جامع المسائل لابن تيمية ط عالم الفوائد - المجموعة الأولى

ابن تيمية

•مقدمة التحقيق

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وفتاواه ومسائله التي لم تنشر من قبل، استخرجتها من مجاميع مخطوطة في مكتبات عديدة، بعد العكوف عليها طويلاً ومراجعة الرسائل الموجودة فيها والتمييز بين ما طبع منها وما لم يطبع. وقد كان يُظَن إلى عهد قريب أن أكثر آثار شيخ الإسلام الموجودة في المكتبات طبعت ونشرت ضمن مجاميع ومؤلفات مستقلة، وإذا بي أقف على عددٍ من كتبه الكبيرة ورسائله الصغيرة لم يُنشَر حتى الآن، وخاصةً تلك التي وصلت إلينا بخطه المعروف الذي يصعب قراءته حتى على المتخصصين في قراءة الخطوط القديمة. فأحببتُ أن أسهم في نشر ما وقفتُ عليه منها. وهذه المجموعة الأولى من سلسلةٍ تضم رسائل وفتاوى وقواعد مختلفة سميتُها "جامع المسائل". وقد سبق أن نُشِر عدد كبير من مؤلفات شيخ الإسلام ورسائله في كتب مستقلة وضمن مجاميع، وفي الآونة الأخيرة زاد الاهتمام بنشر مؤلفاته، وتسابق الناشرون والمحققون إلى طبعها أكثر من مرة، واستلّ كثير منهم بعض الكتب والرسائل من "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض)، ونشروها بدون الرجوع إلى المخطوطات القديمة التي وصلت إلينا بخط المؤلف أو أحد تلاميذه. وذلك لعدم وجود فهرس

وافٍ بجميع مؤلفات شيخ الإسلام، ونسخها الخطية وأماكن وجودها، وطبعاتها المختلفة التي ظهرت حتى الآن، وما صدر حولها من دراسات، على نحو مؤلفات الغزالي وابن سينا وابن رشد وغيرهم. وقد صنع بعض الباحثين قوائم لمؤلفات شيخ الإسلام في مقدمات كتبه المنشورة أو في دراسات مفردة، ولكنها ليست وافيةً بالمقصود، وفيها من الأوهام والخلط والتكرار ما يحتاج بيانه إلى دراسة مستقلة. وقلَّما انتبه أصحابها إلى أنَ ما ذُكر في المصادر القديمة بعنوان ..... توجد نسخه الخطية في مكتبات العالم بعنوان/عناوين ..... ونُشِر بعنوان/عناوين ..... في رسالة مفردة أو ضمن مجاميعِ. وأذكر هنا مثالا واحدا، فالرسالة "البعلبكية" (التي ذكرها ابن رُشيِّق وابن عبد الهادي) توجد منها عدة نسخ خطية أقدمُها بعنوان "رسالة في العقائد" (قُرِئَتْ على المؤلف سنة 718، وعليها إجازته بخطه). وهناك نسخ أخرى بعناوين مختلفة. وقد طبعت ضمن "مجموعة الرسائل" (ط. القاهرة 1328) بعنوان "الرسالة البعلبكية"، وفي "مجموعة الرسائل المنيرية" (2/ 50 - 83) بعنوان "قاعدة نافعة في صفة الكلام"، وفي "مجموعة الرسائل والمسائل" (3/ 89 - 112) بلا عنوان، وفي "مجموع الفتاوى" طبعة الرياض (12/ 117 - 161) كذلك غُفْلاً من العنوان. فالذي يتصدّى لذكر المؤلفات يذكر هذه الرسالة بعناوين مختلفة، ويظنها كتبًا مستقلةً، ثم لا يعرف أنها المنشورة ضمن "مجموع الفتاوى". هذا ما دَفَعني منذ مدة إلى البحث والتنقيب عن مؤلفات شيخ الإسلام في مجاميع غير معروفة، وفي مكتباتٍ لم تنشر فهارسها حتى الآن أو نُشِرتْ حديثاً. ولدفي النية أن أتجه إلى حَصْر جميع المخطوطات

-هذه المجموعة

والمطبوعات وما نُشِر حولها من دراسات، في كتاب يضمّ بين دفَّتَيه - إن شاء الله - عناوينَ جميع مؤلفات شيخ الإسلام، وما وَصَل إلينا منها مخطوطًا ومطبوعًا، وما تُرجم منها إلى لغات أخرى، وما عُمِل حولها من شروح أو اختصارات أَو دراسات. أدعو الله أن يعينني على إكمال هذا المشروع، وأن يوفقني لنشر مالم ينشر من تراث الشيخ وإكمال ما نشر ناقصًا ومشوَّهًا، ويجعل هذا العمل نافعًا للعلماء والباحثين وعامة المسلمين. • هذه المجموعة تحوي هذه المجموعة خمسًا وعشرين رسالة وفتوى ومسألةً، يوجد أكثرها ضمن مجاميع خطية في مكتبة جامعة برنستون، وقد آلت إليها من مكتبة الشطّي (1) بدمشق التي كانت فيها نوادر المخطوطات ونفائس كتب الفقه والحديث، وخاصةَ للمؤلفين الحنابلة. كانت محتويات هذه المكتبة مفقودة منذ أكثر من قرن، حتى أصدرت جامعة برنستون عام 1397/ 1977 م فهرسًا للمخطوطات العربية المحفوظة في قسم يهودا من مجموعة جاريت بمكتبة الجامعة، من إعداد رودلف ماخ، فظهر للباحثين أنها انتقلت إلى برنستون، ولا زالت محفوظةً هناك. وسيلاحظ القارئ أن ست رسائل من هذه المجموعة (بأرقام 18 - 23) تتناول موضوع الطلاق السني والبدعي وجمع الطلاق الثلاث

_ (1) هو الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطّي، إمام الحنابلة في الجامع الأموي، توفي سنة 1295. كان قد اجتمع عنده من الكتب النفيسة مالم يجتمع عند غيره، فأوقف البعض منها، وبيع غالبها في تركته. انظر "روض البشر" لمحمد جميل الشطي (ص 146) و"حلية البشر" للبيطار (2/ 848 - 850).

وحكمه، وعندما يعرف أن ما نُشِر لشيخ الإسلام في هذا الباب شيءٌ قليلٌ (1)، يُدرك أهمية هذه المجموعة الجديدة من الرسائل والفتاوى، التي كانت عمدةً لتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية (2) وغيره ممن تكلم في هذا الموضوع. وتفيدنا هذه الرسائل في توضيح اختيارات شيخ الإسلام (3) في موضوع الطلاق، التي خالف فيها مذاهب الأئمة الأربعة والمشهور من أقوالهم، وقد نُسِب الشيخُ فيها إلى مخالفة الإجماع، لندور القائل بها وخفائه على كثير من الناس، ولحكاية الإجماع على خلافها، وجرى له بسبب الإفتاء بها مِحَنٌ وقلاقل في حياته. ومن اختياراته المشهورة في هذا الباب: قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق، وإن الطلاق الثلاث جملةً لا يقع إلا واحدة، وإن الطلاق المحرَّم لا يقع، وله في ذلك مصنّفات ومؤلفات كثيرة ذكر المترجمون له عناوين بعضها، وهي:

_ (1) ضمن "مجموعة الفتاوى الكبرى" (3/ 2 - 79) و"مجموع الفتاوى" (المجلد الثالث والثلاثين). (2) في "إغاثة اللهفان" (1/ 283 - 338) و"إعلام الموقعين" (3/ 41 - 62،287 - 288) و"زاد المعاد" (5/ 220 - 248) و"الطرق الحكمية" (ص 16 - 17). (3) انظر لهذه الاختيارات: "العقود الدرية" 322 - 325 (وعنه بدون ذكر المصدر في "مجموعة الفتاوى الكبرى" 3/ 79 - 80)؛ و"رسالة في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية" لبرهان الدين إبراهيم بن محمد ابن قيم الجوزية" و"اختيارات شيخ الاسلام" لابن عبد الهادي (مخطوطة)؛ و"اختيارات ابن تيمية" لصلاح الدين العلائي (مخطوطة)؛ و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 404 - 405)، و"شذرات الذهب" لابن العماد 6/ 84 - 85 "وعنه في "جلاء العينين" 284 - 285)، و"مجموع المنقور" 1/ 49 - 50؛ ونظم اختيارات شيخ الإسلام لسليمان بن سحمان، ضمن "ملتقى الأنهار من منتقى الأشعار" ص 134 - 148.

1 - "تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان" (قاعدة كبيرة نحو أربعين كراسة). 2 - "الفرق المبين بين الطلاق واليمين" (قاعدة بقدر النصف من ذلك). 3 - "قاعدة في أن جميع أيمان المسلمين مكفرة" (مجلد لطيف). 4 - "قاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة". 5 - قاعدة سماها "التفصيل بين التكفير والتحليل". 6 - الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق (ثلاث مجلدات). 7 - "لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف". 8 - "الاجتماع والافتراق في الحلف بالطلاق". 9 - "قاعدة في أن المطلقة بثلاثة لا تحل إلاّ بنكاح زوج ثان". 10 - "بيان الحلال والحرام في الطلاق" (= "البغدادية"). 11 - "جواب من حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثم طلَّق ثلاثًا في الحيض". 12 - "الطلاق البدعي لا يقع". 13 - "مسائل الفرق بين الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك". 14 - "الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا". وغير ذلك من القواعد والأجوبة التي لا تنحصر ولا تنضبط. وقد

بيَّض أصحاب الشيخ كثيرًا منها، وكثيرٌ منها لم يُبَيَّض، ومجموع ذلك نحو العشرين مجلَّدّا (1). وقد ضاع - مع الأسف - أكثر هذه الكتب والرسائل، ولم يصل إلينا منها إلاّ شيء قليل كما سبقت الإشارة إليه، ومنها هذه الرسائل التي تُنشر هنا لأول مرة. وإلى جانب هذه الرسائل الخاصة بالطلاق هناك رسائل أخرى مهمة في هذه المجموعة، منها رسالتان (برقمي 7،8) في التفسير، ورسالتان (برقمي 9،10) في شرح الحديث، وفتوى في العشق (برقم 12)، وقاعدة في أفعال الحج (برقم 15)، وفصل في معنى الحيّ القيوم (برقم 1)، وفتوى في الغوث والأقطاب والأبدال (برقم 3)، وقاعدة في الصبر (2) (برقم 14)، وقاعدة في إثبات علو الله على خلقه (برقم 2) وغيرها. ولم يرد ذكر أكثر هذه الرسائل في مصادر ترجمة الشيخ، ولا غرابة في ذلك، فلم يدَّع أحد من المترجمين له أنه استقصى جميع مؤلفاته ورسائله. وقد ذكَر ابن عبد الهادي (3) أن "له من الكلام على مسائل العلو والاستواء والصفات الخبرية وما يتعلق بذلك من الرد على الجهمية والقدرية والجبرية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع ما يشتمل على مجلدات كثيرة. وله من الكلام على فروع الفقه والأجوبة المتعلقة بذلك شيء كثير يشقّ إحصاؤه ويعسر ضبطه". وقال بعدما ذكر عددًا كبيرًا من مؤلفاته (4): "وله من الأجوبة

_ (1) "العقود الدرية": 38. وفي "الوافي بالوفيات" (7/ 29) أنها تُقدَّر بخمسة عشر مجلدًا. (2) هي رسالة صغيرة، ويبدو أنها غير "قاعدة في الصبر والشكر" التي ذكرها ابن رشيق في رسالته (ص 236)، ووصفها بأنها نحو ستين ورقة. (3) "العقود الدرية": 51. (4) المصدر نفسه: 64.

والقواعد شيء كثير غير ما تقدم ذكره، يشق ضبطه وإحصاؤه، ويعسر حصره واستقصاؤه". ونقل عن الشيخ أبي عبد الله [ابن رشيق]: "لو أراد الشيخ تقي الدين - رحمه الله - أو غيرُه حَصْرَها لما قدروا". وقال ابن رجب (1): "وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى فلا يمكن الإحاطة بها لكثرتها وانتشارها". وعلى هذا فيجب التأكد من صحة نسبة أي كتاب أو رسالة أو فتوى إلى شيخ الإسلام بالوجوه الآتية: (أ) أن تكون هذه الرسالة بخط الشيخ نفسه، وحينئذٍ نثبتها له سواء ذكرها المترجمون له أو لم يذكروها، ومن أمثلة القسم الثاني: "الرد على نهاية العقول للرازي" الذي وصل إلينا بخطه، ولم أجد أحدًا ذكره قديمًا وحديثاً. (ب) أن تكون الرسالة منقولةً من أصل الشيخ ومنسوخة بخط تلاميذه وغيرهم، مثل ابن المحبّ وابن رشيّق وآخرين. وأكثر رسائل هذه المجموعة من جامعة برنستون ينطبق عليها هذا الوصف، فلا يُشَك في صحة نسبتها إلى المؤلف. (جـ) أن تكون الرسالة بخطّ متأخر، وبعد دراستها يظهر أنها له، كأن يشير فيها إلى كتبه الأخرى، أو يكون موضوعها مما كتب فيه الشيخ كثيرًا، وتكون الآراء الموجودة فيها متطابقةً مع ما في كتبه المعروفة، وأسلوبه فيها هو أسلوبه المعروف في سائر كتبه.

_ (1) "ذيل طبقات الحنابلة": (2/ 404). وانظر نصوصًا أخرى للمترجمين له في "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية": 220، 418، 419، 446، 486، 519،558،614.

-وصف النسخ الخطية

(د) أن يقتبس منها المؤلفون، أو يدرجوها بتمامها وينسبوها إلى الشيخ. ومن الأمثلة المعروفة لها تلك الرسائل والنصوص التي وصلت إلينا ضمن "الكواكب الدراري" لابن عروة الحنبلي، و"العقود الدرية" لابن عبد الهادي، ومؤلفات ابن القيم وابن مفلح وغيرهما. ولم أدخل في هذه المجموعة شيئا إلاّ بعد التأكد من صحة نسبته إلى الشيخ، وفيما يلي وصف النسخ الخطية لكل رسالة حسب ورودها في الكتاب. • وصف النسخ الخطية ذكرتُ فيما سبق أن أكثر رسائل هذه المجموعة من مكتبة جامعة برنستون، وقد أضفت إليها خمس رسائل عثرتُ عليها في مكتبات مختلفة. ووجدتُ لثلاث منها نسخًا أخرى، فاستفدت منها في التصحيح والمقابلة. وراعيتُ عند ترتيبها الموضوعات التي تتناولها، فقدَّمتُ ما يتعلق منها بالعقيدة ثم التفسير ثم الحديث ثم الفقه. وفيما يلي وصف الأصول المعتمدة لكل رسالة: (1) "فصل في معنى اسمه الحي القيوم": توجد نسخة فريدة منه في مكتبة المسجد الأقصى بالقدس، ضمن مجموعة برقم [2] (الورقة 1 - 12)، جاء في آخرها: "كان الفراغ من المسألة العظيمة الجليلة القدر يوم السبت سابع وعشرين من شوال سنة 765، محمد ابن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام ابن نصر، عفا الله عنهم ولطف بهم وبسائر المسلمين". ويبدو لي أن هذه الخاتمة كانت في الأصل المنسوخ عنه، فنقلها ناسخ هذه النسخة الحديثة الخط، التي كتبت بخط الرقعة في أوائل

القرن الرابع عشر تقديرًا. وناسخ الأصل من آل قدامة المعروفين بالعلم والفضل من الحنابلة، له ترجمة قصيرة في "الدرر الكامنة" (3/ 345) و"إنباء الغمر" (1/ 127)، وفي الثاني أنه توفي سنة 776. وفي رأس الصفحة الأولى من النسخة: "فائدة في اسم القيوم سبحانه وتعالى لا إله إلاّ هو، تأليف شيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه. وهي من خطّه الجديد الدمشقي". وهذا يفيد أن الرسالة من مؤلفات الفترة الأخيرة من حياته التي استقر فيها بدمشق وتفرغ للتأليف والكتابة. وقد قدَّم ناسخ الأصل للرسالة بنقول من كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم، منها قوله نقلاً عن شيخ الإسلام: "من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: يا حي يا قيوم لا إله إلاّ أنت برحمتك أستغيث، حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه". ثم قال الناسخ: "سمعتُ الشيخ الإمام العالم فريد عصره ووحيد دهره لسان العرب وحجة الأدب وترجمان القرآن وشيخ الإسلام الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن عبد الله بن شيخ الإسلام أبي عمر محمد - فسح الله في مدته ومتَّعنا به - يقول: لو اجتمع القاضي أبو يعلى وابن عقيل في شهبر لم يعملوا مثلها، وعملها الشيخ رضي الله عنه على البديه". وشرف الدين أحمد هذا مترجم في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 453) و"الدرر الكامنة" (1/ 120). وهو من تلاميذ شيخ الإسلام، قرأ عليه مصنفاتٍ في علوم شتى، وأجازه الشيخ بالإفتاء. وكانت وفاته في رجب سنة 771. ولشيخ الإسلام رسالة أخرى في هذا الموضوع نشرت بعنوان

"فصل في اسمه تعالى القيوم" (1)، وفيها مباحث أخرى تتعلق بهذا الاسم ينبغي مراجعتها. (2) "قاعدة جليلة في إثبات علو الله تعالى على خلقه": توجد نسختها ضمن مجموع في مكتبة تشسشر بيتي برقم [3537] (الورقة 86 أ-ب)، وهذا المجموع بخط نسخي جميل، ويحتوي على رسائل ومسائل عديدة لشيخ الإسلام، وفي آخرها: "نجزت المسائل بحمد الله تعالى وحسن توفيقه على يد أضعف خلقه الراجي عفو ربّه علي بن حسن بن محمد الحرَّاني في ثاني عشر من ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة، غفر له ولوالديه ولمالكها ولمن قرأ فيها وجميع المسلمين". وقد اطلع الشيخ محبّ الدين الخطيب على هذه النسخة في بداية نشأته العلمية سنة 1318 لما كان في الخامسة عشرة من عمره، فنقل منها مسائل، ولا زالت نسخته محفوظة في مكتبة المسجد الأقصى برقم [1] (ق 14 - 29) بعنوان "مجموعة مسائل دينية متعددة". ويستنبط منه أن الأصل كان في دمشق في أوائل القرن الرابع عشر، ثم انتقل إلى إيرلندا، واستقر في مكتبتها. (3) "فتوى فيمن يدعي أنَّ ثمَّ غوثًا وأقطابًا وأبدالاً": هذه الفتوى غير الفتوى التي وصلت إلينا بخطه، والتي سندرجها في المجموعة الثانية من "جامع المسائل"، وفي كل منهما فوائد ومباحث لا توجد في الأخرى.

_ (1) ضمن "تفسير آيات أشكلت" (1/ 421 - 443)، وليست منه، وقد كانت ملحقة به في بعض النسخ مثل غيرها من الرسائل، فظنَّ المحقق جميعها من الكتاب المذكور، ونشرها معه!!.

توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [5542] (الورقة 1 ب-7 ب)، وهي مكتوبة بخط نسخي جميل، وليس عليها تاريخ النسخ، وهي من القرن العاشر تقديرًا. وقد ورد في صفحة عنوانها: "سؤال رفع لشيخ الإسلام والحبر الهمام والعلامة الإمام، فريد العصر والأوان، وحيد الدهر والزمان، علاّمة المسلمين فهّامة المحققين الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله بمنه". وفي الركن الأيسر منها من فوق: "من كتب الفقير الغريب أحمد نجيب 1288". وتحته: "ما زالت تسوقه أقدار اللطيف إلى دخوله سلك مِلكِ العبد الضعيف صاحب هذا الرقيم، ابن أبي بكر الصالحي إبراهيم ثم الحنبلي". ثم ختم الشخص المذكور. ولم أجد ترجمة الرجلين فيما بين يديّ من المصادر. (4) "فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان": يوجد أصله بدون عنوان مع المجموعة السابقة (الورقة 8 أ-10 ب) وبخطها، وفي آخره: "تمت الرسالة بحمد الله وعونه لشيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين ..... ". (5) "مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال": توجد منها نسختان، الأولى في مكتبة جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 44 ب-45 ب). وهي نسخة ناقصة، تنقصها ثلاث أوراق من أثنائها. وهي بخط نسخي جيد، وقد كتبت في حياة شيخ الإسلام كما يظهر من عبارة الناسخ التي في آخرها: "فرغ من تعليقها والمسألة التي قبلَها (1) أقل عَبيد الله: أيوب بن أيوب بن صخر بن أيوب بن صخر بن أبي الحسن بن بقا بن مساور العامري الحمصي، رحمه الله ورحمَ والديه ومن استغفر له

_ (1) هي الآتية برقم 9.

ولهم، ورحم جميع المسلمين المؤمنين، في نهار الجمعة يوم عاشوراء من شهر المحرم من شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة". وعلى صفحة العنوان منها: "فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله تعالى عنه وعنّا به (1)، آمين". وتحته إلى اليسار: "قد ساقه القدر لأحقر البشر عبد السلام بن المرحوم الشيخ عبد الرحمن الشطي الحنبلي، عُفِي عنه". والنسخة الثانية تامة وهي في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [2758] (الورقة 92 أ-97 أ) ضمن مجموعة كان الفراغ من نسخها في رجب سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، والنسخة بخط نسخي لا بأس به. وفي آخر الرسالة من هذه النسخة: "بلغت المقابلة على الأصل"، ولكنها لم تُفِد كثيرًا، ففيها أخطاء فادحة وخاصةً في أسماء الأعلام. (6) "مسألة في رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه": ضمن مجموعة في مكتبة جامعة برنستون برقم [276] (الورقة 156 ب- 158 ب)، وهي بخط نسخي متأخر لعله من القرن الحادي عشر. (7) "قاعدة شريفة في تفسير قوله تعالى (أَغيرَ اللهِ أَتخذُ وَليا ...) ": هي من مجموعة نفيسة تحوي عدة رسائل لشيخ الإسلام، في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 70 ب-81 ب). وكلّها بخط واحد، وناسخها محمد بن أبي شامة الحنبلي كما في الورقة 52 ب، وقد فرغ من نسخ بعضها في شعبان سنة 814 كما في الورقة 29 ب. وقد أفاد الناسخ في صفحة العنوان أن الشيخ كتب هذه القاعدة

_ (1) هذا توسل غير مشروع.

بقلعة دمشق في آخر عمره. (8) "فصل في سورة حم السجدة": هو من المجموعة السابقة في برنستون برقم [1377] (الورقة 43 ب-45 ب). وقد سبق وصفها. (9) "فصل في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "أتدري ماحق الله على العباد؟ ": توجد منه نسختان، الأولى في جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 42 ب-44 ب)، والثانية في دار الكتب الظاهرية برقم [2758] (الورقة 88 أ-92 أ). وقد سبق وصفهما برقم (5). (10) "فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سيد الاستغفار أن يقول العبد ... ": ضمن مجموعة في جامعة برنستون برقم [4095] (الورقة 8 أ-10 ب)، بخط محمد بن إسحاق التميمي داري نسبًا الحنفي مذهبًا. ولم يذكر تاريخ النسخ، ولعله من القرن التاسع تقديرًا. وعنوانه على صفحة الغلاف: "شرح حديث سيد الاستغفار". وقد ذكر ابن عبد الهادي في "العقود الدرية" (ص 40) وابن رشيِّق في "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 237 من "الجامع لسيرة شيخ الإسلام") أن للشيخ "قاعدة في الاستغفار وشرحه وأسراره"، ولعلها غير الفصل الذي ننشره هنا. وقد كتب في أسفل صفحة العنوان: "دخل في ملك الفقير إليه تعالى الحاج علي بن الحاج عثمان اللبدي الحنبلي، عفا عنه مولاه، آمين"، وتحته ختمه وسنة 1269. (11) "قاعدة في الصبر": توجد منها نسختان، إحداهما في مكتبة جامعة برنستون برقم [4095] (ق 1 أ-8 أ)، وقد سبق وصفها برقم (10). والثانية في مكتبة جامعة ليدن برقم [2990] (في خمس صفحات)، كتبت سنة 808. وكانت أولاً في مكتبة السيد أمين

المدني بالمدينة المنورة، ثم باعَها ضمن ما باع من النفائس، فانتقلت إلى دار بريل المشهورة، وتوجد حاليًّا بمكتبة جامعة ليدن، ولها فهرس من إعداد لاندبرج. (12) "فتوى في العشق": توجد نسختها في مكتبة مولانا آزاد بجامعة علي كره (الهند) برقم [16/ 17 عربية-فقه حنبلي] (4 ورقات)، وقد انتقلت إليها من مكتبة الشيخ حبيب الرحمن الشرواني التي كانت في قريته حبيب كنج واشتهرت ببعض المخطوطات النادرة. والنسخة بخط نسخي جيد، وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلها من القرن العاشر. وقد كتب على صفحة العنوان: "سؤال رُفِع لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، في رجل عاشق في صورة. نفع الله به آمين". (13) "مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها": توجد نسختها الخطية ضمن مجموعة في مكتبة تشستر بيتي برقم [3537] (الورقة 87 أ- 89 أ]. وقد سبق وصفها فيما مضى برقم (2). (14) "مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة": هي ضمن مجموعة في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 37 أ-ب). وقد سبق وصفها برقم (7). (15) "قاعدة في أفعال الحج": نسختها في مكتبة جامعة ليدن برقم [2989] (في 7 ورقات). جاء في آخرها: "تمت بحمد الله تعالى وعونه في ليلةٍ يُسفِر صباحُها عن سادس جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وثمان مئة، والحمد لله رب العالمين ... ". وكتب على صفحة العنوان بخط متأخر: "هذه الرسالة بخط العلامة بيدكين التركماني

الحنفي تلميذ ابن تيمية الحراني"، ثم شطب عليها. (16) "فتوى في البيع بفائدةِ إلى أجل": توجد نسختها الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [3890] (الورقة 45 ب-47 ب)، وهي ضمن مجموعة مهمة من رسائل الشيخ وفتاواه نقلها أحمد بن عبد الله بن المحب من خط الشيخ في 21 من رجب سنة 747. وقد قوبلت على الأصل المنقول منه، فلم يبق فيها تحريف أو سقط. (17) "مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح": هي في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 46 ب-52 ب). وقد سبق وصف هذه المجموعة برقم (7). (18 - 23) ست رسائل في الطلاق، وكلها في مكتبة جامعة برنستون بالأرقام التالية: 1 - [1384] (الورقة 31 ب-42 أ). 2 - [1384] (الورقة 29 ب-30 ب). 3 - [3890] (الورقة 1 ب-10 ب). 4 - [1384] (الورقة 14 أ-23 ب). 5 - [3890] (الورقة 11 أ-31 أ). 6 - [2992] (الورقة 98 ب-102 ب). وقد سبق وصف المجموعة ذات الرقم [3890]، وذكرنا أنها بخط أحمد بن عبد الله بن المحب، أما المجموعة ذات الرقم [1384] فهي أيضًا بخط أحمد بن عبد الله بن المحب، ومنقولة من مسوَّدة

المؤلف ومقابلة عليها، وليس عليها تاريخ النسخ، ولكنّا نعرف أن الناسخ توفي سنة 749، فتُعتَبر هذه المجموعة قديمة وموثقة. ومما يوسف له أن بعض الرسائل منها وصلت إلينا ناقصة من الأول أو من الآخر، ولعل بعضها فصول من كتبه المستقلة التي أشرنا إليها فيما مضى. ففي المجموعة ذات الرقم [3890] نجد الكلام غير متصل بعد الورقة 10 ب، حيث تبدأ رسالة أخرى في الموضوع، ولكنها ناقصة الأول، ولا نعرف مقدار الضائع منها. وفي المجموعة ذات الرقم [1384] نجد الكلام يبدأ من الورقة 14 أبدراسة الأحاديث الواردة في الباب دون تمهيد سابق، وينتهي في الورقة 23 ب دون أن تكمل الرسالة. أما الرسالة السادسة ضمن مجموع [2992] فهي نسخة متأخرة كتبت في 15 من جمادى الآخرة سنة 1187، وليس عليها اسم الناسخ، وخطها رديء، والنسخة مقابلة ومصححة كما كُتِب في آخرها، ومع ذلك ففيها أخطاء عديدة. (24 - 25) "فصل في الإيلاء" و"فصل في الظهار": كلاهما في مكتبة جامعة برنستون برقم [1384]، الأول من الورقة 24 ب إلى 28 ب، والثاني من الورقة 1 ب إلى 13 ب، وهو ناقص الآخر. وقد جاء في صفحة العنوان: "فصل في الظهار من كلام شيخ الإسلام إمام الأئمة الأعلام تقي الدين أوحد العلماء العاملين أبي العباس بن تيمية رحمة الله عليه، مما صنفه بقلعة دمشق في محبسه الأخير". وكذا في صفحة عنوان الرسالة الأولى: "فيه فصل في الإيلاء ..... كتبه أخيرًا بقلعة دمشق". وفي آخرها: "بلغ مقابلةً بالأصلِ خَطِّ المؤلف، ومنه نُقِل، والحمد لله رب العالمين". وقد وصفنا هذه المجموعة قريبًا، فلا نطيل الكلام عليها.

- منهج التحقيق

• منهج التحقيق قمت بنسخ هذه الرسائل من الأصول الخطية، ثم قابلتها عليها وعلى غيرها من النسخ إن وجدت، وأثبتُّ ما يصحّ عندي في النصّ مع الإشارة إلى القراءة المرجوحة إن كان لها وجه، ولم أثقل الهوامش بذكر الأخطاء والتحريفات. وقد عُنِيت بضبط المشكل من الكلمات والأعلام والأماكن دون شرحها والتعريف بها، ومن أراد ذلك فليراجع المعاجم اللغوية والجغرافية وكتب التاريخ والتراجم والرجال. أما النصوص المقتبسة فقمت بتوثيقها وتخريجها من المصادر المهمة، وحاولت الربط بين كلام المؤلف هنا وفي مواضع أخرى من كتبه ورسائله. وفي الختام أحمد الله على أنه وفقني لإخراج هذه الرسائل، وأسأله أن يعينني على جمع بقية الكتب والمسائل المنثورة، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. محمد عزير شمس

- نماذج من النسخ الخطية

نماذج من النسخ الخطية

(1) فصل في معنى الحي القيوم

فصل في معنى "الحيّ القيوم"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من هداه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيراً، وعلى آله وصحبه وسلم. فصل في معنى اسمه "الحي القيوم" قال الله سبحانه وتعالى: (الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (1). وقال تعالى: (الم (1) الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (2). وقال تعالى: (*وعنت الوجوه للحى القيوم) (3). وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهُ "الحيّ القيَّام" (4). والقيَّام فَيْعَال، والقيّوم فَيعول، وفيعال من جنس فَعَّال، وفيعول من جنس فعول، لأن الحرف المضعف يعاقب الحرف المعتلّ، كقولهم تَقَضَّى البازِيْ وتقضَّضَ.

_ (1) سورة البقرة: 255. (2) سورة آل عمران: 1 - 2. (3) سورة طه: 111. (4) كما في "صحيح" البخاري (في أول تفسير سورة نوح) و"المحرر الوجيز" (2/ 274) و"زاد المسير" (1/ 302) والقرطبي (3/ 272).

- الكلام على صيغتي فعول وفعال

والقَيُّوم والقَيَّامِ من قام يقوم، فهو معتلٌّ، فإن عينَه واو، فلهذا قيل فيه: فَيْعال وفيْعُول، ولو لم يكن في ألفاظه حرفٌ معتلّ لا ياءٌ ولا واوٌ لقيل: فَعَّال، كما قيل "حمَّاد" و"ستّار"، وفُعُّول كما قيل "سُبُّوح" و"قُدُّوس"، والغالب فعُّول بالفتح، وهو القياس في شرح "قُدُّوس"، ولكن جاءت دلالة اللفظ على غير القياس بالضم سبوح وقدوس وذو الروح. وقد تبينِ أن قراءة الجمهور "القَيُّوم" أتمُّ معنًى من قراءة "القيَّام"، فإن فَعُّول وفيْعُول أبلغُ من فَعَّال وفَيْعال، لأن الواو أقوى من الألف، والضم أقوى من الفتح، وهذا عينه مضمومة، والمعتلّ منه واو، فهو أبلغُ مما عينُه مفتوحة والمعتلُّ منه ألف. ودائمًا في لغة العرب الضمُّ والواوُ أقوى من الياء والكسرة، والياءُ والكسرةُ أقوى من الألف والفتحة، وهكذا هو في النطق، وكذلك في سائر الحركات، فإن المتحرك إلى أسفلَ كحركةِ الماء أثقلُ من المتحرك إلى فوق كالريح والهواء، والمتحركُ على الوسط هو الفلك أقوى منهما. ولهذا كان الرفعُ لما هو عمدةٌ في الكلام، وهو: الفاعلُ، والمفعولُ القائمُ مقامَه، والمبتدأ، والخبر. وكان النصبُ لما هو فضلة في الكلام، كالمفاعيل وغيرها: المفعول المطلق والمفعول به وله ومعه، والحال والتمييز. وكان الجرُّ لما هو متوسِّطٌ بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه، فإنه تضاف إليه العمدة تارةً والفضلةُ تارةً، فتقول: قام غلامُ زيدٍ، وأكرمتُ غلامَ زيدٍ. ولما كانت "كان" وأخواتُها أفعالاً تُستَعملُ تارةً تامَّةً مكتفيةً بالفاعل، وتارةً ناقصةً فتحتاج إلى منصوب، كان الرفعُ فيها مقدمًا، فإنه العمدةُ، ولابُدَّ منه في النوعين التامّة والناقصة.

وأما "إنّ" وأخواتها فإنها تختصّ بالجمل الاسمية، لكن أشبهت الأفعال، فصار لها منصوبٌ ومرفوعٌ كالأفعال، ونقصتْ درجتُها عن درجة الأفعال، فقدّمَ منصوبُها لذلك، ولأنه أخفّ، ولأن الخبر يكون غيرَ اسمٍ، مثل الجار والمجرور به، فلا يظهر فيه النصب، بل قد يقدَّم على الاسم. وأما باب "ظننت" وأخواتها فإنها أفعالٌ، تُستعمل تارةً مع الاقتصار على الفاعل، وتارةً يُذكرَ معها المفعولاتُ، ولكن تعلق على العمل إذا تصدر ماله صدر الكلام، فلا يعمل ما قبله فيما بعده، مثل لام الابتداء وحروف الاستفهام، وما الناقصة، كقوله تعالى: (لنعلم أَىُ الحِزبَينِ أحصى لِمَا لبَثُوا أَمَدًا (12)) (1)، وقوله تعالى: (ولقد علموا لَمَنِ أشْتراهُ مَا لَه في الآخرة مِن خَلاقٍ) (2). وتارةَ تُلغَى عن العمل إذا قدم المفعولات أو وسط الفعل بينهما، كقولك: "زيد منطلق ظننتُ"، والإلغاءُ هاهنا أحسن، وقولك "زيدٌ ظننتُ منطلق". وكان الفرق بين باب "ظننتُ" وباب "كسوت" أن المفعولين هاهنا المبتدأ والخبر، بخلاف باب كسا، فإن الثاني غير الأول، ولهذا يجوز في باب كسا الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب ظننتُ، فإنه لا يجوز ذلك فيه، كما لا يجوز الاقتصار على المبتدأ دون الخبر. وقد تبين أن المبتدأ وخبره مع نواسخه قد استوعبت الأقسام الممكنة، فإنهما إما مرفوعان، كما إذا تجرَّدا عن العوامل اللفظية؛ وإمّا منصوبان، وهو باب ظننتُ، إذ الأول مرفوع، وهو باب "كان"؛

_ (1) سورة الكهف: 12. (2) سورة البقرة: 102.

- الفرق بين القيوم والقيام

أو الأول منصوب وهو باب "إن". وتبين أن الرفع لما هو عمدة، والنصب لما هو فضلة. وكذلك الضم والفتح والكسر التي هي حركاتٌ لنفس الكلمة، وتسمى مناسبة إذا كانت في الآخر لم .... (1) عامل للإعراب، كقولك: خَرْج وخُرْج، وكَرْه وكُرْه، والغَسْل والغُسْل ونحو ذلك، فالخَرْج والكَرْه والغَسْل مصدر الفعل الثلاثي المتعدي، وهو قياس، تقول: ضرَبه ضَرْبًا، وأكله أَكْلاً ونحو ذلك، وأما الخُرْج والكُرْه فهو نفس الشيء المكروه والمخروج، والعَين أقوى من الفعل، والغُسْل بالضم اسم الاغتسال، واغتسال الإنسان لنفسه أكمل من غَسْلِه لغيره، تقول في هذا: غُسْل الجمعة وغُسْل الجنابة، لأن المراد الاغتسال؛ وتقول في ذلك: غَسْل الميت وغَسْل الثوب، لأن المصدر غَسْل الإنسان لغيره. هذا هو اللغة المشهورة سماعًا وقياسًا، وما نُقِل غير ذلك فإما خطأ وإما شاذ. فتبيَّن أن "القَيُّوم" أبلغُ من "القيَّام"، ذلك يفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يُفيد إقامتَه لغيره وقيامَه عليه؟ فيه قولان. وهو يفيد دوامَ قيامه وكمالَ قيامِه، لما فيه من المبالغة لقيوم وقيام. ولهذا قال غير واحدٍ من السلف: القيوم الذي لا يزول، كما قال ابن أبي حاتم (2): حدثنا علي بن الحسين نا عيسى الصائغ ببغداد نا سعد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الحسن رضي الله عنه: القيوم الذي لا زوال له.

_ (1) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة. (2) "تفسيره" (2/ 487).

- الرد على من أراد به نفي الأفعال الاختيارية

وقد ظنّ طائفة من النفاة - كبشر المريسي وغيره - أن مرادَهم بذلك أن لا تقوم به الأفعال الاختيارية ولا يتحرك ونحو ذلك، ورَدَّ عليهم عثمان بن سعيد الدارمي وغيره، وبيَّنوا خطأه فيما فهمه من ذلك عمن نقل ذلك عنه من السلف، وهو إنما نقله عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا الإسناد وحدَه مما لا يعتمِد عليه أهل الحديث، فذكروا ضعفَه (1)، ثمَّ ذكروا عدمَ دلالتِه على ما طلَبَه. ولكن قد رُوِيَ هذا بغير هذا الإسناد، فبينوا خطأ من فهم ذلك المعنى، وأن المراد بقولهم "لا يزول": أنه دائمٌ باقٍ لا يَنْقُص عن كمالِه فضلاً عن أن يَفْنَى أو يَعْدَم، كقوله تعالى: (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46)) (2). وفيه قراءتان (3): أكثر القراء يقرءون "لِتزوْلَ"، فيدلُّ على النفي، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقرأ بعضُهم "لَتزوْلُ" بالرفع على الإثبات، أي: إن كان مكرُهم تزول، هذا تقدير البصريين. َ والكوفيُّونَ يقدرون: ما كان مكرهم ألاَّ تزول. وكلا القراءتين لهما معنى صحيح، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع (4). وقوله تعالى "تزول منه الجبال" مثل قوله تعالى: (إِنَّ الله يُمْسِك

_ (1) انظر "الإتقان" للسيوطي (4/ 239)، و"تدريب الراوي" (1/ 181). (2) سورة إبراهيم: 44 - 46. (3) انظر: "زاد المسير" (4/ 374) والقرطبي (9/ 381). (4) انظر: "مجموع الفتاوى": (17/ 381 - 382).

اَلسَّموات والأرض أن تزولا ولئِن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) (1) ومنه قول لبيد (2): ألاَ كلُّ شيء مَا خَلا الله باطلُ وقد قال له عثمان (3) بن مظعون رضي الله عنه وهو ينشد: "صدقتَ". ثم قال: وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالةَ زَائلُ فقالَ له: "كَذبتَ، إن نعيم الجنة لا يزول" (4). وليس المراد بقوله (ما لكم من زوال (44)) وبقبم له تعالى (لِتَزُولَ مِنهُ الِجْبَالُ (46) و (يمسِك اَلسَّمَواتِ والأرضَ أَن تَزُولا) هو الحركة، فإنهم كانوا يتحركون، والكواكب متحركة، بل الأفلاك التي فيها الكواكب متحركة. و"زال" يُستعمل لازمًا ويُستعمل ناقصةً من أخواتِ "كان"، فيقال في اللازم: زال يزول زوالاً، كما في قوله تعالى (أَن تَزُولا) و (مَالَكم مِّن زَوَال (44)) و (وإن كاَن مَكرُهُم لِتَزُولَ مِنْهُ اَلجِبَالُ (46)). ومنه: زالت الشمسُ تزولُ زوالاً. وليس المراد بزوالها حركتها، فإنها لا تزال متحركةً في رأي العين منذ تطلع إلى أن تغرب. ولا يقال إنها زالت إلاّ إذا انحطَّت عن غاية الارتفاع، فإذا ارتفعت على رءوس الناس كان غايةُ ارتفاعها، وهو قَبْلَ الزوال، ثُمَّ إذا

_ (1) سورة فاطر: 41. (2) ديوانه: 256. (3) في الأصل "لعثمان"، وهو خطأ، فقد كان المنشد لبيدًا، وعلَّق عليه عثمان. (4) الخبر في "سيرة" ابن إسحاق (ص 158 - 159)، و"سيرة" ابن هشام (1/ 370) و"البداية والنهاية" (4/ 227 - 228).

انحطت بعد هذا وانحطت ومالت قِيل: زالتْ، ويقال لها قبل الزوال: قد قام قائمُ الظهِيرة، فيُعَبر عن هذا بلفظ القيام، وعن آخرها يُلفَظ في الانحطاط بلفظ الزوال، كما يُعبَّر عنه بلفظ الاستواء، فيقال: استوتِ الشمسُ، وعند الزوال بالميل فيقالُ مالت الشمسُ؛ فكأن لفظ الزوال يَدُكُ على النقص بعد الكمال، والانخفاض بعد الارتفاع. والذين أقسموا من قبل "ما لهم من زوال" لم يريدوا أنهم لا يموتون، فإن هذا لا يقوله أحد من العقلاء، ولكن ظنوا دوامَ ماهم فيه من الملك والمال، وأن ذلك لا يزول عنهم. وهذا باطل. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سُبقَتْ ناقتُه العَضْباءُ وكانت لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسَبقها، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ حقًا على الله أن لا يُرفعَ شيءٌ من الدنيا إلاّ وَضَعَه" (1). فكلَّما ارتفع شيء من الدنيا فإن الله تعالى يضعه، وذلك من زوالِه. والزائل الذي لم يكتسب به ما يدوم نفعه يُسمَّى باطلاً، فالموتُ حق والحياة باطلٌ، فإن الباطل ضدُّ الحق، والحقُّ يقال على الموجود، فيكون الباطلُ هو المعدوم. ويقال أيضًا على ما ينفع ويُنفَى نفعُه، فيكون الباطلُ اسمًا لما لا ينفع، أو لما لا يدومُ نفعُه. ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل لهوٍ يَلْهُو به الرجلُ باطلٌ منه إلاّ رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته، فإنهن الحقّ". رواه أبو داود وغيره (2).

_ (1) أخرجه البخاري (2872) عن أنس. (2) أخرجه أحمد (4/ 144،148) والدارمي (2410) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من طريق عبد الله بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر. أما أبو داود (2513) فأخرجه من طريق خالد بن زيد الجهني عن عقبة بلفظ مختلف.

- معنى الزائل والباطل في العربية

ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن هذا الرجل لا يُحِبُّ الباطل" (1)، وهو مالا يَنفعُ النفع الباقي، وهو النافع في الآخرة، فكلُّ مالا ينفع في الآخرة فهو باطل، وإن كان لذةً حاضرةً، فإنها تزول وتُعَدُّ بلا نفعٍ يَبقى، فهي باطل بهذا الاعتبار. وقال الله تعالى: (ذلك بأن الله هو وأن ما يدعون مِن دُونِهِ هُوَ الباطِلُ) (2)، فهذا باطل من الجهتين: من جهة أن استحقاق الإلهية معدوم، فهو لا ينفع ولا يضر؛ ومن جهة أن عبادته لا تنفع وإن كانت موجودة (3) في الحياة الدنيا، فيومَ القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضًا. ومن هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدق كلمة قالها شاعر لبيد: ألا كلّ شيء ماخلا الله باطل (4) قال الله تعالى: (وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) (5)، وقال تعالى: (مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء (24)) إلى قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيَاةِ الدُّنيا وفي الأخرةِ) (6). والثابت ضدّ الزائل، فالباطل الزائل الذي لا ينفع في الآخرة هو الذي شرع فيه الزهد، فالزهد مشروع في كل مالا ينفع في الآخرة، والورع مشروع في كلِّ ما قد يَضُرّ في

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 435) والبخاري في "الأدب المفرد" (342) عن الأسود بن سريع. (2) سورة لقمان: 30. (3) في الأصل: "كان مودة"!. (4) أخرجه البخاري (6489) ومسلم (2256) عن أبي هريرة. (5) سورة الفرقان: 23. (6) سورة إبراهيم: 24 - 27.

الآخرة. فالورع عن المحرمات واجبٌ، لأنها سبب الضرر، والورع عن الشبهات حسن، لأنه قد يكون في ذلك محرَّم، وقد يدعو الوقوع فيها إلى الوقوع في الحرام، كما في الصحيحين (1) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حِمىً، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحتْ صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". فقد بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ من ترك الشبهات التي لا يعلم كثير من الناس أحلال هي أم حرام، استبرأ لعرضه ودينه، وإن وقع فيها وقعَ في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع، ويقرب أن يواقعه. وبيَّن أنّ حِمَى الله تعالى محارمُه التي حرَّمها، وفي هذا ما دلَّ على أن الشبهات لا تخفى على جميع الناس، بل كسبهم من غير الحَلال منها من الحرام. ومن تبين له ذلك فأخذ الحلال وترك الحرام لم يكن ممن وقع في الشبهات، وإنما الذي يقع فيها من لم يتبين له أحلالٌ هي أم حرام. وفيه ما دلَّ على أن شريعتَه في ترك الشبهات يتضمن سدَّ الذريعة، فإنها داعية إلى الحرام، وما كان ذريعة يترك، إلاّ إذا كان مصلحة فِعلُه راجح. مثال ذلك أن يشتبه عليه الحلال بالحرام، فلا يقطع بواحدٍ

_ (1) البخاري (52) ومسلم (1599).

منهما، فهذا يُرَغَّبُ في الترك، لأنه شبهة، إلا أن يكون إذا تركَ ذلك تضمن تَرْكَ واجب محقق أو فِعْلَ محرَّم محقق، فلا يكون حينئذ مرغبًا في ترك الشبهة، بل يكون مأمورًا بفعلها، لأنه إذا فعلَها لم يعلم أنه يأثم، وإذا تركها وتضمن ذلك تَرْكَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ كان إثمًا. والورع المشروع هو ما قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحسن رضي الله عنه: "دع ما يَريبك إلى مالا يريبك" (1)، وهنا إذا تركه لم يدعه إلى مالا يريبه، بل إلى ماهو يريبه قطعًا، وذلك يظن أنه قد يريبه. ومثل هذه المسألة المشهورة عن الإمام أحمد رضي الله عنه، وقد ذكرها أبو طالب وأبو حامد وغيرهما في كتاب الورع للمروذي (2) وغيره، أنه سُئِل عمَّن مات أبوه وعليه دَين، وله مالٌ فيه شبهة، وهو يتورع عن قبض ذلك المال، أيَدَع ذمةَ أبيه مرتهنةً فبيَّن ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه أن قضاءَ دَيْنِ الميت من المال الذي خلفه واجب، وأن الوارث عليه أن يفعل ذلك، أو يُمكِّن الغرماء من قبضه، وإن لم يمكن قضاؤه إلاّ بفعل الوارث تعين عليه ذلك، فإنه واجبٌ على الكفاية، وهو متعين عليه إذ لم يقم من غيره. وأما قبضه الشبهة فليس محرمًا، بل ورعٌ مستحب، فكيف يفعل مستحبًّا بترك واجب؟. وهكذا مَن عليه دُيُون وله مالٌ يقضي به الديون، وفيه شبهة، فقضاء الديون واجب، والورع بقضاء الديون واجب، وليس تركُ الشبهة واجبًا. ولو قُدِّر أن في ملك الشبهة ظلم قليل، فهو أخفُ من

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 200) والدارمي (2535) والترمذي (2518) والنسائي (8/ 327) من طريق أبي الحوراء السعدي عن الحسن. (2) ص 83.

ظلم أرباب الديون بمنع حقوقهم. مثل أن يكون له ألف درهم فيها مئةٌ لغيره مثلاً، وعليه ألف درهم، فإذا لم يوفِ الغرماءَ حقوقَهم ظَلَمَهم بألف درهم، وذاك أعظم إثمًا من ظلم مئة، هذا إذا قُدَّر أنه لا يعرف قدر ما في مالِه من الظلم، وإلاّ فإذا عرف قَدْرَ ذلك فإنه يُخرِج مقدارَ الحرام، فيعطيه لمستحقّه إن عرفه، وإلا تعرف به وصرفه في مصالح المسَلمين عنه إذا لم يعرفه، كما نُقِل عن السلف من الصحابة والتابعين، وهو مذهب أكثر الفقهاء، كمالك وأبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، أعني صرفَه إذا جهل صاحبه إلى مصرف مالِ الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو صرفه في كل ما أمر الله تعالى به ورسولُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وليس هذا كاللُّقَطة التي له أن يتملكها، فإن اللقطة عرَّفها حولاً وأخذها بفعله، فإذا لم يجد صاحبها صارت بمنزلة ما يملكه من المباحات بفعله ما دام صاحبها مجهولاً، وله أن يتصدَّق بها عنه، فإن عرف صاحب المال في الموضعين فالأمر إليه، إن شاء أجاز ما فعله من تصرفه لنفسه أو صدقة بها عنه، وإن شاء ردَّ ذلك وطلبَ بدلَ مالِه، كما قال الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في المال، وفي امرأة المفقود أيضًا، قالوا: يُخيَّر الزوجُ القادمُ بين المرأة وبين مهرها، وهو مبني على هذا، فإنه لمّا انقطع خبرُه جاز التصرفُ في بُضْعِ امرأته، كما جاز التصرف في المال الملتقط الذي جهل صاحبه، وفي غيرِه، ثم ظهر خبرُه، صارَ حينئذٍ مخيَّرًا، وكان ذلك التصرف الأول الذي كان مع عدم العلم به جائزًا باطنًا وظاهرًا، كمالِ اللقطة، فإنه بعد حلول التعريف يملك الملتقَط باطنًا وظاهرًا، وكذلك يملكه من تصدق عليه، فإذا جاء المالك وطلبه عادَ إليه ملكًا جديدًا.

وأمّا الشبهة إذا اجتنبها أوقعتْه فيما يتردد بين الكراهة والتحريم قطعًا، فهذا مما يتنازع الفقهاء فيه، مثل إذا شكَّ من الطلاق الثلاث فمن الفقهاء من يستحب له اجتنابها، بل يستحبون له إيقاع الطلاق يقينًا لتُباحَ لغيره بلا شك، مثل أن يقول: إن لم يكن وقع بكِ فقد أوقعتُه بكِ. ومنهم من يَستحبُّ له إمساكَها، ويرى ذلك خيرًا (1) من مفارقتها ومن إيقاع الطلاق عليها، فإنه إذا ملكها لم يأثم، فإن الأصلَ عدمُ الطلاق، وإمساكُها جائزٌ لا إثم فيه، وأما الطلاق فهو مكروه أو محرَّم، فمن قَطَع بتحريمه فإنه يقطع بأنه ليس له أن يطلقها لأجل الشك، ومن قال مكروه فقد يتردد اجتهاده لكون كراهة الطلاق أشدّ أم كراهة إمساكها مع الشك. وأما من تردَّد هل الطلاق محرَّم أو مكروه فإمساكها أولى عنده، لأنه هناك متردد بين حلال وحرام، وهنا متردد بين حرام ومكروه. وأما من قال: الطلاق مباح لا كراهة فيه، فإيقاعُه عنده أولى من إمساكِها مع الشك. وقد بسطنا هذه المسائل في غير هذا الموضع. والصواب أن الطلاق في الأصل محظور، وإنما أُبيح للحاجة. والمقصود هنا أن مالا يُستعانُ به على النفع الدائم فهو نفع يتعقبه، ومنه يُسمَّى العبث واللعب باطلاً، وإن كان العابث اللاعب فيه منفعتُه زائلة، لما فيه من اللذة الحاضرة، لكن هو باطل إذا لم يُستعَن به على الحق الذي يَدُوم نفعُه. ولهذا قال تعالى: (وَمَا خلقنا اَلسمَاء واَلأَرضَ وَمَا بَينهمَا باطِلاً ذلِكَ ظَن الَذِينَ كَفَروا) (2)، وقال تعالى: (وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالأَرضَ وَمَا بينَهُمَا لاعبين (38)) (3)، وقال تعالى: أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خلقنَاكمْ

_ (1) في الأصل: "خير". (2) سورة ص: 27. (3) سورة الدخان: 38.

- كل عمل لا يبقى نفعه فهو عبث ولعب وباطل

عَبَثاً وَأنَكم إلينا لا ترجعون) (1). فإن الدنيا وإن كان فيها نوع لذة ومنفعة حاضرة فتلك زائلة منقطعة، فهي باطلة، والفعل لمثل ذلك من باب العبث واللعب، والله تبارك وتعالى منزَّه عن ذلك، إنما خلق هذا الذي ينقص ويزول لما يبقى ويدوم، والذي يبقى ويدوم هو الحق، والذي يزول وينقص قد فَسَد وهلكَ. ولهذا قيل في قوله تعالى (كل شيءٍ هالك إلا وجهه) (2): كلُّ عملٍ باطل إلاّ ما أريد به وجهُه. وفي الدعاء المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطلٌ إلاّ وجهك الكريم". وقد قال تعالى: (كل مَن عليها فَان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)) (3). فهو سبحانه وتعالى الباقي الدائم، وما كان به وله فهو الباقي الدائم، وما لم يكن له فهو باطل فاسدٌ هالكٌ، لا يبقى ولا يدوم. قالوا لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: إن فلانًا عَملَ موطَّأ مثلَ موطَّأِك، فقال: وطَّأوا ووطَّأنا، وما كان لله عزَّ وجلَّ فهوَ يبقى (4). ولما استقر في الفطر أن كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ، صار كلٌّ من اَلناس يُسمِّي مالا يبقى نفعُه بالنسبة إلى ما يبقى عبثًا وباطِلاً ولعبًا وباطلاً، فالصبيان إذا لعبوا سمَّى الرجالُ العقلاءُ فعلَهم لعبًا وباطلاً وعبثًا، وإن كان للصبيان فيه لذة ومنفعة حاضرة، لكنها لا تدوم وتبقى، بل إذا فَرَغوا من اللعب احتاجوا إلى أمورٍ لا

_ (1) سورة المؤمنين: 115. (2) سورة القصص: 88. (3) سورة الرحمن: 26 - 27. (4) انظر "ترتيب المدارك" (1/ 95) ط. بيروت، و"تزيين الممالك" (ص 44).

- الكلام على حديث ما ذئبان جائعان ومعنى الشح

تحصل باللعب. فكان من اشتغل بما يحصِّل له قوتًا وكسبًا ونحو ذلك من المقاصد عندهم صاحب جدَّ وحَقَّ، ليس بصاحب لعب وباطلٍ، فإن هذا يبقى ويدومُ وينفع أعَظم من ذاك؛ ومن كان عَنده أن الجاه والرئاسة والسلطان والملك أنفع وأبقى من المال، كان عنده من اشتغل بتحصيل المال وأعرضَ عن ذلك صاحبُ لعب وباطلٍ بالنسبة إلى مطلوبه ومقصودِه، فإن المال لا ينتفع به صاحبُه إلاّ إذا أخرجَه وأنفَقَه، فمنفعتُه في إذهابه، بخلاف الجاه، فإنه كلَّما قوي وحَصَل كان الانتفاع به أكثر، وصَاحبُه يُمكِنه أن يُحصل به من المال مالا يُمكِنُ صاحبَ المال أن يُحصِّل به من الجاه، فلهذا كان هذا أعقلَ وأكيسَ وأبعدَ عن اللعبِ والباطلِ من ذاك. ثم إن صاحب الحق الذي قد عَلِمَ أن الدنيا لا تدوم، فلا يدوم للإنسان فيها لا جاهٌ ولا مالٌ، بل هذا وهذا يقول يوم القيامة: (مَا أَغْنى عَنّىِ مَالِيه (28) هلك عنىِ سلطانيه (29)) (1). وقد روى الترمذي وغيرُه (2) عن كعب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفْسَدَ لها من حِرْصِ المرءِ على المال والشرف لدينه". [قال] الترمذي: حديث حسن صحيح. بيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حِرصَ المرءِ على المالِ والشرفِ والرئاسة يُفسِد الدينَ مثلَ أو أبلغَ من إفسادِ الذئبينِ الجائعينِ إذا أُرسِلا في زريبة غنم. وهذا الحرص صفة تقوم بالنفس، والدين هو الذي يبقى ويدوم نفعُه بعد الموتِ، فلو قُدِّر أن الإنسان طلبَ من

_ (1) سورة الحاقة: 28 - 29. (2) أخرجه الترمذي (2376) وأحمد (3/ 456،460) والدارمي (2733). وللحافظ ابن رجب شرح عليه مطبوع. وانظر كلام المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى" (11/ 107 - 108،20/ 142 - 144،28/ 391 - 392).

المالِ والشرف مالا ينفعه بعد الموت، لكان صاحبَ باطلِ ولعب وعبث، فكيف إذا طلب ماهو صار له بعد الموت يُفسِد ما ينفعُه، كإفسادِ الذئبينِ الجائعين لزريبة الغنم. ولهذا إنما جعل ذلك الحرص على المال والشرف، والحرص يُوجِب الشُحَّ، فإن الشُحَّ أصله شدةُ الحرص. وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إياكم الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ أهلكَ من قبلكم، أمرَهم بالبخل فبَخِلُوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا". ورئيَ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يَطوف وهو يقول: "رَب قِنِيْ شُحَّ نفسي، رب قِنِي شُحَّ نفسي"، فقيل له: ما أكثرَ ما تدعو بذلك! فقال: إذا وُقِيتُ الشحَّ وُقِيتُ البخلَ والظلمَ والقطيعةَ (2). وذكر رجلٌ لابن مسعود رضي الله عنه أنه يكره إخراجَ المال، أفشحيحٌ هو؟ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ذلك البخيل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشُّحَّ أن تُحِبَّ أخذَ مالِ أخيك (3). ولهذا الشحُّ كان أعظمَ من البخل، فإن البخيل يَبخَلُ بما عنده، والشُّحُّ هو شدَّة الحرص، فهو عمل على الحسد حتى يكره أن يُعطِيَ الله تعالى غيرَه من فضلِه، وعمل على الظلم والقطيعة حتى يأخذ مالَ غيرِه بغير حق. ولهذا قال الله تعالى: (ولا يجدون في صدورهم حاجة

_ (1) لم أجده في الصحيحين، وقد أخرجه أحمد (2/ 159، 191، 193، 195) والدارمي (2519) وأبو داود (1698) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (2) أخرجه الطبري (28/ 29) وغيره، انظر "الدر المنثور" (8/ 108). (3) أخرجه الطبري (28/ 29) وغيره، انظر "الدر المنثور" (8/ 107).

- الحسد والغبطة

مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)) (1). فمدح الأنصار بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون، أي لا يجدون في أنفسهم طلبًا لما أنعمه الله عليهم، بل نفوسهم غنية، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَضِ، وإنما الغِنَى غِنَى النفس" (2). والحاسد والحريصُ أنفُسُهم فقيرة محتاجة لا غِنًى فيها، فالحاسد شر من البخيل، والمحسن إلى الناس أفضل من المستغني الذي لا يُحسِنُ. ولهذا جاء في الحديث (3): "الصدقة تُطفِئُ الخطيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النارَ، والحسدُ يأكُلُ الحسناتِ كما تأكُلُ النارُ الحطبَ". والحسدُ يكون على المال والجاهِ جميعًا، كما قد يكون على الدين والعلم، قال الله تعالى: "أَم يحسدون الناس على ما أتاهم الله مِن فَضله فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكاً عظيماً (54)) (4)، وقال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كُفارًا حَسَدًا من عِندِ أَنفُسِهِم من بعَدِ مَا تبين لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأتىِ الله بأمره) (5). وإذا أحب أن يحصل له من الخير الذي حَبَاه الله تعالى مثلما حصل لغيره من غير زوال تلك النعمة عنه، فهذا غبطة، ويُسمَّى حسدًا لكنه حسن. كما في الصحيحين (6) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه

_ (1) سورة الحشر: 9. (2) أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) عن أبي هريرة. (3) أخرجه ابن ماجه (4210) عن أنى. وفي الباب عن معاذ بن جبل وجابر وغيرهما. (4) سورة النساء: 54. (5) سورة البقرة: 109. (6) البخاري (7141) ومسلم (816) عن ابن مسعود.

قال: "لا حَسَدَ إلاً في اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق". فإن هذا وهذا مما يحبها الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسيجازى صاحبهما في الآخرة، فإذا أحب الرجل أن يكون له مثلُ ما لغيره من ذلك فهذا حسن، وهو من المنافسة التي رُغِّبَ فيها بقوله تعالى وتبارك: (وفىِ ذلك فليتنافس المتنافسون (26)) (1). وأما إذا تمنى زوالَ النعمة عنه فهذا مذموم مَعِيْبٌ، وإن أحب أن يكون له مثلُها من المال والرئاسة من غير زوال لذلك عنه فهذا من جنس حبّ المال والرئاسة ابتداءّ، فهو باطلٌ وعبثٌ ولعبٌ، إلاّ ما يُنتفع به في الآخرة، والحرصُ عليه يُفسِد الدينَ كما تقدم. وقال شداد بن أوس رضي الله عنه (2): يا بقايا العرب! إن أخوفَ ما أخافُ عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حبُّ الرئاسة. وقال سفيان الثوري رحمه الله: رأيناهم يزهدون في الطعام والشراب واللباس، فإذا نُوزعَ أحدُهم الرئاسةَ نَاطَحَ نِطاحَ الكِباش. فطُلاَّب الرئاسة عند الذين يريدون ما أحبَّه الله ورسولُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى بالذمّ والنقص والعيب، من طلّاب المال عند طُلاَّب الرئاسة، حيث أرادوا مالا يدوم نفسُه ولا يبقى، بل يزول ويفنى، فطلبوا الباطلَ الذي يفنى، وتركوا الحق الذي يبقى. وقد قال بعضهم: لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى، فكيف والدنيا خَزَفٌ يَفنى، والآخرة ذهبٌ يَبقَى! ولهذا قال السحرة لما آمنوا وتبيَّن لهم الحق، وقال لهم فرعون

_ (1) سورة المطففين: 26. (2) أخرجه أحمد (4/ 123،125) عن شداد بن أوس مرفوعًا بنحوه.

- عودة إلى شرح معنى زال التامة والناقصة

(لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما أنت قَاضٍ إنما تقضى هذه الحياة الدنيا (72) إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خيرٌ وأبقى (73)) (1). والمقصود هنا ذكر معنى الزوال، وقد تقدم أن لفظ "زال" يستعمل لازمًا تامًا، ويُستعمل ناقصًا من أخوات كان، وهو كثير، كقوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) (2)، وقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مختلفين (118) إلا من رحم) (3)، وقوله تعالى: (وَلَا تزَال تطلع عَلى خائنة منهم إلا قلَيلًا منْهُم) (4). ويقال: "لم يزل كذلك"، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وكَاَنَ اَللهُ عَزيزًا حكِيماً (158))، (سميعا بَصِيرًا (58)) فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (وَكاَنَ اللهُ غَفُورًا رحِيمًا (96)) تَسمَّى بذلك، وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك. رواه البخاري في صحيحه (5) عنه. وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لم يزل الله عز وجل عالمًا متكلمًا غفورًا. وقال رضي الله عنه أيضًا: لم يزل متكلمًا إذا شاءَ. ذكره في رواية عبد الله فيما كتبه في "الردّ على الجهمية والزنادقة فيما شكّت فيه من متشابه القرآن وتأؤَّلَتْه على غير تأويله" (6).

_ (1) سورة طه: 71 - 73. (2) سورة التوبة: 110. (3) سورة هود: 118. (4) سورة المائدة: 13. (5) 8/ 556 (مع الفتح). (6) انظر ص 48.

- معنى اسمه القيوم

وهذا يقال فيه: ما زَال، ولم يَزَل؛ والأوَّلُ يقال فيه: زال يَزُول، ذاك بالواو، وهذا بالألف، لأن معنى الواو أكمل، وذاك فعل تام يُراد به لم يَزُلِ المذكور، وهنا يُراد به: لم يَزَلْ أو لا يَزَال على هذه الصفة وهذه الحالِ. فالمراد هناك دوامُ نفسِه وبقاؤها، والمراد هنا دوامُ صفتِه المذكورة وبقاؤها. ودوامُ نفسِه وبقاؤها من غير زوالٍ ونقصٍ يَستلزِمُ دوامَ صفاتِ الكمال وبقاءَها. وأما إذا قيل: لم يَزَلْ كذلك، فقد يكون المذكور صفةَ نقصٍ، كقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مختلفين (118)) (1)، وقد يكون صفةَ كمالٍ، وإذا كان صفةَ كمالٍ فهو داخلٌ في الأول. فلهذا كان اسمه "القيوم" يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كمالِه، ويتضمن أنه لم يزل ولا يزال دائمًا باقيًا أزليًّا أبديًا موصوفًا بصفاتِ الكمال، من غيرِ حدوثِ نقصٍ أو تغيرٍ بفسادٍ واستحالةٍ ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات، فإنه سبحانه وتعالى "القيوم". ولهذا كان من تمام كونه قيومًا لا يزولُ أنه لا تأخذه سِنَة ولا نوم، فإن السنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما من النقص بزوال كمالِ الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت، وسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أهل الجنة: أينامون؟ فقال: "لا، النوم أخو الموت" (2).

_ (1) سورة هود: 118. (2) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 366) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 90) والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (10/ 415) من حديث جابر، وله طرق مختلفة تكلم عليها الألباني في "الصحيحة" (1087).

والنوم جُعِلَ للناس في الدنيا سُباتًا، كما قال تعالى (1). جعل الليل لباسًا والنوم سباتًا، ليسكن الإنسان فيه ويستريح بدنُه من الحركات التي لو دامت عليه لأهلكته (2)، ولهذا يغتذي الإنسان بالنوم لاحتياجه إليه، ويقوم من نومه كأنه خُلِقَ جديدًا. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استيقظ من نومه يقول: "الحمد لله الذي أحيانَا بعدما أماتنا وإليه النشور" (3). والرب تبارك وتعالى منزَّهٌ عن كلّ نقصٍ، قال تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)) (4)، وقال تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم (255)) (5) قالوا: لا يكرثه ولا يثقل عليه. وإذا كان القيوم الذي لا يزول فقد دخل في ذلك أنه لا يأفل، كما قال الخليل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا أحب الأفلين (76)) (6)، فإنه من المعلوم أن أفولَ الشمس والقمر والكواكب أبلغُ في النقص من زواله إذا كان الآفل غابَ واحتجبَ، ولم يبقَ له في عابدِه فِعلٌ ولا نفعٌ، ولا يمكن عابدَه أن يُوجهَ وجهَه إليه، بخلاف زوال الشمس، فإنه فيه نقصٌ لها وانخفاض وانحطاط عن حالِ كمالِ ارتفاعِها. والزوالُ بدءُ حصولِ الأفْياءِ المُزِيلة لشعاعها، فإن الظل يكون ممدودًا قبل طلوعها، كما

_ (1) في سورة النبأ: 9 (وجعلنا نومكم سباتاً (9)). (2) في الهامش: "لأفسدته". (3) أخرجه البخاري (7395،6325) عن أبي ذر، ومسلم (2711) عن البراء بن عازب. (4) سورة ق: 38. (5) سورة البقرة: 255. (6) سورة الأنعام: 76.

- تحقيق معنى دلوك الشمس

قال تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً (45) ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً (46)) (1). فإذا طلعتْ انبسطَ شعاعُها على وجهِ الأرض، ونسخ الظلّ الذي يقع عليه، فنسخ الظلال الشرقية كلها، ولا يزال ينسخ الغربيَّةَ شيئًا بعد شيء حتى تستويَ الشمسُ، فيكون قد نسخ الظلال الشرقية والغربية جميعًا، وهذا غايةُ نسخِ الشمسِ الظلالَ. فإذا زالت انحطت وانخفضت، ففَاءتِ الأفْيَاءُ. والفيءُ اسمٌ للظلّ الذي بعد الزوال، والظل يعمُّ ما قبله وما بعده، لأنه يفيء الفيءُ ويعود، فيعودُ الفيء إلى ناحية المشرق، بعد أن كان قد نسخ عنها، ولا يزال الفيء يَمتدُّ ويَطُولُ كلما انخفضت الشمس إلى أن تغرب، فيعود الظل ممدودًا بأفولها، كما يكون ممدودًا قبل طلوعها، فكان أفولُها غايةَ بطلانِ أثرِها في ذلك الزوال، مبدأ ذلك بالأفول، كما نقصها الذي ابتدأ من الزوال، وكأنه كمالُ زوالِها. ولهذا فُسر دلوكُها بهذا وبهذا في قوله عز وجل: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) (2)، فطائفة من السلف قالوا: دلوكها غروبُها، والتحقيق أن الزوال أول دُلوكها، والغروب كمالُ دُلوكها، فمن حين الزوال إلى الغروب دالكة، كما هي زائلة بارحة، ولهذا سُميت "بَرَاح"، ويقال: دلكتْ بَرَاحِ. ولهذا قال تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل)، فالدلوك يتناول الظهر والعصر، وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء، وصلاة العشي (3) فيها مشترك عند الحاجة. وكذلك صلاة العشاء، فإن ذلك كلُّه دلوك، وهذا كله

_ (1) سورة الفرقان: 45 - 46. (2) سورة الإسراء: 78. وانظر: "زاد المسير" (5/ 72) والقرطبي (10/ 303). (3) في الهامش: "صلاة الظهر والعصر".

غسق، ولا يجوز تفويت صلاة غسق الليل إلى الفجر لدلوك الغسق الليل، كما لا يجوز تفويت صلاة الفجر إلى غسق الليل (1). قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وُترَ أهله وماله" (2). وقال أيضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عملُه" (3). وهي الصلاة الوسطى، كما دلَّ على ذلك الأحاديث الصحيحة (4)، وهي بين صلاتَيْ ليلٍ وصلاتَيْ نهارٍ. فالحيّ القيوم سبحانه وتعالى الذي لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعًا، واسم "القيوم" تضمن أنه لا يزول، ولا ينقصُ شيءٌ من صفاتِ كمالِه، ولا يفنَى ولا يُعدَم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفاتِ الكمال. وهذا يتضمن كونه قديمًا، فالقيوم يتضمن معنى القديم، وزيادات صفات الكمال دوامُها الذي لا يدلُّ عليه لفظ القديم. ويتضمن أيضًا كونَه موجودًا بنفسه، وهو معنى كونه واجبَ الوجود، فإن الموجودَ بغيره كان معدومًا ثم وُجِدَ، وكل مفعولٍ فهو مُحدَثٌ، وتقديرُ قديمٍ أزلي مفعولٍ كما يقوله بعض المتفلسفة باطلٌ في صريح العقل، وهو خلاف ما عليه جماهير العقلاء المتقدمين والمتأخرين. فالقيوم الذي لم يزل ولا يزال لا يكون إلاّ موجودًا بنفسه،

_ (1) في الأصل: "صلاة غسق الليل إلى الفجر"، وهو تكرار لما سبق. (2) أخرجه البخاري (525) ومسلم (626) عن ابن عمر، بلفظ "الذي تفوته ... ". (3) أخرجه البخاري (594) من حديث بريدة، بلفظ "من ترك صلاة ... ". (4) منها حديث علي عند البخاري (2931) ومسلم (627)؛ وحديث ابن مسعود عند مسلم (628)؛ وحديث عائشة عند مسلم (629)؛ وحديث البراء بن عازب عند مسلم (630).

- جميع صفات الكمال يدل عليها اسم الحي القيوم

والموجود بنفسه لا يكون إلاَّ قديمًا واجبَ الوجود، فإن وجودَه [لو]. لم يكن واجبًا لكان ممكنًا، يمكن وجودُه ويُمكِن عدمُه، وما أمكنَ وجودُه وعدمُه لم يكن إلاّ مُحدَثًا كائنًا بعدَ أن لم يكن. فليس هو القيوم الذي لا يزول، بل لم يزل ولا يزال. ومن الناس من يُطلِق هنا أنه لم يزل ولا يزال ولا يكون بغيره (1)، وهذا إن كان لغةً فكونه موجودًا بنفسه من معاني كونه قيومًا، أو، إذا ما وُجد بغيره ليس هو قيومًا، لحاجته إلى من يُوجده ويُقِيْمه، بل ليس له من الَقيومية بنفسه، إذ هو دائمًا محتاجٌ فقيرٌ إلى القيوم، وما كان موجودًا بنفسه يمتنع أن يكون معدومًا تارةً وموجودًا أخرى، [وما] كان ممكنًا مُحدَثًا لم يكن وجودُه بنفسه، فإن ما وجودُه بنفسه وجودُه ملازم له لا يكون معدومًا قط، بل من تُصُورَتْ نفسُه تُصُورَ أنه موجودٌ، والمعدومُ يتصَورُ نفسُه معدومةً وموجودةً أخرى، فليس الوجودُ ملازمًا لها. فقد تبينَ أن الوجود الواجب القديم وما يستلزم ذلك من صفاتِ الكمال ودَوامِ ذلك وبقائِه، كل ذلك يدخل في اسمه "القيوم"، واقترانه بالحيّ يستلزم سائر صفات الكمال، فجميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم"، ويَدُلُّ أيضًا على بقائها ودوامِها وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً. ولهذا كان قوله سبحانه وتعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أعظمَ آيةٍ في كتاب الله عز وجل، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرا.

_ (1) في الأصل: "لا يك خبره"، وهو تحريف. (2) مسلم (810) عن أبي بن كعب.

(2) قاعدة جليلة في إثبات علو الله تعالى على جميع خلقه

قاعدة جليلة في إثبات علوّ الله تعالى على جميع خلقه

- ذكر هذه القاعدة

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه: قاعدة جليلة بمقتضى النقل الصريح في إثبات علوّ الله تعالى الواجب له على جميع خلقه فوقَ عرشِه، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة والإجماع والعقل الصريح الصحيح والفطرة الإنسانية الصحيحة الباقية على أصلها. وهي أن يقال: كان الله ولا شيء معه، ثمّ خلق العالم، فلا يخلو: إما أن يكون خَلَقَه في نفسه واتصل به، وهذا محالٌ، لتعالي الله عز وجل عن مماسّةِ الأقذار والنجاسات والشياطين والاتصال بها. وإمّا أن يكون خَلَقَه خارجًا عنه ثم دخل فيه، وهذا محالٌ أيضًا، لتعالي الله عز وجل عن الحلول في المخلوقات. وهاتان الصورتان مما لا نزاعَ فيها بين المسلمين. وإما أن يكون خَلَقَه خارجًا عن نفسِه ولم يحل فيه، فهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره، ولا يقبل الله منا ما يخالفه، بل حرَّم علينا ما يناقضه. وهذه الحجة هي من بعض حجج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، التي احتجَّ بها على الجهمية في زمن المحنة. ولهذا قال عبد الله بن المبارك فيما صحَّ عنه أنه قيل له: بماذا نعرف ربَّنا؟ قال:

- عند المخالفين شبه المعقولات لا حقائقها

بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه (1). وعلى ذلك انقضى إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ، وما خالفهم في ذلك من يُحتجّ بقوله. ومن ادَّعى أن العقلَ يعارضُ السمعَ ويخالفه فدعواه باطلة، لأن العقل الصريح لا يتصور أن يخالف النقل الصحيح. وإنما المخالفون للكتاب والسنة والإجماع، والمدّعون حصول القواطع العقلية إنما معهم شُبَه المعقولات لا حقائقها، ومن أراد تجربة ذلك وتحقيقه فعليه بالبراهين القاهرة والدلائل القاطعة التي هي مقررة مسطورة في غير هذا الموضع (2). والله أعلم. ...

