسب الإمكان. وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد. وقد اختلف في ذلك قول (3) مالك والشافعي أيضًا، فقال الشافعي في الجدار المهدوم ظلمًا: يُعادُ مثلُه، وقال في مواضع: يضمن بالقيمة. ولم يكن مع من يوجب القيمة في الإتلافِ من النصوص إلاّ قولُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4): "من أعتقَ شِركا له في عبدٍ، وكان له من المال ما بلغَ ثمنَ العبد، فقُوِّمَ عليهِ قيمةَ عدلٍ، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وأُعْطِيَ شُركاؤُه حِصَصَهم، وعَتَقَ عليه العبدُ". قالوا: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبَ في نصيب الشريك القيمةَ، ولم يُوجِبْ نصفَ عبدٍ، ولو كان العبد يضمن بالمثل لأوجبَ نصف عبد.

_ (1) س، ع: "وكذلك". (2) س: "واختلف". (3) س: "يقول". (4) أخرجه البخاري (2521 - 2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر.

حديث من أعتق شركا له في عبد ... ليس من باب ضمان المتلف

وهذا غلطٌ على الشارع، فإن هذا ليس من باب ضمانِ المتلف، بل هو من باب تملك ملك (1) الغير بالقيمة، فإنّ نصيبَ الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه بعد ذلك، لا يتلفه قبل أن يملكه (2)، بخلاف ما لو قتله، فإن ذلك إتلاف. والعلماء القائلون بالسراية متفقون على أنه يعتق على ملك الغير والولاء (3) دون الشريك. وتنازعوا هل يَسْرِيْ عَقِبَ الإعتاق، أو لا يُعْتَق حتى يؤدي الثمن؟ على قولين مشهورين لهم: الأول هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول مالك، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل (4)، كما قد بُسِط في موضعه (5). وعلى هذا فإذا أدَّى هل يُعْتَق من حينِ الأداء، أو يتبيّن أنه عتق من حين الإعتاق؟ على قولين. وعلى هذا يَنْبني لو أعتقَ الشريكُ نصيبَه بعد عتق الأول، فعلى القول الذي ذكرنا أنه الصحيح يجوز عتقُه، وعلى الآخر لا يجوز. وعلى هذا يَنْبني إذا قال أحدُهما: إذا أعتقتَ نصيبَك (6) فنصيبي حر، فعلى القول الذي بينا رجحانَه يصحُّ هذا التعليقُ، ويُعْتَقُ

_ (1) كذا في النسختين، وفي "الإعلام" (1/ 324): "ممال". (2) ع: "يملك". (3) ع: "ما لو كان". (4) ع: "في القولين". (5) انظر "مجموع الفتاوى" (13/ 231 - 232). (6) ع: "أعتق نصيبه".

الذين يوجبون القيمة في ضمان المتلف ليس معهم أصل

نصيبُ الشريكِ المعلقُ من مالِه، وعلى القول الآخر لا يصحُّ التعليقُ، ويُعْتَقُ كفُه من نصيب المعتق إن كان مُوسِرَا، وإن كان المعتق مُعسِرَا صحّ وعَتَقَ عليهما على القولين. وأيضا فإنه يُفرَّق بين أن يكون المُتْلَفُ (1) عينَا كاملة أو بعضَ عينِ، فإذا كان/ [162 أ]، المتلف (2) بعضَ عينٍ فإنه إن وجب نُظِرَ ذلك الجزءُ، لكن بحسب القيمة إذا طلبها الشريكُ، فإن كان المشتركُ (3) مما ينقسم عنه، وإلّا بيْعَ إذا طلب أحدُهما ذلك، وقسمَ الثمنُ، فلو أتلفَ أحدُ الشريكينَ عينَا مشتركة تُمكِنُ قسمتُها، فالواجب جز مقسوم لا مُشاع إذا طلب أحدُهما ذلك، وإن تراضيا بالشركة وَجَبَ جزءٌ مشترك، وإن كان مما لا تُمكِن قسمتُه فإنما يَجِبُ نصفُ عينٍ إذا تراضيا بذلك، وإلّا وَجَبَ نصفُ القيمة لأجلِ وجوبِ القيمةِ. والمقصود هنا أن الذين يُوجبون في ضمان المُتْلَفِ القيمةَ ليس معهم أصلٌ يُقِيمون (4) عليه قولًهم، لا كتاب ولا سنَّة، وإنما هو رأي محض، ظَنوا أن المثلَ إنما يكون في القيمة. ثمَ مَن طَردَ منهم قياسَه ظهر تناقضُه (5) للكتاب والسنة، ومن لم يَطْرده ظهر مناقضتُه

_ (1) ع: "التلف" (2) ع: "التلف". (3) "فإن كان المشترك" مطموسة في س. (4) ع: "يقيسون". (5) س: "مع تناقضه".

(7) حكومة داود وسليمان في الحرث الذي نفشت فيه الغنم

ومخالفته لبعض النصوص أيضًا. وهذا الأصل هو الحكومةُ المذكورة في كتاب الله (1)، التي حكَمَ فيها داودُ وسليمانُ إذ حَكَما في الحرث الذي نَفَشَتْ فيه غنَمُ القوم، والحرث هو البستان، وقد روي أنه كان بستانَ عنَبٍ الذي يُسمَّى الكَرْمَ، ونَفْشُ الغنمِ إنما يكون بالليل، فقضى سليمانُ بالضمان على أصحابِ الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يَعْمُروا البستانَ حتى يعودَ كما كان. وأما مُغَلُّه مِن حِيْنِ الإتلافِ إلى حينِ الكمالِ فأعْطَى أصحاب البستان ماشيةَ أولئك، ليأخذوا من نمائِها بقدر نماءِ البستانِ، وقد اعتبرَ النَّماءَيْنِ فوجدهما سواءً. كما أن داود لمّا حكمَ لأصحاب البستانِ بالغنم نفسِها قد اعتبر قيمتَها، فوجدَها بقدر ما أُتْلِف (2) من البسمتان، ولم يكن لهم مالٌ غيرُها، وقد رَضُوْا بأخذِها ما لم يُطالبوا بدراهم، أو تعذَّر بيعُها بدراهم. وقد تنازع علماءُ المسلمين في مثلِ هذه القضية على أربعة

_ (1) قال تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الأنبياء: 78 - 79]. وقد تكلم المؤلف على قصة داود وسليمان هذه في "مجموع الفتاوى" (20/ 305 - 306، 563 - 564، 30/ 333). (2) ع: "قيمة التلف".

اجتهاد العلماء في القياس والتمثيل واتفاقهم على صحة أصله

أقوال (1): فمنهم مَن حَكَم بمثلِ حُكم (2) سليمان عليه السلام في النَفْشِ وفي المثل، وهذا هو الصواب، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد ذُكِر (3) ذلك وجهًا في مذهب الشافعي ومالك. والثاني: موافقتُه في النَّفْشِ دون المثل، وهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد. والثالث: بالعكس، وهو موافقتُه في المثل دونَ النَّفْشِ، وهو قولُ من قاله من أهل الظاهر كداود وغيره. والرابع: أن النفْشَ لا يُوجِبُ الضمانَ، ولو كان لم يكن بالمثل بل بالقيمة، وهو مذهب أبي حنيفة. وهذا من اجتهاد العلماء في القياس والتمثيل الذي اتفقوا على صحةِ أصلِه، فإنهم متفقون على ما دلَّ عليه القرآن من أن جزاءَ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها، وأن المعاقبةَ تكون بالمثل، وأنّ من اعتدى يعتدى عليه بمثل ما اعتدى (4). فما كانت المماثلةُ فيه ظاهرةً لم يتنازعوا فيه،

_ (1) انظر "إعلام الموقعين" (1/ 326). (2) "حكم" ساقطة من س. (3) ع: "ويذكر". (4) قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: 40] , وقال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [سورة النحل: 126]، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194].

اختلافهم في القتل بالجرح في غير العنق أو بالتحريق والتغريق

كما لو أتْلَفَ مَكِيلاً أو موزونًا متماثلَ الأجزاءِ، كالدرهم والحِنْطة ونحو ذلك، فإن الواجبَ هنا المِثْلُ إذا أمكن. وكذلك يجبُ في القرضِ مِثْلُ ذلك. وكذلك لم يتنازعوا فيما ظَهرتْ فيه المماثلةُ في القصاص، كما لو قَطَعَ عُنُقَه بالسيف، فاتفقوا على أنه يُقْطَعُ عنقُه بالسيف. ولكن تنازعوا فيما إذا قتلَه بالجرحِ في غيرِ العنقِ، أو بغير القتلِ كالتحريق والتغريق (1): هل يُفْعَل به كما فَعَل- كما يقوله مالك والشافعي وأحمد في (2) إحدى الروايات-؛ أو لا قَوَدَ إلاّ بالحديد في العُنُق- كقول أبي حنيفة واْحمد في إحدى الروايات-؛ أو يُفرق بين الجرح المُزْهِق وغير المُزْهق- كالرواية الثالثة عن أحمد-؛ أو بين المُزْهق وما كان مُوجبًا للقَوَدِ بنفسِه كقطع اليد، وبين ما ليس من هذين النوعين- كالرواية الرابعة عن أحمد-؟ فهذا من اجتهاد العلماء في (3) تحقيق القياس والعدل والتماثل الذي اتفقوا على اعتبارِه، متى (4) تعذرتِ المماثلةُ المطلقةُ من كل وجه. والذي يدكُ عليه النصُّ والاعتبار الصحيحُ هو القول الأول، وهو أن يُفعَل به كما فَعَلَ، فإن ماتَ بذلك، وإلّا قُتِل، فإن النبي

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (18/ 168, 20/ 351 - 352, 28/ 314, 381)، و"إعلام الموقعين" (1/ 327). (2) "في" ساقطة من س. (3) "في" ساقطة من س. (4) س: "حتى" تحريف.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ برَضْخِ رأسِ اليهوديِّ الذي رَضَخَ رأس الجارية، لما اعترفَ بأنه قتلَها (1)، وكان/ [162 ب] هذا قَتْلاً بالقصاصِ لا بِنَقْضِ العَهْدِ، إذْ لو قَتَلَه بمجرد نقضِ العهد- كما يُقْتَل الحربيُّ الأسِيْرُ- لقَتَلَه في العنق. وأيضًا فالعدلُ في أن يُفْعَلَ به كما فَعَلَ أقربُ من أن تُضْرَبَ عنقُه بالسيف، مع كونه حَرَّقَ الأولَ، أو قَطَعَ أربعتَه، أو مَثلً به. وقد أباحَ اللهُ أن نُمَثلِّ بمن مَثَلَ بنا، وإن كانت المُثْلَةُ بدون ذلك منهيًّا عنها بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (2)، فدلَّ على أن التمثيلَ بجَدْعِ الأنفِ والأذنِ هو من العقوبة بالمثل. وإذا قِل: هذا يُفضِي إلى أن يُؤخذ أكثر. قيل: وما ذكرتم يُفضِي غالبًا إلى (3) أن يُؤخَذَ أنْقَص من الواجب. وهذا أقربُ إلى المماثلة، فإنه يكون تارةً أكثرَ، وتارةً يكون أنقصَ، ولكن هذا أقرب إلى العدل من الذي يكون دائمًا أنقص. وإذا قيل: في غير الجرح المزهق ربما نقص منه، فيُفضي إلى جرحه مرتين.

_ (1) أخرجه البخاري (6876، 6884 ومواضع أخرى) ومسلم (1672) عن أنس بن مالك. (2) سورة النحل: 126. (3) "إلى" ساقطة من س.

اختلافهم في التماثل الواجب لا يمنع أن يكون أصل القياس صحيحا

قيل: لو ضربه في العنق فلم يَمُتْ (1)، كان له أن يضربه ثانيةً بالاتفاق، وإن كان في ذلك ضرب مرتين، لأن هذا أقربُ إلى العدل. والمقصودُ بهذا أن ننبه على أن الناسَ يتنازعون في التماثل الواجب، حيث اتفقوا على وجوب المثل، وأن الاجتهادَ في مثل هذا متفق عليه، فكذلك التماثلُ في غير هذا يتنازعون فيه، وذلك مما يدل على أن تنازعُ الناسِ في كثير من القياس لا يَمنعُ أن يكونَ أصل القياسِ- الذي يُقاس فيه الشيءُ بمثلِه وضدِّه- قياسًا صحيحًا، فاعتبارُه بمثله يُوجِب قياسَ الطَرْدِ الذي يُوجِب التسويةَ بينهما، واعتبارُه بضده يُوجب قياسَ العكس الذي يوجب تَضَاد حكمهما. كما إذا اعتبرنا دم السمكِ الذي (2) تُباح ميتتُه بدمِ ما لا تُباح ميتتُه، فقلنا: يجب أن نفرَق بين الدمين، لأن ذلك لا يُبَاحُ إلاّ بسَفْحِ دَمِه، وهذا يُبَاحُ بدون سَفْحِ دَمِه، فدل على افتراقِ حكم الدميْنِ. وكذلك الوتر لما ثبتَ بالسنة الصحيحة أنه يُصفَى على الراحلة (3)، ثبتَ بذاك الفرقُ بينَه وبينَ الواجباتِ التي لا يجوز فعلُها على الراحلة، فعُلِم أنه مُفارِق لها لا مماثل لها. والطَرْدُ هو قياسُ الجمع، والعكسُ هو الفَرْقُ، والجمع والفرقُ

_ (1) س: "يرجه"، والمثبت من ع. (2) س: "التي". (3) أخرجه البخاري (999، 1000 ومواضع أخرى) ومسلم (700) عن ابن عمر.

يكون بالأمور المعتبرة في الجمع، فيُجْمَعُ بين ما جمع الله بينه، ويكون الجمعُ والفرقُ بالأوصافِ المعتبرةِ في حكم الله ورسوله. فهذا كفُه من الميزان الذي أنزلَه (1) الله مع رسوله (2)، كما أنزلَ اللهُ الكتابَ.

_ (1) س: "أنزلها". (2) ع: "رسله".

فصل: الكتاب والميزان لا يتناقضان

فصل وإذا تبيَّن أن الكتاب والميزان مُنْزَلاَن، فلا يجوز أن يناقض الكتاب بتناقض الميزان (1)، ولا يتناقض الكتابُ والميزانُ، فلا تَتناقَضُ دلالةُ النصوص الصحيحة لا دلالةُ الأقيسة الصحيحة، ولا دلالةُ النص الصحيح والقياس الصحيح، وإنما يكون التناقضُ بين الحق الصحيح واالباطلِ الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كلُه حقّ فلا يتناقض، بل يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا. وقد بسطنا هذا المعنى في مواضع (2). والمقصود هنا أن نقول: النصوصُ محيطةٌ بجميع أحكام العبادِ، فقد بيَّن الله تعالى بكتابه وسنة رسوله جميعَ ما أمر الله به وجميعَ ما نهَى عنه، وجميعَ ما أحلَّه وجميعَ ما حرَّمَه، وبهذا أكملَ الدينَ، حيث قال: (اليوم أكملت لكم دينكم) (3). ولكن قد يَقْصُر فَهْمُ كثيرٍ من الناس عن فَهْمِ ما دلَّت عليه النصوصُ، والناسُ

_ (1) كذا في النسختين. وفي "إعلام الموقعين" (1/ 331): "وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه". وهو أوضح في الدلالة على المقصود. (2) أشرتُ إليها في المقدمة ص 239. (3) سورة المائدة: 3.

أمثلة من التفاوت في الأفهام

متفاوتون في الأفهام، ولذلك قال تعالى: (فَفَهَّمنَاها سليمان) (1)، ولو كان الفهم متماثلاً لما خصَّ به. وكذلك في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري: "الفَهْمَ الفَهْمَ فيما أُدْلِيَ إليك" (2). وفي الحديث الصحيح (3) عن علي رضي الله عنه: "إلاّ فهمًا يُؤتيْهِ اللهُ عبدًا في كتابه". وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (4) وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلَمَنا برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي الصحيح (5)

_ (1) سورة الأنبياء: 78. (2) كذا في س، ع. وفي عامة المصادر: "فافهم إذا أدلي إليك". أخرجه وكيع في" أخبار القضاة" (1/ 70، 283) والدارقطني في "السنن" (4/ 207) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 65، 10/ 115، 119، 135، 253) وابن حزم في "المحلى" (9/ 393) و"الإحكام في أصول الأحكام" (7/ 146) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 200) وابن عبد البر في "الاستذكار" (22/ 30) من طرق عن سفيان بن عيينة عن إدريس الأودي قال: أخرج إلينا. سعيد بن أبي بردة كتابًا، فقال: "هذا كتاب عمر إلى أبي موسى. قال الألباني في "الإرواء" (8/ 241): قوله "هذا كتاب عمر" وجادة، وهي وجادة صحيحة من أصح الوجادات، وهي حجة. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المحلّى" (1/ 60)، وقواه شيخ الإسلام في "منهاج السنة" (6/ 71). وله طرق أخرى ذكرها الألباني وتكلم عليها. وشرحه ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 86 إلى 2/ 165). (3) أخرجه البخاري (111، 6903، 6915 ومواضع أخرى). ورواه أيضًا أحمد (1/ 79) والدارمي (2361) والنسائي (8/ 23) والترمذي (1412) وابن ماجه (2658). أخرجه البخاري (466، 3654، 3904) ومسلم (2382). أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده" (1/ 266، 314، 328، 335) عن=

اختلاف العلماء في شمول النصوص للأحكام

أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لابن عباسٍ رضي الله عنه فقال: "اللهم فَقَهْه في الدين وعَلمْه التأويلَ". لكن الناس صاروا هنا ثلاثةَ أقسام (1): (1) قوم من مُثبِتَةِ القياس قالوا: إن النصوص لا تُحيط بأحكام الحوادث، وغَلاَ منهم من قال: ولا بعُشُرِ مِعْشارِ الحوادث (2)، وقال بعضهم: إن النصوصَ متناهية، وحَوادث العبادِ غير متناهية، وإحاطة/ [163 أ] المتناهي (3) بغير المتناهي ممتنع (4). وهذا خطأ (5)، لأن ما يتناهَى لا يَمتنعُ أن يُجْعَلَ أنواعًا،

_ = سعيد بن جبير عن ابن عباس. والحديث بنحوه مختصرًا عند البخاري (143 ومواضع أخرى) ومسلم (2477) عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس. (1) انظر "إعلام الموقعين" (1/ 333). (2) قال الجويني في "البرهان" (2/ 768): "إن تسعة أعشار الفتاوى والأقضية صادرة عن الرأى المحض والاستنباط، ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر". وانظر ما قاله في (2/ 764، 1166). (3) س: "المتناهية". (4) قال الشهرستاني في "الملل والنحل" (1/ 199): "تعلم قطعاً ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعدد، ونعلم قطعَا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نصٌ، ولا يتصور ذلك أيضًا. والنصوص إذا كانت متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلِم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون في كل حادثة اجتهاد". (5) انظر "المسودة": 374، و"إعلام الموقعين" (1/ 333)، و"مختصر" ابن اللحام: 151، و"شرح الكوكب المنير" (4/ 224).