_ (1) أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص 50) و"الرد على بشر المريسي" (ص 24،103) وعبد الله بن أحمد في "السنة" (ص 7،25، 35،72) من طرقٍ عنه. (2) انظر المجلد الخامس من "مجموع الفتاوى" الذي يحتوي على رسائل ومسائل للمؤلف في هذا الموضوع.

(3) فتوى فيمن يدعي أن ثم غوثا وأقطابا وأبدالا

فتوى فيمن يدعي أن ثَمَّ غوثًا وأقطاباً وأبدالاً

- معنى الأولياء في الكتاب والسنة

سُئِل شيخ الإسلام مفتي الأنام حَبْر الأمَّة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بِن عبد السلام ابن تيميَّةَ رضي الله عنه وأرضاه، فيمن يَدَّعيْ أنَّ ثمَّ غوْثًا وأقطابًا وأبدالاً وأولياءَ، وأنَّ بهم يُستَسقَى الغيثُ وتَنزِل الرحمةُ ويُكشَف العذاب، وإذا غَضِبَ الله على أحدٍ من أهل الأرضِ وأراد أن يُنزِلَ غَضَبَه، نَظَرَ إلى قلوبِ هؤلاءِ، فإن وجدَهم راضينَ بذلك أَنزلَ عذابَه، وإلاّ رَفَعَه، وكذلك الرحمةُ والنصْر والرزق، وأنّ الغوث بمكَّةَ مُقيم. ومن يَدَّعي أن هؤلاء المولَّهِيْنَ والبهاليل الذين لا يُصَلُّون، ولا يَتَوَقَّوْنَ نجاسةً ولا غيرَها. فأجابَ رضي الله عنه قائلاً: الحمد لله رب العالمين. الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ، وعليه سلفُ الأمَّة وخَلَفُها الصالحونَ المتبعون للسَّلَف -: أنّ لله تعالى أولياءَ، كما لَهُ أعداء، وأولياء الله هم المنعوتون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفىِ الأخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1). وفي صحيح البخاري (2) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: مَن عَادَى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحَبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه

_ (1) سورة يونس: 62 - 64. (2) برقم (6502).

- أولياء الله نوعان

الذي يُبصِر به، ويَدَه التي يَبطِش بها، ورِجْلَه التي يَمشي بها، فبِي يَسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. لَئِن سألني لأعطِيَّنه، ولئن استعاذ بي لأعِيذَنِّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِي عن قبض عبدي المؤمن، يَكرهُ الموتَ وأَكرَهُ مساءتَه، ولابدَّ له منه". فبيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكَر أولياءَ الله أنه ما يَقرُب العبادُ إليه بمثلِ أداء الفرائض، ثمّ ذكر أنه لا يزال العبدُ يتقرب إليه بالنوافل بعد الفرائض، حتى يحبّه، فيصير العبد يَسمع بالله، ويبصر بالله، ويبطش بالله، ويمشي بالله، فيصير سمعُه وبصره ومشيُه وبطشُه بيده لرضا الله ومحبته، فإنّه لِمَا في قلبه من محبة الله وموالاتِه وعبادته وطاعتِه، يصير قلبُه منيبًا إلى الله، ويصيرُ ممن هداه الله واجتباه، فيَجْتبِي قلبَه إليه، ويَقذِفُ من نورِه في قلبِه، كما قال تعالى: (أَوَمَن كاَنَ مَيتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشى به في الناس) (1)، وقال تعالى: (يآ أيُّهَا اَلَّذِينَ آمنوا اَتَّقُوْا الله وَءَامِنُواْ بِرَسُوِلهِ يؤتِكم كِفلَين مِن رَّحمَتِهِ ويجعل لكم نُورا تَمشُونَ بِهِ) (2)، وقال تعالى: (* الله نُورُ اَلسَّمَاواتِ وَالأرض مَثَلُ نُورِه) (3) قال محمد بن كعب: مثل نُوْرِه في قلب المؤمن. وقال تعالى: (مَا كنتَ تَدرِى مَا الكتاب وَلَا الإيمَانُ وَلَكن جَعَلناه نورًا نَّهدِى بِهِ مَن نشاءُ مِنَ عِبَادِنَا) (4). فإذا جعل الله في قلبِه من نورِه صار بذلك النور يسمع ويبصر ويبطش ويمشي. وأولياء الله نوعان: مقرَّبون سابقون، ومقتصدون أبرار أصحاب

_ (1) سورة الأنعام: 122. (2) سورة الحديد: 28. (3) سورة النور: 35. (4) سورة الشورى: 52.

- لهم كرامات يكرمهم الله بها

يمين، كما ذكر الله هذين الصنفين في سورة الواقعة في أولها وفي آخرها، فذكر تعالى أن الناس ثلاثة أصناف وقتَ القيامة الكبرى ووقتَ الموت، فقال تعالى: (وكنُتُم أَزوَاجًا ثَلاثَةً (7) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة (9) والسابقون السابقون (10)) (1). وكذلك قال في آخر السورة: (فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94)) (2). وكذلك ذكر الأصناف الثلاثة في سورة هل أتى على الإنسان، وفي سورة المطففين. وقد ذكر في سورة فاطر تقسيمَ أمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ثلاثة أصناف في قوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُم ظَاِلٌم لنفسِهِ وَمنهُم مقتَصِد وَمِنهُم سَابق بِاَلخَيراتِ) (3)، فالظالم لنفسه: هو المفرِّط بترك المأمور أو فعلِ المحظور، والمقتصد (4): المؤدِّي للفرائض، المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات: المؤدِّي للواجب والمستحبّ، والتارك للمحرَّم والمكروه. وأولياءُ الله المتقون لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها، فخواصُّ أولياء الله المتبعون لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون كراماتُهم إمّا لحجةٍ في الدين، أو لحاجةٍ للمسلمين، كما كانت معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك، فهم يتقرَّبون إلى الله بما يُكرِمُهم به من الخوارق، ويعبدون الله بها، ويزدادون بها قربًا إلى الله، لا يطلبون بها عُلوًّا في الأرض ولا فسادًا.

_ (1) سورة الواقعة: 7 - 10. (2) الآيات 88 - 94. (3) سورة فاطر: 32. (4) في الأصل: "المقتصدون".

- منهم من يسمى بالأبدال

وقد كان كثير من السلفِ يُسمِّي من يُسمِّي من هؤلاء الأبدال، وقد قيل في معنى الأبدال (1): إنهم الذين بَدَّلوا السيّئاتِ بالحسنات، كما قال تعالى: (إلَّا مَن تَابَ وَءَامَن وَعَمِلَ عمَلاً صاَلِحًا فَأُوْلَئك يبُدِّل الله سَيئاتِهِم حَسَنَات) (2). ولا ريبَ أنّ الصالحين من عباد الله لهم سببٌ في الرزق والنَّصر، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقَّاص: "يا سعدُ، وهل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3). فهذا ونحوه حق جاء به الكتابُ والسنّة، ولا وُصولَ للخلقِ إلى رضوان الله وكرامته إلاّ بالإيمان برسُلِه وطاعتهم، فهم الوسائط والسُّفَراء بين الله وبين خلقِه، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلاَمُه أفضلُ الخلق، فمن ظَنَّ أنه يصل إلى رضوانِ الله وكرامتِه بدون اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو لأحدٍ من الخلق طريقٌ إلى رضوان الله وكرامته غير اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو كافر مُلحِد. ومن ادَّعَى أنّ أحدًا من أولياء الله الذَين بلغتْهم رسالةُ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصِل إلى رضوانِ الله وكرامتِه بغير كتاب الله وسنَّةِ رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو ملحدٌ ضالٌّ مُفتر، يُستتاب فإن تاب وإلاّ قُتِل كافرًا. بل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولُ الله إلى جميع الخلق الثّقلينِ إنسِهم وجِنِّهم، وهو رسولُ الله إلى جميع الإنس: أسودِهم وأحمرِهم، وعَرَبِهم وعجمِهم. فأولياء الله المتقون هم العالمون العاملون بما بعثَ الله به محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يكون لله وليٌّ إلاَّ من يَتّبع محمدًا، ومن لم يَتَّبع محمدًا فهو

_ (1) انظر لمعنى الأبدال: "فتوى في الغوث" للمؤلف. (2) سورة الفرقان: 70. (3) أخرجه البخاري (2896) والنسائي (6/ 45) عن مصعب بن سعد، ورواه أحمد (1/ 173) من طريق مكحول عن سعد نحوه.

- ليس للأولياء عدد معين

عدوُّ الله، لا ولي له، وإن كان مع ذلك له أحوال شيطانية، يَحصُل له بها مكاشفة وتصرُّف يُعِين بذلك أعداء محمد ويَخْفِرُهم، فهم من أعداء الله الملاعين، لا من أوليائه المتقين. وهو من جنس السَّحَرةِ والكُهَّان الذين كانت الشياطين تُخْبرهم ببعض المغيبات، وتُساعِدهم على بعض مطالبهم، وهؤلاء من أعَداء الله المجرمين، لا من أوليائه المتقين، بل هم كُفار يجبُ قتلُهم، بل يُقتَلون بلا استتابةٍ عند كثير من علماء المسلمين. وأما أن يكون في العالم أحدٌ من البشر لا يُنزِلُ الله رزقًا أو نصرًا أو هُدًى إلاّ بواسطته، فهذا من أقوال المفترين الملحدين، وهو من جنس قول النصارى، إمّا في المسيح، وإمّا في الباب. بل الناسُ يَدعُون الله، فيُجيبُ دعاءهم، ويسمع كلامهم. والمشركون كانوا يَدعُون الله إذا اضَطُرُّوا، فيُجيب دعاءهم، فكيف بالمؤمنين! وليس أحدٌ من الخلق يكون هو الذي يَرفع دعاءَ العبادِ كُلِّهم إلى الله سبحانَه وتعالى، ولا لعباد الله الصالحين وأوليائه المتقين عدد مُعين، لا أربعة ولا سبعة ولا اثنا عشر ولا أربعون ولا ثلاث مئة وثلاثة عشر، بل يكثرون تَارةً ويَقِلُّون أخرى. وقد كان حين بعث اللهُ محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول الأمر كانوا من أقل الناس، ثم إنه بعد هذا انتشر الإيمان. وقد أغرق الله أهلَ الأرض في زمن نوحٍ عليه السلام إلاّ من آمن معه، وما آمن معه إلاّ قليل. وفي الحديث الصحيح (1) أن الخليل عليه السلام قال لسارةَ لما طَلَبَها الكافر، وكان يأخذ امرأةَ الرجل إذا أعجبتْه، فقال الخليل لها: إذا سألكَ

_ (1) البخاري (2217، 3358) عن أبي هريرة.

- الرد على من يدعي أن الله ينزل العذاب أو يصرفه بالنظر إلى قلوب هؤلاء

فقولي إنّكِ أُختي، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرُكِ. وقول القائل: إن الله إذا غضِبَ على أحدٍ من أهل الأرض وأراد أن يُنزِل به العذابَ، نظرَ إلى قلوب هؤلاءِ المذكورين، فإن وجدَهم راضين بإنزالِ العذاب على الذي قد استحقّهُ أَنزَلَه، وإن لم يجدهم راضين بذلك رَفَعَه- كذِبٌ مفترى، بل قد أنزلَ الله العذابَ على قوم لوط مع مجادلةِ إبراهيم الخليل عنهم. قال تعالى: (فَلَمَا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود (76)) (1). وقال تعالى لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمَّا استغفر للمنافقين: (سَوَآء عَلَيهِم أَسْتَغفَرتَ لَهُم أَمْ لَم تستَغفِر لَهُم لَن يَغفِرَ الله لَهُم) (2). ومحمد وإبراهيم أفضلا الخلق، هذا خليل الله، وهذا خليل الله. والخليل إبراهيم استغفرَ لأبيه. ثمَّ لما مات أبو طالب قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأستغفرنَّ لك مالم أُنْهَ عنك" (3)، فانزل الله تعالى: (مَا كاَن لِلنَّبىِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولىِ قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (4). فقال بعض المسلمين: إنَّ إبراهيم قد استغفر لأبيه، فأنزل الله تعالى: (وَمَا كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) (5).

_ (1) سورة هود: 74 - 75. (2) سورة المنافقين: 6. (3) أخرجه البخاري (4675 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن سعيد بن المسيب عن أبيه. (4) سورة التوبة: 113. (5) سورة التوبة: 114.

وقد ثبت (1) أنه يوم القيامة يُراجِعُ الناس الشفاعة، فيأتون إلى آدم ليشفع لهم، فيَرُدُّهم إلى نوح، ويَرُدُّهم نوح إلى إبراهيم، ويردُّهم إبراهيم إلى موسى، ويردُّهم موسى إلى عيسى، ويردُّهم عيسى إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى سائرِ النبيين واَلِ كل وسائرِ الصالحين، فإذا أتوا محمدًا أفضلَ الشفعاءِ وأعظمَ الخلقِ جاهًا عند الله قال: "فآتِي ربي، فإذا رأيتُه خَرَرْتُ له ساجدًا، وأَحمدُ ربي بمحامدَ يَفتحها عليَّ لا أُحسِنُها الآن، فيقال: أيْ محمد، ارفَعْ رأسَك، وقُلْ تُسْمَع، وسَلْ تُعْطَه، واشْفَعْ تُشَفَّعْ". فلا يَشفع حتى يأذَن الله له في الشفاعة، كما قال تعالى: (مَن ذَا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2)، وقال تعالى: (وَلَا تنَفعُ اَلشَفاعَةُ عنده إلا لمن أذن له) (3). فإذا كان أفضلُ الخلق لا يَشفع في أحدٍ إلاّ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ، فكيف يُقال: إنّ الله لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ إذا رضي هؤلاءِ أن يُعذِّبَهم؟ ومعلوم أنّ العبدَ عليه أن يتبعَ رِضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فيفعلَ ما أَمَر، ويَرضى بما قَدَّر. وأمّا الربّ عزّ وجلّ إذا أرادَ أن يُهلِك أعداءَه هَل يُشاوِرُ أحدًا، أو يتوقفُ فِعلُه على رِضا أحدٍ من عباده؟ بل هؤلاء العباد إن كانوا راضينَ بما أمرهم أن يَرضَوْا به، وإلاّ وَجَبتِ التوبةُ عليهم. إلاّ ترى أن الله تعالى لمَّا أَغْرق أهلَ الأرضِ، وأغرقَ فيهم ابنَ نوح الذي قال له نوح: (يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من

_ (1) في حديث الشفاعة الطويل، الذي أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة. (2) سورة البقرة: 255. (3) سورة سبأ: 23.

رَّحم) (1). وبعد هذا دعا نوح ربَّه فقال: (رب إن ابنى من أهلى وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45)) (2)، قال الله: (يَا نُوحُ إنه ليس مِن أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم) (3). فإذا كان الله لمَّا استحقَّ ابنُ نوح الهلاكَ أهلكَه، وسألَ نوحٌ فيه فعاتبَ الله نوحًا على سُؤالِه، وهو أولُ رسولٍ بعثَه الله إلى أهلِ الأرض، فكيف يقال: إنه لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برِضا طائفةٍ من عبادِه؟ فهل يكون أحدٌ أفضلَ من أولي العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ومحمد؟ وقد (اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رَبِّ لَو شِئتَ أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هى إلا فتنتك) أي محنتك واختبارك (تُضِلُّ بِهَا مَن تشًاَءُ وَتَهْدِى مَن تشاء أَنتَ ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً ...) (4) الآية. وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قُل فَمَن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً) (5). فهذا حالُ الرسل مع الله يَرُدّ على من يَغْلُو فيهم، فكيف يُقال: إنّ له عبادًا لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برضاهم؟ بل يقال: هؤلاء العبادُ لو أرادَ أن يُهلِكَهم فمن يَملِك دَفْعَ بأسِ الله عنهم؟ وهؤلاء العبادُ عليهم

_ (1) سورة هود: 42 - 43. (2) الآية: 45. (3) الآية: 46. (4) سورة الأعراف: 155 - 156. (5) سورة المائدة: 17.

أن يتوبوا إلى الله ويَستغفروه، ففي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "واللهِ إني لأستغفر الله وأتوبُ إليه في اليومِ أكثر من سبعين مرةً". وفي صحيح مسلم (2) عن الأغرّ المزني عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "يا أيها الناس، تُوبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مئة مرة". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3): "إنّه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة". وثبت عنه في الصحيحين (4) أنه كان يقول: "اللهم اغْفِرْ لي هَزْلي وجدِّي، وخَطَئي وعَمْدِي، وكلُّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ ومَا أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله إلاّ أنتَ". وهذا وأمثاله في دعاءِ الأنبياء وتضرُّعِهم واستغفارِهم وتوبتهم كثير في الكتاب والسنة، وهم يسألون الله رحمتَه لهم ولغيرِهم، ويستعيذون بالله من عذابه أن يَنزِلَ بهم أو بمن يطلبون دفعَه عنهم، فكيفَ يكون تعذيبُ ربّ العالمين لمن شاء تعذيبَه لا يكون إلاّ برِضا بعضِ الناس؟. لكن قد ثبتَ في الصحيحين (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مُرَّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال: "وَجَبَتْ"، ومُرَّ عليه بجنازةٍ، فأثنوا عليها

_ (1) برقم (6307). (2) برقم (2702/ 42). (3) في الحديث السابق عند مسلم (2702/ 41) عن الأعز المزني. (4) البخاري (6399) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري. (5) البخاري (2642) ومسلم (949) عن أنس بن مالك.

- أولياء الله المتقون هم شهداء الله في الأرض

شرًّا، فقال: "وَجَبَتْ"، قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبتْ لها الجنّةُ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًّا فقلتُ: وجبتْ لها النارُ، أنتم شُهداءُ الله في الأرض". وفي المسند (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُوشِكُ أن تَعلَموا أهلَ الجنَّةِ من أهلِ النار"، قيل: بِمَ يا رسولَ الله؟ قال: "بالثناءِ الحسنِ والثناءِ السيئ". فأولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض، بما جعله الله من النور في قلوبهم، فمن أَثنوا عليه خيرًا كان من أهلِ الخير، ومَن أثنَوا عليه شرًّا كان من أهلِ الشرِّ. وأيضًا فقد يَدْعُون الله لمن يُحِبّونه، فينفعُه الله بدعائهم، ويَدعُون على غيره، فيتضرَّرُ بدعائهم. والملائكةُ يُؤيِّد الله بهم عبادَه المؤمنين، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَنزَلَ الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها) (2)، وقال: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا) (3). وقال: (فأرسَلنَا عَلَيهِم رِيحًا وَجُنُودًا لَم تروها) (4). وقال .... (5). وأما حزبُ الشيطان فيُعاوِنُهم الشياطينُ شياطينُ الإنس والجنّ، كما قال تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم

_ (1) 3/ 416 و 6/ 466 عن أبي زهير الثقفي. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4221). (2) سورة التوبة: 26. (3) سورة الأنفال: 12. (4) سورة الأحزاب: 9. (5) بياض في الأصل. ولعل المؤلف يشير إلى قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا) [التوبة: 40].

- لفظ الغوث والقطب لم ينطق به كتاب ولا سنة

مِن الناس وإنىِ جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنىِ بَرِئ منكم) (1). .... (2). فصل ولفظ الغوث والقطب في حقّ البشر لم يَنْطِق به كتابٌ ولا سنة، ولا تكلَّم به أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذاْ المعنى، بل غِياثُ المستغيثين على الإطلاق هو الله تعالى، كما قال: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) (3). ولم يجعل الله أحدًا من الخلق غوثًا يُغِيث الخلقَ في كُلِّ ما يستغيثونه فيه، لا مَلَك ولا نبي ولا غيرهما. بل في الصحيحين (4) أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم يأتي يومَ القيامةِ على رَقَبتِه بعيرٌ له رُغَاءٌ، فيقول: يا رسولَ الله أَغِثْني أَغِثْني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا. يا عباس عمِّ قد أَبلغتك". وهذا كقوله (5): "يا فاطمةُ بنت محمد، لا أُغنِي عنكِ من الله شيئًا؛ يا عبّاسُ عمَّ رسول الله، لا أُغنِي عنكَ من الله شيئًا؛ يا صفيّهُ عمّةَ رسولِ الله، لا أُغنِي عنكِ من الله شيئًا، سلوني ما شِئتم". وهذا من تأويل قوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين (214)) (6).

_ (1) سورة الأنفال: 48. (2) بياض في الأصل. (3) سورة الأنفال: 9. (4) البخاري (3073) ومسلم (1831) عن أبي هريرة. (5) أخرجه مسلم (205) وأحمد (6/ 187) والترمذي (3184) والنسائي (6/ 250) عن عائشة. (6) سورة الشعراء: 214.

- الرد على من يقول: الغوث مقيم بمكة

وقد يكون بعض الناس سببَا لشَر يَندفع في بعض الأمور، فيقال: فلانٌ يَستغيثُ بفلانِ، كما قال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) (1). هذا كلفظ النصر والرزق والهُدى، فاللهُ هو الهادي النصير الرازق، وليس هذا النعتُ على الإطلاق لأحدِ إلاّ لله وحدَه، لا لملَكٍ مقرَّب ولا نبي مُرسَل. لكن من الخلق من يكون سببًا في رزقِ أو هُدَى أو نَصْرِ يَحصُل لغيرِه، وهو في ذلك سبب، لا يَستقِل بالحكم، بل لابُدَّ معَه من أسباب أُخَر، ولابُدَّ من مَوَانِعَ يَدفعُها اللهُ، وإلاّ لم يَحصُل المطلوب. وأما أَن يكون بشرٌ أو مَلَكٌ يُغِيث الخلقَ في كلِّ ما يستغيثونَ فيه بالله، فمن ادَّعَى هذا فهو أكفرُ من النصارى من بعض الوجوه، فإنّ أولئك قالوا: إنّ الله هو الذي يُغِيث، لكن زَعَموا أنِّه اتَّحدَ أو حَلَّ في المسيح، وهذا جَعلَ بعضَ المخلوقاتِ يَفعل ما يَفعله الخالق. ومن زعم أنَّ ثَمَّ غَوثًا يكون على يديه ما يُنزِله الله من هُدَى ونَصْرِ ورزقِ، فقد افْتَرى على الله، ليس ما ينزله الله في ذلك على عبادِه لشخص واحد. ومن ضلال بعضِ هؤلاء أنهم يجعلون الغوثَ مقيمًا بمكةَ دائمًا. فيقال لهم: مَن هذا الغوثُ الذي كانَ غِياثَ الخلقِ على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخُلَفائِه الراشدين، ولم يكن أحدٌ منهم مقيمًا بمكّةَ؟ ومن كان بمكَّةَ مَن هو أفضلُ من الرسولِ وخلفائِه؟ وهؤلاء من جنس قولِ الإفرنج في "الباب"، فإنهم يَدَّعون فيه نحوًا من ذلك. وأما لفظ "القطب"، فما دارَ عليه أمرٌ من الأمور قيل: إنه قُطْبُه، كقطب الرَّحَا وقطب الفلك. فمن كانت له مرتبة من إمارةٍ أو علمٍ أو

_ (1) سورة القصص: 15.

- القطب المصطلح عليه لا يمكن أن يوصف به مخلوق

دينٍ فهو قُطبُ تلك الأمور التي دارت عليه، فالمَلِك قطبُ المُلْك، والوالي قُطب الوِلاية، ونحو ذلك. وقطبُ الدين الذي يُؤخذ عنه ولا يزاحِمه أحدٌ هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن الصالحين مَن يُجرِي الله على يَدَيهِ من الخير ما يكون قطبَ أمته. وأما أن يكون للوجودِ قطبٌ يدورُ عليه أمرُه، به يَنزِلُ المطَرُ مطلقًا، وبه يَحصُل الهُدى مطلقًا، وبه يَحصُل النّصرُ مطلقًا، فهذا لا يكون لمخلوقٍ البتةَ، ولكن قد يكون من المخلوقين من يَحصُل به ما يَحصُل من نَصْر ورزقٍ وهُدًى، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائِكم، بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم؟ " (1). ومن كان تاركًا للصلاة مع قدرته على الصلاة فإنّه يُستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل، وليس في هؤلاء من هو وليٌّ لله، بل فيهم من معه شياطين تُوحِي إليه بأشياء، وتُعاوِنه بأشياء، فيُخبرون ببعض الأمور الغائبة كما كانت الكُهَّان تُخبِر، ويتصرّفون في بعض الأمور بشياطينهم من جنس تصرُّف السَّحَرة، فتارةً يقتلون الرجل، وتارةً يُمرِضونَه، إلى أمور أخرى من جنس الحوادث، فيظنّ من لا يَعرِف حقيقةَ أمرِهم أنهم أولياء الله وأن هذه كرامات، وقد يكون في هؤلاء من هو كافر بالله. ومن هؤلاء من يُصلّي، ويكون له ذنوب كبائر يكون بها فاسقًا، وله شياطينُ تُعِينه. وطائفة ثالثة خيرٌ من هؤلاء، وهؤلاء فيهم خير ودين، وفيهم قلّةُ معرفةٍ بأمر الله ونهيه، يَقترِن بهم جنٌّ من جنسهم، فتارةً يطيرون بهم في الهواء، فيذهبون بهم إلى مكةَ، ويَقِفون بعرفات من غير أن يَحجُّوا الحج الذي أمر الله به ورسولُه، فلا يُحرِمون، ولا

_ (1) سبق ذكر الحديث قريبًا.

يُلَبُّون، ولا يجتنبون محظوراتِ الإحرام، ولا يُقيمون بمزدلفةَ، ولا يطوفون بالبيت، بل يُحمَلون في الهواء فيقفون بعرفات، ثمَّ يُحمَلون فيُصبِحون في بلدهم. وهذا من تلاعُبِ الشياطين بهم. ومن ظنّ هذا من كراماتِ أولياء الله فهو جاهل، فإنّ هذا عملٌ محرَّم، ليس مما أمر الله به ورسولُه، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يذهبَ إلى عرفات، فيَقِف مع الناس بثيابِه، من غيرِ أن يَحُجَّ الحج الذي أمرَ الله به ورسولُه. بل قد رُوي أن عمر بن الخطاب رأى بعرفات ناسًا عليهم الثياب، فأراد أن يعاقبهم عقوبةً بليغةً. والقلم لم يُرفَعْ إلاّ عن المجنون، وليس كلُّ مَن رُفِعَ عنه القلم يكونُ وليًّا لله، بل من المجانين من يكون يهوديًا ونصرانيا ومشركًا، فلا يكون وليًّا لله وإن رُفِع عنه القلم، بخلافِ من كان مؤمنًا بالله وبرسوله وله صلاحٌ ودينٌ، فأصابَه خَلْطٌ أفسدَ مزاجَه، فهذا إذا غابَ عقلُه رُفِع عنه القلم، وإذا صَحَا (1) تكلَّم بكلامِ أهلِ الإيمان، و [له] قلب يحبّ الله ورسوله ويحبّ ما أحبَّه الله ورسوله. وأما من اقترنتْ به الشياطينُ، وغيَّبتْ عقلَه في بعضِ الأحوال، فهذا قد يتكلم الشياطينُ على لسانِه بالإثم والعُدوان، ويُبَغِّض إليه ما يحبُّه الله من الطهارة والصلاة والقرآن، ويُحبِّبُ إليه ما يُبغِضُه الله من الكفر والفسوق والعصيان. ومن علاماتِ هؤلاء أنه لا يَحصُلُ لهم الخوارقُ عند أفعالِ الخير التي يحبُّها الله ورسوله، كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء وقيامِ الليل، بل إنما يَحصُل إذا أشركوا بالله، فاستغاثوا ببعض المخلوقين، أو عاشروا النسوانَ والمُرْدَانَ معاشرةً قبيحةً، أو

_ (1) في الأصل: "صفا" تحريف.

- رجال الغيب عند الصوفية هم من الجن والشياطين

حَضَروا سماعَ المُكَاءِ والتصدية، وإذا اجتمعت المحرَّماتُ كانت أحوالُهم أقوى. فهذا مما يُبيّن أنهم من حزبِ الشياطين وأوليائه، لا من حزب الرحمن وأوليائه، قال تعالى: (وَمَن يَعشُ عَن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بينى وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)) (1). وأما الذين يسمونهم (2) الناس رجالَ الغيب، كالذين يظهرون بالأماكن التي ليس فيها جمعة ولا جماعة ولا آثار الرسالة، بل يظهرون في الأماكن التي ينفرد بها بعضُ الناس عن الجمعة والجماعة، إمّا جبلٌ من الجبال، كجبل لبنان وجبل الفتح وجبل الأحبس وغير ذلك من الجبال، وإمّا مَغَارةٌ من المغارات، كمغارة الدم، وإمّا غيرها، وإمّا غير ذلك من المواضع التي لم يأمر الله ورسولُه بقصدِها للعبادة، وإنما يَقصِدها الجهّال. فهؤلاء هم من الجنّ والشياطين، وقد سمّاهم الله رجالاً، كما قال: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً (6)) (3). والكلام على هؤلاء وتفصيل أحوالهم وما عرفناه من هذه الأمور يَطولُ (4)، وهذا مقدار ما وَسِعتْه هذه الورقة. تمت هذه الورقات [من] الجواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

_ (1) سورة الزخرف: 36 - 39. (2) كذا في الأصل. (3) سورة الجن: 6. (4) انظر "فتوى في الغوث" للمؤلف، ففيها تفصيل ما أجمله هنا.

(4) فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان

فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان

- المؤمن التقي ولى لله

بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيم (128)) (1). وقال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (2). وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحى ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)) (3). وقال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)) (4). فمن كان مؤمنًا تقيا كان لله وليًّا، من أيّ صنفٍ كان. وفي الصحيحين (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنّ أوليائي المتقون

_ (1) سورة التوبة: 128. (2) سورة آل عمران: 164. (3) سورة الأعراف: 158. (4) سورة يونس: 62 - 63. (5) لم أجده في الصحيحين، وقد أخرجه أحمد (5/ 235) عن معاذ بن جبل.

- أولياء الله نوعان

حيثُ كانوا ومن كانوا". وفي صحيح البخاري (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: من عَادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداء ما افترضتُ عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبَصَرَه الذي يُبصِر به، ويَدَه التي يَبطِش بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، فبِيْ يسمع، وبي يُبصِر، وبي يَبطِش، وبي يمشي. ولئن سألني لأعطِينَّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يَكرهُ الموتَ وأَكرَهُ مساءتَه، ولابُدَّ له منه". فقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أولياء الله نوعان: المقرَّبون السابقون، والأبرار أصحاب اليمين، هم الذين تقرَّبوا إليه بالنوافل بعد الفرائض. والآخرون هم المؤدون للفرائض المجتنبون للمحارم، كما قال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) (2). فالظالم لنفسه: هو صاحبُ الذنوب والخطايا؛ والمقتصد: هو الذي يفعل ما فرضه الله عليه ويترك ما حرَّمه الله عليه؛ والسابق بالخيرات: هو الذي لا يزال يتقرَّبُ إلى الله بما يَقدِرُ عليه من النوافل بعدَ الفرائض. وهؤلاء هم المتبعون لخاتم المرسلين وإمام المتقين وأفضل خلق الله أجمعين محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليمًا، الذي بعثَه الله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، فهَدى به من الضلالة، وأرشدَ به من الغواية، وفتح به

_ (1) برقم (6502) عن أبي هريرة. (2) سورة فاطر: 32.

أعينًا عُمْيًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، حينَ فرَّق الله به [بين] الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر، وبين الخير والشرّ، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين أولياء الله وأعداءِ الله. فالحلال ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدينُ ما شرعه، والطريق إلى الله هو طاعةُ أمرِه، فلا طريقَ إلى الله إلاّ متابعة رسول الله. قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (1). وقال تعالى: (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)) (2). وقد بعثَ الله محمدًا بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحجّ البيت" (3). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه والبعثِ بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيرِه وشره". وقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (4). فقد بين شرائعَ الإسلام وحقائقَ الإيمان، فكل من دعا إلى شريعة أو حقيقةٍ تخالف ما بعثَه الله به فهو ضالٌّ من إخوان الشياطين، خارجٌ

_ (1) سورة آل عمران: 31. (2) سورة الشورى: 52 - 53. (3) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) عن ابن عمر. (4) أخرجه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب. ورواه البخاري (50) ومسلم (9) عن أبي هريرة.

- من سلك مسلك المبتدعين الضالين لم يكن من أولياء الله

عن طريقِ اللهِ ودينِ المرسلين، ليس من أولياء الله المتقين ولا حزب الله المفلحين ولا عبادِه الصالحين. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في خطبته: "إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظةً بليغةً ذَرَفَتْ منها الأعين، ووجلتْ منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنَّ هذه موعظة مودعِّ، فماذا تَعْهَد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يَعش منكم بعدي فسَيَرى اختلافًا كبيرًا، فعليكم بسنتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كل بدعة ضلالة" (2). قال الترمذي: حديث صحيح. فمن سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله المتقين وحزبِه المفلحين وعبادِه الصالحين، مثل الذين يُظهِرون الإشارات الشيطانية، كإشارة الدم والسكر والنيل واللادن وماء الورد والزعفران، وملابسة النيران، فحين يلبسهم الشيطان قد يزيد أحدهم، ويتكلم الشيطان على لسانه كما يتكلم الجنُّ على لسان المصروع، وإذا أفاق من سُكْرِه لم يعرف ما تكلَّم به الشيطان على لسانه، كما لا يَعرِف المصروع إذا أفاق ما تكلم به الشيطان على لسانه، ومثل أكل الحيّات والعقارب والزنابير، وأكل آذان الكلاب والحمير، وغير ذلك

_ (1) مسلم (867) عن جابر. (2) أخرجه أحمد (4/ 126) والدارمي (96) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (44،43) عن العرباض بن سارية.

- رغبتهم في سماع مزامير الشيطان

من الخبائث التي يأكلونها، والمنكرات التي يفعلونها، مثل الرقص على الغناء والمزامير، ورفع الأصوات بالخُوار كما يخور الثور، وقد قال تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)) (1). وهؤلاء الضُّلاَّل الغُواة حزبُ الشيطان لا يقصدون في مشيهم، ولا يغضّون من أصواتهم، بل يرفعون الأصوات المنكرات، ويرقصون كرقص الدِّباب ونحوها من الحيوانات، ويُعرِضون عن كتاب الله وسنة رسوله، فلا يرغبون في سماع كلامِ الله وكلامِ رسوله وكلامِ الصحابة كما يرغبون في سماع مزامير الشيطان، بل سماع مزامير الشيطان أحبُّ إليهم من سماع كلام الملك الرحمن. وقد كان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ، والباقي (2) يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى! ذَكِّرْنا ربَّنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون. ومرَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فقال: "مررتُ بك البارحةَ وأنتَ تقرأ، فجعلتُ أستمع لقراءتك"، فقال: يا رسول الله! لو علمتُ أنك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا (3). وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعالمين والعارفين، كما بين الله ذلك في كتابه، قال تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا

_ (1) سورة لقمان: 19. (2) كذا في الأصل. (3) أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793)، وليس عندهما زيادة قول أبي موسى في آخر الحديث. وقد رواه أبو يعلى بهذه الزيادة كما في "مجمع الزوائد" (7/ 171)، قال الهيثمي: فيه خالد بن نافع الأشعري، وهو ضعيف.

إذَا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا (58)) (1). وقال تعالى: (* وَإذَا سَمِعُوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) (2). وقال تعالى: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سُجَّدًا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً (109)) (3). وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (4). وقال: (إنَّمَا المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) (5). وأما اتخاذ التصفيق والغناء والمزامير قربةً وطاعةً وطريقًا إلى الله، فهذا من جنس دين المشركين الذين قال الله فيهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) (6). والمكاء: هو التصويتُ بالفم، كالصفير والغناء، والتصدية: التصفيق باليد. فذمَّ الله هؤلاء المشركين الذين يجعلون هذا قائمًا مقامَ الصلاة. وأهل البدع والضلالة أتباعُ الشيطان يُحِبُّون السماع بالدّف والكفّ أكثرَ مما يحبون سماعَ القرآن، ويرون ذلك طريقًا لهم يقدّمونه على

_ (1) سورة مريم: 58. (2) سورة المائدة: 83. (3) سورة الإسراء: 107 - 109. (4) سورة الزمر: 23. (5) سورة الأنفال: 2. (6) سورة الأنفال: 35.

- المبتدعون الضالون لا تأتيهم الإشارات الشيطانية إلا عند البدع

استماع القرآن، [و] يختارون سماعَ أبيات الشيطان على سماع آيات الرحمن. وقد قال عبد الله بن مسعود (1): الغناء يُنبت النفاقَ في القلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ، والذكرُ ينبِتُ الإيمان في القلبَ كما ينبِت الماءُ البقلَ. ولهذا كان هؤلاء المبتدعون الضالُّون أتباعُ الشيطان لا تأتيهم الإشارات الشيطانية إلاّ عند الباع التي لم يشرعْها الله ولم يأذنْ بها، مثل اجتماعهم على سماع أبيات الشيطان ومزاميره، لاسيما إذا كان هناك جيران من الصبيان وأخواتهم من النسوان، فهنالك يكونُ أظهرَ لحالِ الشيطان. سَمِعوا القُرانَ فاطرقوا لا خِيفةً لكنه إطراقُ سَاهٍ لاهِ أما الغناءُ فكالحمير تناهقوا واللهِ مارَقَصُوا من أجلِ اللهِ دف ومزمارٌ ونغمةُ شاهدٍ فمتَى رأيتَ عبادةً بملاهِي يا أمةً ما ضَرَّ دينَ محمدٍ وجَنَى عليه ومن له إلاّ هِيْ وأيضًا فهم يشركون بالرحمن، فيستغيثون بالمخلوق الميت والغائب، يرجونَه ويخافونَه ويدعونه، وهو لا يَسمع كلامهم ولا يرى مكانهم، ولكن الشياطين قد تخاطبهم وقد تتمثل في صورته، فيظنونه أنَ ذلك هو المسيح المستغاث به، وإنما هو شيطان تمثل لهؤلاء المشركين، كما تتمثل الشياطين للنصارى في صورة من يستغيثون به مثل جرجس وغيره، مثل ما تَدخل الشياطينُ في الأصنام، وتكلِّم عابديها أحيانًا، مثل ما كان يجري للمشركين من العرب، ومثل ما يجري للمشركين من الترك والهند وغيرهم. فإذا حضر أولياء الله المتقون وحزبُه

_ (1) أخرجه البيهقي (10/ 223) موقوفًا. ثم أخرجه هو وأبو داود (4927) عنه مرفوعًا، وفي إسناده شيخ لم يسم. وانظر "تلخيص الحبير" (4/ 199).

- كيف ينبغي أن يعامل هؤلاء

المفلحون وجندُه الغالبون، فذكروا الرحمن وقرأوا آية الكرسي ونحوها من آيات القرآن نزلت الملائكةُ، فطَردتِ الشياطين، وبطلت أحوالهم. كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلتْ عليهم السكينةُ، وحَفتْهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عنده" (1). و"من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه لم يزل عليه من اللهِ حافظ، لا يقربه شيطان حتى يُصبِح" (2). كما صدَّقَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أخبرَ بذلك. وهؤلاء المبتدعون الضالّون يجب على كل قادرٍ أن ينهاهم عن هذه البدع المُضِلَّة، ويَذُمَّ من يفعلها، فإن لم ينتهِ وإلاّ عاقبَه بما يستحقه شرعًا، وأقل ذلك أن يهجرهم، فلا يقربهم ولا يعاشرهم حتى يتوبوا، ويتبعوا الكتاب والسنة والطريق التي بعثَ الله بها رسوله، ولا يُعطَون من الزكاة حتى يتوبوا، فإن الزكاة جعلها الله رزقًا لمن يعبده ويُطيعه ويُطيع رسولَه من عبادِه المؤمنين، فلا يُعَانُ بها أهلُ البدع الضالين الذين يُضِلُّون الناسَ عن سبيل الله، ويدعونهم إلى خلاف كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيد المرسلين محمدٍ وآلِه وصحبه أجمعين، كلما ذكرك الذاكرون وغَفَلَ عن ذكرك الغافلون، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. والله الموفق للصواب. (تمت الرسالة بحمد الله وعونه لشيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مُنقَلَبه ومثواه).

_ (1) أخرجه مسلم (2699) عن أبي هريرة. (2) رواه البخار (5010،3275،2311) تعليقًا بصيغة الجزم عن أبي هريرة.

(5) مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال

مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال

- الفرق بين الأحوال الربانية والأحوال الشيطانية

مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال، هل هم قسمان: أولياءُ لله تعالى أحوالهم ربانية؛ وأولياء للشيطان أحوالهم شيطانية؟ وإذا كان كذلك فما الفرق بين هؤلاء وهؤلاء؟ فإن جماعةً من الناس انحرفوا، حتى أنكروا كراماتِ الأولياء، وآخرين اعتقدوا كلَّ خارقٍ دليل (1) على الولاية الرحمانية. أجاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية - أيده الله ووفَّقه لما يرتضيه بمنه وكرمِه -: الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة من أعظم المسائل التي يحتاج إليها جميع الناس، فإنه من لم يُفرِّق بين الخوارق التي تكون آياتٍ وبراهينَ ومعجزاتٍ للأنبياء، وتكون مما يُكرِم الله به الأولياءَ؛ وبين الخوارق التي تكون للسحَرة والكُهَّانِ وغيرِهم من حزب الشيطان، وإلاّ (2) اشتبه عليه الأنبياء وأتباعُهم أولياءُ الله المتقون بالمنتسبين الكذابين وشبههم الكذابين الضالين. ولهذا اضطربَ في هذا الأصل كثير من أهل النظر والكلام في أصول الدين والعلوم الإلهية، ومن أهل العبادة والزهد والفقراء والصوفية. وأما اشتباه ذلك على عموم الناس ومن شَدَا طرفًا من العلم أو كان له حظ من العبادة، فأعظم من أن يوصف.

_ (1) كذا بالرفع في النسختين. (2) هنا سقط كبير في نسخة جامعة برنستون.

- إنكار كرامات الأولياء من البدع

والله سبحانه بعث رسولَه وأنزل كتابَه لبيان الفرق بين هذا وهذا، وختمهم بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل رسول بعثه بأفضل كتاب إلى أفضل أمة بأفضل شريعةٍ، فرَّق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد، وأولياءِ الرحمن وأولياءِ الشيطان، وجُندِ الله المفلحين وحزب إبليس اللعين. وقد بُسِط الكلام عليه [في] غير هذا الموضع، مثل "بيان الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لأجل سؤال من سأل عن ذلك من أهل الملك والعلم والدين. فمن أنكر كرامات أولياء الله المتقين فهو من أهل البدع الضالين، كمن أنكر ذلك من المعتزلة وغيرهم، ولهذا كان أفضل متأخريهم أبو الحسين البصري مقرًّا بكرامات أولياء الله المتقين، وإن كان بعض أهل الإثبات -كأبي إسحاق الإسفرايني- وافقَ المعتزلةَ على إنكار الكرامات. فإنكارُ كرامات أولياء الله المتقين قولٌ مبتدَعٌ في الإسلام، مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع السلف الماضين وأئمة الدين، بل من أنكر خوارقَ أهلِ السحر وأتباع الشياطين فهو من أهل البدع الضالين، كما أنكر طائفة من الفلاسفةَ والأطباء وجودَ الجنّ، وأنكر كثير من المعتزلة أن يدخلوا في الإنسان ويصرعوه ويتكلموا على لسانه. فكلا القولين من الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة وأقوال الأئمة، بل من المخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وإن كان إنكار الجن كفر ظاهر (1)، فكثيرٌ ما في الكتاب والسنة من ذكرهم، بخلافِ دخولهم في الإنسان فإنه أخفَى، ولهذا كان إنكار الثاني بدعة وإنكارُ الأول إلحادًا ظاهرًا.

_ (1) كذا في الأصل بالرفع.

والمقصود [أن] من أنكر خوارق العادات مطلقًا للأنبياء وغيرهم فهذا كافر باتفاق أهل الملل، وكذلك إن جعلَ ذلك من قُوى النفس، كما يقوله ابن سينا وأمثالُه من المتفلسفة، فهؤلاء ملحدون باتفاق أهل الملل، وقد بُسِط الكلام على هؤلاء في مجلد كبير يُسمَّى "الصفدية" وغيرها. ومن قال إن العادات لا تخرق إلاّ للأنبياء، وأنكر الكرامات والسحر الخارق للعادة، فهو من أهل البدع الخارجين عن الجماعة كأكثر المعتزلة. وكذلك من قال: إنها لا تخرق إلاّ للأنبياء والأولياء، وجعل يستدلُّ بمجردِ خرقِ العادةِ على أن من خُرِقَتْ له العادةُ كان وليا لله، وإن كان مخالفًا للكتاب والسنة. فهؤلاء ضالون، وهم شرٌّ من المعتزلة، وهم من جنس أتباع الدجَّال وأتباعِ مُسَيلمة الكذاب والأسود العَنْسي وغيرِهم من الكذابين. ولهذا اتفق أولياء الله على أن الرجلَ لو طارَ في الهواءِ أو مَشَى على الماء لم يُعتَبر حتَّى يُنظَر متابعتُه لأمرِ الله ونهيِه. فإن هؤلاء يستلزم أقوالهم أن يجعلوا كثيرًا من المشركين وأهل الكتاب - اليهود والنصارى - من أولياء الله المتقين، فإن لهؤلاء خوارق كثيرة، فمن أنكر وجودَها كان كمن أنكر خوارقَ الأولياء وأنكر السحرَ والكهانةَ، ومن أقرَّ بوجودِها وجعلَها دليلاً على أنّ صاحبَها وليّ لله فهو جَعَلَ خوارقَ السحرةِ والكهّانِ دليلاً على أنهم أنبياء وأولياء الرحمن، وكلا القولين يوجب الخروجَ عن دينِ الإسلام، والخروجَ من النور إلى الظلام. بل يجب أن يُفرَّقَ بين هؤلاء وهؤلاء بما بينه الله من الآيات والبراهين، وبما بُعِثَ به سيّدُ المرسلين، فيُعلَم أن أولياءَ الله هم المذكورون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم

- أولياء الله هم المتقون، وهم نوعان

يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1). فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وهم نوعان: الأبرار وأصحاب اليمين؛ والسابقون المقربون. فالأولون هم المقرَّبُون إلى الله بفعل ما فرضه وتَرْكِ ما حذَّره؛ والآخرون هم الذين يتقربون إليه بعد الواجبات بالنوافل المستحبات، كما روى البخاري في صحيحه (2) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: من عَادَى لي وليًّا فقد بارزَني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبد بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمَعُ به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشيْ عليها، فبِيْ يَسمعُ، وبي يُبْصِر، وبي يَبْطِش، وبي يَمشِي. ولئن سألني لأعْطِيَنَّه، ولئن استعاذَ بي لأعِيْذَنِّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِيْ عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يَكره الموتَ وأَكرهُ مَسَاءتَه، ولابُدَّ له منه". فقد بيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث نوعَ أولياء الله المتقربين بالفرائض، ونوعَ أهل النوافل بالمحبة. ومالم يكن من الواجبات ولا من المستحبات، ولم يأمر اللهُ به ورسولُه لا أمرَ إيجاب ولا استحباب، ولا فَضَّلَه اللهُ ورسولُه بالترغيبِ فيه، فليس من الأعمال الصالحة، وليس من العبادات التي يتقَرَّبُ بها إلى الله، وإن كان كثير من عُبادِ المشركين وأهلِ الكتاب والمبتدعين يتقربون بما يظنونه عباداتٍ،

_ (1) سورة يونس: 62 - 64. (2) برقم (6502).

- الخوارق التي تحصل للمبتدعة من الأحوال الشيطانية

وليس مما أوجب الله ورسولُه ولا أحبه الله ورسولُه، فهؤلاء ضالُون مُخطِئونَ طريقَ الله. وهم في الضلال درجات: فمنهم كافر، ومنهم فاسقٌ، ومنهم مُذنِب، ومنهم مؤمن مخطئ أخطأ في اجتهادِه. والخوارق التي تَحصُل بمثل هذه الأعمال التي ليست واجبةً ولا مستحبةً، بل هي من الأحوال الشيطانية، لا مما يُكرِم الله به أولياءَه. كالخوارقِ التي تَحصُل بالشركِ والكواكب وعباداتِها، وعبادةِ المسيح والعُزَير وغيرِهما من الأنبياء، وعبادةِ الشيوخ الأحياء والأموات، وعبادةِ الأصنام، فإن هؤلاء قد تُجعَل لهم أرواح تخاطب ببعض الأمور الغائبة، ولكن لابدَّ أن يكذبوا مِع ذلك، كما قال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222)) (1). وقد تَقتُل بعضَ الأشخاص أو تُمرِضُه، وقد تأتيه بما تسترِقُه من الناس، إمّا دراهمَ وإما طعامٍ وإما شرابٍ أو لباسٍ أو غير ذلك. وهذا كثير جدّا. فمن كذَّبَ بمثل هذه الخوارق فهو جاهل بالموجودات، ومن ظَنَّ أنَ هذه كرامات أولياء الله المتقين فهو كافر بدينِ رب الأرض والسماوات، بل هذه من جنس أحوال الكهنة والسحرة، مثل مكاشفة عبد الله بن صيادٍ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان قد ظنَّه بعضُ الصحابة الدجالَ، ولم يكن هو الدجال، وتوقف فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تبين له أنه ليس هو الدجال، لكن كان له حال شيطاني، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد خَبأتُ لك خبيئةً" (2)، فقال: الدُّخْ الدُّخْ، وكان قد خَبَأَ له سورةَ الدخان،

_ (1) سورة الشعراء: 221 - 222. (2) أخرجه مسلم (2924) وأحمد (1/ 457،380) عن ابن مسعود.

- كرامات الأولياء فيها الإيمان والتقوى

فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اخْسَأْ، فلن تَعْدُوَ قَدْرَك، فإنما أنتَ من إخوان الكُهَّان". وقال له (1): "ما تَرى؟ " قال: أرى عرشًا على الماء، وقال: يأتيني صادقٌ وكاذبٌ. وذلك العرشُ هو عرشُ إبليس. وقد ثبتَ في صحيح مسلمٍ (2) عن جابرٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الشيطان يَنصِبُ عرشَه على البحر، ويَبعَثُ سراياه". وأما كراماتُ أولياء الله تعالى فيها الإيمان والتقوى، سببُها ما أمر الله به من الأعمال الواجبات والمستحبات، وأكابرُ أولياءِ الله يقتدون بنبيّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يستعملون الخوارق إلاّ لحاجةِ المسلمين، أو لحجَّةٍ في الدين، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما تَجرِي الخوارقُ على يديه لحجَّةِ للدين أو لحاجة المسلمين، كتكثير الطعام والشراب عند الحاجة. والأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية، ولهذا تَبطُل أحوالُهم إذا قُرِئتْ عليهم آية الكرسي، فإنها تَطرُد الشيطانَ، وإذا أرادوا (3) دعوا شيوخهم وتوجَّهوا إلى ناحيتهم جاءتهم الشياطين، وقد تتكلم على ألسنتهم حالَ الوجدِ الشيطاني بكلامٍ لا يَفهمُه صاحبُه إذا أفاق، كما يتكلم الجنّي على لسانِ المصروع، وقد يطير أحدُهم في الهواءِ. فهذا ونحوه من الأحوال الشيطانية. وأما كرامات أولياء الله كمثل ما جرى للعلاء بن الحضرمي لما غزا البحرين، فمشى هو والعسكرُ الذي معه بخيولهم على البحر، فما

_ (1) أخرجه مسلم (2925) والترمذي (2247) عن أبي سعيد الخدري. (2) برقم (2813). (3) في نسخة برنستون: "ردوا"، وفي هامشها: "صوابه: استعانوا". والمثبت من نسخة الظاهرية.

ابتلّت لبود سروجهم. وكذلك أبو مسلم الخولاني ومن معه، ومثل صلاة أبي مسلم ركعتين لمّا ألقاه الأسود العَنْسي في النار، فصارت عليه بَرْدًا وسلامًا. وقد بسطنا هذا في "بيان الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (1)، وهذا قدر ما احتملتْه الورقةُ. والله أعلم. ...

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (11/ 276 - 282)، ففيه ذكر كثير من كرامات الصحابة والتابعين.

(6) مسألة في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه

مسألة في رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه

- رؤيته بالعين لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن غيره

مسألة سئل الشيخ الإمام العالم الأوحد شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني رضي الله عنه، في رؤيةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه عز وجلَّ، هل كانت بعينِ رأسِه أم بقلبِه؟ الجواب الحمد لله. أما رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه بعينِ رأسِه في الدنيا فهذا لم يثبتْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من الأئمة المشهورين، لا أحمد بن حنبل ولا غيره. ولكن الذي ثبتَ عن الصحابة - كأبي ذرّ وابن عباس وغيرهما - والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره أنه يقال: رآه بفؤادِه، كما ثبتَ في صحيح مسلم (1) عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربَّه بفؤادِه مرَّتين. وقد ثبتَ عن عائشةَ أنها قالت: من زعمَ أنَّ محمدًا رأى ربَّه فقد أعظمَ على الله الفِريَةَ (2). ولم تروِ عائشةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئًا، ولا روى أبو بكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئًا. وأما الحديث الذي يذكره بعضُ الجهّال أنه قال لعائشةَ: "لم أرَهُ"، وقال لأبي بكر: "بل رأيتُه"، وأنه أجاب كل واحدٍ على قدرِ عقلِه - فهذا كذبٌ، ولم يَروِ هذا الحديثَ أحدٌ من علماء المسلمين، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعروفة.

_ (1) برقم (176). (2) أخرجه البخاري (3234 ومواضع أخرى) ومسلم (177).

- التوفيق بين قول عائشة وابن عباس

ثمَّ من العلماء مَن جَمعَ بين قولِ عائشةَ وقولِ ابن عباس، وقال: إنّ عائشة أنكرتْ رؤيةَ العين، وابن عباس ذكر رؤيةَ الفؤاد، ولا منافاةَ بينهما. ومنهم من جعلهما قولين مختلفين. وأكثر أهل السنة يُرَجِّحون قولَ ابن عباس، لما فيه من الإثبات، ولِمَا رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "رأيتُ ربّي" (1). وليس في شيء من الحديث الثابت أنه قال: رأيتُ ربّي بعيني، بل قد روى بعضهم هذه الأحاديث التي فيها رؤية العين، كأبي بكر الخلاّل، ونَصَرَ هذا القولَ طائفةٌ، منم القاضي أبو يعلى. وذكر عن أحمد في الرؤية ثلاث روايات (2): رواية أنه رآه بعين رأسِه، ورواية بعين قلبه، ورواية أنه يقول: رآه، ولا يقول: بعين رأسه، ولا بعين قلبه. ونصَرَ هذا طائفةٌ من أهل الكلام من أتباع ابن كُلاَّب، لكن رؤية العين عند هؤلاء إنما هي زوالُ مانع في العَين، [و] ليست الرؤية المعروفة عند سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، وهؤلاءِ إنما وافقوا ابنَ كُلاَّب في مسألة الكلام فقط، وأما مسألة الرؤية المناسبة فخالفوه فيها، وخالفوه أيضًا فيما يُثبتُه من الصفاتِ الخبرية: الرؤية والعلوّ وغيرهما، وإن كانوا ينتسبون إَلى مذهبه لموافقتِهم له في أكثر أقوالِه، وأكثرُ هؤلاء يجعلون تكليمَ الله لموسَى إفهامَه الكلامَ القائمَ بالذات، ويجعلونَ رؤيتَه إنما هي خلق الإرادة في العين فقط. فسلكَ طريقَ هؤلاء الجهمية الاتحادية وغيرهم، وصار منهم من يَزعُم أنّ الله يكلِّمه كما كلَّم موسى بنَ عمران، ومن يزعم أنه يَرى الله في الدنيا بعينه من الحلولية والاتحادية، حتى يقولون: إنهم يَرون الله في كل

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 290،285) من حديث ابن عباس، والدارمي (2155) من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (6/ 509).

- ما روي في رؤية العين في الدنيا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كله كذب

صورة في الدنيا والآخرة. واتفق هؤلاء غُلاةُ المعطِّلةِ وغُلاةُ المجسِّمة على أنه يُرى في الدنيا بالعينين، وحتى يزعموا (1) أنهم يُؤَاكِلونه ويُشارِبونَه ويجالسونه في الدنيا، وأمثال هذه التُّرَّهات. وقد اتفق سلف الأمَّةِ وأئمتُها وجميعُ علماءِ المسلمين على أن غيرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يَرَى الله في الدنيا (2)، وثبتَ في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "واعلموا أنّ أحدًا منكم لن يَرَى ربَّه حتَّى يموتَ". ولذلك اتفقَ الصحابةُ وسلفُ الأُمَّةِ وأئمتُها على أنّ الله يُرَى في الآخرة بالأبصار عِيَانًا كما يُرَى الشمسُ والقمرُ، كما تواترتْ بذلك الأحاديثُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فمن قال: إنه لا يُرَى في الآخرة فهو جهميٌّ ضال، ومن قال: إنّ غيرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَاه في الدنيا بالفؤادِ فهو أيضًا مبتدع ضالّ كاذب، والحلولية والاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات. ومن قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه بعينه في الدنيا فهو أيضا غالطٌ، قائلٌ قولاً لم يَقُلْه أحد من الصحابة ولا الأئمة. والمنقولُ في رؤية العين في الدنيا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّه كَذِبٌ موضوع باتفاقِ أهل العلم. وكذلك عن أحمد، فإنّه لم يَقُلْ قَطُّ: إنه رآه بعينه، وإنما قال مرّةً: رآه، ومرّةً قال: بفؤاده، وأنكر على من أنكر مطلقَ الرؤية، وذكرَ أنه يتبع ما نُقِل في ذلك من الآثار، وروى بإسنادِه عن أبي ذرّ أنه رآه بفؤادِه.

_ (1) كذا في الأصل بحذف النون. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (5/ 490). (3) مسلم (بعد رقم 2931) عن عمر بن ثابت عن بعض الصحابة.

- الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية وأنه رآه في صورة كذا كلها رؤيا منام

وقد ثبت في صحيح مسلم (1) أن أبا ذر أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: "نورٌ، أَنى أراه! ". وفي لفظٍ: "رأيتُ نورًا". فأبو ذرّ هو السائل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أجابه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الجواب. وقد روى بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده، واتبع أحمد ذلك. وقد رُوِي أحاديث فيها ذكر الرؤية، وأنه رآه في صورة كذا، وأنه وضع يده بين كَتِفَيْه حتى وجدَ بَرْدَ أناملِه، وقال له: فِيْمَ يَختصمُ الملأ الأعلى؟ قال: في الكفارات والدرجات، وقال في آخره: "اللهمَّ إنّي أسألك فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تَغفِرَ لي وتَرحَمَني، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضْني إليكَ غيرَ مَفْتُون". رواه الترمذي وغيره (2)، وذكر تصحيحه. وهذا الحديث ونحوُه كلُّها رؤيا مَنامٍ، وكانت بالمدينة بعد المعراج، وأما أحاديثُ المعراج المعروفة فليس في شيء منها ذِكرُ رؤيتِه البتَّةَ أصلاً. فالواجب اتباعُ الآثار الثابتة في ذلك وما كان عليه السلفُ والأئمّةُ، وهو إثباتُ مطلقِ الرؤية، أو رؤية مقيَّدة بالفؤاد. أما رؤيتُه بالعين ليلةَ المعراج أو غيرها، فقد تدبَّرنا عامَّةَ ما صنَّفَهُ المسلمون في هذه المسألة وما نقلوا فيها قريبًا من مئةِ مُصنَّفٍ، فلم نجد أحدًا روى بإسنادٍ ثابت - لا عن صاحبٍ ولا إمامٍ - أنّه رآه بعينِ رأسِه. والله أعلم. ...

_ (1) برقم (178). (2) أخرجه الترمذي (3235) وأحمد (5/ 243) عن معاذ بن جبل.

(7) قاعدة شريفة في تفسير قوله (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم)

قاعدة شريفة في تفسير قوله (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم) (كتبها بقلعة دمشق في آخر عمره)

- الكلام على القراءتين في الآية

بسم الله الرحمن الرحيم (من كلام شيخنا الجديد الذيَ كتبه بقلعة دمشق في آخر عمره) الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. فصل في قوله تعالى (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قُل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14)) (1). القراءة المتواترة التي بها يقرأ جماهير المسلمين قديمًا وحديثًا - وهي قراءة العشرة وغيرهم -: "وهو يُطعِم ولا يُطعَم". ورُوِي عن طائفة أنهم قرأوا: "وهو يُطعِم ولا يَطْعَم" بفتح الياء. قال أبو الفرج (2): وقرأ عكرمة والأعمش: "ولا يَطْعَم" بفتح الياء. قال الزجاج (3): وهذا الاختيار عند البُصَراء بالعربية، ومعناه: وهو يَرزق ويُطعِم ولا يأكل.

_ (1) سورة الأنعام: 14. (2) أي ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 11). وانظر تفسير القرطبي (6/ 397) وابن كثير (2/ 130). (3) في "معاني القرآن" (2/ 233).

- القراءة المتواترة أرجح من جهة النقل

قلتُ: الصواب المقطوع به أن القراءة المشهورة المتواترة أرجحُ من هذه، فإنّ تلك القراءة لو كانت أرجحَ من هذه لكانت الأمة قد نَقَلتْ بالتواتر القراءةَ المرجوحةَ. والقراءة التي هي أحبُّ القراءتين إلى الله ليست معلومةً للأمة، ولا مشهودًا بها على الله، ولا منقولةً نقلاً متواترًا، فتكون الأمة قد حفظت المرجوح، ولم تحفظ الأحبَّ إلى الله الأفضلَ عند الله، وهذا عيب في الأمة ونقص فيها. ثمّ هو خلاف قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) (1)، فإنه على قولِ هؤلاء يكون الذكر الأفضل الذي نزله ما حفظه حفظًا يُعلَم به أنه منزَّل، كما يعلم الذكر المفضول عندهم. وأيضًا فللناس في هذه القراءة وأمثالها مما لم يتواتر قولان (2): منهم من يقول: هذه تشهد بأنها كذب، قالوا: وكل مالم يُقطَع بأنه قرآن فإنه يُقطَع بأنه ليس بقرآن. قالوا: ولا يجوز أن يكون قرآنٌ منقولاً بالظنّ وأخبارِ الآحاد، فإنّا إن جوّزنا ذلك جاز أن يكون ثَمَّ قرآن كثير غيرُ هذا لم يتواتر. قالوا: وهذا مما تُحِيلُه العادة، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل القرآن، فكما لا يجوز اتفاقُهم على نقل كذبٍ، لا يجوز اتفاقهم على كتمان صدقٍ. فعلى قولِ هؤلاء يُقطَع بأن هذه وأمثالَها كذب فيَمتنعُ أن يكون أفضل من القرآن الصدق.

_ (1) سورة الحجر: 9. (2) انظر في حكم القراءات الشاذة: "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 293)، و"فتاوى ابن الصلاح" (1/ 231 - 233)، و"المرشد الوجيز" ص 183 وما بعدها، و"منجد المقرئين" ص 82 وما بعدها، و"مجموع الفتاوى" (13/ 389 وما بعدها).

والقول الثاني: قول من يُجَوِّز أن تكون هذه قرانًا وإن لم يُنقَل بالتواتر. وكذلك يقول هؤلاء في كثير من الحروف التي يُقرَأُ بها في السبعة والعشرة، لا يُشتَرط فيها التواتر. وقد يقولون: إنّ التواتر منتفٍ فيها أو ممتنع فيها. ويقولون: المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف، وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغُ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلفَّظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته. وما كان تلفظه به على وجهين كلاهما صحيح المعنى، مثل قوله: (وما الله بغافل عما تعملون (85)) (1) ويعملون (2)، وقوله: (إلا أَن يَخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُوَد الله) (3) إلاّ أن يُخافَا أن لا يقيما حدود الله (4)، فهذه يُكتفَى فيها بالنقل الثابت وإن لم يكن متواترًا، كما يُكتفَى بمثل ذلك في إثبات الأحكام والحلال والحرام، وهو أهمُّ من ضبط الياء والتاء، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بغافلٍ عما يعمل المخاطَبون بالقرآن، ولا عمّا يعمل غيرهم، وكلا المعنيين حقّ قد دلَّ عليه القرآن في مواضع، فلا يضرّ أن لا يتواتر دلالةُ هذا اللفظ عليه. بخلاف الحلال والحرام الذي لا يُعلَم إلاّ بالخبر الذي ليس بمتواتر. والعادة والشرع أوجب أن يُنقَل القرآن نقلاً متواترًا، كما نُقِلتْ جُمَلُ الشريعة نقلاً متواترًا، مثل إيجاب الصلوات الخمس، وأن صلاة

_ (1) سورة البقرة: 85. (2) هي قراءة نافع وابن كثير ويعقوب وخلف. (3) سورة البقرة: 229. (4) هي قراءة أبي جعفر وحمزة ويعقوب.

- وجوه ترجيح القراءة المتواترة ولا يطعم من جهة المعنى

الحضر أربعٌ إلاّ المغرب والفجر، وأنه يُخافَت في صلاة النهار ويُجهَر في صلاة الليل، ويُجهَر في صلاة الفجر وإن قيل: إنها من صلاة النهار، وأنها ركعتان حضرًا وسفرًا، والمغرب ثلاث حضرًا وسفرًا، ونحو ذلك. ثمّ كثير من الأحكام التي يعملها الخاصَّة دون العامة، تُعلَم بالأخبار التي يعلمها الخاصة، كذلك بعض الحروف التي يضبطها الخاصة من القرّاء قد تكون من هذا الباب. وعلى هذا الوجه فيمتنع أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ بتلك القراءة أكثر، ويُعلِّمها لأمته أكثر، وجماهير الأمة لم تنقُلْها ولم تَعْرِفها، فنقلُ جمهور الأمة لها خلفًا عن سلف تُوجب أنها كانت أكثر وأشهر من قراءة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كان قرأ بالأخرى، وإن كان لم يقرأ بالأخرى لم تعدل بهذه. فنحن نشهد شهادةً قاطعةً أنه قرأ بهذه، وأنّ تلك إمّا أنه لم يَقرأ بها أو قرأ بها قليلاً، والغالب عليه قراءته بهذه، لأنه يمتنع عادةً وشرعًا أن تكون قراءتُه بتلك أكثر، وجمهور الأمة لم تنقل عنه ما هو أغلبُ عليه، ونقل عنه ما كان قليلاً منه. فهذا من جهة نقل إعراب القرآن ولفظه. فصل وأما من جهة معناه ومفهومه فيقال: نفس القراءة المتواترة أرجح وأظهر وأتم، وذلك من وجوه: أحدها: أن معنى هذه موافق لمعنى قوله في الآية الأخرى (وَمَا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو القوة المتين (58)) (1). فقوله: (وما أريد أن يطعمون (57))

_ (1) سورة الذاريات: 56 - 58.

نفيٌ لإرادته منهم أن يطعموه، فهو نفيٌ لإطعامهم، وهذا موافق لقوله (وَهُوَ يُطعِمُ وَلَا يُطعَمُ) على البناء للمفعول. ولو أريد نظير تلك القراءة لقال: "فإني لا أطعَم" ونحو ذلك. ولا ريب أنه سبحانه منزَّهٌ عن الأكل والشرب، بل الملائكة لا تأكل ولا تشرب، فكيف بالسبوح القدوس ربّ الملائكة والروح؟ وهذا المعنى قد دلّ عليه في مواضع: منها: اسمه "الصمد"، فإن من معناه الذي لا يأكل ولا يشرب، كما قد بيّن هذا في تفسير هذه السورة (1). ومنها: قوله (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)) (2). وهو سبحانه ذكر هذا بعد قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)) (3).

_ (1) ضمن "مجموع الفتاوى" (17/ 223 - 225). (2) سورة المائدة: 75. (3) الآيات 72 - 75.

- تفسير قوله تعالى (كانا يأكلان الطعام)

فهذا كلام في سياق نفي الإلهية عن المسيح وغيره، وتكفير من قال: إنه الله، أو إنّ الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذه وأمة إلهين من دون الله، فبيَّن غايته وغاية أمّه، فقال (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه)، وهو ردّ على اليهود والنصارى. ثم قال: (كانا يأكلان الطعام)، وهو يقتضي أن أكل الطعام منافٍ للإلهية، فمن يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلهًا. ولولا منافاته للإلهية لم يذكر دليلاً على نفيها، فإن الدليل يستلزم المدلول عليه، فعُلِم أن أكل الطعام يستلزم نفي الإلهية. وقد ذكروا في ذلك وجهين (1)، أشهرهما أن من يأكل ويشرب يعيش بالغذاء، ومن يقيمة اكل والشرب كان مفتقرًا إلى غيره، فلا يصلح أن يكون إلهًا. وهذا هو الذي ذكره أكثر المفسرين. وقال طائفة منهم ابن قتيبة (2): إنّه نبَّه على عاقبته، وهو الحدث، إذ لابد لأكل الطعام من الحدث. قال: وقوله (اَنظُر كيف نبين لهم الآيات) من ألطف ما يكون من الكناية. وهذا الوجه صحيح في حق المسيح وأمثاله من البشر في الدنيا، فإن أكلهم الطعامَ يستلزم الحدثَ، وخروجُ الحدث من أبين الأشياء دلالةً على انتفائه إلهية من يبول ويغوط، وذلك أعظم من كونه يلد. والدليل يجب طردُه ولا يجب عكسُه، فلا يلزم أن يكون كل من

_ (1) انظر تفسير ابن عطية (5/ 162) و"زاد المسير" (2/ 404) والقرطبي (6/ 250). (2) في "تفسير غريب القرآن" ص 145. وردّ عليه ابن عطية فقال: هذا قول بشيع، ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر، وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي.

يتغوط أو من لا يأكل ويشرب إلهًا. كما أنه [لو] استدلّ على انتفاء الإلهية بأنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، كان دليلاً صحيحًا، ولم يلزم أن يكون كل من يتكلم ويسمع ويبصر إلهًا، بل انتفاءُ صفاتِ الكمالِ يناقض الإلهية، وإن كان ثبوت جنسها لا يستلزم إلهية. كما أنه إذا قيل: إن الإله يجب أن يكون موجودًا قائمًا بنفسه حيا عليمًا قديرًا، فانتفاءُ هذه الأمور يَستلزِم انتفاء الإلهية، ولا يستلزم أن يكون كل موجودٍ حيّ عليم قديرٍ إلهًا. وأما إن أريد بهذا الوجه الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من لزوم الحدث طردُ الدليل، فيحتاجون أن يُفسِّروا الحدثَ بجنس الخارج من الآكل الشارب، فإن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة (1)، لهم رشح كرشح المسك، وهذا من جنس العَرَق الذي يخرج من المَشَام. وهو أيضًا ينافي الصمدية، فإنّ الصمد هو الذي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، فخروج الخارج ولو كان كرشح المسك ينافي الصمدية التي هي من لوازم البارئ، فيكون لزوم الحدث للأكل دالاًّ على نفي إلهيته منْ هذه الجهة أيضًا. والصمدية هي المنافية للأكل والشرب وسائر ما يدخل ويخرج، كما قد بُسِطَ في تفسير السورة (2). الوجه الثاني: أن هذه الآية لم تُسَقْ لبيان تنزُّهه عن الأكل، فإن

_ (1) منها ما أخرجه مسلم (2835) عن جابر مرفوعًا: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون". قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جُشَاءٌ ورَشح كرَشحِ المسك". وانظر أحاديث أخرى في هذا الباب في "حادي الأرواح" ص 128. (2) ضمن "مجموع الفتاوى" (17/ 223 - 225، 238 - 239).

ذلك مبيَّنٌ فيما يناسب ذلك من السور التي فيها تنزيهه عن النقائص، ومن الآيات الدالة على أن هذه النقائص مستلزمة لكون صاحبها مخلوقًا لا إلهًا ونحو ذلك. وإنما سِيْقَتْ لبيان حاجة الخلق إليه وإحسانه إليهم، وبيان غناه عنهم وامتناع إحسانهم إليه، فإنه يُطعِمهم وهم لا يطعمونه، وهذا الوصفُ دالٌّ على هذا المقصود. كما إذا قيل: يُعلِّمهم ولا يُعلِّمونه، ويُعطِيهم ولا يُعطُونه. وهو من معاني الصمد، أن كل ما سواه محتاج إليه، وهو مستغنٍ عن كل ما سواه، ثمَّ كونُه في نفسه لا يأكل ولا يشرب مدح له وتنزيهٌ من جهة أخرى، فإن نفسَ كونه يُطعِم ولا يُطعَم وصفٌ اختصَّ به. فالحيوانُ إنسُهم وجنُّهم وبهائمهُم يأكلون، فإذا قُدِّر أنهم أَطعَموا فهم يُطعَمون، والملائكة وإن كانوا لا يأكلون ولا يشربون فهم لا يُطعِمون الخلقَ، فليس من يُطعِم ولا يُطعَم إلاّ الله. وإذا قدر قادرٌ يُطعِمُ غيرَه ويُحسِنُ إليه ويَرزقه، وأولئك لا يُطعِمونه ولا يرزقونه ولا يُحسِنون إليه، كان هو المُنعِم عليهم، واستحقَّ أن يشكروه، وإن كان هو يأكل ويشرب من ملكه، لكن ليس هو محتاجًا إليهم، ولا هم يُحسِنون إليه. فتبيَّن أن هذا الوصفَ وصفُ مدع يختصُّ به، ويُبيِّن ربوبيته وافتقارَ الخلق إليه وإحسانَه إليهم، وإذا قيل: وهو يُطعِم ولا يُطعَم، كان دلالتُه على هذا المعنى بطريقِ اللزوم، فإنه إذا كان لا يطعم في نفسه امتنعَ أن يُطعِمه أحد. الوجه الثالث: أن مجرد كون الشيء يُطعِمُ غيرَه ولا يُطعِمُه يُوجب المدحَ، فهذه صفة كمال حيث كانت، وأما كون الشيء في نفسه لا يطعم ولا يأكل ولا يشرب، فهذا إنما يكون مدحًا في حق الكامل المستغني عن الطعام والشراب لكماله، وأما من لا يطعم ولا

يشرب لنقصه، كالجامدات وكالحيوان المريض، فهذا ليس ممدوحًا بذلك، فلو قدر مريض موسر يُطعِم الناس، وهو في نفسه لا يطعم لمرضه، لم يُمدَح بأنه يُطعِم ولا يَطعَم، والناس إذا لم يُطعِموه لكونه لا يَطعم لمرضه ونقصه لم يكن ممدوحًا بأنهم لا يُطعِمونه، بخلاف ما إذا لم يَطعم لغناه، فإنه يُمدَح بأنه يُطعِم ولا يَطعَم، وإن كان هو في نفسه يأكل ويشرب من ماله، مع أن المريض لابدّ أن يَطعَم، وأما ما لا يَطعَم بمالٍ لنقصه كالجامدات، فالأرض يخرج منها صنوف الثمرات، وهي لا تأكل لنقصها، فقد يقال: إنها تُطعِم ولا تَطعَم أي لا تأكل لنقصها، لكن هي محتاجة إلى السقي والشرب، وهذا حاجةٌ منها إلى ما يقيها ويغذيها. ولهذا قال تعالى: (وهو يطعم ولا يطعم)، فوصفه بالإثبات المطلق والنفي العام، وصفه بأنه يُطعِم، وهذا مطلق يصلح أن يدخل فيه كل إطعام، كما إذا قيل: يخلق ويرزق ويُعطي ويمنع، كما في الحديث الصحيح الإلهي (1): "يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلاّ من هديتُه، فاستهدوني أَهدِكم، يا عبادي! كلكم جائع إلاّ من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلاّ من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم". وقال: (وَمَا بِكُم من نِعمَةٍ فَمِنَ اَلله) (2)، وقال: (هَل مِن خالِقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض) (3)، وقال الخليل: (الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80)) (4).