معنى حديث بعثت بجوامع الكلم

فيُحْكَمَ (1) لكل نوع منه بحكيم، والأفرادُ التي لا تَتناهى تدخلُ تحت (2) تلك الأنواع. هذا إن قُذَر وجودُ ذلك، مع أن أنواعَ الأفعالِ بل والأعراض كلها متناهية، ولو قُذَر أنها لا تتناهى فأفعالُ العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية. وهذا كما يُجْعَلُ الأقاربُ نوعينِ: نوعَا مباحًا، وهن بناتُ العمَ والعمَّةِ وبنات الخالِ والخالة، وما سوى ذلك حرامٌ. وكذلك يُجعَل ما يَنقُض الوضوءَ محصورًا (3)، وما سوى ذلك لا يَنقُض الوضوءَ. وكذلك ما يُفسِد الصومَ محصورًا (4)، وما سوى ذلك لا يُفسِدُه، وأمثال ذلك. وإذا كان (5) أهلُ المذاهب جعلوا لهم قواعدَ (6) يضبِطون بها ما يَحِلُّ ويَحْرُمُ، فاللهُ ورسولُه أقدرُ على ذلك، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُعِثتُ بجوامع الكلمِ" (7)، فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامةٌ وقضيةَ كلّيةٌ تَجمع أنواعَا وأشخاصَا (8)، كقوله لما سُئِل عن أنواع الأشربة كالبِتع والمِزْرِ، وكان قد أُوتيَ جوامعَ

_ (1) س: "أنواعه محيطة"، والتصويب من ع. (2) س: "تحته"، وهو خطأ. (3) في النسختين: "محظورا"، والتصويب من إعلام الموقعين. (4) في النسختين: "محظورا" كالسابق. (5) س: "ولذلك كانوا"، ع: "ولذلك كان". والتصويب من إعلام الموقعين. (6) ع: "لأهل المذاهب جداول لهم وقواعد". (7) أخرجه البخاري (2977، 7013، 7273) ومسلم (523) عن أبي هريرة. (8) انظر "مجموع الفتاوى" (19/ 280 وما بعدها).

أمثلة من القواعد الكلية في الكتاب والسنة

الكلم، فقال: "كل مُسكرِ حرام " (1). والكتاب والسنة مَلَانُ (2) من هذا (3)، كقوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (4)، وقوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (5)، وقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (6)، إلى غير ذلك من النصوص. (2) وقومٌ من نُفاةِ القياس نَفَوا القياسَ الجليَّ الظاهر، حتّى فَرَّقوا بين المتماثلين، وزعموا أنّ الشارعَ لم يَشرع شيئَا لحكمةِ أصلاَ، ونَفَوا تعليلَ خلقِه وأمرِه، فقالوا: إنه لا يَخلُق ولا يأمُر لحكمة ولا لنفعِ عبادِه. وهذا الأصل وإن كان قد قاله طائفةٌ من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وخالفوا القدريةَ في إثبات القدر، فهم وإن أصابوا في إثبات القدر، وبَينُوا تناقضَ المعتزلة النفاةِ للقدر، فقد رَدُّوا أيضًا من الحق المعلوم بالشرع والعقل ما (7) صاروا به

_ (1) أخرجه البخاري (4343، 4344 ومواضع أخرى) ومسلم (1733 وبعد رقم 2001) عن أبي موسى الأشعري. (2) كذا في س، ع. ولعله "مليئان". (3) انظر أمثلة من هذا في "مجموع الفتاوى" (19/ 281 - 285، 34/ 207 - 209) و"إعلام الموقعين" (1/ 333 - 335). (4) سورة المائدة: 90. (5) سورة التحريم: 2. (6) سورة الشورى: 2. (7) س: "مما".

أصل قولهم قول جهم بن صفوان ومن وافقه

ممن رَدَّ بدعةً ببدعةٍ، وقابلوا الفاسدَ بالفاسدِ، فإنهم أنكروا حكمةَ الله تعالى في خلقه وأمره، وأنكروا رحمتَه في خلقه وأمره. وأصلُ قَولهم هو قولُ جهم بن صفوان ومن وافقه على قوله في القدر، كما قد بُسِط الكلام عليهم في غير هذا الموضع (1)، فإنّ القدريةَ من المعتزلة ونحوهم والجهمية الجبرية تناقضوا في هذا الباب تناقضًا بيِّنًا، والسنّة وَسَط، ليست مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. وهؤلاء صاروا في القياس نوعين: قوم (2) اقروا به، كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من الفقهاء، وقالوا: إن عِلَلَ الشرع إنما هي مجرد (3) أماراتٍ محضة وعلاماتٍ، كما قالوا ذلك في سائَر الأسباب، فقالوا: إنّ الدعاء إنما هو علامة محضة، والأعمال الصالحة إنما هي علامات، وكذلك سائر ما وجدوه من (4) الخلق والأمر مقترنًا بعضُه ببعضٍ، قالوا: أحدهما دليل على الآخر لمجرد الاقترانِ والعادةِ الموجودةِ في خَلْقِه وأمرِه، لا (5) لأنّ أحدهما سبب للآخر، ولا علة له ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجهٍ من الوجوه (6).

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (8/ 466 وما بعدها، 16/ 130 - 133). (2) س: "قوما". (3) س: "مجردات". (4) في النسختين: "في"، والتصويب من إعلام الموقعين (1/ 336). (5) "لا" ساقطة من س. (6) انظر "مجموع الفتاوى" (8/ 485 - 486).

- قول السلف والجمهور: إثبات الحكمة والرحمة في خلقه وأمره

وأما الفقهاء المعتبرون وسلفُ الأمة وأئمتُها وجمهورُها وجمهورُ متكلميها فعلى خلاف [هذا] (1) القولِ، وإثباتِ الحكمة والرحمة في خلقِه وأمرِه، وإثباتِ لامِ كَيْ في خلقِه وأمرِه، كما دَلَّ على ذلك الكتابُ والسنةُ مع المعقول الصريح، فاتفق على ذلك الكتابُ والميزانُ والسلفُ والفقهاءُ. وجمهورُ الأئمة وأكثرُ طوائفِ الكلام يُنكِرون (2) قولَ المعتزلة المكذبين بالقدر، وقولَ هؤلاء الجهمية المكذبين بالحكمة والرحمة، فلا يقولون بقول القدرية ولا قول الجهمية. وعامةُ البدع الحادثة بالمعقول الفاسد (3) في أصول الدين هي من قول هاتين الطائفتين: الجهمية والقدرية، فالجهمية هم رءوس الجبرية الذين أنكروا حكمتَه ورحمتَه، والقدرية أنكروا قدرتَه ومشيئتَه، فأولئك أثبتوا له نوعَا من الملك بلا حَمْدِ، وهؤلاء أثبتوا له [نوعًا] (4) من الحمد بلا ملك. والصوابُ ما عليه سلفُ الأمة وأئمتها وأهلُ السنة والجماعة: أنه سبحانه/ [163 ب] له الملك وله الحمد، بل له كمالُ الملك وله كمالُ الحمد. وكلتا (5) الطائفتين ناظرتِ الفلاسفةَ الدهريةَ في خَلْقِ الرب

_ (1) زيادة على النسختين ليستقيم السياق. (2) س، ع: "منكرون". (3) ع: "بالعقول الفاسدة". (4) الزيادة من "إعلام الموقعين" (1/ 336). (5) س: "كلا".

لا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا

وأفعالِه وأقوالِه وحدوثِ العالم مناظرةً فاسدةً، تنبني (1) على مقدِّماتٍ مخالفةٍ للشرع والعقل، وهم يَظُنون أنهم يوافقون الشرعَ والعقلَ، فلا للإسلام نَصَرُوا ولا للأعداء كَسَرُوا (2)، وصار ما ابتدعوه في أصول الدين سببًا لضلال طوائفَ ممن وافقَهم وممّن خالفَهم، فإنّ المخالفَ لهم من الفلاسفةِ استطال بما ابتدعوه عليهم وعلى المسلمين، وظَنَّ أنّ ما قالوه هو الذي يقوله المسلمون، وصارت الكتبُ المصنفةُ في الكلام إنما يُذكرَ فيها قولُهم وقول الفلاسفة، ويُجعَل قولُهم هو قول المسلمين، لم يأتِ فيه كتاب ولا سنةٌ، ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين. ولهذا عَظُمَتِ الفتنةُ بالكتب (3) المصنَّفةِ في الكلام والفلسفة، حتى آل الأمرُ بالأفاضلِ من أهلها (4) إلى الحيرة والشك (5)، إذْ (6) كان فيها من الأمور الإلهية مما يخالف المعقول الصريحَ والمنقول الصحيحَ ما يُوجبُ الحيرةَ والشك لمن لم يَعرِف الهدى إلاّ منها، كما أصاب ذلكَ كثيرًا من رؤساءِ النظار في الكلام المحدَثِ

_ (1) ع: "منهما" بدل "تنبني". (2) س: "به كسروا". والمؤلف يستخدم هذا الأسلوب كثيرًا، انظر "مجموع الفتاوى" (5/ 33، 544، 13/ 157). (3) ع: "في الكتب". (4) ع: "من الخلف". (5) انظر "مجموع الفتاوى" (4/ 72 - 73، 5/ 10 - 11) و"درء تعارض العقل والنقل" (1/ 159 - 160). (6) س: "إذا".

والفلسفةِ، حتى دخل من ذلك في كلام الفقهاء وأهلِ أصول الفقه ما دخل، فتجدُ الواحدَ منهم إذا بحثَ في الفقه بحثَ فيه (1) بفطرتِه وإسلامه، مُعلِّلاً للأحكام بالعِلَلِ المناسبة، ذاكرًا أنّ اللهَ أَمَرَ بكذا لكذا، وخلقَ كذا لكذا، وفي موضع آخر يُنكِرُ هذا ويقول: لا يخلق ولا يأمر لِعِلةِ، واللام في ذلك لامُ العاقبة لا لامُ كَيْ. فهذا قولُ من أثبت القياسَ من نُفاةِ الحكمةِ والتعليلِ في خَلْقِه وأمرِه. وأما من نَفَى القياسَ فقولُه أشبهُ بهذا الأصلِ، فإنه إذا لم يأمر لحِكمةِ (2) فلا معنى لتعليلِ أمرِه ونهيِه، لكن مُثبتةَ القياس من هؤلاء قالوا: إن الحكمةَ اقترنتْ (3) بالأمر وإن لم يأمر لها، وقالوا في الأمر كما قالوا في الخلق، فقالوا: كما جرتْ عادةُ الله تعالى في خلقِه، فَخَلَقَ الشِّبَع عَقِبَ الأكل، والرِّيَّ عَقِبَ الشُّرب، والاحتراقَ عقبَ الإحراقِ، ونحو ذلك، وإن لم يكن خَلَقَ هذا لهَذا ولا لهذا، ولا جعلَ سبحانَه أحدَ هذين علَّةً للآخر عندهم. قالوا: فهكذا أمرُه، أمَرَ بقطِع السارق، لا لأجل حفظ الأموال، بل إذا قُطِعَ السارقُ حُفِظتَ الأموالُ، فاقترن هذا بهذا عادةَ، وإن لم يأمر بهذا لأجل هذا. فالمصلحة عندهم توجد عند

_ (1) س: "في". (2) س:"بحكمة". (3) س: "اقتربت".

نفاة القياس احتاجوا إلى مجرد الظواهر والاستصحاب

هذه الأسباب، لأنها والأفعال تَقتَرِنُ بها المصلحةُ عادةً، وإن لم تكن أسبابَا وعِلَلاَ لها عندهم. . فهذا قولهم، وهو (1) موجود في أقوال كثيرٍ (2) من المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بن أنس والشافعي وغيرهم، وهي أقوال مُبتَدعة مخالِفة لنصوص الأئمة وأصولهم، ولنصوص الكتاب والسنة، وإجماعِ السلف، والعقلِ الصريح، كما قد بُسِط (3) في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن نفاةَ القياسِ لمّا سدوا على أنفسهم بابَ التمثيل والتعليل -وهو من الميزان والقسط الذي أنزل الله سبحانه- احتاجوا في معرفة الأحكام إلى مجرد الظواهر، [و] (4) صاروا معتصمين (5) بالظاهر والاستصحاب، فحيثُ فهموا (6) من النصّ حكمًا أثبتوه، وحيثُ لم يفهموه نَفَوه، وأثبتوا الأمرَ على موجب الاستصحاب. وهم وإن أحسنوا في كونهم قالوا: إن النصوص تَفِيْ بجميع الحوادث، وإن الله ورسوله بين الأحكام، وأكملَ الدين، وأغنى الناسَ عما سوى الكتاب والسنة، وأحسنوا في ردِّهم ما

_ (1) ع: "وهذا". (2) س: "كثيرة". (3) ع: "قد بيناه". (4) زيادة على النسختين ليستقيم السياق. (5) ع: "متصرفين". (6) ع: "لم يثبتوه".

خطؤهم من ثلاثة أوجه

رَدُّوْهُ (1) من الأقيسة الفاسدة- فأخطأوا من ثلاثة أوجُهٍ (2): أحدها: ردّ القياس الصحيح. والثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكمٍ دلَّ عليه النصُّ، فلم يفهموا دلالتَه عليه، فكانوا مقصِّرين في فهم الكتاب لما قصَّروا في معرفة الميزان. والثالث: جَزْمُهمْ بموجب الاستصحاب، لعدم علمهم بالناقل، وعدمُ العلمِ ليس علمًا بالعَدَم. وكذا تنازعَ الناسُ في استصحاب حال البراءة الأصلية (3)، فقالت طائفة من أصحاب أبي حنيفة: يَصلُح للدفع لا للإبقاء، أي يَصِحُّ أن يُدفَع به مَن/ [164 أ]، ادّعَى تغييرَ الحال، لإبقاءِ الأمر على ما كان، فإذا لم نَجِدْ دليلاً ناقلاً أمسكنا، لا نُثبت الحكم ولا ننفيه، بل (4) ندفع من يثبِته (5). فيكون حالَُ المتمسكِ بالاستصحاب حالَ المعترضِ مع المستدل

_ (1) س: "ردوهم". (2) انظر "إعلام الموقعين" (1/ 338 وما بعدها)، وفيه زيادة وجه رابع. (3) انظر "مجموع الفتاوى، (23/ 25)، و"المسودة" ص 488، و"إعلام الموقعين" (1/ 339)، و"المستصفى" (1/ 222)، و"المحصول" (2: 3/ 225 وما بعدها)، و"الإحكام" للآمدي (4/ 129) وغيرها من كتب الأصول. (4) "ولا ننفيه بل" مطموسة في س. (5) ع: "يدفعه".

- قول أصحاب الشافعي

يمنعُه (1) الدلالةَ حتى يثبِتَها، لا [أنه] (2) يُقيم (3) دليلًا مناقضًا له. وذهب الأكثرون من أصحاب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى أنه يَصْلُح لإبقاءِ الأمرِ على ما كان عليه، فإنه إذا غَلَبَ على الظن انتفاءُ الناقل غَلَبَ على الظنّ بقاءُ الأمرِ على ما كان عليه. وهنا لنفي الحكم ثلاثُ (4) مسالك: أحدها: التمسك بالاستصحاب المحض، مثل أن يقال في مسألة وجوب الوتر أو الأضحية أو غير ذلك: الأصلُ عدمُ الوجوب، والذمةُ كانتْ بريئةً من الإيجاب، وليس في الشرع ما يُزِيل ذلك، فالأصل بقاءُ الذمةِ بريئةَ من الوجوب. وهذا مستقيم فيما لا يَجبُ ولا يَحْرُم إلاّ بالشرع، كوجوب الوتر والأضحية وسجود التلاوة، وكذلك تحريم ما لا يحرم إلاّ بالشرع، كالضب واليربوع وسِنَّورِ البر، ونحو ذلك مما اختُلِفَ في تحريمه، وكالعقودِ المتنازعَ في تحريمها، كالمساقاة والمزارعةِ وغيرِ ذلك. المسلك الثاني: أن نُبين من أدلة الشرع العامة ما ينفي الوجوبَ والحرمةَ فيما لم يُوجِبْه الشارعُ ولم يُحرً مْه، كقوله تعالى:

_ (1) س: "لمنعه". (2) زيادة على النسختين من إعلام الموقعين (1/ 339). (3) س، ع: "نقيم" تصحيف. (4) كذا في النسختين بدون الهاء.

(َقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (1)، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذرُوني ما تَركْتكم، فإنما هلكَ من كان قبلكم بكثرةِ سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم، فإذا نَهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" (2). وقوله لما قال: "إن الله كتبَ عليكم الحج"، قالوا: أَفِي كل عام؟ قال: "لا، ولو قلتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ" (3). والمسلك الثالث أن يقال: الحكم الشرعي لا يثبت إلاّ بدليله، والدليلُ مُنتفٍ، فلا يثبت. وهذا يُسَمَى حَصْرَ المداركِ ونفيها، وهذا مضمونُه أنَ ثبوتَ الحكمِ في حَقَّنا بدون دليلٍ منتفٍ، والدليلُ منتفٍ، فيَنْتَفي الحكمُ، وإذا انتفى أحدُ النقيضين ثبتَ الآخر. والدليل وإن كان لا ينعكس، بل قد يَثبتُ الشيءُ بدون دليله، فهذا مما (4) ليس علينا معرفته. وأما الأحكام التي هي الأمر والنهي، التي علينا أن نَعرِفَها، فلا تَثبتُ بدون دليلها. وأيضًا فإنّ قولَ اللهِ ورسوله هو المثبتُ لهذه الأحكام، فإذا انتفى الموجبُ انتفى مُوجَبُه، فانتفتْ لانتفاء (5) مُوْجبها، وهو دليلُه، فإن خَطابَ الشارعِ ليس دليلاً مختصًّا، بل هو الَدليل، وهو

_ (1) سورة الأنعام: 119. (2) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337 وبعد رقم 2357) عن أبي هريرة. (3) في الحديث السابق عند مسلم فقط. (4) ع: "باب". (5) ع: "بانتفاء".

المُثْبِتُ لها في نفس الأمر، ولا واجبَ إلاّ ما أوجبَه الله تعالى ورسولُه، ولا حرامَ إلاّ ما حرَّمه الله ورسولُه. هذا إذا (1) أثبتنا بموجب الخطاب، مثل أن نقول: أوجبَ اللهُ ذلك فوجبَ، وحَرَّمَه فحَرُم، فهُنا شيئان: إيجاب ووجوب، وتحريم وحرمة، فالايجاب والتحريم يعود إلى خطاب الشارع وكلامه، والوجوب والحرمة فهو صفة الفعل. والفقهاء يثبتون هذين النوعين من الأحكام (2)، وأما المعتزلةُ فلا تُثبِت إلاّ الثاني، والجهميةُ ومن وافقَهم من الأشعرية وغيرهم لا يثبتون إلاّ الأولَ، إذ ليس عندهم للأحكام سببٌ (3) ولا حكمةٌ. والمقصود أن كل واحدٍ من النوعين لا يثبُت إلاّ بالدليل الشرعي، فإذا انتفى الدليل الشرعي، لَزِمَ انتفاءُ هذا الحكم، لكون ثبوته مستلزمًا للدليل الشرعي، وثبوت الملزوم بدون اللازم محالٌ، بخلاف المدلول الذي لا يستلزم الدليلَ. وهذا لأن الدليل لابُدَّ أن يستلزمَ مدلولَه، فيلزم من ثبوت الدليلِ ثبوتُ المدلولِ، ولولا ذلك لم يكن دليلاً عليه، إذ لو اقترنَ به المدلولُ تارةً، وتَخَلَّفَ (4) عنه أخرى (5)، لم يكن- إذا تحقَّقَ الدليل- وجودُ المدلولِ معه بأولَى

_ (1) ع: "هو الذي". (2) ع: "الاجتهاد". (3) ع: "الأحكام لعله". (4) س: "تختلف" تصحيف. (5) ع: "تارة أخرى".

من عَدَمه، فلهذا كان الدليل مستلزمًا للمدلول، إمّا قطعًا (1) إن كان يقينيًّا (2)، وإما ظنًّا (3) إن كان ظنيًّا، ولا ينعكس، فلا يلزم من عدم الدليل عدمُ المدلولِ، كما لا يلزم من عدمِ الملزوم عدمُ اللازم، لأنّ الدليل هو الملزوم، إلاّ أن تكون الملازمة من الجانبين، بحيث يكون كلّ من الأمرين لازمَا للآخر ملزومًا له، كالحكم الشرعي والدليل الشرعي، فإنه إذا ثبت الدليل الشرعي [ثبت الحكم الشرعي] (4)، وإذا ثبت الحكم/ [164 ب] الشرعي فلابدَّ له من دليلٍ شرعي. فلما كان التلازم (5) من الجانبين جاز الاستدلال بثبوت كل (6) منها على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه، كالأبوة والبنوةِ لما تلازما جاز أن يُستَدَلَ بثبوتِ كل منهما على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه. وكذلك إرادةُ الرب ومرادُه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأْ لم يكنْ، فإرادتُه تَستلزم (7) المرادَ وتدل عليه، فوقوعُ الكائناتِ تَستلزم إرادتَه وتدلُّ عليها، ولهذا كان الاستثناءُ في الأيمانِ مانعًا من الحِنْثِ، كما إذا قال: واللهِ لا أفعل كذا إن شاء الله، فإن

_ (1) ع: "يقينا". (2) س: "يقينا" خطأ. (3) س: "ظنيا". (4) ما بين المعكوفتين ساقط من النسختين، والزيادة ليستقيم السياق. (5) ع: "كانت الملازمة". (6) ع: "بكل، بدل" بثبوت كل". (7) كذا في النسختين بتأنيث الفعل.

خطأ نفاة القياس

فَعَلَه (1) عُلِمَ وجودُ المشيْئة، وإن [لم] (2) يفعلْه عُلِمَ انتفاؤُها. وكذلك كل حكمٍ له سببٌ واحدٌ، كالقتل العمد العدوان المحض (3)، فإنه مستلزم لثبوت القَوَد، وثبوتُ القود مستلزمٌ له. وكذلك القصر والسفر، فإن القصر ليس له سببٌ إلاّ السفر، فحيث كان سفرٌ كان قصرٌ، وحيث كان قصر (4) كان سفرٌ، إما سفر مقدَّرٌ عند من يقول به، وإما مطلقُ السفر عند من لا يَخُص القصرَ بسفرٍ مقدر. فنفْيُ الحكم الشرعي تارة يكون بالاستصحاب، وتارة بدليلٍ شرعي يدكُ على نفسه، وتارةً بانتفاء دليلِه وسببِه اللازمِ له، فإنه إذا انتفى اللازمُ انتفى ملزومُه. والمقصود هنا أن نُفاةَ القياس لفا سَدُوا بابَ التعليل ونَفَوا (5) التمثيل، وقَصَروا في معرفة النصوص وفهمها، ظهر من خَطَئِهم في الأحكام ما شَنَّعَ به عليهم الناسُ، وإلاّ فلو أَعْطَوا النصوصَ حقَّها من المعرفة والفهم لدلتْ على جميع الأحكام، واستغنَوا بذلك عن القياس، وإن كان القياس أيضًا دليلاً صحيحًا يوافقُ دلالةَ الظاهر.

_ (1) ع: "فعل ذلك". (2) ساقطة من س، ولابد فيها. وفي ع: "عدل" مكان "لم يفعله"، وهما بمعنى واحد. (3) "المحض" لا توجد في ع. (4) "وحديث كان قصر" ساقطة من س. (5) ساقطة من ع. وفي س: "قصروا" تحريف.

خطأ مثبتة القياس حيث خالفوا النصوص

والتعليلُ صحيحٌ (1)، وهم مخطئون في نفي التمثيل والتعليل. كما أن مُثبتةَ القياسِ لو لم يقيسوا إلاّ قياسًا صحيحًا لَمَا خالفوا نصًا قَط، لكنَ حيث خالفوا النصوص بالقياس فلابدّ أن يكون القياسُ فاسدًا، ولكن قد يَخفَى فسادُه، كما قد تخفى صحتُه إذا دَق. فكما تَخْفَى دلالةُ النص تارةً وتظهر أخرى، وخفاءُ الدلالة وظهورُها أمرٌ نِسْبِى، فقد يَخْفى على هذا ما يَظْهر لهذا. وإلّا (2) فالذين خالفوا أحاديثَ القُرعَة (3) والقيافة (4)، وحديثَ ذي اليدين (5)، وحديثَ أكلِ الناسي في رمضان (6)، وحديث الصَيد الذي يوجد ميتًا بعد المغيب ولا أثَرَ فيه إلاّ للسهْم (7)، حديث إيجاب التسمية على الذبيحة والصيد (8)، وحديث الشاهد

_ (1) ع: "الصحيح". (2) "وإلا" ساقطة من ع. (3) منها حديث عائشة الطويل الذي أخرجه البخاري (4750 ومواضع أخرى) ومسلم (2770) وحديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (1668). (4) منها ما أخرجه البخاري (6770، 6771 ومواضع أخرى) ومسلم (1459) عن عائشة. (5) أخرجه البخاري (482، 714 ومواضع أخرى) ومسلم (573) عن أبي هريرة. (6) أخرجه البخاري (1933، 6669) ومسلم (1155) عن أبي هريرة. (7) أخرجه البخاري (5484) ومسلم (1929) عن عدي بن حاتم. (8) قرن بينهما في الرواية السابقة، وقد أخرجها أيضًا أحمد (4/ 256، 258، 377) وأبو داود (2824) والنسائي (7/ 194، 225) وابن ماجه (3177)، وفي الباب أحاديث أخرى.

واليمين (1)، وأحاديث الجمع بين الصلاتين (2)، وحديث قَطْعِ الصلاة بالكلب الأسود والمرأة والحمار (3)، وحديث جَعْلِ الطلاقِ الثلاثِ واحد (4)، وحديث يُعذب الميّتُ ببكاء أهلِه عليه (5)، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة، التي ليس مع مخالفيها إلاّ ما يُظَنُّ أنه ظاهر، أو ظاهر نمن آخر، أو مُقتضَى قياس (6)، متى تدبَّرتَ المعارضَ لذلك لم تَجدْه -ولله الحمد (7) - معارضًا صحيحًا، بل تجدُ (8) ما عارضَ بهَ الظاهرَ إما حديثٌ ضعيف، وإما

_ (1) أخرجه مسلم (1712) عن ابن عباس. (2) وردت عدة أحاديث في هذا الباب، انظر "صحيح البخاري" (باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، وأبواب أخرى من كتاب التقصير) و"صحيح مسلم" (باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، من كتاب صلاة المسافرين). وأشهرها حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري (543، 562، 1174) ومسلم (755). (3) أخرجه مسلم (510) عن أبي ذر، و (511) عن أبي هريرة. وروى البخاري (508، 514) ومسلم (512) استنكار عائشة له. (4) أخرجه مسلم (1472) عن ابن عباس. (5) وردت عدة أحاديث في هذا الباب، انظر "صحيح البخاري" (باب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز) و"صحيح مسلم" (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز). منها حديث عمر الذي أخرجه البخاري (1304) ومسلم (924). (6) ع: "أنه جامع لظاهر نص آخر ويقتضي قيامه"، س: "يقتضي قياس". وكله تصحيف. (7) ع: "في واقع الأمر". (8) س: "يجد" تصحيف.

نفاة القياس اضطروا إلى مقالات فاسدة، كأقوالهم في الفرائض

حديث ظاهر لا دلالة فيه، وإمّا قياسٌ فاسد، وإمّا دعوى إجماع قد عُلِمَ انتفاؤه ووجودُ النزاعِ في تلك المسألة. وكذلك نُفاةُ القياس مع قصورهم في فهم النصوص تجدهم قد اضْطُرُّوا إلى مقالات في غاية الفساد، كأقوال في الفرائض، فإنّ المسائل التي تنازعَ فيها الصحابةُ- كالعُمَريتَيْنِ (1) والحِمَارِية التي تُسمَّى المشتركة (2)، وأمثال ذلك- لمّا لم يدخلوا في المعاني، ولا فهموا دلالةَ النصوص على ذلك، صاروا يعملون بما يَظنونه استصحابًا للإجماع، فيقولون في مسألة الحمارية -وهي زوجٌ وأمٌّ وابنان من ولد الأم وبعض ولد الأبوين- يقولون: قد اتفقوا على توريث ولد الأمّ، وتنازعوا في توريث ولد الأبوين، ولم يَقُمْ دليلٌ على توريثهم، فيَنْتَفِي توريثُهم لانتفاءِ دليلِه. وهذا خطأ، فإن الإجماع إنما انعقد على أنهم يَرِثون بعضَ

_ (1) هما مسألتان: زوج وأبوان، وزوجة وأبوان. تسميان العمريتين لأن عمر بن الخطاب قضى فيهما، فأعطى الزوج النصف، والأم ثلث ما بقي، والباقي للأب. وأعطى الزوجة الربع، والأم ثلث ما بقي، والباقي للأب. انظر: "المغني" (9/ 23). (2) هي كل مسألة اجتمع فيها زوج، وأم أو جدَّة، واثنان فصاعدَا من ولد الأم، وعصبة من ولد الأبوين. سميت المشتركة أو المشركة لأن بعض أهل العلم شرًك فيها بين ولد الأبوين وولد الأم في فرض ولد الأم، فقَسَمه بينهم بالسوية. وتسمى الحمارية لأنه يُروى أن عمر رضي الله عنه أسقط ولد الأبوين، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، هَبْ أن أبانا كان حماراً أليست أمُّنا واحدةً؟ فشرَّك بينهم. انظر "المغني" (9/ 24).

الكلام على استصحاب حال الإجماع وأمثلة منه

الثلث الباقي، وتنازعوا في بعضه الآخر، هل هو لهؤلاء أو (1) هؤلاء، فإذا جعلناه لأحدهما لم يكن ذلك مجمعًا عليه، فإن كان معنا دليلٌ غيرُ الإجماع، وإلاّ فهذا قولٌ بلا دليلٍ أصلاً. وهذا بخلاف تنازُعِهم في ديّةِ الذمّي، إذا قال قائل: هي دون الثلث، لأنّ الإجماعَ انعقدَ/ [165 أ] على وجوب ذلك، والذمةُ بريئةٌ مما زاد عليه، ولا بيّنةَ إلاّ بدليل، فإن هذا نَفَى الزيادة (2) باستصحاب براءة الذمة. والتمسكُ بالاستصحاب في مثل هذا وإن كان أَضْعَفَ من غيرِه -لأنه قد وُجد جناية تُوجِبُ شَغْلَ الذمةِ قطعًا، فعلمنا أن الذمة مشتغلة قطعًا (3)، وقد وجب لهذا على هذا حق، لكن لم يُعْلَم مقدارُه- فليس هذا كالميراثِ المتنازعَ فيه، لأنه لأحد المتنازعين قطعًا، ولم يُجمِعُوا على وجوبِه لأحدِهما، ولا يُورَثُ أحدُهما دون الآخر (4) الجميع. وأما استصحابُ حال الإجماع بعد زوال المحلّ المجمع عليه، كقولهم في المصلي إذا رأى الماء: كانت صلاتُه صحيحةً بالإجماع قبل وجود الماء، والأصلُ بقاءُ ما كان على ما كان، ولم يَقُمْ دليلٌ على الفساد. وكذلك قولهم: أمُ الولدِ كان بيعُها صحيحًا قبل الاستيلاد،

_ (1) س: "و" خطأ. (2) ع: "نفي للزيادة". (3) في س بعدها: "ولم يجمعوا على وجوبه". ومكانها بعد سطرين كما تأتى. (4) "دون الآخر" ساقطة من س.

اختلاف العلماء في الاحتجاج به

فمن ادعى التحريم فعليه الدليل. فهذا فيه نزاع مشهور (1)، يحتج به طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كالمزني والصيرفي وأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن حامد وأبي عبد الله بن الخطيب الرازي وغيرهم. وينكره آخرون، كابي حامد والطبري والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني وابن الزاغوني وغيرهم. والذين أنكروه قالوا: إن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع، كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة، فأما بعد الرؤية فلا إجماع، فيمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع. وهذا الذي قالوه نقيضُ الإجماع في محل النزاع، وهذا صحيح، والذين استدلوا به لم يَدعُوا الإجماع في محل النزاع، بل استصحبوا حالَ المجمع عليه. قال المنكرون: فالحكم إذا كان إنما يثبت بالإجماع، يزول الحكم لزوالِ دليله، ويبقى إثباتُ الحكمِ بعد ذلك إثباتا بغير دليل. وأما المستدِلُون فيقولون: الحكم لمّا كان ثابتًا، وعلمنا بالإجماع ثبوتَه، فالإجماعُ ليس هو علةَ ثبوته ولا سببَ ثبوته في

_ (1) انظر "العدّة" (1/ 73)، و"التبصرة" ص 526، و"المستصفى" (1/ 223 وما بعدها (و) الإحكام للَامدي (4/ 127 وما بعدها)، و"إعلام الموقعين" (1/ 341 - 344)، و"التمهيد" للكلوذاني (4/ 254 وما بعدها).

نفس الأمر، حتى يلزمَ من زوالِ العلَّة زوالُ المعلول، ومن زوالِ السبب زوالُ حكمه، وإنما الإجماع دليل عليه، وهو في نفس الأمر يَستند إلى نص أو معنى نص. فنحن نعلم أن الحكم المجمعَ عليه ثابتٌ في نفس الأمر، والدليل لا ينعكس، فلا يَلزمُ (1) من انتفاء الإجماع انتفاءُ الحكم، بل يجوز أن يكون نافيًا، ويجوز أن يكون منتفيًا (2)، لكن الأصلَ بقاؤه، فإن البقاءَ لا يفتقر إلى حادث، ولكن يَفتقِرُ (3) إلى بقاءِ سببِ ثبوته. وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يُزِيْلُ الأولَ، وإلى ما يُحْدِثُ الثاني، وإلى ما يُبْقي (4) الثاني، فكان ما يَفتقِرُ إليه الحادثُ أكثر مما يفتقر الباقي، فيكون البقاءُ أولى من التغيير. وهذا مثل استصحاب حال براءةِ الذمَّةِ، فإنها كانت بريئةً قبلَ وجودِ ما يُظَن أنه شاغل (5)، ومع هذا فالأصل البراءة. والتحقيقُ أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة، لكن لا يجوز الاستدلالُ به إلاّ بعدَ الاجتهادِ في معرفةِ المُزِيْلِ، ولا يجوز الاستدلالُ به لمن لا (6) يَعرِفُ الأدلة الناقلة، كما لا يجوز

_ (1) س: "ينعكس". (2) ع: "منفيا". (3) س: "مفتقر". (4) س: "يبقا"، ع: "ينفى". (5) ع: "شاغلها". (6) "لا" ساقطة من س.

لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب إلا بعد انتفاء الناقل

الاستدلال بالاستصحاب لمن لا يعرف الأدلة الناقلة. وبالجملة الاستصحابُ لا يجوز الاستدلالُ به إلاّ إذا اعتقد انتفاء الناقلِ، فإن قَطَعَ المستدلُّ بانتفاء الناقل قَطَعَ ببقاء الحكم، كما يَقْطَعُ ببقاءِ شرع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه غير منسوخ، وإن ظنّ انتفاءَ الناقلِ ظنَّ بقاءَ الحكم، فإن كان الناقلُ دليلاً تَبَيَّنَ (1) له انتفاءُ دلالتِه ظنَّ انتفاءَ النقلِ (2)، وإن كان معنى مؤثرًا وتبينَ له عدمُ اقتضائِه، تبيَّن له بقاءُ النقل، مثل رؤية الماء في الصلاة، فلا يطمئن قلبه إلى بقاء الصلاة إن لم يتبين له أن رؤيةَ الماء في الصلاة لا تُبطِل الطهارةَ، وإلّا فمعَ تجويزِه لكونِ هذا ناقضًا للوضوء لا يَطمئن ببقاء الوضوء. وهكذا في كل من يَتَورع في انتقاضِ وضوئه ووجوب الغسل عليه، فإن الأصلَ بقاءُ طهارته، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاساتِ من غير السبيلين، وبالخارج النادر منهما، وبمسّ النساء لشهوةٍ ولغير شهوةٍ غيرِ الجماع، ومسنَ الذكر، وأكلِ ما مسَّتْه النار، وغسل الميت، وغيرِ ذلك، لا يمكن اعتقادُ/ [165 ب] استصحاب الحالِ حتى يَتبينَ له بطلانُ ما يُوجبُ الانتقالَ، وإلاّ بقي شاكًا، وإن لم يَتبينْ له صحةُ الناقل، كما لَو أخبره فاسق بخبير، فإنه مأمور بالتبين والتثبُّت، لم يُؤْثرْ (3) تصديقَه ولا تكذيبَه، فإن كلاهما ممكن

_ (1) في النسختين: "يبين". (2) ع: "بقاء النقل" وهو تحريف، انظر"إعلام الموقعين" (1/ 342). (3) أي لم يُرجح أحدهما على الآخر.

منه، وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال، كما كان يستدل به بدون خبره. ولهذا جُعِلَ ذلك لوثًا وشُبهة في أظهر قولي العلماء. وإذا شَهِدَ مجهولُ الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد، ويلزم منه الشك في حال المشهود به، فإذا تَبيَّنَ عدلُه تَمَّ الدليلُ، وعند شهادة المجهولين تَضعُف البراءةُ أعظمَ مما تَضْعُفُ عند شهادةِ الفاسق، فإن الشهادة قد يكون دليلاً، ولكن لم تُعْرَفْ دلالتُه، وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بذلك، لكن يمكن وجودُ المدلولِ في هذه الصورة، فإنَّ صدقَه ممكن.

فصل: شمول النصوص لأحكام الفرائض

[فصل] (1) والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو أشكل الأشياء ليُستدل به على ما سواه، والفرائض من أشكلها، إذ نُفاة القياس عَدَلوا في كثير منها عن دلالة النصّ إلى أن أثبتوا ما ظنوه مُجْمَعًا عليه، ونفوا ما ظنوه غيرَ مُجْمَعٍ عليه، وكلاهما غلط: أما الأول: فقد بيناه. وأما الثاني: فتقديرُه عدمِ الإجماعِ إذا انتفَى دليلٌ بمعيَّن (2)، فلابدّ من نفي سائر الأدلة الشرعية، كما ذكروه في مسألة المشرّكة (3)، فإنه لو قُدِّرَ ثبوتُ ميراثِ أحدهما بالإجماع، فعدم الإجماع عن الآخر لا يَنفِيْ ميراثَه، إذ لم تنتفي (4) سائرُ الأدلة.

_ (1) زيادة من سائر النسخ. (2) س: "إنما ينتفي دليل بمضمن"، والمثبت من ع. (3) ع: "المشتركة"، وكلاهما صواب. وانظر هذه المسألة في: "الأم" (4/ 91 - 92) و"المبسوط" (29/ 154) و"بداية المجتهد" (2/ 259) و"تفسير القرطبي" (5/ 79) و"المغني" (9/ 24 - 26) و"تفسير ابن كثير" (1/ 471). (4) كذا في النسختين بإثبات الياء.

فنقول: النص والقياس- وهما الكتاب والميزان- دَلا على أن الثلثَ يختص به ولدُ الأم، كما هو قول علي (1) رضي الله عنه ومن وافقه (2)، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وروى عنه حربٌ التشريكَ، وهو قول زيد (3) ومن وافقه (4)، وقول مالك والشافعي. واختُلِف في ذلك عن عمر وعثمان (5) وغيرهما [من الصحابة] (6)، حتى قيل: إنه اختُلِفَ فيها عن جميع الصحابة إلاّ علي وزيد رضي الله عنهما؟ فإن عليًّا رضي الله عنه لم يُختَلفْ عنه أنه لم يُشرِّكْ، وزيد رضي الله عنه لم يختلف [عنه] (7) أنه شرَّك (8).

_ (1) أخرجه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" (10/ 251) وسعيد بن منصور في "سننه" (3: 1/ 58) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (11/ 258) والدارمي في "سننه" (2886، 2887) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 257). (2) انظر: "المغني" (9/ 24) والمصادر السابقة. (3) أخرجه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" (10/ 251) وسعيد بن منصور في "سننه" (3: 1/ 59) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (11/ 255) والدارمي في "سننه" (2885، 2888) والحاكم في "المستدرك! (4/ 337) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 256). (4) انظر المصادر السابقة و"المغني" (9/ 24). (5) انظر المصادر السابقة. (6) زيادة من سائر النسخ. (7) زيادة من سائر النسخ. (8) بل رُوِي عن زيد أيضًا أنه لم يشرك، كما أخرجه عنه سعيد بن منصور (3: 1/ 58) والبيهقي (6/ 256)؛ ورُوي عن علي أنه شرَّك، كما في "مستدرك"=

قال العنبري (1): القياس ما قال علي رضي الله عنه، [والاستحسان ما قال زيد. قال الخَبْري (2): هذه وساطة مليحة، وعبارة صحيحة (3). فيقال: النص والقياس دلا على ما قال علي] (4). أما النص فقول الله تعالى: (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ). (5) والمراد به: ولد الأم، فإذا أدخلنا فيهم ولدَ الأبوين لم يشتركوا في الثلث؛ بل زاحمهم غيرهم. وإن قيل: ولد الأبوين منهم لكونه من ولد الأمِ، فهذا غلط، لأن الله تعالى قال: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) الآية (6).