_ (1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (490) ومسلم (2577) من حديث أبي ذر. (2) سورة النحل: 53. (3) سورة فاطر: 3. (4) سورة الشعراء: 78 - 80.

وفي الحديث المأثور أنه يقال على الطعام (1): "الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ منّي ولا قوة"، وأنه من قال ذلك غُفِر له. وفي الحديث الآخر (2): "الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، ومن كل خبر آوانا" (3). وقد قال تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف (4)) (4). وبالجملة فضرورة الخلق إلى الرزق دائمًا أمرٌ باهرٌ علمًا وذوقًا ووجدًا، فكونه "يُطعِم" من أطعم بيان نعمه وكرمه وإحسانه، وقوله "ولا يُطعَم" نفي عام، فإن الفعل نكرةٌ في سياق النفي، فلا يطعمه أحدٌ بوجهٍ من الوجوه، فلا يكون أحدٌ محسنًا إليه، ولا مكافئًا له على هذه النعمة. كما رواه البخاري (5) عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول إذا رُفِعَتْ مائدتُه: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غيرَ مَكْفِيّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مستغنًى عنه ربَّنا". وأما إذا قيل: يُطعِم وهو لا يأكل، لم يكن المنفي عنه من جنس المثبت له، بل ذكر تنزيهه عن الأكل، فلا يبين المقصود من أنه

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 439) والدارمي (2693) وأبو داود (4023) والترمذي (3458) وابن ماجه (3285) من حديث معاذ بن أنس. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1989). (2) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (301) وابن السنّي (485) والحاكم في المستدرك (1/ 546) من حديث أبي هريرة. وفي إسناده زهير بن محمد، وهو ضعيف. وقد سقط ذكره في مطبوعة كتاب النسائي. (3) في مصادر التخريج: "وكل بلاء حسن أبلانا". (4) سورة قريش: 3 - 4. (5) برقم (5458). وانظر شرحه في "فتح الباري" (9/ 580 - 581).

يُحسِن إليهم الإحسان الذي يضطرون إليه، مع أن أحدًا من الخلق لا يُحسِن إليه، فإن دلالة القراءة المشهورة على نفي إحسان الخلق إليه مع إحسانه إليهم أبينُ من دلالة كونه لا يأكل، فإن تلك تدلُّ على المدح مطلقًا مع قطع النظر عن كونه هو يأكل أو لا يأكل، حتى لو قُدِّر على سبيل الفرض أنه يأكل لم يكن محتاجًا إليهم، ولا كانوا هم الذين يُطعِمونه، كما قال: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليبجون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)) (1). وقد نبهنا على هذا وأنه إذا كان مخلوق يُحسِنُ إلى غيره ويُطعِمه، وهو لا يَحتاج إليه في أمرٍ لا إطعامٍ ولا غيرِه، كان محسنًا إليه إحسانًا محضًا، وإن كان محتاجًا إلى غير هذا الشخص، فكيف بمن هو سبحانه لا يَحتاج إلى أحدٍ بوجهٍ من الوجوه؟ ثم إنه من كمالِ إحسانه إلى عبادِه بين أنّ من لم يُطعِم أولياءَه ولم يعدهم، فهو كمن لم يُطعِمه ولم يَعُده، كما في الحديث الصحيح (2): "يقول الله تعالى: عبدي! مرضتُ فلم تَعُدني، فيقول: ربِّ! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلانًا مَرِضَ، فلو عُدتَه لوجدتَني عنده. عَبْدي! جُعْتُ فلم تُطعِمني، فيقول: رب! كيف أُطْعِمك وأنتَ رب العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلانًا جاعَ، فلو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي". فقال: "لوجدتَ ذلك عندي"، ولم يقل: "لوجدتني قد أكلتُه". وقال: "لوجدتني عنده"، ولم يقل: "لوجدتَني إياه".

_ (1) سورة الذاريات: 56 - 57. (2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (517) ومسلم (2569) من حديث أبي هريرة.

- معنى حديث أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني

الوجه الرابع: أن يقال: قوله (وَهُوَ يُطْعِمُ) يتناول إطعامَ الأجساد ما تأكل وتشرب، وإطعامَ القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوَّتُ به من العلم والإيمان والمعرفة والذكر، وأنواع ذلك مما هو قوتٌ للقلوب، فإنه هو الذي يُقِيتُ القلوبَ بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالمٌ لم يُعلِّمْه أحدٌ، هادٍ لم يَهدِه أحد، متصف بجميع صفات الكمال، قيوم لا يزول، ولا يُعطيه غيرُه شيئا من ذلك. فإذا قال: "وهو يُطعِم ولا يُطْعَم" تناولَ القسمين، وإذا قيل: "لا يَطْعَم" لم يكن المراد إلا الأكل والشرب، لم يكن المراد ذكره وعلمه وهدايته. وحينئذٍ فيكون قوله "وهو يُطْعِم" لا يتناول إلاّ مأكولَ الجسد ومشروبَه، ومعلومٌ أنّ ذاك أشرف القسمين، فالقراءة التي تتناول القسمين أكمل من القراءة التي لا تتناول إلاّ أحدَهما. بيان ذلك ما في الصحاح (1) من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهاهم عن الوِصال قالوا: إنك تُواصِل، قال: "إني لست كأحدكم، إني أَبِيتُ - ورُوي: أَظَلُّ - عند ربي يُطعِمني ويَسقيني". وأظهر القولين عند العلماء (2) أن مرادَه ما يُطعِمه ويَسقِيه في باطنه، من غير أن يكون أكلاً وشربًا في الفم لوجهين. أحدهما: أنه لو كان يُطعِمه ويَسقِيه من فمِه لم يكن مُواصِلاً، فإن المواصل هو من لا يأكل ولا يشرب، ولو قُدِّرَ أنه أُتِيَ بطعامٍ من الجنة فأكلَه، لكان آكلاً لا مُواصِلًا.

_ (1) البخاري (1964) ومسلم (1105) من حديث عائشة. وفي الباب عن ابن عمر وأنس وغيرهما، انظر باب الوصال من كتاب الصوم عند البخاري، وباب النهي عن الوصال من كتاب الصيام عند مسلم. (2) انظر "فتح الباري" (4/ 208،207)، ففيه الاحتجاج لكل قول ومناقشته.

الثاني: أنه رُوِي "إني أَظَلُّ عند ربي"، وهذا يتناول النهار، والأكل في النهار حرامٌ مُفطِرٌ ولو كان من طعام الجنة. فتبين أنه سمَّى ما يرزقه ويُقِيت قلبَه ويُغذيه إطعامًا وإسقاءً. وقد وَصفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالطعم والذوق والوجد والحلاوة ما في القلوب من الإيمان، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1) عن العباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا". فهذا ذائق طَعْمَ الإيمان، وهو ذوق بباطن قلبه، يَظهر أثرُه إلى سائر بدنِه، ليس هو ذوقًا لشيء يَدخلُ من الفم، وإن كان ذوقًا لشيء يدخل من الأذن. ولهذا يقال: البهائمُ تَسْمَنُ من أقواتِها، والآدمي يَسمن من أذنه. وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ثلاث من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يُحبُّ المرءَ لا يُحبُّه إلاّ لله، ومن كان يكره أن يَرجع في الكفر بعدَ إذ أنقذَه الله منه، كما يكره أن يُلقَى في النار". فأخبر أن من كانت فيه هذه الثلاث وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، والحلاوة ضدُّ المرارة، وكلاهما من أنواع الطعوم. فبيَّن أنّ الإنسان يجد بقلبه حلاوة الإيمان ويذوق طَعْمَ الإيمان، والله سبحانه هو الذي يُذِيقه طَعْمَ الإيمان، وهو الذي يجعلُه واجدًا لهذه الحلاوة. فالمؤمنون يذوقون هذا الطعم، ويجدون هذا الوجد، وفي ذلك من اللذة والسرور والبهجة ما هو أعظم من لذة أكل البدن وشربه.

_ (1) برقم (34). ورواه أيضًا أحمد (1/ 207) والترمذي (2758). (2) البخاري (21،16 ومواضع أخرى) ومسلم (43) من حديث أنس.

- وصف القلوب بالعطش والجوع والري والشبع

والرب تعالى له الكمال الذي لا يَقدِرُ العبادُ قَدْرَه في أنواع علمِه وحكمته ومحبته وفرحه وبهجته، وغير ذلك مما أخبرت به النصوص النبوية، ودلَّتْ عليه الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسارّ والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جَعَله تائبًا حتى فَرِحَ بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحدٍ سواه. والتعبيرِ بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يُقِيتُ القلوبَ ويُغذِّيها كثيرٌ جدًّا، كما قال بعضهم: أَطعمَهم طعامَ المعرفة، وسقاهم شرابَ المحبّة. وقال آخر: لها أحاديثُ من ذِكراكَ يَشغَلُها عن الشَرابِ ويُغْنِيها عن الزادِ وكثيرًا ما تُوصَف القلوبُ بالعطش والجوع، وتُوصفَ بالريّ والشّبَع. وفي الصحيحين (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رأيتُ كأنّي أُتِيتُ بقَدَحٍ، فشربتُ حتى إني لأرى الرِّيَّ يَخرجُ من أظفاري، ثمَّ ناولتُ فَضْلِي عمرَ"، قالوا: فما أوَّلتَه يا رسولَ الله؟ قال: "العلم". فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يُشرَب. وفي الصحيحين (2) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ مَثلَ ما بَعثنَي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماءَ فانبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء، فشربَ الناس وسَقَوا وزرعوا، وكانت منها

_ (1) البخاري (82 ومواضع أخرى) ومسلم (2391) من حديث عبد الله بن عمر. (2) البخاري (79) ومسلم (2282).

طائفة إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مثلُ من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهَدى والعلم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به". فقد بيَّن أن مثلَ ما بعثه الله به من الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتُخرِج فنون الثمرات، وتمسكه أرض لتنتفع به الناس، وأرضٌ ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبين أن القلوب تشرب ما يُنزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أن المطر شراب للأرض، والأرض تَعطَش وتَروَى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله ويَروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد شيئًا، بل هو الذي يُعلِّم ولا يتعلم من غيرِه شيئًا. وفي مناجاة داود: إني ظَمِئْتُ إلى ذكرك كما تَظمأُ الإبلُ إلى الماء، أو نحو هذا، لبعد الإبل عن الماء وشدة عطشها إليه. وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد (1) لما ذكر أن من الناس من شرب براري قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السماوات والأرض، وقد أدلعَ لسانَه من العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل: شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ فما فَنِيَ الشرابُ وما رَوِيْتُ ويقال: فلان ريّان من العلم، ويقال: هذا الكلام يَشفِي العليل ويُروِي الغليل، وهذا الكلام لا يَشفِي العليل ولا يُروِي الغليل. وفي حديث مكحول المرسل (2): "من أخلصَ لله أربعين يومًا تفجرت

_ (1) انظر: "حلية الأولياء" (10/ 40). (2) أخرجه هنّاد في "الزهد" (678) والمروزي في "زيادات الزهد" ص 359 وابن =

ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن مسعود لأصحابه (1): "كونوا ينابيع العلم مصابيحَ الحكمة أحلاسَ البيوت سُرُجَ الليل جُددَ القلوب أخلاقَ الثياب، تُعْرَفون في السماء وتخفون على أهل الأرض". وقد شبّه حياة القلوب بعد موتها بحياةِ الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله عليها، فيسقيها وتَحيا به، وشبّه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديًا كبيرًا يَسعُ ماءً كثيرًا، وواديًا صغيرًا يَسَعُ ماءً قليلاً، كما قال: (أَنزَلَ من السماء ماءً فَسَالَت أودية بِقَدَرِهَا) (2). وبيَّن أنه يحتمل السيل زبدًا رابيًا، وأن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17)) (3). فالأرض تشربُ ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع وتحفظه، كما ضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله ومثل ما بعثه الله به من الهدى والعلم كغيثٍ أصاب أرضًا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يَسقِي ويزرع، وبعض الأرض قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً. ثم قال: "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك

_ = أبي شيبة في "المصنّف" (13/ 231) وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 189) عن مكحول مرسلاً. وأخرجه أبو نعيم بسند آخر عن مكحول عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا، ولا يصح. انظر كلام الألباني عليه في "الضعيفة" (38). (1) أخرجه الدارمي (262) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 507). وإسناده ضعيف. وروي نحوه عن علي بن أبي طالب، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 77). (2) سورة الرعد: 17. (3) من الآية المذكورة.

- معنى الفقيه عند السلف

رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به" (1). فجعل قبول القلوب بشربها وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن انتفع به. ولهذا قال: "فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا". فالماء أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكالثانية لم تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير. وهذه حال من يحفظ العلم ويؤديه إلى من ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله (2) - قال: "العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده". وبعض الناس قال: إن. الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين. والتحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول مالم يفهمه الثاني.

_ (1) سبق هذا الحديث قريبًا. (2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 235) والمروزي في "زوائد الزهد" ص 407 وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 661) عن الحسن مرسلاً. ورواه مكي بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن الحسن من قوله، كما أخرجه الدارمي. ورواه يحيى بن يمان عن هشام عن الحسن عن جابر مرفوعًا به، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 346) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 73)، ويحيى بن يمان ضعيف. انظر تعليق الألباني على "المشكاة" (270).

وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب قلبُه معناه فأثر في قلبه كما أثّر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب. قال الحسن البصري (1): ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل. وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه وآياته" (3) وغير ذلك (4). والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسمًا لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه خطيبًا، كما قال ابن مسعود (5): إنكم في زمنٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه، كثيرٍ معطوه قليلٍ سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليل فقهاؤُه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ مُعطوه".

_ (1) أخرجه الخطيب في "اقتضاء العلم العمل" (56). (2) البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. (3) ضمن "مجموع الفتاوى" (7/ 187 وما بعدها). (4) انظر "مجموع الفتاوى" (9/ 307 - 319، 14/ 119 - 122). (5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (789) وعبد الرزاق في "المصنف" (3787) والطبراني في "الكبير" (9496،8567) من طرق عن ابن مسعود موقوفًا.

وفي حديث زياد بن لبيد الأنصاري (1) لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا أوانُ يُرفع العلم"، فقال له زياد: كيف يُرفع العلمُ وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنَّه ولنُقرِئنَّه أبناءَنا ونساءَنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنتُ لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أوَ ليست التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا يُغني عنهم؟ ". وقد قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)) (2). وقال تعالى: (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يَفْقَهُونَ (7)) (3). وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يَفقَهُونَ بِهَا) الآية (4). وفي الحديث (5): "خصلتان لا تكونان في منافق: حسنُ سَمْتٍ

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 160، 218، 219) وابن ماجه (4048) وأبو خيثمة في "العلم" (52). وهو حديث صحيح. وأخرجه أحمد (6/ 26) والبخاري في "خلق أفعال العباد" ص 42 من حديث عوف بن مالك. وأخرجه الدارمي (294) والترمذي (2653) من حديث أبي الدرداء. وفي حديثهما ذكر زياد بن لبيد وسؤاله. (2) سورة النساء: 78. (3) سورة المنافقين: 7. (4) سورة الأعراف: 179. (5) أخرجه الترمذي (2684) من حديث أبي هريرة. وقال: هذا حديث غريب. وصححه الألباني في "الصحيحة" (278) بمجموع طرقه.

ولا فقهٌ في الدين". فإن حسن السمت صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب، والفقه في الدين يتضمن معرفة الدين ومحبته، وذلك ينافي النفاق. وقال الكفار لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) (1) مع أن شعيبًا خطيب الأنبياء. وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الناس معادنُ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". وهذا إنما يكون بفهم القلب للحق، وأتباعه له. وفي الصحيحين (3) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجَّةِ طَعْمها طيّبٌ وريحُها طيّبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريحَ لها". فهذا قارئ القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالمًا بتفسيره وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تَصُدُّ القلب عن اتباع الحق، قال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ

_ (1) سورة هود: 91. (2) أخرجه البخاري (3493، 3496، 3588) ومسلم (2638) من حديث أبي هريرة. (3) البخاري (5020 ومواضع أخرى) ومسلم (797).

الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)) (1). فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يُفهِمهم إياه، ولو علم فيهم خيرًا لأفهمهم إياه، ولمّا لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إياه لتولّوا وهم معرضون، فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصدٌ للخير والحق وطلبٌ له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتبعون الحق. وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبُيِّن أن مثلَ هذا العلم والفهم الذي لا يقترن به العمل بموجبه لا يكون تامًّا، ولو كان تامًّا لاستلزم العمل، فإن التصوِر التام للمحبوب يستلزم حبَّه قطعًا، والتصوّر التام للمخوف يوجب خوفه قطعًا، فحيث حصل نوع من التصور ولم تحصل المحبة والخوف لم يكن التصور تامًّا. قال بعض السلف (2): من عرف الله أحبَّه. ولهذا قال السلف: كل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً (3). وقيل للشعبي: أيها العالم! فقال: إنما العالم من يخشى الله (4). وهذا مبسوط في مواضع.

_ (1) سورة الأنفال: 22 - 23. (2) روي عن عتبة الغلام (كما في "الحلية" (6/ 236 و 10/ 81)، وعن الحسن البصري (كما في "الزهد" لأحمد ص 279)، وعن بديل (في "الزهد" لابن المبارك ص 209 و"الحلية" 3/ 108). (3) أخرجه أحمد في "الزهد" ص 158 وابن المبارك في "الزهد" ص 15 عن ابن مسعود. وأخرجه الدارمي (389) وأبو نعيم في الحلية (2/ 95) عن مسروق. (4) انظر: "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (1/ 538).

ولهذا قال تعالى: (هُدًى للمتقينَ (2)) (1)، وقال: (ليُنذِرَ مَن كاَنَ حَيًا) (2)، وقال: (سَيَذكرُ مَن يخشَى (10)) (3)، إلى أمثال ذلك. ولهذا يجعل الرسول نفس الفقه موجبًا للسعادة، كما يجعل عدمَه موجبًا للشقاء، ففي الصحيحين (4) أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". فجعل مسمى الفقه موجبًا لكونهم خيارًا، وذلك يقتضي أن العمل داخل في مسمى الفقه لازم له. وفي الصحيحين (5) أنه قال: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين"، فمن لم يفقّهه في الدين لم يُرِد به خيرًا، فلا يكون من أهل السعادة إلاّ من فقّهه في الدين. والدين يتناول كلَّ ما جاء به الرسول، كما في الصحيحين (6) لمّا جاء جبريل في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم". فجعل هذا كلَّه دينًا. والمقصود هنا كان الكلام في أن الله يُطعِم القلوب ويسقيها، وقد قال الله تعالى في حق عُبَّاد العجل: (وأشربوا في قلوبهم العجل) (7)، أي أُشرِبوا حُبَّه. فإذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبته قد يحبه

_ (1) سورة البقرة: 2. (2) سورة يس: 70. (3) سورة الأعلى: 10. (4) سبق الحديث وتخريجه قريبًا. (5) البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية. (6) البخاري (4777،50) ومسلم (9) عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب. (7) سورة البقرة: 93.

- مثل الإيمان والتوحيد والكفر والشرك

القلب حبًّا يجعل ذلك شرابًا للقلب، فحب الربّ تعالى أن يكون شرابًا يشربه قلوب المؤمنين أولى وأحرى. قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله) (1). ووَصْفُ الشعراءِ وغيرهم أن القلوب تشربُ المحبة، وضَرْبُهم المثلَ في ذلك بالشراب الطاهر، وأن شرب المحبة أعلى الشرابين كثير جدًّا. وهو سبحانه الذي يُطعِم عباده المؤمنين، ويسقيهم شراب معرفته ومحبته والإيمان به، وهو غني عن جميع خلقه في معرفته ومحبته وإيمانه - إذ كان من أسمائه "المؤمن" -، وفي توحيده وشهادته وسائر شئونه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. وأهل الشرك الذين يعبدون غير الله ومن ضاهاهم من أهل البدع، الذين اتخذوا من دون الله أوثانا يحبونهم كحبّ الله، لهم شراب من محبتهم وذوق ووجد، لكن ذلك من عبادة الشيطان لا من عبادة الرحمن، فلهذا وقعت باطلاً. فإن البدن كما يتغذى بالطيب والخبيث، كذلك القلوب تتغذى بالكلم الطيب والعمل الصالح، وتتغذى بالكلم الخبيث والعمل الفاسد، ولها صحة ومرض، وإذا مرضت اشتهتْ ما يضرها وكرهتْ ما ينفعها. وقد ضرب الله مثل الإيمان الذي هو كلمة طيِبة بشجرة طيبة، ومثل الشرك الذي هو كلمة خبيثة بشجرة خبيثة، فهذا أصله كلمة طيبة في قلبه وهي كلمة التوحيد، وهذا أصله كلمة خبيثة في قلبه وهي كلمة الشرك؛ فهذا يتغذى بهذه الكلمة الطيبة، وهذا يتغذى بهذه

_ (1) سورة البقرة: 165.

- أهل الشرك والضلال لهم مواجيد وأذواق باطلة

الكلمة الخبيثة، كما تتغذى الأبدان بالطيب والخبيث. قال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) (1)، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) (2). فالتوحيد والإيمان كلمة طيبة، مثلها مثل الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ والشرك والكفر كلمة خبيثة اجتُثَّتْ من فوق الأرض مالها من قرار (3)، ليس لها أصلٌ راسخ ولا فرع باسق. ولهذا كان أهل الشرك والضلال لهم مواجيد وأذواق وأعمال بحسب ذلك، لكنها باطلة لا تنفع، إذ هم في جهل بسيط يعملون بهواهم بلا اعتقادٍ ونظرٍ، أو في جهلٍ مركب يحسبون أنهم على هدى وهم على ضلال، والمؤمنون يعملون بعلم وهدًى من الله. ولهذا قال تعالى: (الله نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية إلى قوله (نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)) (4). ثم قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه) إلى آخر الآية (5). ثم ضرب للكفار مثلين للجهل المركب والبسيط فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا) الآية (6). فهذا مثل الجهل المركب، وهو الاعتقادات

_ (1) سورة المؤمنون: 51. (2) سورة البقرة: 172. (3) إشارة إلى الآيات 24 - 26 من سورة إبراهيم. (4) سورة النور: 35. (5) الآية 36 من السورة. (6) الآية 39 منها.

- ذكر الحب والخمر والسكر عند أهل الضلال

الفاسدة. ثم قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) (1). وهذا مثل الجهل البسيط. وأهل الضلال يذكرون المحبة وشراب الحبّ ونحو ذلك، وكثيرًا ما يمثلون ذلك بشراب الخمر دون غيرها من الأشربة، ويذكرون أوعية الخمر كالدَّنّ والكأس ونحو ذلك، ومواضعها كالحان أو دَير الرهبان. والخمر توجب الغيّ، ولمّا عُرِض على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ المعراج اللبن والخمر أخذ اللبن، فقيل له: "أصبتَ الفطرةَ، لو أخذتَ الخمر لغَوَتْ أمتك" (2). وكلما كان القوم أعظم عنتًا وضلالاً مثلوا بما هو أقبح من شرب الخمر، فإن شربها وإن كان قبيحًا فهو في الحاناتِ مواضعِ الفحش أقبح، وفي مواضع الكفر كديور الرهبان أقبح وأقبح. ويذكرون السُّكْر من شراب المحبة، كالسُّكْر الذي يعتري من شرب الخمر، كقول بعضهم (3): شَرِبنا على ذِكرِ الحبيبِ مُدَامةً سَكِرْنا بها من قبلِ أن يُخلَقَ الكَرْمُ وهذا الحب والشرب من عبادة الشيطان، لا من عبادة الرحمن. والتشبيهُ بالخمر يبين أن ذلك من عبادة الشيطان الذي قال الله فيه: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن

_ (1) الآية 40 منها. (2) أخرجه البخاري (3394،3437،4709،5576،5603) ومسلم (168) من حديث أبي هريرة. (3) هو ابن الفارض، انظر ديوانه (ص 140).

- محبة المؤمنين لا تستلزم زوال العقل

ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)) (1). وذلك من وجهين: أحدهما: أن شرب الخمر محرَّم، فحبُّ الله ورسوله وشرب القلوب لهذا الحبّ لا يكون كشرب الخمر، وإنما يكون كشرب الخمر شرب الحب الذي لا يحبه الله ورسوله، كحب المشركين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحبّ الله. الثاني: أن شرب الخمر يُوجب السُّكر وزوال العقل، فهو والسكر بالحب واتباع الأهواء حالُ الكفر، كقوم لوط الذين قال الله فيهم: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72)) (2). وقد قيل (3): سُكرانِ سُكْرُ هوى وسكرُ مُدامة ومتى إفاقةُ مَن به سُكرَانِ ومحبة المؤمنين لله ورسوله لا تستلزم زوال العقل، بل هم أكمل الناس عقلاً، وإنما يُوجب متابعة الرسول، كما قال: (قلْ إِن كُنتُم تُحِبونَ الله فَاَتَّبِعُوني يُحبِبكمُ الله) (4). فالمحبون لله إذا اتبعوا الرسول أحبهم الله. واتباعُ الرسول فِعلُ ما أمر به وتركُ ما نهى عنه، وهو لم يأمر بما يزيل العقل قَط، لا باطنًا ولا ظاهرًا، فلم يأمر بأكل شيء مما يغيّر العقل سواء كان معه سكر كالخمر، أو لم يكن كالبَنْج، بل نهى عن ذلك. وكذلك ما في القلوب من حبّ الله ورسوله وحقائق الإيمان التي يحبها الله ورسوله، ليس فيما أمر الله به ورسوله منها ما يوجب زوال العقل ولا الموت ولا الغشي والصعق. ولهذا لم يكن الصحابة

_ (1) سورة المائدة: 91. (2) سورة الحجر: 72. (3) البيت بلا نسبة في "تاج العروس" (سكر). (4) سورة آل عمران: 31.

- ما أنزل الله القرآن ليقتل أولياءه

أفضل القرون يعتريهم شيء من هذا، ولكن بعض من بعدهم ضعفت قلوبهم عن بعض ما يرد عليها من خوف أو غيره. فصار فيهم من يموت إذا سمع الآية، وفيهم من يُغشَى عليه. وهؤلاء معذورون مع الصدق والاجتهاد في اتباع الرسول، ويشكر الله لهم ما معهم من الإيمان والخوف الذي ..... (1)، وهو ما يحضّ على فعل الواجب وترك المحرّم، وأما الزيادة التي أوجب لهم الموت فحسبهم أن يكونوا فيها معذورين لا مأجورين، كالحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، فإذا اجتهد فأخطأ فله أجر. ومن ظنَّ أن الميت من هؤلاء بسماع آية أفضل من شهداء بدر وأحدٍ ونحوهما، وجعل هؤلاء قتلى القرآن وشهداء الرحمن، وأولئك ماتوا بسيوف الكفار، فقد غلط غلطًا عظيمًا، فإن أولئك فعلوا ما أمروا به وقُتِلوا شهداء، فهم من أفضل ما خلق الله، وهؤلاء فعلوا مالم يؤمروا به، إمّا تعدّيًا للحدّ، وإمّا تفريطًا في الحقّ، فماتوا بهذا السبب موتًا ليس في سبيل الله ولا جهاد أعدائه، ولكن لضعف قلوبهم عما ورد عليها. والله تعالى ما أنزل القرآن ليقتل به أولياءه، ولا ليُشْقِيهم به، بل ليهديهم وليَشْفِيَهم ويُنَوِّرهم، فهؤلاء ضلُّوا الطريق، ولهذا أنكرَ حالَهم من أدركهم من الصحابة، مثل ابن عمر وابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم، كما هو مبسوط في موضع آخر. إذ المقصود هنا أنّ الرب تعالى هو الذي يُقيت عباده، ويغذيهم لأرواحهم وأجسادهم، وهو مستغنٍ عن عبادِه من كل وجهٍ، فهو

_ (1) كلمة غير مقروءة.

- الكلام على القراءتين في قوله (أمن لا يهدي إلا أن يهدى)

بنفسه عالم قادر، وكلُّ ما يعلمه العباد فهو من تعليمه وهدايته، وما يقدرون عليه فهو من إقدارِه. وهو سبحانه وتعالى كما قال: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيء من علمِه إلا بما شاء) (1)، وهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. وإذا كان ما للعباد من علم وقدرة فمنه امتنع أن يحصل له منهم علم أو قدرة، فإن ذلك يستلزم الدور القبلي، إذا كان المعلم المقدر لغيره يمتنع أن يكون علمه وقدرته منه. وأيضًا فمن جعل غيرَه عالمًا قادرًا كان أولى أن يكون عالمًا قادرًا، قال تعالى: (قُلْ مَن يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر فسيقولون الله فَقُل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32)) إلى قوله: (قُل هَل مِن شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِىَ إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتبع أَمن لا يَهِدِّى إلاّ أَن يُهدَى فما لَكم كيَف تَحكمون (35)) (2). فقوله: (أَفَمَن يَهْدِىَ إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتبع أَمن لا يَهِدِّى إلاّ أَن يُهدَى) فيه قراءتان مشهورتان (3): الإدغام "يهدِّي"، وأصله يهتدي، فسكنت الياء، وأدغمت في الدال بعد أن قُلِبتْ دالاً، وأُلقِيتْ حركتها على الهاء. فأكثر القراء يفتحون الهاء، ومنهم من يسكنها، ومنهم من يختلس. والقراءة الأخرى بالتخفيف "يَهْدِي"، ثم قيل: إنه فعل متعدي، أي يهدي غيره، وقيل: بل فعل لازم، أي يهتدي، وحكوا "هَدَى" بمعنى اهتدى، وأنه يستعمل لازمًا ومتعديًا. وهذا أصح، والمعنى: أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع أم من لا يهتدي

_ (1) سورة البقرة: 255. (2) سورة يونس: 31 - 35. (3) انظر: "زاد المسير" (4/ 30). وفي تفسير القرطبي (8/ 341 - 342) ست قراءات.

- الجزاء من جنس العمل

بنفسه إلاّ أن يهديه غيره، وهذا يتناول كل مخلوق، فكل مخلوق لا يهتدي إلاّ أن يهديه الله. ففي الآية النهي عن اتباع كل مخلوق، وأنه لا يتبعُ إلاّ الله وحده، الذي يهدي إلى الحق. فكل هُدًى في العالَم وعلمٍ فهو من هذا وتعليمه، ويمتنع أن يكون غيره هاديًا له ومعلمًا. وقوله: (أَمن لا يَهدِىَ إلاّ أن يُهدَى) يتضمن نفي اهتدائه بنفسه مطلقًا، وأنه لا يهتدي بحالٍ إلاّ أن يهديه غيره. وهذا حال جميع المخلوقات. وقد بين أن هذا أحق بالاتباع من هذا، لأنه يهدي الحق وهذا لا يهدي، وذلك نهي عن عبادة ما سواه، وعن استهدائه وعن طاعته، لأن كل معبودٍ فهو متبوع، يتبعه عابده، فإذا لم يتبعه لم يكن عابدًا له. ولهذا يُجْزَون يومَ القيامة بنظير أعمالهم، فإن الجزاء من جنس العمل، كما في الأحاديث الصحيحة: "ينادي منادٍ ليتبعْ كلُّ قومٍ ما كانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمر القمرَ"، وذكر إتيان الحق في صورة غير الصورة التي يعرفون، يمتحنهم هل يتبعون غير ربّهم، وإنهم يستعيذون بالله منه، ويقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيتجلى لهم، ويخرُّون له سُجَّدًا إلا المنافقين، فإن ظهورهم تصير مثل قرون البقر، ثم ينطلق ويتبعونه. والحديث في ذلك طويل، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد (1). وفي مسلم [من] حديث جابر (2)،

_ (1) البخاري (7437، 7439 ومواضع أخرى) ومسلم (182،183). (2) موقوفًا برقم (191). وأخرجه أحمد (3/ 345، 383) من حديث جابر مرفوعًا.

وهو أيضًا معروف من حديث أبي موسى (1)، ومن حديث ابن مسعود وهو أطولها. آخره، والله أعلم، الحمد لله وحده. ...

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 407،408) وعبد بن حميد وغيرهما. انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 291 - 292). (2) روي عنه موقوفًا ومرفوعًا. وقد تكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى" (6/ 401 - 406) وقال: "إسناد حديث ابن مسعود أجود من جميع أسانيد هذا الباب". يقصد رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في مثل يوم الجمعة من أيام الدنيا.

(8) فصل في سورة حم السجدة [فصلت]

فصل في سورة حم السجدة [فصلت]

- اشتمالها على أصول الإيمان

فصل سورة حم السجدة مشتملة على تقرير أمر القرآن بما تضمنه أصول الإيمان، التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه واليوم الآخر، بذلك فُتِحتْ وبذلك خُتِمتْ. كما أنّ سورة الشورى أيضًا بدأتْ بالوحي، وختمتْ بالوحي المتضمن للقرآن والإيمان. قال تعالى: (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قُرْءَانًا عَرَبيًّا لقوم يَعْلَمُونَ (3)) (1) في ذكر القرآن ومستمعيه، إلى قوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) (2) يتضمن الإخلاص والتوحيد والنبوة. وجماع الأمر الاستقامة إليه والاستغفار، كما في قوله: (فأعلم أنه لا إله إلا الله وَاَسْتَغفر لِذَنبِك) (3)، وكما قال: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (4). وذم المشركين الذين لا يؤتون الزكاة، فإن الشرك ضد الاستقامة إليه، التي هي الإخلاص، كما فسَّر أبو بكر الصديق قوله: (إِنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (5) قال: استقاموا إليه، فلم يلتفتوا يمينًا ولا شمالاً. فإن المستقيم ضدّ الزائغ، فالمستقيم إليه ضدّ الزائغ عنه، والزائغُ عنه المشرك به. وعدمُ إيتاء الزكاةِ - وهو ما تزكو به

_ (1) سورة فصلت: 1 - 3. (2) الآية: 6. (3) سورة محمد: 19. (4) سورة هود: 3. (5) سورة فصلت: 30.

النفوسُ من الذنوب فتصير زكيَّةً - ضِدُّ الاستغفار الذي يمحو الذنوب، فتزكو النفوس. ففي ذلك جمعٌ بين الإخلاص والعمل الصالح، وهو الإيمان والعمل الصالح وإسلام الوجه لله مع الإحسان. وكل واحد من التوبة والصدقة يمحو الذنوب، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصدقةُ تُطفِئ الخطيئةَ كما يُطفِئ الماءُ النارَ" (1). ولهذا قال سبحانه: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (2)، وقال في التوبة: (إنَ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (3)، وفي الصدقة: (خُذ مِن أموالهم صدقة تطهرهم تزكيهم بِهَا) (4). ثمَّ ذكر تقرير الربوبية بخلق السماوات والأرض وما فيهما، وبدء العالم. ثم ذكر أخبار الأشقياء والسعداء في الدنيا والآخرة، فذكر الوعيد في الدنيا بقصّ الأمم المتقدمة، وفي الآخرة بذكرِ ما يكون في القيامة، فقال: (فَإِنْ أَعرَضوْا فَقُل أَنذَرتُكمُ صاعِقَة) إلى قوله: (وَيومَ يُحشَرُ) (6)، فيشبه والله أعلم أي "وأنذرتكم يومَ يُحشَر"، وقد يقال: "واذكرْ يوم يحشر"، إلى قوله: (إِنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (7)، فإنه ذكر حشر حالهم في الدنيا والآخرة، كما ذكر سوء مُنقلَبِ أولئك في الدنيا والآخرة.

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 231) والترمذي (2616) وابن ماجه (3973) من حديث معاذ بن جبل. وهو حديث صحيح. (2) سورة التوبة: 104. (3) سورة البقرة: 222. (4) سورة التوبة: 103. (5) سورة فصلت: 13. (6) الآية: 19. (7) الآية: 30.

ثمَّ ذكر الدين المأمور به، وهو الخلق العظيم، وهو دين الإسلام، ليجمع بين إسلام الوجه لله وبين العمل الصالح بين القصد والعمل، ملة إبراهيم ودين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليمًا. ثم قرَّر البعث بالدليل. ثمَّ عاد إلى مخاطبةِ الكافرين بالذكر وتقرير أمره، فقال: (إِنَّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا) (1) إلى قوله: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41)) (2) إلى قوله- وهو كان المقصود بالكلام هنا -: (قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به مَن أَضَل مِمَّن هُوَ في شِقَاق بَعِيد (52)) (3)، فإن الضمير عائد إلى الكتاب، وهو القرآن. ثم قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)) (4)، فالضمير في قوله (أنه الحق) هو الضمير في قوله (إن كان من عند الله ثم كفرتم بِه)، وذلك هو القرآن، أي حتى يتبين لهم أن الكتاب هو الحق لا ما خالفه. ثم قال: (أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)) (5) أي أولم يكفِ بشهادته عليه أنه منزل من عند الله، من الآيات المرتبة في الآفاق وفي الأنفس، كما قال: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً (166)) (6). وشهادة الله تعالى

_ (1) الآية: 40. (2) الآية: 41. (3) الآية: 52. (4) الآية: 53. (5) الآية السابقة. (6) سورة النساء: 166.

- استعراض الموضوعات التي تشتمل عليها

يعلم بما به يعلم أن هذا كلامه، وأن المبلغ صادق، مثل كونهم لا يقدرون على الإتيان بمثله ولا بمثل عشر سورٍ منه ولا سورة واحدة، وما امتاز به من الوصف الذي باين به كلام المخلوقين مما هو معلوم بالعقل والفطرة. كما أصاب عتبة بن ربيعة ونحوه من أكابر عقلاء قريش لمّا سمعوا منه (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2)) (1)، وكما قال فيه عاقلُهم وفيلسوفُهم ورئيسُهم الوليد بن مغيرة (2)، وغير ذلك. فالكفاية هنا تُشبِه الكفاية في قوله: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله) إلى قوله: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) (3). فنزولُ الكتاب يتلَى عليهم آية كافية، وهو شهادة الله بما أخبر فيه، وبأن الرسول رسولُه، ((أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)). فهذا ونحوه طرق يُعلَم بها شهادةُ الله. وثَمَّ طرق أخرى، وهي إخبار رسل الله المتقدمين، وإخبار أممهم عنهم بمثل ما أخبر به هذا الرسول، فلذلك قال: (قُل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم وَمَن عِندَه عِلْمُ اَلكِتَبِ) (4)، وقال:

_ (1) سورة فصلت: 1 - 2. وخبر عتبة رواه ابن إسحاق باسناد منقطع، انظر "سيرة ابن هشام" (1/ 293،294). وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (14/ 295 - 297) وأبو نعيم في "الدلائل" (1/ 234) والبيهقي في "الدلائل" (2/ 202 - 203) موصولاً من حديث جابر. وهو حديث حسن. (2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 506 - 507) والبيهقي في "الدلائل" (2/ 198 - 199) من حديث ابن عباس. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقال البيهقي بعد إيراده من عدة طرق: "كلّ ذلك يؤكد بعضه بعضًا". (3) سورة العنكبوت: 50 - 51. (4) سورة الرعد: 43.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ) (1)، وقال: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ) (2)، وقال: (أَم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) إلى قوله: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (3). فالقرآن قد أخبر الله فيه بأمور، وإخباره بها شهادته بها، وكفى بالله شهيدًا، فنفسُ إخباره وشهادته بما شهد به من أمر الربوبية والرسالة والثواب والعقاب وأحوال أوليائه وأعدائه كافٍ، وهو الطريق السمعية. وقد قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (4). فهذه الطريق البصرية التي قد تُسمَّى العقل، وهو أن يرد في أنفسهم وفي الآفاق ما يدلُهم على مثل ما دلَّ عليه القرآن، فيروا حالَ المؤمنين بمحمدٍ وحالَ الكافرين به كما أُخْبِروا به عن المتقدمين، ويروا أيضًا حالَهم إذا آمنوا أو كفروا، ويروا أيضًا الدلائل الدالة على وحدانية الخالق وصفاته التي شهد بها الرب. فالكلام في شيئين: في أن القرآن منزل من عند الله، وهذا قد شهد به الله بما أتى به، وسيُريهم آياتٍ يعاينونها تُبيِّن أنه منزل من عند الله. والثاني: الكلام فيما أخبر به القرآن أيضًا كما تقدم، وأن الحق يتناول نسبته إلى الله، ويتناول أنه صدق في نفسه، واللهُ شهيد بالأمرين، وقد أرى آياتِه على الأمرين.

_ (1) سورة الأحقاف: 10. (2) سورة الشعراء: 197. (3) سورة البقرة: 140. (4) سورة فصلت: 53.

(9) مسألة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ أتدري ما حق الله على العباد؟

مسألة في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ "

- مذاهب الناس في هذه المسألة

مسألة في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "أتدري ما حقُّ اللهِ على العباد؟ " (1)، وفي قوله: وما حق العبادِ على الله"، فهل حَقُّهم واجبٌ عليه كما حقُّه واجبٌ عليهم على ظاهرِ اللفظ أم مجازٌ؟. أجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابنُ تيمية أيَّده الله: الحمد لله ربّ العالمين. هذه المسألة ونحوُها للناس فيها ثلاثة أقوال، طَرَفانِ ووَسَط (2): طائفة تقول: إنّ الله يجب عليه أشياء، ويَحْرُمُ عليه أشياء، بالقياس على المخلوقين، وإنّ العباد بقياسِ عقولهم يُوجِبون عليه ويُحرِّمون عليه، كما يَجبُ على العبادِ ويَحْرُمُ عليهم، فيقولون: يجب عليه أن يَفعَلَ في حقِّ كلِّ عبدٍ ما هو الأصلح له في دينه، ولهم في الصلاح الدنيوي نزاع. ويقولون: إنه لا يَقدِر على أن يفعلَ غيرَ ما فَعَلَ، وإن العبادَ يَقدِرون على مالا يَقدِرُ عليه اللهُ، وإنَّه لا يَقدِرُ أن يَهدِيَ ضالاًّ ولا يُضِلّ مُهتديًا. وهذا قول القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرِهم. والقول الثاني: قول من يقول: إنّ الله سبحانَه وتعالَى لا يُوجبُ هو على نفسِه شيئًا، ولا يُحَرِّمُ على نفسِه شيئًا، ولا يُنَزَّه عن فعلٍ من الأفعال، ويجوز أن يقع منه كل ما هو مقدور، فلا يَقدِرُ أن يَظْلِمَ أحدًا، بل الظلمُ ممتنع لذاته، وإنّه ليس في أسمائه الحسنى وصفاتِه

_ (1) أخرجه البخاري (7373 ومواضع أخرى) ومسلم (30). (2) انظر "مجموع الفتاوى" (18/ 147 وما بعدها).

- مذهب السلف أن الله كتب على نفسه الرحمة وحرم الظلم

العُلاَ ما يَدُلُّ على تنزُّهِه عن أفعالٍ مذمومة، ولا عن اتخاذِه ولدًا، ولا عن أمرِه بأن يُشْرَكَ به. وخالفوا قولَه: (قَالُوا أتَّخَذَ الله وَلَدًا سبحانه) (1)، وقالوا: إنه يجوز أن يأمر بالفحشاء والمنكر، وقالوا: لا يُنَزَّهُ قَطُّ عن فعل من الأفعال، ولا أمر من الأمور، وإنْ كان أمرًا بالشركِ والكذِب والظلم، وإن كان نهيًا عن الصدق والعدل والتوحيد، ولا يميز بين ماَ يفعلُه وما لا يفعلُه إلاّ بما جَرتْ به العادةُ، مع أنّ العاداتِ يمكنُ خَرْقُها، أو أخبار الأنبياء، مع أنّ خبرهم عند طائفةٍ منهم لا يُفيد اليقينَ، وخبرهم بالوعدِ والوعيد عند أكثرهم لا يُعلَمُ منه شيء. ويقولون: إنه يَخلُق ما يَخلُق لا لسببٍ ولا لحكمةٍ. وهذا قول الجهمية الجبرية ومَن اتبعهم من المتأخرين. والطائفتان تقولانِ: إن القادرَ يُرجح أحدَ المتماثلَينِ لا لمرجِّحٍ، لكن هؤلاء يجعلون فعلَه كلَّه كذلك، وأولئك يجعلونه كذلك في الابتداء. وقد ذهب إلى كل من القولين طوائفُ من أعيانِ الناس، وإن كان القولانِ ضعيفينِ (2). والقول الثالث ما دلَّ عليه الكتابُ والسنَّة، وكان عليه سلفُ الأمّة وأئمَّتُها، كالأئمة الأربعة وغيرهم: إنه سبحانَه عليم حكيم رحيم، وإنّه كتبَ على نفسِه الرحمةَ كما أخبرَ في كتابه (3)، وحَرَّم على نفسه الظلم، كما ثبتَ في الحديث الصحيح الإلهي عن أبي ذرّ الغِفَاري (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يُخبِر به عن ربه عزَّ وجلَّ أنه قال: "يا عبادي، إني

_ (1) سورة يونس: 68. (2) في الأصل: "ضعيفان". (3) سورة الأنعام: 12. (4) أخرجه مسلم (2577).

- مناقشة المؤلف لمن ينكر ذلك ويؤوله

حَرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا". وإنّه أوجبَ على نفسه نَصْرَ المؤمنين، كما قال تعالى: (وكان حقًا علينا نَصرُ اَلْمُؤمِنينَ (47)) (1). فليس للمخلوق بنفسه على اللهِ حقٌّ، ولا يُقاسُ الخالقُ بالمخلوق فيما يفعلُه، كما لا يقاسُ بالمخلوقِ في صفاتِه وذاتِه، بل ليس كمثلِه شيء، لا في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه، ولكن هو كتبَ على نفسِه الرحمةَ، [وحرَّم على نفسه] الظلمَ كما تقدَّم. وقد اتفق المسلمون على أنه أخبرَ بما أخبَر به من ثواب المؤمنين وعقوبة الكافرين، وأنه صادقٌ لا يُخلِفُ الميعاد، فاتفقوا على ثبوتِ الخبر، وإنما النزاعُ في كتابتِه على نفسِه وتحريمِه على نفسه، لكن النصوصَ دَلَّتْ على ذلك. وكذلك حَلفُه "لَيفعلَنَّ" كقوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تَبِعَكَ منهم أجمعين (85)) (2)، وقوله: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من اَلجِنَّةِ والناس أجمعين (13)) (3). ومثلُ هذا القسم ليسَ خبرًا محضًا، بل فيه معنى الإرادة والعهد، كما في الوعد. ومن قال بالقولِ الثاني يتأوَّلُ كتابتَه على نفسِه الرحمةَ وتحريمَه على نفسِه الظلمَ، بأن المرادَ إخبارُه بوقوع ذلك وعَدَمِ وقوع هذا. والظلم عندهم هو ما يَمتنع أن يكون مقدوَرًا، وما يمتنع أنَ يكون مقدورًا لا يَحْرُم، وقد علمَ الناسُ أنه لا يكون، فلا فائدةَ بالإخبارِ أنه لا يكون.

_ (1) سورة الروم: 47. (2) سورة ص: 85. (3) سورة السجدة: 13.

وأيضَا فإنه ذكر ذلك مقدّمةً لنهيِه عبادَه عن الظلمِ بقوله: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالموا". فلو أرادَ به مالا يكون مقدورًا كان المناسبُ لهذا أن يحرم على عبادِه مالا يقدرون عليه. وهذا يناسبُ قولَ من قال: الاستطاعةُ لا تكون إلاّ مع الفعل، فيكون قد حرَّمَ عليهم ما يفعلونه من ظلمِ بعضهم بعضًا، ولا حَرَّم عليهم الشركَ الذي هو ظلمٌ عظيم، ولا حرَّمَ عليهم ظلمَ أنفسِهم. وإذا قيل: أراد بالظلم الذي حرَّمَه على نفسِه مالا يكونُ مقدورًا، وبالظلم الذي حَرَّمَه على عبادِه ما يَقدِرون عليه، لم يكن ذكر هذا مناسبًا لذكرِ هذا، وهو قد قال: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالَموا". الضمير إلى الظلم، فلو كان الأول مالا يُقْدَر عليه، لقيل: لا معنى لتحريمه هذا على نفسِه. والمناسب إذا لم يُحرِّم إلاّ ما يكون مقدورًا لهم، وإلاّ فالمعنى على قولِ هؤلاء: حرَّمتُ على نفسيْ إذْ أَجعلُ الشيءَ موجودًا معدومًا، وأَجعلُ الجسمَ متحركًا ساكنًا، وأجعلُ المحدَثَ قديمًا والقديمَ مُحدَثًا، ونحو ذلك من الأمور التي ليست شيئًا باتفاق العقلاء، ولا يَتصوَّرُ العقلُ وجودَها في الخارج، وحَرَّم عليهم ما يَقدِرون هم عليه، وهو إنما ذكر هذا ليُقِيمَ الحجةَ على خلقِه بقوله: يا عبادي إني حرَّمتُ الظلمَ على نَفْسِي، فأنتم أولى أن يكون الظلم محرَّمًا عليكم، لأنه سبحانَه على كلِّ شيء قدير، ورب كلِّ شيء وخالقُه، ولا يتصرَّفُ إلاّ في مُلكِه، لا في ذلك غيرُه، وليس فوقَه آمر يأمره، فإذا كان مع كمالِ قدرته وعِزَّتِه ووحدانيّتِه قد حرَّمَ الظلمَ على نفسِه، فكيف بالمخلوقِ الذي فوقَه آمر يأمرُه، ومُجَاز يُجازيه، وقد يَتعدّى

فيتصرفُ فيما لا يملكه. وأما كونُه يقول: حرَّمتُ على نفسي ماليسَ مقدورًا لي، كالجمع بين الضدَّين ونحو هذا، ولا يَقدِرُ أحدٌ على جزايته وعقوبته، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يُريد، لا مُعقَّب لحكمِه، ولا رادَّ لأمرِه - فهذا مما يُعلَم يقينًا أن الرسولَ لم يَقصِدْ هذا، بل تحريم ماهو مقدور، كما قصدَ تحريمَ الظلم الذي يقدرون عليه. وهو سبحانَه لا يَظلِمُ مثقالَ ذَرةٍ، (ولا يظلم ربك أحداً (49)) (1)، ويقول لعبده إذا حاسَبَه يوم القيامة: لا ظلمَ عليك، فلا يَنْقُصُ أحدًا من حسناتِه شيئًا، ولا يَحمِلُ عليه سيئاتِ غيرِه، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)) (2). قال غير واحدٍ من السلف: الظلم أن يَحمِل عليه سيئاتِ غيرِه، والهَضْمُ أن يَهْضِمَ من حسناتِه (3). فهذا مما حرَّمَه على نفسِه وهو قادرٌ عليه، لكنه منزهٌ قُدُّوسٌ سَلامٌ، لا يجوز أن يَظلِمَ أحدًا، ولا يجوز أن يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، بل هو حكيم عليمٌ رحيمٌ، لا يَفعلُ إلاّ بموجب رحمتِه وحكمتِه وعدلِه. وهو سبحانَه خالقُ كلَّ شيء وربُّه ومليكُه، ما شاءَ كانَ، ومالم يَشَأ لم يكن. فكل واحد من قولِ القدرية المعتزلة [و] الجهمية الجبرية باطلٌ، والصواب فيما جاء به الكتابُ والسنة، وما كان عليه سلفُ الأمة وأئمتها.

_ (1) سورة الكهف: 49. (2) سورة طه: 112. (3) انظر: "زاد المسير" (5/ 324) والقرطبي (11/ 249).

وهذه المسألة فرعٌ على هذا الأصل، والكلامُ على هذا مبسوط في مواضعَ غيرِ هذا، وهذا مقدارُ ما احتملتْهُ الورقةُ من الجواب. فعلى هذا فقوله: "أتَدريْ ما حقُ اللهِ على عبادِه؟ " قال: اللهُ ورسوله أعلم. قال: "حقُّه عليهم أن يَعبُدوه، لا يُشرِكوا به شيئًا"، هو حق استحقهُ بنفسِه على عبادِه. وقوله: "أتدري ما حق العبادِ على اللهِ إذا فعلوا ذلك؟ أَنْ لا يُعذبَهم"، هو حق أَحَقه على نفسِه لعبادِه، كما قال تعالى: (وكان حقا علينا نصر المُؤمنِينَ) (1)، فهو أَحَقه بنفسِه على نفسِه، لا لأنَ العبادَ بأنفسِهم يستحقون عليه شيئًا، ولا يُقاس على خَلقِه فيما يستحقُّه المخلوقُ على المخلوق، فإنه خلقَ عبادَه، ولم يكونوا قبلَ وجودِهم شيئًا، بل عدمًا محضًا لا يستحقون شيئًا، ثمَّ لما خلقَهم فكل ما فيهم من الأمور الوجودية هي مخلوقة له، فيمتنع أن يكون مُوجَبًا على الربِّ عزَ وجل محرمًا عليه، وهذا هذا. والله أعلم. (هذا مختصر جواب الشيخ تقي الدين أثابه الله تعالى). ...

_ (1) سورة الروم: 47.

(10) فصل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: سيد الاستغفار أن يقول العبد

فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سيد الاستغفار أن يقول العبد "اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت ... "

- شرح هذا الحديث

فصل في قوله عليه السلام: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنتَ" (1). قد اشتمل هذا الحديثُ من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيد الاستغفار، فإنه صدَّرَه باعترافِ العبدِ بربوبية الله، ثم ثنَّاها بتوحيد الإلهية بقوله: "لا إله إلا أنت". ثمَّ ذكر اعترافَه بأن الله هو الذي خلقَه وأوجدَه ولم يكن شيئًا، فهو حقيقٌ بان يتولَّى تمامَ الإحسان إليه بمغفرةِ ذنوبه، كما ابتدأ الإحسانَ إليه بخلقه. ثمَّ قال: "وأنا عبدك"، اعترفَ له بالعبودية، فإنّ الله تعالى خلقَ ابنَ آدم لنفسه ولعبادتِه، كما جاء في بعض الآثار: "يقول الله تعالى: ابنَ آدم! خلَقت لنفسي، وخلقتُ كل شيء لأجلِك، فبحقي عليك لا تشتغلْ بما خَلقتُه لك عما خلقتك له". وفي أثرٍ آخر: "ابنَ آدمَ! خلقتك لعبادتي فلا تلعبْ، وتكفَّلتُ لك برزقِك فلا تَتْعَبْ. ابنَ آدم! اطلُبني تجدْني، فإن وَجدتَني وَجدتَ كل شيء، وإن فُتكَّ فَاتَكَ كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء". فالعبد إذا خَرَج عما خلقه الله له من طاعتِه ومعرفتِه ومحبتِه والإنابةِ إليه والتوكُلِ عليه، فقد أبقَ من سيِّدِه، فإذا تاب إليه ورَجَع إليه فقد راجعَ ما يُحِبه الله منه، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخبِر عن الله (2): "للهُ أشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه مِن واجد راحلته

_ (1) أخرجه البخاري (6306) عن شداد بن أوس. (2) أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2744) عن ابن مسعود.

عليها طعامُه وشرابُه بعد يأسِه منها في الأرض المهلكة، وهو سبحانَه هو الذي وفَّقه لها، وهو الذي ردَّها إليه". وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان، وحقيقٌ بمن هذا شانُه أن لا يكون شي لا أحبَّ إلى العبدِ منه. ثمَّ قال: "وأنا على عهدِك ووَعْدِك ما استطعتُ"، فالله سبحانه وتعالى عَهِد إلى عبادِه عهدًا أمرهم فيه ونهاهم، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبَهم بأعلى المثوبات، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقِه بوعدِه. أني أنا مقيم على عهدِك مُصدِّقٌ بوعدِك. وهذا المعنى قد ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كقوله: "من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه" (1). والفعل إيمانًا هو العهد الذي عَهِدَه إلى عبادِه، والاحتساب هو رجاؤه ثوابَ الله له على ذلك، وهذا لا يَليقُ إلاّ مع التصديق بوعده. وقوله "إيمانًا واحتسابًا" منصوبٌ على المفعول له، إنما يَحمِلُه على ذلك إيمانُه بأن الله شرعَ ذلك وأوجبَه ورَضِيَه وأمر به، واحتسابُه ثوابَه عند الله، أي يفعله خالصًا يرجو ثوابَه. وقوله: "ما استطعتُ" أي إنما أقومُ بذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي. وفيه دليل على إثباتِ قوة العبد واستطاعتِه، وأنه غيرُ مجبورٍ على ذلك، بل له استطاعةٌ هي مناطُ الأمر والنهي والثواب والعقاب. ففيه رد على القدرية المجبِّرة الذين يقولون: إن العبد لا قدرةَ له ولا استطاعة، ولا فعلَ له البتَّهّ، وإنما يعاقبه الله على فعلِه هو، لا على فعل العبد. وفيه رد على طوائف المجوسية وغيرهم.

_ (1) أخرجه البخاري (38 ومواضع أخرى) ومسلم (760) عن أبي هريرة.

- معنى قوله أبوء لك بنعمتك علي

ثمَّ قال: "أعوذ بك من شرِّ ما صنعت"، فاستعاذتُه بالله الالتجاءُ إليه والتحصُّن به والهروب إليه من المستعاذ منه، كما يَتحصَّن الهاربُ من العدوّ بالحصن الذي ينجيه منه. وفيه إثبات فعلِ العبدِ وكسْبه، وأنّ الشرَّ مضافٌ إلى فعلِه هو، لا إلى ربِّه، فقال: "أعوذ بكَ من شرِّ ما صنعت". فالشرُّ إنما هو من العبد، وأما الربُّ فله الأسماء الحسنى، وكلُّ أوصافِه صفاتُ كمال، وكلُّ أفعالِه حكمة ومصلحة. ويؤيّد هذا قولُه عليه السلام: "والشرُّ ليس إليك" في الحديث الذي رواه مسلم (1) في دعاء الاستفتاح. ثمَّ قال: "أبوء بنعمتك عليَّ" أي أعترفُ بأمر كذا، أي أُقِرُّ به، أي فأنا معترفٌ لك بإنعامك عليَّ، وإني أنا المذنب، فمنك الإحسانُ ومني الإساءةُ. فأنا أحمدك على نعمك، وأنتَ أهلٌ لأن تُحمَد، وأستغفرك لذنوبي. ولهذا قال بعض العارفين: ينبغي للعبد أن تكون أنفاسُه كلُّها نفسَيْن: نفسًا يَحمد فيه ربَّه، ونفسًا يستغفره من ذَنْبه. ومن هذا حكاية الحسن مع الشابّ الذي كان يجلس في المسجدَ وحدَه ولا يجلس إليه، فمرّ به يومًا فقال: ما بالك لا تجالسنا؟ فقال: إني أُصبِح بين نعمةٍ من الله تستوجب عليَّ حمدًا؛ وبين ذنب مني يستوجب استغفارًا، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستِكً. فقال: أنتَ أفقهُ عندي من الحسن. ومتى شَهِدَ العبدُ هذين الأمرين استقامتْ له العبودية، وتَرقَّى في درجاتِ المعرفةِ والإيمان، وتصاغرتْ إليه نفسُه، وتواضَعَ لربِّه. وهذا

_ (1) برقم (771).

هو كمالُ العبودية، وبه يَبرأُ من العُجْب والكِبْر وزينةِ العمل. والله الموفق الهادي، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، ورضي الله عن أصحاب رسولِ الله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. (من كتابة العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن إسحاق التميمي الداري نسبًا الحنفي مذهبًا، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. آمين آمين آمين). ***

(11) قاعدة في الصبر

قاعدة في الصبر

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخُ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه. فصل جعل اللهُ سبحانَه وتعالى عبادَه المؤمنين بكل منزلة خيرًا منه، فهم دائمًا في نعمةٍ من ربهم، أصابَهم ما يُحِبَّون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويُقدرها عليهم متاجرَ يَربحون بها عليه، وطُرُقًا يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عَن إمامهم ومتبوعهم - الذي إذا دُعي يوم القيامة كل أناسٍ بإمامهم دُعُوا به صلواتُ الله وسلامه عليه - أنه قال (1): "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلاّ كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له". فهذا الحديث يَعمُ جميعَ أَقضيتِه لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على مكروهها وشكرَ لمحبوبها، بل هذا داخلٌ في مسمى الإيمان، فإنه كما قال السلف: الإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر. كقوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5)) (2). وإذا اعتبر العبدُ الدينَ كلَّه رآه يَرجِعُ بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك

_ (1) أخرجه مسلم (2999) عن صهيب. (2) سورة إبراهيم: 5، لقمان: 31، سبأ: 19، الشورى: 33.

- الصبر ثلاثة أقسام

لأن الصبر ثلاثة أقسام (1): صبر على الطاعة حتى يفعلَها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمورَ به إلاّ بعد صبرٍ ومصابرةٍ، ومجاهدةٍ لعدوّه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤُه للمأمورات وفِعلُه للمستحبات. النوع الثاني: صبرٌ عن المنهي حتى لا يفعلَه، فإنّ النفسَ ودواعيها وتزيين الشيطان وقُرَناء السوء تأمرُه بالمعصية، وتُجَزِّئُه عليها، فبحسب قوة الصبر يكون تركُه لها. قال بعض السلف (2): أعمالُ البِرِّ يَفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يَقدِرُ على ترك المعاصي إلاّ صدِّيق. النوع الثالث: الصبر على ما يُصِيبُه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان: نوع لا اختيارَ للخلقِ [فيه]، كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها، لأن العبْدَ يشهدُ فيها قضاءَ اللهِ وقدرَه، وأنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إمّا اضطرارًا وإمّا اختيارًا، فإن فتحَ الله على قلبه بابَ الفكرةِ في فوائدِها، وما في حَشوِها من النِّعَم والألطاف، انتقلَ من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقه نعمةً، فلا يزالُ هِجيْرَا قلبه ولسانِه فيها: "رب أَعِني على ذكرِك وشكرك وحسنِ عبادتك" (3). وَهذا يقوى ويضعف بحسب قوةِ محبة العبد لله وضعفِها، بل هذا يجد أحدنا في الشاهد،

_ (1) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (15/ 574 - 577، 14/ 304 - 356). (2) هو سهل التستري، كما روى عنه أبو نعيم في "الحلية" (10/ 211). (3) من الأدعية المأثورة، أخرجه أحمد (5/ 244،247) وأبو داود (1522) والنسائي (3/ 53) عن معاذ بن جبل.

كما قال بعض الشعراء (1) يخاطب محبوبًا له نالَه ببعض ما يكره: لئِنْ سَاءَني أن نِلتَني بمَسَاءةٍ لقد سَرَّني أنّي خَطَرتُ ببالِكا النوع الرابع (2): ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا، لأنّ النفس تستشعِرُ المُؤذيَ لها، وهي تكره الغلبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدّيقون. وكان نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أُوذِي يقول: "يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا فصَبر" (3). وأَخبَر عن نبي من الأنبياء أنه ضربَه قومُه، فجعلَ يقول: "اللهم اغفِرْ لقومي، فإنهم لا يعلمون" (4). وقد رُوي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جرى له مِثلُ هذا مع قومه، فجعل يقول مِثلَ ذلك (5). فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون. وهذا النوع من الصبر عاقبتُه النصرُ والهُدى والسُّرور والأمنُ، والقوة في ذاتِ الله، وزيادة محبةِ الله ومحبة الناس له، وزيادة العلم.

_ (1) هو ابن الدمينة، والبيت من قصيدة مشهورة له بعضها في حماسة أبي تمام (2/ 62 - 63)، وتمامها في ديوانه (ص 13 - 18)، وهناك التخريج. وقد وجدت القصيدة في 21 بيتًا في "الفصوص" لصاعد (1/ 67 - 70). وفي جميع المصادر قافيتها كاف مكسورة. (2) كذا في الأصل، والأولى أن يكون "الثاني" من نَوعَي المصائب. (3) أخرجه البخاري (3150،3405 ومواضع أخرى) ومسلم (1062) عن ابن مسعود. (4) أخرجه البخاري (3477،6929) ومسلم (1792) عن ابن مسعود. (5) أخرجه الطبراني عن سهل بن سعد، كما في "مجمع الزوائد" (6/ 117). قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

- الأمور التي تعين العبد على الصبر

ولهذا قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ (24)) (1). فالصبر واليقين يُنال [بهما] الإمامة في الدين (2)، فإذا انضاف إلى هذا الصَّبرِ قوةُ اليقين والإيمان تَرَقَّى العبدُ في درجات السعادة بفضل الله تعالى، و (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)) (3). ولهذا قال الله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) (4). ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدّةُ أشياءَ: أحدها: أن يشهدَ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ. الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) (5). فإذا شهد العبدُ أن جميع ما يناله منْ المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه [بسببها]، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم. وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا

_ (1) سورة السجدة: 24. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (10/ 39). (3) سورة الحديد: 21، الجمعة: 4. (4) سورة فصلت: 34. (5) سورة الشورى: 30.

آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلاّ ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه (1). ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلاّ بذنبٍ، ولا رُفِع إلاّ بتوبة. الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)) (2). ولمّا كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدرِ حقِّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقَّه، ذَكَر الأقسامَ الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين. ويشهد نداءَ المنادي يوم القيامة: "إلاَ لِيَقُم مَن وَجَب أجرُه على الله" (3)، فلا يَقُمْ (4) إلاّ من عفا وأصلح. وإذا شهِدَ مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء، سَهُلَ علمِه الصبر والعفو. الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثَه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه، ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ الشرّ، وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتَه ومنفعتَه عاجلاً وآجلاً، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله تعالى:

_ (1) انظر شرح هذه الكلمة عند المؤلف في "مجموع الفتاوى" (8/ 161 - 180). (2) سورة الشورى: 40. (3) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس وأنس. انظر "الدر المنثور" (7/ 359). (4) كذا في الأصل مجزومًا، والأولى أن يكون مرفوعًا.

والله يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134)) (1)، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ منه درهمٌ فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه أعظمَ فرحًا (2) يكون. الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: "ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا" (3). فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من الَعزّ الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر، وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ، والعفوُ ذُلٌّ في الباطن، وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا. السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له. فإذا شَهِدَ أن عفوه عنهم وصفحَه وإحسانَه مع إساءتِهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله، فيعفو عنه ويصفح، ويُحسِن إليه على ذنوبه، ويَسْهُل عليه عفوُه وصبرُه، ويكفي العاقلَ هذه الفائدةُ. السابع: أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه، وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من مصالحِه مالا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من الانتقام.

_ (1) سورة آل عمران: 134، المائدة: 13. (2) كذا في الأصل. (3) أخرجه مسلم (2588) عن أبي هريرة.

الثامن: أن انتقامَه واستيفاءَه وانتصارَه لنفسِه، وانتصارَه لها، فإن رسول الله عليه وسلم ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ، فإذا كان هذا خيرَ خلق الله وأكرمَهم على الله لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أن أَذَاه أَذَى الله، ويتعلّقُ به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها، وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ، وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميلٍ، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدنا لنفسِه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تُساوِي نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها. التاسع: إن أُوذِيَ على ما فعلَه لله، أو على ما أُمِرَ به من طاعتِه ونُهِي عنه من معصيتِه، وجبَ عليه الصبرُ، ولم يكن له الانتقام، فإنّه قد أوذِي في الله فأجرُه على الله. ولهذا لمّا كان المجاهدون في سبيل الله ذهبتْ دماؤهم وأموالُهم في الله لم تكن مضمونةً، فإن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلبَ الثمنَ منهم لم يكن له على الله ثمنٌ، فإنه من كان في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه، وإن كان قد أُوذِي على مصيبة فليَرجعْ باللومِ على نفسِه، ويكون في لَومِه لها شُغْلٌ عن لَومِه لمن آذاه، وإن كان قد أُوذِي على حظّ (1) فليُوطِّن نفسَه على الصبر، فإنّ نيلَ الحُظوظِ دونَه أمرٌ أَمَرُّ من الصَّبر، فمن لم يصبر على حرِّ الهَوَاجر والأمطارِ والثلوج ومشقةِ الأسفارِ ولصوصِ الطريقِ، وإلاّ فلا حاجةَ له في المتاجر. وهذا أمر معلوم عند الناس أنّ مَن صدَقَ في طلب شيء من الأشياء بُدِّل من الصبر في تحصيله بقدر صدقِه في طلبِه.

_ (1) في الأصل: "حض" تحريف.

العاشر: أن يَشهدَ معيَّهَ الله معه إذا صَبَر، ومحبَّهَ الله له إذا صَبَر، ورِضاه. ومن كان الله معه دَفَع عنه أنواعَ الأذى والمضرَّات مالا يَدفعُه عنه أحدٌ من خلقِه، قال تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)) (1)، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)) (2). الحادي عشر: أن يَشهد أن الصبرَ نِصفُ الإيمان، فلا يبدّل من إيمانه جَزاءً في نُصرةِ نفسِه، فإذا صَبَر فقد أَحرزَ إيمانَه، وصانَه من النقص، والله يدفع عن الذين آمنوا. الثاني عشر: أن يشهد أنّ صبرَه حكمٌ منه على نفسِه، وقَهرٌ لها وغَلَبةٌ لها، فمتَى كانتِ النفسُ مقهورةً معَه مغلوبةً، لم تطمعْ في استرقاقِه وأَسْرِه وإلقائِه في المهالك، ومتى كان مطيعًا لها سامعًا منها مقهورًا معها، لم تزَلْ به حتَّى تُهلِكَه، أو تتداركَه رحمةٌ من ربِّه. فلو لم يكن في الصبر إلاّ قَهرُه لنفسِه ولشيطانِه، فحينئذٍ يَظهرُ سلطانُ القلبِ، وتَثبُتُ جنودُه، ويَفرَحُ ويَقوَى، ويَطْرُد العدوَّ عنه. الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبرَ فاللهُ ناصرُه ولابُدَّ، فاللهُ وكيلُ من صَبر، وأحالَ ظالمَه على الله، ومن انتصَر لنفسِه وكلَهُ اللهُ إلى نفسِه، فكان هو الناصر لها. فأينَ مَن ناصرُه اللهُ خيرُ الناصرين إلى مَن ناصِرُه نفسُه أعجز الناصرين وأضعفُه؟ الرابع عشر: أن صَبْرَه على من آذاه واحتمالَه له يُوجِبُ رجوعَ خَصْمِه عن ظُلمِه، ونَدامتَه واعتذارَه، ولومَ الناسِ له، فيعودُ بعد إيذائِه (3) له

_ (1) سورة الأنفال: 46. (2) سورة آل عمران: 146. (3) في الأصل: "أذائه".

مستحييًا منه نادمًا على ما فعلَه، بل يَصيرُ مواليًا له. وهذا معنى قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) (1). الخامس عشر: ربّما كان انتقامُه ومقابلتُه سببًا لزيادة شرِّ خصمِه، وقوّةِ نفسِه، وفكرته في أنواع الأذى التي يُوصِلُها إليه، كما هو المشاهَد. فإذا صبر وعفا أَمِنَ من هذا الضرر، والعاقلُ لا يختارُ أعظمَ الضررين بدَفْعِ أدناهما. وكم قد جلبَ الانتقامُ والمقابلةُ من شرٍّ عَجَزَ صاحبُه عن دفعِه، وكم قد ذهبتْ نفوس ورِئاسَات وأموال لَو عفا المظلومُ لبقيتْ عليه. السادس عشر: أنّ من اعتادَ الانتقام ولم يَصبِرْ لابُدَّ أن يقعَ في الظلم، فإنّ النفس لا تَقتصِرُ على قدرِ العَدْل الواجب لها، لا علمًا ولا إرادةً، وربما عجزت عن الاقتصار على قدرِ الحقَّ، فإنّ الغضبَ يَخرُجُ بصاحبه إلى حدٍّ لا يَعقِلُ ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم يَنتظِرُ النَّصْرَ وَالعِز، إذ انقلبَ ظالمًا يَنتظِرُ المقتَ والعقوبةَ. السابع عشر: أنّ هذه المَظْلَمةَ التي ظُلِمَها هي سبب إمّا لتكفيرِ سيئتِه، أو رَفْعِ درجتِه، فإذا انتقمَ ولم يَصبِرْ لم تكنْ مُكفِّرةً لسيئتِه ولا رافعةً لدرجتِه. الثامن عشر: أنّ عفوَه وصبرَه من أكبر الجُنْدِ له على خَصْمِه، فإنّ من صَبَر وعفا كان صبرُه وعفوه مُوجِبًا لذُل عدوِّه وخوفِه وخَشيتِه منه ومن الناس، فإنّ الناس لا يسكتون عن خصمِه، وإن سَكتَ هو، فإذا انتقمَ زالَ ذلك كلُّه. ولهذا تَجِدُ كثيرًا من الناس إذا شَتَم غيرَه أو

_ (1) سورة فصلت: 34 - 35.

آذاه يُحِبُّ أن يَستوفيَ منه، فإذا قابله استراحَ وألقَى عنه ثِقلاً كان يجده. التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمِه استشعرتْ نفسُ خصمِه أنه فوقَه، وأنه قد رَبِحَ عليه، فلا يزال يرى نفسَه دونَه، وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعفو. العشرون: أنه إذا عفا وصَفَحَ كانت هذه حسنةً، فتُوَلِّدُ له حسنةً أخرى، وتلك الأخرى تُولِّدُ له أخرى، وهَلُمَّ جَرًّا، فلا تزال حسناتُه في مزيد، فإنّ من ثواب الحسنةِ الحسنة، كما أنّ من عقاب السيئةِ السيئة بعدها. وربَّما كان هذا سببًا لنجاتِه وسعادتِه الأبدية، فإذَا انتقم وانتصرَ زال ذلك. والأصل الثاني الشكر، وهو العمل بطاعة الله (1). ...

_ (1) هنا انتهى الأصل.

(12) فتوى في العشق

فتوى في العشق (*)

_ (*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: - قال ابن القيم في كتابه روضة المحبين صفحة 131 تعليقا على هذه الفتيا وردا على من أحل النظر المحرم: " وأما من حاكمتمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فنحن راضون بحكمه فأين أباح لكم النظر المحرم وعشق المردان والنساء الأجانب وهل هذه إلا كذب ظاهر عليه وهذه تصانيفه وفتاواه كلها ناطقة بخلاف ما حكيتموه عنه وأما الفتيا التي حكيتموها فكذب عليه لا تناسب كلامه بوجه ولولا الإطالة لذكرناها جميعها حتى يعلم الواقف عليها أنها لا تصدر عمن دونه فضلا عنه وقلت لمن أوقفني عليها هذه كذب عليه لا يشبه كلامه وكان بعض الأمراء قد أوقفني عليها قديما وهي بخط رجل متهم بالكذب وقال لي ما كنت أظن الشيخ برقة هذه الحاشية، ثم تأملتها فإذا هي كذب عليه ولولا الإطالة لذكرنا من فتاويه ما يبين أن هذه كذب " - وقد ذكر المحقق الشيخ (علي العمران) رأيه في هذه المسألة فقال (في مشاركة له بملتقى أهل الحديث): أقدم الجواب عن سؤال تكرر كثيرا في هذا المنتدى وفي غيره من المنتديات ألا وهو ما يتعلق بـ ((رسالة العشق)) المطبوعة في (جامع المسائل: 1/ 177 - 186)، ومدى صحة نسبتها لشيخ الإسلام ابن تيمية، فأقول: * مهما كان الباحث واسع الإطلاع قوي المعرفة بما يكتب - كالشيخ محمد عزير شمس - فإنه قد يفوته كثير مما يدركه غيره، وهذا من طبيعة البشر، فكان ماذا لو فاته الاطلاع على كلام ابن القيم في نفي هذه الرسالة وأنها مكذوبة على الشيخ؟! * وعذره في إثبات هذه الرسالة أمور: 1 - كثرة كتب ابن تيمية ورسائله وفتاويه، فعدم ذكرها ضمن كتبه ومؤلفاته، ليس دليلا على نفيها. 2 - أن ابن القيم قد نقل بعض التقسيمات الموجودة فيها في كتابه ((الجواب الكافي)) كما أشار إليه عزير شمس في الهوامش. 3 - أن النسخة الخطية قد نسبت هذه الفتوى لابن تيمية. 4 - أن الرأى الذي استغربه الكثيرون وهو: جواز تقبيل من خاف على نفسه الهلاك، ليس رأيا خارجا عن الإجماع، بل قد اختاره بعض العلماء ومنهم أبو محمد بن حزم - كما ذكر ابن القيم-. أقول فهذه الأمور مجتمعة - إذا تجردت عن قرينة نفي ابن القيم للرسالة وتكذيبه لها الذي لم يطلع عليه عزير شمس - تسوغ هذه النسبة، وإن لم نجزم بها جزما لايقبل الشك. * هذا العذر - في تقديري على الأقل - مسوغ لهذه النسبة، فكيف لو اجتمع إليه دليل خامس، وهو: أن الأمير علاء الدين مغلطاي وهو من تلاميذ ابن تيمية وأنصاره - قد أثبت هذه الرسالة للشيخ ونقل منها في كتابه ((الواضح المبين فيمن مات من المحبين)). * بعد هذا كله فالرسالة - عندي - لا تثبت لشيخ الإسلام ابن تيمية، فليس فيها نفَسه ولا أسلوبه المعهود في الكتابة، وما ذكره ابن القيم من أدلة في نفيها كاف. وقد ذكر في "روضة المحبين" (ص/131) أن أحد الأمراء - ويعني به مغلطاي - قد أوقفه على هذه الفتوى، ثم نقدها. * واستدراكا لهذا الأمر؛ فإنه سينبه في آخر (المجموعة الخامسة) - إن شاء الله- على ما استجد من معلومات وفوائد وتصحيحات فيما يتعلق بهذه السلسة (1 - 8) تحت عنوان: ((استدراكات)) وسيكون التنبيه على هذه الرسالة منها 0 هذا أولا 0 وثانيا: أنه في الطبعة الجديدة لـ (آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال) - وهي قريبة إن شاء الله تعالى - ستحذف هذه الرسالة منها. هذه خلاصة رأيي في هذه المسألة، والحمد لله حق حمده.

بسم الله الرحمن الرحيم سؤال رُفِع لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، وصورته: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل عاشقٍ في صورة، وتلك الصورة مُصِرَّة على هجره منذ زمانٍ طويل لا يزيده إلاّ بُعدًا، ولا يزداد لها إلاّ حُبًّا، وعشقُه لهذه الصورة من غير فسقٍ ولا خنا، وليس هو ممن يُدنِّس عشقَه بِزِنا، وقد أَفْضَى الحالُ إلى هلاكِه لا مَحَالةَ إن بَقِيَ مع محبوبه على هذه الحالة. فهل يَحِل لمن هذه حالُه أن يهجر؟ وهل يَجبُ وصالُه على المحبوب المذكور؟ وهل يأثم ببقائه على ما يكره منَ المحبّ؟ وماذا يجب من تفاصيلِ أمرِهما وما لكل واحدٍ منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرعَ والعقل؟ أفتونا مأجورين رحمكم الله. الجواب الكلام على هذه المسألة ينبني على أصلين: أحدهما يتعلق بالعاشق، والآخر يتعلق بالمعشوق، ولكل واحدٍ منهما تفاصيل تُذكَر عند ذكره. ولابُدَّ من تقديم مقدمة ينبني عليها الجواب، وهي: لاشكَّ أنه من المعلوم أن الشرع والعقل قد دلاَّ [على] وجوب تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدامِ المفاسدِ وتقليلها، فكلَّما يرى العاقل أنه إذا دخل في أمرٍ ما يُوجِبُ له مصلحةً من وجهٍ ومفسدةً من

- ليس في عشق الصور مصلحة شرعية

وجهٍ وجبَ عليه عند ذلك الترجيحُ، فيأخذ لنفسه بالأسَدِّ والأكمل والأرشد والأصلح. ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة شرعية دينية، لما يُؤدِّي إلى الاشتغال بذكر المخلوق عن ذكر الخالق، والعبث بالصور لا المعاني، والالتحاق بالعالم الحيواني غير الناطق في الائتلاف الصوري. كما سُئِل بعضهم عن العشق، فقال: هي قلوبٌ غَفلَتْ عن ذكر الحق، فشُغِلَتْ بذكر الخلق. فهذا مما يدل على بُعْدِ عُشّاق الصور عن الربّ العظيم باشتغالهم بالخسيس الذميم. لكن قد ذكر المتقدمون من عقلاء العرب وظرفائهم وطائفةٌ من الحكماء أن فيه فوائد، مع اتفاقهم على نقصه من جهة ما ذكرنا من أنّ صاحبه كُلَّما قَرُبَ منه بَعُدَ عن الله عزَّ وجل. إن فيه فوائد (1)، من جملتها رقّة الطبع وإزالةُ خبثه وترويح النفس وخفّتها ورياضةُ الجسد، كما رُوِيَ عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قيل له: إنّ ابنَك عَشِقَ فلانة، فقال: الحمد لله الذي صيَّره إلى طبع الآدمي. وقال بعضهم: العشق داء أفئدة الكرام. وقال بعضهم: العشق لا يَصْلُح إلاّ لِذي مُروءةٍ ظاهرة، أو لِذي لسانٍ فاضلٍ وإحسانٍ كاملٍ، أو لذي أدبٍ بارع وحسبٍ خاشع (2)، ويَقْبُح لسواهم. وقال بعضهم: العشقُ يُشَجِّع جَنَانَ الجبان، ويُصَفِّي ذِهْنَ الغبي، ويُسَخِّي كفَّ البخيل، ويُخْضِعُ عِزَّةَ الملوك، ويُسَكِّنُ نَوافِرَ الأخلاق.

_ (1) ذكر ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص 194 - 195) ما هنا من الأقوال. (2) في "الجواب الكافي": "ناصع".

وهو أَنِيْسُ المُؤنس وجليس المجالس (1)، وملك قاهر وسلطان. وقال بعض العرب (2): إذا أنتَ لم تَعْشَقْ ولم تَدْرِ ما الهوَى ... فأنتَ وعَيْرٌ في الفَلاَةِ سَواءُ وحُكِيَ أنَّ جالينوسَ قال: من لم تبتهج نفسُه للصوت الشجي والوجه البهي فهو فاسد المزاج، يحتاج إلى العلاج. وقال بعض الحكماء: العشقُ يُرَوِّض النفسَ ويُهذب الأخلاقَ، وإظهارُه طَبَعي، وإضمارُه تكليفي، حاجبُه الصبرُ وخادمُه الجوارحُ. فهذه آثار - كما ترى - دالة على أنه ليس في العشق مصلحة شرعية دينية، وإنما مال إليه هؤلاء لما ذكروا فيه من المصالح العقلية والرياضية، من تهذيب النفس ورياضتها، ولو تَعلَّقَ هؤلاء بمحبة الإله المعبود لألْهَاهُم ذلك عن محبة الأشخاص الفانية، وحَصَلَ لهم مقصودُهم من رياضة النفس وفرط المحبة وتهذيب الأخلاق المذكورة، وصار كلُّ موجودٍ يُحدِثُ لهم الفِكرُ فيه وجدًا لِمُوْجدِه، وكلُّ مخلوقٍ يَتبيَّنُ لهم منه محبةٌ لخالقِه، فتخاطبهم الموجودات وَالمخلوقات بألسنةِ الأحوال، وتُوضح لهم أنه لا يَستحقُ المحبةَ على الكمال غيرُ ذِي الإكرام والجلال. هذا ما يتعلق بالمقدمة وكيفية بناء الأصلين عليها. أما ما يتعلق بالعاشق فقد ذكرنا أنه لابدّ من تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدامِ المفاسد وتقليلها، فمن دَخَلَ على أمرٍ ما فواجبٌ عليه أن ينظر في ذلك الأمر، فإن كانت مصلحتُه راجحة على مفسدتِه أَخَذَ بالأرجحِ.

_ (1) في الأصل: "المجرس". وفي الجواب الكافي: "أنيس من لا أنيس له، وجليس من لا جليس له"، وهو أوضح. (2) البيت في "روضة المحبين" (ص 176) و"تزيين الأسواق" (1/ 43).

وقد دَلَّ الدليلُ كما ذكرنا على أنه ليس في العشق الصوري مصلحة دينية كما ذكرنا، وإنما فيه مصلحة رياضية نفسية، والمصالح الدينية مقدمة، مع ما يقرن بذلك مع أدائه إلى فساد الذهن وتشويش الحواس، وهو ملحق بشرب الخمر المحرم، وليس لصاحبه عذر يعتذر به ولا حجة يُقِيمها. مثال ذلك أن من شرب الخمر فسَكِرَ، فحَصَلَ منه جناية في حق أحدٍ أو عَرْبَدَة على غيرِه، فأَتْلَفَ شيئًا، أخِذَ به، لأن الذي أزالَ عقلَه سبب محرم أدخلَه على نفسِه راضيًا غيرَ مُكرَهٍ، مع علمه قبل أن يشربه أنه يؤدي به الحال إلى هذا، فإذا اعتذر وقال: لم أَعِ ما قلتُ، ولا كان عقلٌ أميزُ به، قلنا له: أنتَ فرَّطتَ حين شربتَ. ولهذا جَنَحَ بعضُ العلماء إلى مؤاخذة السكرانِ بما يصدرُ منه من طلاقٍ وعتاقٍ وجنايةٍ، بخلافِ من يَزول عقله بخلطٍ سوداوي أو روحاني، فإن ذلك ليس هو من فعلِه، ولا تسبب فيه برضاه، كما رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال (1): "رُفِع القلمُ عن ثلاث"، فذكر المجنون حتى يُفيقَ. فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يُحْكِمَ على نفسِه عشقَ الصور، ليؤدي به الحال إلى الهلاك، فمن فعلَ ذلك فهو المفرط بنفسه والمقرر لها، فإذا هلكتْ فهو الذي أهلكها، وإذا قُتِلَتْ فهو الذي قتلَها، فإنه لولا تكرارُ نظرِه إلى وجه معشوقِه لم يَثبُتْ محبتُه في قلبه، حتى أدَّاه إلى ما أدَّاه.

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 100،101،144) والدارمي (2301) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2041) عن عائشة. وفي الباب عن علي.

- مراتب الحب

وذلك لأن أول مرتبة المحبة (1) تُسمَّى الاستحسان، وهي المتولدة عن النظر والسماع، ثم تَقْوَى هذه المرتبة بطولِ الفكرة في محاسنِ المحبوب وصفاتِه الجميلة، فتصير مودَّةً، وهي الميل إليه والألفة بشخصه. ثمَّ تتأكَّد المودَّةُ فتصير محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني. فإذا قويت صارت خُلَّة، وهذا أصحُّ الأقوال. والخلّة بين الآدميين هي تمكُّنُ محبةِ أحدهما من قلب صاحبه حتى يسقط بينهما السرائر، ثمَّ تقوى الخُلَّة فتصير هَوى، والهوى أن المحبَّ لا يُخالِطه في محبوبه تَغيُّرٌ، ولا يُداخِلُه تَلوُّنٌ. ثمَّ يزيد الهوى فيصير عِشْقًا. والعشق الإفراط في المحبة حتى لا يخلو العاشقُ من تخيُّلِ المعشوق وفكرِه وذكرِه، ولا يَغيبُ عن خاطرِه وذهنِه، فعند ذلك يَشغلُ النفسَ عن استخدام القوة الشهوانية والنفسانية، فيمنع من النوم لاستضرار الدماغ. فإذا قوي العشقُ صار تتيُّمًا، وفي هذا الحال لا يوجد في قلبه فضلة لغير تصور معشوقه، ولا يرضى نفسه بسواها. فإذا تزايد الحال صار وَلَهًا، والوَلَهُ هو الخروج عن الحدود والضوابط حتى تختلَّ أفعالُه وتتغيَّرَ صفاتُه، ويصيرَ مُوَسْوسًا لا يَدري ما يقول ولا أين يذهب، فحينئذٍ يَعْجز الأطباءُ عن مداواتِه، وتَقْصُرُ آراؤهم عن معالجته، لخروجه عن الحدود والضوابط. قال بعضهم (2): الحبُّ أول ما يكون لَجَاجةٌ يأتي به ويسوقُه الأقدارُ

_ (1) انظر مراتب الحب في "روضة المحبين" (ص 16 فما بعدها) و"الجواب الكافي" (ص 162 فما بعدها). (2) البيتان في "اعتلال القلوب" (2/ 375) و"مصارع العشاق" (1/ 53) و"ذم الهوى" (ص 334) و"روضة المحبين" (ص 183) و"الجواب الكافي" (ص 191).

- مقامات العاشق وما يجب عليه فيها

حتى إذا خاضَ الفتَى لُجَجَ الهوى جاءتْ أمور لا تُطَاقُ كبارُ فلو لم ينتقل العاشق بنفسه في هذه المراتب من مرتبة إلى مرتبة، حتى وصلَ إلى الحد الذي يُؤذيه، لم يُصِبْه أذًى، فهو الجاني على نفسِه، وأشبه به قول القائل: "يَدَاكَ أُوكِتَا وفُوكَ نَفَخَ" (1). فتصور بهذا أنه مُخطئ بما صدرَ منه أو لا، وإن كان ينبغي أن يحتاطَ لنفسه ولا يُورّطَها فيما فيه هلاكُها. فعلى هذا فالعاشقُ له ثلاث مقامات (2): مبتدأ، ومتوسط، ونهاية. أما مبتدؤُه ففي أول الأمر واجب عليه كتمانُ ذلك وعدمُ إفشائِه للمخلوقين، تقليلاً للوشاة عليه، وإمالةً لقلب محبوبه إليه، مُراعيًا في ذلك شرائط الفتوة من العفة مع القدرة، وإلاّ التحقَ بالشيطان الرجيم وحزبِه، فازداد به الأمرُ إلى المقام الأوسط، فيغلبُ عليه الحال، فلا بأسَ بإعلام محبوبه بمحبته إياه، فيَخِفُّ بإعلامِه له وشكواه إليه ما يجده منه، ويَحْذَر من إطْلاعِ الناس على ذلك، فهو يكون سببَ هلاكِه. فإن زاد به الأمر حتى يخرج عن الحدودِ والضوابط المذكورة، فقد التحقَ مَن هذا حالُه بالمجانين والمولهين. على أن من رَخَّص في العشق من العقلاء، لما ذكرنا من ترويضِه للنفس وتهذيبه للأخلاق، فجعلَه مشروطًا بالعفَّة المذكورة، كما قال قائلُهم: "عِفُوا تَشْرُفوا، وَاعْفُوا تَطْرفوا". وقال الأحنف بن قيس (3):

_ (1) انظر شرح هذا المثل في "جمهرة الأمثال" (2/ 430) و"فصل المقال" (ص 458) و"مجمع الأمثال" (2/ 414) و"المستقصى" (2/ 410). (2) ذكرها ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص 191 - 193). (3) الصواب أنهما للعباس بن الأحنف، كما في "الأغاني" (8/ 359) و"التذكرة الحمدونية" (6/ 229). وهما بلا نسبة في "روضة المحبين" (ص 344).

- العشاق نوعان

أتأْذَنُونَ لِصَب في زيارتكم فعندكم شَهَواتُ السمعِ والبَصَرِ لا يُضْمِرُ الشوقَ إن طالَ الجلوسُ به عَفُّ الضميرِ ولكن فاسقُ النَّظَرِ وقيل لبعض العشاق: ما كنتَ تَصنَعُ لو ظَفِرْتَ بمن تَهوَى؟ قال: كنت أَمْنَعُ طَرْفي من وجهِه، وأُرَوِّحُ قلبي بذكرِه وحديثِه، أستُر منه مالا يحب كَشْفُه، ولا أصير بفتح القفل إلى ما يَنقُض عهده. وأنشد (1): أخلو به فأعفّ عنه كأنني خوفَ الديانة لستُ من عُشَّاقِه كالماءِ في يدِ صائم يَلْتَذُّه ظَمَأ فيَصْبِر عن لذيذِ مَذاقِه وانقسموا قسمين: قسمٌ قَنِعُوا بالنظرة البعيدة ولو في مدّة مديدة، كما قال شاعرهم: ليسَ في العاشقينَ أقنَعُ مني أنا أَرضَى بنظرة من بعيدِ وقال الآخر: لو مَرَّ في خاطري تَقبيلُ وَجْنَتِه لَسَيلَتْ فِكَرِي عن عارضَيْه دمَا وقال آخر: وأَحفظُه عن نَاظِرَيَّ ومُقْلَتِي مخافةَ أن العينَ تَجْرَحُ خَدَّهُ واستمرُّوا على هذه الحالة، فمنهم من يموتُ وهو كذلك، لا يَظهر سِرُّه لأحدٍ، حتى محبوبُه لا يَدري به. رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن عَشِق فعَفَّ فكَتَمه فماتَ منه فهو شهيد" (2). وهذا مقام

_ (1) البيتان في "الجواب الكافي" (ص 195). (2) أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (1/ 349) والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 156،262،6/ 50 - 51،11/ 297،13/ 184) وابن الجوزي في "ذم =

عظيم يرفع، إن تركَه وحَسَمَ مادتَه [فهو] أفضلُ وأقرب إلى الحق كما ذكرنا. والقسم الثاني أباحوا لمن وصلَ إلى حدٍّ يخافُ على نفسِه منه- القُبلةَ في الحين قد غلبَه نفسه وقَهرَه قوته. قالوا: لأن في تركها ما يُؤدِّي إلى هلاكِ النفس، والقُبلةُ صغيرة، وهلاك النفسِ كبيرة، وإذا وقعَ الإنسان في مرضينِ خَطِرَيْنِ دَاوَى أخطرَهما، ولا خَطَرَ أعظمُ من قتلِ النفس، حتى أوجبوا على المحبوب مطاوعتَه على ذلك إذا علم أن تركَه ذلك يُؤدّي إلى هلاكِه، واستدلُّوا على ذلك بقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (1)، قالوا: إن سبب نزولها أن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسولَ الله! إني أصبتُ من امرأة أجنبية كلَّ شيء إلاّ النكاح، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلَّيتَ معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر الله لك. فنزلتْ هذه الآية (2). وبقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا

_ = الهوي" (ص 327) و"العلل المتناهية" (2/ 285) من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف سويد بن سعيد وأبي يحيى القتات. واتفق الأئمة المتقدمون على تضعيف هذا الحديث، وحكم عليه ابن القيم والألباني بأنه موضوع. انظر الكلام عليه في "الضعيفة" (459) و"الجواب الكافي" (ص 230 - 231) و"زاد المعاد" (4/ 252 - 256) و"المنار المنيف" (ص 140) و" روضة المحبين" (ص 180). (1) سورة هود: 114. (2) أخرجه البخاري (6823) ومسلم (2764) بنحوه عن أنس، وليس فيه ذكر نزول الآية. وهو في حديث آخر بسياق مختلف عند البخاري (526،4687) ومسلم (2763) عن ابن مسعود.

- تحريم النظر إلى المردان

هُمْ يَغْفِرُونَ (37)) (1). إلاّ أنهم كما قال بعض السلف: ما رأيتُ شيئًا أشبهَ باللَّمَم من قول أبي هريرة: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله كتب على ابن آدمَ حظَّه من اَلزنا أدركَ ذلك لا مَحَالةَ، فالعين تَزني وزناها النَظر، واللسان يزني وزناه النطق، والرِّجل تزني وزناها الخُطا، واليدُ تزني وزناها البطش، والقلب يَهْوَى ويتمنى، والفرج يُصدِّق ذلك أو يكذبه" (2). وهذه النصوص واردة في حق النساء، وهذا السؤال عن الرجال، لأن أولئك القوم في الزمن الأول لم يكن للغلمان عندهم قدرٌ يهوون من أجله، أما الآن فقد زادوا على الحدّ، وازدادوا على أولئك في الحد، وهم الفتنة موجودة، وقد نهى الله عز وجل عن إرسال النظر، فقال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (3) حَسْمًا لهذه المادة، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي: "النظرة الأولى لك، والثانية عليك" (4). حتى قيل: "رُبَّ حربٍ حميتْ من لفظه، وربَّ عِشقٍ غرس من لحظِه". وقد نقل الشيخ محيي الدين النووي (5) تحريمَ النظر إلى الأمرد الحسن بشهوة وبغير شهوة، وأفتى به وصحَّحه - رحمه الله - ذهابًا إلى سَدِّ هذه الثغرًة وحَسْمِ مادة هذه البلية العظيمة. فإن كان هذا السائل كما زعم ممن لا يُدَنِّس عشقَه بزنًا، ولا

_ (1) سورة الشورى: 37. (2) أخرجه البخاري (6612) ومسلم (2657). والمراد ببعض السلف ابن عباس. (3) سورة النور: 30. (4) أخرجه أحمد (5/ 351،353) وأبو داود (2149) والترمذي (2777) عن بريدة بن الحصيب. (5) في "فتاواه" (ص 202).

- ما يجب على المعشوق

يَصحبُه بخنًا، فيُنظَر في حالِه، إن كان من الطبقة الأولى فقد ذكر شروطهم فيما يتعلق بالكتمان حتى عن المحبوب، وإن كان كافيًا لهم ان صدقت دعواهم. وإن كان من الطبقة الثانية فلا بأسَ بشكواه إلى محبوبِه كي يَرِق عليه ويَرحمَه. وإن غَلَبَه الحالُ فالتحقَ بالثالثة أُبيحَ له ما ذكرنا، بشرطِ أن لا يكون أنموذجًا لفعل القبيح المحرم، فيلتحق بالكبائر، فيستحق القتلَ عند ذلك، ويزول عنه العذر، ويَحِقّ عليه كلمة العذاب، (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) (1). وأما ما يتعلق بالمعشوق فيجبُ عليه إدامةُ حمدِ الله وشكرِه على ما أعطاه من الجمال والحسن، ويَحرِص أن لا يجتمع مع حُسنِه قبيحُ الفعال، ولا يُدنِّس جمالَه بخسيس الخصال. فإن ظهرَ له من محبّةِ هذا صِدقُ دعواه، وفهم سلوك طريق المحبة من نجواه، فعامَلَه المعاملةَ الجميلة، وأباحَ له النظرَ والمحادثةَ المذكورة، والقُبلةَ في الأحيانِ بالشروطِ المتقدمة، مع أنَ هذا يكون تفضُّلاَ منه فلا يجب عليه، فإن خَسَّتْ نفسُ العاشقِ وجَنَحَتْ إلى الفِسقِ الصُّراحِ هَجَرَه، وما عليه في ذلك من جُناح، وإن قَتَلَه بعشقِه فليقتُلْه، فهذا بعضُ حقِّه. والله أعلم بالصواب، وعنده علم الكَتاب. آخره، والله سبحانه وتعالى أعلم. ...

_ (1) سورة الزمر: 71.

(13) مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها

مسألة في الفُتُوَّة وآدابها وشرائطها

- معنى الفتى في اللغة والعرف

مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها، وهل لها أصل في كتاب الله وسنة رسول الله؟ وهل الفتوة متصلة بإبراهيم الخليل عليه السلام أو بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ وهل إذا كانت متصلة بأحد من الأنبياء أو من الأولياء، فهل للباس والماء والملح الذي يشربونه أصل في ذلك؟ حتى أنه إذا شرب أحدهم الشربة يعد نسبها إلى آدم عليه السلام، وكيف سمّيتْ فتوة؟ وأيش السبب في ذلك؟ وهل لأحد من أئمة المسلمين قول في ذلك أم لا؟. الجواب الحمد لله. الفتى في كلام العرب هو الحدث بالنسبة إلى غيره، كما قال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً (13)) (1)، وقال تعالى: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)) (2)، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (3)، (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ) (4). ثم إنها غلبت في عرف كثير من الناس على مكارم الأخلاق، لكون الشباب ألين أخلاقا من الشيوخ، وصاروا يطلقون الفتوة على ذلك، حتى قال بعض المشايخ: طريقتنا تَتَفَتَّى وليس تَتَعَرَّى. وكما قال آخر منهم: التصوف خُلُقٌ، مَن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف.

_ (1) سورة الكهف: 13. (2) سورة الأنبياء: 60. (3) سورة الكهف: 60. (4) سورة يوسف: 62.

- تقوى الله وحسن الخلق يجمعان كل خير

وأعظم مكارم الأخلاق تقوى الله، ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن الفتوة، فقال: ترك لما تخشى. وهذا من قوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)) (1). ولهذا يقولون: إن هذه الآية تجمع علم الطريق، وصار يتكلم في الفتوة وما يدخل فيها من طوائف من المشايخ وغيرهم، وجماع الأمر المحمود يرجع إلى الأصلين، كما روى حديثًا صححه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِل ما أكثر ما يُدخِلُ الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل ما أكثر ما يُدْخل الناسَ النار؟ فقال: الأجوفان: الفم والفرج (2). فتقوى الله وحسن الخلق يجمع كل خير، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (3). وسواء سمي ذلك فتوة أم لم يُسمَّ، فالاعتبار في الدين بالإخاء التي جاءت (4) في القرآن وما علق بها من مدح وذمّ، ووعدٍ ووعيد، وثواب وعقاب، فالممدوح مثل اسم الإيمان والإسلام والتقوى والإحسان والبر والصدق والعدل ونحو ذلك، والمذموم مثل الكفر والنفاق والفجور والإساءة والكذب والظلمِ والفواحش ونحو ذلك. فمن فعل ما يُحمَد عليه في القرآن حُمِد، ومن فعَل ما يُذَمُّ عليه في القرآن ذُمَّ، ومن فعل ما يُحمَد وما يُذَمُّ استحقَّ الحمد والذمّ جميعَا، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)) (5).

_ (1) سورة النازعات: 40 - 41 (2) أخرجه أحمد (2/ 291،392،442) والبخاري في "الأدب المفرد" (289، 294) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) عن أبي هريرة. (3) سورة النحل: 128. (4) كذا في الأصل بتأنيث اسم الموصول والفعل. (5) سورة فصلت: 46.

- سقي الماء والملح وإلباس السراويل ونحو ذلك بدعة

وأما سقي الماء والملح وإلْباس السراويل ونحو ذلك فبدعة باطلة لا أصلَ لها، ولم يفعل ذلك أحدٌ من الأنبياء والصالحين، لا إبراهيم ولا علي ولا غيرهما. ولا يُشرَع اجتماع طائفة وتحزُبُهم على التناصر المطلق، بحيث ينصر بَعضُهم بعضًا في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحدٍ اتباع كتابُ الله وسنة رسوله، والمؤمنون إخوة يجب موالاة بعضهم بعضًا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (1)، وقال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)) (2)، وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)) (3). وفي الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر". وقال (5): "المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُذُ بَعْضُه بعضا"، وشبك بين أصابعه. وقال (6): "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يُحِب لأخيه من الخير ما يُحِبّه لنفسه".

_ (1) سورة الحجرات: 10. (2) سورة المائدة: 55 - 56. (3) سورة التوبة: 71. (4) البخاري (6011) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير. (5) أخرجه البخاري (1437) ومسلم. (2585) عن أبي موسى الأشعري. (6) أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) عن أنس.

- الأمور التي ارتبطت بالفتوة في هذا الزمان

وأمثال هذه الآيات والأحاديث التي إذا آمن الناس بها، وسَمَّوا بما سمّاهم الله ورسوله، جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة. ولم يكن من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين لا من أهل البيت ولا غيرهم [مَن] يدعو الناس إلى هذا الاسم، ولا يحزب له أحزابًا عليه. ومن نقلَ عن أمير المؤمنين علي أو غيره شيئًا من ذلك فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحاله. وأما الأمور المكروهة في الدين من الظلم والكذب (1) ونحو ذلك، فلا يشك مؤمن بالله ورسوله أنه يجب النهي عن ذلك، بل يجب النهي عن دواعي ذلك وأسبابه وما يقصد به ذلك. وكثير مما تسميه الناس فتوةً في هذا الزمان يقصدون به التعاون على ظلم أو فاحشة، ويجعلون ذلك وسيلةً لصيد المُردان وإفسادِهم، فلو كان الفعل الذي يفعلونه مباحًا وكان المقصود به ذلك لكان محرَّمًا باتفاق المسلمين، فإنّ في الصحيحين (2) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوَّجُها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه". فإذا كانت الهجرة التي أمر الله بها عبادَه، إذا كان مقصود المهاجر [بها] التزوّج بامرأةٍ أو طلب دنيا لم يكن له إلاّ ذلك، ولم يكن له في الآخرة من خلاق، فكيف ممن يفعل البدع لقصد الفواحش والظلم،

_ (1) في الأصل: "اللـ". (2) البخاري (1) ومسلم (1907).

حتى يُجَرِّئُوا الشباب على القتل المحرم وأخذ الأموال والعِشرة في طاعة الشيطان، من جنـ[ـس] ما يفعله أهل الدساكر وأهل المياسر. والواجب النهي عن هذه الشباهة، وعقوبة من يفعل ذلك عقوبة بليغة تردع المتعاونين على الإثم والعدوان المتشبثين بخطوات الشيطان. والله أعلم. ***

(14) مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة

مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة

- البدع التي يفعلها الخطباء في الجمعة نحو عشرين بدعة

مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة، كدق المنبر بالسيف في أول درجه وثانيه وثالثه، وقول المؤذنين عند ذلك: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وعلى أبي بكر وعمر ضجيعَيْه، وفي الثانية: وعلى عثمان وعلي صِهْرَيْه؛ وفي الثالثة: وعلى آل محمد وعلى الحمزة والعباس عَمَّيْه. فإذا رَقِيَ أعلى المنبر أقبلَ على الناس وسلَّم عليهم ورفعَ يدَه، فإذا شرعَ في الخطبة وأتى إلى ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفعَ المؤذنون أصواتهم بالصلاة عليه، فإذا فرغ الخطيب قام بعضُ المؤذنين ومجَّد الخطيبَ وأثنى عليه. الجواب البدع التي يفعلها الخطباء في الجمعة متعددة، قد ذكروا منها نحو عشرين بدعة (1)، منها ما ذكر من الدق بالسيف، ورفع المؤذن صوتَه بالدعاء للخطيب، أو بالصلاة والترضي. وأما تسليم الإمام عليهم إذا استقبلَهم بعد الاستدبار، فهو مستحب عند الشافعي وأحمد وغيرهما (2)، وقد جاء ذلك مأثورًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3)،

_ (1) ذكر الشيخ الألباني بدعا أخرى أوصلها إلى 75 بدعة، أكثرها متعلق بالخطبة والخطيب. انظر "الأجوبة النافعة" (ص 64 - 75). (2) انظر: "معرفة السنن والآثار" (2/ 489) و"روضة الطالبين" (1/ 536) و"المقنع في شرح مختصر الخرقي" لابن البنا (1/ 439) و"المستوعب" للسامري (2/ 28). (3) وهو ضعيف، أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (2/ 121) وابن عدي في "الكامل" (5/ 253) عن ابن عمر.

- المشروع لمن سمع الخطبة الإنصات

ولكن يسلِّم السلام الشرعي. واتفق الأئمة على أن المشروع لمن سمعَ الخطيبَ أن يُنصِت ولا يَجهرَ بشيء، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا قلتَ لصاحبك - والإمام يخطب يوم الجمعة-: أَنصِتْ، فقد لغوتَ" (1). فإذا كان الأمر بالإنصات لاغيًا فكيف غيره؟ وسواء في ذلك المؤذن وغيره، لا يجهر أحدهم عند تكلُّم الخطيب بشيء، لا بصلاةٍ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا غير ذلك. لكن هل يسكتُ عند ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو يصلّي عليه سِرًّا في نفسِه؟ هذا فيه نزاعٌ بين العلماء، فأما رفع الصوت بذلك أو غيرِه فمنهيٌّ عنه باتفاق العلماءِ، وجمهورُهم على أنّ ذلك محرَّم، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قولَيْه وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقد تبين أن هذه الأفعال مذمومةٌ إلاّ سلام الخطيب على المأمومين. والله أعلم. الحمد لله، وصلَّى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ...

_ (1) أخرجه البخاري (934) ومسلم (851) عن أبي هريرة.

(15) قاعدة في أفعال الحج

قاعدة في أفعال الحج

- أعمال الحج ثلاثة أقسام

بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا. فصل في أعمال الحج والعمرة، وما يُشرَع منها في غير حج ولا عمرة، وما يختص بالحج، وهل لمن ليس بحاج ولا معتمر أن يدخلَ معهم في بعض ذلك ولا يلتزمَ شرائطَه، وكذلك الصلاة فنقول: أعمال الحج ثلاثة أقسام، منها ما يختص بالحج، ومنها ما يشترك فيه الحج والعمرة، ومنها ما يُشرَع منفردًا عن الحج والعمرة. فهذا الثالث هو الطواف بالبيت، فإن الحج لابدّ فيه من طوافٍ بالبيت، وكذلك العمرة. والطوافُ عبادة مستقلة، فيطوف بالبيتِ المُحِلُّ الذي ليس في حج ولا عمرة، ولا يُشتَرطُ له إحرامٌ. وهذا متفق عليه بين المسلمين، مشروع للخلق من حين بَنَى إبراهيمُ البيتَ. قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)) (1). فهذه

_ (1) سورة الحج: 26.

- الطواف بالصفا والمروة يختص بالحج والعمرة

العبادات الطواف والاعتكاف والصلاة هي مشروعة لجميع الناس، لا يَختصُّ شيء من ذلك بالحج والعمرة، بل الاعتكاف مشروع بغير إحرام، وكذلك الصلاة، وكذلك الطواف. لكن الطواف هو ركن في الحج والعمرة، بخلاف الاعتكاف، لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)) (1). وأما الطواف بالصفا والمروة فيختصُّ بالحج والعمرة، لا يُشرَعُ منفردًا، بل ولا يُشرَع إلاّ بعدَ الطواف بالبيت، ولهذا يجيء في الحديث: "طافَ بالبيت وبين الصفا والمروة" (2). قال تعالى: (*إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (3)، لم يُشرَع ذلك مطلقًا كما شُرِع الطواف والاعتكاف والصلاة، وقد ثبتَ في الصحيح (4): أن ناسًا كانوا يظنونَ أن الصفا والمروة ليس من شعائر الله، بل ظنُّوا ذلك من أعمال الجاهلية، وآخرون كانوا لا يطوفون بهما في الجاهلية. فلما جاء الإسلامُ سألوا عن ذلك، فأنزلَ اللهُ هذه الآية، يُبيِّنُ أن الصفا والمروة من شعائرِه، وقد شَرَعَ لعبادِه الطوافَ بهما، فلا جُناحَ في ذلك على من حجَّ أو اعتمر، وأزالَ بذلك ما كان قد حَصَلَ من الشك والظن. وهذا كما يسألُ الرجلُ عن عبادةٍ مأمورٍ بها، فيظنُّ أنها منهيّ عنها، فيقالُ له: لا بأس بذلك، وإن كان ذلك مشروعًا مستحبا. ولم يكن حين نزولِ هذه الآية قد أوجب الله الحج، بل بيَّن أن

_ (1) سورة الحج: 29. (2) انظر مثلًا عند البخاري (1545) عن ابن عباس، و (1708) عن ابن عمر، و (1762) عن عائشة. (3) سورة البقرة: 158. (4) البخاري (1643) ومسلم (1277) عن عائشة.

ذلك مشروع بقوله: إنهما (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، وبقوله: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)) (1). فهذا وهذا يبيّن أن ذلك عمل صالح، وأن قوله "فلا جناح" لنفي الشبهة التي وقعت لهم في ذلك، وأنَ قوله "لا جناح عليه" أي لا جناح في التقرب بالطوافِ واتخاذِه عبادةً، فإنّ أحدًا لا يطوف بهما إلاّ على وجه التعبُّد، ليس ذلك كالسفر الذي يُفعَل على وجهِ العبادة وغيرِ وجهِ العبادة. فلما قال تعالى (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وهو لا يفعل إلاّ عبادةً، كان المعنى: لا جُناحَ [على] من عبد الله بهما، فيدلُّ ذلك على أنّ الطواف بهما عبادةٌ لله. وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن تنازعوا: هل ذلك ركن؟ كما يقوله مالك والشافعي، أو واجبٌ يَجْبُره دم؟ أم لا شيءَ في تركهما؟ كما يقوله طائفة من السلف، وهي ثلاث روايات عن أحمد (2). وأقوى الأقوال أنه واجب يَجبُره دمٌ. وهذا كما يقول: تُقامُ الجمعة في القرى، وبدون إذن الإمام، وإن كان ذلك واجبًا، لما في ذلك من الشبهةِ. وكما يجوز الجمع بين الصلاتين بعرفةَ ومزدلفةَ، وإن كان ذلك هو السنة. وكما يجوز إشعارُ الهَدْي، وإن كان ذلك هو السنة. وكما يقول: يجوز قضاء الفوائتِ في أوقات النهي، وإن كان ذلك واجبًا، لأنَّ قضاءَها على الفور. وكما يجوز قَصْرُ الصلاةِ في السفر وإن كان آمنًا، وهذا هو السنة، بل هو واجب في أحدِ قولَي العلماء. ونظائر ذلك كثيرة. والمقصود هنا أن الطواف بالصفا والمروة مما لا يكون إلاّ في

_ (1) سورة البقرة: 158. (2) انظر "المغني" (5/ 238 - 239).

- الأعمال التي يختص بها الحج

حج أو عمرةٍ بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يُفْعَل مُفردًا كالطواف، ولا يختصُّ بالحج كالوقوف. وكذلك الإحرام والتلبية والحلق أو التقصير هو مما يشترك فيه الحج والعمرة. وأما القسم الثالث وهو ما يختصّ [به] الحج، كالوقوف بعرفةَ وتوابعه مزدلفةَ ومنى، ورمي الجمار، فهذه الأعمال يختص بها الحج، وما اختصّ به الحج فإنه يختصُّ بمكانٍ وزمانٍ. فالوقوف لا يكون إلاّ يومَ عرفةَ وليلةَ النحر، وهو مختص بعرفات، لا يُسافَر إلى غيرِها للوقوف، وكذلك توابعه: كالوقوف بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فهذا له مكان مخصوص، وهو مشروع في أوقاتٍ مخصوصة. بخلاف العمرة، فإنها مشروعة في جميع السنة، قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1)، وقال: (*يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (2). ولهذا اتفق العلماء على أنَّ من طَلَعَ عليه فجرُ يومِ النحرِ ولم يَقِفْ بعرفةَ، أنه فاتَه الحج، لأنَّ له وقتًا محدودًا، وإذا فاته الحج سقطتْ توابعُه - كالوقوف ورمي الجمار - عند عامة العلماء للسلف والخلف، وهو قولُ الأئمة الأربعة وغيرهم، لكنه هل ينقلب إحرامُه عمرةً؟ لكونها لا وقتَ لها، أو يتحلَّلُ بطوافِ الحج وسعيِه؟ فيه قولانِ مشهوران للعلماء، والنزاع في مذهب أحمد وغيره (3).

_ (1) سورة البقرة: 197. (2) سورة البقرة: 189. (3) انظر: "المغني" (5/ 425 - 427).

- حكم من اجتاز المواقيت يريد الحج أو التجارة أو غير ذلك

وفيها قولٌ شاذ أنه يتمُّ أعمالَ الحج من الوقوف بمزدلفةَ ورمي الجمار، يُروَى عن الأوزاعي والمزني، وهو رواية ضعيفة عن أحمد. والصواب ما عليه الجمهور، كما نُقِلَ عن الصحابة، ولأن اللهَ إنما أمر بهذه الأعمال من وقفَ بعرفةَ، فقال: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (1) الآية. وإذا كان إنما أمر بذلك من أفاض من عرفات، فمن فاته الحج لم يُفِض من عرفات، فلا يؤمَر بذلك. وهذا كما أن الطواف بين الصفا والمروة إنما يكون تابعًا للطواف بالبيت، فلا يُفعَلُ إلاّ بعدَه، فمن لم يَطُفْ بالبيت لم يَطُفْ بالصفا والمروة. وأعظم أعمال الحج الوقوفُ والطواف، وهما ركنانِ في الحج باتفاقِ العلماء، وهذا من جنس السكون، وهذا من جنس الحركة. فصل فمن اجتاز بالمواقيت لقصد الحج والعمرة، فعليه الإحرام بالسنة المستفيضة واتفاقِ العلماء، كما قال ابن عباس في الحديث المتفق عليه (2)، وقال: وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، وأهل الشام الجحفة، وأهل نجدٍ قرنًا، وأهل اليمن يلملم، وقال: "هنّ لهنّ ولكل آتِ آتى عليهن من غيرِهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دُونَ ذلك

_ (1) سورة البقرة: 198 - 200. (2) البخاري (1526) ومسلم (1181).

فمن أهلِه، حتى أهل مكة يُهِلُّون منها". وإذا اجتاز بالمواقيت لا يُرِيد الحرمَ، فليس عليه الإحرامُ بالاتفاق. وإن اجتاز بها يُريد مكةَ لتجارة أو زيارة أو غيرِ ذلك مما لا يتكرر، فإنه ينبغي له أن يَدخُل محرمًا بحج أو عمرة. وهل ذلك واجب؟ فيه قولان للعلماء، والجمهور على الوجوب، وهو مأثور عن ابن عباس، حكاه عنه أحمد وغيره، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد. وعنهما أن ذلك مستحب. ومن قال بالوجوب تنازعوا فيما إذا ترك ذلك، هل يلزمُه القضاءُ؟ فأوجبَه أبو حنيفة، ولم يُوجِبْه الباقون. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ممن يريد الحج والعمرة" (1) لا يُنافِي هذا القولَ، فإن هؤلاء يُوجبون عليه أن يُرِيد الحج أو العمرة، لكن الحديث فيه نفي ذلك عمن (2) لا يريده، مثل المجتاز بالمواقيت إلى غير مكة. ولو كان منزلُه بالمواقيت أو دونَها لم يُوجبْ أبو حنيفة عليه الإحرام، وأوجبه مالك والشافعي وأحمد - علىَ قولهما بالوجوب -، وقد حكى الطحاوي الأوَّلَ عن مالك. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو وخلفاؤه لم يَدخُلْ أحدٌ منهم مكَّةَ إلاّ محرمًا، إلاّ عامَ الفتح، فانه دَخَلَ وعلى رأسِه المِغْفَر (3)، ولم يكن محرمًا، لأن الله أَحَلَّ له القتالَ فيها يومَئذٍ، وقال: "إنها لم تَحِلَّ لأحدِ قبلي، ولا تَحِلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهارٍ" (4). وقال: "فإن

_ (1) في حديث ابن عباس السابق. (2) في الأصل: "عما". (3) أخرجه البخاري (1846) ومسلم (1357) عن أنس. (4) أخرجه البخاري (112) ومسلم (1355) عن أبي هريرة.

- من عمل الحج أو العمرة عليه أن يفعلها على الوجه المشروع

أحدٌ تَرخَّصَ بقتالِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فقولوا: إنما أحلَّها اللهُ لرسوله، ولم يُحِلها لك، وقد عادت حرمتُها اليومَ كحرمتِها أمسِ" (1). فصل وأما من عَمِلَ أعمالَ الحج والعمرة فهذا عليه أن يفعلها على الوجه المشروع، وليس له أن يجتاز بالمواقيت بلا إحرامٍ، بالسنة واتفاق العلماء. وهو كمن أراد الصلاةَ، عليه أن يُصلَّيها على الوجه المشروع، فيصلّيها بطهارة وقصدٍ إلى القبلة، وإن كانت الصلاةُ تطوعًا غيرَ فرضٍ، لكن ليس له أن يُصلَيَ إلاّ على الوجه المشروع. كذلك الحج والعمرة وإن كان متطوعًا، فليس له أن يحجّ ويعتمر إلاّ على الوجه المشروع. فلو قال: أنا أدخلُ بلا إحرام، وأطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، لم يكن له ذلك. وكذلك لو قال: أنا أدخلُ بلا إحرامٍ، وأَقِفُ بعرفةَ ومزدلفةَ وأرمي الجمار، لم يكن له ذلك بالسنة واتفاقِ العلماء. ولو قال: أنا أريد الوقوفَ فقط، فأذهبُ في شأني غيرَ محرمٍ إلى عرفة، فأقِفُ مع الناس وأرجعُ، فهذا أولَى بالمنع، لأن ذاك تركَ الإحرامَ وحدَه، وهذا تركَ الإحرامَ وتوابعَ الوقوف. والوقوف بعرفة إنما شرعَه الله بعمل قبلَه - وهو الإحرام -، وعملٍ بعده - وهو الوقوف بالمشعر الحرام وسائر المناسك-، قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ

_ (1) أخرجه البخاري (1832) ومسلم (1354) عن أبي شريح العدوي.

- الذي يقف بعرفة ومزدلفة بدون الحج يعصي الله ورسوله

فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إلى قوله (*وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)) (1). فأمر سبحانَه الناسَ إذا أفاضوا من عرفات أن يذكروه عند المشعر الحرام، وهو مزدلفة كلها بالسنة واتفاق العلماء، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عرفة: "هذا الموقف، وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنَة". وقال في مزدلفة: "هذا الموقف، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن مُحَسَّر". وقال: "منى كلها مَنْحر، وفجاجُ مكة كلها منحر" (2). وأمر الناس بقضاء مناسكهم أي إتمامها وإكمالها. وأمرهم أن يذكروه في أيام معدودات، وهنّ أيام التشريق، وفيها يُرمَى الجمارُ الثلاث، ويُذكرَ اللهُ عند رمي الجمار بدعاءٍ بينَ كلّ جَمرتَيْن. ومزدلفةُ المبيتُ بها والوقوفُ بها ورَمْيُ الجمار بمنًى واجب عند العلماء قاطبة، ومنهم من جعلَ الوقوفَ بمزدلفةَ ركنًا. فهذا الذي وقفَ بعرفةَ إن لم يفعل ما أمره الله من هذه الأعمال فقد عصى الله ورسولَه، وتَركَ ما أوجبَه الله. وإن فَعَلَ ذلك بغير إحرام، وقال: كنتُ حاجًّا، فهو أيضًا عاصٍ لله ورسوله، فإن هذه هي أفعال الحج، وليس للإنسان أن يأتي بالعبادة بلا قَصْدِ التعبد، فإنّ هذا استهزاءٌ بآيات الله. وهو بمنزلة من يقومُ ويَركعُ ويقرأ ويسجد، ويقول: لستُ مُصلِّيًا، فلا أحتاجُ إلى وضوء.

_ (1) سورة البقرة: 198 - 203. (2) هذه الألفاظ من حديث جابر الطويل الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما في مواضع من كتاب الحج مطولاً ومختصرًا. فيطلب من هناك.

وليس لأحدٍ أن يَشهدَ مجامعَ الناس في صلاتهم وحجهم إلاّ إذا شاركهم في ذلك. وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صلاةَ العصر بمسجد الخيف، فرأى رجلينِ لم يُصَلِّيا، فقال عليَّ بهما، فأُتِيَ بهما تُرعَدُ فَرائِصُهما، فقال: "مالكما لم تُصَلِّيا؟ ألستما مسلمينِ؟ "، فقالا: يا رسولَ الله! صلينا في رحالنا، قال: "إذا صليتما في رحالِكما ثمَّ أتيتما مسجدَ جماعةٍ فصَلِّيا معهم، فإنهما لكما نافلة" (1). وكذلك قال عن الأمراء الذين يُؤخرون الصلاةَ عن وقتها، قال: "صَلُوا الصلاةَ لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلةً" (2). وفي رواية: "ولا يَقُلْ أحدُكم قد صَلَّيتُ" (3). وكذلك الوقوف بعرفة ومزدلفةَ، لا يَقِفُ هناك مع الحجاج إلاّ حاجٌّ مُحرِم. وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب أنه رأى بعرفةَ قومًا عليهم العمائمُ، فأرادَ عقوبتهم. والله سبحانَه يُبَاهِي الملائكةَ بأهلِ عرفَةَ، فيقول: انظروا إلى عبادي، آتوني شُعْثًا غُبْرًا (4). وهذا شعارُ الإحرام، فمن لم يُحرِم لم يأتِ رَبه لاَ أشعثَ ولا أغبرَ. فمن ذهبَ إلى عرفات بغير إحرام، ووقف مع الناس ثم انصرف منها، كما يَحصُل لطائفةٍ من الناس ممن

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 160،161) والدارمي (1374) وأبو داود (575،576، 614) والترمذي (219) والنسائي (2/ 112) عن جابر بن يزيد بن الأسود العامري عن أبيه. (2) أخرجه مسلم (648) [244] عن أبي ذر. (3) هي عند البخاري في "الأدب المفرد" (954) ومسلم (648) [242]. (4) أخرجه أحمد (2/ 224) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه أيضًا (2/ 305) عن أبي هريرة. وهو حديث صحيح.

- من قال أقف ولست بحاج خرج عن شريعة المسلمين

يَحمِلُه الجن والشياطين، يَحمِلُونهم إلى عرفات ثمّ يَرُدُّونهم، فهؤلاء ضالُّون مبتدعون خارجون عن شريعة الإسلام، وإن كانوا وقفوا بعرفاتِ بغيرِ إحرامٍ وفي غيرِ حجّ، ولم يفعلوا ما أمر به المفيضون من عرفات بعد ذلك. والوقوفُ بعرفاتٍ لا يكون قط مشروعًا إلاّ في الحج باتفاق المسلمين، في وقتٍ معين على وجهٍ معين، فمن قال: أَقِفُ ولستُ بحاجّ فقد خرجَ عن شريعة المسلمين، بل إن اعتقد ذلك دينا لله مستحبًّا فإنَّه يُستتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ. وإن قال: ليس بدينٍ لله ولا هو مستحب، قيل له: إنما فعلتَ على وجهِ التديُّن والتعبد به، وهذا لا يجوز. وإن كنتَ فعلتَه على سبيل التنزه والتفرُّج فهذا شَرٌّ وشَرٌّ. والحج والعمرة لهما شأن يميزهما، فيلزمان بالشروع، كما قال: (وأتموا الحج والعمرة لله) (1)، فمن دخلَ فيهما لم يكن له الخروج، فالواقفُ بعرفةَ عليه إتمامُ الحج وإن كان متطوعًا، وليس له أن يَقِفَ ويَنصرِفَ باتفاق المسلمين. فهذا الذي حَملتْه الجن إلى عرفةَ ثم منها إلى بلده، قد تركَ ما أمر الله به قبلَ الوقوف وبعدَ الوقوف وحالَ الوقوف، حيث وقَفَ بثيابه من غير إحرام. ولو قُدِّرَ أنه وَقَفَ بعرفةَ ومزدلفةَ ومنى كان قد تركَ ما يجب عليه من الإحرام، وفعل ذلك في ثيابه بغير عُذْرٍ. وهذا لا يجوز بالنص والإجماع. ولهذا يُذكَر عن بعض المحمولين إلى عرفةَ من بلدٍ بعيدٍ - إمّا الإسكندرية أو غيره - أنه رأى في منامه وهو هناك ملائكةً تَنزِلُ تكتُبُ

_ (1) سورة البقرة: 196.

- أخبار بعض هؤلاء المحمولين

الحجاجَ، فقال: ألاَ تكتبوني؟ فقالوا: لستَ منهم، الحجّاجُ هؤلاءِ الذين جاءوا رُكبانًا ومُشاةً، وأحرموا ووقفوا وهم يتمون الحج. أو كما قيل له. وأيضًا فالله تعالى إنما دعا الناسَ إلى بيته على لسانِ الخليل، قال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) (1). فجَعلَ الآتينَ إلى بيته نوعينِ: رجالاً ورُكبانًا، وليس فيهم طائر ولا محمول في الهواء، فدلَّ على أن هذا القسم الثالث ليسوا ممن أجاب دعوةَ ربّهم، ولهذا لا يُلَبون. ومنهم من يَحمِله الشيطانُ، ويَمنعُه أن يَرى شيئًا، فلا يُحِسُّ بنفسِه إلاّ بعرفةَ أو بغيرها من الأماكن التي يحمله إليها. وقد حدَّثني غيرُ واحدٍ من الثقاتِ عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه قال: خرجتُ مرةً، فرأيتُ بالكسوةِ - أو قال بغيرها - رجالاً ممن يطير في الهواء، فيذهب إلى مكة، فقالوا: لا تذهبُ معنا؟ فقلتُ لهم: لا، فإن هذا الذي تفعلونه لا يُسقِط الفرضَ عنكم، ولا يتقبله الله حتى تحجوا كما أمر الله ورسولُه، فيحصُل لكم في طاعةِ اللهِ من التَعَب وغيرِه ما يَأجُرُكم الله عليه، وأما هذا الحج فلا فائدةَ فيه. فقالوا: نحن نَقْبَل منك ونَحجُّ معك على السنة. فلما حَجوا قالوا: جزاكَ الله خيرًا، فإنّا في هذه الحجة ذُقْنا طعمَ العبادةِ لله وحَلاوةَ الحج. ومن هؤلاء المحمولين الذي تَحمِلُهم الجن إلى مكة من يُذهَبُ به قبلَ الحج، فيُحرِم من الميقاتِ، ويحجُّ حجَّ المسلمين. ولكن هذا محروم، فوَّتَ نفسَه فَضْلَ السَّيْرِ إلى المواقيت راكبًا أو ماشيًا، فلم

_ (1) سورة الحج: 27.

- مثل هذا الحمل يحصل للكفار والمنافقين أعظم مما يحصل للمؤمنين

يكن له أجر الحجَّاج. ومن هذا الباب ما يُحكَى عن بعض المشايخ - معروفٍ أو غيرِه - أنه سارَ في الهواءِ إلى مكة، فطافَ بالبيتِ، ثمَّ ذهبَ ليشرَبَ من زمزم، فوقَعَ فَشُجَّ. فإنّ هذا وإن كان أهونَ من الذي حُمِلَ يومَ عرفةَ إلى عرفةَ، كما حُمِلَ جماعة كثيرة من أعصارٍ وأمصارٍ متفرقةٍ. وأقدمُ من حُكِيَ هذا عنه حبيب العجمي. فأما الصحابة فكانوا أجلَّ قَدْرًا من أن يَطمَعَ الشيطانُ في أن يُضِلَّهم ويَصْرِفَهم عن سنة الرسولِ وشريعتِه، كما صَرَفَ من كانَ قليلَ العلمِ والمعرفةِ بالسنة والشريعة من العُبّاد والزهّاد وغيرِهم. والذين يُحْمَلون إلى عرفات أو غيرها، منهم من لا يَعرِف أن ذلك من الجنّ، ومنهم من يَعرِف ذلك، ويَظُنّ هؤلاء وهؤلاء أنّ ذلك كرامة من كرامات الأولياء، وأنّ هذا العمل مما يُحِبُّه الله ويَرضاه ويثيبُ صاحبَه عليه. ولو علموا أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب في الشريعة، وأنّه من إضلالِ الشياطين لهم، لم يفعلوه لما عندهم من الدين والخير وحسنِ القصد، رحمة الله عليهم. والمجتهد المخطئ يُغفَر له خَطَؤُه، ويثَاب على حسن قَصْدِه وما عمله من عمل مأمورٍ به، والله أعلم. لكن مثل هذا هو مما يُعذَر فاعلُه عليه، ليس هو مما يُستَنكَر عليه، بخلاف ما فعلَه من لم يَعرِف، فإنه يظن أن هذا من أعظم القُربات. ولو عَلِمَ أنّ مثل هذا الحمل إلى الأمكنة البعيدة يَحصُل للكفار من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين أعظمُ مما يَحْصُل للمؤمنين، لَعَلِمَ أنه من عمل الشيطان، لا مما أمرَ به الرحمن. وذلك أن الطواف بالبيت مشروع بغير إحرام، لكن نفس الدخول إلى مكة للطواف بغير إحرام لا يجوز عند جماهير العلماء، بل لو جاز لتجارةٍ لم يجز، فكيف للطواف بلا إحرام. ومن لم يُوجِبْه فإنه

- الذهاب محمولا مع الجن وغيرهم ليس من الأعمال الصالحة

يَستحِبُّه، فهذا فوَّتَ نفسَه هذه الفضيلة. وذهابُه محمولاً مع الجنّ أو غيرهم في الهواء ليطوفَ ليس من الأعمال الصالحة المشروعة، لا واجبًا ولا مستحبًّا، ولو كان ذلك مشروعًا لكان الأنبياء أقدرَ على ذلك، وكانوا يذهبون في الهواء يَحجُّون، وهذا لم يُعرَف عن أحدٍ من الأنبياء ولا الصحابة، والأنبياء أفضل الخلق، والصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء، ولو كان عملاً صالحًا لكان هؤلاء أحق به من غيرِهم. ونبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليُرِيَه الله من آياته بالمعراج، كما قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)) (1). فالمقصود كان أن يُرِيَه الله من آياتِه، كما أراه ليلةَ المعراج ما أراه من الآيات. قال تعالى: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) (2). وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (3). وفي الصحيح (4) عن ابن عباس قال: هي رؤيا عَينٍ أُريَها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ أُسرِيَ به. ولهذا كان قوله (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) دليلاً في المعراج الذي كان بعد المَسْرَى إلى المسجد الأقصى، لم يكن المقصود مجردَ رؤية الأقصى، فإنه قد رآه المسلم والكافر والبَرُّ والفاجر، ولكن هو سبحانَه أخبر بذلك ليكون هذا آيةً للرسول، فإنهم قد رأوا

_ (1) سورة الإسراء: 1. (2) سورة النجم: 12 - 18. (3) سورة الإسراء: 60. (4) البخاري (3888،4716،6613).

المسجد الأقصى، فإذا أخبرهم أنه رآه ووَصَفَه لهم - كما جاء في الحديث الصحيح (1) - كان ذلك حجةً له على أنه رآه، ولم يُمكِنْهم تكذيبُه في ذلك، بخلاف ما لو أخبر بالعروج إلى السماء ابتداءً، فإنهم كانوا إذا كذبوا بذلك لم يكن هناك ما رأوه حتى يَصِفَه لهم. وهو سبحانَه قد أخبر بعُروجِه إلى السماء في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) (2). وهو سبحانَه ذكر هذا بعد أن ذكر رؤيةَ جبريل النزلة الأخرى في الأرض، فإنه رآه على صورته مرتين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقال في سورة التكوير وقد ذكر سبحانه بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)) (3)، فهذا جبريل، ثم قال: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)) (4). وهؤلاء الذين يُحمَلُون إلى مكة في الهواء: منهم من مُثل له فرسٌ أو بعيرٌ، يركبُه وهو يسير في الهواء، ومنهم من لا يرى شيئًا، ومنهم من يَعرِف أنه محمولٌ. وقد حدثني منهم مَن حُمِل، وحدَّثني جماعاتٌ عن جماعاتٍ منهم وعمَّن كان قبلَنا. وأحوالُهم مع الشياطين بحسبِ بُعدِهم عن معرفةِ ما جاء به الرسولُ والعملِ به، فإنّ هذا هو

_ (1) أخرجه البخاري (3886،4710) ومسلم (170) عن جابر. (2) سورة النجم: 13 - 18. (3) سورة التكوير: 19 - 21. (4) الآيات 22 - 29.

- عباد الله هم الذين عبدوه وحده مخلصين له الدين

دين الله، وأهلُه هم عباد الله الذين لا سلطانَ للشيطان عليهم، كما قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفي بربك وكيلا (65)) (1). ولما قال الشيطان: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)) (2) قال الله: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، ثم قال: (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (3). وهذا استثناء منقطع في أصح القولين، لقوله في الآية الأخرى. (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)) (4)، ولم يستثن منهم أحدًا. وقال في الآية الأخرى: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)) (5). وعباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين، وعبادتُه إنما هي بطاعته وطاعة رسله، وذلك هو الواجب والمستحب، كما في صحيح البخاري (6) وغيره [في] حديث الأولياء من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" - ورُوِي: فقد آذنتُه بالحرب - "وما تقربَ إلي عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويَدَه التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لاعطِينه،

_ (1) سورة الإسراء: 65. (2) سورة الحجر: 39 - 40. (3) سورة الحجر: 41 - 42. (4) سورة الإسراء: 65. (5) سورة النحل: 98 - 100. (6) برقم (6502).

- كلما كان الإنسان أقرب إلى الصراط المستقيم كان أقرب إلى أن يكون من عباد الله

ولئن استعاذ بي لأعِيذنَّه. وما تَردّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكره مَساءتَه، ولا بدّ له منه". وهذا مبسوط في مواضع (1). والمقصود هنا أنه كلَّما كان الإنسان أقربَ إلى الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسولَه كان أقربَ إلى أن يكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وكلَّما كان أبعدَ عن ذلك كان أقربَ إلى الشياطين. فهؤلاء الذين يحملهم في الهواء: منهم من يحمله إلى بلاد الكفر، ويدخلون مع الكفار في دينهم، وهم منافقون وإن كانوا في ديار الإسلام يُظهِرون الإسلام. ومنهم من يُحمَل من بعض بلاد الكفار إلى بعض، ومن ذلك ما يكون بسحر، ومنه مالا يَعرِفُ صاحبُه السحرَ، لكن يكون مشركًا أو منافقا يَتعبُّد تعبد المشركين والمنافقين. والذين يُحْمَلون إلى مكة: منهم من لا يدخل المسجد الحرام ولا يصلي فيه، ولا يصلي في الطريقِ ولا في بلدِه، والمدة في وصولهم إلى مكة تختلف، منهم من يَصِل في بعض نهار من مثل مصر والشام والجزيرة والعراق، ومنهم من يَصِل في يوم أو يومين أو أكثر من ذلك. وقد حدثني بعض هؤلاء المحمولين أنه كان له رُفْقَة سماهم، وأنهم لم يدخلوا المسجد الحرام، ولا طافوا ولا صلَّوا، لا فيه ولا في الطريق. ومن هؤلاء من يتمثل له شخص ويقول: أنا الخضر، أو يُسمي غيرَ الخضر من الأنبياء والصالحين، ويقول: أنا أذهب بك إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، وقد يُكاشِفُه ببعض الأشياء، وقد

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (11/ 61 - 64، 75 - 77، 159 - 162، 186 - 190، 194 - 218، 221 - 223؛ 17/ 133 - 134، 390 - 394).

- مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعا

يُحضِر له طعامًا أو شرابًا في الهواء، ويكون ذلك مما قد أخذه من بعض الأماكن، وكثير منه يكون مسروقًا قد سرقَه وأخذَه الشيطانُ من مالِ مَن خانَ شريكَه، أو من مالِ مَن لم يذكر اسمَ الله عليه. وهؤلاء من جنس الكُهَّان، قد يُوحُون إلى أوليائهم من الإنس بعضَ ما يكاشفون به، ولابُدَّ أن يكذبوا في بعض ما يُخبِرون به، لكن ما كان مستورًا عنهم قد ذكَرَ صاحبُه عليه اسمَ الله لا يَرَونَه ولا يُخبِرون به. وهذا من الفروق بين إخبار هؤلاء وبين إخبار المسيح بما يأكلون ويدَّخرون في بيوتهم، فإن المسيح يُخبر بالبواطن التي تكون محجوبة عن الجنّ، كما يحجب عنهم الأشياء بذكر اسم الله تعالى. فالآكِل متى ذكرَ اسمِ الله لم يَشْرَكْه الشيطانُ في طعامِه، وإن سمَّى الله عند دخولِ المنزل لم يشركْه في دخولِ البيت، وإن لم يُسمِّ الله لا في هذا ولا هذا أدركَ المبيت والطعام، كما بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في الحديث المعروف (1). والمسيح يُخبر بذلك، وأيضًا فخبر المسيح صِدق كلُّه، ليس في شيء منه كذب، وهؤلاء الذين يُخبرون عن إعلام الشياطين لهم لابدَّ أن يكذبوا. قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)) (2). والكلام على جنس هذا وأقسامه مذكور في مواضع. والمقصود أن مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا بالإجماع، لا واجبًا ولا مستحبًّا، بل هو منهي عنه لا

_ (1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1096) ومسلم (2018) عن جابر. (2) سورة الشعراء: 221 - 223.

يجوز التعبد به، بل من أراد أن يقف مع المسلمين بعرفة فإنه يحج كما يحج المسلمون، فيُحرِم إذا حَاذَى الميقاتَ، وإذا أفاضَ من عرفات فعلَ عند المشعر الحرام ومِنًى ما أمرَ الله به ورسولُه، وطافَ بالبيت العتيق. لا يُشرَع الوقوفُ إلاّ على هذا الوجه. ومَن حُمِل إلى عرفات ولم يَقِف الوقوفَ المشروعَ، فهو كمن حُمِلَ يومَ الجمعة إلى المسجد وهو جُنُبٌ أو بلا وضوءٍ، فسمعَ الخطبةَ ولم يُصَلِّ مع المسلمين، أو صلَّى بلا وضوءٍ أو إلى غيرِ القبلة. والعبدُ والصبي لا يَلزَمُهما الحج، وإذا حجَّا صحَّ حجهما ولم يَسقُطْ عنهما فرضُ الإسلام، بل إذا بلغَ هذا وعتقَ هذا فعليه الحجُّ إن استطاعه. ولو أراد العبدُ والصبي أن يَقِفَ بلا إحرامٍ وحجّ مُنِعَ من ذلك. وليس لأحدٍ أن يَقِفَ بعرفة إلاّ مكشوفَ الرأس مُحرِمًا، إلاّ من كان معذورًا. ولو أرادَ الماشي إلى عرفة والراكبُ أن يَقِفَ مع الناس بلا حجّ ولا إحرامٍ مُنِعَ من ذلك، كما لو أراد الماشي والراكب والمحمولُ في الهواء أن يشهدَ عند المسلمين، فيكون بين صفوفهم ولا يُصلّي صلاتهم، فهذا يُعاقَب على ذلك. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر النساء أن يخرجن إلى العيد، وأمرَ الحُيضَ والعواتقَ وذواتِ الخدور، وقالْ: "أما الحيض فيعتزلن المصلَّى ويَشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين" (1)، فالحيَّض مع كونهن معذورات في ترك الصلاة أمرَهُنَّ أن لا يختلطن بالمصلِّيات، ولا يكُنَّ بين صفوف المصليات، بل يعتزلن المصلَّى، ويشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين. فكيف من لا عذرَ له إذا أراد أن يختلط بالمصلين في

_ (1) أخرجه البخاري (324 ومواضع أخرى) ومسلم (890) عن أم عطية.

- حمل هؤلاء في الهواء ليس من كرامات الأولياء بل من تلعب الشياطين بهم

صفوفهم ولا يُصلَّي معهم؟ وكذلك من يطوف بالهواء منِ الإنس، فقد رئيَ بعضُ هؤلاءِ في الهواء عند الكعبة، وتوضأ وسقط من وضوئه على الأرض، فأنكر عليه الرائي وأحسنَ في إنكارِه، فإن الصلاة والطواف في الهواء غير مشروع، بل يطوف بالأرض ماشيا أو راكبا لعذر، وكذلك الصلاة يصلّي على الأرض أو راكبًا لعذرٍ. فهذا هو الذي يكون عبادةً لله واتباعا لما أنزلَه ولرُسُلِه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عملَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردّ" (1). وحَمْلُ هؤلاء في الهواء ليس من كرامات أولياء الله، بل من تلعُّبِ الشياطين بهم وإضلالهم لهم، كما يفعل الشياطين بالمشركين والنصارى ونحوهم، يفعل بهم أعظم مما هو من هذا، وكذلك ما يفعل مع السحرة والكفان، كما قد بُسط في مواضع. وقد قال العفريتُ لسليمان لما قال: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)) (2). فهذا يبين أن العفاريت يقدرون على مثل ذلك، لكن هذا كان لسليمان تسخيرًا من الله لسليمان، كما سخر له الريح غدوُّها شهر ورواحها شهر، والشياطين كل بناء وغوَّاص، وآخرين مقرنين في الأصفاد. والشياطين أضلَّت كثيرًا من بني آدم، فذكروا لكثيرٍ من الإنس أن سليمان كان سَحَرَ الجن بأسماء وكلماتٍ يقوم بها وهي شرك، وكتبوا ذلك في كتب، وقد قيل: إنهم دفنوها، حتى ظهرتْ تلك الكتب، وقالوا: إن سليمان كان يسحر الجن بهذا، فصار أهلُ الضلالِ فريقَين:

_ (1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1718) عن عائشة. وهو عند البخاري (2697) بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه ... ". (2) سورة النمل: 38 - 39.

فريقًا قَدَحُوا في سليمانَ وبَيَّنوا أنه ساحر، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب، وفريقًا قالوا: إنه نبي، وإنّ هذه الأسماء والكلمات علَّمه الله إياها، فعملوا بها فكفروا. فنَزَّه الله سليمانَ عن قول الطائفتين، وبيَّن كُفْرَ مَن اتبعَ الشياطين، وذَمَّ أهلَ الكتاب الذين نبذوا كتابَ الله وراءَ ظهورِهم، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)) (1). وبَسْطُ هذا له مواضع أُخَر، والله سبحانَه أعلم. ...

_ (1) سورة البقرة: 101 - 103.

(16) فتوى في البيع بفائدة إلى أجل

فتوى في البيع بفائدةٍ إلى أجل

- هذه معاملة فاسدة وهي عين الربا

بسم الله الرحمن الرحيم سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية - رضي الله عنه - عن رجلٍ احتاج إلى مئة درهم، فجاء إلى رجلٍ فطلبَ منه دراهم، فقال الرجل: ما عندي إلا قماش، فهل يجوز له أن يبيعه قماش مئةِ درهم بمئة وخمسين إلى أجلٍ؟ أو يشتري له قماشًا من غيره، ثمّ يبيعه إياه بفائدة إلى أجل؟ وهل يجوز اشتراط الفائدة قبل أن يشتري له البضاعة؟ وما مقدار ما يجوز له أن يكسب في البضاعة إذا كانت تساوي مئة درهم إلى سنة؟ وهل تجوز المماكسة عند وزن الدراهم في البيع الحاضر أم لا؟ فإن أعطى البائع بطيبة قلبه، فهل يجوز له أن يبيع ما قيمته خمسون درهمًا بمئةٍ إلى أجلٍ معلوم؟ وكيف يصنع بتجارته إذا جلبها؟ وكيف يدينها إلى أجل؟. فأجاب، فقال رحمه الله، ومن خطِّه نقلتُ: الحمد لله رب العالمين. متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأيّ طريق سلكوه إلى أن تحصل له الدراهم ويبقى في ذمته دراهم إلى أجل - فهي معاملة فاسدة، وذلك حقيقة الربا، فإن حقيقة الربا أن يبيعه ذهبًا بذهب إلى أجلٍ، أو فضةً بفضةٍ إلى أجلٍ، حرم الله الربا لما فيه من ضرر المحاويج، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (1).

_ (1) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. انظر صحيح البخاري (1) ومسلم (1907).

- التوسل إلى الحرام بكل طريق محرم

فمتى كان المقصود ما حرَّمه الله ورسوله، فالتوسل إليه بكلّ طريق محرَّمٌ، وإنما يُباح للإنسان أن يتوسل إلى ما أباحه الله ورسوله منَّ اَلبيع المقصود والتجارة المقصودة، فإن الله أحلّ البيع وحرَّم الربا، وقال: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (1). فالتاجر الذي يشتري السلعة ليبيعَها، ويربحَ فيها إمّا بنقلها من موضع إلى موضع، أو حَبْسِها من وقتٍ إلى وقت، فهذا يقصد السّلعة التي يربح فيها، لا يقصد أن يبيعَها بأقلّ من ثمنها ولا بمثل ثمنها. والبيع مثل أن يكون قصْدُه السلعةَ لينتفع بها، إما بأكلٍ أو شرب أو لُبْسٍ أو ركوبٍ، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع التي أباحها الله بالأموال. فإذا لم يكن قصده أن ينتفع بالمال، ولا أن يبيعه ليربح فيه، وإنما مقصودُه أن يبيعه ويأخذ ثمنه، فهذا مقصودُه مقصود الربا، ومتى واطأه الآخر على ذلك كانَ مُرْبِيًا، سواء اتفقا على أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقلّ مما باعها، كما قالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة رضي الله عنها: يا أمَّ المؤمنين! إني بعتُ من زيد بن أرقم غلامًا إلى العطاء بثمان مئة درهم، ثمّ ابتعتُه منه بستّ مئة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريتِ، وبئس ما اشتريتِ، أَخبِري زيدًا أنه قد أبطلَ جهادَه مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ أن يتوب (2). وسئل ابن عباس عمّن باع حريرةً ثم ابتاعها بأقلّ، فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.

_ (1) سورة النساء: 29. (2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 330،331).

وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال: هذا ممّا حرَّم الله ورسوله. وقال ابن عباس: إذا استقمت بنقدٍ ثمّ بعتَ بنقدٍ فلا بأس به، وإذا استقمتَ بنقدٍ ثمّ بعتَ بنسيئةٍ فتلك دراهم بدراهم. و"استقمت" بلغة أهل مكة بمعنى قوّمت. وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من باع بيعتينِ في بيعةٍ فله أوكسُهما أو الربا". فمتى اتفقا على أن يبيعه السّلعة ثم يبتاعها، فقد باع بيعتين في بيعةٍ، فله أوكسهما، وهو الثمن الأقلّ، مثل أن يتفقا على أن يبيعه إلى أجلٍ بمئةٍ، ويبتاعها بثمانين، فتعود السلعة إلى ربّها بالبيع الثاني، ويعطي الطالب ثمانين، فليس له أن يطالبه إلاّ بالأوكس، وهو الثمانون. وكذلك لو كان ربُّ السلعة هو المحتاج، مثل أن يحتاج الجندي أو الفلاح أو نحو ذلك إلى القرض، فيقول: اشترِ فرسي أو ثوري بثمانين حالةً ثم بعنيه بمئةٍ مؤجلة، فليس له إلاّ الثمانون. والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له مالم يفسخاه، والشرط العرفي الذي جرت به العادة بمنزلة اللفظي، والمقاصد في العقود معتبرة، فإنما الأعمال بالنيات. وكذلك إذا اتفقا على أنه يشتري سلعةً من غيره بثمنٍ حالٍ، ثم يبيعه إياها إلى أجلٍ بأكثر من ذلك الثمن، ثم إن المشتري يعيدها إلى صاحب الحانوت، فهذه الحيلة الثلاثية، ومتى درى صاحب الحانوت بقصدهما كان شريكهما في الربا.

_ (1) أبو داود (3461) عن أبي هريرة.

وأما اشتراط الربح قبل أن يشتري البضاعة في مثل هذا، فلأن مقصودهما دراهم بدراهم إلى أجل. وأما إذا كان المشتري يشتري السلعة لينتفع بها أو يتّجر فيها، لا ليبيعها في الحال ويأخذ ثمنها، فهذا جائز، والربح عليه إن كان مضطرًا إليها يكون بالمعروف. فإذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير أو شرابٍ عنده أو لباسٍ، كان عليه أن يبيعهم إياه بقيمة المثل، فيربح الربح المعروف، وكذلك يربح على المسترسل الذي لا يماكسه، كما يربح على سائر الناس، فإن غبن المسترسل ربًا. وإذا تفرق المتبايعان عن تراضِ لزم، وكان على المشتري أن يوفيه جميع الثمن، ولا يحل له أن يمكسه شيئًا منه، بل لا يحل له أن يسأله أن يضع عنه شيئًا منه إذا كان غنيًا، فإن سؤال الغني لغيره حرام، وهذا يسأل غيره أن يسقط عنه حقّه. ولا يحلّ له أن يمكّن غلامَه أن يطلب منه شيئًا من الثمن، فإذا أعطاه البائع بطيب نفسه كان صدقةً عليه، والصدقة أوساخ الناس، فإن اختار أن يقبل أَوساخ الناس من غير حاجةٍ فقد رضي لنفسه بما لا يرضى به العاقل. وأما إذا باعها إلى أجلٍ معلومٍ لمن ينتفع بها أو يتجر فيها، فجائز؛ فإن باعها مزايدة لم ينضبط ذلك، وإن باعها مرابحةً كان الربح ما يتفقان عليه ويرضيان إذا لم يكن المشتري مضطرًّا، وإن كان مضطرًّا ربح عليه ما يربحه على غير المضطرّ. والله أعلم. آخرها، لله الحمد والمنّة، وصلواته على خير خلقه محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا. (علَّقها أحمد بن المحبّ من خطّ المجيب - رحمه الله - في ليلة حادي عشري رجب سنة 747).

(17) مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح

مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح، والفرق بين الجائحة في الثمر والزرع وغير ذلك أجاب عنها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني رحمة الله عليه

- يحط عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

بسم الله الرحمن الرحيم سأل أبو عبد الله سؤالاً صورته: ما تقول السادة العلماء - رضي الله عنهم أجمعين - في الرجل يستأجر أرضًا ليزرعها، أو يضمن بستانًا، فينقطع الماء عن الأرض والبستان، أما ماء المطر أو النهر فيفسد بعض الزرع والثمر، فهل يُحَطُّ عن المستأجر أو الضامن من الأجرة شيءٌ أم لا؟ وكذلك إذا استأجر طاحونًا يديرها الماء فينقطع، وكذلك إذا استأجر ظِئرًا للإرضاع، فينقص لبنها، وأمثال ذلك. وكذلك إذا أصاب الأرضَ الجرادُ أو الفار أو النار، فتَلِفَ الزرع أو الثمر، هل يوضع الجائحة فيضمن المؤجر ما تلف بالآفة السماوية. وما الفرق بين وضع الجوائح في الثمرة المشتركة والزرع في الأرض؟ بينوا لنا ذلك. وفي الرجل يضمن بستانًا بألفٍ مثلاً، وفيه عشرة أصناف من الفاكهة، فيتعطل بعض المنافع، ويرتفع سعر الباقي فيزيد على الألف. وكذلك الطاحونة إذا كانت عدة أحجارٍ، فيعطل البعض، وزاد السعر. وكذلك في الحانوت وغيره. أفتونا وابسطوا القول مثابين، رضي الله عنكم. أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية: الحمد لله رب العالمين. نعم يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة، وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره من العلماء. قال أحمد

- المسألة لها صورتان، وحكم كل منهما

ابن القاسم: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن رجل اكترى أرضًا فزرعها، وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت، قال: يحط عنه من الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. وهذه المسألة لها صورتان (1): أحدهما أن ينقطع الماء بالكلية، بحيث لا يمكن الانتفاع بها لشيء من الزرع، فهذا لا أعلم نزاعًا أن للمستأجر الفسخ هنا، وفيما إذا انهدمت الدار المستأجرة. لكن هل ينفسخ الإجارة بنفس الانقطاع؟ أو يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد: إحداهما أنه ينفسخ بمجرد انقطاع الماء. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وهو المنصوص عن أحمد، لأنه أمر أن يحطّ عن المستأجر بقدر انقطاع الماء، ولم يعلق ذلك باختياره، فأسقط الأجرة من حين انقطاع الماء. وهذا معنى الانفساخ. والثاني: يثبت له الفسخ، وهو المنصوص عن الشافعي في صورة انقطاع الماء، ونص في صورة الهدم على الانفساخ. فخرجت المسألتان على قولين. ومأخذ من قال: له الفسخ، أنه قال: المنفعة لم تتعطل، بل يمكن الانتفاع بالأرض في غير الازدراع، فأما إذا قدّر أن المنفعة تعطلت بالكلية فلا نزاع بين الأئمة في انفساخ الإجارة. وهذا هو الصواب في المسألتين، لأن المنفعة المقصودة بالعقد إذا كانت هي الازدراع، لم يكن الانتفاع بها في غير ذلك

_ (1) انظر تفصيل القول في هذه المسألة في "مجموع الفتاوى" (30/ 266 وما بعدها).

- مذهب الجمهور أنه متى تعطلت المنفعة المقصودة بالعقد انفسخت الإجارة

مستحقا بالعقد، فوجوده كعدمه. والأئمة الأربعة وجمهور العلماء متفقون على أنه متى تعطلت المنفعة المقصودة بالعقد انفسخت الإجارة. مثل أن يستأجر ظئرًا، فيموت في أثناء المدة؛ أو يستأجر جمالاً أو حميرًا للركوب أو الحمل، فيموت قبل التمكن من استيفاء المنفعة؛ ونحو ذلك مما يتلف فيه العين المستأجرة، فإنه ينفسخ الإجارة عند الأئمة الأربعة. وقال أبو ثور: لا ينفسخ الإجارة إذا كان المستأجر قد تسلَّم العين المستأجرة، وإن تلفت عقب التسلُّم، لأن ذلك تلف بعد القبض، فأشبهَ ما لو تلف المبيع بعد القبض، فإنه يكون من ضمان المشتري، فكذلك إذا تلف الموجود بعد القبض كان من ضمان المستأجر، لاسيما من يقول: إنه لا يوضع الجوائح في الثمر المبيع بعد بُدُوّ صلاحه إذا تلف بعد قبض المشتري، فإن هذا قياس قوله، لأنه يقول هناك قد تلف بعد القبض، وإن كان المشتري لم يتمكن من الجداد والحصاد، كذلك المنافع هنا تلفت بعد القبض، وإن كان المستأجر لم يتمكن من استيفاء المنفعة بالبيع عند الأكثرين، كمالك والشافعي وأحمد في أقوى الروايات. ولولا قبضه لها لما جاز ذلك، وله أن يربح فيها عندهم، مع النهي عن الربح فيما لم يضمن، فدل ذلك على أنها من ضمانه. ومذهب الجمهور هو الصواب، لما روى مسلم في صحيحه (1) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو بعتَ من أخيك تمرًا، فأصابته جائحةٌ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بمَ تأخذ مالَ أخيك بغير حق؟ ".

_ (1) برقم (1554).

- حكم إجارة المستأجر لما استأجره

وفي رواية لمسلم (1): أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح. فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الثمرة التالفة من ضمان البائع، ونهى البائع أن يأخذ من المشتري شيئًا من الثمن، وبين أنه أكل مالاً بالباطل، مع أن الثمرة بعد بدو صلاحها عينٌ موجودة، فإنه قد يمكن الانتفاع بها ببعض الوجوه، فالمنافع التي لم توجد بعدُ ولا يمكن المستأجر من استيفاء شيء منها أولى وأحرى أن لا يكون من ضمانه، بل من ضمان المؤجر. ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي في الجديد يقولان: المنفعة تتلف من ضمان المؤجر، والثمرة من ضمان المشتري. فإذا كان النص قد ورد في الثمار بأنها من ضمان البائع، فلأن تكون المنافع من ضمان المؤجر أولى. وأيضًا فإن تلف المنافع قبل التمكن من استيفائها كتلف الأعيان المبيعة قبل التمكن من استيفائها، وإذا كان المبيع التالف قبل التمكن من قبضه من ضمان البائع، فكذلك المنافع التالفة قبل التمكن من استيفائها، ومعلومٌ أنه لم يتمكن من استيفائها، وطرد ذلك الثمرة بعد ظهور صلاحه وقبل كماله، فإن المشتري لما لم يتمكن من جدادها على الوجه المعروف كانت من ضمان البائع، فإن التمكن إنما يحصل عند إمكان الجداد على الوجه المعروف. فإن قيل: بل المستأجر قد قبض المنفعة قبضًا حكميا، فقبض العين بدليل جواز التصرف فيها بالإجارة، وبدليل أنه يجب عليه تسليم الأجرة. قيل: هذا فيه نزاع، فأما إجارة المستأجر لما استأجره فعن أحمد

_ (1) برقم (1554/ 17).

فيها أربع روايات (1): إحداها: لا يجوز بحالٍ، بناءً على هذا، إذ المنافع لو تلفت لتلفت من ضمان المؤجر. وكذلك عنه في بيع المشتري للثمرة المشتراة قبل الجداد روايتان، والنزاع في ذلك معروف عن الصحابة ومن بعدهم. والثانية: يجوز بمثل الأجرة، ولا يجوز بزيادة إلاّ إذا جدّد فيها عمارة، فإن فعل تصدَّق بالزيادة. وهذا قول أبي حنيفة وطائفة. والثالثة: لا يجوز إلاّ بإذن المؤجر. والرابعة: يجوز مطلقًا، كقول الشافعي وكثير من العلماء. وكذلك يجوز على المشهور عنه للمشتري أن يبيع الثمرة قبل كمال صلاحها، وعلى هذا فنقول: وجد القبض للمبيع، ولم يوجد كمال القبض الذي يُوجِب أن يتلف من ضمان المشتري والمستأجر. والدليل على أنه لم يوجد القبض التام أن البائع عليه سَقْي الثمرة إلى كمال صلاحها، فلو تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع بلا نزاع. وإذا كان على البائع تمام التوفية عُلِم أنه لم يوجد كمال القبض. وكذلك المؤجر عليه عمارة ما شعث من العين المؤجرة، وما يحتاج إليه الآدمي والبهيمة من النفقة هو على المؤجر، والإنفاق على العين المؤجرة من تمام التسليم المستحق بالعقد. فعُلِم أنه لم يوجد كمال القبض، وإنما وجد التخلية التي لا يتمكن معها من كمال الاستيفاء.

_ (1) انظر: "المغني" (8/ 56).

وإنما جاز فيها التصرف بالبيع وغيره، لأن البائع قد فعل ما يمكنه من الإقباض، وكذلك في الإجارة قد فعل المؤجر غاية ما يمكنه، وانتقلت بهذا إلى ضمان المستأجر من بعض الوجوه، وهو أنه إذا تلفت المنفعة تحت يده تلفت من ضمانه، فلا يكون إذا ربح فيها قد ربح فيما لم يضمن، فالاعتبار في الضمان بتمكنه، إذا تمكن من استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، والمستأجر بعد تسليم العين قد تمكن من استيفائها شيئا فشيئًا، كما كان يتمكن المؤجر، فلو تركها تلفت من ضمانه، فإذا باعها باعها بعد قبض مثلها. وإن كان القبض التام الذي يوجب إذا تلفت بغير اختياره أن يكون من ضمان المؤجر لم يوجد. وهكذا الثمرة بعد بدو صلاحها إذا خُلِّي بينه وبينها كان متمكنًا من قبضها والانتفاع بها إن شاء، ولو قطعها لضمنها بالمسمى، لم يضمنها ضمان الغصب. ثم يقال: أما كونها مضمونة على البائع فهو ثابت بالنصّ، وأما جواز التصرف فيها ففيه نزاع، وحينئذِ فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا منع الحكم، فإن ما ثبت بالنصّ لا يجوز دفعه بغير نصِّ يعارضه، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجهٍ أنه قال: "من ابتاع طعامًا فلا يَبعْه حتى يستوفيه" (1). وثبت عنه أنه قال: "إن بعتَ من أخيك ثمرةً، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (2). فيجب العمل بالحديثين، فإن كان القبض

_ (1) أخرجه البخاري (2126،2133،2136) ومسلم (1526) من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (2132،2135) ومسلم (1525) من حديث ابن عباس نحوه. (2) سبق تخريجه قريبًا.

المبيح للتصرف هو كمال القبض الذي يرفع ضمان البائع لم يجز للمشتري بيع الثمرة؛ وإن أريد به أصل القبض فهو موجودٌ هنا، والسنة دلت على أن ضمان المشتري وجواز تصرفه لا يتلازمان، بل قد يكون مضمونًا عليه من بعض الوجوه مالا يجوز له بيعه، وقد يجوز أن يبيعَ ما يكون مضمونًا على البائع من بعض الوجوه. وهذا ظاهر مذهب أحمد، وهو الذي ذكره الخرقي وغيره، وإن كان من أصحابه من يقول بتلازمهما، كمذهب أبي حنيفة والشافعي. وذلك أنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن ابن عمر أنه قال: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من مال المبتاع". فإذا باعه حيوانًا، وتمكن المشتري من قبضه ولم يقبضه، كان من ضمان المشتري. وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه. وكذلك إذا اشترى صُبْرةَ طعام جزافًا، وتمكن من نقله، كان من ضمان المشتري في ظاهر مذهب أحمد، مع أنه لا يجوز له بيعه حتى ينقله، كما في الصحيح (2) عن ابن عمر أنه قال: "لقد رأيت الناس في عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتاعون جزَافًا - يعني الطعام - فيضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم". وفي لفظ (3): "كنا في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبلَ أن نبيعَه". فابن عمر نقل هذا وهذا، وكلاهما مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، فالموجب

_ (1) ذكره البخاري تعليقًا في كتاب البيوع: باب 57، ووصله الدارقطني في "سننه" (3/ 54). وانظر "فتح الباري" (4/ 352). ولم يروه مسلم. (2) البخاري (2137). (3) لمسلم (1527).

- ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

للضمان تمكُّن المشتري من القبض المقصود بالعقد، سواءً قبض أو لم يقبض، فإذا لم يكمل الصلاح لم يتمكن من القبض المقصود بالعقد. وكذلك إذا تلفت العين المؤجرة، وإذا اشترى عبدًا وقدر على أخذِه، فقد تمكن من القبض المقصود بالعقد، وأما بيعه فيعتمد القبض الممكن، فإذا قبض الشجرة والعين المؤجرة فقد قبضها القبض الممكن، وإذا لم ينقل الصبرة لم يقبضها القبض الممكن. وهذا لأن ما أمكن فيه كمال القبض كالصبرة يمكن أن يوقف البيع على كمال القبض فيها، ومالم يمكن فيه ذلك كالثمر والمنفعة، فإنه قد جاز بيعها قبل وجودها للحاجة، فكذلك يجوز بيعها بعد القبض الممكن فيها للحاجة أيضًا، لأن الشارع يعتبر الشروط بحسب الإمكان. إلاّ ترى أنه فهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، إذ لا حاجة إلى بيعها في هذه الحال، وهو بيع غرر قد يُفضي إلى أكل المال بالباطل، وأما بعد بدو الصلاح فهم محتاجون إلى بيعها في هذه الحال، إذ تأخير البيع إلى كمال الصلاح متعذر، فإنه حينئذٍ قد تتلف وتفسد هي أو بعضها قبل أن تشترى. وما فيه من الخطر جبره الشارع بوضع الجائحة. وليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع، بل هذا قول طائفة من الفقهاء، وخالفهم آخرون، فهو مورد نزاع لم يدل عليه نصٌّ ولا قياس صحيح، بل الشارع منع من البيع حيث يكون فيه مفسدة ولا حاجة إليه، وأباحه حيث يحتاج إليه، وأزال ما فيه من المفسدة بما شرعه من الضمان. والطعام المنقول يمكن تأخير بيعه إلى حين نقلِه، بخلاف الثمر على الشجر والمنفعة في الإجارة، كما أن الثمرة يمكن تأخير بيعها إلى بدو صلاحها، بخلاف تأخيره بعد بدو الصلاح. ولهذا كان الصحيح

- حكم ما لو اكترى أرضا للزرع فزرعها، ثم أصابها غرق أو آفة

جواز بيع المقاثي، وأنه إذا بدا الصلاح في بعض ثمر البستان بيع ذلك النوع، بل بيع ذلك الجنس، بل بيع جميع الأجناس التي في البستان، إذا كان بيع بعض الأجناس دون بعض من البستان الواحد فيه ضرر، كما في تأخير بيع الثمر بعد بدو الصلاح. والبيع الذي يحتاج الناس إليه لم تحرمه الشارع، بل أوجب فيه وضع الجوائح، وإنما نهى عما لا يحتاج إليه. فصل ولو اكترى أرضًا للزرع فزرعَها، ثمَّ أصابَها غَرَق أو آفة من غير الشرب، فلم تُنبت، فالمنقول عن أحمد أنه يلزمه الكرى، بخلاف ما لو غرقت في وقت زرعها، فلم يمكنه الزراعة، فإنه لا يلزمه الأجرة، لتعذر التسليم، وهكذا نُقِل عن مالك. وقد فرَّق الأصحاب بين هذه الصورة وبين صورة انقطاع الماء بأنه هناك تعطلت المنفعة المستحقه بالعقد، وهنا تلف مال المستأجر، فأشبهَ مالو تلف ماله في الدار المؤجرة، فإن المؤجر لا يضمن ما تلف للمستأجر في العين المؤجرة، كما لو سرق ماله الذي على الدابة المكتراة. ولم أقف بعدُ على لفظِ أحمد في هذه المسألة، وقياسُ نصوصِه وأصوله بل وأصول غيره: أنه إذا أصابتِ العينَ آفة عَطَّلَتْ منفعَتَها انفسختِ الإجارة فيما بقي، كما إذا تعطلت بالانهدام وانقطاع الماء والموت، فإنه إذا أصابَ الأرضَ غرق تعذر معه نباتُ الأرض فقد تعطَّلَ نفعُها، وكذلك لو أصابها حريق أو ركبها جراد يمتنع معه نباتُ الزرع فقد تعطَل نفعُها، كما تعطّل بغير ذلك، ولكن لا يضمن المؤجر

- نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

الزرع التالف، ولا توضع الجائحة عن المستأجر فيما تَلِفَ من زرعه، كما توضع عن المشتري، لأن المؤجر لم يبعه الزرعَ، وإنما باعه منفعتَه. ونظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر، فإن المؤجر وإن لم يضمن متاعه فإنه لا أجرة له من حين تعطلت المنفعة، وكذلك لو تلفت الحمولة وما عليها بأمر سماوي، فإنه لا يضمن المؤجر ما عليها، ولكن تبطل الإجارة من حينئذٍ، فكذلك الأرض إذا أصابتها آفة سماوية أفسدتِ الزرعَ وعطلتِ المنفعة لم يكن على المؤجر ضمان الزرع، ولم تبطل الإجارة إذا تعطلت المنفعة، والمنفعة المقصودة ليست مجرد وضع البذر فيها، بل المقصود أن ينبت الزرع فيها ويكمل نباته إلى حين الحصاد، وإذا نبت وغرقت الأرض فهو كما إذا نبت وانقطع الماء، وهو في انقطاع الماء لا يضمن زرع المستأجر، كذلك في الغرق. وهذا بخلاف ما إذا باعه ثمرة على البائع سقيها، فإنه هنا إذا تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع، بل وكذلك إذا تلفت بغير العطش، لأن البائع باعه ثمرةً، فتلفُ الثمرة كتلف المنفعة. وأما تلف الزرع الثابت للمستأجر فهو كتلف متاع المستأجر الذي في الدار، فأين هذا من هذا؟ فمن قال: إن المؤجر لا يضمن الزرع فقد أصاب، ومن قال: إنه لا يجب على المستأجر أجرة المنفعة المتعطلة فقد أخطأ. ونظير هذا ضامن البستان إن كان اشترى ثمرةً، فإذا تلفت بالعطش فهي في ضمانه في مذهب الشافعي، كما هو في مذهب مالك وأحمد، وإن تلفت بآفة سماوية فهي مسألة وضع الجوائح. وأما إذا كان الضامن مستأجرًا ضمنها على أنه يخدمها ويسقيها، فهذا مستأجر متى تلفت

- حكم ما إذا نقصت المنفعة في الزرع

الثمرة بالعطش أو غيره فهو كتلف الزرع لا يضمنه المؤجر، لكن إن تعطلت المنفعة سقط من الأجرة بقدر ما تعطل منها. وذلك أن الثمرة قد تكون تساوي جملة، والزرع حصل بعمل المستأجر، وقد يساوي ذلك أكثر من الأجرة، فلا يجب على المؤجر إلاّ ضمان الأجرة فقط، فإذا تعطلت المنفعة بآفة سماوية سقطت الأجرة، وما تلف مع ذلك للمستأجر من ثمرٍ وزرع فهو من ضمانه، لا من ضمان المؤجر. هذا هو الواجب في هذا ونظائره، ومن تدبَّره وتدبَّر نظائره وأصولَ الشرع عَلِمَ أن هذا مما لا يُنازع فيه من فهمه، وإنما وقعت الشبهة حيث قد يظن الظان، أنه توضع الجوائح في الإجارة، كما توضع في البيع، بمعنى أن المؤجر يضمن ما تلف من زرع المستأجر، كما يضمن ما تلف من الثمرة المبيعة، وهذا خطأ. نعم لو باعه زرعًا، فتلف بآفةٍ سماوية، فإنه توضع الجائحة فيه في أحد الوجهين في مذهب أحمد ومالك، كما يوضع في الثمرة، وفي الآخر لا يوضع، قالوا: لأن الزرع إنما يباع بعد كمال صلاحه، فلا يحتاج إلى وضع الجائحة فيه. فصل. وأما إذا نقصت المنفعة، مثل نقص الماء المعتاد عن السماء وعن الأرض، بحيث ينتفع به نصف المنفعة المستحقة أو أقل أو أكثر، فكلام أحمد وأصوله تقتضي أنه يحطّ عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، فإنه قال: يُحطُّ عنه من الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. ولو تغيبت المنفعة أو كانت معيبة، فقياس مذهبه أن للمستأجر المطالبةَ بالأرش مع الإمساك، كما يقول ذلك في البيع وأولى، لاسيما وعنه في ممسك المصراة هل له المطالبة بالأرش

- نظير هذه المسألة في الإجارة

روايتان. ومن أصحابه من قال: ليس له الإمساك إلاّ بكل الأجرة، وضعف هذا على أصل أحمد ظاهر بين. وإنما الكلام إذا قلنا: إنه ليس للبائع إلاّ المطالبة بالأرش مع إمكان الرد. فنظير هذه المسألة في الإجارة أن تَظهر العينُ المؤجرةُ مَعِيبةً في استيفاء شيء من المنفعة، فهذه الصورة كالبيع، وأما إذا كان قد ازدرع الأرض، ثم عابت في أثناء المدة، ونَقَصتْ منفعتُها، فهنا لا عليه ردّ جميع المنفعة، بل غايته الفسخ في المستقبل. وإذا فسخ في المستقبل كان له إبقاء زرعه بأجرة المثل، ومعلوم أن إبقاءه بقسطه من الأجرة أولى. كما نقول: إذا تعطلت المنفعة في أثناء المدة أنه ينفسخ الإجارة فيما بقي من المدة، ويجب للماضي قسطه من الأجرة. هذا مذهب مالك وأحمد والشافعي، وجعل بعض أصحابه له قولاً بالانفساخ في الجميع، ووجوب أجرة المثل للماضي، كالهلاك الطارئ في بعض المبيع، ومعلوم أْن المستأجر إذا كان له زرع في الأرض لم يمكنه إذا فسخ ردّ المنفعة، بل له إبقاؤه بأجرة المثل، فإبقاؤه بقسطه من المسمى مع أنه يحطّ عنه قسط ما نقص من المنفعة أولى. فعيب المنفعة في الإجارة إن كانت قبل تسلُّم شيء من المنفعة فهذا كالبيع، وإن كانت بعد استيفاء شيء من المنفعة فلها صورتان: إحداهما: أن يتعذر ردُّ العين المؤجرة لما له فيها من الزرع ونحو ذلك. والثانية: أنه يمكن ردّ العين، كالدار المعيبة والطاحون والحانوت. فهنا يتوجه قول من يقول: ليس له إلاّ الفسخ، أو الإمساك بالأجرة كلها، إذا قلنا بمثل ذلك في البيع. ويتوجه أن يقال: بل هنا يُحَط عنه من الأجرة، وإن قلنا: ليس له في البيع أن يمسك بالأرش مع

إمكان الردّ، لأنه قد استوفى بعض المنفعة، وتلف بعضها، فهو كما لو اشترى أعيانا، فتلف بعضها قبل التمكن من القبض، فإنّه يُحط عنه من الثمن بقدر قسط التالف قبل التمكن من القبض، كما لو تلف بعض الثمرة في الجوائح، وكان أكثر من الثلث، فإنه يحطّ عنه من الثمن بقدر التالف بلا نزاع عند من يقول بوضع الجوائح، فتَلَفُ بعض المنفعة كتَلَفِ بعض الثمرة، ومعلومٌ أن انقطاعَ بعضِ الماء أو تعطُّلَ بعضِ الأرض ذَهابُ بعض المنفعةِ. (آخر ما كتب فيها، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. علَّقها لنفسه أحوج الخلق إلى رحمة الله محمد بن أبي شامة الحنبلي، عفا الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين). ***

(18) فصل في الطلاق وتقسيمه إلى سني وبدعي، وبيان أن الطلاق البدعي لا يقع

فصل في الطلاقِ، وتقسيمِه إلى سنّي وبدعيّ، وبيانِ أن الطلاقَ البدعيَّ لا يقع من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية مما كتبه في القلعة بدمشق في آخر عمره رحمة الله عليه

- الطلاق السني المباح

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. وقال شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، ونقلتُه من خطّه. فصل الطلاق منقسم إلى طلاقِ سنَّة مأذونٍ فيه، وطلاقِ بدعةٍ منهي عنه بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن تنازع الناسُ في الطلاقِ المحرَّم المنهيِّ عنه هل يَقعُ أم لا. واتفقوا على أنَّ الطلاقَ السنّي المباح أن يُطلِّقَ واحدةً في طُهر لم يُصِبْها فيه، وكذلك إذا طلَّقها حاملاً قد تبيَّنَ حملُها، فهذا وهذا جائز بالنصّ والإجماع، ولكن هل يُسمَّى طلاقُ الحاملِ طلاقَ سنةٍ، أو لا يُسمَّى سنّةً إلاّ طلاقُ من تحِيضُ؟ فيه قولانِ، وهو نزاع لفظي. والصغيرة التي لم تَحِضْ والآيسة ليس في حقهما طلاق بدعة من حيث الوقت. وأما العدد ففيه نزاعٌ مشهور، وأكثر السلف على أنه لا يَحِل له أن يُطلِّقَ إلاّ طلقةً واحدة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو ظاهر مذهب أحمد الذي رجع إليه - وهو اختيار أكثر أصحابه - بعدَ أن كان يُجوِّزُ الثلاثَ، كما هو قول الشافعي، وهو اختيار الخِرَقي، وقد بُسِطَ الكلامُ على هذه المسائل في مواضع (1).

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/ 8 وما بعدها،33/ 72 وما بعدها،33/ 81 وما بعدها).

- الطلاق المحرم لا يلزم

والذي تَبينَ دلالةُ الكتاب والسنة عليه وأصول الشرع أنَّ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم كما لا يَلْزَم سائِرُ العقود التي تَنقسم إلى حلال وحرام، كالنكاح الحرام والبيع الحرام، إذا كان التحريم لحقِّ الله، كالنكاحِ في العدّة وبيع الخمر ونحوِها من المحرَّمات، وأما إذا كان النهي لحق آدمي فلو رضي جاز، مثل بيعِ المَعِيْب المدلس، وبيع المصرَّاةِ، وتلقي الجلَب والاشتراء منهم، ونحو ذلك. فهنا أيضًا العقدَ غير لازم، لكن المظلوم يُخير بين الفسخ والإمضاء، فهو موقوفٌ على رِضاه، وقد أعطى النهيَ حقه، فإن المقصود إزالة المفسدة، وذلك يَحصُلُ بتمكينه من الفسخ، وإذا عَلِم أنه مظلومٌ ورضي بذلك جاز، كما لو رضي في ابتداء العقدِ مع علمِه بالعيب والتدليس، فإن هذا جائز بالنص والإجماع. وهذا هو الجواب في هذا الباب، فإن من الناس مَن جعلَ النهي الذي لحقِّ آدمي يَقتضي فسادَ العقدِ أيضًا، وقال أبو بكر عبد العزيز بذلك في المَعِيْب المدلس، فلما أُورِدَ عليه المصرَّاة سكتَ ولم يُجبْ. ولو أنهم قالوا: النهي يقتضي هنا مُوجبَه من فسادِ لزوم العقد، فإن العقد لا يقع لازمًا كلزوم العقود الصحيحة، بل للمظلوم الفسخ، لكان هذا عملاً بالنصوص كلِّها وبالإجماع، مع طَرْدِ القاعدة. وأما من زَعَم أن النهي هنا يقتضي بُطلانَ العقد بالكلية، فهو قول فاسد مخالفٌ للنصّ والأجماع، وهو قولُ من لم يَعرِفْ مقصودَ النهي، وهو إزالةُ الفساد بحسب الإمكان. وهو في مقابلة قول من يقول: إنّ النهي لا يقتضي الفساد أصلاً (1)، ويَحتجُّ بصُوَرٍ متنازعٍ فيها، كطلاق

_ (1) انظر لمعرفة مذاهب العلماء في هذا الباب: "تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد" للعلائي ص 299 وما بعدها.

الحائض، والصلاة في الدار المغصوبة، إذْ ليس معهم صورةٌ منهيٌّ عنها مع أنها صحيحة لازمة، لا بنص ولا بإجماعٍ، بل كل ما يُذْكَرُ في ذلك فهو من صُوَر النزاع، ولا نصَّ في شيء من ذلك على أنه صحيح لازم. ولهذا لم يكن هذا القول معروفًا عن أحدٍ من السلف والأئمة، كما لم يُعرَف ذلك عن أحدٍ من السلف والأئمة، وإنما قاله طائفة من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن تَبعَهم، وقال هؤلاء: إن فساد العبادات والعقود لا يتلقى من خطاب الشارع بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، وإنما يتَلَقَّى من خطاب الإخبار بقوله: إنّ هذا صحيح أو فاسد، أو جَعْلِه الشيءَ شرطًا ومانعًا وركنًا، فيفسد العبادة أو العقد، لفواتِ شرطِه أو رُكنِه أو لوجودِ مانعِه. وهذا كلامُ قومٍ ليسوا من أهل الاجتهاد والعلم بالأدلة الشرعية، وإنما يتكلمون في مقدّراتٍ مفروضةٍ في الأذهان، لا وجودَ لها في الأعيان، فإن هذا الذي زعموا أنه هو الذي يُستدلُّ به على صحةِ العقود والعباداتِ وفسادِها، لا يُوجَد في كلام الشارع، لا يوجد في كلامه أنه قال: هذا العقد أو العبادة تصحّ أو لا تصحّ، أو هذا ركن أو شرط أو مانع ونحو ذلك. وإنما هذه عبارات الفقهاء الذين فهموا ما فهموه من كلام الشارع، وعبَّروا عن ذلك بعباراتهم، ثمَّ قد يكون ما عبَّروا به عن كلام الشارع حقًّا بالإجماع، وقد يكون فيه نزاع. وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أهل الاجتهاد فإنهم يحتجون به على فساد العبادات والعقود بالنهي عنها، كما يُفسِدون نكاح الأمهات والأخوات وغيرهما من المحرمات. ولهذا لما أفتى ابن مسعود رجلاً في تزوج بنت امرأته التي لم يدخل بها، واعتقد أنها كالربيبة، ثمَّ قَدِمَ المدينةَ، فسأل عمر وغيره من

- دليل من يقول: الطلاق المحرم يقع

الصحابة، فقالوا له: الشرط في الربائب دون الأمهات. فرجعَ ابن مسعود، فأمرَ الذي كان أفتاه أن يفارقَ امرأتَه، لما علم أن هذا مما تناولته آية التحريم، وهو قوله: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) (1)، علم أن هذا العقد فاسد. وكذلك سائر الصحابة والعلماء متفقون على الاستدلال على فساد هذه العقود بالنهي، وهذا في العبادات أظهر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنّ الذين قالوا: إنّ الطلاق المحرَّم يقعُ، قد احتجّ بعضهم بقوله تعالى: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) (2). قالوا: والمراد لا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الولد، فدلّ ذلك على أنه طلّقها بعد أن أصابها، وإلاّ فلو طلَّقها في طهرٍ لم يصبها فيه لم يكن حاملاً، ولو طلّقها وقد استبان حملُها لم يمكنها كتمانُ الحمل. وهذه الحجة مما يعتمد عليها من يراها حجة قوية، وسنبيّن إن شاء الله أن هذه الآيةَ حجةٌ عليهم لا لهم، وممن ذكر ذلك أبو علي الجبَّائي في تفسيره، فقال بعد أن نَصرَ أنّ الأقراءَ هي الحيض: وقد دلَّت هذه الآية على أن الطلاق قد يَلزَم لغير السنة، وذلك أنّ المطلِّق للسنة هو من طلَّق امرأته وهي طاهر من غير جماع، أو طلَّقها بعد أن تبيَّن الحملُ بها، والمطلقة إذا كانت طاهرًا من غير جماع لا يجوز أن

_ (1) سورة النساء: 23. (2) سورة البقرة: 228.

- تفسير (ما خلق الله في أرحامهن) عند السلف

يظهر بها الحبل، فيحرم كتمانُه، والتي قد ظهر بها الحبل لا يجوز أن تكتمه وتبينه من نفسها بعد الطلاق، وإن يكتم ذلك زوجها الذي طلقها علمنا أن هذه المطلقة الكاتمة لحبلها كانت طلقت بعدما جُومعت في الطهر من غير أن يتبين بها حَبَلٌ. وإذا كانت كذلك لم تكن في وقت سنة، وقد لزمها الطلاق مع ذلك بنصّ القرآن. قال: وهذا يدلُّ على بطلانِ مذهب الرافضة في قولهم: إنّ الطلاق لا يلزم إلاّ للسنة. فإن قيل: قوله: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) قد يكون هو الحيض. قيل: إن الحيض لا يكون حيضًا وهو في الرحم، ولا يكون حيضًا حتى يخرج عن الرحم، وإذا خرج عن الرحم فليس هو في الأرحام. وإنما أمرهنّ الله أن لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، فليس يجوز أن يكون عنى بذلك إلاّ الحبل. قلت: فقد فسَّر الآية بأن المراد الحبل دون الحيض، وادعى أنه لا يجوز إرادة الحيض، لأنه إنما يكون حيضًا إذا كان ظاهرًا، دون ما إذا كان في الرحم. وهذه حجة ضعيفة، والسلف قد أطلقَ بعضُهم القولَ بأنه الولد، وأطلق بعضهم القولَ بأنه الحيض، وبعضُهم ذكر النوعين جميعًا (1)، وهو الصواب، فإن لفظَ الآية يَعمُّ هذا وهذا، ومن أطلق القول بأحدهما فقد يكون مرادُه التمثيلَ لا الحصرَ، فإن مثل هذا كثير فاشٍ في كلام السلف. يذكرون في تفسير الآية ما يمثلون به المراد من ذِكر بعض الأنواع، لا يقصدون تخصيصَها بذلك. كما يقول المترجم إذا ترجمَ بعض الألفاظ وعينَ مسماها، فإذا قال له

_ (1) انظر: "زاد المسير" (1/ 261) والقرطبي (3/ 218).

الأعجمي: ما الخبزُ؟ أخذَ الرغيف وقال: هذا. وهذا باب واسع لبسطِه موضع آخر (1). وأما الاحتجاج بقوله: (فِي أَرْحَامِهِنَّ) فيقال: هو سبحانه قال: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ)، فالظرف متعلق بقوله (خَلَقَ)، فما خلق الله في رحمها لم يحل لها كتمانُه، وكتمانُه إخفاؤه عن غيرها، وذلك يتناول كتمانه بعدما يخرج من الرحم، مثل كتمان الولد إذا ولدتْه، وكتمان الدم إذا حاضت، فإنها إذا كتمت ذلك عن الزوج وغيره، ولم تُخبر بذلك، فقد كتمت ما خلق الله في رحمها، فإن هذا خلق في رحمها، وإن كان قد خرج من الرحم بعد ذلك، وهي منهية عن كتمانه مطلقًا، لم يخص النهي بوقت وجودِه في الرحم، لاسيّما وهو إذا فسَّره بالولد، فولدتْه وكتمتْه، لم يقل إنها ولدت، لئلا يظن أنّ عدتها انقضت، أو لتضيع نسبه، على أنه كان ذلك محرمًا، وكانت منهيةً عن ذلك. ولو قيل: الرجلُ يكتُم ما تحت ثيابه أو ما في منديله، كان كإمساكِه، وإن خلَع ثيابه حيثُ لا يُرى، وإن أخرج ما في المنديل حيثُ لا يُرى، فالظرف هنا متعلق بالفعل العامل فيه، كالاستقراء وكالخلق في الآية ليس معلَّقا بالكتمان، والمنهيُّ عنه الكتمان مطلقًا، وحيث نهي الإنسان عن الكتمان فإنه متناول لمثل هذا، كقوله: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (2)، وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) (3)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ

_ (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (13/ 333 وما بعدها). (2) سورة البقرة: 283. (3) سورة البقرة: 140.

- الآية حجة على نقيض ما ذكروه

فِي الْكِتَابِ) (1)، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سُئِل عن علمٍ يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" (2). فلو تكلم بالشهادة حيث لا ينتفع صاحبُها، ولم يُظهرها حيث ينتفع بأدائها، كان كاتمًا لها، وإن كان قد أخرجها من فمه. وكذلك كاتم العلم. والمرأةُ على كتمان الحيض أقدرُ منها على كتمان الولد، فإنها إذا كانت حاملاً انتفخَ بَطْنُها، وعَرفَ حملَها كثير من الناس، ثمَّ إذا ولدتْه فإنه يظهر أعظم مما يظهر دمها، فإن دمَها قد يَسِيْل ويَخْرجُ ولا يَعلم بذلك أحد، فتكون دلالةُ الآية على النهي عن كتمان الحيض أقوى، وإن كانت قد تدل على الآخر. فصل وأما كون الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه فهو قولُ من قال: إن الطلاق إنما هو الطلاق الشرعي الذي أذن الله فيه وملكه للإنسان، وأما مالم يأذن فيه فإنه لم يملكه للإنسان، كما لم يملكه الطلاقَ بعد انقضاء العدة، ولا طلاقَ غيرِ المدخولِ بها إذا أبانَها بواحدةٍ، ثمّ أراد أن يطلّقها تَمام الثلاث، وكذلك البائن بالخلع عند أكثر السلف والخلف لم يُمَلّكْه طلاقَها، ولم يُملكه طلاقَ الأجنبية. وإذا كان الإنسان ليس له طلاق إلاّ فيما يملك، ولا عتاق إلا فيما يملك، كما جاء في الحديث (3)،

_ (1) سورة البقرة: 159. (2) أخرجه أبو داود (3658) والترمذي (2649) وابن ماجه (261) وأحمد (2/ 263) من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة. وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم. وللحديث طرق أخرى وشواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. (3) أخرجه أحمد (2/ 185،189،190،207،215) وأبو داود (2190،2191، 2192، 3273) والترمذي (1181) والنسائي (7/ 288) وابن ماجه (2047، 2111) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو حديث حسن.

فطلاقه لواحدةٍ من هؤلاء طلاق باطل، إذ كان الله لم يملكه إياه. وكذلك طلاق الحائض والموطوءة التي تبيَّن حملُها لم يملكه الله طلاقَها، فإنه لم يأذن في ذلك ولم يُبحْه، بل نهى عنه، وما نهى عنه العبد من نكاح وطلاق وعتق وبيع فَإنه لم يملكه ذلك، فتصرفه فيه تصرُّف في غير ملكٍ، ولو سمّي ملكًا فهو محجور عليه فيه منهي عنه، وتصرُّفُ المحجورِ عليه فيما حُجِر عليه فيه لا يجوز، فتصرُّفُ من حَجرَ الله ورسولُه عليه أولى أن لا يصحَّ، لاسيما وهو سفيه حيث خالف أمرَ الله ورسوله، وفعلَ ما نهى عنه، وهم يسلمون أن الوكيل في الطلاق لا يملك إلاّ ما أذن له فيه، ولو طلق غير ذلك لم يقع، بل هو محجور عليه فيه، فما لم يأذن الله فيه وحجر على صاحبه فيه أولى أن لا يقع. والله تعالى قد نهاه عن الطلاق إلاّ في العدَّة، كما نهاه عن النكاح في العدة، ولو تزوج في العدة لم يصح بالاتفاق، فكذلك إذا طلق لغير العدة، فإن الذي حرَّم هذا حرَّم هذا، والحكم إنما استفيد من تحريمه، ليس في كلامه يصح أو لا يصح، أو يُشترط أو لا يشترط، بل الدلالة في كلامه على هذا من جنس الدلالة في كلامه على هذا. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان دلالة الآية على نقيض ما استدلوا عليه، فنقول: قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (1) إنما يتناول من كانت عدتها الأقراء، لا يتناول الحامل، فان الحامل لا تتربص ثلاثة قروء، بل عدتها كما قال تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (2). وإذا كانت المرأة حاملاً لم تتربص ثلاثة قروء، ولكن ربما ظنت أن

_ (1) سورة البقرة: 228. (2) سورة الطلاق: 4.

عدتها القروء، ثم يتبين أنها حامل، كما أنه ربما ظنت أن أجلها وضع الحمل، ثئمَ يتبين أنها حامل. وحينئذٍ فالنساء ثلاثة أقسام. أما المطلقة طلاقَ السنة التي طُلِّقتْ في طهر لم يُصِبها فيه فالظاهر من هذه أنها ليست حاملاً، والتي استبان حملها ظاهرُ أمرِها أنها حامل، والتي وطئها ولم يعلم أحَملتْ أم لا فهذه مشكوك فيها، لا تدري أعدتُها القروء أو وضع الحمل. والأولى طلاقُها جائز بالاتفاق، والثانية أيضًا طلاقُها جائز بالاتفاق، وهذه الثالثة لا يجوز طلاقُها، لأنه يحتمل أن تكون عدتُها القروء، ويحتمل أن تكون عدّتُها الحمل. والله إنما أباحَ الطلاقَ للعدَّة، وذلك إنما هو لمن علمت عدتها، وهي القروء أو الحمل، وهي المطلقة في الطهر قبل الجماع، أو المطلَّقة وقد استبانَ حملُها. وإذا كان كذلك فالآيةُ تضمنتْ أمر المطلقة بأن تتربص ثلاثة قروء، وهذا الأمر لا يكون إلاّ لمن طُلِّقتْ بعد الطهر وقبل الجماع، فأما من استبان حملُها فلا تُؤمَرُ بذلك. ومن شك هل هي حامل أم لا، لو كان طلاقُها جائزًا لم تُؤمر بذلك، بل يقال لها: انظري، فإن كنتِ حاملاً فعدَّتكِ الحملُ، وإن كنتِ حائلاً فعدَّتُكِ القروء. فلما كان الله تعالى أمرَ المطلَّقاتِ بتربُّص ثلاثة قروء، وأمرُه لم يتناولْ هذه المشكوك فيها، لم تدخلْ في الآية. فتبين بذلك بطلانُ قولهم إنّ الآية تناولَتْها. ثمَّ نقول: إذا كان في هذه الآية أمرُ كل مطلَّقةٍ بعد الدخول بتربُّصِ ثلاثةِ قروء، وإن كانت من أولات الأحمال فأجلُها وضع الحمل، وهذه لا تُؤمر عَقِبَ الطلاقِ لا بهذا ولا بهذا، عُلِمَ أنها ليست مطلقة، فدلَّ على أنه لا طلاقَ لها. ومما يُوضِّح هذا أن الآية أمرت المطلقاتِ بتربصِ ثلاثة قروء،

وذلك من حين الطلاقِ، فهي من حين الطلاق تتربَّصُ، وهذه لو كانت مطلَّقةً لم تُؤمر بتربُّص ثلاثة قروء من حين الطلاق، ولا هي من أولات الأحمال، فعُلِمَ أنها ليست مطلقة. ومما يُوضِّح ذلك أن قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) إمّا أن يقال: إنها عامة في كل مطلقة، ثمَّ استُثْنِيَتْ ذاتُ الحمل، كما قال ذلك طائفة؛ وإما أن يقال: بل هي مختصة بغير ذاتِ الحمل لم تتناولْ لغيرهن، فإنّ القرآن قد بَيَّن أن غير المدخولِ بها لا عِدَّةَ عليها بقوله: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) (1). ولهذا قال من قال: إن هذه الصورة مستثناة مخصوصة من هذا العموم. وقد يقال: الآية لم تَشمل غيرَ المدخولِ بها، فإنه قد قال في سياقها: () وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2)، وقبل الدخول ليس لها حق في المعاشرة. وقال أيضًا: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (3)، وهذا مختص بالمدخول بها، فغير المدخول بها يَرجِعُ إليه نصفُ مَهرِها الذي أعطاها، بقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) (4). ولأن قوله: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (5) يتناول الحيضَ والولدَ. ومن لم يدخل بها ليس له منها ولد.

_ (1) سورة الأحزاب: 49. (2) سورة البقرة: 228. (3) سورة البقرة: 229. (4) سورة البقرة: 237. (5) سورة البقرة: 228.

- الخلع ليس بطلاق

فإن قيل: قد يكون الضميرُ في آخرِها أخصَّ منه في أوَّلها، كما قالوا: إن قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) يَعُمُّ البائناتِ والرجعياتِ، وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ) يختصُّ بالرجعيات. وتنازعوا هل يقال: التخصيص في الضمير فقط أو التخصيص في أولها فقط؟ ليتطابق المضمر والمظهر، أو بالوقف؟ على ثلاثة أقوال، وهي أقوال معروفة (1). قيل: هذا على قول من يقول: إن المطلقاتِ فيهن بانتْ بعد الدخول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، ثمَّ رجعَ أحمد عن هذا، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي. فظاهر مذهبه أن الطلاق بعد الدخول لا يكون رجعيًا. وأما الثلاث فذاك هو الطلاق المحرَّم، وقد بينه بعد هذا بقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (2)، أي الطلاق المذكور في الآية، وهو الرجعي. وهذه الآية وأمثالُها مما يُستدلُّ به على أنّ الطلاق بعد الدخول لا يكون إلاّ رجعيًا، ولهذا يذكر اللهُ فيه الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهو مما يَدُلُّ على أنّ الخلع ليس بطلاقٍ (3)، لأنه لا رجعةَ فيه، فإن الله سماه افتداءً، ولهذا كان لا رجعةَ فيه عند عامة العلماء، وهو في أحد القولين - وهو الثابت عن عثمان وابن عباس وغيرهما - أنها تُستبرأ منه بحيضةٍ، فلا تتربصُ ثلاثةَ قروء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول إسحاق وغيره وقول طائفة من السلف، وإذا كان فسخًا لم يكن له عدد. فهذه خصائص الطلاق المذكورة في الآية،

_ (1) انظر "الإحكام" للآمدي (2/ 336) وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 153) و"تيسير التحرير" (1/ 320) و"شرح الكوكب المنير" (3/ 390 - 391). (2) سورة البقرة: 229. (3) انظر "مجموع الفتاوى" (32/ 289 - 313،321 - 344،33/ 9 - 10).

وهي ثلاثة: تربصُ ثلاثة قروء، واستحقاق البعل الرجعةَ، وأنه مرَّتانِ، ثلاثتُها منفيةٌ في الخلع، لأنه افتداءٌ افتدتْ به المرأةُ نفسَها من زوجها كما يَفتدِي الأسيرُ، فقد اشترتْ ذلك وعاوضتْ عليه. وقد يُشبه بالإقالةِ أيضَا، ولهذا قال من قال: ينبغي أن لا يكون بزيادة على المسمى كالإقالة. وإذا قيل: هو فسخٌ، فهل يصحُّ مع الأجنبي؟ فيه وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد. أحدهما: لا يَصحُّ، فإنه حينئذٍ يكون كالإقالة، والإقالةُ لا تكون مع الأجنبي. وهذا قول أبي المعالي والرافعي، وقد ذكره أبو الخطاب وغيره من أصحاب أحمد. والثاني: يَصحُّ مع الأجنبي، وهو الصحيح المشهور عند أصحاب أحمد، وكذلك ذكره العراقيون من أصحاب الشافعي، كأبي إسحاق الشيرازي في "نكته"، وذلك لأنه كافتداء الأسير، ويجوز بَذْلُ الأجنبيِّ العوضَ في افتداء الأسير. وبسطُ هذا له موضع آخر (1). والمقصود هنا أن القرآن من تدبره تدبرَا تامَّا تبينَ له اشتمالُه على بيان الأحكام، وأنَّ فيه من العلم مالا يُدرِكه أكثرُ الناس، وأنِّه يُبيّن المشكلاتِ ويَفصِل النزاع بكمالِ دلالتِه وبيانِه إذا أُعطِيَ حقَّه، ولم تُحرَّفْ كَلِمُهُ عن مواضعه. فقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصٌّ في أنَّ المرادَ ذاتُ الأقراء. وقد تنازعَ الناسُ هل يعمُّ لفظُها لذواتِ الحمل والمتوفى عنها، ثمَّ قد خُصَّ منها ذلك؟ أو لا يَعُمُّ لفظُها لهؤلاءِ؟

_ (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (32/ 91 - 92،307).

على قولين (1). والأول قاله بعضُ أهلِ التفسير، كما ذكره مقاتل بن سليمان، وكما رُوِي عن الضحاك أيضًا، وهو شيخُ مقاتل. قالوا: إنّ اللهَ استثنى من هذه الآية من لم يُدخَلْ بها، واستثنى منها ذواتِ الحمل، واستثنى الصغيرة والكبيرة. فأما استثناءُ من لم يُدخل [بها] (2) فقد قاله غيرُ هؤلاء، ورواه أبو داود في سننه (3) عن ابن عباس، وتقدم القول فيه. وأما استثناءُ هؤلاءِ وإخراجُهن من الآية فقول ضعيف. والصواب أن الآية لم تشمل هؤلاء: أما الصغيرة والكبيرة فإنهن لا يحضن، وقوله (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) هي الحيض التي يكون فيها طُهر، فلابدّ أن يكون ذلك فيمن تحيض وتطهر، ويَمتنع أن يقال لمن لا قروءَ لها: تتربَّصُ ثلاثة قروء. فالآية لم تشمل أولئك. ولم يقل أحدٌ: إنه استُثنِيَ منها المتوفى عنها، فإنّ لفظ المطلقات لا يتناول من ماتَ عنها زوجُها. وأما أولاتُ الأحمال فنقول: لو شَمِلَها اللفظُ لكانت تحتاج أن تتربَّصَ ثلاثةَ قروء بعدَ وضع الحمل وانقضاءِ النفاس، فإن العادة الغالبة أن الحامل لا تَرَى دمًا، وقد تراهُ نادرًا، والفقهاء مختلفون هل هو حيض أم لا؟ ولو قيل: هو حيضٌ نزاع أنه لا تَقضي به العدة، ثمّ إنها ترى النفاس، ثمَّ تتربص ثلاثة قروء، فتبقى في العدة أكثر من

_ (1) انظر: "زاد المسير" (1/ 262) والقرطبي (3/ 112). (2) زيادة على الأصل. (3) برقم (2282).

سنة في الغالب، ومعلوم أن الله كما لم يرد ذلك بهذه الآية، فلم يدل لفظها على ذلك، لأنه قال: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)، والتربص الانتظار، فجعل مدة التربص ثلاثة قروء، كما قال: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) (1). والتربص في الموضعين من حين السبب، وهو الإيلاء أو الطلاق، فإنه لمّا قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) كان أمرًا لهن بالتربص من حين طلَّقهن، وإذا وجب عليها من حينِ الطلاق تربصُ ثلاثةِ قروء حينئذ امتنعَ أن يكون بين الطلاق وهذه القروء عدة أخرى كالحمل، والله تعالى أمر بطلاقها للعدة، فالعدة التي هي القروء، فستعقب الطلاقَ لا تتراخى عنه، ولأن قوله (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) عددٌ، فعُلِم أنها لا تتربص زيادة على ذلك. فهذا وغيرُه مما يُبيّن أنَّ لفظ الآية لم يَشمَل إلاّ المطلقة التي لها قروء عقبَ الطلاق، لم يتناول الصغيرة ولا الكبيرة ولا الحامل، كما لم يتناول المتوفى عنها، وإذا كان كذلك تبيَّن أنها أيضًا لم يتناول من لا تدري أتَعْتَدُّ بالقروء أو بوضع الحمل، فإن هذه ليست مأمورةً من حين الطلاق أن تتربَّصَ ثلاثةَ قروء، والآية قد دلَّت على أن المطلقاتِ المذكورات في الآية مأمورات أن تتربَّصَ كل واحدةٍ منهن ثلاثةَ قروءٍ عقبَ الطلاق، فلم تدخل في الآية الحاملُ، ولا من لا يُعرَف هل هي حاملٌ أو حائل، ولو كانت هذه مطلقة لوجب أن تشملَها الآية على تقدير، فيجب عليها إن لم تكن حاملاً أن تتربص من حين الطلاق ثلاثة قروء، فلما لم تَشْمَلها الآية عُلِمَ أنها ليست مطلقة. والمطلقات المذكورات هنا هُنَّ المطلقات المذكورات في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ

_ (1) سورة البقرة: 226.

- الجواب عما احتج به المخالفون

فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (1)، والطلاق للعدة لا تَدخُلُ فيه هذه، فإنها ليست مطلقة للعدة، فعُلِمَ أنها لا تكون مطلقة. وأما الجواب عمّا احتجوا به فيقال: الآية سواءً شَمِلَت الولدَ والحيضَ، أو قُدِّرَ أنها مختصّة بالولد، فلا يمتنع أن يطلّق للسنة وتكتم الحمل والولد، تارةً تكرهُ الزوج فتكتمه، لئلا يعلم به فيراجعها، وتارةً تكتمه لتطول العدةُ فتأخذُ النفقة، وقد تكتُمه لتَنفِيَه عن أبيه، وذلك أنه إذا طلَّقها وقد رأت الطهر، فقد تكون مع ذلك حاملاً، فإن الحاملَ قد ترى الدمَ باتفاق الناس، وهل يكون حيضًا؟ على قولين، والطُهرُ دليل ظاهرٌ على براءةِ الرحم وليس قاطعًا، فقد تكون حاملاً لاسيما في أوائل الحمل، وترى الدم [في] الطهر، فيطلِّقها يَظُنها حائلاً، وتكون حاملاً تكتُم ذلك. وقد يكون في ابتداء الخبر، فتُخبِر أنها حاضت وطهرت، ليطلَّقها، رغبةً منها في الطلاق وكراهة التزوج. وقوله (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (2) يقتضي تحريمَه في هذه الحال أيضًا، فإنه إذا حرم عليها الكتمان بعد الطلاق، فقبلَ الطلاقِ أولَى أن يحرم عليها الكتمانُ، لأنه حينئذٍ يحتاج أن يَعرِف هل هي طاهر فيُباحُ له الطلاق، أم لا؟ وهل هي حاملٌ لئلا يُطلقها، أم لا؟ فإذا كتمت الحملَ وزعمت أنها طاهر ليطلقها، كانت أولى بالإثم من أن تكتم ذلك في آخر العدة، فإن هذه قصدتْ أن تُوقِعَه في طلاقٍ محرم، وأن تُخرِجَ نفسَها من ملكِه بالحيلة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن المنتزعات والمختلعات هنّ المنافقات" (3)، وقال: "أيما امرأةٍ سألتْ

_ (1) سورة الطلاق:1. (2) سورة البقرة: 228. (3) أخرجه أحمد (2/ 414) والنسائي (6/ 168) والبيهقي (7/ 316) من حديث =

زوجَها الطلاقَ في غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنة" (1). فإذا كان هذا بسؤالها واختيارِه فكيفَ باحتيالها ومَكْرِها. وهذا مما يَدُلُّ على بطلان الطلاق، فإنّ الشارع حكيم ينبغي أن يعاقبها بنقيضِ قصدِها، فلا يَحصُل لها ما طلبته من المكر والخداع المحرَّم. فإذا كتمتِ الحملَ وقالت: إني طاهر، حتى طلَّقها، ولم تكن طاهرًا بل كانت موطوءةً، ولم يتبين حملُها فهذه لا يقع بها الطلاق، على هذا القول الذي نصرناه، وقد وقع مثلُ هذه القضية، وإذا تبين أنها قد تكتم الحبل بعد الطلاق وقبل الطلاق، مع أن المطلقة مأمورة بثلاثة قروء، تبيَّن أنَّ هذا القول هو المتضمن للعمل بالآية دُون ذاك. وقد ذكر بعض أهل التفسير (2) أنهن في الجاهلية كنّ يفعلن ذلك، فقال ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كانت المرأة إذا كانت راغبةً في زوجها قالت: أنا حُبلَى، وليست حبلى، لكي يُراجعَها. وإن كانت حُبلَى وهي كارهة قالت: لستُ بحبلى، لكي لا يَقدِرَ على مراجعتها، أو لكيلا يُراجعَها. فلمّا جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قولُه، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (3). ثم نزلت: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (4). قلت: وهذا يقتضي أنهم كانوا يُطلِّقون الموطوءة قبلَ نزول آية

_ = أبي هريرة. وله شواهد، راجع "السلسلة الصحيحة" (632). (1) أخرجه أحمد (5/ 277،283) وأبو داود (2226) والترمذي (1187) وابن ماجه (2055) من حديث ثوبان. (2) انظر تفسير القرطبي (3/ 118) و"الدر المنثور" (1/ 275 - 276). (3) سورة الطلاق:1. (4) سورة البقرة: 228.

الطلاق، وحينئذٍ فقد تقول: أنا حبلى، فيراجعها، وقد تقول: لستُ حبلى، فلا يُراجعُها. فلمَّا أنزل الله آيةَ الطلاق أمر بالطلاق للعدة أن تكون طاهرًا أو حاملاً قد تبين حملُها، وأنزلَ آية البقرة، فصارَ الطلاقُ وهي طاهر، والغالب أنها لا تكون حُبلَى، فما بقيت تتمكن مما كانت تتمكن منه في الجاهلية. وقد ذكر بعضُ أهلِ التفسير أنهم كانوا يُراجعون الحاملَ بعد الطلاقِ الثلاث، وأنّ الآية نزلت في ذلك، ففي "تفسير الخمس مئة" لمقاتل قال: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) يعني من الولد، (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) يعني أزواجهن أحقُّ بردّهن يعني برجعتهن في ذلك، يعني في الحمل. كان هذا في أول الإسلام، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما دامت في العدة، ثم نزلت: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) في الحبل بعدما طلَّقها ثلاثًا معلومة في كتاب الله ممكنة. وفسَّر الآياتِ إلى قوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يعني ما بُيِّن من الزوج والمرأة في الطلاق والرجعة (يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)). فمن طلق امرأته ثلاثًا وهي حُبلَى أو غير ذلك، فقد بانت منه، ولا تَحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيرَه. وفي تفسير عاصم بن سليمان الكُوزي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) يعني في الحامل، في أول الإسلام كان الرجل إذا طلق امرأتَه ثلاثًا وهي حاملٌ أو غيرُ حاملٍ، فهو أحقُّ برجعتها ما دامت حاملاً. ثمَّ نزلت في امرأةِ رجلٍ لم يعلم بحملها، فطلَّقها زوجُها، ولم تُخبِره المرأة بحملها. فذلك قوله: (إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) إذا تراجعا ما بينهما، ثمَّ نسخَتْ هذه الآية التي بعدها، فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) يقول: بحسن

- كان الطلاق في الجاهلية بغير عدد

الصحبة، إلى أن قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) التطليقة الثالثة (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حاملاً كانت أو غيرَ حاملٍ. قلتُ: أما كونُ الطلاق في الجاهلية وفي أول الإسلام كان بغير عددٍ، يُطلِّق الرجلُ المرأةَ ما شاءَ ثمَّ يراجعُها، فهذا مشهور معروف، قد ذكره عامة العلماء، ولا فرق في ذلك كان بين الحامل وغيرها. ولم يكن في الجاهلية عِدَّة ولا عدد للطلاق، وأنزلَ الله العدَّةَ أولاً، فكان الرجل المضارّ يُطلِّقها، حتى إذا لم يَبقَ من العدّة إلاّ قليلٌ راجعَها، ثمَّ يُطلِّقها، فتَستأنِفُ العدة، فيُمهِلها، حتى إذا بقي منها قليلٌ طلَّقها، ثمَّ كذلك يفعل، حتى يبقَى دائمًا يُطلّقها ثمَّ يراجعها، فأنزل الله الثلاثَ. وكان له أن يرتجعَها بعد الطلاق الثلاث إذا كانت في العدة، سواءً كانت العدة حملاً أو قروءًا، كما ذكر هؤلاء. ولم يكونوا إذ ذاك أُمِرُوا بالطلاقِ للعدة، فإنه إذا كان يملك أكثر من ثلاث أمكنَه تطويلُ العدَّةِ وإضرارُها وإنْ طلَّقها للعدَّة، ولكن لمّا قُصِروا على الثلاث أُمِروا أن لا يطلقوا إلاّ للعدة، لتكون العدة عَقِبَ الطلاق، فلا يقع ضررٌ أصلاً. وما ذكر من أن المرأة كانت تكتم الحمل تارة لبُغضِها للرجل، وتارة لئلاّ يُراجعها، وتقول: إني حبلى، وتكتم الحيض تارةً لحبّها له، ليمسكها، وأنّ رجلاً طلق امرأته ولم تُعلِمْه أنها حاملٌ، فهو يوافق ما ذكرناه من أنها قد تكتم الحمل حين الطلاق. وقولهم: "إن هذا في الحمل، وكان هذا في أول الإسلام"، فمعناه أنه في أول الإسلام لما كان الطلاق بغير عدد، ولم تكن هناك سنة وبدعة، كانت المرأة تتمكَّنُ من كتمان الحمل تارةً وكتمان الحيض، ودعوى الحمل تارةً، لهواها في الحالين. فلمّا صار الطلاق

ثلاثًا ما بقي يتمكن من المراجعة إلا في الطلقتين، وأُمِرَ أن لا يُطلِّقها حتى يعلم أنها حامل أو غير حامل، فإن كانت حاملاً كانت عدتها الحمل، وأَقْدَمَ على علمٍ فلا يندمُ، ولا تَغُرُّه وتكتُمه وتكذِبُ عليه. وإن ظهر أنها ليست حاملاً، لكونها في طهرٍ لم يصبها فيه، كان كذلك، وما بقي الكذب الذي يضرُّه يمكنها إلاّ في صُوَرٍ نادرةٍ، إذا طَهُرت ثمَّ تبيَّن أنها حامل، أو فيما إذا كتمتِ الحمل أولاً وقالت: إني طاهر، وهو مع ذلك وفي كلا الموضعين إنما يُمكنُها الخِداعُ على قول من يُوقع الطلاق. ومَن لا يُوقع إلاّ طلاقَ السنة يقول: إذا تبيَّن أنها كانت حاملاً ولم يعلم، لم يَقع الطلاقُ، فإنها لم تكن طاهرًا، ولا كان ذلك دَمَ حيضٍ. وأيضًا فقد يكون مرادُهم أنّ هذه الآية - آية القروء - نزلت قبلَ الأمر بالطلاق للعدة، فكانوا في تلك الحال لهم أن يطلقوا المرأة حائضًا وموطوءةً، وحينئذٍ فقد تكون حاملاً وتكتم الزوجَ ذلك، أو حائلاً وتكتم ذلك، فكان النهي عن الكتمان في تلك الحال عامًّا. ثمّ إنه بعد ذلك أمر بالطلاق للعدة، ونُهِيَ الرجلُ أن يُطلّق امرأة بمرة إلاّ إذا تبين حملُها، فزال هذا الفساد، كما قيل لهم: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا) (1)، لما كان الطلاق بلا عددٍ فأمر بالعدة أولاً، ثم قُصروا على الثلاث ثانيًا، ثمَّ أُمِروا بطلاق السنة ثالثًا. وهذا يُبين حقائق الأمور، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. ولهذا قال في سورة الطلاق (2): (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، فدلَّ على

_ (1) سورة البقرة: 231. (2) الآية 1.

- القول بأن طلاق البدعة لا يقع هو أرجح القولين

أنَّ العدَّةَ كانت مشروعةً قبلَ ذلك، وأنّ آية العدَّة نزلتْ قبلَ الأمر بطلاقِ السنة، وهذا يحقِّق ما ذُكِر، والحمد لله رب العالمين. وكذلك إذا كتمتِ الحملَ وقالت: إني طاهرٌ، فإنّه لا يقع الطلاق. فهذا كلُّه ما يُبيِّن أن القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين، وعليه يَدُلُّ الكتاب والسنة، وهو الموافقُ لمقاصدِ الشرع، وهو الذي يَسُدُّ بابَ الضِّرار والمخادعة والمكر، الذي أراده الله بأمْرِه بطلاق السنة، وبقَصرِه الطلاقَ على ثلاثٍ، وإلاّ فإذا قيل بوقوع طلاقِ البدعة كان الضرر الذي كان في الجاهلية من هذا الوجه باقيًا. فإذا قيل: إنّ الطلاقَ بعد الطهر لازمٌ أمكنَها حينئذٍ أن تكتمَ الحملَ إذا كانت زاهدةً في الرجل لئلا يرتجعها، وأن تكتمَ الحيضَ وتَدَّعي الحملَ إذا كانت راغبةً في الرجل ليرتجعها. وما ذكره بعض أهل التفسير من أن نهيَها عن كتمان ما خلق الله في رحمها كان في أوَّلِ الإسلام، إن قيل: أرادوا بذلك أنّ النهي كان في أول الإسلام قبلَ قَصْرِهم على الثلاث وأَمْرِهم بطلاق السنة، لأنَّ الحاملَ حينئذٍ كانَتْ تُطلَّق من غير أن يعلم أنها حامل، فاحتاجوا إلى ذلك. وأما بعد أن بيَّن الله أنها لا تُطلق حتى يعلم أنها حائل أو حامل، فلا حاجةَ إلى ذلك. فهذه حجة قوية على من احتج بالآية على وقوع طلاق البدعة كما تقدم. لكن الآية تُبيِّن أنهنَّ نُهِيْنَ عن الكتمان في الحال التي أُمِرَت بها المطلقة أن تتربَّص ثلاثة قروء، وقيل فيها: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (1)، وهذا هو آخر الأمر، فيكون النهي يشمل هذه الحال وغيرها بطريق الأولى كما تقدم، وإذا نُهِيْنَ عن

_ (1) سورة البقرة: 229.

الكتمان لم يدلّ ذلك على أنّ كتمانها ينفعها إذا علم بها، بل قد لا يعلم كتمانها، فتكتمه الحمل، فيطلِّق يَظُنُّها طاهرًا، ويستمرّ الأمر إلى أن تَضَعَ الحملَ، فربَّما غيبت الولد وكتمت الولادة. كما رُوي أن امرأة لعمر فعلتْ ذلك، وأنّ عمر عاقبها بمنعها من الأزواج. وربما مات الولدُ أو قتلته، وربّما كَرِهَ الزوجُ مراجعتها بعد ذلك. هذا مع العلم بأن طلاقها لا يقع، فكيف وأكثر الناس يَظنُّون أنّ طلاقَها يَقَعُ، فيكون كتمانُها مَضَرَّةً في هذه الحال. والزوج قد يعتقد أن طلاقَها يَقَعُ كما يَعتقده غالبُ الناس، فيتضرَّرُ حينئذٍ بمكرِها وكيدِها، فنَهْيُ اللهِ لها عن الكتمانِ فيه كمالُ المصالحِ للعالِم والجاهل في مسائل الإجماع والنزاع. ثمَّ من كان أَبْصَرَ وأخبرَ بحكمة الربِّ ورحمتِه ومحاسنِ الإسلام تبيَّنَ له أنّ الربَّ لم يجعل لها طريفا إلى أن تُضارّ الرجل، حتى تُوقِعَه في طلاقٍ أو تمنعَه من رجعةٍ، إلاّ إذا كان حكم الله ورسوله خَفِيًّا عليه، فيُؤتَى من عدمِ علمِه، لا مِن نقصٍ في حكمِ الله ورسوله. والله أعلم وأحكم، ولا حولَ ولا قوة إلاّ بالله. آخره، والحمد لله رب العالمين. (بلغَ مقابلةً بالأصلِ خطِّ المؤلف، ومنه نُقِل. والحمد لله رب العالمين). ***

(19) فتوى في طلاق السنة وطلاق البدعة

فتوى في طلاق السنة وطلاق البدعة

- ما هو طلاق السنة؟

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. سُئِل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه، ومن خطِّهِ نقلتُ: ما تقول السَّادة الفقهاء أئمةُ الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في طلاقِ السنة وطلاقِ البدعة ما هو؟ وهل طلاقُ البدعةِ حلالٌ أو حرام؟ وهل طلاقُ الثلاث بكلمة واحدةٍ من السنة أو البدعة؟ وهل هو حلالٌ أو حرامٌ؟ بيِّنُوا لنا هذه المسألةَ، رحمكم الله وهداكم. فأجاب رحمه الله: الحمد لله. طلاقُ السنة الذي أباحه الله ورسولُه أن يُطلق الرجلُ امرأتَه طَلْقةً واحدةً في طهرٍ لم يُصِبْها فيه، ثُمَّ يَدَعَها حتى تَقضِيَ العدةَ، فإن كان له فيها غَرَضٌ راجعَها في العدة، أو يراجعُها بعَقْدٍ جديد بعد انقضاء العدة، وإن لم يكن له فيها غرضٌ تركَها. فإذا فعل ذلك فقد طلَّق للسنة، وهذا الطلاق الذي أباحه الله بالكتاب والسنة والإجماع. فأما إذا طلَّقها في الحيض فإنه يكون عاصيًا لله مبتدعًا باتفاق الأئمة، وكذلك إذا طلقها بعد أن وَطِئَها قبلَ أن يستبينَ حملها، فإنه طلاق بدعة. وكذلك إذا طلَّقها ثلاثًا بكلمة واحدةٍ أو بكلماتٍ في طُهرٍ واحدٍ فإنه يكون عاصيًا لله مبتدعًا عند جماهير السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه، بل لو

- لم يثبت أن أحدا أوقع الطلاق الثلاث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -

طلَّقها واحدةً ثمَّ أَتْبَعَها بطَلْقتينِ قبلَ أن تنقضيَ العدةُ فانه يكون أيضًا مبتدعًا في مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه. والقرآن والسنة يدل على أن الله إنما أباح للرجل أن يطلق طلقةً واحدةً، فإذا راجعها ثمَّ أرادَ أن يُطلق الثانيةَ فله ذلك، وكذلك الثالثة، فإذا طلَّقها ثلاثًا كذلك لم يكن مبتدعًا. وإذا وَقَعَ به الطلاق الثلاث حَرُمَتْ عليه حتى تنكحَ زوجًا غيرَه. فإذا طلَّقها على الوجه المشروع لم يندم. وهو قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إلى قوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (1). فهذا إنما يكون لمن طلَّق أقل من ثلاث، فيمسك بمعروف، أو يفارق بمعروف، وفي مثل هذا يقال: "لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا"، وهو أن يبدو له فيراجعها. فأما إذا وقع الثلاث فأيُّ أمرٍ يَحدُث بعدَ الثلاثِ؟ وأيُّ رجاءٍ يكون بعدها؟ فلهذا قال جمهور السلف والخلف: إن جمعَ الثلاثِ بدعةٌ منهيٌّ عنها، والمطلِّق ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ مبتدعٌ عاصٍ. ولم يثبت أن أحدًا أوقعَ الطلاقَ الثلاث على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكلمة واحدةٍ، بل زوجُ فاطمةَ ابنةِ قيسٍ طلَّقها زوجُها آخرَ ثلاثِ تطليقاتٍ. والمُلاعِن كان باللعانِ قد ثبت حكمُ الفرقة بينه وبين

_ (1) سورة الطلاق: 1 - 3.

امرأتِه، فطلَّقَ ثلاثًا، ولو لم يُطلِّقها لكانتْ محرَّمةَ عليه. فالطلاقُ لم يُفِدْ شيئًا. فأما أن يكون المسلمون يُطلِّقون ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - كما يفعل الناسُ في زمانِنا - فهذا لم يَثبُت فيه حديثٌ صحيح، ولهذا كان الصحابة يذمُون من يُطلِّق ثلاثًا بكلمة واحدةِ، ويقولون: إنه عاصِ لله، والطلاقُ إذا وقعَ لم يرتفع بالكفارة بإجماع المسلمين، وإنما الكفارة في الأيمان، لا في إيقاع الطلاق. والله أعلم. (صورة خطه) كتبه أحمد بن تيمية. (بلغ مقابلةً بأصلِه، ومنه نُقِل). ***

(20) فصل في جمع الطلاق الثلاث

فصل في جمع الطلاق الثلاث

- جمع الطلاق الثلاث محرم عند جمهور السلف والخلف

بسم الله الرحمن الرحيم (قال شيخ الإسلام وبحر العلوم تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني - رحمه الله ورضي عنه -، ومن خطّه نقلتُ:). فصل جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في آخر الروايتين عنه، واختيار أكثر أصحابه. ثم هل يقع عند هؤلاء أو لا يقع، أو تقع واحدة، أو يُفرَّق بين المدخول بها وغيرِ المدخولِ بها، فيه نزاع (1). والنزاع بين السلف إنما هو هل تقع واحدة أو ثلثٌ. وأما القول بأنه لا يقع شيءٌ فإنما هو منقول عن بعض أهل البدع من أهل الكلام والرافضة. وقالت طائفة: بل هو مباح. والكلام في مقامين: أحدهما: أنه محرَّم، والدليل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، والاعتبار بالأصول المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فمن وجوهٍ: أحدها: أنه سبحانه قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/ 71 - 73،76 - 98،32/ 311 - 312).