_ = الحاكم (4/ 337). (1) هو عبد الله بن سوّار العنبري قاضي البصرة، توفى سنة 228. ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (10/ 434 - 435). (2) هو عبد الله بن إبراهيم الخَبْري الشافعي، انتهت إليه الإمامة في الفرائض. توفي سنة 476. انظر "سير أعلام النبلاء" (18/ 558 - 559). (3) نقل ابن قدامة في "المغني" (9/ 26) قول العنبري والخبري، وعقب عليه بقوله: وهو كما قال، إلاّ أن الاستحسان المجرد ليس بحجة في الشرع، فإنه وَضْعٌ للشرع بالرأي من غير دليل، ولا يجوز الحكم به لو انفرد عن المعارض، فكيف وهو في مسألتنا يخالف ظاهر القرآن والسنة والقياس! (4) ما بين المعكوفتين ساقط من س. (5) سورة النساء: 12. (6) من الآية المذكورة.

وفي قراءة ابن مسعود (1) وسعد (2): "من أمّ". والمراد ولد الأم بالإجماع، ودل على ذلك قوله: () فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (3)، وولدُ الأبوين لم يُفْرَضْ لواحدٍ منهما السدسُ. وأيضًا فإنه قد ذُكِرَ حكمُ ولدِ الأبوين والأب في آية الصيف (4) في قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا) (5). فجعل لها النصف، وله جميع المال، وهذا حكم ولد الأبوين. ثم قال: (وَإن كاَنوُا أخوَةً رجَالًا وَنسَاء فلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ اَلأُنثَيَين) (6). وهذا حكم ولد الأبوين لا الأمَ، باتفاق المسلمين. ودلّ ذكرُه تعالى لهذا الحكم في هذه الآية، ولذلك الحكم في تلك الآية، على أن أحد الصنفين غيرُ الآخر. فلا يجوز أن يكون

_ (1) ذكر ذلك الحافظ في "الفتح" (4/ 12). (2) ذكر ذلك الدارمي (2979) والطبري (8/ 62) والقرطبي (5/ 78) وابن كثير (1/ 471) وأبو حيان في "البحر المحيط " (3/ 190) وغيرهم. (3) سورة النساء: 12. (4) في النسختين: "النصف". والمثبت من إعلام الموقعين (1/ 355)، وهو الصواب كما ورد في حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم (1617)، وفيه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: "يا عمر! إلاّ تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ ". وسميت بآية الصيف لأنها نزلتَ في الصيف، وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء التي في أول سورة النساء، فلذلك أحاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها. وانظر "شرح مسلم" للنووي (11/ 57) و"تفسير" ابن كثير (1/ 606). (5) سورة النساء: 176. (6) من الآية المذكورة.

ذلك الصنف هو هذا الصنف، وهذا الثاني هو ولد الأبوين والأب بالإجماع. فالأول ولد الأم كما في القراءة الأخرى التي تصلح أن تكون مفسِّرةً لقراءتنا (1)، ولهذا ذكر ولد الأم في آية الزوجين، والزوجان (2) أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه، وكذلك ولد الأم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه. وكلاهما لا حظَّ له في التعصيب بحالٍ (3). بخلاف مَن ذُكِرَ في آية العمود (4) وفي آية الصَّيْف (ْ)، فإن لجنسهم حطًا في التعصيب. ولهذا قال سبحانه في آية الشتاء: (6) (غَيْرَ مُضَارٍّ)، ولم يذكر في آية العمود، لأن الإنسان كثيرًا ما يَقصِد ضَررَ الزوج وولدِ الأم، لأنهم ليسوا من عصبتهم، بخلافِ أولادِه وآبائِه، فإنه (7) لا يضارهم في العادة. وإذا كان النص قد أعطى ولدَ الأم الثلثَ، فمن نَقَصَهم منه فقد ظلمهم. وولد الأبوين جنسٌ آخر، هم عصبة،/ [166 أ]، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَلحِقُوا الفرائضَ بأهلِها، فما بَقِيَ فَلأَوْلَى

_ (1) س: "لقراءتها". (2) في النسختين: "الزوجات"، والتصويب من سائر النسخ. (3) "بحال" ساقطة من ع. (4) هي الآية 11 من سورة النساء، سميت بذلك لأن فيها ذكر والد الميت وولده، وهما عمودا النسب بالنسبة إليه. (5) في النسختين: "النصف"، وقد سبق التعليق عليه. (6) ع: "النساء"، وهو تصحيف، وآية الشتاء هي الآية 12 من سورة النساء، سُميت بذلك لأنها نزلت في الشتاء. (7) س: "فإنهم".

رجل (1) ذكر" (2). وهذا يقتضي أنه إذا لم تُبقِ الفرائضُ لم يكن للعصبة شيء، وهنا لم تُبقِ الفرائضُ شيئًا. وأما قول القائل (3): "هَبْ أن أباهم (4) كان حمارًا، فقد اشتركوا (5) في الأم "، فقول فاسد (6) حسًّا وشرعًا. أما الحسّ فلأن الأب لو كان حمارًا لكانت (7) الأم أتانًا، ولم يكونوا من بني آدم. وإذا قيل: قُدَرَ وجودُه كعدمِه. فيقال: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون معدومًا. وأما الشرع فلأن الله حكمَ في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم. وإذا قيل: فالأب إن لم ينفعهم لم يضرهم.

_ (1) س: "عصبة". والمثبت من ع ومصادر التخريج. (2) أخرجه البخاري (6732، 6735، 6737، 6746) ومسلم (1615) عن ابن عباس. (3) هو زيد بن ثابت، كما أخرجه عنه الحاكم (4/ 337) والبيهقي (6/ 256). ويُروى أنه قال ذلك بعض أولاد الأبوين لعمر بن الخطاب. انظر "المغني" (9/ 24، 25) و"تفسير ابن كثير" (1/ 471). (4) س: "أبانا". (5) س، ع: "اشتركا"، والمثبت من سائر النسخ. (6) س، ع: "فساد". (7) س، ع: "لكان".

(2) ابنا عم أحدهما أخ لأم

قيل: بل قد يضرهم ولا ينفعهم، بدليل ما لو كان ولد الأم واحدًا وولد الأبوين كثيرين (1)، فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس، والباقي (2) يكون لهم كلهم، ولولا الأب لشاركوا هم وذلك الواحد في الثلث، وإذا جاز أن يكون وجود الأب ينفعهم جاز أن يَحرِمَهم، فعُلِم أنه قد يضرهم. وأيضًا فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة ذكر وأنثى لا تفرق أحكامها، فالأخ من الأبوين لا يكون كالأخ من أب، ولا (3) كالأخ من الأم، ولا يُعطَى بقرابة الأم وحدها، كما لا يُعطًى بقرابة الأب وحده؛ بل بالقرابة المشتركة من الأبوين. وإنما يُفْرَد بحكم إذا كان قرابةُ الأم منفردة، مثل ابنَيْ عمًّ أحدهما أخ لأم (4)، فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ من الأم السدسَ، ويشتركان في الباقي. وهو مأثور عن علي (5) رضي الله عنه. وروي عن شُرَيح (6) أنه جعل الجميعَ للأخ من الأم، كما لو كان ابن عمّ لأبوين.

_ (1) س، ع: "كثيرون". (2) س، ع: "والثاني"، تحريف. (3) ع: "أو". (4) انظر لهذه المسألة: "المغني" (9/ 30 - 31) و"الفتح" (12/ 27 - 28). (5) أخرجه عنه عبد الرزاق (10/ 287) وسعيد بن منصور (3: 1/ 82، 83) وابن أبي شيبة (11/ 250 - 251) والدارمي (2891، 2892) والدارقطني (4/ 87) والبيهقي (6/ 240). (6) أخرجه عنه عبد الرزاق (10/ 287) وسعيد بن منصور (3: 1/ 83) والبيهقي (6/ 239).

والجمهور يقولون: كلاهما في بنوة العم (1) سواء، هما ابنا عم من أبوين أو من أب. والأخوةُ من الأم مستقلةٌ ليست مقترنةً بأبوةٍ حتى يُجعل كابن عم لأبوينِ. ومما يُبيِّن الحكم في مسألة المشتركة: أنه لو كان فيها أخواتٌ لأب لفُرِضَ لهنَّ الثلثان، وعالت الفريضةُ، فلو كان معهن أخوهن سقطن، ويسمى "الأخ المشؤم"، فلما كنّ يصرن (2) بوجوده عصبةً صار تارةً ينفعهن، وتارةً يَضُرُّهن، ولم يُجعَلْ وجودُه كعدمِه في حال الضرار. كذلك قرابةُ الأب لما صارَ الإخوةُ بها عصبةً صار ينفعهم تارةً ويضرهم أخرى. وعَلى هذا مَجرَى العُصوبة، فإن العصبة تارةً تَحُوز المالَ، وتارةً أكثرَه، وتارةً تحوز أقلَّه، وتارةً لا يبقى لها (3) شيء، وهو إذا استغرقتِ الفرائضُ المالَ. فمن جعلَ العصبةَ تأخذ مع استغراق الفرائض المالَ فقد خرج عن الأصولِ المنصوصة في الفرائض. وقول القائل "هذا استحسان" مخالفٌ للكتاب والميزان؛ فإنه ظلم للإخوة من الأم؛ حيث يؤخذ حفُهم، فيُعطاه غيرهم. وإذا كانوا يَعقِلون عن الميّت ويُنفِقون عليه، فعاقلةُ المرأة يعقلون عنها،

_ (1) ع: "الأعم". (2) س: "كان يصرن". (3) س: "له".

وميراثُها لزوجِها وولدِها، كما قضى بذلك (1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنازعون في هذه المسألة ليس معهم حجة إلاّ أنها (2) قول زيد، وقد رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بها، فعَمِلَ بذلك من عَمِلَ من أهل المدينة وغيرهم، كما عملوا بمثل ذلك في ميراث الجد والإخوة، وعملوا بقول زيد رضي الله عنه في غير ذلك من الفرائض، لاتصال العمل عندهم به تقليدًا له، وإن كان قد خالفَه من هو أفضل منه من الصحابة، وإن كان النص والقياس مع من خالفه. وبعضهم يحتجُّ لذلك بما رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفرضُكم زيد" (3). وهو حديث ضعيف (4) لا أصل له. ولم يكن

_ (1) "بذلك" ساقطة من س. (2) "أنها" ليست في ع. (3) أخرجه أحمد (3/ 184، 281) والترمذي (3791) والنسائي في "السنن الكبرى" (5/ 67، 78) وابن ماجه (154) وابن حبان (2218، 2219 - موارد) والحاكم في "المستدرك" (3/ 422) من طرقٍ عن خالد الحذاء عن أبي قلابة من أنس. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" (3/ 79): "وقد أعِل بالإرسال، وسماع أبي قلابة من أنس صحيح، إلاّ أنه قيل: لم يسمع منه هذا، وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على أبي قلابة في العلل، ورجح هو وغيره كالبيهقي والخطيب في المدرج أن الموصول منه ذِكرُ أبي عبيدة، والباقي مرسل". وصححه الألباني في "الصحيحة" (1224)، وذكر له شواهد، وتكلم عليها. (4) س: "حديث حديث ".

(3) مسألة الجد مع الإخوة

زيد رضي الله عنه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معروفًا بالفرائض. والحديث الذي رُوِي فيه ذلك قد رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وهو ضعيف، لم يصح فيه إلا قولُه: "لكل أمةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراِح" (1). ورُوِي بإسناد أضعف من هذا، وفيه: "وأقضاكم علي، وحبْر (2) هذه الأمة ابن عباس" (3) من حديث كوثر بن حكيم، وكوثر هذا يأتي عن نافع بما يُعلَم أنه باطل، ولا يحتج به باتفاق أهل العلم (4). وكذلك اتباعُهم في "الجد" لقول زيد رضي الله عنه، مع أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم على خلافه (5). فجمهور الصحابة موافقون للصديق في أن الجد كالأب، يحجُب الإخوة (6) وهذا مروي عن بضعة عشر/ [166 ب] من الصحابة رضي الله

_ (1) أخرجه البخاري (4382، 7255) ومسلم (2419) عن أنس. (2) في النسختين: "خير"، تصحيف. (3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 56) من طريق عبد الأعلى السامي، وابن حزم في "المحلى" (9/ 296) من طريق كوثر كلاهما عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. وانظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (3/ 225). (4) انظر "الميزان" (3/ 416) و"اللسان" (4/ 490). (5) انظر المسألة واختلاف العلماء فيها في: "الأم" (4/ 85 - 86) و"المحلى" (9/ 282 - 299) و"المبسوط" (29/ 180 - 183) و"بداية المجتهد" (2/ 259 - 260) و"المغني" (9/ 66 - 69) و"تفسير القرطبي" (5/ 68) و"الفتح" (12/ 19 - 23). (6) أخرجه عن أبي بكر: سعيد بن منصور (3: 1/ 63، 64) وابن أبي شيبة (11/ 288 - 290) والدارقطني (4/ 93) والبيهقي (6/ 246).

عنهم (1)، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد، واختاره أبو حفص البرمكي من الصحابة، وحكاه بعضهم روايةً عن أحمد. وأما المورثون الجدَّ مع الإخوة فهم عليّ وابن مسعود وزيد (2) رضي الله عنهم، ولكل [واحد] (3) قولٌ انفرد به. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان متوقفًا في أمره (4). والصواب بلا ريبٍ قول الصديق، لأدلَّةٍ متعددةٍ ذكرناها في غير هذا الموضع (5). منها: أن الذين وَرثوا الإخوةَ عمدتُهم أنهم يُدْلُون ببنوة الأب، والجدُّ يُدلي بأُبوّته، والبُنوّةُ أقوى. وهذه الحجة فاسدة، مناقضةٌ للكتاب والسنة والإجماع، فإنّ الجدَّ مقدَّم على بني الإخوة عند عامة المخالفين في هذا، وابن الابن يقوم مقامَ الابن ويُقدَّم على الجدّ، فلو كان بنوة الأب مقدَّمةً لقدِّمتْ بنوةُ الأب.

_ (1) انظر: "المغني" (9/ 66) والمصادر السابقة. (2) أخرجه عنهم: عبد الرزاق (10/ 269) وسعيد بن منصور (3: 1/ 69، 70) وابن أبي شيبة (11/ 293 - 295) والدارمي (2920 - 2932) والبيهقي (6/ 249 - 252). (3) من ع. (4) انظر "المحلى" (9/ 282). (5) وانظر "إعلام الموقعين" (1/ 374 - 382)، ففيه عشرون وجهًا لتصحيح هذا القول.

(4) العمريتان

ومنها: أن الجد الأعلى مقدم على العم، والعمّ ابن الجدِّ الأدنى، والجدُّ الأعلى أبوه، فالعمُّ يُدلي ببنوته، والجد الأعلى بأبوته، والجد الأعلى مقدم بالإجماع، ونسبة الجد الأعلى إلى العمّ كنسبة الأدنى إلى الأخ. ومنها: أن ما ذكروه لو كان صحيحًا لوجب تقدم (1) الإخوة، وهذا خلاف إجماع الصحابة. وقد طرد هذا القياسَ الفاسد من قال في الولاء: إنّ إخوةَ المعتق أولى من جدّه. وهذا من أضعف الأقوال، بل الصواب أن الولاء لجدّ المعتق فقط دون إخوته، كالميراث. وأيضًا فالبنوة وبنوة البنوة مقدّمةٌ على الأبوة وأبوة الأبوة، لأن هذا الجنسَ مقدم على هذا الجنس. وأما بنوة الأبوة فليست من هذا البنوة، بل الأبوة وأبوة الأبوة مقدم على بنوة الأبوة في جميع أحكام الشرع، ولم يقدَّم الأخ على الجدّ في شيء من الأحكام الشرعية، بل ولا عُدِلَ به. فمن جعلَ مقتضى القياس تقديمَه أو مساواته (2) فقد خالف الأصول الشرعية كلها. وأما العمريتان (3) فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث

_ (1) كذا في س، ع: وفي سائر النسخ: "تقديم". (2) س، ع: "مساويه". والتصويب من سائر النسخ. (3) راجع لهاتين المسألتين: "المحلى" (9/ 260 - 262) و" بداية المجتهد" (2/ =

مع الأب والزوج، بل إنما أعطاها (1) الله الثلث إذا ورثتِ المالَ هي والأب، فكان القرآن قد دل على أن ما وَرِثتْه هي والأب تأخذ ثلثَه، والأب ثلثيه. واستدل بهذا أكابر الصحابة: كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد (2) رضي الله عنهم وجمهور العلماء، على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين، يكونان فيه أثلاثًا، قياسا على جميع المال إذا اشتركا فيه، وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدَّين والوصية. ومفهومُ القرآن ينفي أن تأخذ الأمُّ الثلثَ مطلقا، [فمن أعطاها الثلث مطلقًا] (3) حتى مع الزوجين (4)، فقد خالفَ مفهوم القرآن. وأما الجمهور فقد عملوا بالمفهوم، فلم يجعلوا ميراثَها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرثه، بل إن ورثه أبواه فلأمه الثلث مطلقًا، وأما إذا لم يرثه أبواه، بل ورثه مع من دون الأب: كالجد والعم والأخ، فهي بالثلث أولى، فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب

_ = 257) و"المغني" (9/ 23 - 24) و"تفسير القرطبي" (5/ 56، 57) و"تفسير ابن كثير" (1/ 469). (1) س، ع: "أعطى". والمثبت من سائر النسخ. (2) كما أخرج عنهم عبد الرزاق (10/ 252 - 254) وسعيد بن منصور (3: 1/ 54 - 56) والدارمي (2868 - 2876) والحاكم في "المستدرك" (4/ 335 - 336). (3) ساقطة من النسختين، والزيادة من سائر النسخ. (4) قاله ابن عباس وشريح، ويُروى عن علي أيضًا. أخرج هذه الآثار: سعيد بن منصور (3: 1/ 56) والدارمي (2879 - 2881) والبيهقي (6/ 228).

فمع غيرِه من العصبة أولى. فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلاّ الأم والأب، أو عصبة غير الأب سوى الابن، فللأم الثلث؛ وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. وأما الابن فإنه أقوى من الأب، فلها معه السدس. بقي إذا كان مع العصبة ذو فرضٍ، فالبنات والأخوات قد أُعطِيَ للأم معهن السدسُ. والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم، فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من الإخوة، فمع الأنثى أولى. وإنما تُحْجَب عن الثلث إلى السدس بالإخوة؛ والواحد ليس إخوةً. وإذا كانت تأخذ مع الأخ الواحد الثلثَ، فمع العم وغيره بطريق الأولى. وإذا كان مع أحد الزوجين عصبة غير الأب والابن، كالجد والعم وابن العم، فهؤلاء لا ينقصها دون الأب، وإنما جعل الباقي بعد نصيب الزوجة أثلاثًا، لأنها والأب في طبقة واحدة، فجعل ذلك بينهما كأصل المال، وهؤلاء ليسوا في طبقتها، فلا يُجعَلون معها، كالأب، فإنه لا واسطة بينه (1) وبين الميت، بخلاف هؤلاء، فإن بينهم وسائط، وهي لا تسقط بحالٍ، بخلاف هؤلاء، فلم يمكن أن يُعطى ثلث الباقي هنا، لما فيه من تسوية هؤلاء بالأب. ولا نزاع في ذلك إلاّ في الجد، نزاعٌ يُروَى عن ابن مسعود

_ (1) س، ع: "بينها". والتصويب من سائر النسخ.

رضي الله عنه، كأنه ألحقه بالأب، فأعطاها معه ثلث الباقي. والجمهور/ [167 أ]، على أنها معه تأخذ ثلثَ المال، وهو الصواب؛ لأن الجد أبعد منها؛ وهو محجوب بالأب، فلا يحجبها عن شيء من حقها. وإذا لم يمكن أن تُعطَى ثلثَ الباقي، وامتنع أن تُعطَى السدسَ لأنه دون ذلك، تعيَّن أن تُعطَى الثلث. وكان إعطاؤها الثلثَ مع عدم الأب، سواء كان هناك أحد الزوجين أو لم يكن، وإعطاؤها ثلثَ الباقي مع أحد الزوجين، مما فهمه جماهير الصحابة والعلماء والأئمة، تارةً بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل، وتارةً بالاعتبار الذي هو أولى وأحرى، وتارةً بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه الأصلين به. فإن قلت: فهذه دلالة نصّ أو قياس؟ قلتُ لك: القياس المحض أن الأب مع الأم، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ؛ لأنهما ذكر وأنثى، من جنس واحد، وهما عصبة. وقد أُعطِيت (1) الزوجةُ نصفَ ما يُعطاه الزوجُ؛ لأنهما (2) ذكر وأنثى من جنس واحدٍ. وإنما عُدِلَ عن هذا في ولد الأم لأنهم يُدْلُون بالأم، فلا عُصوبةَ لهم بحالٍ، بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد، فإنهم

_ (1) س، ع: "أعطت". والتصويب من سائر النسخ. (2) س: "لأنه"، خطأ.

يُدلون بأنفسهم، وسائر العصبة يُدلون بذكر، كولد البنين والإخوة للأبوين أو الأب. فإعطاء الذكر مثلَ حظّ الأنثيين هو معتبر فيمن يُدلي بنفسه أو بعصبة، فإنه أهل للتعصيب. فأما من يُدلي بغير عصبةٍ فإنه ليس من أهل التعصيب، فالذكورة فيه ليست (1) كالأنوثة، وليس الذكر كالأنثى، لا في باب الزوجية، ولا في الأبوين، ولا في الأولاد والإخوة (2) للأب. فهذا اعتبار. وأما (3) دلالة الكتاب على (4) ميراث الأم؛ فإن الله تعالى يقول: (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (5). فالله تعالى فرض لها الثلثَ بشرطين: أن لا يكون له ولد، وأن يرثه أبواه؛ فكان في هذا دلالة على أنها لا تُعطى (6) الثلثَ مطلقًا، مع عدم الولد، إذ لو كانت تُعطى الثلثَ مع عدم الولد مطلقًا لكان قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) زيادة في اللفظ ونقصٌ (7) في المعنى، وكان عديم الفائدة، وجودُه كعدمه، فإنه حينئذٍ سواء ورثه أبواه أو لم يرثه أبواه، لأمه الثلث. وهذا خلاف دلالة القرآن، وهذا مما يدل على صحة أكابر الصحابة والجمهور

_ (1) "ليست" ساقطة من س. (2) ع: "ولا الإخوة". (3) س، ع: "إنما". والتصويب من سائر النسخ. (4) س: "عن"، ع: "من". (5) سورة النساء: 11. (6) س، ع: "أنه لا يعطي"، خطأ. (7) كذا في النسختين بالرفع.

الذين يقولون: لا تُعطَى (1) في العمريتين -زوج وأبوين؛ وزوجة وأبوين- ثلثَ جميع المال، كما قال ابن عباس رضي الله عنه وموافقوه، فإنها لو أُعطِيَتِ الثلثَ لكانت تُعطاه مع عدم الولد مطلقًا. وهو خلاف ما دل عليه القرآن. وقد روى عنه أنه قال لزيد رضي الله عنه: أين في كتاب الله ثلثُ ما بقي (2)؛ أي ليس فيه إلاّ ثلث وسدس. فيقال: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلثَ مطلقًا، فكيف تعطيها مع أحد الزوجين الثلث؟! بل في كتاب الله ما يَمنعُ إعطاءَها الثلثَ مع الأب وأحد الزوجين، فإنه لو كان كذلك لكان يقول: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث ". فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقًا؛ فلما خص الثلث ببعض الحال (3) عُلِمَ أنّه لا يُسْتَحَق مطلقًا. فهذا مفهوم المخالفة (4) الذي يُسمى دليل الخطاب، يدلّ على بطلان قول من أعطاها الثلث في العمريتين، ولا وجه لإعطائها السدس مع مخالفته للإجماع (5)، لأن الله تعالى إنما أعطاها ذلك

_ (1) س، ع: "لايعطى". (2) أخرجه عبد الرزاق (10/ 254) وابن أبي شيبة (11/ 242 - 243) والدارمي (2878) والبيهقي (6/ 228) من طرق عن ابن عباس. (3) س، ع: (المال)، تحريف. (4) س، ع:"المخالف". (5) انظر: "المغني" (9/ 23).

مع الولد والإخوة، وقيده بذلك، ودل ذلك على أنها لا تُعطَاه (1) مع الأخ الواحد، فعُلِم أن الثلث قد تستحقه مع الأخ الواحد، ويدل على ذلك أنها إذا أُعطِيتْه (2) مع الأب، فمع غيره من العصبات أولى وأحرى. وهذه دلائلُ بتنبيه الخطاب ومفهومِه، إما مفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة، فلما دل القرَآن على أنها لا تُعطَى الثلث ولا تُعطَى السدسَ، وكان قسمة ما يبقى بعد فرض الزوجة أثلاثًا، مثل قسمة أصل المال من الأبوين أثلاثا (3) ليس بينهما فرق (4) أصلاً- عُلِم بدلالة التقسيم أن الله أراد أن تُعطَى في هذه الحال هذا، وكانت هذه الدلالةُ خطابية من جهة دلالة القرآن على إبطال ما سواه، فتعينت بالضرورة، ومن جهة أنها قياسٌ في معنى الأصل، وإذا جُعِل ما في معنى الأصل (5) دلالة لفظيةً كانت خطابيةً أيضًا، كما في قوله: "من أعتق شِركًا له في عبدٍ" (6)، وقوله: "أيما رجلٍ وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلسَ فهو أحق به" (7)، فإن لفظ

_ (1) س، ع: "أنه لا يعطاه". والتصويب من سائر النسخ. (2) س، ع:"أعطته". (3) س، ع: "إلاّ ما"، تحريف. (4) س، ع: "فرض"، تحريف. (5) "إذا جعل ما في معنى الأصل" ساقطة من س. (6) سبق تخريجه. (7) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/ 249) والحميدي في "مسنده " (1035) من طريق هشام بن يحيى المخزومي عن أبي هريرة. وللحديث طرق أخرى=

"عبد" و"رجل" يتناول في هذا الذكرَ/ [167 بٍ] والأنثى في عرف الخطاب، من باب التعبير باللفظ الخاصّ عن المعنى (1) العام. وهذا بابٌ غير باب القياس، وذلك تارةً لكون اللفظ الخاصّ صارَ في العرف العامّ عامًّا، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (2)، وقوله: (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)) (3)، وقوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)) (4)، وقول القائل: "والله ما أخذتُ له حبّهً، ولا شربتُ له قَطرةً، ولا أكلتُ له لقمةً"، ونحو ذلك مما صار في عرف الخطاب يدل على العام، لا يُقصَد بهَ النفي (5) الخاص. وتارةً يُعبَّر باللفظ الخاص عن المعنى العام، لكونه صار [في] (6) العرف الخاص عامًّا، ومن هذا الباب خطاب [المُطاع] (7) الواحدَ في أهلِ طاعته الذين قد استقر عندهم تماثلُهم في الحكم، فإن هذا خطاب لجمعهم، كخطاب السيِّدِ الواحدَ من عبيده بأمور يَشترِكُ فيها العبيد، وكذلك الملكِ الواحدَ من رعيته. ومن هذا

_ = وألفاظ مختلفة، وهو حديث متفق على صحته، أخرجه البخاري (2402) ومسلم (1559). (1) "المعنى" ساقطة من ع. (2) سورة النساء: 40. (3) سورة فاطر: 13. (4) سورة النساء: 124. (5) ع: "المعنى". (6) زيادة من سائر النسخ. (7) زيادة من سائر النسخ.

خطابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للواحدِ من أمته، فإن عُرِفَ بعادتِه من خطابه أن هذا حكم لمن هو مثل ذلك الشخص إلى يوم القيامة، وكذلك خطابه لمن حضره، قد عُلِم بعادته أن من غاب عنه إذا كان بمنزلتهم فإنهم يخاطَبون بمثل ذلك، لمعرفة المستمع أن حكم الشيء حكم مثله، وأن التعيين (1) هنا لا يُراد به التخصيص، بل التمثيل. وأما إذا كان أحد الزوجين مع سائر العصبة، فهنا (2) لو أُعطِيتْ ثلثَ الباقي لكان جعلاً (3) لذلك العاصب معها بمنزلة الأب، وليس الأمر كذلك، فإن الأب (4) في طبقتها، وكان حكمها معه كحكم الذكر مع طبقته من الإناث، وأما غير الأب فبعيد عنها. والقراَن لما أعطاها الثلث مع الأب دلّ على أنه مع غيره من العصبة أولى، وليس إذا أُعطِيتْ ثلث الباقي مع الأب يكون غيره من العصبة مثله، ولا أولى (5) من نقصانها، والسدس لا سبيل له لما تقدم. وقد دلّ القرآن أنها مع الواحد من الإخوة لا تُعطَى السدس، فلما بطل إعطاؤها السدسَ مع العصبة غير الأبِ وأحد الزوجين،

_ (1) س، ع: "التعبير"، تحريف. (2) ع: "فهذه". (3) ع: "جعله". (4) س: "الأم"، تحريف. (5) ع:"والأولى".

وثلثَ الباقي، تعيَّن الثلثُ، وكان أُعطِيَتِ الثلثَ مع سائر العصبة وأحد الزوجين بمنزلة أن تُعطَاهُ مع الأب وحده، فإن الأب وحدَه يَحْجُبُ سائر العصبةِ ويأخذُ الثلثين. ومع أحد الزوجين أعطيناها ثلثَ الباقي ليأخذ الأبُ الثلثين الآخرين، إذ ليس هناك عصبة غيره، إذ هو يحجبهم، ومع غيره لو أعطيناها ثلث الباقي لكان ذلك ليأخذ ذلك العصبة الثلثين، وليس ذلك له، بل قد يكون مع الأمّ محجوبًا لا يأخذ شيئًا بحال، إذا كان معها أب أو ابن، إذا كان قد يكون محجوبا حَجْبَ حِرمانٍ، فحجبُ النقصان أولى (1). بخلاف الأب، فإنه لا يُحجَبُ معها لا حَجْبَ حِرمانٍ ولا حَجْبَ نقصان، فكان إعطاؤها مع الأب الثلثَ إعطاءً (2) مع غير الأب في سائر الأحوال بطريق الأولى، إذ لا حالَ (3) هناك يستحق أحد معها أن يأخذَ مِثلَيْ ما تأخذ (4)، كما يستحقُّ الأبُ ذلك. فإن قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (5) (دلّ على أن لها الثلث، والباقي للأب بقوله (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ)،فإنه لما جعل الميراث ميراثًا بينهما، ثم أخرج (6) نصيبها، دل على أن الباقي نصيبه. وإذا أُعطي

_ (1) ع: "أقل". (2) ع: "إعطاؤها". (3) ع: "لا رجل". (4) س، ع:"تأخذ مثلي ما يأخذ"، والتصويب من سائر النسخ. (5) سورة النساء: 11. (6) س:"إن خرج".

[الأب] (1) الباقي معها لم يلزم أن يُعطَى غيرُه مثل ما أُعطِي. وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (2)، وبقوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (3)، وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أَبْقتِ الفرائضُ فلأولَى رجلِ ذكرِ". (4).

_ (1) زيادة من سائر النسخ. (2) سورة الأنفال: 75. (3) سورة النساء: 33. (4) سبق تخريجه.

(5) الأخوات مع البنات

فصل وأما ميراث الأخوات مع البنات (1)، وأنهن عصبة كما قال جمهورُ الصحابة (2) والعلماء- فقد دل عليه القرآن والسنة أيضًا، فإن قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ) (3) يدل على أن الأخت ترثُ النصفَ مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال (4) كله مع عدم ولدها. وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك؛ إذ لو كان كذلك لكان لها النصف، سواء كان له ولد أو لم يكن، فكان ذكر الولد تدليسًا وعبثاً مُضِرّا، وكلام الله منزه عن ذلك. وليس هذا من المفهوم الذي هو تخصيص أحد النوعين

_ (1) انظر هذه المسألة في: (المحلى) (9/ 256 - 258) و"بداية المجتهد" (2/ 258) و"المغني" (9/ 9 - 10) و"تفسير" القرطبي (5/ 64، 6/ 28 - 29) و"شرح مسلم" للنووي (11/ 54، 58 - 59) و"تفسير" ابن كثير (1/ 607) و"فتح الباري" (12/ 24 - 25). (2) كما أخرج عنهم عبد الرزاق (10/ 254 - 255) والدارمي (2884) والطحاوي (4/ 393) والحاكم (4/ 339) والبيهقي (6/ 233). (3) سورة النساء: 176. (4) ع: "جميع المال ".

بالذكر، بل هو من باب تخصيص اللفظ العام وتقييده مع أن الحكم يتناول جميع الصور،/ [168 أ]، والتخصيص بعد التعميم ليس بمنزلة التخصيص المبتدأ، فإن ذلك قد يُقصَد به ذكر ذلك النوع دون الآخر. وأما ذكر الجنس الذي يعمهما والحاجة داعية إلى بيان الحكم العام، وليس في هذا التقييدِ مقصودٌ، فهنا يمتنع أن يُذكَر التخصيص إلاّ لاختصاصه بالحكم. ومن ذلك قوله تعالى: (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) (1) وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (2)، وإذا عُلِم أنها مع الولد لا ترث النصفَ، فالولد إما ذكر وإما أنثى. أما الذكر فإنه يسقِطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى، بدليل قوله: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ)، (3) [فلم يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد]. والإرث المطلق هو حَوْزُ جميع المال، فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يَحُز المال؛ بل إما أن يسقط وإما أن يأخذ (4) بعضَه. فيبقى (5) إذا كان لها ولد: فإما ابنٌ، وإما بنت. فالقراَن قد بيَّن أن البنتَ إنما تأخذ النصف، فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر (6)، إذا

_ (1) سورة النساء: 176. (2) سورة النساء: 11. (3) ساقطة من س، ع. والاستدراك من بقية النسخ. (4) س، ع: (تسقط) و (تأخذ). (5) س: (فبقي). (6) س:"الآخر النصف". ع: "لآخرين النصف". والمثبت من سائر النسخ.

لم يكن إلاّ بنتٌ وأخٌ. ولما كان فتيا الله إنما هي في الكلالة، والكلالة من لا والد له ولا ولد (1)، عُلِمَ أن من له ولد ووالد، ليس هذا حكمه. ولما (2) كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز مالَ الأخت فيكون لها عصبة، كان الأب أن يكون عصبةً بطرق الأولى، وإذا كان الأب والأخ عصبة، فالابن بطريق الأولى. وقد قال تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (3)، فإذا كان قد جعل مواليهم واحدهم مولى، وهو الذي يتولى المرء، فيكون مولىً ويرث مالَه، ويكون من أولى الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إذ كان لكل أحد قد جعل الله عصبتَه ترث مالَه مما ترك، وهم: الوالدان والأقربون. قال طائفة من المفسرين (4): أي: من المال الذي ترك. والموالي: هم الوالدان والأقربون. والموالي يتضمن معنى ورثة، والمعنى: لكل جعلنا ورثة يرثن (5) مما ترك، هم: الوالدان

_ (1) انظر تفسير (الكلالة) في: "تفسير" الطبري (8/ 53 - 54) و"تفسير" القرطبي (5/ 76 - 78) و"تفسير" ابن كثير (1/ 470 - 471) و"المغني" (9/ 8) و"شرح مسلم" للنووي (11/ 58) و"فتح الباري" (12/ 26). (2) س، ع: "فلما". (3) سورة النساء: 33. (4) انظر: "تفسير" الطبري (8/ 269 - 272) و"تفسير" ابن كثير (1/ 501). (5) كذا في النسخ بدلاً من "يرثون".

والأقربون. وإذا كان قد جعل الوالدين والأقربين موالي، فالبنون أولى أن يكونوا موالي. ولهذا لما كانوا في أول الأمر إنما يرث الرجل ولده، فرض الله الوصية للوالدين والأقربين بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (1). فلما فرض الوصية لهما دل ذلك على أن الميراث للولد دونهما، وكان ذلك هو الحكم قبل نزول آية الفرائض، فعلم أن الولد أولى من الأبوين والأقربين، وأن (2) الابن أولى أن يكون عصبة من الأب. وأيضا فإن الله سبحانه قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، فأوجب الوصية للوالدين والأقربين لما كان لا يرث أحدهم إلاّ ولده، وكان ميراثُ الولد وأخذُ الأب مالَ ابنه كلَّه معروفًا عندهم في الجاهلية، ففرض الله الفرائضَ لمن سَمَّاه. وأما إرث الابن مالَ أبيه إذا لم يكن غيره، فكان من الأحكام الظاهرة (3) الواضحة التي كانوا عليها في الجاهلية، وأقرهم عليها في الإسلام، وَوَكَّد ميراث الابن، حتى وَرَّث الابنَ سواء كان صغيرا أو كبيرًا. وكذلك سائر الورثة سوى بين (4) الصغير والكبير، وكانوا في

_ (1) سورة البقرة: 180. (2) "الابن" ساقطة من س. (3) ع: "العامة". (4) س، ع: "سواء من"، تحريف. والتصويب من سائر النسخ.

الجاهلية- أو من كان منهم- لا يورثون إلاّ الكبير (1). ودلَّ أيضًا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" أن ما بقي بعد الفرائض فلا يرثه إلاّ العصبة، وقد عُلِمَ أن الابن أقرب، ثم الأب، ثم الجد، ثم الإخوة. وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ولد ابن الأم يتوارثون دون بني العلات (2). فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب، وابن الابن يقوم مقام الابن (3)، وكذلك كل بني أب هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه، وأقربُهم إلى الأب الأعلى، فهو أقرب إلى الميت. وإذا استووا في الدرجة فمن كان لأبوين أولى ممن كان لأب. فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد، وأنه مع ذكور الولد يكون الابن عاصبًا، يَحجُبُ الأختَ ما يحجب أخاها، بقي حالُ الأخت مع إناث الولد، ليمس في القرآن ما يَنفي

_ (1) كما روي ذلك عن سعيد بن جبير وقتادة وابن عباس، انظر "تفسير ابن كثير" (1/ 465، 468). (2) أخرجه عبد الرزاق (10/ 249) وأحمد (1/ 79، 131، 144) والدارمي (2988) والترمذي (2094، 2095، 2122) وابن ماجه (2715، 2739) والدارقطني (4/ 86 - 87) والحاكم (4/ 336، 342) من طريق الحارث الأعور عن علي. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث، والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم. وانظر: "تلخيص الحبير" (3/ 83). (3) س: "الأب"، تحريف.