- دلالته على التحريم من تسعة وجوه

لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) إلى قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (1). ومعلوم أن هذه السورة هي سورة الطلاق، وقد ذكر الله فيها من أحكام الطلاق والرجعة والعدد ونفقة الحامل والمرضع وغير ذلك مالم يذكره في موضع آخر، وهي تدل على تحريم جمع الثلاث من وجوه: أحدها: أنه قال (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) إلى قوله (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). ومعلوم أن هذا لا يكون في الطلاق الثلاث، فإن الثلاث لا إمساك بعدهن، وبعد الثلاث لا يُحدِث الله للزوج رجعةً بدون رضاها. ولهذا قال غير واحدٍ من الصحابة والتابعين والعلماء - كابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس - وفقهاء الحديث ومن وافقهم من العلماء: إن هذا في الرجعية.

_ (1) سورة الطلاق: 1 - 6.

الثاني: أن قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ) إذن في مطلق الطلاق، ليس إذنًا في كل طلاق. ومن ظنَّ أن هذا عام فقد غَلِطَ ولم يُفرِّق بين العامّ والمطلق، فإن قول القائل "كُلْ" و"بعْ" ونحو ذلك إذن في مطلق الأكل والبيع، لاْ يتعرض للعموم لا بنفي ولا إثباتٍ. ولهذا لم يكن تقييدُ هذا المطلق رفعًا لمدلول اللفظِ ولا نسخًا له، وإذا لم يكن فيه عمومٌ فهو لم يأذن إلاّ في الطلاق الذي وصفَه، وهو أن يطلّق للعدة وأن يُحصيَ العدة ويتقي الله، وأنه إذا بلغن أجلهن أمسكَ بمعروف أو فارقَ بمعروفٍ. وهذه الصفة إنما هي في الطلاق دونَ الثلاث، كما أنها إنما هي في الطلاق لاستقبال العدّة، فمن طلَّقها حائضا فلم يُطلِّق كما أمره الله تعالى. كذلك من لم يطلق الطلاق الموصوف بأن صاحبه لا يدري لعلَّ الله يُحدِث بعده أمرًا، وبأنه إذا بلغت المرأة أجلَها فإمًّا أن يُمسِك بمعروف أو يُسرِّح بمعروف، فلم يطلِّق الطلاقَ الذي أمر الله به. الثالث: أنه أمر بإحصاء العدَّة وأن يتقي الله، وأمر إذا بلغن أجلهن أن يُمسِك بمعروف أو يُسرِّح بمعروف، وهذا لا يُحتاج إليه في الثلاث، فإن الثلاث إنما يحتاج إلى إحصاء العدة لتَحِلَّ لغيره، لا لأجل إمساكِه وتسريحه. الرابع: أنه قال (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)، وهذا حكم المطلقة الرجعية، فإن زوجها أحق بها ما دامت في العدة، فليست كالزوجة من كل وجه، ولا كالبائن من كل وجه، بخلاف الزوجة فإن لها أن تخرج بإذن زوجها، والبائن لزوجها أن يُخرجَها بلا إذنها، فإنها لا تستحق عليه السكنى ولا النفقَة، إلاّ أن يختار هو أن يُحصِنَها، فله إلزامُها بالسكنى لحقه في

العدة. وقد دلَّ على ذلك سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحيحة في فاطمة بنت قيس حيث قال لها: "ليس لكِ سكنى ولا نفقة" (1). ولم يعارِضْ ذلك أحدٌ بمعارضةِ صحيحة، فإنّ القرآن لا يخالف ذلك بل يوافقه، فإنّ الله قال: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (2)، والضمير عائد على ما تقدم، وهي الرجعية. وما ذكره في الحامل والمرضع فبيّن فيه أن النفقة حينئذ لأجل الحمل، لا لأجل النكاح، ولهذا قال: (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، فهذا ذكره لغاية نفقة الحمل، وإلاّ فقد بين عدة الحامل بقوله (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (3)، وقوله بعد ذلك: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (4). وقد ثبت بالإجماع أن أجرة الرضاع نفقة الولد، وهي تجب للنسب لا للنكاح، فدل ذلك على أن نفقة الحامل لذلك. ولهذا كان أصح القولين أن نفقة الحامل تجب للحمل (5)، وحكمُها حكمُ نفقة الولد التي تجب على والده، وهذا مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والشافعي في أحد قولَيْه، ومن قال: إنها تجب للزوجة من أجل الحمل، فكلامه متناقض لا يُعقَل. الخامس: أنه قال (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1))، وهو كما قال غيرُ واحدِ من الصحابة، فأيّ أمرِ يحدث بعد الثلاث، فإن

_ (1) أخرجه مسلم (1480) من طرقٍ عن فاطمة. (2) سورة الطلاق: 6. (3) سورة الطلاق: 4. (4) الآية 6. (5) انظر "مجموع الفتاوى" (34/ 72 - 75، 105 - 106).

الله ذكر هذا ليبين أنه قد يَحدثُ بعدُ رغبةٌ في الزوجة ونَدَمٌ على الطلاق، فيكون له سبيل إلى رجعتها. السادس: أنه قال في سياق الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2))، وقد قال الصحابة لمن طلق ثلاثًا (1): لو اتقيتَ اللهَ لجعلَ لك فَرَجًا ومخرجًا، فعُلِمَ أن جامعَ الثلاثِ لم يتقِ الله. السابع: أنه قال (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، والإشهاد إنما يؤمَر به في حكم الطلاق الرجعي، وهو واجب على الرجعة في أحد القولين، ويُستحبّ في الآخر. الثامن: أنه قال (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي وصلن إلى آخر المدة، فإن الأجل هو آخر المدة، والعدة مجموعها، ولهذا قال تعالى في الآيسات: (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)، وقال: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، فجعل الأجل وضع الحمل، ولم يجعل ذلك عدة، لأن العدة ما يُعدُّ، وهي المدة التي تُعَدُّ. وأما الأجل فهو آخر المدة. ولهذا دلَّت هذه الآية على أن الحامل لا أجل لها إلاّ وضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها أو مدخولاً بها، ولهذا قال ابن مسعود (2): أشهد أن سورة النساء القُصْرَى نزلتْ بعد الطولَى، (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وقال سبحانه: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)، لأنه إنما يُخير بين الإمساك والتسريح عند آخر المدة، بخلاف أثنائها، فإنه لا

_ (1) هذا مروي عن ابن عباس، أخرجه أبو داود (2197). (2) كما في "صحيح البخاري" (4910). قال الحافظ في "الفتح" (8/ 655،656): مراد ابن مسعود إن كان هناك نسخ فالمتأخر هو الناسخ، وإلا فالتحقيق أن لا نسخ هناك، بل عموم آية البقرة مخصوص بآية الطلاق.

- الدليل الثاني من القرآن

يسرحها حينئذٍ، وهذا إنما يكون في الرجعية. التاسع: أنه خيَّره بين الإمساك والتسريح، وليس المراد بالتسريح هنا تطليقًا بائنًا باتفاقِ المسلمين، فإن ذلك لا يختص ببلوغِ الأجل، بل المراد به تخلية سبيلها، كما قال: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)) (1)، فأمر بتسريح المطلقة قبل المسيس، وتلك ليست رجعية، ولا يلحقها الطلاق الثاني، وإنما المراد تخلية سبيلها وإزالة يده عنها، فإنّ له يدًا على الرجعية، فإذا بانت لم يكن له عليها بُدٌّ. الموضع الثاني من كتاب الله قوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ

_ (1) سورة الأحزاب: 49.

- دلالته على مشروعية الطلاق الرجعي دون الثلاث من تسعة عشر وجها

أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)) (1). وهذه الآيات تدلُّ على أن المشروع هو الطلاق الرجعي دون الثلاث، من وجوه: الأول: أنه قال (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)، وهذا يدل على أن كلَّ مطلَّقة فإنها تتربَّص ثلاثة قروء، وأن بعلَها أحق بردّها في ذلك، فلو كان المطلِّق مخيَّرًا بين إيقاع واحدة وثلاثٍ لم تكن كل مطلَّقةٍ كذلك، بل كان هذا وصفَ بعضِ المطلقات. فإن قيل: فهذا يرد عليكم فيمن طلقت الطلقة الثالثة. قيل: قد بيّن ذلك بقوله فيما بعدُ (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، تبين أن هذا الطلاق هو مرتان فقط، والثالثة قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). وقبلَه قوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، فكان تمام الكلام يُبيّن المرادَ، ولم يكُ في ذلك خروج عن مدلولِ القرآن ومفهومه وظاهرِه، بخلاف ما إذا قيل: إن المطلق مخير بين الواحدة والثلاث. وأيضا فالآية عامة في كل مطلقة، والمطلقة طلقة ثالثة قد خصّها في تمام الكلام بقوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)، فيبقى ما سواها على ظاهر القرآن وعمومِه.

_ (1) سورة البقرة: 227 - 232.

الوجه الثاني: أن الله ذكر حكم الطلاق الذي أذنَ فيه وشرعَه، فإنه لما قال: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227))، وقال: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، وقال: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) ونحو ذلك، دَلَّ على أنه أَذِنَ في الطلاق وأباحَه في الجملة، وهو سبحانه لم يأذن في كل طلاق ولا أباحَه، بل الطلاق ينقسم إلى مباح ومحظور بالكتاب والسنة والإجماع. وإنما الكلام هنا في جمع الثلاث هل هو من المباح أو المحظور، فإذا قيل: إن الله بيَّن حكم الطلاق الذي أباحَه، ولم تكن الثلاث مباحة، كان القرآن على ظاهره وعمومِه؛ وإذا قيل: هو من المباح، والقرآن يعمُ الطلاقَ المأذونَ فيه والمحظورَ، كان ذلك مخالفًا لظاهر القرآن. الوجه الثالث: أنه قال (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ)، وهذا صفة الطلاق الرجعي، فدَلَّ ذلك على أن هذا هو الطلاق الموصوف في كتاب الله بقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ)، فالمطلّق ثلاثًا ابتداءً لا رجعةَ له، ومن لم يُوقع إلاّ طلاقًا لا رجعةَ فيه فقد خالفَ كتابَ الله. الوجه الرابع: أنه قال بعد ذلك (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، ثم قال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). وفي الحديث المرسل عن أبي رزين الأسدي الذي رواه الإمام أحمد وغيره (1) أنه قيل: يا رسولَ الله! فأين الطلقةُ الثالثة؟ قال: في قوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). وهذا معناه أنه جوّزَ إمساكها بعد الثانية، فعلم أنها تكون زوجة بعد الثانية، لا

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 278) وابن أبي حاتم (9/ 412) والبيهقي (7/ 340)، وانظر تفسير ابن كثير (1/ 279 - 280) و"الدر المنثور" (1/ 664).

تحرم بالثانية. ثم ذكر حكمه إذا أوقع الثالثة بقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). وقد فسَّر بعضهم (1) معناه بانَّ قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) هو الطلقة الثالثة، وهذا غلط من وجوهٍ كما قد ذُكِر في موضع آخر. ومعلومٌ أن هذا لا يتناول الثلاث المجموعة، فإنه ليس بعد وقوع الثلاثِ إمساكٌ بمعروف. الوجه الخامس: أن قوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) لفظ معرف باللام، فيعود إلى الطلاق المعهود، وهو الطلاق الذي تقدم ذكره في كتاب الله بقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ)، وهو الطلاق الرجعي، فدلَّ ذلك على أن الطلاق المشروع في كتاب الله هو الطلاق الرجعي الذي يقع مرةً بعد مرةٍ، وبعدهما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والثالثة قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا). الوجه السادس: أن قوله (مَرَّتَانِ) إمّا أن يُريد به مرةً بعد مرة، كما في قوله (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (2)، وكما في قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (3) الآية. ومعلومٌ أن الثلاث في الاستئذان لا تكون بكلمةٍ واحدةٍ، فلو قال: "سلامٌ عليكم، أأدخل ثلاثًا" لم يكن قد استأذنَ ثلاثًا. وكما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال في يومٍ مئة مرة سبحانَ الله وبحمده حُطَّت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر" (4)؛ وفي مثل قوله: "سبّح ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر ثلاثًا وثلاثين" (5)؛ وقوله: "كان إذا سلَّم

_ (1) انظر "زاد المسير" (1/ 263) والقرطبى (3/ 127 - 128). (2) سورة الملك: 4. (3) سورة النور: 58. (4) أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2691) عن أبي هريرة. (5) أخرجه مسلم (597) عن أبي هريرة.

سلَّم ثلاثًا" (1)، وأمثال ذلك مما يقتضي لفظُ العددِ فيه تكريرَ القول. لاسيَّما وهو لم يقل: "الطلاق طلقتان"، وإنما قال (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ). وإذا قال: "هي طالق ثلاثًا" قد يقال: إنه طلَّقها ثلاثًا، لكن لا يقال: طلَّقها ثلاث مرات، بل إنما طلَّقها مرةً واحدةً. وكذلك لو قال: "هي طالقٌ طلقتَينِ" إنما يقال: طلَّقها مرةً واحدةً، لا يقال: طلَّقها مرتين. وإمَّا (2) أن يريد به "طلقتان" سواء كان بكلمة أو كلمتين، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق ثلاث"، لم يقل: "الطلاق مرتان"، بخلاف ما إذا أريد الأول، فإن المراد الطلاق المذكور، وهو الطلاق الرجعي مرتان: مرةً بعد مرة؛ والثالثةُ الطلاقُ بعد الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وهو قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق طلقتان"، ولم يقل "الطلاق مرتان". وقوله تعالى (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) (3) هو على مقتضاه، أي مرةً ومرةً، وليس المرادُ إيتاءً واحدًا، بل إيتاء مرتين. الوجه السابع: أن الطلاق اسم مصدر طلَّقَ تطليقًا، ومعلومٌ أن التطليق فعلٌ يفعله المطلِّق بكلامه الذي يتكلم به، وهذا لا يُعقل أن يكون مرتين، إلاّ إذا قيل مرَّةً بعد مرّةٍ، فأما إذا طلَّقها بكلمة واحدةٍ فهذا لم يصدر منه الطلاقُ إلاّ مرةً واحدةً لا مرتين. وإن جاز أن يقال: إنه طلَّقها طلقتين، فلا يجوز أن يقال: إنه طلَّقها مرتين، ولا يُفهَم لفظ "طلَّقها مرتين" بدون تكرير التطليق. يدلُّ على ذلك أن قوله "الطلاق مرتان" يدلُّ على ما يدلُّ عليه

_ (1) أخرجه البخاري (94،95،6244) عن أنس. (2) عطف على قوله "إما أن يريد به مرة ... " في أول الوجه السادس. (3) سورة الأحزاب: 31.

قول القائل "طلَّقها مرتين"، ولو قال ذلك لم يفهم منه إلاّ أنه طلَّقها مرةً بعد مرةٍ، فكذلك قوله "الطلاق مرتان". وإذا قال القائل: "سبّح مرتين أو ثلاثًا" و"هلّل مرتين أو ثلاثًا" ونحو ذلك، فُهِمَ منه أنه قال ذلك مرةً بعد مرةٍ، وكذلك إذا قيل "كَلّمهُ مرتين أو ثلاث مرات". ومنه قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1)، وقوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) إلى قوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (2)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (3): "من قال في يومٍ مئةَ مرة سبحان الله وبحمده، حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، ومن قال في يومٍ مئةَ مرةٍ لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له مئةَ حسنة، وحطَّ عنه مئةَ سيئةٍ، وكانت له حرزًا من الشيطانِ يومَه ذلك حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاءَ به إلاّ رجلٌ قال مثلَما قال أو زاد عليه". وقوله في الحديث الصحيح (4): "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئةَ مرةٍ"، وقوله في الحديث الصحيح (5): "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". الوجه الثامن: أنه قال بعد قوله "الطلاق مرتان": (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، فأمره بعد الطلاق مرتين أن يمسك بمعروف

_ (1) سورة التوبة: 80. (2) سورة النور: 58. (3) سبق ذكر الحديث وتخريجه قريبًا. (4) مسلم (2702) عن الأعز المزني. (5) ضمن الحديث السابق.

أو يسرح بإحسان، وهذا لا يكون إلاّ فيما إذا أخر الطلقةَ الثالثةَ عن الطلقتين، لا إذا جمعَ الجميعَ. الوجه التاسع: أنه قال بعد ذلك (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)، ومعنى ذلك باتفاق المسلمين: فإن طلَّقها الذي طلَّقها مرتين فلا تحل له من بعدِ هذا الطلاق الثالث حتى تنكح زوجًا غيره، فإن طلَّقها هذا الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، أي ينكحها نكاحًا ثانيًا إن ظنَّا أن يقيما حدود الله، وحينئذٍ فالله تعالى إنما حرَّمها في القرآن بطلقة وقعتْ بعد الطلاقِ مرتين. الوجه العاشر: أنه قال (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، فقوله "وإذا طلقتم" عام في كل تطليق، فإنه نكرة في سياق الشرط، فأمر عند بلوغ الأجل بالإمساك أو التسريح، وهذا لا يكون مع جمع الثلاث، فعُلِم أن جمعَ الثلاث لم يدخل في ذلك. فلا يكونْ داخلا في مسمَّى التطليق، فلا يكون مشروعا، فإنه لو دخل في مسمَّاه لزِمَ مخالفةُ ظاهرِ القرآن وتخصيصُ عمومِه. فإن قيل: فهذا يرد عليكم في الثالثة إذا أوقعها بعد ثنتين. قيل: قد بين ذلك بقوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) إلى قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا)، فقد بين أن الطلاق الذي ذكر فيه الإمساك إنما هو مرتان فقط. الوجه الحادي عشر: أنه قال (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، ولم يقل "ثلاثًا"، مع العلم بأنه يملك أن يُطلقها ثلاث تطليقات في ثلاث مرات، فعُلِم أنه أراد أن يُبين أن الطلاق الذي هو أحقُ برجعتها فيه مرتان، ولو

قيل: أراد: الطلاقُ الرجعي طلقتان، لم يستقم ذلك إذا جمعَها، فإن الرجعي حينئذ يكون طلقة واحدة، وطلقة بعد طلقة، وطلقتان مجموعتان، بخلاف ما إذا قيل "مرتان"، فنه لا يكون إلاّ مرة بعد مرة. فن قيل: فإذا كان المراد أن الطلاق الرجعي مرتان عُلِمَ أن لنا طلاقًا رجعيًّا وطلاقًا غير رجعي، وذلك يتناول البائن والمحرّم، وهو الثلاث. قيل: لفظ الطلاق إمّا أن يَعُمَّ كل طلاقٍ أو يعود إلى الطلاق المتقدم، وهو المعهود، وعلى التقديرين فنه يقتضي أن كل طلاق إنما يكون مرة بعد مرةِ، ولا يكون إلاّ رجعيا، فمن أثبت طلاقًا بكلمة توجب البينونةَ فقد خالفَ دلالةَ القرآن، فضلاً عن طلاقٍ واحدٍ يوجب التحريمَ. الوجه الثاني عشر: أنه قال (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا)، وهذا لا يتأتى في جمع الثلاث. الوجه الثالث عشر: أنه قال (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً)، وقد رُوِي أن جمع الثلاث من اتخاذ آيات الله هزوا، كما رواه النسائي (1) من حديث ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه سمعتُ محمود بن لبيد قال: أُخبِر رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجلِ طلق امرأتَه ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: أَيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله! أفلا أقتله؟ الوجه الرابع عشر: أنه قال (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، وهذه النعمة تظهر فيما إذا وقع للعبد أن

_ (1) 6/ 142.

يطلقها مرةً بعد مرةٍ، وأن يراجعها بعدَ التطليق، فأما إذا حرَّمَها عليه في أول تطليق يُطلِّقه فهذه حرمت عليه في أول مرة، وتحريم الطيبات ليس من باب النعم، بل قد جعله عذابًا بقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1)، وقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (2). الوجه الخامس عشر: قوله (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، والوعظ هو الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ) (3) أي يؤمرون به، وقوله: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) (4) أي ينهاكم الله. فدلَّ عل أنه سبحانه أمرهم ونهاهم في الطلاق الذي ذكره، ولو كان قد أباح لهم الثلاث جميعًا لم يكن فيما ذكره من الطلاق أمر ولا نهي، فإنه بعد الثلاث لا إمساك ولا تسريح ولا وعظ، وفاعلُها إذا كان لم يُذنِب فلا يُوعَظُ قبل التطليق ولا بعده، والقرآن يدلُّ على أنه وعظهم فيما ذكره من الطلاق. الوجه السادس عشر: قوله (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، فإن هذا عامٌّ في الطلاق الذي ذكره الله في كتابه، وجَعله مرتين، فلو كان قد أذِنَ في جمع الثلاث لم تكن الآية على عمومها، بل كان هذا في بعض التطليق المذكور دون بعض، وهو خلافُ ظاهرِ القرآن وعمومِه. الوجه السابع عشر: أن القرآن خطاب للصحابة ابتداءً، ثم للأمة بعد الصحابة، ومعلومٌ أن الخطابَ بالطلاق الذي ذكر الله أحكامَه،

_ (1) سورة النساء: 160. (2) سورة الأنعام: 146. (3) سورة النساء: 66. (4) سورة النور: 17.

كقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً)، وقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) لا يتناول جمعَ الثلاث، وإنما يتناول من طلَّق مرةً بعد مرة، فدلَّ ذلك على أن هذا هو الطلاق المعروف عند المخاطَبين بالقرآن ابتداءً. ودلَّ ذلك على أن جمعَ الثلاث لم يكن من الطلاق الذي يعرفونه، إذ لو كان كذلك لكان يستثنيه ويُبيِّنه، وإلاّ كان القرآن قد أريد به خلافُ ظاهرِه وعمومِه بلا بيانٍ من الله ورسوله. الوجه الثامن عشر: أن يقال: معلومٌ أن ظاهر القرآن وعمومَه يَدُلُّ على أن الطلاق المشروع طلقة بعد طلقة، فإذا أريد خلافُ ظاهرِه فلابُدَّ من بيانٍ من الله أو رسولهِ لذلك. ومعلومٌ أنه ليس في القرآن آية تَدُلُّ على إباحة جمع الثلاث، ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدلُّ على ذلك، فإن حديث فاطمة بنت قيس إنما فيه أن زوجها طلَّقها آخر ثلاثِ تطليقاتٍ، وحديث الملاعنة لما طلَّقها ثلاثًا إنما فيه طلاق من لا سبيل له إلى المقام معها، وهذا كما لو طلَّق من حرمت عليه بغير الطلاق ثلاثًا، وطلاق هذه زيادة توكيدٍ في مفارقتها، بل هو لغوٌ لم يُوجبِ الفرقةَ التي يُوجبها الطلاق، بل وجوده كعدمه. والطلاق الثلاث حرمت عليه ليكون له سبيل إلى رجعتها، وهذا المعنى منتفٍ في حقّ هذه. ولو قُدِّر أنه فعلَ منكرًا، فالمنكر إذا بين الله ورسولُه أنه منكر لم يَجِبْ بيانُ ذلك في كل مجلس. وهذا جوابٌ ثانٍ عن حديث فاطمة بنت قيس، فليس معهم إلاّ مجرد سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو إذا بيَّن تحريم الشيء لم يكن سكوتُه عن إنكارِه كلَّ وقتٍ دليلاً على الجواز. الوجه التاسع عشر: أن الله حرَّمها عليه بعد الطلقة الثالثة حتى

تنكح زوجًا غيره، ولم يُبِح له أن يُطلَّقها رابعةً، وهذا عقوبة له، كما قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1)، وقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (2). فنها إذا حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره لم يكن قادرًا على تزوُّجِها ولو رضيتْ به، بل من الممكن أنها لا تتزوج بغيره، أو تتزوج بمن لا يُطلقها، ومن طبع الإنسان أنه يكره أن تتزوجَ امرأتُه بغيره. ولهذا حُرِّم على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنكح أزواجه من بعده، إكرامًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فدلَّ على أن تحريمَها حتى تنكح زوجًا غيرَه إهانة له، فإنه إذا كان منعُ غيرِه من التزوُّج بامرأته إكرامٌ، فاشتراطُ تزويج غيره في الحلّ وجَعْلُ ذلك واجبًا في عودِها إليه إهانةٌ له، والإهانةُ لا تكون إلاّ لمذنب. فإن قيل: فالله أباحَ الطلاقَ. قيل: لم يُبحْه مطلقًا، لكن أباحه بعددٍ محصورٍ، وأن تحرم عليه امرأته بعد الثالثَة، والأمرُ الذي لم يُبَحْ فيه إلاّ مقدارٌ معين وحرمت عليه بعد ذلك المقدار - لا يكون مباحًا مطلقًا، بل هو بمنزلة ما أُبِيح من الحرير، فإنه أُبِيحَ للنساء، وأُبيح منه عَرْضُ كف للرجال؛ وبمنزلة الهجرة والإحداد ومقام المهاجر بمكة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يَحل لرجلٍ أن يهجر أخاه فوقَ ثلاثٍ، يلتقيانِ فيصدّ هذا ويصدُّ هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام" (3). وقال: "لا يحل لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميّتٍ فوقَ ثلاثٍ" (4). وأذن للمهاجر أن

_ (1) سورة النساء: 160. (2) سورة الأنعام: 146. (3) أخرجه البخاري (6077،6237) ومسلم (2560) عن أبي أيوب الأنصاري. (4) أخرجه البخاري (5334،5335) ومسلم (1486،1487) عن زينب بنت أبي سلمة.

يقيم بمكة بعد قضاء نُسُكهِ ثلاثًا. فكان الأصل في هجرة المسلم والإحداد على غير الزوج ومُقام المهاجر بما هاجر عنه أن يكون منهيا، لكن رخّص في الثلاث منه للحاجة إلى ذلك. كذلك الطلاق، لما لم يُبح منه إلاّ الثلاث دلَّ على أن الأصل فيه الحظر، والمعنى أن الرجل خُير بين أن يطلقها فتحرم عليه، وبين أن لا يطلقها، ومعلوم أنه إذا أُبِيْحَ مجموعُ التطليق وتحريمها عليه لم يكن. الطلاقُ وحدَه مباحًا، فمن ظنَّ أن الطلاق مباح مطلقًاْ كما يُباحُ الأكل والشربُ فقد غَلِطَ، بل إذا اقتصر على ثلاث تطليقاتٍ وحرمتْ بعد الثالثة دلَّ على أنه أبيح منه قدر الحاجة، ومعلوم أن جمعَ الثلاث لا حاجةَ إليه، فلا يُباح (1). ...

_ (1) انتهى الكلام هنا في الأصل، ولعل المؤلف لم يكمله.

(21) فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث

فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث

- ليس فيها حديث ثابت يدل على وقوع الثلاث بكلمة واحدة

والأحاديث في هذا الباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ، بل فيها في الصحيح والسنن ما يدلُّ على أن الثلاث بكلمة واحدة لا تكون لازمة لكل من أوقعها. مثل الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وغيرهما (1) عن طاوس عن ابن عباس: أن الطلاق كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدةً، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أنّا أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم. وهذا الحديث بطرقه وألفاظه مذكورٌ في غير هذا الموضع، والذي رواه طاوس كان يفتي بموجبه كما قد ذُكِر في غير هذا الموضع (2). والمقصود هنا حديثُ ركانة (3)، فإنه قد احتج به غيرُ واحدٍ من أهل العلم على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، حيث قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أردتَ إلاّ واحدةً؟ قال: ما أردتُ إلاّ واحدةً. وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة (4). وحديث ركانة هذا قد ضعَّفه طائفة (5) كأحمد وأبي عبيد وابن حزم،

_ (1) أخرجه مسلم (1472) وأحمد (1/ 314) وأبو داود (2200) والنسائي (6/ 145). (2) انظر: "مجموع الفتاوى" (33/ 8). وقد أخرجه عن طاوس: عبد الرزاق في "مصنفه" (6/ 302) وابن أبي شيبة في "مصنّفه" (5/ 26). (3) أخرجه الدارمي (2277) وأبو داود (2208) والترمذي (1177) وابن ماجه (2051) من طريق علي بن يزيد بن ركانة عن جده. وأخرجه أبو داود (2206، 2207) أيضًا من طريق نافع بن عجير عن ركانة. (4) انظر: "الأم" (5/ 277). (5) قال الترمذي عقب روايته: "هذا حديث لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، وسألتُ =

- الأحاديث والآثار الواردة في الباب، والكلام عليها

مع أنه رواه ابن حبان في صحيحه (1). وقال الشافعي (2): عمّي ثقة، وعبد الله بن علي بن السائب ثقة. وأما نافع بن عُجَير فروى عن علي بن أبي طالب وعن ركانة، وروى له أبو داود والنسائي. وهذا الإسناد مع الإسناد الآخر (3) الذي رواه أيضًا أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم في صحيحه يُوجب حُسْنَ الحديث، فإنهما إسنادانِ ليس فيهما مُتَّهم، لكن رواته ليسوا معروفين بالعلم، ولا يُعرَفُ لقاء بعضهم بعضًا، كما سيأتي بيانه. وفي الجملة لو لم يُعارِضْه غيرُه لأمكنِ أن يقال هو حسن أو صحيح على طريقة بعضهم، وأما إذا عارضه ما هو أرجح منه فإنه يُقدَّم الراجح. وقد يُقال: إنه لم يُعارِضْه غيرُه. وطائفة أخرى عارضوه بأنه قد رُوِي فيه أنه طلَّقها ثلاثا. فأما إذا تدبرنا الروايات في هذا الباب وتتبعناها لم نجد بين الحديثين خلافًا، بل في حديث الثلاث دلالة صريحة على أن الثلاث لا تقع بكلمة واحدة، ونحن نذكر ذلك. قال أبو داود في السنن (4): باب في نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث. حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ

_ = محمدًا (يعني البخاري) عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب". وانظر بيان ضعفه واضطرابه في "إرواء الغليل" (7/ 140 - 143). (1) كما في "موارد الضمآن" (1321). (2) كما في "تهذيب التهذيب" (9/ 353). (3) أشرت إليه عند تخريج الحديث. (4) 2/ 259 رقم (2195)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 339).

مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأتَه فهو أحق برجعتها وإن طلَّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (2) الآية. قلتُ: هذا مروي عن عائشة وغيرِ واحدٍ من السلف (3). ثم ذكر أبو داود (4) حديث طاوس، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتَعلَمُ إنما كانت الثلاث تُجعَل واحدةً على عهدِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكرٍ وثلاثِ من إمارةِ عمر؟ قال ابن عباس: نعم. وكأنه - والله أعلم - ذكره أبو داود هنا لقولِ من قال: إن هذا الحديث منسوخ، وإنه كان هذا حكمه لمَّا كان الطلاق بغير طلاق. وهذا من جملة ما حُمِل عليه هذا الحديث، وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا. لكن من المعلوم أن ذلك المنسوخ لم يكن محصورًا بثلاثٍ، بل كان إذا طلقها أكثر من ثلاث راجعَها بغير اختيارها، وكان إذا طلقها ثلاثًا مفترقاتٍ، كلّ واحدةٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ جديدٍ، له أن يُراجعَها. وهذا هو المنسوخ بلا ريب، وأما كون الثلاث تُجعَل واحدةً فهذا حكمٌ غيرُ الحكم المنسوخ، إذ المنسوخ لم تُجعَل الثلاث فيه واحدةً، ولا كان الطلاقُ مقصورًا على ثلاثٍ، بل الثلاث والخمس والعشر والواحدة كانت فيه سواءً. ثم إن ذلك المنسوخ لم يُعمَل به لعدَ نسخِه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) سورة البقرة: 228. (2) سورة البقرة: 229. (3) انظر: تفسير الطبري (2/ 273،276) وابن كثير (1/ 279). (4) رقم (2200). وسبق تخريجه في أول الرسالة.

ولا أبي بكر ولا خلافةِ عمر، بل قد نزلَ القرآنُ بأنها بعدَ الثالثة تَحرُم عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وتواترت بذلك السنة، وشاع ذلك في المسلمين. ولم يكن هذا من جنس تحريم نكاح المتعة الذي خفي على بعضهم، فإن هذا لم ينزل نَسْخُه صريحًا في القرآن، ولا ظَهَرَ أمرُه كظهورِ الطلاق الثلاث، فإن طلاق الرجلِ المرأةَ الطلقةَ الثالثة بعد ثنتين ممّا تكرر وقوعه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخليفتَيه، مثل فاطمة بنت قيس لما أرسل إليها زوجها أبو حفص بن المغيرة بآخر ثلاث تطليقات، وكان قد ذهبَ مع علي إلى اليمن (1)، وكان هذا في آخرِ الأمر قريبًا من حجة الوداع. وكذلك امرأة رفاعة القُرظي تميمة بنت وهب، لما طلَّقها رفاعة، فأبتّ طلاقَها بالثلاث، ونكحتْ بعده عبد الرحمن بن الزَّبير، وجاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسألُه العودَ إلى رفاعةَ، فقال: "لا، حتى تذوقي عُسَيلتَه ويذوقَ عُسَيلتك" (2). وكلا القصتين مشهورة ثابتة في الصحيح والمساند والسنن من غيرِ وجه، وهذا بخلاف سِرّ المتعة. فلو كان أحدٌ يُمسِك امرأتَه بعد الطلقة الثالثة لكان ذلك مما يَظهر للمسلمين. وأما المتعة فلما حُرِّمت تركَها مَن علم التحريمَ، ومن لم يَعلَمْه فعلَها قليل منهم وهي تُفْعَل سِرًّا. ولم يَنْقُل أحدٌ أن أحدًا بعد النسخ أمسكَ امرأتَه بعد ثلاثِ تطليقاتٍ، كل طلقةٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ، ولا أنه طلَّق بغيرِ عددٍ، مع

_ (1) أخرجه مسلم (1480/ 41) وأحمد (6/ 414) وأبو داود (2290) والنسائي (6/ 62،210) من طرقٍ عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة به، وللحديث طرق أخرى في الصحيح والمسند والسنن. (2) أخرجه البخاري (2639 ومواضع أخرى) ومسلم (1433) وغير هما. وللحديث طرق كثيرة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد.

أن الآثار التي فيها أن الطلاق كان بغيرِ عددٍ آثارٌ قليلةٌ خفيةٌ لا يَعلمها جمهورُ الناس، ولم يَروِ أهلُ الصحيح منها شيئًا، وإنما رواها طائفةٌ من أهل السنن والتفسير والفقه. وأما الآثار بتحليل المتعة في أول الإسلام فهي مشهورة صحيحة معروفةٌ عند المسلمين، فكانت شبهة من اعتقد بقاءَ حِلِّ المتعة من هذه الجهة، ولهذا ذهبَ إلى ذلك طائفة من السلف من أصحاب ابن عباس وغيرهم، إذْ كان ابن عباس أفتى بها. وقد قيل: إنه رجع عنها، وقيل: إنه إنما أفتى بها عند الضرورة، حتى رَوى له علي بن أبي طالب نَهْيَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، كما أخرج ذلك أهلُ الصحيح وغيره (1). وأما جواز التطليق بغير عددٍ فلم يذهب إليه مسلم، بل هو مما يُعلَم فسادُه بالضرورة من دين الإسلام، فكيف يُقال: إنّ هذا كان بعد النسخ موجودًا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر؟. وأيضًا ففي الحديث أن عمر رضي الله عنه قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أَناة، فلو أنَّا أنفذناه عليهم، فأنفذَه عليهم. فدلَّ ذلك على أنه أنفذَ عليهم ما كانت لهم فيه أناة، فلو كان ما فعلوه هو المنسوخ المحرَّم لم تكن لهم أناة في شيء قد ظهرَ تحريمُه بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع، ولم يكن إنفاذُه عليهم مما يتعلق باجتهاد الأئمة. ثمَّ ذكر أبو داود في سننه حديثًا ثابتًا مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن جَمْعَ الثلاث بكلمة يكون واحدةً، كما في حديث أبي الصَّهباء.

_ (1) أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1407).

وذكر ما يُعارِضُه، فقال (1): حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، قال: أخبرني بعضُ بني أبي رافع مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلَّقَ عبدُ يزيدَ - أبو رُكانةَ وإخوتِه - أمَّ رُكانةَ، ونكحَ امرأةً من مُزَينةَ، فجاءت النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما يُغْنِي عَنّيْ إلاّ كما تُغني عني هذه الشعرةُ - لشَعرةٍ أخذتْها من رأسِها -، ففَرِّقْ بيني وبينه، فأخَذتِ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حميَّةٌ، فدعا بركانةَ وإخوتِه، ثم قال لجلسائه: "أتَرون فلانًا يُشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان منه كذا وكذا؟ ". قالوا: نعم، قَال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد يزيدَ: "طَلِّقْها"، ففَعلَ. [ثم] قال: "راجعْ امرأتَك أمَّ ركانَةَ وإخوتِه"، فقال: إني طلَّقتُها ثلاثًا يا رسولَ الله، قال: "قد علمتُ، راجعْها". وتَلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2). قال أبو داود: وحديثُ نافع بن عُجَير وعبد الله بن علي بن يزيد ابن ركانة عن أبيه عن جدّه: أن ركانةَ طلَّق امرأتَه، فردَّها إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - أصحُّ، لأنهم ولدُ الرجلِ، وأهلُه أعلمُ به (3)، إنّ رُكانةَ إنما طلَّق امرأتَه البتَّةَ، فجعلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدةً. ثم روى هذا الحديثَ أبو داودَ (4) من طريقِ الشافعي: حدثني عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله (5) بن علي بن السائب،

_ (1) برقم (2196). وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 390 - 391) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 339). (2) سورة الطلاق:1. (3) كذا في الأصل و"الإصابة" (2/ 432)؛ وفي السنن: "لأن ولد الرجل وأهله أعلم به". (4) برقم (2206). (5) في مطبوعة السنن: "عبيد الله"، وهو تصحيف، انظر "التقريب" (3509).

عن نافع بن عُجَير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة طلَّق امرأتَه. وفي لفظِ: عن ركانة بن عبد يزيد أنه طلَّق امرأتَه سُهَيْمةَ البتَّهَ، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وقال: واللهِ ما أردتُ إلاّ واحدةً، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والله ما أردتَ إلاّ واحدةً؟ " فقال ركانةُ: والله ما أردتُ إلاّ واحدةً، فردَّها إليه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فطلَّقها الثانيةَ في زمان عمر، والثالثةَ في زمان عثمان. ورواه أبو داود (1) أيضَا وابن ماجه (2) وأبو حاتم بن حِبّان في صحيحه (3) من حديث جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جدّه أنه طلَّق امرأتَه البتَّهَ، فأتى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما أردتَ"؟ قال: واحدة، قال: "آلله"؟ قال: آلله! قال: "هو على ما أردتَ". ورواه الترمذي (4): فقلت: يا رسولَ الله! إني طلَّقتُ امرأتي البتَّهَ، فقال: ما أردتَ بها؟ قلتُ: واحدة، قال: والله؟ قلت: والله! قال: فهو ما أردتَ. وقال: لا نَعرِفُه إلاّ من هذا الوجه. وقال ابن ماجه (5): سمعتُ أبا الحسن الطَّنافسي يقول: ما أشرفَ هذا الحديثَ! قال ابن ماجه: أبو عبيد تركَه ناحيةً، وأحمد جَبُنَ عنه.

_ (1) برقم (2208). (2) برقم (2051). (3) كما في "موارد الظمآن" (1321). وأخرجه أيضا الدارمي (2277) والترمذي (1177) والدارقطني (4/ 33) والحاكم (2/ 199 - 200) والبيهقي (7/ 339). (4) برقم (1177). (5) برقم (2051).

قال أبو داود (1): وهذا أصحُّ من حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، لأنهم أهلُ بيته، وهم أعلمُ به. وحديثُ ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس. قلتُ: فجعلَ أبو داود - رضي الله عنه - القصتينِ واحدةً، وهو كما قال: ويَرِدُ عليه أنه في حديث ابن جريج أنَّ ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، وليس هذا في حديث ابن جريج الذي رواهُ هو، وإنما فيه أن عبدَ يزيدَ - أبَا ركانةَ وإخوتِه - طَلَّقَ أمَّ ركانةَ، ونكحَ امرأةً من مُزَينةَ، وأنها اشتكت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكرتْ أنه عنّين، وأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّن كَذِبَها بأن أولادَها يُشبِهونَه، فدَلَّ على أنهم منه، وأنه ليس بعنّين. ثمَّ إنه أمر عبدَ يزيدَ أبا رُكانةَ أن يُطلِّق هذه المزنية المشتكية، وإنه أمرَه أن يُراجعَ أمَّ رُكانةَ التي طلَّقها ثلاثًا. هذا هو الذي في حديث ابن جريج، ليس في حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا. لكن قد يُقالُ: إن القصة واحدة، وإن هذا الراوي غَلِطَ في بعض ألفاظ القصة في المطلِّق والمطلَّقة، كما يقول من يقول: إنه غَلِط في عدد الطلاق. وقد يقال: من قال هذا لم يكن له أن يقول في حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق ثلاثًا، بل هذا يُبيِّن أن قائلَ ذلك لم يتأمَّل الحديثَ حقَّ التأمل، فإذا تأمَّلَهما عَلِأن المنقولَ في هذا الحديث قصة غير المنقول في الآخر، فلا المطلقُ المطلِّقَ، ولا المطلَّقةُ المطلَّقة، فإن المطلقةَ في هذا سُهَيْمةُ امرأةُ رُكانةَ، وهناك أمُّه؛ ولا لفظُ التطليق لفظَ التطليق. وفي هذا من تزويج عبد يزيد لامرأةٍ مُزَنيةٍ، ودعواها عنَّتَه، وتكذيب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشَبَهِ أولادِه له، مالا

_ (1) 2/ 263.

يمكن أن يكونَ في حديثِ رُكانةَ، فإن ركانةَ لم يكن له أولاد أدركوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَدُّون من الصحابة، وإنما المعدودُ من الصحابة هو وإخوتُه وأبوه، كما في حديث ابن جريج. لكن يُجَابُ عن هذا بأن عبدَ يزيد أبا ركانةَ لم يذكره في الصحابة الزُبيرُ بن بكّار ولا ابنُ عبد البر ولا غيرهما من المصنفين في الصحابة فيما علمنا (1)، بل قال الزبير بن بكار في كتاب "نسب قريش وأخبارها" (2): وولد هاشم بن المطلب بن عبد مناف: عبد يزيد، وأمُّه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف. فولد عبد يزيد بن هاشم: رُكانة وعُجَير وعُبَيد وعُمَير بني عبد يزيد، وأمُّهم العَجِلَة بنت العجلان ونسبها إلى كنانة. قال: وركانة بن عبد يزيد الذي صارِعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الإسلام، وكان أشدَّ الناس، فقال: يا محمد! إن صرَعْتَني آمنتُ بك، فصرَعه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أشهد أنك ساحر. ثمَّ أسلمَ بعدُ، وأَطْعَمَه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسين وَسَقًا بخيبر. ونَزلَ ركانة المدينةَ، وماتَ بها في أول خلافة معاوية (3). قال: وعُجَير بن عبد يزيد أطعمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثين وسقًا (4).

_ (1) ذكره الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" (1/ 360)، وعلَّم له علامة أبي داود، وقال: أبو ركانة طلق امرأته، وهذا لا يصح، والمعروف أن صاحب القصة ركانة. (2) لا يوجد في المطبوع منه، ونقله الحافظ في "الإصابة" (2/ 432). وانظر "نسب قريش" للمصعب ص 95 - 96. (3) انظر "نسب قريش" للمصعب (ص 96) و"الإصابة" (1/ 521). (4) انظر "نسب قريش" (ص 96) و"الإصابة" (2/ 466).

قال: وولد عُبيد بن عبد يزيد: السائب، أُسِرَ يَومَ بدرٍ، وكان يُشبِه بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1). فقد بيَّن أنَّ ركانة وابنَه كانا من الصحابة، بخلاف أبيه عبد يزيد. وأيضًا فلا يجوز أن يكون في الصحابة من يُسمَّى بهذا الاسم، فتبيَّنَ أن المطلِّقَ ركانةُ لا أبوهُ. وإذا قال القائل: ما في حديث ابن جريج من قصَّة عبد يزيد أبي ركانة لا يعارضه حديثُ ركانة بوجه من الوجوه، [و] لم يجز دفعُ أحدهما بالآخر، بل يبقى النظر في رواة هذا الحديث، وهم ثقات معروفون إلاّ بعض بني أبي رافع، فإنه يُحتاج إلى معرفتهم، فإنهم ليسوا من ولدِه لصلبه، إذْ ولدُه لصُلبِه عبد الله وعبيد الله كاتب علي رضي الله عنه، وهذان قديمان لا يرويان عن عكرمة، ولا يَروي عنهما ابن جريج. قيل: هذا الحديث قد رُوِي بإسنادٍ آخر معروفِ الرجال، وهو يُبيِّن أن القصة واحدة، رواه أحمد والبيهقي وغيرهما (2) من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، فجَعَل المطلِّق رُكانة. ورواه القاضي الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم من حديث يونس بن بكير، فقال في "كتاب الطلاق": ثنا محمد بن الحسين، ثنا ابن (3)، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ركانة طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) انظر "نسب قريش" (ص 96) والإصابة (2/ 11). (2) أخرجه أحمد (1/ 265) والبيهقي (7/ 339). وانظر "الفتح" (9/ 362). (3) بياض في الأصل، ولم أتمكن من تحديده، فالمصدر الذي نقل عنه مفقود.

فقال: يا رسولَ الله! طلقتُ امرأتي ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وإني قد وَجَدتُ عليها وَجْدًا شديدًا، فقال: "أتُريد أن ترتجعها"؟ قال: قلت نعم يا رسولَ الله، قال: "فإنما هي واحدة". وقد رواه البيهقي فقال في "السنن الكبير" (1): وقد رَوى محمد ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحدٍ، فحزن عليها حُزنًا شديدًا، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيفَ طلَّقها، قال: طلَّقتُها ثلاثًا، فقال: في مجلسٍ واحد؟ قال: نعم، قال: إنما تلك واحدة، فارجعْها إن شِئتَ، فراجعَها. وكان ابن عباس يَرى أنما الطلاق عند كل طُهْرٍ، فتلك السنّة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2). قال البيهقي: أخبرناه أبو بكر بن الحارث، ثنا أبو محمد بن حيان، ثنا سلم (3) بن عصام، ثنا عبيد الله (4) بن سعد، ثنا عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، فذكره. قال البيهقي: وهذا الإسناد لا تقوم به حجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس فُتْياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولادِ ركانة أن طلاق ركانة كانت واحدةً. قلتُ: أما المعارضة بفُتيا ابن عباس ففيها كلامٌ مذكور في موضع آخر (5). وأما حديث أولاد ركانة فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله،

_ (1) 7/ 339. (2) سورة الطلاق:1. (3) في البيهقي: "مسلم" وهو تصحيف، انظر: "ذكر أخبار أصبهان" (1/ 337). (4) في البيهقي: "عبد الله" وهو تصحيف. انظر: "التقريب" (4323). (5) وسيأتي الكلام عليها.

- حديث ابن عباس في الطلاق الثلاث، الذي رواه مسلم

لكن البيهقي ذكر في حديث أن المطلق ركانة، وهو الصواب. وقد رواه أحمد في المسند (1) من هذا الوجه فقال: ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلَّق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحدٍ، فحزِن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف طلَّقتَها؟ قال: طلَّقتُها ثلاثًا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: إنما تلك واحدة، فارجعْها إن شئتَ، قال: فرَجَعَها. فكان ابن عباس يرى أنّما الطلاق عند كل طُهر. وهذا الحديث خرَّجه أبو عبد الله المقدسي في صحيحه (2) الذي هو خير من صحيح الحاكم. فقد اتفق يونس بن بكير وإبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق على هذا الحديث، لكن قال أحدهما: إن المطلِّق ثلاثًا أبو ركانة، كما في حديث ابن جريج، وقال الآخر: إنه ركانة. فإن كان المطلق أبا ركانة فلا منافاةَ بينه وبين حديث ركانة في البتةِ، وإن كان المطلق ركانة فهذه الرواية من هذين الوجهين تُعارِض مَن روى أنه قال: لم أطلِّق إلاّ واحدة. ورواة هذا الحديث مشهورون بحمل العلم، بخلاف ذاك، لكن ذاك من روايةِ أهل بيتِه. ويَعضُد روايةَ من روى أن الطلاق كان ثلاثًا حديثُ ابن عباس الذي في صحيح مسلم (3) أن الثلاث كانت تجعل واحدةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر. فهذا يوافقُ رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس من وجهين عن عكرمة يصدق أحدهما صاحبه، فإن عكرمة عن

_ (1) 1/ 265. (2) يقصد به "الأحاديث المختارة"، طبعت منه بعض الأجزاء. (3) برقم (1472).

- بيان أن هذا الحديث عمل به رواته

ابن عباس أثبتُ من عبد الله بن علي بن [يزيد بن] (1) ركانة عن أبيه عن جدّه. وقد قال أحمد: حديث ركانة ليس بشيء (2). وابن إسحاق يُدخِله أبو حاتم وابن خزيمة وابن حزم في الصحيح. والبيهقي اعتقد أن القضية واحدة، كما اعتقدها أبو داود، ولكن ما رووه يخالف ذلك، فإما أن يكون الغلط فيما رووه، أو الغلط منهم في فهم ما رووه، ولا ريبَ أنهم صادقون فيما رووه رضي الله عنهم. وهذا الحديث عَمِلَ به رُواتُه، فكان ابن إسحاق يعمل به، ويقول: إن الثلاث بكلمة واحدةٍ واحدةٌ (3). وكذلك عكرمة راويهِ عن ابن عباس. ورُوِي ذلك عن ابن عباس أيضًا، كما قال أبو داود في سننه (4): وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا بفمٍ واحدٍ فهي واحدة. قال: وروى إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعلَه قولَ عكرمة. وذكر أبو داود (5) عن ابن عباس من ستة أوجهٍ أنه أوقع الثلاث بمن أوقعَها بكلمة واحدةٍ، من رواية مجاهد وسعيد بن جبير ومالك ابن الحويرث وعطاء وعمرو بن دينار ومحمد بن إياس بن البكير.

_ (1) زيادة على الأصل لتصحيح الاسم. (2) ذكر الخطابي في "معالم السنن" (3/ 122) وعنه المنذري في "مختصر السنن" (3/ 122،134) أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها. (3) حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم كما في "إغاثة اللهفان" (1/ 324)؛ والجصاص في "أحكام القرآن" (1/ 388). وانظر "مجموع الفتاوى" (33/ 8). (4) 2/ 260. (5) في الموضع المذكور قبل قول عكرمة.

وكان عطاء ونحوه يدخلون على ابن عباس مع العامة، وكان طاوس يدخل عليه مع الخاصة، وكذلك عكرمة مولاه كان من خاصَّته. فلهذا حَمَل من حَمَل قول ابن عباس على مثل فعل عمر، من أن هذا من العقوبات التي يجتهد فيها الأئمة، ليس شرعًا لازمًا، وهو عقوبة لمن لم يتقِ الله. ولهذا كان ابن عباس يقول لمن يُفتيه: لو اتقيتَ الله لجعلَ لك فرجًا ومخرجًا (1). وأبو داود (2) روى حديث حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحدٍ عن طاوس أن رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثيرَ السؤال لابن عباس قال: أما علمتَ أن الرجلَ كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبلَ أن يدخل بها جعلوها واحدةً، على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى! كان الرجل إذا طفَق امرأته ثلاثًا قبلَ أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسولِ الله وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى - يعني عمر - الناسَ قد تتايَعُوا فيها قال: أُجِيزُهن عليهم. ثم روى (3) من حديث ابن عُليَّة عن أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهدٍ قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، قال: فسكت حتى ظننتُ أنه رادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)) (4)، وإنك لم تتقِ الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتُك، وإن الله قال:

_ (1) أخرجه أبو داود (2197). (2) برقم (2199). (3) برقم (2197)، وهي قبل رواية حماد بن زيد لا بعدها. (4) سورة الطلاق: 2.

- من أجاز الثلاث من الصحابة

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) (1) في قُبُل عدتهن. قلت: لا يُقال مثل هذا الكلام إلاّ لمن علم أن جمعَ الثلاث محرَّمٌ، ثمَّ فَعَلَه عامدًا لفعل المحرَّم، فإنّ هذا لم يتق اللهَ بل تعدَّى حدودَه. أمَّا من لم يعلم أن ذلك محرم، ولا قامتْ [عليه] حجة بتحريم ذلك، ولو عَلِم أنه محرَّم لم يفعله، فن هذا لا يخرج عن التقوى بذلك، ولا يقال له: إنك لم تتقِ الله فلا أجد لك مخرجًا، ولا يقالُ له: عصيتَ ربك. ففي فُتيا ابن عباس هذه ونحوها إيقاعُ الثلاث بمثلِ هذا لمَّا تتايَعَ الناسُ فيما نُهُوا عنه، فأجازه عليهم عمر ومن رُوِي أنه وافقه، كعثمان (2) وعلي (3) وابن مسعود (4) وزيد بن ثابت (5) وابن عباس (6) وابن عمر (7) وأبي هريرة (8) وعبد الله بن عَمْرو (9) وغيرهم الذين أجازوا الثلاث على

_ (1) سورة الطلاق:1. (2) كما في "مصنف" عبد الرزاق (6/ 394) و"المحلى" (10/ 172). (3) أخرجه عنه عبد الرزاق (6/ 394) وابن أبي شيبة (5/ 22) والبيهقي في "الكبرى" (7/ 334 - 335) وابن حزم في "المحلى" (10/ 172). (4) أخرجه عنه عبد الرزاق (6/ 394 - 395) وابن أبي شيبة (5/ 22 - 23) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 58 - 59) والبيهقي (7/ 335) وابن حزم (10/ 172). (5) لم أجد ذلك مرويًا عنه في المصادر التي رجعت إليها. (6) أخرجه عنه مالك في "الموطأ" (2/ 570) وعبد الرزاق (6/ 396 - 397) وابن أبي شيبة (5/ 25) وأبو داود (2198) والطحاوي (3/ 57 - 58) والدارقطني (4/ 58 - 61) والبيهقي (7/ 335) وابن حزم (10/ 172). (7) رواه عنه عبد الرزاق (6/ 395) والدارقطني (4/ 45) والبيهقي (7/ 336). (8) أخرجه عنه أبو داود (2198) والطحاوي (3/ 57،58) والبيهقي (7/ 335). (9) أخرج ذلك عنه مالك في "الموطأ" (2/ 570) وأبو داود (2198) والطحاوي (3/ 58) والبيهقي (7/ 335).

الناس المتتايعين فيما نهوا عنه من ذلك، كما وافقوا عمر على أن حَدَّ في الخمر بثمانين لما كثر شُربُ الناس لها واستقلُّوا العقوبةَ بأربعين (1). وكان عمر رضي الله عنه أحيانًا ينفي في الخمر ويحلق الرأس فيُغلظ عقوبتها بحسب الحاجة، إذْ لم يكن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها حدّ مقدَّرٌ موقَّتُ القدر والصفة لا يُزاد عليه ولا يُنقَص منه، كما في حدِّ القذف، بل كان قدرُ العقوبة فيها وصفتها موكولةً إلى اجتهاد الأئمة بحسب الحاجة، فمن أدناها أربعون بالجريد والنّعالِ وأطرافِ الثياب، وهذا من أخفّ العقوباتِ قَدْرًا وصفةً، ثمَّ أربعون بالسياط، وهذا أعلى في الصفة دون القدر، ثم ثمانون بالسياط، وهذا أعلى منهما. وهل يُعاقَب فيها بالقتل بعد الثالثة أو الرابعة إذا لم ينتهوا إلاّ بذلك؟ فيه أحاديث ونزاعٌ ليس هذا موضعه (2). فحديث عبد يزيد أو ركانة مَرويٌّ من هذين الوجهين، وأقلُّ أحوالِه حينئذٍ أن يكون حسنًا، فإن الحسن عند الترمذي هو ما رُوِي من وجهين ولم يُعلَم في رُواتِه متَّهم بالكذب، ولم يُعارِضْه ما يَدُلُّ على غلطه، وهو من أحسنِ ما يحتج به الفقهاء. وقد يقال: هو صحيح، وابن. حبان وإن كان قد صحَّح حديث البتةِ فإنه يصحّح حديث ابن إسحاق هو وغيره كابن خزيمة وابن حَزم وغيرهما،

_ (1) انظر "المغني" (12/ 498 - 499). (2) أخرجه أحمد (4/ 95،96،100) وأبو داود (4482) والترمذي (1444) وابن ماجه (2573) والحاكم (4/ 372) عن معاوية. وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وقبيصة بن ذؤيب وعبد الله بن عمرو وجرير بن عبد الله والشريد وشرحبيل وأبي سعيد الخدري، كما في المصادر السابقة. وقد قيل: إنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك، بل هو محكم غير منسوخ كما حقق ذلك الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند" (9/ 49 - 92).

- حديث آخر في الثلاث مجتمعة (حديث محمود بن لبيد)

وابنُ حزم وغيرُه يُضعِّفون حديث البتّة كما ضعَّفه أحمد رحمه الله. وابن إسحاق إمام حافظ، لكن يُخاف أن يُدَلِّس ويخلط الأحاديث بعضَها ببعض، فإذا قال "حدثني" زالت الشبهة. وقد ذُكِر أن داود بن الحصين حدَّثه وعمل بما حدثه به. ولا يَسْترِيبُ أهلُ العلم بالحديث أن هذا الإسناد أرجحُ من إسناد البتة، هذا لو انفرد، وأما مع موافقته لحديث أبي الصهباء الذي في صحيح مسلم فإن ذلك ممّا يُؤكِّد الاحتجاج بذلك الحديث، ويردُّ على من عَلَّلَه بما لا يَقدح في صحته، كقولِ من قال: إن ابن عباس رُوِي عنه بخلافِه، فصارَ حديثُ عكرمة يُروَى عن ابن عباس من وجهين، وجهالة الراوي في أحدهما كجهالة أولاد ركانة، فإنهم لا يُعرَفون بعلمٍ ولا حفظٍ. والإسناد الآخر رجالُه من مشاهير أهل العلم والفقه والصدق. وحديث طاوس عن ابن عباس الذي لا ريب في صحته موافق، فصارت الأحاديث بأن الثلاث كانت واحدةً يُصدِّق بعضُها بعضًا، ولم يَروِ أحدٌ من أهلِ العلم حديثًا ثابتًا بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألزَمَ بثلاثٍ مُفَرَّقة. وقد جاءَ حديث ثالثٌ في. الثلاث مجتمعةً، رواه النسائي (1) فقال: أخبرنا سليمان بن داود، أبنا ابن وهب، أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعتُ محمودَ بن لبيد قال: أُخبِر رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاثَ تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: "أيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهرِكم"؟! حتى قام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله! أفلا أقَتلُه؟.

_ (1) 6/ 142.

- الكلام على الأحاديث التي احتج بها المجيزون للثلاث

ففي هذا الحديث أنه غَضِبَ على من طلَّق ثلاثًا بكلمة واحدةٍ، وجَعَل هذا لعبًا بكتاب الله، وأنكر أن يُفعَل هذا وهو بينهم، حتى استأذنه رجلٌ في قتله، ومع هذا فلم يُذكَر أنه فَرَّقَ بينَه وبينَ امرأتِه، وتأخيرُ البيان عن وقتِ الحاجة لا يجوز، ولا يقال: كان هذا معلومًا بينهم. فإن هذا يشتبه، وقد ثبت أنهم كانوا يجعلون الثلاث واحدةً، ونفسُ التحريم يشتبه على العلماء فضلاً عن العامَّة، حتى أن كثيرًا منهم يقولون: ليس هو بحرام. فإن قيل: المطلِّق كان يعتقد وقوعَ الطلاقِ بالثلاث. قيل: كما كان يعتقد إباحتَه. ولم يَنقُل أحدٌ بإسنادٍ ثابت أن أحدًا طلَّق امرأتَه ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وهي ممن يُباحُ له إمساكها، فأوقعَ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى طائفة من المصنفين في الحديث والفقه والخلاف أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أهل العلم بالحديث، فلا حاجةَ إلى ذكرِها، ولكن الذي يُظَنُّ أن فيه حجةً ثلاثةُ أحاديث: حديث فاطمة بنت قيس، ففي رواية غير واحدٍ أنها قالت: طلَّقني ثلاثًا (1)، وفي لفظ بعضهم: طلَّقني البتةَ (2). ولكنَّ هذا مجمل فسَّرَه ما ثبت في الصحيح (3) من رواية الزهري عن أبي سلمة وعبيد الله عنها أن زوجها أبا حفص بن المغيرة خَرج مع عليّ إلى اليمن، وأرسل إليها بتطليقةٍ كانت بقيتْ من طلاقِها.

_ (1) رواه عنها: عبد الرحمن بن عاصم (كما عند أحمد 6/ 414 والنسائي 6/ 207)؛ وعروة (كما عند مسلم برقم 1482 والنسائي 6/ 208)؛ والبهي (كما عند مسلم برقم 1480/ 51 وأحمد 6/ 412) وغيرهم. (2) رواه عنها: أبو سلمة بن عبد الرحمن (كما عند مالك في "الموطأ"، وأحمد 6/ 412 و 413 و 414 و 415 و 416، ومسلم برقم 1480/ 36 وغيرهم). (3) مسلم برقم (1480/ 40،41).

- حديث العجلاني

والثاني: حديث العجلاني (1)، قال أبو بكر بن أبي عاصم لما ذكر اختلافهم في طلاقِ العجلاني: قال مالك بن أنس في حديثه: فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال إبراهيم بن سعد: ففارقَها، وقال ابن إسحاق: هي طلاق البتة، وقال ابن أبي ذئب: ففارقَها، وقال الأوزاعي: ففارقَها، وقال عقيل: ثمَّ فارقَها. ولم يُنقَل عنه لفظ طلاق، بل قال: كذبتُ عليها إن أمسكتُها، ولكن الراوي عبَّر عن مفارقته إياها بهذه الألفاظ التي تَدُلُّ على أنه فارقَها فراقًا باتًّا قبلَ أن يُؤمَر بذلك، فإن كان الراويَ عبَّر عن مفارقتِه بقوله "طلَّقها ثلاثًا" - لأن مقصوده أنَّه حرَّمَها عليه - فليس فيه حجَّة؛ وإن كان هو تكلَّم بلفظ الطلاق بقوله "طلَّقها ثلاثًا" قد يُراد به مفرَّقَة، كقوله: هي طالق، هي طالق، هي طالق، كما في حديث فاطمة وغيرها أن زوجَها طلَّقها ثلاثًا، وكان المراد ثلاثًا مفرقات، فلا حجَّة فيه أيضًا؛ وإن قال: "هي طالق ثلاثًا" فلا حجة فيه أيضًا، كما سنذكره. والثالث: حديث امرأة رفاعة (2)، وهو أيضًا لفظٌ مُجْمَلٌ، فقد يكون الطلاق الثلاث وقَع مفرَّقًا، كما وقَع في حديث فاطمة بنت قيس. بل (3) وأما حديث البتة (4) إن صحَّ ففيه أنه أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) أخرجه البخاري (5308 ومواضع أخرى) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد الساعدي في قصة عويمر العجلاني. (2) أخرجه البخاري (2639،5260 ومواضع أخرى) ومسلم (1433) من حديث عائشة. وفي بعض طرقه أنه طلقها ثلاثًا، وفي بعضها أنه بت طلاقها، وفي بعضها أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أنها وقعت مفرقة. (3) كذا في الأصل. (4) يقصد حديث ركانة الذي سبق ذكرها.

وقال: ما أردتُ إلاّ واحدة، وأنه استحلفَه ما أردت إلاّ واحدةً. ومنطوقُ هذا لا حجةَ فيه، لأنه إذا لم يُرِدْ إلاّ واحدةً لم يَقَعْ به إلاّ واحدة. وفيه حجة على مسألة النزاع المشهورة بين الفقهاء. وأما مفهومه فمجملٌ، لو قال: أردتُ ثلاثًا حتى كان يغضب عليه ويُؤدّبه لفعلِه المحرَّم الذي نهى عنه، كما غضب على غيرِه، ويؤخر إذنَه له في الرجعة تأديبًا له، أو كان يُوقِعها به. وليس في الحديث بيان لأحدهما، والطريق الآخر الذي هو أصح فإنه أوقعَ ثلاثًا، ولا يجوز أن يثبت تحريمٌ عامٌّ يَلزَمُ الأمَّةَ بمسكوتٍ مجملٍ أو بحديثٍ مضعَّفٍ، قد عارضَه ما هو أصحُّ منه لا بيانَ فيه للوقوع، وإنما فيه الفرق بين أن يُرِيدَ الواحدةَ أو أكثر، والفرقُ ثابتٌ بدون إيقاع الثلاث. وقد روى مسلم في صحيحه (1) عن عائشة قالت: طلَّق رجلٌ امرأتَه ثلاثًا قبلَ أن يدخلَ بها، فأراد زوجُها الأول أن يتزوَّجها، فسُئِل رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: "لا، حتَّى يذوق الآخر من عُسَيْلتها ما ذاق الأول". وهذه هي قصة تميمة التي تزوجها رفاعة، وكان يدَّعي أنه وطئها. وتطليقُها ثلاثًا قد يكون مفرقةً، وقد يكون طلَّقها ثلاثًا بكلمة واحدةٍ، ولكن بانت بواحدةٍ إذا لم يكن دخل بها. فليس فيه دلالة على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ذلك ثلاثا. ...

_ (1) برقم (1433/ 115).

(22) فصل في الطلاق الثلاث

فصل في الطلاق الثلاث

- لا يوجد دليل شرعي يوجب إيقاع الثلاث بكلمة واحدة

أمكنني (1)، وبقيتُ على ذلك مدةً ... فلم أجد دليلاً شرعيا يُوجِب إيقاعَ الثلاث بكلمةٍ واحدة، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس. أما القرآن ... إلاّ على طلاق يستلزم الرجعة إذا كان بعد الدخول ... الثالثة، كما قال أحمد بن حنبل في آخر الروايتين: تدبرتُ القرآن فلم أجد فيه إلاّ طلاقًا رجعيا، ولا يدل قط إلاّ على طلقةِ واحدة ..... وقد ادعى طائفة من العلماء أنه يدلُّ على وقوع الثلاث، واحتجوا بأنه أمر بالطلقة الواحدة، كما في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) إلى قوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) (2). قالوا: فأمره الله بالطلاق ..... وليكون له سبيل إلى الرجعة بقوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1))، فلو كان لا يقع بالثلاث إلاّ واحدة أو ..... بحالٍ لم يحتج إلى ذلك، بل كان سواء طلَّق واحدةً أو ثلاثًا، فإن له أن يراجعهما. وهذا الدليل ذكره طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولا حجة فيه، لأن التعليل قد يكون للشرع الذي يتناول الأمر والنهي والصحة والفساد، وقد يكون لمجرد الأمر والنهي، أو لنفس المأمور به والمنهي عنه فقط، فعلى قولهم يكون تعليلاً

_ (1) هذه الرسالة سقطت منها بعض الأوراق من بدايتها، وفي أثنائها طمس في مواضع أشرتُ إليها بوضع النقط. ولم أجد نسخة أخرى تكمل النقص. (2) سورة الطلاق:1.

للمأمور به، أي طلقوا بواحدة ليكون لكم سبيل إلى الرجعة، ولا تطلقوا بثلاث فلا يكون لكم سبيل إلى الرجعة. وهذا إنما يصحّ أن لو كانت الثلاث تقع بكلمة واحدةٍ، فإن كانت الثلاث تقع هكذا صحَّ أنَّه تعليل للمأمور به، لكن لا يثبت أنه تعليل للمأمورِ به حتى يثبت أنه تَقع الثلاث المجموعة؛ فإذا استدلوا به عليه لم يلزم أنه تقع الثلاث المجموعة حتى يثبت أنه هذا تعليل للمأمور به، وهذا دَورٌ يَمنَعُ صحةَ الدلالة. وذلك أنه يجوز أن يكون هذا تعليلاً لنفس الأمر والشرع، والمعنى أن الله شرع لكم أن تُوقِعوا واحدةً وأمركم بذلك، ولم يشرعْ لكم أن توقعوا الثلاث مجموعةً، فإنه لو شَرع لكم ذلك أفضى (1) إلى الندم. ومعلوم أنه إذا لم يشرع إيقاع الثلاث بكلمة واحدةٍ، بل نهى عن ذلك، ولم يجعل الثلاث ..... في هذا أبلغ في عدم الندم، فإنه لو نهى عنه وأوقعوه إذا تكلموا به فقد يكون فيهم من يعصي النهي، وقد يكون فيهم من لا يَبلغُه، فيقع في الندم، فإذا لم يجعله مشروعًا بحال كان هذا أبلغ في انتفاء المفسدة. وأيضًا فإن القرآن إنما يُعلِّل شرعَ الله الذي شرعَه لعباده، والشرع المذكور إذا كان تحريمًا للزيادة وإبطالاً لها كان ذلك أبلغَ في تحصيل مقصودِ الشارع في الحكم وفي حكمته، بخلاف ما إذا كان تعليلاً لمجرد النهي. وهذا كما أنه لو نهى أن تُنكَح المرأةُ على عمتها وعلى خالتها، وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (2)، كان هذا

_ (1) كذا في الأصل. (2) أخرجه أحمد (1/ 372) وأبو داود (2067) والترمذي (1125) عن ابن عباس.

- تحقيق القول في أن النهي يوجب الفساد

تعليلاً للنهي والفساد المنهي عنه بحيث لا يحلُّ له الجمع، ولو جمعَ لكان العقد فاسدًا، لأنه لو وقع المنهيُّ عنه لَزِم الفسادُ، بل الفسادُ يَنْشَأُ من صحةِ المنهي عنه أكثر من فعله، فإنه إذا جمع ولم يصحَّ العقدُ كان الفسادُ أقلَّ منه إذا انعقد المنهي عنه وصحَّحه الشارع، فكذلك هاهنا الفساد إذا صحَّ المنهيُّ عنه أكثر منه إذا فعله ولم يصح. وهذا يُقرِّر أن النهي يُوجبُ فساد المنهي عنه، فإن الشارع إنما نهى عن الشيء لرجحان المفسدَة فيه على المصلحة، فإذا جعله صحيحًا بحيثُ يترتب عليه حكمه ويحصُل به مقصودُه لَزِمَ وقوعُ المفسدة، فأما إذا أبطلَه فلم يترتَّب عليه مقصود المنهي الذي ارتكبه انتفتِ المفسدةُ بالكلية. ولهذا إنما يُحكَم بالفساد فيما إذا أمكن أن لا يَحصُل به مقصوده، فأما الأفعال التي حصل المنهي عنها مقصوده بها فلا يقال إنها باطلة أو غير منعقدة، كالمنهي عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فإنه إذا فعل ذلك فقد فعل مقصوده من المنهي عنه، فلا يمكن إبطاله. وأما المنهي عن الصلاة بلا طهارة والطواف عريانًا فمقصوده براءة ذمته وحصول الأجر، فيمكن إبطال ذلك بأن لا تبرأ ذِمتُه ولا يحصل الأجر؛ وكذلك المنهي عن البيع المحرم والنكاح المحرم مقصودُه حصولُ الملك وحِل الانتفاع، فيمكن أن لا يحصل مقصودُه من الملك وحلّ الانتفاع، فيكون البيع باطلاً، كما اتفق عليه المسلمون من بطلان نكاح ذوات المحارم وبطلان بيع الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك. وأما الظهار فنُهِي عنه لأنه منكر من القول وزور، لا لمجرد كونهِ مُزِيلاً للملك أو مُوقِعًا للتحريم الذي تُزِيلُه الكفارة، فإن الزوج له أن

يُزِيل الملك بالطلاق، والتحريمُ الذي تزيله الكفارة لا ينافي الشرع، فإن المرأة قد تحرم على زوجها إلى غايةٍ، كتحريم المُحرِمة والصائمة والمعتكفة، وتحريمُ الحلال يُوجب كفارةً على ظاهر القرآن، وهو أحد قولَي العلماء. وإنما نُهِي عَن الظهار لاشتماله في نفسه على القول المنكر والزور، وهذا المعنى لا يمكن إبطالُه بعد وقوعه، كما أن من نُهِيَ عن الكذب وشهادةِ الزور فكذَب وشَهِد بالزور لا يمكن أن يقال: ما كذَبَ ولا شهد بالزور، وكذلك من نُهِيَ عن الكفر والقذفِ فكَفَر وقذفَ لا يمكن أن يقال: إنه ما وَقَع منه كفر ولا سب، فكذلك الظهار، لكن كانوا في الجاهلية وأول الإسلام يجعلونه طلاقًا مُزِيلاً للملك، فرفع الله ذلك، ولم يجعله مزيلاً للملك، بل للرجل أن يمسك المرأة إن شاء ويطأها إذا كفر. ثمَّ قال الشافعي: موجبه إما إزالة الملك بالطلاق، وإما التكفير. وقال الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد: بلْ موجبُه الامتناع من الوطء أو التكفير، فجعلوه يشبه اليمين التي يكون موجبُها إمّا الامتناع من فعل المحلوف عليه وإما التكفير، لكن الكفارة في الظهار تجب قبل العَود، لأن الظهار محرَّم، لاشتماله على منكرٍ من القول والزور، فلم يكن له أن يطأها حتى يأتي بالتَحِلَّة التي فرضها الله له، وكان ما رفعه الله من إيقاع الطلاق بالظهار كما كانوا عليه في أول الأمر دليلاً على أنه ليس كل لفظٍ قُصِدَ به الطلاق يَقعُ به الطلاقُ، فإن هذا اللفظ كانوا يقصدون به الطلاق، ثم لم يُوقع الله به الطلاقَ، بل نَسخَ ما كانوا عليه. ولابدَّ لهذا من سبب يُوجبُ الفرق بينَه وبين لفظ الطلاق. فلما كان مَن أوقعَ الطلاقَ بلفظه يَقعُ ومن أوقعَ بلفظ الظهار لا يقعُ-: لم يكن بدٌّ من الفرق بينهما في نفس الأمر.

- هذه العلة موجودة في الطلاق الثلاث جملة

ولا يسوغ أن يعلل الشرع بما يقوله من يقول من الفقهاء: لفظ الظهار صريحٌ في حكمه، وقد وجد نفاذًا فيه، فلا يكون كنايَةً في غيره. فإنه يقال له: السؤال هو عن علة هذا الحكم: لِمَ جعلَ هذا القول صريحًا في غير الطلاق بحيث لا يقع به الطلاق وإن نواه، فإن هذا يقتضي أن الأقوال عند الشارع نوعان: نوع إذا نوى به الطلاق وقعَ؛ ونوع إذا نوى به الطلاق لم يقع، فلابدّ لأحد القولين من أن يختصّ بمعنى يوجب اختصاصه بذلك الحكم، فما هو الفارق عند الشارع بين هذا القول وهذا القول حتى جعل الطلاق يقع بهذا ولم يجعله يقع بهذا، بل عدل به عن الطلاق الذي كانوا يوقعونه، إلى أن أوجب فيه الكفارة. وهذا أمرٌ ثابت في نفس الأمر لابدَّ منه. فلقائلٍ أن يقول: العلَّة في ذلك أن هذا القول منكر من القول وزُور، فلا يقع الطلاق بمنكر من القول وزور، فيكون هذا حجة لمن قال: إن الطلاق المنهيَّ عنه لا يقع، لأنه أيضًا محرَّم كما أن هذا محرَّم؛ فإن كون الكلام منكرًا من القول وزورًا يُوجب النهيَ عنه وتحريمَه. ويشاركه في ذلك كل كلام محرَّم، فإنَّ جميعها أقوال محرَّمة ينهى الله عنها ورسولُه. فإن كان المتكلم بالكلام الحرام إذا نوى به الطلاق وَقَع، فما الفرق بين هذا الكلام المحرم وغيره؟. وقد شدَّ بعض متأخري الفقهاء فزعَم أن الظهار ليسَ بمحرَّم. لكن هذا خلاف النصّ والإجماع القديم، فإنه قد حَكَى الإجماعَ على تحريم ذلك غيرُ واحدٍ من العلماء، ولم يُعلَم نزاعٌ قديم يقدم في ذلك كما عُلِمَ في غيرِه. والذي نقطع به أنّا لا نعلم فيه خلافا قديمًا. وقد يقال: بل هذا القول لا يتضمن إزالة الملك، بل هو كذب

في نفسه، وهو منكر لكونه جعل امرأته بمنزلة أمّه. والأقوال التي بها يقع الطلاق لابدّ أن يتضمن إزالة الملك، ولهذا جعل أحمد التحريمَ صريحًا في الظهار، لأنه أيضًا بمنزلته في كونه منكرًا وزورًا. لكن يَرِدُ على هذا أنه إذا قصدَ التشبيهَ ونَوى أنكِ إذا وقعَ بكِ الطلاقُ صرتِ مثلَ أُمِّي، فإن هذا الوصف لازم لو زال الملك. وليس من شرط التشبيه التساوي من كلّ وجه، فقوله "أنتِ مثلُ أمّي" أي طلقتكِ فصرتِ مثلَ أمّي، كقوله "أنتِ خلية وبريَّه وبائن"، فإن المعنى: طلَّقتك فصِرتِ كذلك. وقوله "أنتِ طالق" معناه طلقتكِ فصرتِ طالقًا، فإذا قال "مثل أمّي" أي جعلتك مثلَ أمّي في كونكِ لا تبقي (1) زوجةً. وهذا هو الذي كانوا يقصدونه، وإلاّ فهم يعلمون أن المرأة لا تصير مثلَ أمّه محرَّمةً على التأبيد، فإذا كان ما قصدوه مما يمكن أن يُقصَد بهذا اللفظ وأمثالِه ولم يعتبره الشارع عُلِمَ أنه أبطلَ ذلك لكون القول في نفسه منكرًا وزُورًا، فيشاركه في ذلك ما كان كذلك، فقول القائل "أنتِ طالقٌ ثلاثًا" منكر من القول، لأن الله حرَّمَه، وكل واحدٍ من كون القول منكرًا يوجب إبطاله. وقوله تعالى (وَزُوراً (4))، الزور: هو نوع من المنكر، فإن كل زور منكر، فيمكن أن يكون هذا وجه كونه منكرًا. وإن قيل: هو جزء علة. قيل: كل ما كان منكرًا فإن الله ينهى عنه، سواء كان زورًا أو لم يكن. وكذلك إن قيل: هو علة ثانية، وحينئذٍ فالقول المحرم لا يكون

_ (1) كذا في الأصل بحذف النون.

سببًا لنقلِ الملك، فلا يزول ملكه ويُبَاحُ لغيره بقول محرَّم. فهذا قد يحتجُّ به من يقول: إن الطلاق المحرَّم لا يصح، كما أن النكاح المحرَّم لا يصح، وهذا موجبُ الأصول على قول الجمهور الذين يقولون: النهي يقتضي الفساد، لاسيما والطلاقُ في الأصل مكروه بل محرَّم يُبغِضه الله، وإنما أباح منه قدرَ الحاجة، فيكون ما أبيح من قدر الحاجة إنما أُبيح لمن تكلم به بكلامٍ مباح، وأوقعه على الوجه المأذون فيه، أَمّا من تكلَّم به بكلام محرَّم وفعلَه على الوجه الذي نُهِيَ عنه، فالشارع لم يُبِح له ذلك الطلاقَ، فيكون باقيًا على الحظر، فلا يكون من الطلاق المشروع، كطلاق الأجنبية والطلاق قبل النكاح. يوضّح ذلك أن ما كان محظورًا وأُبيح للحاجة كان رخصةً، والرُّخَصُ لا تُستباحُ على الوجه المحرم، فيكون من طلَّق طلاقا لم يُؤذن له به - كمن طلَّق بلفظ الظهار - فلا يقع الطلاق بذلك. يُوضِّح ذلك أن إيقاع الطلاق ممّن أوقعه على الوجه المحرَّم إما أن يكون عقوبة له، وإما أن يكون رخصة له. والثاني ممتنع، لأن فعلَ المحرَّم لا يناسب النعمة بالرخصة. وإن قيل: هو عقوبة، فيقال: فكان ينبغي أن يعاقب المتظاهر بوقوع الطلاق به، فلمّا لم يعاقبه الشارع بذلك عُلِمَ أن الشارع لم يجعل نفس وقوع الطلاق عقوبةً للخلق، بل إنما عاقبهم بالكفّارات، لأن الكفّارات من جنس العبادات، والله يحب أن يُعبَد، فإذا فعلوها فعلوا ما يُحبه الله ورسوله، كما إذا أقاموا الحدود لله، التي جُعِلتْ عقوباتٍ، فإن الله أمر بها وجعلها واجبةً، وما تقرَّبَ العبادُ إلى الله بأفضلَ من أداءِ ما افترضَ عليهم. فالعقوبات التي يشرعها الشارع هي مما يُجب وقوعه ويرضاه ويأمر به، وهو لا يحب وقوعَ الطلاق ولا يأمر به ولا يَرضاه لغير حاجة،

فكيف يَشرَع وقوعَه ويجعله عقوبة؟! يُوضِّح ذلك أنه تعالى يُبغِض وقوعَ الطلاق، فكيف يشرع العقوبةَ بوجود ما يبغضه؟ وهو إنما يشرعُ العقوبةَ لئلاّ يُوجَد ما يُبغِضه، فيمتنع أن يَحكُم بوجود ما يُبغِضُه لئلَّا يُوجَد ما يُبغِضه، فإن هذا جمعٌ بين النقيضين، لاسيّما إذا كان الذي عاقب به هو نفس ما يُبغِضه. فهو مثل أن يُقال: اسقوه الخمرَ لئلا يشرب الخمر! وهذا ممتنع. فإن قيل: فقد حرَّمها عليه بعد الطلقة الثالثة عقوبةً له. قيل: هناك لما استوفوا الطلاقَ الذي أباحَه لهم للحاجة حرَّمها عليهم بعد الثالثة، فكانت العقوبة بالتحريم عليه لا بوقوع الطلاق عليه، فلم يعاقبهم بوقوع طلاقٍ قطّ. والعقوبة بالتحريم إلى غايةٍ مما جاءت به الشريعة، كما حرَّم الله على المظاهر المرأةَ حتى يكفّر، والعقوبة بالتحريم المؤبَّد كان من شرع من قبلَنا، كما قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1)، وكما قال: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)) (2). فإن قيل: فهلاَّ منعَ وقوعَ الطلاق الثلاث إذا كان يُبغِضه؟ وقال: لا يقع الطلاق الثلاث وإن فرَّقَها. قيل: هذا كان يقتضي المنع من الطلاق بالكلية كدين النصارى، وفي ذلك حرجٌ عظيم، لحاجة الناس إلى الطلاق بعض الأوقات إذا كان يبغضها أو كانت تُبغِضه. ولهذا أباح الله الافتداء إذا خافا أن لا

_ (1) سورة النساء: 160. (2) سورة الأنعام: 146.

- ليس في القرآن ما يدل على وقوع الثلاث جملة

يقيما حدودَ الله، فلم يُبح الله الخلعَ إلاّ عند الحاجة. وكذلك الطلاق، لكن لما أبيح الطلاقُ للحاجة لم يُبَح منه إلاّ الثلاثُ، فإنها قدر الحاجة، وحرَّمها عليه بعد الثالثة، لئلا يكون ذلك مانعًا من استيفاء العدد الذي أبيح رخصةً مع قيام السبب الحاظِر. كما أنه لم يُرخَّص في اقتناء الكلاب إلاّ للحاجة. فإن قيل: فهلاّ أبيح له بعد الثالثة أن يتزوَّجها بعقدٍ جديد قبل أن تنكح زوجًا غيرَه؟. قيل: كانت النفوس تطمع في عودها بعد الثالثة باختيار الزوجين، فلم يكن هذا وحده زاجرًا للنفوس عن استيفاء الثلاث، كما بسطناه في موضع آخر. وعلى هذا فيظهر حكمة الشارع في أحكامه، ويتبين تناسب الأصول الشرعية، وما في ذلك من الرحمة والعدل والحكمة، وإلاّ فلماذا جُعِلَتْ هذه الكلمةُ يقع بها الطلاق وهذه لا يقع مع قصد الإنسان للوقوع في الحالين؟ ولماذا حرمت عليه بعد الثالثة؟ ولماذا جُعِل في الظهار الكفارة؟ وقولنا "لماذا" تنبيه على حكمة الشارع وعدله ورحمته، وإن الأقوال التي توافق ذلك هي التي توافق شرعه، دون ما يخالف ذلك من الأقوال المتناقضة. والمقصود في هذا المقام أن القرآن ليس فيه ما يدل على وقوع الثلاث جملةً. وأما السنة فليس فيها أيضًا شيء من ذلك، بل لا يُعرَف أن أحدًا أوقعَ الثلاثَ جملةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنها وقعتْ به. وما رُوِيَ في ذلك من الأحاديث فهي ضعيفة بل موضوعة كَذِب عند أهل العلم بالحديث، بل قد نُقِل نقيضُ ذلك. وحديث فاطمة بنت قيس لمَّا طلَّقها زوجُها ثلاثًا إنما كانت الثالثة

- الكلام على حديث ركانة

آخر ثلاث تطليقات، كما جاء ذلك مُفسَّرًا في الصحيح (1). وحديث المتلاعنين طلَّقها ثلاثًا بعد اللعان، واللعانُ حرَّمَها عليه أشدَّ من تحريم الطلاق، فكان وجودُ الطلاق كعدمِه. وإذا قيل: فلماذا لم يَنْهَه عن التكلُّم بالثلاث إن كانت لا توجب طلاقًا في هذه الحال؟ قيل: كما أنه لم ينهه عن أصل التطليق في هذه الحال مع أنه عندهم لا يفيدُ ولا يقع بها طلاقٌ، وذلك لأن النهي إنما كان لمفسدة الوقوع، فلما لم يكن هنا محلٌّ يقع به الطلاق لم تكن هنا مفسدة، كما لو طلَّق أختَه التي تزوَّجها، فإذا تزوَّج من تحرمُ عليه على التأبيد وطلَّقها كان هذا توكيدًا للتحريم، فكذلك طلاق الملاعنة توكيد لمقصود الشارع، فإنِّه بيَّن أن مقصوده تحريمها عليه، والشارع قصد ذلك أيضًا. بخلاف من قَصدَ الشارعُ أن لا يحرِّمها عليه بالثلاث، بل نهاه عن إيقاع الثلاث جملةً بها، ولهذا غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من أوقع الثلاث في غير الملاعنة، دون من أوقعه في الملاعنة. وأما حديث رُكانة بن عبد يزيد (2) فقد رُوِي أنه طلَّقها ثلاثًا فردَّها عليه بعد الثلاث، ورُوِي أنه طلَّقها البتة وأنه حَلَّفَه ما أراد إلاّ واحدة، فقال: ما أردتُ إلاّ واحدةً، فردَّها. وقد روى أهل السنن أبو داود وغيرُه هذه وهذه، ورجَّحوا الثانية لأنها من رواية أهل بيته، لكن أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم من العلماء ضَعَّفوا حديثَ ركانة، وذلك أنَّ رواتَه قومٌ لم يُعرَفوا بحملِ العلم، ولا يُعرَف من عَدْلِهم

_ (1) سبق ذكر هذا الحديث وحديث المتلاعنين فيما مضى، وتكلم عليهما المؤلف. (2) سبق ذكره وكلام المؤلف عليه فيما مضى، فلا نعيد التعليق عليه.

- الأحاديث التي وردت في عدم وقوع الثلاث

وضبطهم ما يوجب أن تثبتَ بمثل نقلهم سنة للمسلمين تُوجبُ حكمًا عامًّا للأمة. وأيضًا فالرواية الثانية لا تدلُّ بمنطوقها، بل غاية ما تدلُّ بمفهومها، وهو لو قال "أردت ثلاثًا" كان يحتمل أن يؤدِّبه على ذلك ويعاقبه لكون ذلك محرَّمًا، ويحتمل أنه كان يُوقِعها به، فاستفهامُه له يدلُّ على اختلاف الحكم بين إرادة الواحدة وإرادة الثلاث. لكن هل كان الإحلاف لأجل التحريم والمعصية أم لأجل الوقوع؟ هذا ليس في الحديث ما يبينه. وفي سنن النسائي (1) أن رجلاً طلَّق امرأتَه ثلاثًا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغَضبَ عليه وقال: أتتلاعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ فقال الرجل: أفأقتلُه يا نبيَّ الله؟ فهذا فيه غضبُه عليه حتى استأذنه بعضُ المسلمين في قتلِه، وليس فيه أنه أوقع به الثلاث، فدلَّ ذلك على أن هذا كان منكرًا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفاعله مستحق للذمّ والعقاب، وليس فيه أنه أوقعه به، فقد يكون استفهام ركانة لهذا. فهذا الحديث لا يدلُّ على وقوع الثلاث بل على تحريمها، ودلالته على أنها لا تقع أقوى. ثمَّ قد ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره عن ابن عباسٍ أن الثلاث كانت واحدةً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، ثم قال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم [فيه] أناةٌ، فلو أنّا أمضيناه عليهم، فأَمْضاه عليهم.

_ (1) 6/ 142. وفيه: "أيُلعَب ... ". (2) برقم (1472)، وقد سبق كلام المؤلف عليه فيما مضى.

- فتيا ابن عباس في هذه المسألة

وأما قول القائل: إن ابن عباس أفتى بخلافه، فقد اختلفت فُتْيا ابن عباس في ذلك، فنُقِل عنه إيقاعُ الثلاث بكلمة واحدة، ورُوِيَ عنه أنه لا تقع، كما ذكر ذلك أبو داود في سننه وغيرُه (1). والمقصود هنا أنه ليس في السنة قَط أن أحدًا طلَّق ثلاثًا جملةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأوقعها به، وهذا لا ريبَ فيه. وأما الإجماع فلا إجماعَ في المسألة (2)، بل قد نقل عن أكابر الصحابة - مثل الزبير وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس - أنه لا تقع الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ، وهو قول غير واحدٍ من التابعين ومن بعدهم، كطاوس وعكرمة وابن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقول طائفة من أصحاب مالك من أهل قرطبة وغيرهم، وقول طائفة من فقهاء الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، وكان جدُّنا أبو البركات يفتي بذلك أحيانًا، وقول [طائفة] من الناس من أهل الحديث والكلام والفقه، وهو أحد قولَي الظاهرية بل أكثرهم، وقول الشيعة. وأما القياس فلا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع، لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فسادَ المنهي عنه، بمعنى أنه لا يحصل للمنهي قصده، والمنهي عن الطلاق المحرم قصدُه وقوعُه، ففسادُه يُوجب أن لا يحصل مقصوده. كما أن المكرِه الظالم لما كان قصدُه وقوَعَ الطلاق بالمكرَه لم يقع الطلاق من المكْرَه.

_ (1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى. (2) علق عليه أحد القراء: "هذا كلام ساقط، بل الإجماع منعقد على وقوع الثلاث، وأنه جائز، انتهى". قلت: كأن المعلق لم يقرأ ما نقله المؤلف عن أكابر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فأين الإجماع الذي ادَّعاه المعلق؟ وانظر "مجموع الفتاوى" (33/ 82 - 84). وقد سبق ذكر بعض الآثار الواردة فيه فيما مضى.

- الكلام على الظهار والنذر

فإن قيل: المنهي عنه إذا كان سببًا للإباحة فينبغي أن لا يُباح له، لأن المعصية لا تكون سببًا للنعمة، وأما إذا كان سببًا لإيجاب أو تحريم فإنه يصحّ، كالنذر والظهار، فإنه نُهِي عن النذر وانعقد، ونُهِيَ عن الظهار وانعقد. قيل: أما الظهار فقد تقدم القول فيه، وبيّنّا أنه نفسه قولٌ منكر وزُورٌ، وأنهم كانوا يجعلونه طلاقا، فأبطل الشارع ذلك، وذكرنا أن هذا مما يَحتجُّ به من يقول "النهي يقتضي الفساد"، حيث لم يُوقع الطلاق. وأما إيجاب الكفارة فيه فلكونه أتى بالمنكر من القول والزور، والكفارة قربة وطاعة، كما أوجب الكفارة في نظائر ذلك من الأمور المنهي عنها، كالجماع في رمضان وغيره. وأما النذر فإنه يمين، وهو حجة لنا، فإنه إذا نذرَ ماليس بقربة لم يلزمْه، بل يُجزِئه كفارة يمين. وأما إذا نذرَ القُرَب فالقُرَب يحبُّها الله ورسوله، وإنما نُهِي عن النذر لاعتقاد أنه يَقضِي حاجتَه، لا لكون المنذور مكروها. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه يُستَخرج به من البخيل" (1)، والاستخراج من البخيل مما يُحِبّه الله ورسوله، فلم يَحصُل بانعقاد النذر إلاّ ما يُحِبُّه الله ورسولُه، لكن يُخَافُ عليه أن لا يُوفِيَ. كما أن المُحرِمَ قبل الميقات يُخَاف عليه أن يرتكب المحظورات، وكذلك الشارع في التطوعات يُخاف عليه أن لا يأتي بها، وما كان مُفضِيًا إلى الطاعة لم يَبطُل خوفًا من عدم الإتمام، بل قد يأمر بإتمامه، كما قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (2).

_ (1) أخرجه البخاري (6608،6692،6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر. (2) سورة البقرة: 196.

والمفسدة التي نهي عنها إنما هي إذا لم يفعل المنذور، أما مع فعله فالمصلحة راجحة، وإذا لم يفعل كان كاذبًا، لكونه التزم مالم يَفِ به، وهو مذموم على الكذب، كما قال تعالى: (*وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)) (1). وقد ذكرنا أن نفس المنهي عنه إذا كانت المفسدة فيه فلا يمكن رفعها، وإنما يمكن رفع ما يترتب على ذلك. وأما الأفعال كالقتل والوطء والشرب إذا رفع محرمًا فهنا لا يمكن أن يقال: لا حكم له، بل وجودُه كعدمه، بخلاف بيع الميتة ونكاح الأم، فإن هذا العقد باطل، وجودُه كعدمه. والأقوال قسمان: قسم هو بمنزلة الفعل، كالكفر وشهادة الزور ونحو ذلك، فإن هذا إذا كذب لم يمكن أن يقال: وجود الكذب كعدمه. وكذلك إذا اعتقد الكفر بقلبه أو قاله بلسانه غيرَ مُكرَهٍ استهزاءً بآيات اللهِ لم يمكن إن يقال: وجود ذلك كعدمه. فالطلاق والعتاق عند جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد في القسم الأول من جنس البيع والنكاح وغيرهما، لا من جنس الكذب. والقول الموجب للصدق إذا كذب صاحبُه كان الذنب له، ولم يكن رفع المفسدة إلاّ بأن يقال: الصيغة ليست التزامًا وعهدًا، وهذا ممتنع، إلاّ ترى أنه لما التزم فعلَ المحرمات أبطل الشارع ذلك، ولما التزم فعل المباحات لم يأمره بذلك، بل شرع الكفارة في الموضعين

_ (1) سورة التوبة: 75 - 77.

- سبب إلزام عمر الناس بوقوع الثلاث

عند من يقول بذلك كأحمد وغيره، أو لا شيء عليه كما يقوله الشافعي وغيره. وأيضًا فإنه إذا نذر الطاعات إن جعل وجود العقد كعدمه ففيه صَدٌّ عن الترغيب في الطاعات، والشارع يُرغب في ذلك من لم ينذر، فكيف إذا نذر؟ وكذلك إن قيل: فيه كفارة يمين مطلقًا ففيه صَدٌّ عن الطاعات التي هي أحبُّ إلى الله من الكفارة، وهذا بخلاف المحرّمات، فإن الكفارة أحب إلى الله منها. ثم الظهار ونذر المعصية أوجب كفارةً يتقرب بها إلى الله، أما إيقاع الطلاق الذي نهى الله عنه وهو يوجب ما يُبغِضه الله من غير مصلحةٍ في ذلك، لا للزوج ولا للمرأة ولا لأحدٍ من المسلمين، ولا فيه ما يُحِبّه الله ورسولُه، فكيف يشرع الله وقوعَ فسادٍ راجح وشر راجح، ولا يجعل للعباد طريقًا إلى رفع ذلك الشر والفساد؟! وهذا ليس من شريعة الإسلام ولله الحمد والمنة. وإذا قيل: العبد هو الذي أوقع ذلك. قيل: نعم، والعبد هو الذي يعقد سائر العقود المنهي عنها، ويلتزم ما فيها من اللوازم، ومع هذا لما كان فسادها راجحًا أبطلَ الشارعُ تلك العقود، ولم يشرع وقوع ذلك الفساد الراجح، كمن نكح أنكحةَ منهيَّا عنها، وباعَ بيوعًا منهيَّا عنها، ونحو ذلك، فالطلاق المحرَّم عقد من العقود المنهي عنها. فإن قيل: فعمر بن الخطاب ألزمَ الناسَ بوقوع الثلاث جملة كما ذكرتم، وعمر لم يكن ليخالف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعُلِمَ أنه اطّلعَ على دليل شرعي يُوجِب ذلك. وقد وافقه علي وابن مسعود وابن

- الذين أفتوا بذلك من الصحابة وافقوا عمر في اجتهاده

عباس وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو (1)، فهؤلاء أفتوا فيمن أوقع الثلاث جملة أن تقع. واشتهر ذلك عند عامة العلماء حتى ظنه من ظنَّه إجماعا، وصار نقيضُ ذلك يُحكَى عن أهل البدع كالرافضة، ولهذا لمّا ذُكِر هذا القولُ عن الرافضة لأحمدَ قال: قولُ سوء، أو نحو ذلك. قيل: أما المنقول عن عمر رضي الله عنه فظاهره أنه عاقبَ الناسَ بإيقاعِها جملة لما أكثروا من فِعْلِ ما نُهُوا عنه، ولهذا قال: إن الناس قد أسرعوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أنّا أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم. والذين أفتوا بذلك من الصحابة رأوا رأيَ عمر في ذلك، وألفاظهم تَدُلُّ على أنهم فعلوا ذلك عقوبةً لمن فَعَلَ ما نُهِيَ عنه، كقول ابن مسعود لما سُئِل عمن طلَّق ثلاثًا: أيها الناس! مَن أتى الأمرَ على وجهِه فقد بُيِّن له، وإلاّ فوالله ما لنا طاقة بكل ما تُحدِثون. وفي لفظٍ: من أتى بدعةً ألزمناه بدعتَه. فعُلِم أن هذا كان عنده ممّا نُهُوا عنه، فألزمَهم به. وكذلك ابن عباس قال لمن طلَّق ثلاثًا: إنك لو اتقيتَ الله لجعلَ لك فَرَجًا ومخرجًا، ولكنّك لم تتق اللهَ فلم يجعل لك فرجًا ومخرجًا. وكذلك عبد الله بن عمر يقول: إذا فعلتَ ذلك فقد عصيتَ الله وبانت منك امرأتك. ومثل ذلك كثير في كلامهم، يَذُمُّون فاعلَ ذلك مع إيقاعهم به الثلاث. وهذا يقتضي أن فاعلَ ذلك كان مذمومًا عندهم مع إيقاع الثلاث به. وقد كان للصحابة رضي الله عنهم اجتهاد في أنواع من العقوبات

_ (1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى.

- مثل هذه العقوبة لها أصل في الشرع

وفي المنع من بعض المباحات، لما يَرونَه من مصلحة الأمة، كاجتهاد عمر وغيرِه في حدّ الشارب حتى حَدُّوه ثمانين، وحتى كان عمر ينفيه ويَحلِق رأسَه. وكما كان عمر ينهى عن متعة الحج ليعتمر الناسُ في غير أشهر الحج، فمنَعَهم من المباح لمَّا رآهم يتركون به ماهو مشروع للأمة، ولما رأى في ذلك من حَضِّ الناس على الطاعة به، ويمنعهم من المباح ليفعلوا خيرًا أو لئلاّ يفعلوا شرًّا. فلمّا كثر منهم إيقاعُ الثلاثِ جملةً، ورأى أنهم لا ينتهون عن ذلك إلاّ بإلزامهم بها ومنعِه من المرأة إذا قال ذلك، فمنعهم من نكاحها بعد الثلاث جملةً ومُفرَّقًا، لئلاّ يفعلوا الشرَّ الذي كانوا يفعلونه، كما منعهم من متعة الحج، ليفعلوا الخيرَ - وهو العمرة - في سائر السنة، وكما حرَّم على الناكح في العدَّة أن يتزوج المنكوحة أبدًا، ليمنعهم بذلك من الشر الذي فعلوه، وهو التزوج في العدّة. وكما منع شاربَ الخمر أن يقيم ببلدِه، ليمنعه بذلك من شُربِ الخمر. وهذه العقوبات لها أصل في الشرع، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى المخنَّثَ والزاني، ومَنَعَ الحميريَّ من السَّلَب الذي أمر خالدًا أن يُعطِيَه إياه، فحرَّمَه عليه بعد أن أوجبَه له، ليزجر بذلك عن التعدّي على ولاة الأمور لما اعتدى عوف بن مالك على خالدٍ (1). وكذلك ما رُوِي من منع الغالّ سهمَه. وأيضًا فإنه لما أمر بهجر الثلاثة الذين خُلِّفوا أمرَ أزواجَهم بهجرهم، ومنعهنَّ أن يمكِّنوهم من مضاجعتهم (2)، مع أن هذا حلالٌ للزوج مع امرأته. وهذا أبلغ من موجب الظهار، فإن هذا تحريم لنسائهم عليهم إلى أن يتوبَ الله عليهم أو يحكمَ الله بحكمٍ

_ (1) أخرجه مسلم (1753) عن عوف بن مالك. (2) كذا في الأصل، والأولى أن يكون: "ومنعهن أن يمكنهم من مضاجعتهنَ".

- لا يظن أحد أن عمر أو غيره عمد إلى نسخ ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم -

آخر. والمظاهر تحرمُ عليه إلى أن يكفر، فاثبت موجب الظهار تعزيرًا لمن استحقَّ التعزير بالهجرة. وعاقبَ المتلاعنينِ بتحريم كل منهما على الآخر، وهذا أبلغ من موجب الطلاق. فإذا كان قد عاقبَ بتحريمٍ أخفَّ من موجب الطلاق وبتحريمٍ أبلغَ من موجب الطلاق، وجعلَ الثاني شرعا مطلقًا، وجعلَ الأوَّلَ تعزيزًا يسوغ أن يفعله الأئمةُ بمن أذنب مثل ذلك الذنب -: لم يمتنع أن يكون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - مع كمال علمه ونُصحِه للأمة - رأى أن يُعاقِبَ المستكثرين مما نَهى الله عنه، الذين لم يرتدعوا بمجرد نهي الشارع، بما هو من جنس العقوبات المشروعة. وقد كان أحيانًا يَهُمُّ بنهيهم عن أشياءَ وعقوبتهم بالمنع، ثم يتبين له الصواب في ذلك، كما همَّ أن يمنعهم من الزيادةِ في قدرِ الصَّداق على ما فعلَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأزواجِه وبناتِه، ويجعل فِعلَه شرعًا لازمًا لهم لا يزدادون عليه، وأن يعاقب من جاوزَ فِعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجَعْلِ الزيادة في بيت المال، حتّى تبيَّنَ له أن ذلك مما أباحه الله لهم، فلا يُمنَعون منه ولا يُعاقَبون عليه. وإلاّ فهل يَظنُّ من يؤمن بالله واليوم الآخر ويَعرِف حالَ السابقين الأولين أن عمر بن الخطاب أو غيره من الخلفاء الراشدين كان يَعمِد إلى نَسْخِ شرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وأن المسلمين يُقِرونه على ذلك مع علمه وعلمهم بأن هذا نسخ لشرعِه! نعم، الأمور الاجتهادية التي يفعلها أحد الخلفاء تارة يوافقُه عليها جماعتهُم، وتارة يوافقه عليها بعضُهم وينكرها بعضُهم إنكارَ مجتهدٍ على مجتهدٍ، كما أنكر عمران بن حصين وغيره على عمر ما قاله في متعة الحج (1)، مع أنه قد ثبت عن عمر أنه لم يُحرِّمها، وأنه كان له فيها اجتهادٌ متنوع.

_ (1) أخرجه البخاري (1571) ومسلم (1226) عن عمران بن حصين.

وإذا كان هذا مخرجَ ما فعلَه عمر فيقال: من كانوا عالمين بالتحريم وأقدموا عليه بعد علمهم بالتحريم، واستكثروا منه بعد علمهم بالتحريم، فمن ألزمَهم به فقد اقتدى بعمر في ذلك وبمن وافقه من الصحابة. وأمّا من لم يعلم أن ذلك محرَّم أو اعتقدَ أنه مباح وفَعَلَه، فهذا لا يستحق أن يُعاقَب، ولا يمكن إلزامُه به على وجه العقوبة، إلاّ أن يكون الشارع ألزمَه بالثلاث. وظهر مقصودُ عمر، فإنهم إذا كانوا يعتقدون تحريمَه، والشارع نهاهم عنه، وإذا أوقعوه جعله واحدة، فإذا صاروا يوقعونه قاصدين للثلاث صاروا يقصدون ما نُهوا عنه، وقد يعتقد عامتُهم وقوعَ الثلاث به، فعاقبهم عمر على ذلك بإلزامِهم ما قصدوه وما اعتقدوه. فإن قيل: فقد تقدم أن الشارعَ لم يُعاقِب بوقوع الطلاق. قلنا: نعم، ليس في الكتاب والسنة عقوبةٌ بوقوع الطلاق، ولكن جَعْل هذا عقوبةً هو مما يقوله كثير من السلف والخَلف بالاجتهاد، كما يقول كثير من الفقهاء: إنما يُوقَع الطلاقُ بالسكران عقوبة له، ونحن ذكرنا مقاصد اجتهاد عمر رضي الله عنه. وأيضًا فعمر رضي الله عنه رأى أن في إلزامهم به منعًا لهم من إيقاعِه، فرأى أن ما يَنتفِي من وقوع الطلاقِ البغيض إلى الله أكثرُ مما يقعُ منه، فدَفَعَ أعظم الفسادَين بالتزامِ أدناهما، فإنهم إذا كانوا يوقعون الثلاث المحرَّمة ولا يرونها إلاّ واحدةً، وكانوا يَقصِدون الثلاث أولاً بالقول المحرّم مع علمهم أنه لا يلزمهم ذلك، يكثر منهم تكلُّمهم بالثلاث وقصدُهم إيقاعَها، وذلك بغيض إلى الله، ووقوعُه أيضًا بغيض، لكن ما فعله أوجب دفع أكبر البغيضَينِ وقوعًا بأدناهما وقوعا، فإنهم إذا علموا أنه يُلزمهم بالثلاثِ الثلاثَ امتنعوا عن التكلم بالثلاث،

- نهي عمر عن التحليل

فكان في ذلك دَفعُ أمور كثيرة بغيضة إلى الله بإلزام أمور أقل منها، ولمّا رأى أنهم لا ينتهون إلاّ بذلك فَعَلَ ذلك. وكان عمر ينهى عن التحليل ويقول: لا أُوتَى بمحلِّل ومحلَّل له إلاّ رجمتُهما، فلو رأى عمر أن إيقاع الثلاث يُفضِي إلى التحليل الذي حرَّمه الله ورسولُه وإلى كثرته العظيمة لم يَنْهَ عنه، لعلمِه بأن القول بأن الثلاث لا تقع إلاّ واحدة خير من التحليل، وأن المفسدة في التحليل أضعاف المفسدة في أن يتكلموا بالثلاث فلا يقع بهم إلاّ واحدة. فمتى دارَ الأمر بين أن تقع الثلاثُ ويحلل، وبين أن لا تقع الثلاث، كان أن لا يقع أولى. ولا يرتاب في هذا من نوَّر الله قلبَه بالإيمان، فإن التحليل فيه شرٌّ كبيرٌ ليس في عدمِ إيقاع الثلاث جملةً منها شيء. وكان نكاح التحليل قليلاً جدًّا في زمن الصحابة، ولهذا سُئِلوا عنه في وقائعَ مخصوصة، وقال عمر بن الخطاب: لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّل له إلاّ رجمتُهما. وقد لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلِّلَ والمحلَّلَ له (1). ولم يكن على عهده من يُظاهِرُ بذلك، لكن قد يكون من يفعل ذلك باطنًا ومن يقصده، فلعنَه كما لعنَ آكلَ الربا ومُوكِله وشاهدَيْه وكاتبَه، لتنزجر النفوسُ بذلك عن قصد التحليل، فلا يقع منه شيء لوجهين: أحدهما: لتتمَّ عقوبة الله للمطلّق الذي طلَّق الثالثةَ بعد طلقتين، فلا يَقصِد أحدٌ إعادةَ امرأتِه إليه، فينزجر بذلك عن إيقاع الثلاث مفرقة.

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 448،462) والدارمي (2263) والترمذي (1120) والنسائي (6/ 149) عن ابن مسعود، وأخرجه أحمد (2/ 323) عن أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجه (1934) عن ابن عباس، وفي الباب عن آخرين، وهو حديث صحيح. انظر "إرواء الغليل" (1897).

والثاني: لأن التحليل من جنس السفاحِ لا من جنس النكاح، فإنه غير مقصود. ولهذا كان الزوجُ مُشبهًا فيه بالتيس المستعار، الذي يقصد استعارتَه لا مصاحبتَه. فلما كان مفسدةُ وقوع الثلاث قليلةً لقلَّةِ التحليل، وكان الناس قد أكثروا مما نُهُوا عنه منَ إيقاع الثلاثِ جملةً، رأى عمر أن يعاقبهم بإنفاذ ذلك عليهم، لئلا يفعلوا ذلك، فالشارع حرَّم عليهم المرأة بعد الثالثة عقوبةً لهم، فرأى عمر وغيرُه أنهم إذا أكثروا من إيقاعها مجتمعة استحقوا هذه العقوبة. بخلاف ما كان على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وأول خلافته، فإنها كانت قليلةً في الناس، وكانوا ينتهون بنهي الشارع، فلم يكن في وقوعها قليلاً حاجة إلى عقوبة. ولا ريبَ أنه إذا كثر المحظور احتاجَ الناسُ فيه إلى زجرٍ أكثر مما إذا كان قليلاً. ولهذا لما رأى الصحابة رضي الله عنهم كثرةَ شُرْب الناسِ الخمرَ واستخفافَهم بالعقوبة التي هي أربعون جَلَدوا ثمانين، وَكان عمر مع ذلك يَنفِي ويَحلِق الرأسَ، لأن عقوبة الشارب لم يُقدِّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها قدرًا مؤبدًا كما قدَّر في القذف، لا عددًا ولا صفةً، بل أقل ما ضرَب أربعين، وكان يضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وقد أمر بقتل الشارب في الرابعة (1)، فكان صفةُ عقوبتِه وقدرُها مُفوَّضًا إلى اجتهاد الأئمة، ولو كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبَ فيها حدًّا حرَّمَ ما زاد عليه لامتنعَ عليهم أن يُبدِّلوا شريعتَه، فإنهم لا يتفقون على ضلالةٍ. وإذا كان هذا فعلَه عمر على وجه العقوبةِ والتعزير بذلك لكثرة إقدام الناس على المحظور، لا لأنه شرع لازم لكل من تكلَّم بذلك،

_ (1) سبق ذكر هذا الحديث وتخريجه.

- الطلاق في الحيض، والكلام على حديث ابن عمر فيه

سواءً كان عالمًا بالتحريم أو جاهلاً، وسواء كان الناس يحتاجون إلى العقوبة بذلك أو لا يحتاجون، لم يكن على أن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة لكل من تكلم بها دليل شرعيٌّ أصلاً. وإذا كان كثير من الفقهاء يُوقِعون الطلاقَ بالسكران، ويقولون: نُوقِعه عقوبة ونَجعلُ ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، مع أن هذا لا يُوجب انتهاء الناس عن الشُكر، فكيف لا يكون ما فعلَه عمر رضي الله عنه من العقوبة مما يسوغ فيه الاجتهاد؟ مع أن ذلك أقرب إلى الأدلةِ الشرعية ومقصودِ المعاقب من هذا. ولو قُدِّر أن بعضَ الصحابة رأى وقوع الثلاث جملةً بكل من تكلَّم بها، ورأى هذا شرعًا عامًّا لازمًا، فقد نازعَه في ذلك غيرُه، مع أن هذا بعيد، فإن الذين رُوِيَ عنهم إيقاعُ الثلاث جملةً رُوِيَ عنهم نَفْيُ ذلك، كعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس (1)، فَحَمْلُ كلامِهم على اختلاف حالين أولى من حَمْلِ كلامِهم على التناقض، واعتقادهم فساد أحد القولين (2). وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ). فإن قيل: فإذا لم يكن الطلاق المحرَّم لازمَ الوقوع، فيلزم أن المطلقة في الحيض أيضًا لا يجب أن يلزم فيها الوقوع. وحديث ابن عمر قد ثبت في الصحيحين (3) أنه لمَّا طلَّق امرأته في الحيض غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "مُرْه فيراجعها، حتى تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم

_ (1) انظر تفسير القرطبي (3/ 132) و"مجموع الفتاوى" (33/ 83) و"إغاثة اللهفان" (1/ 329 - 330)، حكى ذلك عنهم ابن وضاح. (2) بعده سبعة أسطر في الأصل وكتب في الهامش: "مكرر يأتي في موضعه". (3) البخاري (5252،5332 ومواضع أخرى) ومسلم (1471).

تطهر، ثم إن شاء بعدُ أمسكها، وإن شاء طلَّقَها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". وقد رُوِي عن ابن عمر (1) أنه قيل له: أتعتدُّ بها؟ قال: أفرأيت إن عجز واستحمق. وقال: إن طلقتها ثلاثًا عصيتَ ربَّك وبانت منك امرأتك. قيل: أولاً حديث ابن عمر قد رُوِي فيه أنه حَسَبَها من الثلاث، ورُوِيَ أنه لم يَحْسُبْها، وكلا الإسنادين جيد. وقوله "راجعْها" مثل قوله "رُدَّها" ونحو ذلك، وهذه الألفاظ تُستَعمل في العقدَ المبتدأ، وتُستَعمل في إمساك المطلقة، وتُستَعمل في إمساك من لم يقع بها طلاق، قال تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) (2)، فهذا عقد جديد. وقال تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) (3)، فهذا رجعة المطلقة. وقال: فردها علي. وابن عمر رضي الله عنه إما أن يكون كان يعلم أن الطلاق في الحيض لا يجوز، بل يجب إذا طلق المرأة أن يطلقها لعدَّتها كما أمر الله بذلك؛ وإما أنه لم يكن يعلم هذا، فإن كان يعلمه وألزم بما أوقع فقد يكون من جنس إلزام عمر لهم بالثلاث، وإن لم يكن عَلِمَ بالتحريم وألزم بها فهو دليل على أنها تلزم، فيحتاج الاستدلال بحديثه إلى مقدمتين: إحداهما: أنه أمر بمراجعةٍ هي مراجعةُ من وقع بها الطلاق. والثانية: أن وقوع الطلقة لم يكن عقوبة عارضةً على ذنبٍ، بل

_ (1) كما في بعض الروايات للحديث السابق. (2) سورة البقرة: 230. (3) سورة البقرة: 228.

هي شرع لازم لكل من طلَّق في الحيض. وكلا المقدمتين تحتاج إلى دليل. ثم قد يُستَدلّ على نقيض ذلك بأن علة تحريم الطلاق في الحيض هي إطالة العدَّة عليها عند كثير من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وعلَّله آخرون من أصحاب أبي حنيفة وأحمد بأن الحيض زمن النفرة عن المرأة والزهد فيها، والطهر زمن الميل إليها والرغبة فيها. وبالجملة فلا بُدَّ لهذا الحكم من علَّةٍ، وقد بحثوا عن الأوصاف الثابتة في محل الحكم، فلم يجدوا وصفًا مناسبًا إلاّ هذا أو هذا، والسَّبْرُ مع المناسبة والاقتران من أقوى الطرق التي تثبت بها العلَّة. وإذا كانت العلَّة ما ذكره الأولون، فإذا وقع الطلاق فإنما يُؤمر به لإزالة تلك المفسدة، والأيمان كانت لا تزول، فلا فائدة في الأمر بالمراجعة. والفقهاء لهم في وجوب المراجعة قولان هما روايتان عن أحمد، ولهم في ارتجاعها في الحيضة التي تلي ذلك الطهر قولان هما روايتان عن أحمد (1). ومن قال: إن الرجعة لا تجب، وإنها تُشْرَع في الطهر الذي يلي الحيضة، لم يكن في الأمر بالرجعة عنده فائدة، ولا زال بها مفسدة طلاق الحيض، بل ذلك أشدُّ في الضرر عليها، فإنه يرتجعها وهو في الحيض لا يطأها، ثمّ يُطلّقها في الطهر الأول، فيحتاج إلى استئناف العدَّة عليها، فيزداد الطول والضررُ. وهذا أشهر القولين. ومن قال: إنها تبني لم يكن في الارتجاع عنده فائدة؛ ومن قال: لا يطلّقها إلاّ في الطهر الثاني فإنه لا يُوجِب وطئها في الطهر

_ (1) بعده في الأصل بياض بقدر ثلاث كلمات، ومكتوب عليه: "كذا".

الأول، فإذا أمسكها ولم يطأها وطلَّقها في الطهر الثاني استأنفت العدة أيضًا عند الجمهور، فكان ارتجاعها زيادةَ شر. وإن بَنَتْ على العدَّة فلا فائدة في الرجعة. وهذا بخلاف ما إذا لم يقع الطلاق، فإنه لا عدَّة عليها فيردها، لأنها امرأته، ولا يطلّقها في الطهر الأول لأنه لم يتمكن بعدُ من وطئها، فالنفور بينهما قد لا يزول، فإذا تركها إلى الطهر الثاني تمكن من وطئها، فربما بسبب ذلك تَفْتُر رغبتُه عن الطلاق. والشارع نهى الرجالَ أن يطلقوا إلاّ لاستقبال العدة، لئلا تطول بذلك العدة. فهذا حكمة نهي الشارع، لكن إذا فعلوا ما نُهُوا عنه، فإن أوقع الطلاق لغير العدة فقد حصلَ الشرُّ الذي كرهَه الله ورسولُه، وحَصَلَ طولُ العدَّة لا مَحالةَ، لأن هذا الطلاق إذا وقعَ أوجبَ عدةً، فتكون طويلةً، ومراجعتُها بعد ذلك - إذا قيل: إن الطلاق قد وقعَ - لا تَرفعُ هذه العدة الطويلة، ولا تُزيل هذا الضرر، بل إما أن تَزيده ضررًا وطولاً آخر، كما هو قول الجمهور الذين يُوجبونَ على المرتجعة إذا طلقت قبل الدخول عدةً أخرى، وقد ذكر الثوري أن هذا إجماع الفقهاء. وإما أن تبقى العدةُ طويلةً مُضِرَّةً كما كانت، كما هو قولٌ للشافعي ورواية عن أحمد. فإن قيل: بل في الرجعة في الحيض تُمكنه من الاستمتاع بغير الوطء، وفي تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني تُمكنه من وطئها في ذلك الطهر. قبل: هذا الذي لا يزول الضررُ إلاّ به لا يأمرون به، ولم يأمر الشارع به، وإنما أمر على قولكم بمجرد رجعة للمطلقة، وهذا المأمور

به على قولكم يزيد الضرر، فإنه يكون قد طلَّقها واحدةً، فيطلقها ثنتين. وهذا أيضًا دليل آخر، وذلك أن مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايات أن تفريق الثلاث في ثلاثة أطهار بدعة، وهو الصحيح، وأن السنة أن يطلقَها واحدةً، ثم يدعَها حتى تنقضيَ عدتُها، فإذا كانت الأولى قد وقعت ثم أبيح له الثانية في الطهر الأول أو الثاني، كان في هذا. خلاف للسنة بأن طلقها ثانيةً بعد أولى. فإن قيل: لكن طلّقها الثانية بعد أن راجعَها، وهذا سنة بالاتفاق. قيل: بل في هذا وجهان ذكرهما أبو الخطاب، أحدهما: أنه بدعة، وعلى هذا التقدير فالحديث حجة عليهم صريحة. والثاني - وهو الأظهر -: هو سنة لمن طلَّقها ثم راجعها ثم اختار طلاقها أن يطلقها، أما من كان غرضُه طلاقَها، وقد طلَّقَ واحدةً، فيؤمر بما يلزم أن يُوقع ثانيةً. وأيضًا فإن تطويل العدة وضررها يزولُ بذلك. وأيضًا فالاعتداد بتلك الطلقة من الثلاث أعظم ضررًا على الزوجين من تطويل العدة عليها، ولو خُيرت المرأةُ بين هذا وهذا لاختارت طولَ العدَّة على أن تُحسَب من الثلاث. فكيف تقصد مصلحتها بما هو عليها أشدُّ ضررًا. وأما ما ذكره الآخرون فإنهم قالوا: أراد بذلك تقليلَ الطلاق، فإنه منع منه زمنَ الزهدِ فيها، وأذِنَ فيه زمنَ الرغبة فيها. وإذا كان هذا مقصود الشارع فهذا المقصود لا يحصل إذا أُمِرَ المواقع له بالرجعة، وقيل له: طَلقْ بعد ذلك، لأنه حينئذٍ لا يكون في الرجعة إلاّ تكثير الطلاق، لأنّ الأول لا يرتفع، والثاني قد يحصل، بل هو

- أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلا للحاجة

الأظهر ممن غرضه الطلاق، فيكون ما أُمِر به لا يَرفَعُ المفسدةَ بل يَزِيدها، بخلاف ما إذا لم يقع، فإن المفسدةَ تُعْدَمُ حينئذٍ. فصل أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة، والحاجة تندفع بثلاثٍ متفرقة، كل واحدة بعد رجعة أو عقدٍ، فما زاد على هذا فلا حاجةَ إليه فلا يشرع، فإنه إذا فرق الثلاثة عليها في ثلاثة أطهارٍ لم تكن به حاجة إلى الثانية والثالثة، فإن مقصوده من الطلاق يحصل بالأولى، كما أنه لا حاجة به إلى الثلاث. فإن قيل: قد يكون مقصوده رفع نفقتها، فيطلقها ثلاثًا لئلَّا تجب لها نفقة، ولا يجب أيضًا سُكنى عند فقهاء الحديث. قيل: هذا يمكنه عند من يوجب للمبتوتة النفقة والسكنى بأن يطلقها طلقة بائنة، كما هو مذهب أبي حنيفة، وهذا رواية عن أحمد، وإن لم يقل بوجوب النفقة للمبتوتة، لكن عنده له أن يبتَّها بواحدة، فتسقط النفقة بإسقاط رجعته. وأما على قول الباقين فيقولون: نفقتها في الرجعة حقٌّ لها، فليس له أن يُسقِطه إلاّ برضاها، فإذا رضيت أن يختلعها سقطت النفقة، وإذا كانت هي تريد أن يُنفِق عليها ويتمكن من ارتجاعها لم يكن له إسقاطُ ذلك. ونفقة العدَّة أمر هيِّن، ليس له لأجلها أن يُوقع نفسَه في الثلاث التي يحصل بها ضرر عظيم، كما أنه ليس لأجلها أن يعجل طلاقها في الحيض بالكتاب والسنة والإجماع، فعُلِمَ أن تسويغ تغيير الطلاق الشرعي لأجل إسقاط النفقة من المناسبات التي يشهد لها الشرع بالإبطال والإهدار. وأيضًا فإن الله أمر المطلق أن يمتع المطلقة، فيعطيها متاعًا لما

- في الطلاق البدعي مفسدة راجحة

حصل لها من الذلة بالطلاق، فكيف يسوغ الطلاق الذي يكرهه ويحرمه. وأيضًا فإن هذا الكلام يقتضي جوازَ إيقاع الثلاث جملةً، ونحن في هذا المقام إنما نتكلم على القول بتحريمه، فأما مع القول بجوازه فلا ريبَ في وقوعه. وإذا عُرِف أن هذا مقصود الشارع فالطلاق المسمَّى الشرعي لا يترتَّبُ عليه مفسدة راجحة، بخلاف غيرِه من أنواع الطلاق البدعي المنهي عنه، فإن فيه من المفسدة الراجحة ما أوجبَ أن الله ينهى عنه. والفساد الحاصل في الطلاق والتحليل وخلع اليمين وغير ذلك إنما هو لخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما شرع لهم من الطلاق، فلما فعلوا ما نُهُوا عنه أوجبَ ذلك لهم ضررًا في دينهم أو دنياهم، فإنهم إن لم يخالفوا أمرًا آخر حصل لهم ضرَرٌ في دنياهم بمفارقة الأهل وخراب البيت وتشتيت الشَّمْل وتفرق الأولاد، وبالمطالبة بالصدقات المتأخرة وفرض النفقات، وغير ذلك من أنواع الشرور الحاصلة بالطلاق في الدنيا، وإن دخلوا فيما نُهُوا عنه من تحليل وغيره حصل لهم ضررٌ في دينهم مع الضرر في الدنيا أيضًا، بالعار بدخولهم فيما نُهُوا عنه من الطلاق البدعي، يوجب لهم الضرر والشر لا محالةَ، فإذا أوقعوه فقيل إنه يقع حَصَلَ هذا الضررُ، فإن الضرر لم ينشا من إيقاع لا وقوعَ معه، وإنما نشأ من إيقاع معهُ وقوع. فإذا قيل: إنه يقع، فالضرر حاصل لم يَزُل، والفساد واقعٌ لم يرتفع، ولم يكن في النهي ما يرفع الفسادَ ويُصلحُ العباد، بل كان أن لا يُنْهَوا عنه ويحرم عليهم أقل لضررهم، فإن الضرر حاصل بوقوعه إذا أوقعوه، لكن إذا كان محرمًا زاد الضرر بالإثم، فيبقون آثمين مضرورين، وفساد النهي عنه حاصل مع أن المنهيَّ عنه من باب العقود، والكلام

- الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسد

الذي يقبل الصحة والفساد ليس من باب الأفعال والتأثيرات التي لا يمكن رفعُ موجبها، فإن الطلاق كالنكاح والعتاق والظهار ونحو ذلك مما إذا تكلم به يقع تارةً ولا يقعُ أخرى، ليس وقوعه من لوازم إيقاعِه. والطلاق عند أصحابنا وغيرهم ينقسم إلى صحيح وفاسد، كما قالوا - واللفظ لأبي الخطاب في "الانتصار" - في مسألة المكره: إنه قولٌ حُمِلَ عليه بغير حق فلم يلزمه حكمُه كالإقرار بالطلاق. قال: وهذا لأن لفظ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ، وليس نفوذُه أمرًا محسوسًا لا مردَّ له، فإذا كان محمولاً عليه بالباطل كان مردودًا، لأن الشرع يحكم في الرد والقبول، وقرَّر ذلك. وأما من قال: إن طلاق المكره يقع، كما يقول أبو حنيفة، فإنه يقول مالا يقبل الرفع، كالنكاح والعتاق والخلع، فإنه كالفعل يَنْفُذ مع الإكراه، بخلاف ما يقبل الرفع كالبيع والإجارة والهبة. وعندنا الجميع يقبل الرفع، وإذا كان كذلك فمحرَّمُه يقع فاسدًا. فإن قيل: لو أوقعه سُنيا لغير حاجة؟. قيل: فإن الإنسان أخبرُ بمصلحة نفسِه، فإذا أوقعه على الوجه المشروع لم يمكن أن نقول: ذلك محرَّمٌ عليه. فإن قيل: فأنتم تقولون: الطلاق لغير حاجةٍ محرمٌ أو مكروه وإن كان سُنيا. قيل: هذا كلامٌ مجمل، ولابدّ من تفصيله. قيل: هذا السؤال يَرِدُ على الجمهور الذين قالوا بان الثلاث يحرمُ جمعُها، فإن هؤلاء قالوا: إن الطلاق لغير حاجةٍ محرَّمٌ، والحاجة لا تدعو إلاّ إلى واحدةٍ. ثم لمّا أُورِدَ عليهم هذا السؤال قالوا: العاقل لا يتكلف النكاح والتزام

- طلاق السكران

المهر وحقوق النكاح ثم يُقدِم على الفراق إلاّ لحاجتِه إليه، إمّا لعدم إرادتِه للمرأة وعدم محبتِه لها؛ أو لعدم حصولِ مقصوده بنكاحهِ بها: لكونها ممتنعةً منه، أو لكونها تكلِّفه ما يضره، أو لكون أهلها يكلفونه ذلك؛ أو لبغضِه لها: إما بُغضًا لصورتها أو لخُلُقها أو لدينها أو لِظلمِها له؛ أو لغير ذلك. فأما مع كونه مريدًا لها إرادةً راجحةً على كراهتها فلا يَقصِد إيقاعَ الطلاق أصلاً. ولهذا لم يقع الطلاقُ إلاّ ممن له قصدٌ صحيح يَقصِد به مصلحتَه، فلم يقع بالمجنون بالاتفاق، وإن كان يتكلم باختياره ويفعل باختياره، فإن البهائم تفعل باختيارها، فكيف المجنون، لكن لمّا تغيَّر عقلُه الذي يُوجب أن لا يُميّز بين قصد ما ينفعه وما يَضُرُّه لم يقع به الطلاقُ باتفاق المَسلمين. وكذلك لا يقع بالنائم والمُبَرسَم ولا بمن زالَ عقلُه بغير فعل محرّم منه كالمغمى عليه، بالاتفاق. ولكن تنازع المسلمون في السكران، والذي نصرناه في غير هذا الموضع (1) أنه لا يقع به أيضًا، كما هو قول أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وعقبة بن عامر، ولم نعلم أنه ثبت عن صحابي خلافُ ذلك صريحًا، وهو قول طوائف من أئمة التابعين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها أئمة من أصحابه، كأبي بكر الخلال وأبي الخطاب وغيرهما، وهو طرد ما ذكرناه من الطلاق إذا كان إنما أبيح للحاجة، وهي جلب منفعةٍ أو دفع مضرَّة، فلم يقع إلاّ ممن له قصد صحيح يَجلِبُ به المنفعةَ ويَدفَعُ به المضرَّةَ، وحينئذٍ فإقدامُه عليه دليلُ الحاجةِ.

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/ 102 - 109، 38 - 43،14/ 115 - 118).

- طلاق الهازل

وأما الهازِلُ فذاك لزمه عند من يقول به، لأنه اتخذ آيات الله هزوًا، كما يلزم الكفر لمن تكلم به مستهزئًا، لأنه اتخذ آيات الله هزوًا، لئلّا يستهزئ أحدٌ بآيات الله. وهذا إذا قيل عوقب به كانت العقوبة تدفع أن يستهزئ أحدٌ بآيات الله، كما أن تكفير المسلم بآيات الله هزوًا يمنع أن يستهزئ أحدٌ بآيات الله، فكان في إيقاع الطلاق به زوال هذه المفسدة، وكان ما حصل له من الضرر ضررًا بمن يستحق هذا الضرر، بخلاف المكرَه وبخلاف السكران، فإن ذنبه هو الشرب، ليس ذنبه إيقاع الطلاق، والشارع لا يعاقبه على الشرب بالتزام ما يمكن أن يتكلم به، ولو كان ذلك لعاقبَه بالقتل، لأن السكران قد يتكلم بالكفر، كما قد يتكلم بالطلاق. وعلى هذا فإذا قالوا: الطلاق لغير حاجةٍ محرَّم أو مكروه، قالوا: إن الطلاق الشرعي مباح مأذون فيه. وهذا معنى قوله: "أبغض الحلال إلى الله الطلاقُ" (1)، أي أبغض ما أُبيحَ للحاجة وهو محرَّم بَغِيض إلى الله بدونها: الطلاقُ، كما تقول: أبيحت المحرَّمات للمضطر، أي أبيح له عند الضرورة ما كان محرَّمًا بدونها، ليس المراد به أن الشيء في حالٍ واحدةٍ يكون حلالا حرامًا، كذلك الشيء في حالٍ واحدةٍ لا يكون بغيضًا إلى الله مأذونًا فيه من جهته، فإن هذا تناقض. فصل ومما يُبين هذا أن الله إذا كان يُحب شيئًا فإنه يأمر به أمرَ إيجاب

_ (1) أخرجه أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) عن ابن عمر مرفوعًا. وهو ضعيف موصولاً، والمشهور فيه أنه عن محارب مرسلاً. انظر الكلام عليه في "إرواء الغليل" (2040).

- الأصل تيسير حصول النكاح وتشديد حصول الطلاق

أو استحباب، أمرًا يُيَسر أسبابَه، فإنه ما لا يتم المأمور به إلاّ به فهو مأمور به، وإذا كان يكرهه فهو ينهى عنه نهيَ تحريمٍ أو نهيَ تنزيهٍ، والنكاح في الأصل حسن مأمور به، وأدنى أحوالِه الإباحة، لا ينهى عنه إلاّ لمعارضٍ راجح: كالعجز عن واجباته أو الاشتغال به عما هو أوجبُ منه، كما إذا تعارض الحج المتعيِّنُ والنكاحُ فإنه يُقدّم الحج ونحو ذلك. والطلاق منهي عنه إلاّ لحاجةٍ كما قد عُرِف، فالذي يُناسِب ذلك تيسيرُ حصول النكاح وتشديد حصول الطلاق، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1)، فأمر بالتعاون على ما يحب، ونهى عن التعاون على ما يكره. وطائفة من الناس يعكسون الأمر، فتجدهم يشدّدون النكاح ويُصعِّبون صحتَه، فلا يوقعون ما يحبه الله إلاّ بشرائط كثيرة، وكثير منها لا أصل له في الكتاب والسنة، كاشتراطِ بعضهم لفظَينِ معينَينِ، وهو الإنكاح والتزويج؛ واشتراط بعضهم أن يكون ولي المرأة عدلاً؛ واشتراط بعضهم حضورَ شاهدينِ عدلين مبرزينِ؛ واشتراط بعضهم في صحتِه الكفاءةَ في النسب والدين واليسار والصناعة والحرّية؛ واشتراط بعضهم أن يكون القبول عقب التلقظ بالإيجاب. وهذه الشروط ونحوها لا أصل لها، بل الأصول والنصوص تدلُّ على بطلان اشتراطها. ثمَّ إن طائفةً من الناس يشدِّدون في انعقاده، ويُعيدون اللفظ على العاميّ مرتين أو ثلاثًا، ويزيدون على ما ذكره الفقهاء أمورًا من جنس الوسواس الذي يزيدونه في نيات العبادات. ثم الطلاق الذي يبغضه الله لغير حاجة تجدهم سِراعًا إلى وقوعِه، فيُوقِعونَه على المكرَه والسكران والحالف الحانث الناسي والمكره والجاهل وغير هؤلاء.

_ (1) سورة المائدة: 2.

هذا مع أن الشارع يُضَيق إيقاعَه، فنهى عن إيقاعه في الحيض وفي طهرٍ أصابها فيه، وعن إيقاع الثلاث جملةً، بل أمر أن لا يطلق إلاّ واحدةً في طهرٍ لم يُصِبْها فيه، ولا يُردِفَها بطلاقٍ حتى تقضي العدة إن لم يكن له غرض في رجعتها. وهذا من الشارع تضييق لوقوعه. والنكاح يُشرَع وقتَ حيضِ المرأة ونفاسِها وصومِها واعتكافِها وصومِ الرجلِ واعتكافِه، وإن كان الوطء متعذرًا، ويُشرَع في الأوقات الفاضلة. فالواجب منعُ وقوع ما يُبغِضه الله إلاّ حيث يكون في وقوعه مصلحة راجحة، وتيسيرُ وقوع ما يحبه الله إلاّ إذا كان في وقوعه مفسدة راجحة، وحيث لا تكون مصلحة وقوعِه راجحةً فالأصول تقتضي أنه لا يقع، لأن الشارع لا يُوقع إلاّ ما تكون مصلحته محضة أو راجحةً، وما كان مفسدتُه محضةً أو راجحةً فإنه يَرفعُه ولا يُوقِعه. والله أعلم. (نقلته من خط مصنفه شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله. قُوبل بالأصل بعد نقله منه). ***

(23) فتوى في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة

فتوى في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة

- جمع الطلاق الثلاث محرم عند الجمهور

سئل شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني - قدَّس الله روحَه ونوَّر ضريحَه - عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة، فهل يقع به واحدة أم ثلاث؟. فأجاب: أما جمع الطلقات الثلاث فمحرَّم عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه واختيار أكثر أصحابه، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي - يعني طلاقَ المدخولِ بها - غير قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (1). وعلى هذا القول فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة، بأن يفرِّق الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلّقها في كل طهرٍ طلقةً؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة. والثانية: ليس له ذلك، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك، وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه، كأبي بكر عبد العزيز والقاضي أبي يعلى وأصحابه. والقول الثاني: إن جمع الثلاث ليس بمحرَّم، بل هو ترك الأفضل، وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، واختارها الخِرقي. واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلَّقها زوجها أبو حفص بن المغيرة

_ (1) سورة البقرة: 230.

- احتجاج القائلين بأنه ليس بمحرم ببعض الأحاديث

ثلاثًا، وبأن امرأةَ رفاعة طلَّقها زوجُها ثلاثًا، وبان الملاعن طلق امرأته ثلاثًا ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك (1). وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة فيه أنه طلقها ثلاثًا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة كانت آخر ثلاثِ تطليقات، لم يطلق ثلاثًا لا هذا ولا هذا. وقول الصحابي "طلَّقَ ثلاثًا" يتناول ما إذا طلَّقها ثلاثًا متفرقات، بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها. وهذا طلاق سنّي واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في معنى الطلاق ثلاثًا. وأما جمعُ الثلاث بكلمةٍ فهذا كان منكرًا عندهم، إنما يقع قليلاً، فلا يجوز حملُ اللفظِ المطلقِ على القليل المنكر دون الكثير المحق، ولا يجوز أن يقال طلق ثلاثًا مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قولٌ بلا دليل، بل بخلاف الدليل. وأما الملاعن فإن طلاقه وَقَع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة، التي تحرم بها المرأة أعظم ما تحرم بالطلقة الثالثة، فكذا مؤكدًا لموجب اللعان. والنزاعُ إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، ولاسيما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فرَّق بينهما، فإن كان قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها فدلَّ على بقاء النكاح. واستدلَّ الأكثرون بأنّ القرآن يدلُّ على أن الله لم يُبِح إلاّ الطلاق الرجعي وإلاّ الطلاق للعدَّة، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) إلى قوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (2)،

_ (1) سبق ذكر هذه الأحاديث وكلام المؤلف عليها بتفصيل. (2) سورة الطلاق: 1 - 2.

وهذا إنما يكون في الرجعي. وقوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يدل على أنه لا يجوز إردافُ الطلاق الطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، وإنما أباح الطلاق للعدة، أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية أو الثالثة قبل الرجعة بنت على العدة، فلنم تستأنفها باتفاق المسلمين، وإن كان فيه خلاف شاذ عن خِلاس وابن حزم قد بيّنا فساده في موضع آخر. فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة. ولأنه قال: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، فخيَّره بين الرجعة وبين أن يدعها حتى تنقضي العدة، فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان، وقد قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) (1)، فهذا يقتضي أن هذا حال كلّ مطلقة، فلم يشرع إلاّ هذا الطلاق. ثم قال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) أي هذا الطلاق المذكور مرتان، وإذا قيل: سبّح مرتين أو ثلاث مرات، لم يجز أن يقول: "سبحان الله مرتين"، بل لابدّ أن ينطق بالتسبيح مرةً بعد مرة، وكذلك لا يقال: طلق مرتين إلاّ إذا طلق مرةً بعد مرة. فإذا قال: أنت طالقة ثلاثًا أو طلقتين لم يجز أن يقال: طلَّق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال طلَّق ثلاثَ تطليقاتٍ أو طلقتين، لكن يقال: طلَّق مرةً واحدة. وقال بعد ذلك: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (2)، فهذه الطلقة الثالثة، فلم يشرعها الله إلاّ بعد الطلاق الرجعي مرتين، وقد

_ (1) سورة البقرة: 228. (2) سورة البقرة: 230.

- الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة

قال الله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) (1) وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كلَّ طلاق. فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع. ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار. وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة، كما ثبت في الصحيح (2) عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن إبليس ينصب عرشَه على البحر، ويَبعثُ سراياه، فأقربهم إليه منزلةَ أعظمهم فتنةَ، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلتُ به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما زِلْتُ به حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأتِه، فيُدنِيه منه ويلتزمه ويقول: أنت أنت!! ". وقال الله تعالى في ذم السحرة: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (3). وفي السنن (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات". وفي السنن (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها الطلاقَ من غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة". وفي السنن (6) أيضًا: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".

_ (1) سورة البقرة: 232. (2) مسلم (2813). (3) سورة البقرة: 102. (4) النسائي (6/ 168) وغيره، كما سبق تخريجه فيما مضى. (5) أبو داود (2226) وغيره، كما سبق. (6) أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) عن ابن عمر. وسبق الكلام عليه.

- أقوال الصحابة في جمع الطلاق الثلاث

ولهذا لم تُبَح إلاّ ثلاثُ مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره. وإذا كان إنما أبيح للحاجة فالحاجةُ تندفع بواحدةٍ، فما زادَ باقٍ على الحظر. والناسُ في الطلاق المحرم هل يقع أم لا؟ على قولين، وأقوالُ الصحابة رضي الله عنهم في جمع الطلقات الثلاث كثير مشهور، رُوِي الوقوع فيها عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعمران بن الحصين وغيرهم؛ وروي عدمُ الوقوع فيها عن أبي بكر وعن عمر سنتين من خلافته وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس و. عن الزبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف (1). قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتاب "الوثائق" له (2): فطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثًا في كلمةٍ واحدةٍ، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس. وقال: وذلك لأن قوله "ثلاث" لا معنى له، لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله "ثلاث" إذا كان مخبرًا عما مضى، فيقول: طلَّقتُ ثلاث مرات، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجلٍ يقول: قرأتُ سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصحّ، ولو قرأها مرةً واحدة فقال: قرأتُها ثلاث مرات كان كاذبًا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثًا يُردد الحلفَ كانت ثلاثة أيمانٍ، وأما لو حلفَ بالله فقال:

_ (1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى. (2) طبع بعنوان "المقنع في علم الشروط"، والنص فيه (ص 80 - 81).

- الكلام على حديث ابن عباس الذي رواه مسلم

أحلف بالله ثلاثًا لم يكن حلفُه إلاّ يمينًا واحدة. والطلاق مثله. قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كلَّه عن ابن وضّاح. يعني الإمام محمد بن وضّاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون ابن سعيد وطبقتهم. قال: وبه قال شيوخُ قرطبة: ابن زنباع شيخ هدًى (1)، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصرِه، وابن بقيّ بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة. قلت: وقد ذكر التلمساني هذا رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية، حكاه عنه المازري وغيره، ويفتي بذلك أحيانًا الشيخُ أبو البركات ابنُ تيميةَ. وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" وأبو داود وغيرهما (2) عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحد، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد أستعجلوا في أمرٍ كانت فيه أناة، فلو أمضيْناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفي رواية: إن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم. والذين رَدُّوا هذا الحديث تأولوه بتأويلاتٍ ضعيفة، وكل حديث

_ (1) كذا في الأصل، وفي المقنع: "شيخ وقتنا هذا". (2) سبق تخريجه فيما مضى.

- كل حديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم الثلاث جملة ضعيف بل موضوع

فيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألزمَ الثلاثَ بمن أوقعَها جملةً - مثل حديثا روي عن علي، وآخر عن عبادة، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك - فكلّها أحاديث ضعيفة باتفاقِ أهل العلم بالحديث، بل موضوعة. وأقوى ما ردُّوه به أنهم قالوا: ثبت من غير وجه عن ابن عباس أنه أفتى بلزوم الثلاث (1). وجواب المستدلين أن ابن عباس رُوِي عنه من طريق عكرمة أيضًا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وموقوفًا على ابن عباس، ولم يثبت خلافُ ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالمرفوع أن رُكانةَ طلق امرأتَه ثلاثا (2)، فردَّها عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين عن عكرمة، وهو أثبتُ من رواية عبد الله بن علي بن زيد بن ركانة ونافع بن عجير أنه طلَّقها البتة، وأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلفه ما أردتَ إلاّ واحدةً. فإنّ هؤلاء مجاهيل الصفات، لا تُعرَف أحوالُهم ليوافقَها، وقد ضعَّف أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأبو عبيد وابن حزم وغيرُهم حديثهم. قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: حديث ركانة في البتةِ ليس بشيء. وقال أيضًا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلَّقَ امرأتَه البتةَ، لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنّ ركانة طلق امرأته ثلاثًا.

_ (1) سبق ذكره. (2) سبق الكلام على حديث ركانة عند المؤلف.

- حديث فاطمة بنت قيس

فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتّة بهذا الحديث الذي فيه أنه طلَّقها ثلاثًا، وقال: أهل المدينة يسمّون من طلَّق ثلاثًا البتة، وهذا يدلّ على ثبوت الحديث عنده. وكذلك ثبتَه غيره من الحفاظ. وقد روى أبو داود هذا الحديث في سننه عن ابن عباس من وجهٍ آخر، كلاهما موافق لحديث طاووس عنه. وأحمد كان يعارض حديث طاووس بحديث فاطمة بنت قيس أنّ زوجها طلَّقها ثلاثًا ونحوه. وكان أحمد يروي (1) جمعَ الثلاثِ جائزًا، ثم رجعَ عن ذلك، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو رجعي. واستقرَّ مذهبُه على ذلك، وعليه جمهورُ أصحابه. وتبين أن حديث فاطمة إنما كانت ثلاثًا متفرقاتٍ لا مجموعةً. فإذا كان قد ثبت حديثان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ من جمع ثلاثًا لم يلزمْه إلا واحدة، وليس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلاّ واحدة، وعدولُه عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولى، لما تعارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، وكان ذلك يدلّ على النسخ، ثمّ إنه رجع عن المعارضة، وتبيَّن له فسادُ هذا المعارض وأنَّ جمعَ الثلاث لا يجوز، فوجبَ على أصلِه العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، ولكن علل حديث طاووس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذه علة في إحدى الروايتين عنه. وأما ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه فذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لاسيما وقد بيَّن ابنُ عباسٍ عذرَ عمر بن الخطاب في

_ (1) في الهامش: "لعله يرى".

- إلزام الناس بوقوع الثلاث في عهد عمر كان عقوبة

الإلزام، وهو عذرُ ابن عباسٍ أيضًا، وهو أن الناس لمّا تتايعوا فيما حرَّم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك، فعوقبوا بلزومه، بخلافِ ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مُكثِرين من فعلِ المحرَّم. وهذا كما أنهم أكثروا شربَ الخمر واستخفُّوا بحدّها كان عمر يَضرِب الشاربَ ثمانين ويَنفِي فيها ويَحلِق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكما قاتل عليٌّ رضي الله عنه بعض أهل القبلة، ولم يكن ذلك على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [و] التفريق بين الزوجين هو مما كانوا يُعاقَبون به، إمّا مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرَّقَ بين الثلاثة الذين تخلَّفوا وبين نسائهم - حتى تاب الله عليهم - من غير طلاق. والمطلِّق ثلاثًا حرمت عليه امرأتُه حتى تنكح زوجًا غيرَه، عقوبةً له ليمتنع عن الطلاق. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه كمالك وأحمد - في إحدى الروايتين - حرَّموا المنكوحة في العدَّة على الناكح أبدًا، لأنه استعجلَ ما أحلَّه الله، فعُوقِب بنقيض قصدِه. والحَكَمانِ لهما عند أكثرِ السلف أن يُفرِّقا بين الزوجين بلا عوضٍ إذا رأيا الزوج متعديًا، لما في ذلك من منعِه من الظلم، ورفع الضرر عن الزوجة، وعلى ذلك دلَّ الكتاب والسنة والآثار، وهو مذهب مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. والمقصود هنا التنبيهُ على مآخذِ الناس، فالذين لا يرون الطلاقَ المحرَّمَ لازمًا يقولون: هذا الأصل الذي عليه الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو أن العقود المحرمة لا تقع لازمة، كالبيع المحرَّم والنكاح المحرَّم والكتابة المحرَّمة. ولهذا أبطلوا نكاحَ الشغار ونكاحَ المحلّل، وأبطلَ مالك وأحمد البيعَ عندَ النداءِ يومَ الجمعة. ولكنّ

- قول الشيعة إن جمع الثلاث لا يقع به شيء، لم يعرف عن أحد من السلف

الذين خالفوا قياسَ أصولهم في الطلاق خالفوها لما بلغَهم من الآثار، فلما ثبتَ عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يُلزِمون بذلك إلاّ وذلك مقتضى الشرع. واعتقد طائفة أن لزومَ هذا إجماعٌ، لكونهم لم يعلموا فيه خلافًا، لاسيما وصار القول بذلك معروفًا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق. قال المستدلُّون لهم: أما الشيعة وطائفة من أهل الكلام فيقولون: جامع الثلاث لا يقع به شيء. وهذا القولُ لم يُعرَف عن أحدٍ من السلف، بل قد تقدم الإجماع على نقضه، وإنما الكلام هل يلزمه واحدة أو ثلاث، والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن دفعُه. وليس مع من ألزم بالثلاث وجعل ذلك شرعًا لازمًا للأمة حجةٌ يجبُ اتباعُها، لا من كتابٍ ولا من سنة ولا من إجماع، وإن كان قد احتجَّ بعضُهم بالكتاب، وبعضُهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وبعضهم بالقياس، وقد يحتج بعضهم بحجتين أو أكثر. لكن المنازع تبيَّنَ له أن هذه كلها حجج ضعيفة، وإن كان الكتاب والسنة والاعتبار إنما يدل على عدم اللزوم. وتبيَّن أنه لا إجماعَ في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة من الصحابة تدلُّ على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته شرعًا لازمًا، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقةِ الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزامِ ذلك إذا كَثُر ولم تَنتهِ الناسُ عنه، وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة في غير هذا الموضع. والعقوبة إنما تكون لمن علم التحريم وأقدمَ عليه، وأما من لم يعلم التحريم فلا تجوز عقوبتُه. وعامةُ الآثار المنقولة عن الصحابة تدلُّ على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى الله بإيقاعِها جملةً، فأما من كان متقيًا لله فإن الله يقول:

- الكلام على نكاح التحليل

(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (1)، فمن لم يعلم التحريمَ حتى أوقعها، ثمَّ لما علم التحريمَ تابَ والتزمَ أن لا يعود إلى المحرَّم، فهذا لا يستحق أن يُعاقَب. وليس في الأدلة الشرعية - الكتابِ والسنة والإجماع والقياس - ما يوجب لزومَ الثلاث له، ونكاحُه ثابت بيقين، وامرأتُه محرَّمة على الغير بيقينٍ. وفي إلزامه بالثلاث إباحتُها للغير مع علمه، وذريعة إلى نكاحِ التحليل الذي ذمَّه الله ورسولُه. ونكاح التحليل لم يكن ظاهرًا على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه، ولم يُنقَل قَطُّ أنّ امرأةً بعد الطلقة الثالثة أعيدت إلى زوجها بنكاحِ تحليلٍ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد خلفائه، بل لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلِّل والمحلَّل له، ولعنَ آكلَ الربا ومُوكِلَه وكاتبَه وشاهدَه (2). ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي، لأنّ التحليل الذي كان يُفعَل كان مكتومًا، يَقصِده المحلِّل ويتواطأ عليه هو والمطلِّقُ والمرأةُ ووليُّها، لا يُعلَم قَصدُهم، ولو عُلِمَ لم يَرْضَ أن يُزوِّجَه، فإنه من أعظم المستقبحات والمستنكرات عند الناس. فلما لم يكن على عهدِ عمرَ تحليلٌ، ورأى أنّ في إنفاذِ الثلاث زجرًا لهم عن المحرَّم، فَعَلَ ذلك باجتهادِه رضي الله عنه. أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذُ الثلاث يُفضِي إلى وقوعِ التحليل المحرَّم بالنصّ والإجماع - إجماع الصحابة - والاعتبار، وغيرِ ذلك من المفاسد، لم يَجُزْ أن تزالَ مفَسدة بمفاسدَ أغلظَ منها، بل جَعْلُ الثلاثِ واحدةً في مثل هذه الحال - كما كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر - أولى.