ميراثَ الأختِ في هذه الحال. وإنما ينفي أن يكون لها النصف مع الولد، كما يكون مع [عدم] (1) الولد. بقي كذا مع البنت: إما أن تسقط، وإما/ [168 ب] أن يكون لها النصفُ، وإما أن تكون عصبةً: ولا وجه لسقوطها؛ فإنها لا تُزاحِمُ البنتَ، وأخوها لا يسقط، فلا تسقط هي، ولو سقطت هي لسقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب، والبعيد لا يُسقِط القريب. ولا يكون لها النصفُ فرضًا كما يكون لها مع الزوج، لأن الله عز وجل إنما جعل لها النصف معه إذا لم يكن له ولد، ولأنها كانت تساوي البنتَ مع اجتماعها، والبنت (2) أولى منها، فلا تُساوِيها. وأيضًا فإنه لو فُرِضَ لها النصفُ لنقَصَتِ البنتُ عن النصف إذا عالت الفرائض، مثل: زوجة وبنت وأخت، فكان يكون للزوجة الثمن، ولكل منهما النصف، فتعول فتنقص البنت عن النصف. وكذلك لو كان الزوج لكان له الربع، فلو فُرِضَ للأخت النصفُ مع البنت لعالتْ، فنَقَصَت البنت عن النصف، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرضٍ ولا تعصيبٍ؛ فإن الأولاد أولى منهم. والله تعالى إنما أعطاها النصف، إذا كان الميت كلالة لا ولد له

_ (1) زيادة من سائر النسخ. (2) س: "الثلث"، تحريف.

ولا والد، فمن له ولد لا يُفرض لها معه النصف. فلما بطل سقوطُها وفرضُها (1) لم يبقَ إلاّ أن تكون (2) عصبة أولى من عصبة البعيد (3)، كالعم وابن العم. [وهذا قول الجمهور] (4)، وقد دل عليه حديث البخاري (5) عن ابن مسعود [لما ذكر له] (6) أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة قالا في بنتٍ وبنتِ ابن وأختٍ: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائتِ ابنَ مسعودٍ فسيتابعني (7) 0 [فقال] (8): لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي للأخت.

_ (1) من هنا إلى قوله "رجل ذكر، فقد تناولها الحديث …" ص (329) اضطرب ترتيب الكلام في س، ع. وقد سبقت الإشارة إليه في المقدمة. (2) س، ع: "يكون". (3) ع:"العصبة البعيدة". (4) من ع. (5) أخرجه البخاري (6736, 6242)، وليس عنده ذكر سلمان بن ربيعة، وقد جاء ذكره في طرق أخرى لهذا الحديث عند عبد الرزاق (10/ 257) وسعيد بن منصور (3: 1/ 59) وأحمد (1/ 389، 428، 440، 463) والدارمي (2893) وأبي داود (2890) والترمذي (2093) والنسائي في " الكبرى" (4/ 75 - 71) وابن ماجه (2721) والطحاوي (4/ 392) والدارقطني (4/ 79 - 80) والحاكم (4/ 334) والبيهقي (2/ 256). (6) من ع. (7) ع: "فإنه سيتابعنا". (8) زيادة من سائر النسخ.

فأخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن هذا قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل ذلك على أن الأخوات مع البنات عصبة، والأخت تكون عصبة بغيرها، وهو أخوها. فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت. فإن البنت/ [169 أ] أقوى من أخ الميت (1)، ولهذا لم يعصبها، بخلاف البنت مع الابن، فإنها ليست أقوى من أخيها، فلهذا عصبها. وفي السنن (2): أن معاذًا أَفتى في بنتٍ وأختٍ، فأعطى الأختَ النصفَ، والبنتَ النصفَ. وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجلى ذكر"، فهذا عام خص منه المعتقة والملاعنة والملتقطة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَحُوز المرأة ثلاثَ مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه" (3). وإذا كان عامّا مخصوصا خُصَّتْ منه هذه الصورة بما ذكر من الدلالة.

_ (1) ع: "ميت". (2) أخرجه عبد الرزاق (10/ 255، 256، 261) وسعيد بن منصور (3: 1/ 60) والدارمي (2882، 2883) وأبو داود (2893) والطحاوي (4/ 393، 394) وا لدارقطني (4/ 82 - 83) والحاكم (4/ 337 - 338، 346). وهو عند البخاري (6734، 6741) من طريقين عن الأسود به. وانظر "فتح الباري" (12/ 25). (3) أخرجه أحمد (3/ 490، 4/ 106) وأبو داود (2906) والترمذي (2115) والنسائي في الكبرى (4/ 78، 91) وابن ماجه (2742) والدارقطني (4/ 89 - 90) والحاكم (4/ 341) والبيهقي (6/ 240، 241) عن واثلة بن الأسقع. وهو حديث ضعيف، انظر الكلام عليه في "إرواء الغليل" (6/ 24).

وإن قيل: قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب. قيل: فالمنازع يقدم المعتقَ على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فلأولى رجل ذكر"، ووكّد بالذكر ليبين أن العاصب المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يرد بلفظة الرجل ما يتناول (1) الأنثى، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما رجل وجد متاعه" ونحو ذلك مما (2) يذكر فيه لفظ الرجل، والحكم يعم النوعين: الذكور والإناث. وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فرائض صدقة الإبل: "فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر" (3)، فذكر لفظ "الذكر" ليبين أن (4) مراده بابن اللبون: الذكر دون الأنثى، وأن الذكر يجزئ (5) في هذه الحال دون ما إذا كان فيها بنت مخاض، فإن الفرض بنت مخاض. ومما يبين صحةَ قول الجمهور أن قوله: (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد، والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلاً

_ (1) س، ع: "ما لا يتناول". وهو يعكس المعنى. (2) س، ع: "فيما". (3) أخرجه البخاري (1448 ومواضع أخرى) وأحمد (1/ 11) وأبو داود (1567) والنسائي (5/ 18) وابن ماجه (1800) عن أبي بكر الصديق ضمن كتاب الصدقة التي كتبها لأنس. (4) "أن" ساقطة من س، ع. (5) س: "يجري".

للحكم في المنطوق، فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة. فلا يجب أن تكون كل صورة من صور المسكوت عنه مخالفةً لكل صورة من صور المنطوق، ومن توهم ذلك في دلالة المفهوم فإنه في غاية الجهل. فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص. والحكم إذا ثبت بعلة وانتفت؛ جاز أن يَخْلُفها- في بعض الصور أو كلها- علة أخرى. وقصد (1) التخصيص يَحصُل بالتفصيل، وحينئذ فإذا نُفِي إرثها مع (2) ذكور الولد حصل المقصود بدليل الخطاب، ولم يكن في الآية نفي ميراثها مع الأنثى، فيجب أن تكون من أهل الفرائض، أو من العصبة، وهي مع كونها من أهل الفرائض، فقد تكون عصبةً، وحينئذٍ فلا تخرج (3) من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، بل هي من أهل الفرائض، لكن لها التعصيب في بعض الأحوال، كما تكون عصبة مع إخوتها. وعلى هذا التقدير فلا يكون الحديث مخصوصًا، بل عمومه محفوظ، وصار هذا كما لو كان معها إخوتها أو كان مع البنين والبنات أو الإخوة والأخوات أحد الزوجين أو الأم، فإما أن تُلحَق (4) الفرائضُ بأهلها، وما بقي لا يختص به ذكور الولد

_ (1) س، ع: "فصل"، تحريف. والمثبت من سائر النسخ. (2) س، ع: "فإذا بقي إرثها من". والتصويب من سائر النسخ. (3) س، ع: "يخرج". (4) ع: "يلحقوا".

والإخوة بالنص والإجماع أفإن الله تعالى يقول، (1) (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن) (2) [بعد قوله: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ). وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ] (3) وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث) (4). فقد جعلَ لكلٍ من الأبوين السدسَ مع الولد، والباقي للولد. وإن كانوا ذكورًا وإناثًا فللذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فدلَّ ذلك على أن قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما يراد به إذا لم يكن هناك من يكون عصبة بغيره، وهو من أهل الفرائض في بعض الأحوال. ولو أخذ بما يُظَنُّ أنه ظاهر الحديث (5) , لكان الباقي بعد الفرض لذكور الإخوة دون الأخوات، والبنين دون البنات، وهذا باطل بالنص وإجماع المسلمين. فعُلِم أنها إذا كانت عصبةً بغيرها لم يكن الباقي لأولى رجل ذكر، وهي في هذه الحال عصبة

_ (1) من ع. (2) سورة النساء: 176. (3) من ع. ولا توجد في س. (4) سورة النساء: 11 (5) انظر الكلام على سبب التأكيد بذَكَر في "الفتح " (12/ 12 - 13).

بغيرها (1)، فليس الباقي لأولى رجل ذكر. ومعلوم أن أخاها أقرب من العم وابن العم، فإذا كان لا يسقطها، بل تكون عصبة معه، فَلأنْ لا يُسقِطها العمُ وابنُه بطريق الأولى والأحرى، وإذا لم يُسْقِطها ورثت دونه، لأنه أبعد منها بخلاف أختها. وحينئذٍ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها" إن أريد به من له فرضٌ في تلك المسألة، فقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر" خص منه من الأقارب من يكون عصبة بغيرها، والبنت في هذه الصورة عصبة بغيرها، فتُخَصُ منه. ولو أريد بالفرائض من هو من أهل الفرائض في الجملة، سواء كان لا يرث إلاّ بفرض، كالزوجين والأم وولد الأم؛ أو كان يرث بفرضٍ تارةً وبتعصيبٍ أخرى، كالأب والبنات والأخوات، فيراد بتقديم هذا الضرب، وما بقي بعدُ فلأولى رجلٍ ذكر، فقد تناولها الحديث. فإن الورثة أقسام: ذوو فرضٍ محض: كالزوجين، وولد الأم، والأم. وذوو تعصيبٍ محض: كالبنين، والإخوة. ومن يكون ذا فرضٍ بنفسه، وتعصيب بنفسه: كالأب والجد. ومن يكون ذا فرضٍ وعصبة بغيره: كالبنات والأخوات.

_ (1) س، ع: "لغيرها".

[ومعلوم أن قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" لم يرد به سقوط البنات والأخوات] (1) إذا كنّ عصبة بغيرهن، بل يرثن في هذه الحال بالإجماع. والأخوات مع البنات كالأخوات مع إخوتهن (2)، فإذا لم ينفرد الرجل الذكر، وهو أخوهنّ ويسقطهن؛ فأَنْ لا ينفرد من هو أبعد منه ويسقطهن بطريق الأولى. ولهذا لم تُوجَدْ قطُّ أختا تَسقُط مع عم، وابن عم، ومن هو أبعد منها. بل لابد أن ترث إما بفرض، وإما بتعصيبٍ حصل بغيرهاِ. وحينئذٍ فإذا كنّ مع البنات وجب أن يرثن بأحد هذين، وقد تعذر به الفرضُ فتعيَّنَ التعصيبُ، كما لو كان معها أخوها. يبين ذلك أن جنس أهل الفرائض يُقدَّمون على العصبات، سواء كانوا (3) أهلَ فرض محض، أو كانوا مع ذلك لهم تعصيبٌ بأنفسهم أو بغيرهم. والأخوات من جنس أهل الفرائض، ممن يرثن في حالٍ بفرض، وفي حالي يكنّ (4) عصبة، وهم مقدَّمون على من لا

_ (1) من ع. (2) س: "أختهن"، تحريف. (3) س: "كان". (4) س: "يكون".

يرث (1) إلاّ بالتعصيب المحض كالعم وابن العم، فدل ذلك على أن الأخوات أولى من هؤلاء. ولا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات، كما لا يجوز أن يُستدلَّ به على حرمانهن مع إخوتهن، [بل] (2) ولا على حرمان بنات الابن مع أخيهن ومع ابن أخيهن إذا استكمل البنات الثلثين، بل أتعصب من، (3) في درجته ومن هو أعلى منه عند الجمهور (4)، ولكن ابن مسعود (5) ومن وافقه [كأبي ثور] (6) يقولون: إنه لا يعصب إلاّ من يرث دونه، لا يعصب (7) من يسقط بدونه، ودلالة الحديث في هذه المواضع من جنس واحد. فإما أن يقال: هؤلاء كلهم من جنس أهل الفرائض فإنهن (8) ممن يفرض لهن، ليست بمنزلة العمة والخالة ونحوهما ممن ليس له فرض مقدر. / [169 أ]، وإما أن يقال: هو مخصوص. وهذا الحديث قد

_ (1) س، ع: "لا يرثن". (2) من ع. (3) من ع. (4) انظر: "المغني" (9/ 12). (5) س، ع: "ولكن ليس ابن مسعود"، والتصويب من سائر النسخ. (6) من ع. (7) س، ع: "لا يرث". (8) س، ع: "فإنهم".

رُوِي بألفاظ، فمن جُمَل ألفاظه (1): "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما بقي فلأولى رجل ذكر". وهذا لفظ يتناول كل من كان من أهل الفرائض في الجملة، وإن عرض له حال يكون فيها عصبة بغيره، إذا لم يكن محجوباتٍ بغيرهن، كما يحجب بنات الابن بالابن، وما بقي من بعده فلأولى رجل ذكر، ليس المراد به أنه ما بقي بعد الفرائض المقدرة لا يعطاه إلاّ رجل، ولو قدر أن اللفظ يتناول هذا فقد خص منه صور كثيرة بالنص والإجماع، فهذه الصورة أولى.

_ (1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1615) وأحمد (1/ 313) وأبو داود (2898) والترمذي (2098) وابن ماجه (2740) والدارقطني (4/ 71) من طريق معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس.

(6) ميراث البنتين

وأما ميراث البنتين (1)، فقد قال تعالى: () يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) (2). فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث، ولها وحدها النصف، ولما فوق اثنتين (3) الثلثان. بقيتِ البنتان، فكان إذا كان لها مع الذكر الثلث لا الربع، فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى؛ ولأنه قال: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)، فقيّد النصف بكونها واحدةً، فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلاّ مع هذا الوصف؛ بخلاف قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)، فإنه لما ذكر ضمير "كن" و"نساء" وذلك جمع، لم يمكن أن يقال: اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين؛ ولأن الحكم

_ (1) س، ع: "البنات"، والمثبت من سائر النسخ. والكلام هنا على ميراث البنتين، ففيه الخلاف بين العلماء، لا إذا كانت واحدة أو فوق اثنتين. وانظر لهذه المسألة: "المحلى" (9/ 255) و"بداية المجتهد" (2/ 255) و"تفسير القرطبي" (5/ 63) و"تفسير ابن كثير" (1/ 469، 607) و"فتح الباري" (12/ 15 - 16) و"المغني" (9/ 11 - 12). (2) سورة النساء: 11. (3) س، ع: "اثنتان"، خطأ.

لا يختص باثنتين، فلزم أن يقال: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)، لأنه قد عرف حكم اثنتين، وعرف حكم الواحدة. وإذا كانت واحدة فلها النصف، ولما فوق اثنتين الثلثان، امتنع أن يكون للاثنتين أكثر من الثلثين، فلا يكون لهما جميع المال لكل واحدة النصف، فإن الثلاث ليس لهن إلاّ الثلثان، فكيف بما دون الثلاثة؟ ولا يكفيهما النصف، لأنه لها بشرط أن تكون واحدة، [فلا يكون لها إذا لم تكن واحدة] (11). وهذه الدلالة تظهر بقراءة النصب (2): "وإن كانت واحدةً"، فإن هذا خبر كانت، تقديره: فإن كانت بنتا واحدة، أي مفردة ليس معها غيرها فلها النصف، فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها، فانتفى النصف، وانتفى الجميع، فلم يبق إلاّ الثلثان. وهذه دلالة من الآية. وأيضًا فإن الله تعالى لما قال: في الأخوات (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) (3)، كان دليلاً على أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين. وأيضًا فسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما أعطى ابنتيْ سعدِ بن الربيع الثلثين، وأمَّهما الثمن، والعمَ ما بقي (4). وهذا إجماع لا يصح فيه

_ (1) زيادة من سائر النسخ. (2) وهي قراءة أكثر القراء، انظر "النشر" (2/ 247). (3) سورة النساء: 176. (4) أخرجه أحمد (3/ 352) وأبو داود (2892) والترمذي (2092) وابن ماجه=

خلاف عن ابن عباس (1). وقال في الأخوات: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)، لأنه لم يذكر قبل ذلك ما يدل على أن للواحدة مع أخيها (2) الثلث، وإنما ذكرِه بعد ذلك بقوله: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، بخلاف تلك الآية، فإنه ذكر أولاً أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فتضمن حكمها مع أخيها، ثم ذكر حكم العدد من النساء بعد ذلك. ودلت آية "الولد" (3) على أن حكم ما فوق الاثنتين حكم الاثنتين؟ فلذلك قال في الأخوات: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) (4)، ولم يذكر ما فوقهما؛ فإنه إذا كانت الثنتان (5) تستحقان الثلثين، فما فوقهما بطريق الأولى والأحرى. بخلاف آية

_ = (2720) والطحاوي (4/ 395) والدارقطني (4/ 78 - 79) والحاكم (4/ 333 - 334، 342) من طرقِ عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وعند أبي داود (2891): "بنتا ثابت بن قيس"، قال أبو داود: أخطأ بشر فيه، إنما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. (1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 11): أجمع أهل العلم على أن فرض الابنتين الثلثان، إلاّ رواية شذت عن ابن عباس أن فرضها النصف، والصحيح قول الجماعة. (2) س، ع: "أختها". (3) هي الآية 11 من سورة النساء. (4) سورة النساء: 176. (5) س، ع: "البنتان".

"البنات " (1) فإنه لم يدل قوله: (لَلذَكَرِ مِثْلُ حَظِ اَلأُنثَيَين) إلاّ على أن لها الثلث مع أخيها، وإذا كن فوق اثنتين لم تستحق الثلث، فصار بيانه في كل من الآيتين من أحسن البيان. هناك لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك، بين بعد ذلك ميراث ما زاد على الثنتين. وفي آية الصيف (2) لما دل الكلام الأول على ميراث الأختين (3)، وكان ذلك دالاّ بطريق الأولى على ميراث الثلاثة والأربعة وما زاد، لم يُحتَجْ أن يذكر ما زاد على الأختين. فهناك (4) ذكر ما فوق البنتين دون البنتين، وفي الأخرى (5) ذكر الثنتين دون ما فوقهما، لما يقتضيه حسن البيان في كل موضع، حيث كان هناك قد بين ميراث البنتين دون ما فوقهما، وكان هنا بيان حكمهما بيانًا لما فوقهما بطريق الأولى، ولم يكن فيما تقدم بيان حكمهما، فلا يجوز (6) أن يكون للأخوات أكثر من الثلثين، لأن البنات إذا لم يكن لهن أكثر من الثلثين، فالأخوات بطريق الأولى.

_ (1) هي الآية 11 من سورة النساء. (2) هي الآية 176 من سورة النساء. وفي س، ع: "النصف"، وهو تحريف، وقد سبق الكلام عليه فيما مضى. (3) س: "البنتين"، خطا. (4) أي في الآية 11 من سورة النساء. (5) أي في الآية 176 منها. (6) ع: "ولا بيان".

ثم قال تعالى: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). وأراد بذلك وإن كانوا عددًا من الإخوة من جنس / [170 أ] الرجال وجنس النساء، لم يُرِد أن يكون جمع رجال وجمع نساء، فإنه لو كان رجل وامرأتان، أو امرأة ورجل، أو رجلان وامرأتان، لكان ذلك كما لو كانوا ثلاثة رجال وثلاث نساء (1)، وهذا باتفاق الناس. ولو قيل: الإخوة ثلاثة فصاعدًا. لقيل: وكذلك الرجال والنساء، فلزم أن يكون المعنى إن كانوا ستة إخوة فصاعدًا. ولأنه لما بين حكم الأخت الواحدةِ والأخ الواحدِ وحكم الأختين فصاعدًا، بقي بيان الاثنتين فصاعدًا من الصنفين، ليكون البيان مستوعبًا للأقسام. ولفظ "الإخوة" وسائر ألفاظ الجمع قد يُعنَى به الجنس من غير قصد العدد، لقوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُم) (2)، وقد يُعنَى به العددُ من غير قصدٍ لقدرٍ منه، فيتناول الاثنين فصاعدًا، وقد يعنى به الثلاثة فصاعدًا. وفي هذه الآية إنما عُني به العدد مطلقًا؛ لأنه بيّن الواحدة قبل ذلك؛ ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرَّق فيه بين الواحد والعدد، وسَوىَ فيه بين

_ (1) س، ع: "ثلاثة نساء". (2) سورة آل عمران: 173.

مراتب العدد: الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا مما يبين [أن قوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) يتناول الاثنين والثلاثة. وقد صرح بذلك في] (1) قوله تعالى: () وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ). فقوله "كانوا" ضمير جمع، وقوله "أكثر من ذلك" أي أكثر من أخ وأخت، ثم قال: "فهم شركاء في الثلث"، فذكرهم بصيغة الجمع المضمر، وهو قوله "فهم"، والمظهر (2)، وهو قوله "شركاء". ولم يذكر قبل ذلك إلاّ قوله: "وله أخ أو أخت "، فذكر حال انفراد الواحد لا حال اجتماعهما. فدل على أن قوله "أكثر من ذلك" أي: أكثر من أخ وأخت، وأعاد الضمير إليهم بصيغة الجمع، فدل ذلك على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد مطلقًا: الاثنين فصاعدًا؛ لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، وقوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)، وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً). ثم هذه الصيغة تصلح لذلك، وإن كان إنما يراد بها الثلاثة فصاعدًا في موضع آخر. وإن قيل: إن ذلك هو الأصل، فصيغة الجمع قد تختص

_ (1) زيادة من سائر النسخ. (2) س، ع: "المضمر"، خطأ.

بالتثنية، فيما (1) كان مضافًا إلى مثنى وليس فيه إلاّ واحد منه، كقوله تعالى (فَقَد صغَت قُلُوبُكُمَا) (2)، ولا يحتمل إلاّ قلبين (3)، فهذا يختص بالاثنين، وعُدِلَ فيه عن لفظ الاثنين إلى لفظ الجمع للخفة وعدم اللبس، فإنه قد عُلِمَ أن لكل واحدٍ قلبًا، فصار استعمال لفظ الجمع في الاثنين مع البيان هو لغة القوم. ومنه قوله تعالى: (وَاَلسَّارِقُ وَاَلسَارِقَةُ فَاَقْطَعُوَا أَيدِيَهُمَا) (4)، ولم يقل: "يديهما". فإذا كانت الصيغة تختص بالاثنين في الموضع المبين، ولم يقل أحد إنها عند الإطلاق تختص بالاثنين، فكذلك تُستعمل في الاثنين فصاعدًا في الموضع المبين، وإن كانت عند الإطلاق إنما تتناول الثلاثة فصاعدًا، وليس شيء من ذلك مجازًا؛ بل كله من الموضوع في لغتهم. وإنما غلط من ظن لفظ الجمع إنما وضع للثلاثة فصاعدًا (5)، أو لاثنين فصاعدًا. بل وُضِع لاثنين فصاعدًا في موضع، ولثلاثة فصاعدًا في موضع، ولاثنين فقط في موضع، كله من موضوع العرب. والقرينة هنا من وضع العرب.

_ (1) س، ع: "فما". (2) سورة التحريم: 4. (3) س، ع: "الاثنتين". (4) سورة المائدة: 38. (5) "وليس شيء من ذلك ... فصاعدا" ساقطة من ع.

وإذا كانت القرينة موضوعة كانت بمنزلة ما يقترن بالفعل من المفعول به، ومعه، وله، والظرفين، والحال، والتمييز، وما يقترن باللفظ من الصفة، وعطف البيان، وعطف النسق، والاستثناء، والشرط، والغاية، وغير ذلك مما يقيد مطلقه، ويكون مانعًا له من العموم، موجبًا لاختصاصه ببعض ما يدخل فيه عند عدم تلك القيود، فإن هذا كله مما وضعت العرب أجناسه، كما وضعت رفع الفاعل، ونصب المفعول به، وخفض المضاف إليه.

(7) ميراث الجدة وأي الجدات يرثن؟

وأما الجدة (1) فكما قال الصديق: ليس لها في كتاب الله شيء (2)، فإن الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا، فالجدة وإن سُميَتْ أمًّا لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض، كما دخلت في لفظ "الأمهات" في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) (3). ولكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاها السدس (4)، فثبت ميراثها بسنته، ولم يُنقل عن النبي

_ (1) انظر لاختلاف العلماء في ميراث الجدة: "المحلى" (9/ 272 - 274) و"المغني" (9/ 55). (2) أخرج مالك في "الموطأ" (2/ 513) وأبو داود (2894) والترمذي (2100، 2101) والنسائي في الكبرى (4/ 73 - 74) وابن ماجه (2724) والحاكم (4/ 338) عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر ... إلى آخر الحديث. قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 82): إسناده صحيح لثقة رجاله، إلاّ أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة. وانظر "إرواء الغليل" (6/ 124 - 126). (3) سورة النساء: 23. (4) كما في حديث بريدة الذي أخرجه أبو داود (2895) والنسائي في "السنن الكبرى" (4/ 73)، قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 83): في إسناده عبيد الله العتكي مختلف فيه، وصححه ابن السكن. وانظر "إرواء الغليل" (6/ 121).

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفظ عام في الجدات، بل ورَّث الجدة التي أتته، فلما جاءت الثانية إلى أبي بكر رضي الله عنه جعلها شريكة الأولى في السدس (1). وقد تنازع الناس في الجدات (2): فقيل: لا يرث إلاّ اثنتان: أم الأم وأم الأب، كقول مالك وأبي ثور. وقيل: لا يرث إلاّ ثلاث، هاتانِ وأم الجد؟ لما روى إبراهيم النخعي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورَثَ ثلاث جدات: جدتيك من قبل أبيك، وجدة من قبل أمك (3). وهذا مرسل حسن، فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل. فأخذ به أحمد. ولم يرد في النص إلاّ توريث هؤلاء. وقيل: بل يرث جنسُ الجداتِ المُدلياتِ بوارثٍ؛ وهو قول

_ (1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 513) وعبد الرزاق (10/ 275) وسعيد بن منصور (3: 1/ 73) والدارقطني في (السنن) (4/ 90 - 91) والبيهقي في "لسنن الكبرى" (6/ 235) عن القاسم بن محمد. قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 85): هو منقطع. وانظر: "إرواء الغليل" (6/ 126). (2) انظر: (المغني) (9/ 55 - 56) و"المحلى" (9/ 274 - 277) و"بداية المجتهد" (2/ 262 - 263) و"تفسير القرطبي" (5/ 70 - 71). (3) أخرجه عبد الرزاق (10/ 273) وسعيد بن منصور (3: 1/ 72) والدارمي (2938) والدارقطني (4/ 90) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 236) من طريق منصور عن إبراهيم مرسلا. وانظر: "التلخيص" (3/ 83).

الأكثرين، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو وجهٌ في مذهب أحمد. وهذا القول أرجح؟ لأن لفظ النص وإن لم يرد في كل جدة فالصديق لما جاءته الثانية قال لها: لم يكن السدس الذي أعطي إلاّ لغيرك؟ ولكن هو لكن، فأيتكن خَلَتْ به فهو لها. فورث الثانية،/ [170 ب]، والنص إنما كان في غيرها. ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت، فترث أم أم الأب، وأم أم الأم بالاتفاق، فيبقى أم أبي الجد، أي فرق بينها وبين أم الجد؟ وأي فرق بين أم الأب وأم الجد؟ ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد؟ بل هو جلى أعلى. وكذلك الجد كالأب؟ فأي وصف يفرق بين أم أم الجد وأمْ أبي الجد؟ فبيَّن ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء؛ فكذلك أم أم أبيه وأم أبي أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء (1)، وأم أبي جده وأم جد جذه بالنسبة إلى جده سواء، وإذا كانت هاتان تشتركان في الميراث، ونسبة تينك إليه كنسبة هاتين وَجَبَ اشتراكهما في الميراث. وأيضًا فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث، وأم أبي الأب لا ترث، ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب. وهذا ضعيف فإن جدته أم أبيه إذا لم تكن مثل أم أمه،

_ (1) "فكذلك ... سواء" ساقطة من ع.

(8) الجدة مع ابنها

لم تكن أدنى منها، فإنها تُدلِي بعصبة، وبنت الابن أولى من بنت البنت، فلم تكن أم الأم أولى من أم الأب. ونظير هذا في الحضانة، فإنهم متنازعون: هل أم الأم أولى من أم الأب؟ على قولين (1)، هما روايتان عن أحمد. وأصل الحضانة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدّم الأم على الأب (2)، لكن قدّمها لكونها أنثى، فهي أحق بالتربية من الذكر، أو لكون جهة الأمومة أحقّ من جهة الأبوة؟ فإن كان الأول لم تقدم أم الأم بل أم الأب، لأنهما تشتركان في الأمومة، وامتازت تلك بأنها من نساء العصبة، والحضانة لرجال العصبة دون رجال الأم، فان كانت لجهة الأم قدمت أم الأم، وهذا مخالف لأصول الشرع (3)، فإنّ أقارب الأم لم يُقذَفوا في شيء من الأحكام؛ بل أقارب الأب أولى من أقارب الأم في جميع الأحكام، فكذلك في الحضانة. وكذلك في ميراث الجدة، أم الأب إن لم تكن أولى من أم الأم لم تكن دونها. والصحيح أنها لا تسقط بابنها (4) - أي الأب- كما هو أظهر

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (34/ 122، 123) و"المغني" (11/ 422). (2) أخرجه أحمد (2/ 182، 203) وأبو داود (2276) والحاكم في "المستدرك " (2/ 207) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 4 - 5) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (3) س: "الشرائع". (4) انظر لهذه المسألة: "المحلى" (9/ 279 - 281) و"المبسوط" (29/ 169) =

الروايتين عن أحمد؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه (1)، ولأنها وإن أدلتْ به فهي لا ترث ميراثه؛ بل هي معه كولد الأم مع الأم، لما أدلوا بها ولم يرثوا ميراثها، لم يسقطوا بها. وقول من قال: من أدلى بشخص سقط به، باطل طردًا وعكسا، باطل طردًا بولد الأم مع الأم؛ وعكسًا بولد الابن مع عمهم، وولد الأخ مع عمهم، وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بمن (2) لم يُدلِ به. وإنما العلة أنه يرث ميراثه، فكل من ورث ميراث شخص سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن مقامَ الأم، فيسقطن بها وإن لم يدلين بها.

_ = و"بداية المجتهد ((2/ 263) و"المغني" (9/ 60 - 61) و"تفسير القرطبي" (5/ 70). (1) أخرجه الترمذي (2102) وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلاّ من هذا الوجه. (2) س، ع: "من".

(9) ميراث بنات الابن مع البنت

فصل وأما كون "بنات الابن مع البنت " لهن السدس تكملة الثلثين (1)، وكذلك الأخت من الأب معِ أختٍ لأبوين (2)؛ فلأن الله تعالى قال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) (3). وقد عُلِمَ أن الخطاب يتناول ولدَ البنين دون ولدِ البنات،. وأن قوله "أولادكم" يتناول من يُنسَب إلى الميت؛ وهم ولده وولد بنيه، فإنه يتناولهم على الترتيب: يدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب؛ لما قد عرف من أن ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر، والابن أقرب من ابن الابن، فإذا لم يكن إلاّ بنتٌ فلها النصف. وبقي من نصيب البنات السدس؛ فإذا كان هنا بنات ابن فهن استحققن الجميع لولا البنت؛ فإذا أخذت النصف فالباقي لهن. وكذلك في الأخت من الأبوين وفي أخت من الأب، أخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى للبنت النصف، ولبنت

_ (1) انظر لهذه المسألة: "المغني" (9/ 14 - 15) و"فتح الباري" (12/ 18). (2) انظر: "المحلي" (9/ 269) و"المغني" (9/ 16) و"تفسير القرطبي" (5/ 65). (3) سورة النساء: 11.

(10) ميراث الأخت للأب مع الأخ

الابن السدس تكملة الثلثين (1). وأما إذا استكمل البناتُ الثلثين لم يبق فرض؛ فان كان هناك عصبة من ولد البنين فالباقي له؛ لأنه أولى رجل ذكر؛ وإن كان معه أو فوقَه بنتٌ عَصَبها عند جمهور الصحابة والعلماء كالأئمة الأربعة وغيرهم (2). وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه يسقطها (3)؛ لأنها لا ترث مفردة، فلا ترث مع أخيها كالمحجوبة برِق أو كفر. والجمهور يقولون: هي وارثة في الجملة، وهي ممن تكون عصبة بأخيها، وهنا إنما سقط (4) ميراثها بالفرض لاستكمال الثلثين، وإذا سَقَطَ الفرضُ لم يلزم سقوط التعصيب مع قيام موجبه، وهو وجود أخيها، وإذا كان وجود الأخ يجعلها عصبة فيحرمها وإن ورثت بالفرض، كما في الأخ المشئوم،/ [171 أ]، فكذلك يجب أن يجعلها عصبة فيورثها (5) إذا لم ترث بالفرض. والنزاع في الأخت للأب مع أخيها (6) إذا استكملت الأخوات

_ (1) سبق تخريجه. (2) انظر: "بداية المجتهد" (2/ 255 - 256) و"المغني" (9/ 11 - 13, 15) و"تفسير القرطبي" (5/ 62). (3) أخرجه عنه: عبد الرزاق (10/ 252) والدارمي (2896، 2898) والطحاوي (4/ 394) والبيهقي (6/ 230). ونصر ابن حزم مذهبه في المحلى (9/ 271). وراجع "المغني" (9/ 12، 13). (4) ع: "يسقط". (5) س، ع: "فيرثها". (6) انظر: "المحلى" (9/ 269 - 271) و"بداية المجتهد" (2/ 259) و"المغني"=

للأبوين الثلثين، كالنزاع في بنت الابن مع أخيها (1) إذا استكمل البنات الثلثين. فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع إخوتهن، يقتسمون النصف الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص، وتوريثهن هنا أقوى، وقول ابن مسعود معروف في نقصانهن (2).

_ = (9/ 16 - 17). (1) "أخيها" مطموسة في س، في ع: "مع البنتين". (2) أخرجه عنه: عبد الرزاق (10/ 252) وسعيد منصور (3: 1/ 56، 57) والدارمي (2894 - 2896) والطحاوي (4/ 394) والبيهقي (6/ 230).

(11) من عمي موتهم هل يتوارثون أم لا؟

فصل فيمن عمي موتهم فلم يُعْرَفْ أيهم مات أولاَ، فالنزاع مشهور فيهم (1). والأشبه بأصول الشريعة أن لا يرث بعضُهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثته الأحياء، وهو قول الجمهور، وقولٌ في مذهب أحمد؛ لكنه خلاف المشهور في مذهبه. وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، بدليل الملتقط، لما جهل حال المالك كان المجهول كالمعدوم، فصار مالكَا لما التقطه؛ لعدم العلم بالمالك. وكذلك "المفقود" (2)، قد أخذ أحمد فيه بأقوال الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، فجعلوها (3) زوجة الثاني مادام الأول مجهولاً باطنًا وظاهرًا، كما في اللقطة، فإذا علم صار (4) النكاح

_ (1) س، ع: "بينهم". وراجع للمسألة: "المدونة" (3/ 85) و"المبسوط" (30/ 27 وما بعدها) و"بداية المجتهد" (2/ 266) و"المغني" (9/ 170 - 173). وآثار الصحابة والتابعين أخرجها عبد الرزاق (10/ 295 - 298) وسعيد بن منصور (3: 1/ 105 - 108) والدارمي (3048 - 3052) والدارقطني (4/ 73، 74، 119) والبيهقي (6/ 222). (2) راجع: "المغني" (9/ 186 - 189). (3) س: "وجعلها". (4) س، ع: "جاز".

موقوفًا، لأنه فُرَق بينه وبين امرأته بغير إذنه، لكن تفريقًا جائزا، فصار (1) ذلك موقوفًا على إجازته ورده، فيخيّر بين امرأته والمهر. فإن اختار امرأته كانت زوجته، وبطل نكاح الثاني بنفس ظهور هذا واختياره امرأته، ولم يحتج إلى طلاقه. وإن لم يخترها بقيت زوجة الثاني، وكان للأول المطالبة بالمهر الذي هو عوض خروج بُضْعِها من ملكه بغير أمره، ولم يحتج ذلك إلى إنشاء نكاح الثاني. فلها ثلاثة أحوال: حال الجهل بالأول، فهي زوجة الثاني باطنًا وظاهرًا. وحال انقضاء نكاحه واختياره المهر، فصارت أيضًا زوجة الثاني باطنًا وظاهرًا. وحال اختيار الأول لها، فتعود زوجته باطنًا وظاهرًا. وحال ظهوره قبل اختياره، فالأمر موقوف كالنكاح الموقوف. والمقصود هنا أن أحمد اتبع الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، وهنا (2) إذا كان أحدهما قد مات قبل الآخر فذاك مجهول، والمجهول كالمعدوم، فيكون (3) تقدم أحدهما على الآخر معدومًا، فلا يرث أحدهما من صاحبه.

_ (1) س، ع: "فجاز". (2) س، ع: "وهو". (3) س، ع: "ويلزم".

وأيضًا فالميراث جُعِلَ للحي ليكون خليفةً للميت ينتفع بماله، فإذا ماتا على هذه الحال لم يكن انتفاع أحدهما بمال الآخر أولى من العكس، وجَعْلُ كل منهما وارثًا موروثًا مناقضٌ لمقصود الإرث، فإن كونه وارثًا يوجب أن يكون حيا يخلف غيره، وكونه موروثًا يوجب أن يكون ميتًا مخلوفًا، فكيف يُحكَم بحكمين متناقضين في حال واحد؟ وكما أنهم لم يورثوه إلاّ من التلاد دون ما ورثه لئلا يلزم الدور؛ فيجب أن لا يورثوه مطلقًا لئلا يلزم الدور في نفس المورث (1) لا في عين الموروث. وأما إذا عاش أحدهما بعد الآخر، ولو لحظة، فإنه بمنزلة الطفل إذا استهل ثم مات، فثبت له حكم الحياة المعلومة، فاستحق الإرث، بخلاف من لا تعلم حياته بعد الآخر، فإن شرطَ الإرث- وهو العلم بحياته بعده- منتفٍ، فلا يجوز توريثه منه. وهذا يستفاد من جَعْلِ الله هذا وارثًا، والوارث لا يكون إلاّ من عاش بعد الموروث، وهذا غير معلوم، فلا يثبت الإرث، فإن الجهل بالشرط بمنزلة عدمه، كما قلنا [في] (2) الربويات: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فالجهل بالتقدم كالعلم بعدم التقدم. والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم. ...

_ (1) ع: "الموروث". (2) زيادة على س، ع من بقية النسخ.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع - الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، لأحمد بن مبارك السجلماسي، المطبعة الأزهرية، القاهرة، 1306. - إبطال الاستحسان، للشافعي (ضمن كتاب الأم 7/ 267 - 277). - ابن الفارض والحب الإلهي، لمحمد مصطفى حلمي، ط. القاهرة، 1945 م. - إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، لمحمد مرتضى الزبيدي البلكرامي، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1311. - إجابة الغوث ببيان حال النقباء والنجباء والأبدال والأوتاد والغوث، لابن عابدين، (ضمن مجموعة رسائله) ط. الآستانة، 1325. - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1408. - الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1356. - الأحكام في أصول الأحكام، للاَمدي، ط. الرياض 1387. - الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، بيروت 1400. - إحكام الفصول في أحكام الأصول، للباجي، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت 1407. - أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة 1392. - أحكام القرآن للشافعي، جمع ورواية: البيهقي، تحقيق عبد الغني عبد الخالق، القاهرة 1371. - أخبار القضاة، لوكيع، بيروت: عالم الكتب، د. ت. - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، بيروت 1399. - الاستحسان بين المثبتين والنافين، للأستاذ حمزة زهير حافظ، رسالة ماجستير قدمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، دون تاريخ. - الاستذكار، لابن عبد البر، ط. عبد المعطي قلعجي، القاهرة.

- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، "القاهرة" 1380. - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، دار الشعب، القاهرة، 1964 م. - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لملأ علي القاري، تحقيق: محمد الصباغ، دار الأمانة، بيروت، 1391. - أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن رشيق (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية") جمع: محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة 1420. - الإسماعيلية: تاريخ وعقائد، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور 1406. - الأشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر، تحقيق: محمد غريب سراج الدين، قطر 1414. - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، ط. القاهرة، 1358. - اصطلاحات الشيخ محيي الدين ابن عربي، (طبع ملحقًا بكتاب "التعريفات" للجرجاني) تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م. - اصطلاحات الصوفية، لعبد الرزاق القاشاني، تحقيق: سبرنجر، كلكتا (الهند) 1854 م. - الأنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف، للأمير الصنعاني، تحقيق: عبد الرزاق البدر، ط. المدينة المنورة، 1421. - الأصل، لمحمد بن الحسن، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، حيدر آباد 1386. - أصول الجصاص، [الجزء المتعلق بأبواب الاجتهاد والقياس]، تحقيق: سعيد الله القاضي، لاهور 1981 م. - أصول السرخسي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، القاهرة 1372. - أصول الفقه وابن تيمية، للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، القاهرة 1405. - أصول مذهب الأمام أحمد، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الرياض 1397. - الاعتصام، للشاطبي، القاهرة: المكتبة التجارية. - الأعلام، للزرِكلي، الطبعة الخامسة، بيروت 1980 م. - إعلام الموقعين عن ربّ العالمين، لابن القيم، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1374.

- أعيان العصر وأعوان النضَر، للصفَدي، الجزء 1، نسخة عاطف أفندي برقم 1809. - الأم، للشافعي، القاهرة: دار الشعب 1388. - الأموال، لأبي عبيد، تحقيق: محمد خليل هراس، القاهرة 1396. - أنساب الأشر اف، للبلاذري، بيروت: دار الفكر 1417. - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1375. - الأولياء، لابن أبي الدنيا، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1413. - إيضاح المكنون في الذيل على كلشف الظنون، لإسماعيل باشا البغدادي، ط. إستانبول. - الإيمان، لشيخ الاسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى). - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد محمد شاكر، ط. مكتبة المعارف، الرياض، 1417. - البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ط. مطبعة السعادة، القاهرة 1328 - 1329. - البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشى، ط. الكويت 1413. - بدائع الصنائع، للكاساني، ط. القاهرة: مطبعة الإمام. - بدائع الفوائد، لابن القيم، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ط. دار الفكر، بيروت. - البداية والنهاية، لابن كثير، ط. القاهرة 1358، وتحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، 1417. - البرهان في أصول الفقه، للجويني، تحقيق: عبد العظيم الديب، الدوحة 1399. - البناية في شرح الهداية، للعيني، ط. بيروت: دار الفكر 1400. - تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدي البلكرامى، ط. المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 - 1307. - تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق: عدنان درويش، دمشق 1994 م. - تاريخ الأمم والملوك، للطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف.

- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ط. القاهرة، 1349. - تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، ط. دار الفكر، بيروت, 1415. - التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: محمد حسن هيتو، دمشق 1400. - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، للحافظ ابن حجر، تحقيق: محمد علي النجار وعلي محمد البجاوي، القاهرة: وزارة الثقافة. - تتمة المختصر في تاريخ البشر، لابن الوردي، بيروت: دار المعرفة 1389. - التحرير مع شرحه التيسير، لابن الهمام، القاهرة 1350. - تخريج أحاديث فضائل الشام ودمثق، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الأسلامي، بيروت، 1403. - تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، لابن جماعة، ط. حيدر آباد. - تذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الفتني، إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1343. - الترغيب والترهيب، للمنذري، ط. المطبعة المنيرية، القاهرة. - التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور، 1406. - التعريفات، للشريف الجرجاني، تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م. - التعقبات على الموضوعات، للسيوطي، ط. المطبع العلوي، لكنو، 1303. - تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء، لابن تيمية، تحقيق: عبد العزيز بن محمد الخليفة، الرياض 1417. - تفسير ابن أبي حاتم، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة- الرياض 1417 - تفسير الطبري (= جامع البيان في تفسير القرآن)، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1373. وتحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1961 - 1970 م. - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط. دار طيبة، الرياض، 1418. - تقويم الأدلة، لأبي زيد الدبّوسي، نسخة مكتبة لاله لي برقم 690. - التلخيص في أصوات الفقه، للجويني، تحقيق: عبد الله جولم وشبير أحمد العمري، بيروت 1417.

- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ ابن حجر، القاهرة 1964. - تلخيص الموضوعات، للذهبي، تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، دار الفرقان، الرياض، 1419. - التمهيد في أصول الفقه، للكلوذاني، ج 4، تحقيق: محمد بن علي بن إبراهيم، مكة المكرمة 1406. - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لابن عراق، مكتبة القاهرة، القاهرة، 1378. - تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، ط. القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. - التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرءوف المناوي، ط. عالم الكتب، المَاهرة، 1410. - تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، 1397. - جامع الأصول في الأولياء، لأحمد ضياء الدين الكمشخانلي، ط. القاهرة، 1328. - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1346. - جامع الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، ط. البابي الحلبي، القاهرة، 1356 - 1382. - الجامع الصحيح، للبخاري (بشرحه"فتح الباري")، المكتبة السلفية، القاهرة، 1380. - الجامع الصغير في حديث البشير النذير، للسيوطي، (بشرحه "فيض القدير"). - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الكتب، القاهرة، 1360. - الجامع لشعب الإيمان، للبيهقي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت. - جامع المسانيد والسنن، لابن كثير، ط. دار الفكر، بيروت، 1415. - جواهر المعاني في فيض أبي العباس التجاني، لعلي حرازم برادة، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1963 م. - حاشية ابن عابدين على الدر المختار= رد المحتار على الدر المختار، القاهرة: بولاق 1272. - الحاوي الكبير، للماوردي، بيروت: دار الكتب العلمية 1414. - حلية الأبدال، لابن عربي، ط. مطبعة الفيحاء، دمشق، 1929 م.

- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. مكتبة الخانجي ومطبعة السعادة، القاهرة، 1932 - 1938 م. - حلية العلماء، للشاشي، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم، بيروت 1400. - الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال (ضمن "الحاوي للفتاوي" 2/ 241 - 255)، للسيوطي، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1353. - ختم الأولياء، للحكيم الترمذي، تحقيق: عثمان إسماعيل يحيى، ط. المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1965 م. - الخراج، لأبي يوسف، تصحيح: محب الدين الخطيب، القاهرة 1352. - دائرة المعارف الإسلامية (بالإنجليزية) الطبعة الجديدة، بريل، ليدن. - درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط. جامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1399. - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد (الهند)، 1348 - 1350. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، ط. دار الفكر، بيروت، 1403. - ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. ليدن، 1931 - 1934 م. - ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1372. - ذيل القول المسدّد في الذب عن المسند للأمام أحمد، لمحمد صبغة الله المدراسي، ط. حيدر آباد، 1400. - ذيل مشتبه النسبة، لمحمد بن رافع السلامي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، بيروت 1976. - الرسالة للشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1358. - رسالة في معنى القياس، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى). - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، للسبكي، نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة. - رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم، لعمر بن سعيد الفوتي، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1963 م. - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للاَلوسي، إدارة الطباعة

المنيرية، القاهرة، 1345. - روض الرياحين في حكايات الصالحين، لليافعي، ط. القاهرة، 1286. - روضة التعريف بالحب الشريف، للسان الدين ابن الخطيب، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الفكر العربي، القاهرة، 1968 م. - روضة الطالبين، للنووي، بيروت 1388. - روضة الناظر بشرحه نزهة الخاطر العاطر، لابن قدامة، القاهرة 1342. - سراج المريدين، لأبي بكر ابن العربي (مخطوط) نسخة دار الكتب المصرية برقم [20348 ت]. - سلسلة الأحاديث الصحيحة (1 - 6)، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. مكتبة المعارف، الرياض. - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1 - 5)، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الاسلامي، بيروت؛ ومكتبة المعارف، الرياض. - سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1372. - سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة، 1371. - سنن الدارقطني مع التعليق المغني للعظيم آبادي، القاهرة 1386. - سنن الدارمي، ط. شركة الطباعة الفنية، القاهرة. - السنن الكبرى، للبيهقي، ط. حيدر آباد (الهند)، 1344 - 1355. - السنن الكبرى، للنسائي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت. - سنن النسائي (= المجتبى)، المطبعة المصرية، القاهرة، 1348. - السنن والآثار، لسعيد بن منصور، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الدار السلفية، بومبي. - السنة، لعبد الله بن أحمد، ط. المطبعة السلفية، مكة المكرمة، 1349. - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق: مجموعة من المحققين، بيروت: مؤسسة الرسالة. - السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1355. وط. همام عبد الرحيم سعيد، عمان 1409.

- السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني، لمحمد المكي بن مصطفى بن عزوز، ط. تونس، 1310. - سيف الله على من كذب على أولياء الله، لصنع الله الحلبي الحنفي، ط. دار الوطن، الرياض، 1420. - شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، للعز بن عبد السلام، تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الطباع، دمشق، 1410. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان، ط. دار طيبة، الرياض، 1409. - شرح تنقيح الفصول، للقرافي، القاهرة 1393. - شرح الخرشي على مختصر خليل، بيروت: دار صادر، د. ت. - شرح صحيح مسلم، للنووي، ط. القاهرة 1349. - الشرح الكبير على المقنع، لشمس الدين ابن قدامة، بيروت 1392. - شرح الكوكب المنير، للفتوحي، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكة المكرمة 1408. - شرح اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت 1408. - شرح مختصر الروضة، للطوفي، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت 1407. - شرح مسلم الثبوت= فواتح الرحموت، لبحر العلوم اللكنوي، القاهرة: بو لاق 1324. - شرح معاني الآثار، للطحاوي، القاهرة 1968 - 1969 م. - شرح مقدمة التائية الكبرى، لداود القيصري، (مخطوط) نسخة أياصوفيا برقم [1898]. - شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، بيروت: عالم الكتب. - شرح المواهب اللدنية، للزرقاني، ط. بولاق، 1291. - شرح أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، تحقيق: محمد سعيد خطيب أوغلي، ط. أنقرة، 1971 م. - الشريعة، للاَجري، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط. مطبعة السنة المحمدية،

القاهرة، 1369. - شفاء السائل لتهذيب المسائل، لابن خلدون، تحقيق: محمد بن تاويت الطنجي، إستانبول، 1958 م. - شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور، لمرعي بن يوسف الكرمي، تحقيق: جمال بن حبيب صلاح، ط. الرياض، 1418. - صحيح ابن حبان (بترتيبه "الإحسان" لابن بلبان الفارسي)، تحقيق: شعيب الأرناووط، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت. - صحيح ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، بيروت 1400. - صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1375. - الصلة بين التصوف والتشيع، لكامل مصطفى الشيبي، ط. القاهرة، 1969 م. - ضحى الإسلام، لأحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1936 م. - طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1371. - الطبقات الكبرى، لابن سعد، بيروت: دار صادر 1385. - الطبقات الكبرى (= لواقح الأنوار في طبقات الأخيار)، لعبد الوهاب الشعراني، ط. المطبعة الشرفية، القاهرة، 1315. - طرح التثريب بشرح التقريب، للعراقي وابنه، ط. القاهرة 1353. - العُدَة في أصول الفقه، لأبي يعلى، تحقيق: أحمد بن علي سير المباركي، الرياض 1410. - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، لابن عبد الهادي، القاهرة 1356. - غاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الاَلوسي، ط. لاهور، 1403. - فتاوى ابن الصلاح، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الوعي، حلب، 1403. - الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1970 م. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، القاهرة 1380. - فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الأخوان، للحلبي، ط. القاهرة، 1312. - فتح القدير للعاجز الفقير، لابن الهمام، القاهرة 1315.

- الفتوح، لابن أعثم، بيروت: دار الكتب العلمية. - الفتوحات المكية، لابن عربي، تحقيق: عثمان يحيى، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1972 م. - فتوى فيمن يدعى أن ثمَ غوثًا وأقطاباً، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (مخطوطة) نسخة جامعة برنستون، برقم [5542]. - فردوس الأخبار، للديلمي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، 1407. - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ضمن "مجموع الفتاوى"). - الفصول في الأصول، للجصاص الرازي، نسخة دار الكتب بالقاهرة. - فضائل الشام ودمشق، للربعي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، المجمع العلمي العربي، دمشق، 1950 م. - الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1400. - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، للشوكاني، تحقيق: عبد الرحمن بن يحى المعلمي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1380. - فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، الجزء الأول، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1973 م. - فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرءوف المناوي، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة، 1356 - 1357. - فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن قل عن الصواب، لعبد ربه بن سليمان القليوبي، ط. القاهرة، 1964 م. - قاعدة في الاستحسان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، قرأها وعلق عليها: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1419. - قوت القلوب في معاملة المحبوب، لأبي طالب المكي، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1310. - القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال، لنوح أفندي بن مصطفى الرومي، (مخطوط)، نسخة دار الكتب المصرية برقم [تصوف 249].

- القياس في الشرع الإسلامي، لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، القاهرة 1346. - الكامل في التاريخ، لابن الأثير، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، ط. دار الفكر، بيروت. - كرامات الأولياء، لأبي محمد الخلال، (مخطوط) نسخة دار الكتب الظاهرية، [حديث 248]. - كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد أعلى التهانوي، ط. كللكتا (الهند)، 1862 م. - كشاف القناع عن متن الاقناع، للبهوتي، القاهرة 1366. - كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعبد العزيز البخاري، استانبول 1308. - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل العجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1401. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، ط. إستانبول 1941 م. - كشف المحجوب، لعلي بن عثمان الهجويري، دار النهضة، بيروت، 1980 م. - كشف الوجوه النز لمعاني نظم الدر، للقاشاني، ط. القاهرة، 1319 - 1320. - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعلي المتقي البرهانفوري، ط. حلب، 1390. - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، المطبعة التجارية الكبرى، القاهرة، 1963 م. - لسان الميزان، لابن جحر، ط. دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد، 1329 - 1331. - المبسوط، للسرخسي، ط. دار المعرفة، بيروت. - مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/ 371/1953 - 395. - مجلة "المسلم" (القاهرة). - مجلة "المنار" (القاهرة). - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1932 - 1934 م. - المجموع شرح المهذب، للنووي، القاهرة: إدارة الطباعة المنبرية، د. ت. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن

قاسم وابنه محمد، ط. الرياض، 1381 - 1386. - مجموعة الرسائل [الصغرى]، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط. القاهرة، 1323. - مجموعة الرسائل الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، القاهرة 1323. - مجموعة الرسائل والمسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تصحيح: السيد محمد رشيد رضا، ط. مطبعة المنار، القاهرة، 1349. - مجموعة الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، القاهرة 1329. - المحصول في أصول الفقه، للرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، الرياض 1399. - المحلى، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1347 - 1352. - مختصر ابن الحاجب بشرح العضد، القاهرة: بولاق 1316. - مختصر اختلاف العلماء، للجصاص، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، بيروت 1416. - مختصر الخرقي، ط. دمشق 1402. - مختصر العلو للذهبي، اختصار محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1401. - مختصر الفتاوى المصرية، للبعلي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م. - مختصر القدوري، ط. القاهرة 1377. - مختصر المزني بهامش كتاب الأم، القاهرة: دار الشعب 1388. - المختصر في أصول الفقه، لابن اللحام، تحقيق: محمد مظهر بقا، مكة المكرمة، 1400. - المدونة، رواية سحنون، القاهرة: مطبعة السعادة. - مرآة الأصول، لمنلا خسرو، استانبول 1272. - مرقاة المفاتح لمشكاة المصابح، لملاّ علي القاري، المطبعة الميمنية، القاهرة، 1309. - مسائل الأمام أحمد، رواية أبي داود، ط. بيروت: محمد أمين دمج، د. ت. - مسائل الأمام أحمد، رواية صالح، تحقيق: فضل الرحمن دين محمد، دلهي 1408. - المستدرك على الصحيحين، للحاكم، ط. حيدر اباد (الهند)، 1334.

- المستصفى، للغزالي، ط. القاهرة: بولاق 1322. - المسند، للأمام أحمد بن حنبل، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313. وتحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1367. - مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، - مسند الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الهند، 1381. - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تحقيق: محمد محصي الدين عبد الحميد القاهرة 1384. - مشتبه النسبة، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، القاهرة 1962 م. - مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني، لمحمد خضر الشنقيطي، دار البشائر، عمان، 1405. - مشكاة المصابح، للتبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت. - المصباح المنير، للفيومي، القاهرة: بو لاق 1323. - مصنف ابن أبي شيبة، ط. الدار السلفية، بومبي 1399. - المصنَّف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1392. - المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري، تحقيق: محمد حميد الله، دمشق 1385. - معجم البلدان، لياقوت الحموي، بيروت: دار صادر. - المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط. وزارة الأوقات، بغداد، 1398. - المعدن العدني في فضل أويس القرني، تحقبق: إبراهيم الحازمي، ط. الرياض، 1411. - المعدول به عن القياس: حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية منه، للدكتور عمر بن عبد العزيز، المدينة المنورة 1408. - المغني، لابن قدامة، ط. القاهرة 1367. وتحقيق التركي والحلو، القاهرة 1413.

- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للسخاوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1375. - مقدمة ابن خلدون، ط. المطبعة الأدبية، بيروت، 1900 م. - المقدمة في الأصول، لابن القصار، تحقيق: محمد السليماني، بيروت 1996 م. - ملخص إبطال الرأي والقياس والاستحسان، لابن حزم، تحقيق: سعيد الأفغاني، دمشق 1389. - الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، ط. البابي الحلبي، القاهرة 1381. - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة، ط. مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1414. - منازل القطب، لابن عربي (ضمن "رسائل ابن عربي")، ط. حيدر اباد، 1361 - 1367. - منتخب كنز العمال، لعلي المتقي البرهانفوري، بهامش "مسند أحمد"، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313. - المنتظم، لابن الجوزي، بيروت: دار الكتب العلمية. - المنتقى للباجي، القاهرة: مطبعة السعادة 1332. - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1406. وط. بولاق 1320 - 1322. - موارد الظمآن بزوائد ابن حبان، للهيثمي، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، د. ت. - الموافقات، للشاطبي، القاهرة 1341. - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للقسطلاني، ط. القاهرة، 1326. - الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة، لعبد العليم البستوي، ط. المكتبة المكية، مكة المكرمة، 1420. - الموضوعات، لابن الجوزي، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1965 - 1968 م. - موطأ مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي،

القاهرة 1370. - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، ط. عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1963 - 1964 م. - الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد، تحقيق: محمد بن صالح المديفر، الرياض 1418. - الناسخ والمنسوخ، للنحاس، القاهرة 1938 م. - نشر المحاسن الغالية (أو: كفاية المعتقد)، لليافعي، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، ط. الحلبي، القاهرة، 1410. - نص النصوص، لحيدر بن علي العلوي الآملي،) مخطوط! نسخة مكتبة مجلس الأمة بطهران، [ملحق رقم 19]. - النفحات الشاذلية في شرح البردة البوصيرية، لحسن العدوي الحمزاوي، ط. بولاق، القاهرة، 1297. - نوادر الأصول، للحكيم الترمذي، ط. إستانبول، 1293. - هدية العارفين بأسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا البغدادي، ط. إستانبول 1951 م. - الواضح في أصول الفقه، لابن عقيل، ج 1، نسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق، برقم 2872 عام. وتحقيق عبد الله التركي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1420. - الوافي بالوفيات، للصفَدي، الجزء 7، تحقيق: إحسان عباس، بيروت 1982. - الوصول إلى الأصول، لابن برهان، تحقيق: عبد الحميد علي أبو زنيد، الرياض 1404. - اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، لعبد الوهاب الشعراني، المطبعة الحجازية، القاهرة، 1352. ***

§1/1