_ (1) سورة الطلاق: 2 - 3. (2) سبق تخريج هذا الحديث.

- ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعا لازما دائما لا يمكن تغييره

ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يُفتُون بلزوم الثلاث في حالٍ دونَ حالٍ، كما نُقِل عن الصحابة، وهذا إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي يجوز فعلُه بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر، والنفي فيها وحلق الرأس؛ وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارةً لازمًا، وتارةً غيرَ لازم. وبالجملة فما شرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره، فإنّه لا نسخَ بعد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا يجوز أن يُظَنَّ بأحدٍ من علماء المسلمين أنه يَقصِد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدين. وإنما يَظُنُّ مثلَ ذلك في الصحابةِ أهلُ الجهلِ والضلالةِ من الرافضة والخوارج، الذين يُكفِّرون بعضَ الخلفاء أو يُفسِّقونه. ولو قُدِّر أنَّ أحدًا فعلَ ذلك لم يُقِرَّه المسلمون على ذلك، فإنّ هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمعَ على مثلِ ذلك. لكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي، فيصيب فيكون له أجران، ويُخطئ فيكون له أجرٌ واحد. وما شرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعًا معلَّقًا بسبب، إنما يكون مشروعًا عند وجودِ السبب، كإعطاء المؤلفةِ قلوبُهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. وبعض الناس ظنَّ أنّ هذا نُسِخَ (1)، لما روي عن عمر أنه ذكر أنّ الله أعزّ الإسلام وأهله، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلَّفةِ قلوبُهم، فترك ذلك لعدمِ الحاجة إليه، لا لنسخِه. كما لو فُرِض أنه عُدِم في بعض الأوقات ابنُ السبيلِ أو الغارمُ.

_ (1) انظر تفسير ابن كثير (2/ 379).

- لماذا نهى عمر عن التمتع في الحج؟

ونحو ذلك متعة الحج، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عنها، وكان ابنُه عبد الله وغيرُه يقولون: لم يُحرِّمها، وإنما قَصَد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دُوَيرةِ أهلِه في غيرِ أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل من عمرةِ المتمتع والقارن باتفاق الأئمة. حتى أن مذهب أبي حنيفة وأحمد المنصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج، وأفرد الحج في أشهره فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد. ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، وقالوا: إنّ هذا يحرم ولا يجوز، وإنّ ما أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه من الفسخ [كان] خاصًّا لهم. وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي. وآخرون من السلف والخلف قالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يَحُجَّ أحدٌ إلاّ متمتعًا مبتدئًا أو فاسخًا، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه في حجة الوداع. وهذا قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيرِه من فقهاء الحديث. وعمر لمّا نهى عن المتعة خالفَه غيرُه من الصحابة، كعمران بن الحصين وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعةِ النساء، فإن عليًّا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباسٍ إبَاحةَ متعةِ النساء، فقال له: إنك امرؤٌ تائهٌ، إنّ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرَّم المتعة وحرَّم لحوم الحمر الأهلية عامَ خيبر. فأنكر عليٌّ على ابن عباس إباحةَ لحوم الحمر وإباحةَ متعةِ النساء. فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم، وهو بيان

- الإلزام بالثلاث اجتهاد من عمر

أن الناس قد أحدثوا ما استحقوا به عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إمّا أن يكون كالنهي عن منع الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصًا بالصحابة، وهو باطلٌ، فإن هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاصَ الصحابة بذلك. وبهذا أيضًا تَبطُل دعوى من ظنَّ أن ذلك منسوخ كنسخ متعة النساء. وإنْ قُدِّر أن عمر رأى ذلك لازمًا فهو اجتهادٌ منه، كاجتهاد من اجتهد في المنع من فسخ الحج، لظنّه أن ذلك كان خاصًّا. وهذا قولٌ مرجوحٌ، قد أنكره غيرُ واحدٍ من الصحابة، والحجة الثابتة مع من أنكره. وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعلَ قول عمر فيه شرعًا لازمًا، قيل له: فهذا اجتهاد قد نازعه فيه غيرُه من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجبَ ردُّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح. فإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تُفعَل عند الحاجة، وهذا الأمرين بعمر (1). ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين: من جهة أن العقوبة بذلك هل تُشرَع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يَرى غيرُه العقوبةَ به، كتحريقِ علي - رضي الله عنه - الزنادقةَ، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس في ذلك. ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقّها، فمن كان من المتقين استحقَّ أن يجعل الله له فَرَجًا ومخرجًا، ولم يستحق العقوبة. ومن لم يعلم أن جمعَ الثلاث محرَّم، ولما علم أنّ ذلك محرم تاب

_ (1) هكذا العبارة في الأصل، ولعلّ هنا سقطًا.

من ذلك، والتزم أن لا يُطلِّق إلاّ طلاقًا سنيا، فنه من المتقين في باب الطلاق. فمثلُ هذا لا يتوجهُ إلزامُه بالثلاث مجموعةً، بل يلزم بواحدةٍ منها. وهذه المسألة من المسائل الكبار، وقد بسطتُ الكلامَ عليها في مواضعَ في نحو مجلدين وأكثر (1)، وإنما نبهنا عليها تنبيهًا لطيفًا. وعلى هذا الراجحُ لهذا الموقع أن يلتزمَ طلقةً واحدةً، ويُراجع امرأتَه. والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل. (تمت المسألة لله الحمد والمنة يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة سنة 1187. بلغ مقابلةً وتصحيحًا). ...

_ (1) لم يصل إلينا أكثر ما كتبه المؤلف في هذه المسألة.

(24) فصل في الإيلاء

فصل في الإيلاء من كلام الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه كتبه أخيرًا بقلعةِ دمشق

- مذهب الجمهور في الإيلاء

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. قال شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله: فصل في طلاق الإيلاء قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)) (1). والذي عليه جمهور الصحابة والعلماء أنه لا يقع به الطلاق، حتى تمضي الأربعة، فإما أن يفئ وإما أن يطلق، وإن طلَّق قبل ذلك جاز. وقد قالت طائفة: إن عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة أشهر، فإذا مضت وقعَ به طَلْقَة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والأول مذهب الثلاثة، وقولهم هو الصواب كما قد بُين في غير هذا الموضع (2). لكن المقصود أنه متى طلق فقد قيل: إنه لا يَقَع إلاّ بائنًا لئلّا يملك الرجعة، وقيل: يقع رجعيًّا، وله الرجعة، ثم تُضرَبُ له مدة الإيلاء. وقيل: للإمام أن يطلق عنه إذا امتنع ثلاثًا. وهذه أقوال ضعيفة، والصواب القول الآخر الذي دلَّ عليه القرآن، وهو أنه إذا طَلَّق أو طَلَّق عنه الإمامُ لم يقع إلاّ طلقة رجعية، لأن الله

_ (1) سورة البقرة: 226 - 227. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (20/ 381)، و"المغني" (11/ 47).

ذكر قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) عقبَ قوله (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ)، فيجب أن تكون هذه المطلقة داخلةً في قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (1). ولهذا يجب عليها العدة ثلاثة قروء باتفاق العلماء، وإن كان له عنها أربعة أشهر، وهذا يؤيد ما قررناه من أنها جعلت ثلاثة قروء لحقّ الزوج في الرجعة، وإذا كانت هذه المطلقة داخلة في قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) وجبَ أن يكون بعلُها أحق بردِّها في العدة كما بينه القرآن. لكن يقال: إنّ الله خيَّره بين شيئين: بين أن يَفيءَ أو يُطلِّق، وهو تخيير بين إمساك بمعروف أو تسريح بحسان، فإذا طَلّق ثمَّ أراد الرجعةَ فقد قدم على الطلاق، فيكون قَدْ فاءَ بعد الطلاق، وحينئذٍ فعليه أن يطأها عقبَ هذه الرجعة إذا طلبت ذلك، ولا يمكن من الرجعة إلاّ بهذا الشرط، لأن الله خيره بين أن يَفيء فيمسكها بمعروف، وبين أن يُسرِّحها بإحسان، فإذا أراد أن يرتجعها فيمسكها بغير معروفٍ لم يكن له ذلك. ولأن الله إنما جعل الرجعة لمن أراد إصلاحًا بقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) (2). وإذا لم يكن مقصودُه حسن عشرتها بالوطء لم يكن مريدًا للإصلاح، فلا يمكن من الرجعة. ولأن الله لما خيَّره بين أن يَفيء وبين أن يطلق، فإن طلَّق واستمر على ذلك فقد اختار الطلاق، ولكن الله جعله أحق من غيره في العدة، فإذا ارتجعها كان قد اختار إمساكها، لم يرد استمرارَ الطلاق، وحينئذٍ فيكون كمن لم يطلق، ولو لم يطلق كان عليه أن يطأها إذا لم يختر الطلاق، كذلك هذا. ولأنه لو سوغ أن يرتجع ولا يطأها أربعة أشهر، ثم يطلق ثم

_ (1) سورة البقرة: 228. (2) سورة البقرة: 228.

- تفسير قوله (يؤلون من نسائهم)، ومعنى من

يرتجعها ولا يطأها أربعةً لكان قد جعل له تربّص سنةٍ، وذلك خلاف القرآن، وفيه إضرار عظيم بها، والله أعلم. فصل وهو سبحانه قال: (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) (1). والإيلاء هو اليمين، وهو القَسَم، وهو الحَلْف، يقال آلَى وائْتَلَى، كقوله (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) (2)، ويقال: تألَّى يتألَّى. وهو سبحانه عَدَّاه بحرف "من" فقال: (مِنْ نِسَائِهِمْ)، وكذلك الاستعمال، كقول عائشة رضي الله عنها: "آلَى من نِسائِه شهرًا" (3)، وهذا استعمال الناس كافّةً يقولونَ "آلَى من نسائه". فحكى ابن الأنباري (4) عن بعض اللغويين أنه قال: "من" بمعنى في أو على، والتقدير: يَحلِفون على وطء نسائهم، فحذف الوطءَ وأقام النساءَ مقامَه، وقيل: تقديره يولون أي يعتزلون من نسائهم. وكلاهما ضعيف، لأن حروف المعاني لا يقوم بعضُها مقامَ بعضٍ عند البصريين، لأنه لو صرَّح فقال: يحلفون على وطءِ نسائهم، لم يدلَّ على أنه حلفَ لا يطأ، بل هذا يُفهَم منه أنه حلفَ على الفعل، والحذفُ إن لم يكن في الكلام ما يدل عليه كان غيرَ جائز. وأيضًا فإنه يقال: اعتزل امرأتَه، لا يقال: اعتزلَ منها. لكن قوله (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) كقوله (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ) (5) و (وَالَّذِينَ

_ (1) سورة البقرة: 226. (2) سورة النور: 22. (3) أخرجه الترمذي (1201) وابن ماجه (2072) من طريق مسروق عن عائشة. وقد روى من طرق أخرى عنها. (4) نقله ابن الجوزي في (زاد المسير) (1/ 257). (5) سورة المجادلة: 2.

يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) (1)، وكلاهما مُضَمَّن معنى الامتناع، فإن المُولي يمتنع باليمين من امرأته، وكذا المظاهر يمتنع بالظهار من امرأته، وكلاهما مقصوده الامتناع والبعد والنفور منها والهربُ منها والتخلُّص منها والفرار منها، فمِنْ هي لابتداء الغاية، ولكن الفعل هنا قد ترك. وإذا قلت: سرتُ من مكة إلى المدينة فالمجرور بمن مبدأ الفعل، كذلك إذا قلت: غَضبتُ من هذا، أو خِفتُ من هذا، أو حَذِرْتُ من هذا، أو فَزِعتُ من هذا ونحو ذلك، كان المجرور هو مبدأ الغاية للفعل المذكور، والمُوْلي والمُظَاهِر هو تاركٌ للمرأة، والمُوْلي ممتنع من وطئها، وإنما يكون بسبب منها، وإن كانت قد تكون مظلومة لكونه يُبغِضُها ويغضب منها وينفر عنها، وإن كانت مظلومة، فبكل حالٍ هو ممتنع منها أي من وطئها، وهو نافر منها. لكنه في الإيلاء هو ممتنع باليمين، وفي الظهار ممتنع بتحريمها لما شبهها بأمه التي تحرم عليه. ولهذا كانوا يَعدُّون هذا وهذا في الجاهلية طلاقًا، إذ لم يكن في شرعهم كفارة يمين ولا كفارة ظهار، فمتى حرَّمها فلا تحرم إلاّ بالطلاق، ومتى ألزمته اليمين تركَ وَطْأهَا، فالزوجة لا تكون ممنوعًا من وطئها، فإذا زال لازمُ النكاح زال. والله سبحانه في البقرة ذكر الأيمان ثم الطلاق، كما أنه في سورتَي التحريم والطلاق ذكر الأيمان ثم الطلاق، وفرق بين الأيمان والطلاق هاهنا وهاهنا، وهو مما يُبين الفرق بين الأيمان والطلاق، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع (2)، ويُبين أن الحلف بالطلاق من باب الأيمان لا من باب الطلاق، كما أن الحلف بالنذر من باب الأيمان لا

_ (1) سورة المجادلة: 3. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (33/ 57 وما بعدها).

- تفسير قوله (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا) الآية

من باب النذر، وكذلك الحلف بالكفر من باب الأيمان لا من باب الكفر، وطَرْدُه الحلف بالعتاق والظهار والحرام. وهو سبحانه في سورة المائدة ذكر كفارة الأيمان، وفي سورة التحريم أحال عليها فقال: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (1). وأما البقرة فنزلت قبل المائدة، فذكر فيها النهي أن يجعلوا الله عُرضةً لأيمانهم (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) (2)، فتضمنت النهي عن أن يجعل الحلف بالله مانعًا من فعل الخير، لكن هذا يقتضي في أول الأمر النهيَ عن الحلف على ذلك حين لم تُشرَع الكفارة، فلما شُرِعتِ الكفارةُ صار النهيُ عن جَعْلِ هذه اليمين مانعةً من فعل ما يحبه الله، فإنه إما أن لا يحلف بها فيجعلها مانعةً، وإما أنه إذا حَلَفَ لا يَجعلُ الحلفَ بها مانعًا، فإن الكفارة مشروعة عن اليمين. ولهذا تنوعت عبارات المفسرين للآية، قال أبو الفرج (3): وفي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها لا تحلفوا بالله أن لا تبرّو ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. هذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن جبير وإبراهيم والضحاك وقتادة والسدّي ومقاتل والفراء وابن قتيبة والزجاج في آخرين. والثاني: أن معناها لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبرُّوهم وتُصلحوا بينهم بالكذب. روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس.

_ (1) سورة التحريم: 2. (2) سورة البقرة: 224. (3) أي ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/ 254).

والثالث: لا تكثِروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين مصلحين، فإنّ كثرة الحلف ضربٌ من الجرأة عليه. هذا قولُ ابن زيد. قلت: الحلفَ بالله كاذبًا لا يجوز مطلقًا، ولكن هذه الآية لم يقصد بها النهي عن الحلف الكاذب، وأما الإكثار من الحلف به مع الصدق فإنه ليس بمحرَّم، والآية تضمنت نهيًا يوجب التحريم، والحلفُ بالله تعظيمٌ له. وقد حلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مراتٍ متعددة، وأمر الله تعالى بالحلف في ثلاث مواضع، قال تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) (1)، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) (2)، وقال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) (3). وما يُروى عن الله تعالى أنه قال: "لا تحلفوا بي صادقين ولا كاذبين" كلامٌ لا إسنادَ له عن الله تعالى، ليس مما أنزله الله على محمد، ولا نُقِل عن نبي قبله بإسنادٍ يُعرَف. وطائفةٌ من النسّاك يستحبون أن لا يحلف أحدٌ قَط، وينهون عن ذلك، ولكن ليس هذا شرعَ الإسلام. كما أن طائفة يستحبون الصمت مطلقًا حتى عن الكلام الواجب والمستحب، وليس هذا من شرع الإسلام، بل قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (4). فما كان واجبًا أو مستحبًّا فقوله خيرٌ من السكوت عنه، والسكوتُ عن الواجب

_ (1) سورة يونس: 53. (2) سورة سبأ: 3. (3) سورة التغابن: 7. (4) أخرجه البخاري (6018،6136،6138،6475) ومسلم (47) من حديث أبي هريرة.

- تحقيق الحق في ذلك

محرَّم. وما لم يكن خيرًا فهو مأمور بالصمت عنه، فإنه عليه لا له، كما قد بُسِط هذا في مواضع (1). وفي الحديث المرفوع: "لا تحلفوا إلاّ بالله، ولا تحلفوا إلاّ وأنتم صادقون" (2). وهذا مبسوط في موضعه. وعامة السلف والخلف على أن المراد بالآية المعنى الأول، وهو أن لا يجعل الحلف بالله مانعًا من فعلِ ما أمر الله به، فإن هذا حرام لا يجوز، لم يبح الله أن يجعل الحلف به مانعًا من فعل ما أمر به، بل ما أمر به هو يحبّه ويرضاه، وهو واجب أو مستحب، والحلفُ به على تركِ ذلك يمين ليست بواجبة ولا مستحبة، فلا يجوز أن يجعل ماليس بطاعةٍ لله مانعًا من طاعة الله. والله تعالى لما أنزل الكفارة جعلَ الكفارة تحلَّةَ اليمين، كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من حلف على يمينٍ فرأى غيرَها خيرًا منها فليأتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" (3). وأما قبل إنزاله الكفارة فآيات البقرة ليس فيها كفارة، فقيل: كان يجوز الحنث بلا كفارة، لكن هذا لم يثبت. وقيل: بل كان منهيًّا عن الحلف، ثم إذا حلف كان عاصيًا قد ورَّطَ نفسَه بين ذَنْبَين، والحنث منهيٌّ عنه، وجَعْلُ اليمين مانعةً من الخيرِ منهيٌّ عنه. ثم إن الله تعالى شرعَ الكفارة، فصار الحالفُ قادرًا على التكفير. وهذه العبارة التي ذكرها أبو الفرج من أن معناها النهي، عن الحلف

_ (1) انظر "مجموع الفتاوى" (25/ 292 - 294،7/ 49،22/ 315). (2) أخرجه أبو داود (3248) والنسائي (7/ 5) من حديث أبي هريرة، وهو صحيح. (3) أخرجه مسلم (1650) من حديث أبي هريرة.

بالله على ترك طاعته، يُناسِب ما كان الأمر عليه قبل الكفارة، وعبارة كثير من المفسرين أن معناها إذا حَلَفْتَ فلا تجعلْ حلفك بالله مانعًا من فعل الطاعة، وهذا يناسب الحال بعد الكفارة، والآية تتناول هذا وهذا. قال كثير من المفسرين - واللفظ للبغوي (1) -: معنى الآية لا تجعلوا الحلفَ بالله سببًا مانعًا لكم من البر والتقوى، يُدعَى أحدُكم إلى صلة رحم أو برً فيقول حلفتُ بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البرّ. وذكر الحديث الذي في الصحيح (2) عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من حَلَفَ بيمينٍ فرأى خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأتِ الذي هو خير". وروى ابن أبي حاتم وغيرُه (3) ما في تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنعِ الخيرَ. قال ابن أبي حاتم (4): ورُوي عن مسروق وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي ومجاهد وعطاء والزهري والحسن وعكرمة وطاوس ومكحول ومقاتل بن حيان وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسُّدّي نحو ذلك. وقال (5): حدثنا أبي ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل نا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن عطاء قال:

_ (1) "معالم التنزيل" (1/ 200). وانظر: القرطبي (3/ 97،98) وابن كثير (1/ 273). (2) مسلم (1650). (3) تفسير ابن أبي حاتم (2/ 407) والطبري (4/ 422 تحقيق شاكر) و"السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 33). (4) "تفسيره" (2/ 407). (5) المصدر نفسه (2/ 406).

- تفسير اللفظ من جهة العربية، وتقدير الكلام

جاء رجل إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! إني نذرتُ إن كلمتُ فلانًا فكل مملوك لي عَتيق لوجه الله، وكل مالٍ لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعلْ مملوكيك عتقاء لوجه الله، ولا تجعل مالك سترًا للبيت، فإن الله يقول: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) الآية، قالت: فكفرْ عن يمينك. ورَوى (1) عن السُّدي قال: وأما "تبروا" فالرجل يحلف أن لا يَبرَّ ذا رَحِمِه، فيقول: قد حلفتُ، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذِي رَحِمه، وليبرَّه ولا يُبالِ بيمينه. وعن عبد الكريم الجزري (2) قال في قوله (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) قال: التقوى يحلف ويقول: قد حلفتُ أن لا أعتق ولا أصدق. وعن سعيد بن جبير (3) في قول الله (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) قال: كان الرجل يريد الصلح بين اثنين، فيُغضِبه أحدُهما أو يتهمه، فيحلف أن لا يتكلم بينهما في الصلح، قال: أن تصلوا القرابة وتتقوا وتصلحوا بين الناس فهو خير من وفاء اليمين في المعصية. قال ابن أبي حاتم (4): ورُوي عن السُّدي نحو ذلك، وقال: هذا قبل أن تنزل الكفارات. وأما تفسير اللفظ من جهة العربية، فقال الفراء (5): والمعنى ولا

_ (1) المصدر نفسه (2/ 407). (2) المصدر نفسه (2/ 407). (3) المصدر نفسه (2/ 407). (4) المصدر نفسه (2/ 408). (5) "معاني القرآن" (1/ 144).

تجعلوا الله معترضًا لأيمانكم. وقال أبو عبيد (1): نصبًا لأيمانكم. وقال طائفة- واللفظ للبغوي (2) -: العرضة أصلُها المدُّ (3) والقوة، ومنه قيل للدابة التي تصلح للسفر عرضة لقوتها عليه، ثم قيل لكل ما يصلح لشيء: هو عرضة له، حتى قالوا للمرأة: هي عرضة للنكاح إذا صلحت له. والعرضة كل ما يعترض له فيمتنع عن الشيء. ثم قال: ومعنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله سببًا، إلى آخر كلامه المتقدم. قلت: فعلى هذا يكون التقدير لا تجعلوا الله معروضًا لأيمانكم تقصدون الحلف به لئلا تفعلوا الخير، ويكون قوله (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) من تمام ما نُهوا عنه، أي لا تجعلوا الله محلوفًا به لئلا تفعلوا الخير، فتجعلوا ما يجب من تعظيم حقه والحلف به مانعًا لكم من فعل ما يحبه ويرضاه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإذا قيل: هو عرضة لكذا، أي هو أهل أن يتعرض إليه بكذا، فلا تجعلوه عرضة لليمين أن تبروا وتتقوا، أي كراهة أن تبروا وتتقوا. هذا تقدير البصريين. وتقدير الكوفيين لئلا تبروا وتتقوا وتصلحوا (4)، أي السبب الداعي لكم إلى أن يكون عرضة لأيمانكم كراهة فعل الخير، فلما كرهتم فعلَ ما يحبه جعلتموه عرضة ليمينكم، لتكون اليمين به مانعةً لكم من فعل ما كرهتموه من الخير، فهذا لا يجوز. وعلى ما قال السُّدِّي المعنى: لا تجعلوا الله معترضًا بينكم وبين

_ (1) كذا في الأصل و"زاد المسير" (1/ 253) الذي نقل عنه المؤلف. ولعل الصواب أبو عبيدة، وهذا قوله في "مجاز القرآن" (1/ 73). (2) "معالم التنزيل" (1/ 200). (3) كذا في الأصل، وعند البغوي: "الشدة". (4) انظر: تفسير القرطبي (3/ 98).

ما أمر به. لكن لفظ الآية (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا)، ولم يقل "بينكم"، فتضمن العرضة معنى المنع، لأن المعترض بين الشيئين مانع بينهما، ويكون المعنى لا تجعلوا الله مانعًا لكم من البر والتقوى، ويكون (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) منصوبًا (1) بالعرضة. لكن هذا ضعيف في العربية، فإنه قال: (عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، فدلَّ على أنه معروض لليمين، وهو فُعْلَة بمعنى المفعول، لا بمعنى الفاعل، وهو المعارض المانع. (آخر ما كتب فيها، والحمد لله وحده. بلغَ مقابلةً بالأصلِ خط المؤلف، ومنه نُقِل. والحمد لله رب العالمين). ...

_ (1) في الأصل: "منصوب".

فصل في الظهار من كلام شيخ الإسلام، إمام الأئمة الأعلام، تقي الدين، أوحد العلماء العاملين أبي العباس ابن تيمية رحمة الله عليه مما صنفه بقلعة دمشق في محبسه الأخير

(25) فصل في الظهار

بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يَسِّرْ وأعِنْ الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا. فصل في الظِّهار قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)) (1). وقد عُرِفَ أنها نزلتْ في خولة بنت ثعلبة لما تظاهر منها أوس بن الصامت (2)، وكان الظهار والإيلاء طلاقًا عندهم، فلما أتتِ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجادلتْه واشتكت إلى الله أنزلَ هذه السورة. وكانت قد قيل لها: إنه

_ (1) سورة المجادلة: 1 - 4. (2) أخرجه أحمد (6/ 410) وأبو داود (2214،2215) عن خولة بنت ثعلبة.

- تفسير هذه الآيات

وقع بكِ الطلاقُ، على ما كانت عادتهم، وذلك أن موجب هذا اللفظ. أنها تحرم عليه أبدًا، لأنه شبَّهها بأمّه يَقصِدُ تحريمها، فمقصوده تحريمها، والتحريم لا يكون إلاّ بزوال الملك بالطلاق، فلهذا كان طلاقًا. والإيلاء هو حلف على أنه لا يَطأها، ولم يكن عندهم لليمين كفارة، فكانت اليمين تمنعه من وطئها، والمرأة لا تكون محرمة الوطء أبدًا، فتقع به الطلاق. فالظهار أوجب تحريمَ وطئها، والإيلاء أوجبَ تحريم وطئها، وكلاهما ينافي موجبَ النكاح، فإن النكاح لا يكون إلاّ مع حلّ الوطء. فلهذا كانوا يرون هذا وهذا طلاقًا، حتى أنزل الله تعالى في الظهار الكفارة الكبرى، والمُوْلي خَيَّره بين أن يَفِيء وبين أن يُطلّق، فإنه إذا فاءَ ورجعَ كان له مخرج بالكفارة، كما قال: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1)، وقال: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (2). قال سبحانه: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) (3)، كما قال في الآية الأخرى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) (4). وهم كانوا يعرفون أنهم ما هنّ أمهاتهم، لكن شبهوهنّ بهنّ، فأقاموا الزوجة مقام الأمّ، وجعلوها مثل الأمّ، فبيَّن الله تعالى بطلانَ هذا التشبيه، وأنّ الأمّ هي التي ولدتْك، والزوجة لم تلد، فامتنع أن تكون أمًّا أو مثل الأمّ.

_ (1) سورة البقرة: 226. (2) سورة التحريم: 1. (3) سورة المجادلة: 2. (4) سورة الأحزاب: 4.

ثم قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) (1). فالمنكر ضدّ المعروف، والزور الكذب، والكذب يكون في الأخبار، والمنكر هو المكروه المذموم المعيب، وذلك يكون في الأفعال والإنشاءات، كالأمر والنهي وصيغ العقود، كقوله: أنتِ عليَّ كظهر أمّي، تضمنت إنشاءًا وإخبارًا، فكانت منكرًا من القول باعتبار ما فيها من الإنشاء، وكانت زورًا باعتبار ما فيها من الإخبار، فإن كونه يجعل زوجته الحلال التي ما ولدتْه مثل أمّه الحرام التي ولدتْه أمر منكرٌ مكروهٌ بَغيض، تنفر عنه القلوب لما فيه من القبح، وهو زور أيضًا لما فيه من الكذب. فدلَّ القرآن على أن المنكر من القول والزور لا يقع به طلاقٌ، وإن قَصَدَ به الإنسان الطلاق، كما كانوا يقصدون الطلاق بهذا القول. ودلَّ القرآن على أنه ليس كل لفظ يَقصِد به الإنسانُ الطلاقَ يقع به الطلاق، بل لابُدَّ أن يكون ذلك القول ليس منكرًا من القول ولا زورا. فكان في هذا دلالة على مذهب الجمهور من السلف والخلف أن صيغة الحرام لا يقع بها طلاق إذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، فإنّ هذا هو مثل قوله: أنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، لكنه هنا صَرَّح بالحكم الذي هو مقصود التشبيه، وهو منكر من القول، حيث جعل الحلال حرامًا، وهو زورٌ أيضا، فإن الحلال لا يكون حرامًا. وقول من قال: إنه طلاق هو شبيه بقولهم في الجاهلية: إنّ الظهار طلاق. بل دَلَّ هذا على أن الحرام لا يكون طلاقًا ولو قُصِدَ به الطلاق، كما أنّ الظهار لا يكون طلاقًا وإن قُصِدَ به الطلاق. وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره.

_ (1) سورة المجادلة: 2.

- إذا قصد بالحرام الطلاق هل يكون طلاقا؟

وللناس هنا ثلاثة أقوال (1): فذهب بعض المالكية إلى أن الظهار إذا قصد به الطلاق كان طلاقًا كالحرام، وهذا قياس قولهم، لكنه هو قولهم في الجاهلية، وهذا رجوع إلى قول أهل الجاهلية. وذهب طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنه إذا قصد بالحرام الطلاق كان طلاقًا، خلاف الظهار. وهؤلاء أرادوا أن يجمعوا بين نصّ الظهار وبين ما اعتقدوه قياسًا في الكنايات، وأنه أيّ لفظٍ قصد به الطلاق وقع، فتناقضوا؛ فإن لفظ الظهار إذا قصد به الطلاق لم يقع، ولا فرقَ بينه وبين لفظ الحرام. فإن قالوا: اللفظ إذا كان صريحًا في حكم، ووجد نفاذًا فيه، لم يجز جَعْلُه كنايةً في غيره. قيل لهم: فهذا يدلُّ على أنه ليس كلُّ ما احتمله اللفظ كان كنايةً فيه، بل لابدّ أن يكون صريحًا في حكمٍ آخر، وحينئذٍ فلِمَ قلتم: إن الحرام ليس بصريح في الظهار كلفظ الظهار؟ وما الفرق بينه وبين لفظ الظهار؟. وأما أحمد فإن نصوصه المتواترة عنه أنه يجعله صريحًا في الظهار، لا يقع به الطلاق ولو نواه به. وأيضًا فإمًا أن يُجعل الظهار كنايةً في الطلاق، وإمّا أن لا يجعل، فمن جعله كنايةً فيه فقد أتى بقولِ أهل الجاهلية الذي أبطله القرآن،

_ (1) انظر "المغني" (10/ 397،11/ 61)، و"مجموع الفتاوى" (32/ 295،309؛ 33/ 74،160).

- مناقشة المؤلف لمن يقول: اللفظ إذا كان صريحا في حكم ووجد نفاذا لم يكن كناية، وبيان بطلانه من وجوه

ومن لم يجعله كنايةَ فإمّا أن يقيس عليه ما كان في معناه فلا يقع به طلاق، وإمّا أن لا يقيس، فإن لم يَقِسْ فإنه يقول: اللفظ إذا كان صريحًا في حكم ووجد نفاذًا لم يكن كنايةً في غيره، وجعلوا هذا هو عمدتهم في الفرق بين الطلاق بالظهار والطلاق بغيره، فيقولون: الظهار صريح في حكم، وقد وجد نفاذًا فيه، فلا يكون كنايةً في الطلاق، بخلاف غيرِه من الألفاظ، مثل لفظ الحرام والخلية والبرية، فإن تلك ليست صريحة في حكم، فلهذا كانت كنايةً في الطلاق. فيقال: هذا الفرق باطل من وجوهٍ: أحدها: أن قول القائل "اللفظ إذا كان صريحًا في حكم ووجد نفاذًا لم يكن كنايةً في غيره" دعوى مجردَّة لم يُقِم عليها دليلاً، ولم يثبِتْها بنص ولا إجماع ولا قياسٍ صحيح. الوجه الثاني: أن يقال: هذه الدعوى باطلة، فإن اللفظ الصريح في حكمِ ليس من شرطه أن لا يكون مستعملاً في غيره، لا مطلقًا ولا مقيدًا، بل ولا يجب أن يكون نصًّا فيه، بل إذا كان ظاهرًا فيه بحيث يكون هو المفهوم عند الإطلاق فهو صريح فيه، وإن كان محتملاً لغيره، وإن كان قد يراد به غيره مع التقييد والقرينة، وحينئذٍ فإذا كان صريحًا في حكمٍ فمعناه أن المفهوم منه عند الإطلاق هو المعنى المقتضي لذلك الحكم. كلفظ التطليق، هو عند الإطلاق يُفهَم منه إيقاع الطلاق، وإن قيل: إنه صريح في المعنى الموجب للحكم فهو صريح في الإيقاع المقتضي للوقوع، وكذلك إن قيل: هو صريح فيهما. وإذا كان هذا معنى الصريح أمكن أن يكون مستعملاً في معنى آخر يريده به المتكلم مع القرينة، وحينئذٍ فلا يكون صريحًا في معنًى مانعًا عن استعماله في معنى آخر، كسائر الألفاظ التي هي ظاهرة في

معنًى وتُستعمل في غيره مع القرينة. الوجه الثالث أن يقال: عامة الألفاظ الصريحة في معنًى وحكم تكون كنايةً في غيره مع وجود النفاذ، كلفظ التطليق، فإنه صريح في الإيقاع إيقاع الطلاق، ثم إذا قال: أنتِ طالقٌ من وثاقٍ، أو من زوجٍ كان قبلي، أو من نكاح قبل هذا، ووصله بهذا لم يقع بها طلاق، وهذا مما لا أعلم فيه نزاعًا، ولو قصد ذلك بقلبه فقال: أنتِ طالق، ومرادُه من وثاق، أو من الجبل الذي كنت مقيدةً به، أو من زوج قبلي، أو منّي قبل هذا النكاح، فإنه لا يقع به الطلاق في الباطن، بل يدين فيما بينه وبين الله. وهل يُقبَل في الحكم؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، فاللفظ صريح، ووجد نفاذًا، ومع هذا كان كنايةً في الطلاق من الوثاق. وفي حديث فيروز الديلمي (1) لما خيَّره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين زوجتيه، وكان قد جمع بين الأختين، قال: فعمدتُ إلى إحداهما، فطلقتُها. أراد بتطليقها إرسالها وتسريحها، وإلاّ فإحداهما قد حَرُمتْ عليه، لا تحتاج إلى طلاق. وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد وغيرهما فسخٌ لا طلاق، وقد سماها طلاقًا. وكذلك لو قال في الخلع: هي طالق تالق، كان خلعًا موجبًا للبينونة، لأنه قيَّده بالعوض، فتكون فرقةً بائنةً، كما لو كان بغير لفظ الطلاق في أحد قولي العلماء، كما قد بُسط في موضعه.

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 232) وأبو داود (2243) والترمذي (1129،1130) وابن ماجه (1951) من حديث الضحاك بن فيروز عن أبيه. وانظر الكلام عليه عند المؤلف في "مجموع الفتاوى" (32/ 317 - 319).

وكذلك لفظ الحرية الذي يقولون: إنه صريح في العتق، من نوى به أنه عفيف غير فاجر، لم يقع به العتق، بل يقبل منه، لاسيما عند القرينة، كما لو قيل له: ما حالُ مملوكك هذا؟ وكيف دينُه وخُلقُه؟ فقال: هو حُرٌّ. فهذه القرينة تبين أنه أراد أنه عفيف، لم يُرِد إعتاقَه، فلا يعتق، وإن قيل: هو صريح وقد وجد نفاذًا. وكذلك لفظ النكاح والتزويج، هما صريح في العقد، ثم إذا قال: أنكحت أو زوجتك فلانةً، ومع هذا فهو محتمل للخبر عن عقدٍ ماضٍ. وكذلك سائر صيغ العقود، إذا نوى ذلك كان محتملاً، وإن كانت القرينة تدلُّ على ذلك قُبِل منه. وأيضًا فلو قيل: زوجْتك بهذه، فهو محتمل قَرَنْتك بها، كما في قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً) (1). وهذا يراد باللفظ مع ما يدل على ذلك، كما لو جمع بين الصغار بين كل صغير وصغيرة في موضع قيل: زَوَّجْ هذه بهذا وهذه بهذا، أي اقرِنْها به. وقد يقال: أنكحتك فلانة، بمعنى مكَنتك من سَبْيها وأخذها، كما قال الشاعر: ومن أيّمٍ قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال (2) وكذلك لفظ الوقف، يراد به تحبيس الأصل، وقد يقال: وقفتُ هذا، أي وقفتُه في السوق لأبيعه. وكذلك ألفاظ الإيلاء، إذا قال: والله لا وَطِئت، فقد يراد: لا وَطِئتُك برجلي، ولو أراد ذلك لم يكن مُوليًا في الباطن، وفي قبوله في الحكم نزاع.

_ (1) سورة الشورى: 50. (2) كذا في الأصل، والشطر الثاني ناقص. ولم أجد البيت في المصادر.

فعامة الألفاظ الصريحة تكون كنايةً في معنًى آخر، مع كون المحل قابلاً لمعنى الصريح. فعُلِم أن هذه الدعوى باطلة، وإنما ذكرت في الظهار ليفرّق بها، وليس هو فرقًا صحيحًا. الوجه الرابع: أنه لو سُلِّم أن الأمر كذلك، فلا ريب أن لفظ الظهار كان في عرفهم يراد به الطلاق، أو يحتمل أن يراد به الطلاق، فكان صريحًا في الطلاق أو كنايةً فيه، والأرجح أنه كان صريحًا فيه، فإنه إذا كان ظاهرًا أوقعوا به الطلاق، ولم يسألوه عن نيته، فإنّ مقتضاه تحريم الوطء على التأبيد، والزوجة لا تكون كذلك، وسواء كان صريحًا أو كناية فالشارع أبطلَ إيقاعَ الطلاق به. وإن قصدوه دون غيره من ألفاظ الصرائح والكنايات، فلابّد من فرقٍ بينه وبين غيره لأجلِه فرق الشارع بينهما، وإلاّ فلِمَ أَبطل وقوع الطلاق بهذا اللفظ دون غيره من الألفاظ المحتملة؟ ولِمَ جَعل له حكمًا آخر غيرَ وقوع الطلاق؟ فذلك المعنى إن كان مختصًّا بهذا اللفظ، وإلاّ قِيْسَ به ما كان في معناه، ومعلومٌ أن قوله "أنتِ عليَّ حرام" في معنى "أنتِ عليَّ كظهر أمّي"، فيجب أن يقاس به. فإن قال هؤلاء: نحن نقيسُ به لفظ التحريم، لأنه في معناه. قيل: وإن كان هذا في معناه، فالشارع إنما علل بكونه منكرًا من القول وزورًا، فيجب أن لا يقع الطلاق بقولٍ منكر ولا بقولٍ زور، وإن كان صاحبه قصد الطلاق. وهذا يقتضي أن لا يقع الطلاق بلفظ محرم. والمطلّق في الحيض مطلِّقٌ بلفظ محرم، وهو منكر من القول، فيجب أن لا يقع به الطلاق، وكذلك المطلِّق ثلاثًا بكلمة أو كلماتٍ بدون رجعةٍ أو عقدٍ قد أتَى بمنكرٍ من القول، فيجب أن لا يقع به، وكلاهما أتى بزورٍ، فإن الزور الكذب، وكلاهما اعتقد أنه يملك

ما أوقعه، وذلك زور وكذب، فلم يُملِّكْه الله إلاّ الطلاق المباح، وأما الحرام فلم يُملّكه إياه. وفي الآية سؤال، وهو أن الله قال: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) (1)، كما قال في الآية الأخرى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) (2). والمتظاهر ما قال: إنّ زوجته أمُّه، لكنه شبَّهها بها، وهو لم يقل: "ما هن مثل أمهاتهم"، بل قال: "ما هن أمهاتهم". فيقال: المتظاهر مقصودُه تحريم الوطء، وقوله "أنتِ عليَّ كظهر أمّي" معناه: وطؤك مثل وطء أمي، فمقصوده تشبيه الوطء بالوطء، وأن يكون وطؤها مثل وطء أمه، وذلك يقتضي أن تكون حرامًا، ووطؤها لا يكون مثل وطء أمّه إلاّ إذا كانت من جنس أمّه، وإلاّ فإذا تباينت الحقائق تباينت أحكامها، فكان موجب قولهم أن تكون الأزواج من جنس الأمهات، كما تكون أمُّ الأب والأمِّ من جنس الأمّ في التحريم والمحرَّمِيَّة، فبيَّن الله تعالى أن هذَا الجنس ما هو هذا الجنس، بل جنس آخر، فقال: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، وقال (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ)، كما قال (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ) (3). وهم لم يكونوا يقولون: هو مولود منه، بل جعلوه من جنس المولود، فجعلوا حكمه حكم المولود منه الذي هو الابن، فقال تعالى: هذا ما هو من جنس الابن، فلا يكون حاله حالَه.

_ (1) سورة المجادلة: 2. (2) سورة الأحزاب: 4. (3) سورة الأحزاب: 4.

والمعقول من الكتاب والسنة أنه إذا كان إنما لم يقع به الطلاق لأنه منكر من القول وزور، فكل قولٍ هو منكر أو زور لا يقع به طلاقٌ، والطلاق المحرم منكرٌ من القول، لأنه محرَّم، وكل محرَّم منكر، وكونُه منكرًا يوجب أن لا يترتب أثره عليه. وقد يقال: هو زور، لكونه اعتقد أنه يملك إيقاعَه، وهو كاذب في هذا الاعتقاد، فإنّ الله لم يُملّك أحدًا ما هو محرَّم، فكل قولٍ أو فعلٍ محرم فإن الله نهى عنه، ولم يأذن فيه، ولم يجعل العبد مالكًا له. والظهار لما كان محرمًا لم يملك أحد أن يظاهر، ولم يُبحْه، وإذا ظاهر لم يترتب على الظهار موجبه، وهو التحريم الموجب لزوال الملك ووقوع الطلاق، كما كانوا عليه في الجاهلية، بل جعل عليه كفارةً إذا اختار بقاءَ امرأتِه ووطئها، لكونه حرَّمها، وهو قد فرضَ التَّحِلَّةَ، وإن اختار أن يفارقها ويطلّقها فقد أنشأ طلاقًا شرعيًّا مباحًا، وذلك له، ولا كفارة عليه، بل عليه أن يستغفر الله من الظهار، فإنه ذنب. والكفارة لا تجب بكل ذنب، كما لو حرَّم الحلال بيمين أو غير يمين فإنه منهيٌّ عن ذلك بقوله: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) (1)، وقوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) (2)، ومع هذا فلا كفارة عليه إلا إذا عاد فاستحل ما حرَّمه، دون ما إذا اجتنبه، وذلك أنه إذا اجتنبه وطلَّق المرأة، ففي هذا من الحرج والضرر عليه ما يشبه جزاء ذلك الذنب، فلابدّ من التكفير أو اجتناب ما حرَّمه، وهو في المرأة بطلاقها،

_ (1) سورة المائدة: 87. (2) سورة التحريم: 1.

- تفسير العود في الآية

وكانوا قبل أن يشرع الله الكفارة يتعين اجتناب ما حرَّموه، لا يباح بكفارة. وهذا الذي ذكرناه من أن الكفارة لا تجب إلاّ إذا عاد، هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف (1)، وحُكِيَ عن طائفة أن الكفارة تجب بمجرد الظهار، حكي ذلك عن مجاهد والثوري. قال الحاكي عنهما: والمراد من العود هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار. وهذا القول في تفسير العَوْد هو معروف عن ابن قتيبة، فإنه لما أنكر على من قال: إنه لا يقع بلفظ واحد، قال (2): وإنما تأويل الآية أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلافَ حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) يريد في الجاهلية (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) في الإسلام، أي يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام. وهذا كما قد قيل في قوله في الصيد: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) أي في الجاهلية، (وَمَنْ عَادَ) أي في الإسلام (فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) (3). قلت: وهذا قول ضعيف، فإنه قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)، فلابدّ من عَوْدٍ بعد الظهار، والعود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية هو نفس الظهار.

_ (1) انظر تفسير الطبري (28/ 6 - 8) وابن عطية (15/ 438 - 440)، و"زاد المسير" (8/ 183 - 185)، والقرطبي (17/ 280 - 281)، وابن كثير (4/ 344). (2) "تفسير غريب القرآن" ص 456 - 457. (3) سورة المائدة: 95.

وأيضا فأوَّل ظهار كان في الإسلام أنزلَ الله فيه هذه الآية، ولم يكونوا بعدُ قد نُهُوا عن الظهار حتى يقال: إنه كان عائدًا إلى ما نُهُوا عنه. وأيضا فليس من شرط ثبوت الظهار أن يكون قد تظاهر من امرأته في الجاهلية، ولو كان ما ذكروه صحيحًا لم يثبت إلاّ فيمن تظاهر منها في الجاهلية، ثم عاد إلى ذلك في الإسلام. وهذا معلوم البطلان باتفاق المسلمين. وأيضًا فأوس بن الصامت لم يكن قد تظاهر من امرأته قبل ذلك، ولو كان قد تظاهر منها لكان ذلك طلاقًا عندهم. وأيضا فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسألْه هل تظاهرتَ منها قبلَ هذا. وأيضا هو لم يقل: "والذين تظاهروا منكم" بصيغة الماضي، بل قال: "يظاهرون"، وهذا يتناول الحالف بالاتفاق. وقريب من هذا القول قول الشافعي: إنه إذا أمسكها عقبَ الظهار زمانًا يتَّسِع للطلاق ولم يطلّقها فيه لزمتْه الكفارة. والعَود عنده هو مجرد إمساكها هذا الزمنَ اليسيرَ بلا طلاق، فن طلَّقها عقبَ الظهار، أو مات أحدهما عقبَ الظهار، فلا كفارة. وهذا القول لم يُنقَل عن أحدٍ من السلف، وهو ضعيف أيضًا، فإنه قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)، و"ثم" توجب الترتيب، وتقتضي المهلة، فلابدّ أن يَحصلَ بعد الظهار عَوْدٌ مرتب عليه في زمانٍ متمهّلٍ فيه، ولو كان العود لا يكون إلاّ عقبَ الظهار لقال: "فيعودون إلى ما قالوا". وأيضًا فإن العود يقتضي إنشاءَ فعلٍ أو كلامٍ، ومجرّدُ الإمساك

- قول عامة السلف والفقهاء

تركٌ محضٌ، واستصحابٌ لحالٍ، وهذا لا يُسَمَّى عودًا. وأيضًا فإن الطلاق عقبَ الظهار قد يكون محرمًا، لكونه ليس زمنَ طُهْرٍ لم يجامعْها فيه، بل قد تكون المرأة حائضًا، أو موطوءةً في الطهر، فلا يحل له طلاقها، ولا له غرضٌ في إمساكها، بل هو يختار طلاقها، لكن الشرع أمره أن يؤخر الطلاق إلى طهرٍ لم يجامعها فيه، فكيف يكون هذا مختارًا لها عائدًا إلى ما قال؟ مع كمال بغضه وكراهته لها. وأيضًا فن طلَّقها طلاقًا رجعيًّا فهي زوجه، ترثه ويرثها، وذلك لا ينافي بقاء النكاح، وإن طلَّقها غيرَ رجعي فذلك منهي عنه، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة. وأيضًا فقد يَقِفُ مترددًا هل يمسكها أو يفارقها؟ فكيف يجعل عائدًا بمجرد ترك الطلاق؟. وصاحب هذا القول إنما قاله لما رأى قول من قال هو الوطء أو العزم عليه، فيه إشكالٌ، ورأى أن الظهار اقتضى خروجها من ملكه، فإن طلَّقها فقد أنفذ موجبه، وإن لم يطلقها فقد ناقض موجب الظهار، فقد عاد إلى ما قال. وليس كذلك، فقد يكون في زمن التردد والتطويل يعود أو يطلق، وإنما يكون عائدًا إذا أتى بخصيصة النكاح، وهي الوطء. والذي عليه عامة السلف والفقهاء أنّ العود هو الوطء أو العزم عليه، وجمهور السلف قالوا: هو الوطء، كذلك قال طاوس والحسن والزهري وقتادة، وهو قول أحمد وغيره. وقالت طائفة: هو العزم على الوطء، كما يحكى عن أبي حنيفة ومالك وطائفة من أصحاب أحمد.

- الرد على من قال: هو تكرير لفظ الظهار

وسبب النزاع في ذلك أنّ عليه إخراج الكفارة قبل الوطء بنصّ القرآن، قال تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). وأما قول من قال: هو تكرير لفظ الظهار، فهو من أضعف الأقوال أيضًا، فإنّ ذلك مخالفٌ لأصول الشرع، إذ كان القول المحرم تحرم منه المرة الواحدة والمرتان والثلاث، وكلَّما كرَّره كان أعظمَ إثمًا. والأحكام المعلقة به إنما هي معلَّقة بجنسه، كالقذف واليمين الغموس وشهادة الزور، وتحريم الحلال بغير الظهار، إما بصيغة قسم وإما بغير ذلك، وكذلك الكفر والردة، وأمثال ذلك الحكم المعلق بهذه معلّق بجنسها، وإذا غلظ القول وكرَّره تغلَّظ الإثم وتكرر. لكن ليس فيها ما يقال: إنه لا يلزمه بالمرة الواحدة حكم، لكن إن كرَّره لزمه الحكم، وإنما يقال هذا فيمن لزمه الحكم أولاً، أو تاب ورجعِ، ثم عاد إلى ما نهي عنه، فهذا قد يختلف حكمه، فكذلك ما فعله أولاً قبل العلم بالتحريم، أو فعلَه ناسيًا أو مخطئًا، فعفي عنه. فهذا قد يقال فيه: إنه إذا عاد لزمه الحكم، لكون العود ليس من جنس الأول، بل الثاني فعله عالمًا عامدًا. وهذا كما قد اختلف العلماء فيمن تاب من الردّة ثمّ عاد، وهو الذي تكررتْ رِدّتُه، فهذا فيه نزاع (1)، كما قيل في الصيد: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) (2)، فهذا عودٌ بعد العفو، قيل (3): إنه عُفِي عما كان في الجاهلية وقبل التحريم، ومن عاد بعد النهي فينتقم الله منه. وقيل: عفا الله عن أوّلِ مرة بالجزاء، ومن عاد ثانيًا لم يحكم

_ (1) انظر "المغني" (12/ 269 وما بعدها). (2) سورة المائدة: 95. (3) انظر: "زاد المسير" (2/ 426 - 427)، والقرطبي (6/ 317)، وابن كثير (2/ 104).

عليه وقيل له: ينتقم الله منك. وهذا قول ضعيف، والجمهور على أنه يحكم عليه ثانيًا وثالثًا، ومن قال: لا يحكم عليه ثانيًا، قال: لأنه قد تاب من الأول، وعفي عنه بالجزاء. ولم يقل أحد: إن أول مرّةٍ لا حكمَ فيه، كما قيل مثل ذلك في الظهار. وأما إذا تكلم المرتد بالكفر مرة أو مرتين أو ثلاثًا، فإنه يوجب تغليظ الردّة، وهو كالكافر الأصلي، إذا تكلّم بالكفر مرةً بعد مرة لا يقال: إن الأول لا حكم له، وإنما الحكم إذا كرره. وكذلك القاذف إذا قذف مرةً بعد مرة، فالقذف الأول موجبٌ للحدّ، ولكن قد يتنازعون في الثاني هل يدخل في الأول؟ وباب التداخل إذا كان الجميع حقًّا لله، وهي من جنس واحدٍ دخلَ بعضها في بعض، كما لو زنى ثم زنى، أو سرق ثم سرق، ولم يُعاقَب على الأول، فإنه إنما يُقام عليه حدٌّ واحد، لأن الحدّ مشروع في جنس هذا الفعل، فقليله وكثيره في الحد سواءٌ جعل الشارع القطع حدًّا لمن سرق النصابَ أو أضعافَ النصاب. وكذلك حدّ الزنا لمن أولجَ مرةً أو مرَّاتٍ. وأما الشرب فقد قيل: إنه من هذا الباب، وليس كذلك؛ فإن حدّه غير مقدّر، بل من شرب كثيرًا ومرَّاتٍ فإنه يُزاد في عقوبته بحسب الاجتهاد. وهذا بناء على أن الأربعين الزائدة على الأربعين يفعلها الإمام تعزيرًا بحسب الاجتهاد، كما يقوله الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (1).

_ (1) انظر "المغني" (12/ 499).

فهذه أصول الشرع كلُّها تُبيّن أن الجنس المحرم لا يسقط حكم المرة، ويغير الحكم في المرتين، فمدَّعي مثل ذلك في الظهار ادَّعى على الشارع ما هو مخالف لأصوله وقواعدِه ومقاصده المعروفة. وهؤلاء إنما أتوا من لفظ (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)، ظنّوا أن المراد بذلك أن يُكرِّر قوله الأول، وهذا اللفظ لا يستعمل في مثل هذا المعنى، فلا يقال لمن كرَّر قوله: إنه عاد إلى قوله، إلاّ إذا اختصّ الثاني بمعنًى يقتضي أنه لا يعود، مثل أن يُستتاب من قولٍ ثم يعود إليه، فيقال: عاد إلى قوله؛ لأن التوبة تقتضي رجوعه عنه، فإذا نقضها فقد عاد إلى الذنب. وكذلك إذا نُهِي عن فعلٍ أو قولٍ ثم فعلَه وقاله. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1)، وقال تعالى في حق بني إسرائيل: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) (2) أي إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وإن عدتم إلى التوبة عدنا إلى الرحمة. فأما من كرّر القول أو الفعل، مثل من يسبّح في الصلاة ثلاثًا أو أكثر من ذلك، أو يستغفر مرات، فإنه لا يقال في المرة الثانية والثالثة: إنه عاد. فهؤلاء غَلِطُوا في فهم القرآن واللغة التي بها نزل القرآن، ولهذا قال الزجاج (3): هذا قول من لا يدري اللغة. ومثل هذا يقع كثيرًا ممن يدَّعي التمسُّكَ بظاهر القرآن والحديث، وقد غَلِطَ في ذلك، ليس ما ادعاه هو الظاهر الذي دلَّ عليه اللفظ. ولفظ الإعادة والعود حيث استُعمِل لابدّ أن يكون بينه وبين الابتداء

_ (1) سورة المجادلة: 8. (2) سورة الإسراء: 8. (3) "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 135).

- منشأ الغلط في تفسير الآية

نوعُ فرقٍ، حتى يتميز المُعَادُ من المبتدأ، فأما إذا كان هو إيَّاه من كل وجهٍ فهذا لا يقال فيه: إنه أعادَهُ، ولا عاد إليه. وقد يقال لمن فعلَ فعلاً وقَطَعه لتعَب أو شغلٍ ونحو ذلك: عُدْ إلى ما كنتَ، وعُدْ إلى حالك، لأن الأول حصل عقبَه فتور تميَّز به عن الثاني، فلو وصل الثاني بالأول لم يُقَل: إنه عاد. فإذا قال: أنتِ على كظهر أمّي، أنتِ على كظهرِ أمّي، أو قال: والله لا أطأكِ، والله لا أطأكِ، لم يُقَلْ: إن قول الثاني عود إلى الأول، بل هو تكريرٌ محضٌ. وأيضًا فالذي قالوه لو كان صحيحًا محتملاً إنما يجب الجزم به إذا كانت ما مصدرية، أي ثم يعودون إلى قولهم، وليس في الآية ما يُوجب ذلك، بل يجوز أن تكون ما موصولة، أي إلى الذي قالوه. وهذا أَظهر، فإن كونها موصولة أكثر في الكلام، ولفظ العود يُستعمل في مثلِ هذا، كقوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1). وهذا منشأ غلط طائفةٍ من الناس في الآية، فإنهم ظنّوا أن ما مصدرية، وأن المعنى: ثم يعودون لقولهم، ولم يفهموا معنى كونها موصولة. ثم هؤلاء الذين ظَنُّوا أنها مصدرية قالوا أقوالاً كلُّها باطلة، فقال داود ومن وافقه (2): إن العود تكرير القول. وهذا القول لا يُعرَف عن أحدٍ قبلهم، وقيل: إنه مروي عن بكير بن الأشج. وقال طائفة من أهل العربية ما قاله ابن قتيبة من أن قوله: يتظاهرون في الجاهلية، ثم يعودون إليه في الإسلام. وهو قولٌ فاسدٌ أيضًا.

_ (1) سورة المجادلة: 8. (2) انظر "المحلى" (10/ 52).

وقال أبو علي الفارسي قولاً ثالثًا، قال: ليس الأمر كما ادّعاه من قال بتكرير اللفظ، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه، وقيل: سُمِّيَتِ الآخرة معادًا، ولم يكن فيها أحدٌ ثم عاد إليها. وقال الهذلي (1): وعَادَ الفَتَى كالطفلِ ليس بقائلٍ سوى الحق شيئًا واستراحَ العواذِلُ وهذا أيضًا ضعيف من وجوه: أحدها: أن لفظ العود لابُدَّ أن يتضمن رجوعًا عن شيء أو إلى شيء، فقوله "وعاد الفتى كالطفل"، وقوله: .... فعادَا بعدُ أبوالاَ (2) وفي الحديث (3): "تعاد روحها" هو رجوع عن حالٍ كانوا عليها إلى حال أخرى. فأما الأمر المبتدأ إذا فعله الإنسان فلا يقال: إنه عاد إليه. وأيضًا فما ذكروه إنما هو في لفظ العود مجردًا، فماذا قيل: عاد إلى كذا، ورجع إليه، وعاد فيه، كما قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (4)، وقال أصحاب الكهف: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ

_ (1) أبو خراش الهذلي كما في "شرح أشعار الهذليين" (3/ 1223). وروايته؟ "كالكهل" و"سوى العدل". (2) تمام البيت: تلك المكارمُ لا قَعبانِ من لبن شِيبا بماء فعادَا بعدُ أبوالاَ وهو لأبي الصلت بن ربيعة الثقفي من قصيدة له، ويروى أيضا للنابغة الجعدي. انظر "سمط اللآلي" (1/ 281) و"طبقات فحول الشعراء" (1/ 58،260 - 262). (3) أخرجه أحمد (4/ 287، 288) وأبو داود (4753) عن البراء بن عازب ضمن حديث طويل. (4) سورة المجادلة: 8.

- الرد على من قال: هو محمول على التقديم والتأخير

يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)) (1). وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العائد في هبته كالعائد في قَيئه" (2). فهذا ونحوه إنما يُعرَف إذا عاد إلى مثل ما كان عليه أولاً. والمعاد سُمي معادًا لأن الله يعيد الخلق فيه بالنشأة الثانية، كما قال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (3)، وقال: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (4)، وقال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)) (5). وأيضًا فإنهم يعودون إلى ربهم، كما يقال: إنهم يرجعون إليه ويُردون إليه، كما قد بُسِط هذا في غير هذا الموضع. وأيضًا فهَبْ أن لفظ العود لا يقتضي ذلك، فلابد من تفسير قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا). وأبو علي لم يذكر معنى الكلام. وقد قيل فيها قولٌ رابعٌ وخامس على أصلِ من يقول: إنها مصدرية، قال الزجاج (6): المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. فجعلَ اللامَ لامَ كَيْ، لم يَجعَلْها مُعديةً ليعودون. وأضعف منه قول من يقول (7): هو محمولٌ على التقديم والتأخير، والمعنى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، أي يعودون إلى ما كانوا عليه من الجماع، فتحرير رقبة من أجل ما قالوا.

_ (1) سورة الكهف: 20. (2) أخرجه البخاري (6975 ومواضع أخرى) ومسلم (1622) من حديث ابن عباس. (3) سورة الروم: 27. (4) سورة الأنبياء: 104. (5) سورة الأعراف: 29. (6) "معاني القرآن" (5/ 135). (7) هذا منقول عن الأخفش كما في تفسير القرطبي (17/ 282)، ولم أجده في "معاني القرآن" له.

وهذا فاسدٌ من وجوه: أحدها: أنه لم يقل "فَلِمَا قالوا تحرير رقبة" أو "تحرير رقبة لِمَا قالوا"، بل قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). ولا يجوز أن يقال: "لِمَا قالوا فتحريرُ رقبة"، فإن الفاء هي جواب الشرط، والشرط هو ما في الاسم الموصول من معنى الشرط، والاسم الموصول أو النكرة الموصوفة - إذا كان في الصلة أو الصفة معنى الشرط - دخلت الفاء في خبر المبتدأ، كقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) (1)، ومثله قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (2)، وقوله: (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا) (3). ولو دخلت "إن" على المبتدأ ففيه نزاعٌ، والقرآن قد جاء بالفاء في قوله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) (4). فقوله (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (5) بمنزلة قوله: "من تظاهر ثم عاد فعليه تحرير رقبة". ولا يجوز أن يقال: "لِمَا عادَ فعليه تحرير رقبة". وأيضًا فتحرير الرقبة لم يَجب لمجرد العود، بل الموجب له الظهار، والعَود شرطٌ، أو الموجب مجموعهما، فقولهم: إن الرقية إنما وجبت لأجل العود فقط غَلَطٌ. وقول الزجاج: ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا،

_ (1) سورة البقرة: 274. (2) سورة المائدة: 38. (3) سورة النساء: 16. (4) سورة الجمعة: 8. (5) سورة المجادلة: 3.

- بيان فساد قوله من وجوه

فاسدٌ أيضًا، فإنهم إذا عادوا مع الظهار وجبت الكفارة، وإن لم يعودوا لأجل ما قالوا. وأيضًا فهم لا يعودون لأجل ما قالوا، بل يعودون لرغبتهم في المرأة لا للقول، بل القوع مانعٌ من العود، فكيف يُجعَل علةَ له وداعيا إليه. وهذه كلها أقوال من لم يَفهم الآيةَ ولا حُكْمَ الشرع، بل ظَنُّوا أن "ما" مصدرية، ولم يفهموا المعنى إذا كانت موصولة. وفيها قول سادس، وهو أنها مصدرية، لكن المصدر بمعنى المفعول، ذكره المهدوي وغيره. والصواب أنها موصولة، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها، وكما في نظائرِها من القرآن، ولبطلان معنى المصدرية، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1)، وقال تعالى: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)) (2). وقد أطلق العود في قوله (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (3)، وفي قوله: (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) (4)، وفي قوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) (5). والذي قالوه هو المقول، كما في قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) (6)، فإنهم بيتوا غير الذي

_ (1) سورة المجادلة: 8. (2) سورة الأنعام: 28. (3) سورة الأنفال: 38. (4) سورة الأنفال: 19. (5) سورة الإسراء: 8. (6) سورة النساء: 81.

- معنى (يعودون لما قالوا)

أمرهم به وقالوا فيه طاعة، وهو غير المقول، ليس المراد أنهم بيتوا لفظًا غير اللفظ الذي لفظتْ به، فإن هذا لا يضر إذا كان المعنى موافقًا لما قاله. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)) (1). فقوله "مالا تفعلون" هو مفعول القول، وهو المقول، وهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه، فكان إخبارهم عن أنفسهم أنهم إذا علموا الأحب فعلوه، ووعدهم بذلك، والمقول هو فعلهم للأحب، وهو الموعود به المخبر عنه، فلامَهم على أن قالوا مقولا هو موعود مُخْبر به ولم يفعلوه، وكان الفعل نفسه هو المقول، فالمقول هو المخبر عنه إن كان القول خبرًا، والمأمور به والمنهي عنه إن كان القول أمرا أو نهيا. فإذا قال: لا أفعل، ثم فعل، فقد عاد لما قال، وإذا قال لأفعلنَّ، ولم يفعل، فلم يفعل ما قال. وهذا هو المعنى المفهوم في مثل هذا اللفظ عند عامة الناس الخاصة والعامة، بل وفي سائر اللغات، فإذا قيل: فلان قد حلفَ أن لا يكلم فلانا، أو قال: لا أكلمه، ثم عاد إلى ما قال، فهموا منه أنه عاد إلى أن يكلمه، لم يفهموا أن ما مصدرية. فصل ومعنى قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) (2) أي إلى الذي امتنعوا عنه بقولهم، فإن القول إذا كان خبرا فالمقول هو المخبر عنه، وإن كان أمرًا فالمقول هو المأمور به، وإن كان نهيا فالمقول هو المنهي عنه.

_ (1) سورة الصف: 2 - 3. (2) سورة المجادلة: 2.

والظهار في معنى المنهي، فن مقصود المظاهر أن يحرم عليه امرأتَه، وينهى نفسه عن اتخاذها زوجةً، فلا يطأها، فمقولُه هو ما نهى عنه نفسَه من اتخاذها زوجةً والاستمتاع بها، فإذا عاد إلى ذلك فقد عاد إلى ما نهى عنه نفسَه، وهو مقولُه، وهذا العود يتضمن رجوعه وندمه، ولفظ العود يدل على ذلك، ولهذا فسَّر ابن عباسٍ العودَ بالندم، فقال: يندمون، يرجعون إلى الألفة (1). قال الفراء (2): يقال: عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي بعض ما قال، يعني رجع عما قال. ولهذا قال الشافعي: إذا أمسكها لحظةً فقد عاد. لكن يقال: مجرد الكف لا يكون عودًا، فإنه قد يكون اعتقد أن الظهار حرَّمها عليه ووقع به الطلاق، فلا يحتاج إلى طلاق ثانٍ، وقد تكون نيته أن يطلقها فيما بعدُ، أو يطلقها إذا جاء وقتُ الطلاق المشروع، وقد يكون مترددًا هل يطلقها أو يمسكها، فمجرد مرور لحظةٍ لا يوجب أن يقال: إنه عاد. وإذا عزمَ على الوطء فليس له أن يطأ حتى يُكفِّر بنص القرآن واتفاق الناس، لكن لو رجع عن هذا العزم، وبدا له أن يطلقها، أو مات أحدهما قبل الوطء، فقد قيل: إنه تستقر عليه الكفارة، لأنه عاد، والصحيح الذي عليه جمهور السلف أن الكفارة لا تستقر إلاّ بالوطء، فأما مجرد العزم فلا يوجب شيئًا، فإن في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم به أو تعمل به". وهذا عازم على العود، ولم يَعُدْ بعدُ، وإنما

_ (1) انظر أقوال العلماء في تفسير الطبري (28/ 7) وابن كثير (4/ 344). (2) "معاني القرآن" (3/ 139). (3) البخاري (5269،6664) ومسلم (127) من حديث أبي هريرة.

- الكلام على كفارات الظهار الثلاث

يكون عائدًا إذا وطئها. فقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ) كقوله (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) (1)، وقوله (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2). ومعلومٌ أن المراد إذا عزمتَ. فصل وقال تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) (3)، ولم يقل: "من قبل أن يتماسا" كما ذكر في الإعتاق والصيام، فلهذا تنازع العلماء هل يجب الإطعام قبل التماسّ كما يجب الإعتاق والصيام، أم يجوز تأخيره؟ على قولين مشهورين (4)، هما روايتان عن أحمد، والقول بوجوب تقديمه قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين، والآخر يُحكى عن مالك. ومن قال ذلك قال: إن الله أطلق الإطعام، ولم يقيِّده كما قيَّد الصيام، وهما حكمان مختلفان، فيُحمل المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، بخلاف العتق، فإنه حكم واحد. وفي العتق أيضًا قولان (5) هما روايتان عن أحمد، فالشافعي يشترط الإيمان في رقبة الظهار، وكذلك مالك، وأبو حنيفة لا يشترطه، فصار من الناس من يحمل المطلق على المقيد في الموضعين، ومنهم من يحمله في العتق فقط، لأن الحكم واحد، ومنهم من يحمله في تقديم الكفارة فقط، لأن السبب واحد.

_ (1) سورة النحل: 98. (2) سورة الطلاق: 1. (3) سورة المجادلة: 4. (4) انظر: "المغني" (11/ 98). (5) انظر المصدر السابق (11/ 81 - 82).

والمقصود هنا هو التقديم في الكفارات الثلاث، وهو سبحانه لم يقل في الثلاث: "من قبل أن يتماسا"، لأن فيما تقدم بيان له، كما أنه لم يقل في الصيام: "ذلكم توعظون به"، لأن فيما تقدم بيان له، ولكن ذكر التماس في الصيام، ولم يكتف بذكره في العتق، لأن في الصيام يصوم شهرين متتابعين قبل التماس، فيتأخرّ التماسّ هذه المدة الطويلة، فلو لم يذكره لظنّ الظانّ أنه في العتق وجب التقديم لأن الزمان يسير، يمكنه أن يعتق ثم يطأ تلك الليلة، وأما الصيام فيتأخر الوطء شهرين متتابعين، وفي هذا مشقة عظيمة، فلا يفهم هذا من مجرد تقييده في العتق، فلهذا أعيد ذلك في الصيام. وأما الإطعام فمعلوم أنه دون الإعتاق ودون الصيام، وقد جعل بدلاً عنه، فإذا كانت الكفارة المتقدمة الفاضلة يجب عليه أن يقدّمها على الوطء، والمرأة محرَّمة قبل التكفير، فلأَن تكون الكفارة المؤخرة المفضولة كذلك بطريق الأولى؛ فإن الظهار أوجب تحريمها إلى التكفير بالكفارة المقدمة، فكيف يبيحها قبل التكفير إذا كفّر بالكفارة المفضولة المؤخرة؟. هذا مما يُعلَم من تنبيه الخطاب وفحواه أن الشارع لا يشرع مثله، فكان إعادة ذكره مما لا يليق ببلاغة القرآن وفصاحته وحسن بيانه، بل نفسُ تحريمها قبل صيامِ الشهرين - وهو الأصل المبْدَل منه - يوجب تحريمها قبل البدل، وهو الإطعام، بطريق الأولى. وتقديم الإطعام على التماس أسهل من تقديم الصيام. وهو في الإعتاق قال: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (1)، ولم يقل مثل ذلك في الصيام والإطعام، وقد عُلِمَ أنهما كذلك،

_ (1) سورة المجادلة: 3.

وأنهم يوعظون بالصيام والإطعام، كما يوعظون بالإعتاق. والوعظ أمر ونهيٌ بترغيب وترهيب، فهم يوعظون بالتحريم قبل التكفير، أي يُنهَون به ويُزجَرون به عن الظهار، فإن الظهار محرَّم بالنص والإجماع، فإذا علم المتظاهر أن المرأة تحرم عليه إلى أن يكفر، كان ذلك مما يَعِظُه، فينهاه ويزجُره أن يتظاهر منها. وأيضًا فإنه قال بعد ذلك: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) (1)، والحدود هي الفاصلة بين الحلال والحرام، والحدُّ إمّا آخر الحلال وإما أول الحرام، فلهذا قيل في الأول: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) (2)، وقيل في الثاني: (فَلا تَقْرَبُوهَا) (3). وقد قال بعد ذلك: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)، فعلم أن هنا محرم له حد، وقوله "وتلك" إشارة إلى ما تقدم كله، فلو كانت لا تحرم إلاّ إذا كانت الكفارة طعامًا لم يكن هنا حد، بل كانت حلالاً كما كانت، فلم يكن هناك حد يُنهَى عن تعدِّيه أو قربانه. وأيضًا فقوله (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) إن كان تقديره: "من قبل أن يتماسا" فقد اتفقت الكفارات، وثبت أنها محرمة قبل التكفير بالأنواع الثلاثة، وإن لم يكن هذا تقديرَه، بل قوله "فإطعام ستين مسكينًا" إيجابٌ للإطعام، لم يُعلَم متى يجب الكفارة بالإطعام، فإنه لم يقل: "فإطعام ستين مسكينًا بعد التماس". فإن قيل: يجب إذا وطئها. قيل: ليس في الآية ما يدل على ذلك، ليس فيها ما يدل على أن

_ (1) الآية 4. (2) سورة البقرة: 229. (3) سورة البقرة: 187.

الإطعام يجب بعد الوطء لا قبله، بل اللفظ إن كان مطلقًا كما زعموه فلا دلالة له، لا على هذا ولا على هذا. وهذا غلطٌ يُنزَّه القرآن عنه وأيضًا فقوله (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) اقتضى إيجاب الإطعام، وليس في الآية ما يقتضي تأخير الوجوب إلى بعد التماسّ، فيبقى الإيجاب يتناول الحالين، ما قبل التماسّ وما بعده، فهو واجب قبل التماس، فإن لم يفرق الواجب حتّى تماسا فعليه إخراجه بعدَ ذلك. وأيضًا فقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) مع قوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) دل على أن العود له مبدأٌ وله منتهىً كسائر الأفعال، فمبدؤه إذا عزم عليه، ومنتهاه إذا وطئ. وقوله "ثم يعودون" لم يرد به توقيف الكفارة على تمام العود، فإنه لو أراد ذلك لم تجب الكفارة إلاّ بعد تمام العود، وهو خلاف قوله "من قبل أن يتماسا". بل أراد به أنه يجب إخراجها بعد الشروع في العود بالعزم عليه، قبل إتمامه بالوطء. وإذا كان هذا هو مقتضى قوله "ثم يعودون" مع قوله "من قبل أن يتماسّا"، فهو إنما أوجب التكفير بالإطعام بعد هذا العود، فعُلِم أنه واجب إذا شرع في العود، وإن لم يحصل تمام العود، وإلاّ لزم اختلاف معنى العود في الآية. وأيضًا فالكفارات هي من جنس العبادات، وفيها معنى العقوبات، كما أن الحدود هي عقوبات، وهي أيضًا عبادات، ولهذا قال: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ)، أي تزجرون به، وتُنهَون به، وتعاقبون به، وقد جعل من تمام العقوبة أن تحرم عليه إلى أن يكفّر، فذا قيل: إنها لا تحرم على المكفّر بالإطعام زالت العقوبة الواجبة بالتحريم، لاسيما والتكفير .. (1).

_ (1) انتهى ما وُجِد من كلامه في الأصل، وما بعده غير متصل بما قبله.

§1/1